بقلم: شفاء طارق الشمري في الكوفة: بعدَ كثرةِ الهتافاتِ التي تعلو بذكر الحسين (عليه السلام)،ومبايعة أهل الكوفة لمسلم، كتب الأخير قائلًا: "أما بعد: فإنَّ الرائدَ لا يُكذِبُ أهله وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفًا، فعجِّل حين يأتيك كتابي فإنّ الناسَ كُلَّهم معك، ليس لهم في يزيدَ بن معاوية رأيٌ ولا هوى" هذا ما خطّه مسلمُ بن عقيل في رسالتهِ التي تحملُ بين طيّاتِها معاني الأمل والتشجيع على المبادرة بالعمل والتوجه نحو الكوفة. تغادرُ هذه الرسالة الكوفة لتصل بين يديّ الحسين (عليه السلام).. في مكةَ: ينتظر الإمامُ رسالةَ سفيره مسلمٍ ليُعلِمَه فيها بأوضاعِ الكوفة. رأى الإمامُ في الرسالة صوتَ الهتافِ يعلو من بين أسطرِها، ولهفةَ الناس وهي تدعوه: أنْ أقبل علينا. يشدُّ أبو عبد الله الرحال، ويستعدُّ للسفر؛ ليلتقيَ بابنِ عمِّه الوفي، وبشيعته المنتظرين قدومه بفارغ الصبر واللهفة.. في الكوفة: مسلمٌ يقول في رسالته للحسين (عليه السلام): "ثمانية عشر ألفًا"، لكن لماذا نجدُ مع الحسين (عليه السلام) أقلَّ من مئة؟ أين ذهبت تلك الألوف؟ الحسينُ قادمٌ إلى الكوفة، ومسلمُ يستعدُّ لاستقبالِ ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله).. لكن ما بين ليلةٍ وضحاها، يلتفتُ مسلمُ إلى الثمانيةِ عشر ألفًا الذين كانوا معه، والذين قد أخبر الإمام الحسين (عليه السلام) عنهم، فلا يجد منهم أحدًا.. يلتفتُ ليجدَ نفسه وحيدًا تحتَ سماءِ الكوفة.. لكن كيفَ تفرّقت عنه هذه الجموع الكثيرة؟ كيف تخلّوا عنه؟ ماذا عن تلك الكلمات؟ وتلك الهتافات بـ "لبيك يا حسين"؟ مسلمُ الذي كانت معه تلك الآلاف تسيرُ خلفه وتهتفُ باسم "الحسين" وتستعدُّ لأن تُفدي ابن الرسول بنفسها، لكن ... اليومَ تفرقتْ بإشارةٍ من ابنِ مرجانة ببريقِ لمعانِ الذهب يبيعُ أشباهُ الرجالِ دينهم ومروءتهم وحميتهم ها هو مسلمُ يسيرُ وحيدًا في ليلةٍ قمريةٍ في الكوفة حيثُ اعتلى القمرُ السماءَ وبرقَ بين النجوم كان مسلمُ ينظرُ إليه فيتذكر القمرَ المُشعَّ في مكة وفي بني هاشم "أبا الفضل العباس" هدوءٌ، وسكونٌ، وكأنّه يسيرُ في مقبرةٍ موحشةٍ، غربةُ ألمٍ في الكوفة "الكوفةُ" تلك العجوزُ البائسةُ والغادرةُ بأهلِها، تُصفِّقُ وتُرحِبُ بكلِّ من يأتيها، ولا تعرفُ الحقَّ من الباطل، وتقلب الباطلَ إلى حقٍّ فتُضلّ أهل الحقيقة كان مسلمُ ينظرُ إلى الكوفةِ ببأسٍ، ويتوعَّدُ ما سيجري عليها بالويل والثبور لكنّه ترك أمرَ غربتِه جانبًا وسيره وحيدًا في أرجاء الغربة وردّد قائلًا "الحسين" هل وصلت الرسالة إليه؟ مكة: الحسينُ (عليه السلام) يتركُ مكةَ ليذهب إلى شيعته الأوفياء، لكن أيّ وفاء؟! الأوفياءُ الذين باعوه وباعوا دينهم وباعوا سفيرَ إمامِهم الحسين (عليهما السلام). الحسينُ يودِّعُ الكعبةَ بعد أن ودّع قبلاً قبرَ جدِّه المصطفى (صلى الله عليه وآله) الحسينُ قيل له: بايعْ يزيدَ، قال بقوة وشموخ ولم يهاب أحدًا: "مثلي لا يُبايع مثله". الكوفة: أرادَ مسلمُ أنْ يوصل رسالةً للحسين (عليه السلام) يُخبره فيها بعدم وفاء أهل الكوفة الذين غدروا به وحتمًا سيقتلونه، فلا وفاءَ لمثل هؤلاء. أراد مسلمٌ أنْ يمنع الحسين (عليه السلام) من إكمالِ طريقِه إليهم. لكن جرى القلمُ وشاء القدرُ وكتب في صحف القدس "شهادة مسلم بن عقيل "، وقربان "الحسين بن علي" إلى السماء .. الكوفة: ها هو مسلمُ يركبُ في ركبِ المسافرين مودعًا حياةً لم يأبه لها يومًا ... ها هو مسلمُ يقفُ فوقَ قصرِ الإمارة وينظر إلى الكوفة، وهي تجلس لتتهيأ لعزائه وتندبه ... آهٍ ..من غدركِ، تُقدّمُ الصالحين إلى الموت، ثم تتهيأ لتتّشحَ بالسواد، وتبدأ بالنحيب! ها هو يقفُ عندَ أعتابِ الزمانِ مودعًا وينظرُ إلى الدنيا محتقرًا ونحو مكةَ متجهًا بكلِّ حبٍّ وولاءٍ قائلًا: "السلامُ عليك يا أبا عبد الله الحسين" كيف ستُقبلُ يا حسين إلى الكوفةِ وليس لك فيها من ناصرٍ ولا معين، ستذهبُ يا حسين وستجدُهم يستقبلونك بالسيوف والرماح، وتراهم ينثرون الأرضَ وردًا وريحانًا ليزيد وابن زياد، يدعونك ثم يقتلونك فواويلاه من هكذا رزيةٍ عظمى ... لا تأتي يا حسين .. مكة: وفي طريقِ الحُسين إلى موكبِ الملكوت يسيرُ مع إخوته وأولاده ونسائه وأطفاله أحدُهم يوقفُ الحسين قائلًا: "لِمَ تصحبُ النساء والأطفال معك؟" الحسين يُجيب: "شاء اللهُ أنْ يراني قتيلًا، ويراهم سبايا" ما أعظمَك يا حُسين، بل تصاغرتْ أمامَك حروفُ العظمةِ فما أعظمَ كلمات العظمة التي تنطقُ بها حروفُك العظيمة. بعدَ السيرِ لمسافاتٍ ينظرُ الحسينُ (عليه السلام) إلى الكعبة نظرةً أخيرة ... وإلى قبرِ المصطفى رسول الانسانية ... ولسان حاله يقول: "إنْ لم يستقِم دينَ محمدٍ إلا بقتلي فيا سيوف خذيني" وفي طريقهم إلى الكوفة الغادرة سأل الحُسينُ (عليه السلام) الفرزدق عن الأوضاع، فلخّص الفرزدقُ له الحكاية بأربعِ كلماتٍ حيث قال: "القلوبُ معك والسيوفُ عليك" ولكن هل انتهت الحكاية؟ وهل كسر التاريخُ أقلامه وأغلق كتبه؟ بل هُنا بدأتْ حكايةُ بداية النهاية وانتهت البداية.. النهايةُ التي وضعها الحسين (عليه السلام) لتبدأ بدايةُ الخلود الأبدي، لأسماءٍ شاء الله (تعالى) أنْ تُرفعَ وتُنير السماء، النهايةُ التي وضعها الحُسينُ (عليه السلام) حتى تُرفع الأقلامُ لتكتب، وتُرفع السيوفُ لتحارب، وتُرفع الأصواتُ بوجهِ الطغاةِ لترفع صوت الإباء.. يزيدُ كان يرى بقتلِ الحسين (عليه السلام) نهايةً لمن يرفعُ صوته ويشهرُ السيف بوجهه ويُعارضُ حكومته، لكنّه اكتشف أنّها ليست النهايةَ بل هي بدايةٌ لكتابِ الثورةِ الذي وضعه الحسين (عليه السلام) لكلِّ ثائرٍ حُرٍّ رفضَ العيشَ مع الظالمين والاستعباد تحت ظلِّ حكمهم. يزيد رأى أنْ يضعَ نهايةً لقصةِ الحسين (عليه السلام) الثورية، لكنّه وجد أنْ بدايةَ الحكاية ما كانت إلا من مسلمٍ الذي علَّمَ الناسَ معنى الفداء، فكان أولَ شهداءِ هذه الحكاية التي كان عمرُها بعمرِ الشموع التي أوقدت في كربلاء، فأطفأها الحسين (عليه السلام) حيث قال: هذا الليلُ ساترٌ.. طالبًا منهم أن يتركوه، حيثُ طلب من كلِّ رجلٍ من أصحابه أنْ يأخذَ بيدِ رجلٍ من أهلِ بيته. وابتدأت حكايةُ الحسينُ بدمِ مسلمٍ الزكيّ حيث خطَّ بدمه بداية الحكاية، وأكمل الحسين باقي كتاب الخلود هذا ما رآه يزيد في حكاية الحسين (عليه السلام). أما الحسين (عليه السلام) فقد رأى في ثورته بدايةً لقرنٍ جديدٍ من الزمن، تفتتحُ به عقول البشرية على نورِ الحقيقة فتخرج من ظلماتِ يزيد وطغيانه إلى نور الحسين (عليه السلام) وإشراقة شمسه الخالدة... كان يرى أنّ سرَّ النهاية في كلِّ قصةٍ هو ما يبدأُ به القصة. وسرُّ النهايةِ في البداية. وقد ابتدأت قصةُ الحسين (عليه السلام) من النهاية التي ظنَّ يزيد أنّها نهايةُ الحسين (عليه السلام)؛ لكنّها لم تكنْ سوى البداية فلو كانت النهايةُ في حكايةِ الحسين (عليه السلام) هي استشهاده لما وجدنا له أثرًا اليوم يذكر. وكانت ثورةُ الحسين (عليه السلام) بدايةً لنهايةِ كلِّ ظالمٍ حاولَ كسرَ الضعفاء وسلبَ حقوقهم، وتذكرةً لكلِّ طاغٍ مستبدٍ وظالم: أن اعرف ما كانت نهاية الظالم في حكاية الحسين (عليه السلام).. وكانت بدايةً لكلِّ من أراد أنْ يشقَّ طريقه ليعرفَ مبادئ الإسلام وحقيقته، كانت بدايةً لكلِّ صاحبِ مبدأٍ وعزةٍ، لكلِّ إنسانٍ لديه إنسانيةٌ وكرامة. الحسينُ (عليه السلام) جعلَ من الموتِ حياةً، ومن الحياةِ موتًا إنْ كانت مع الظالمين.. فأحيانًا يكونُ الموتُ هو بدايةٌ للحياةِ، بدايةٌ لحياةِ الخلود، بدايةٌ لمعرفةِ الحقيقة.. فكمْ من نهايةٍ ظنّوا أنّها نهايةٌ، فلم تكن إلا بدايةً، فكانت بدايةُ النهاية بدايةً.
اخرىبقلم: شفاء طارق الشمري أغلق عقلكَ عن تلكَ الشبهات، انظر جيدًا إلى الضوءِ المنبثق من أئمة النور، أغلق عينيكَ وأذنيكَ عن رؤية وسماع أهل الضلال الذين يُحاولون أن يضعوا غشاوةً على القلوبِ تمنع رؤية الحقائق، اجعلْ قلبكَ بصيرًا بنورِ المعرفةِ.. واعلم أنَّ الكتب والبحوث التي تتحدث عن البصيرة تتلخصُ في معرفة علي (عليه السلام)؛ حيث عرفَ مفهومُ البصيرة من ذلك اليوم الذي رفع فيه الرسول (صلى الله عليه وآله) يده (عليه السلام)؛ فتفرقت الجموع، وعُرِفَ أهلُ الحقِّ من أهلِ الباطل، كما انفلق البحر لموسى (عليه السلام) فأنجى اللهُ (تعالى) المؤمنين وأغرق فرعونَ ومن معه من الكافرين، كذلك انفلقتِ الأمّةُ فنجى أهلُ البصيرة الذين اتبعوا النهج العلوي، وخسر أهلُ الحنقِ والغيظِ فغرقوا ببحر ِضلالتهم. البصيرةُ: أنْ تكونَ مع عليٍ (عليه السلام) يومَ الغدير، وتُبايعه بالولاء، ولا تتظاهرْ بالحُبِّ له وأنت مُبغضٌ له. البصيرةُ تعني أنْ تقفَ إلى جانبِ علي (عليه السلام) وقتَ ما كانوا تحتَ السقيفة يرفعون التكبيرات ليبايعوا غيره.. من تفتّحَ قلبُه على الحقيقة هو من يقفُ إلى جانبِ علي (عليه السلام)؛ فالبصيرةُ ذاتُ مفهومٍ عميقٍ للغاية، فأنتَ حينما تقفُ عند أعتابِ الحقِّ والباطل، فأنت مُخيرٌ بين الاثنين، مُخيرٌ أنْ تكونَ مع الحقِّ أو الباطل، إما مع حقِّ علي (عليه السلام) أو باطلِ مُبغضيه.. عليٌّ مع الحقِّ فأبصِروا حقيقةَ الحقِّ بعلي واعرفوا الباطلَ من أعداءِ علي فلا حقَّ يُعرَفُ إلا بعلي وقد جعلَ اللهُ (تعالى) كمالَ الدينِ بولاية علي وتلا الرسولُ آيةَ الكمالِ وهو مُمسِكٌ بيدِ حيدر الكرارِ قائلًا: "اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلام دينًا".
اخرىبقلم: شفاء طارق الشمري ذلك التمّارُ البسيطُ الذي لا تنظر إليه إلا وتشعر بالود والاحترام، وجهُهُ النوراني وملامحُه الوقورة وهدوؤه، يسيرُ في الكوفة فجرًا مبتسمًا لنسيمها العليل، جوها الهادئ لا تسمع فيه إلا أصواتَ المُصلين والقائمين ليلهم.. كان يبتسم لهذا اليوم؛ فنسيمُ الفجرِ كان خاليًا من أنفاسِ المنافقين، لكن يعتصرُ قلبُه ألمًا عندما يرى قصرَ الإمارة الذي تعلوه أصواتُ الطرب والغناء وتفوحُ منه رائحة الخمر. سار ميثم كعادته ليسقي نخلته التي لم تكن نخلةً فقط بل هي صديقته التي يعلم أنها ستحمله يومًا في شدته. جلس عند النخلة وأسند ظهره وبدأ يستذكر أيامَه الجميلة مع معشوقه، ومناجاةَ ذلك البليغ في جوف الليل في صحراء مظلمة، وعدْلَ من لم ينم يومًا خوفًا أنْ يكون هناك يتيمٌ جائعٌ. كان معشوقه أميرًا ولكنه كان فقيرًا، لم يكن ممن يرتادون القصور بل كان يسكن في بيتٍ بسيطٍ ليجلس على كرسي القضاء، ويحكم بالعدل بين الناس. آهٍ ما أروعك يا أمير المؤمنين .. تعلّم ميثمُ من فيضِ المدرسةِ العلوية علومًا كثيرةً، وكان كثيرًا ما يسمعُ ويحفظُ من كلامِ أمير المؤمنين (عليه السلام). وفي يومٍ ارتقى ابن زياد المنبر طاعنًا بالعترة واصفًا الحسين (عليه السلام) بالخارجي، اعترضه ميثم وبات يتحدثُ عن أهل البيت (عليهم السلام)، فرُميَ في السجن، لم يكن سجنًا لميثم بل كان مكانًا لعشاقِ أهلِ البيت (عليهم السلام)، كالمختار الثقفي وغيره. لقد أصبح هذا السجن مأوىً وبيتًا للشيعة أعدّه ابنُ زيادٍ لهم.. وهناك، دارَ الحوارُ بين ميثم والجلّاد عما أخبره به أميرُ المؤمنين (عليه السلام) عن جلده وصلبه، فقتلوه وقطعوا يديه ورجليه ولسانه وفاضت روحه الطاهرة العاشقة لله (تعالى) لتلقى معشوقها في جنة الفردوس. هكذا هي قصصُ العاشقين، وقصةُ ميثمَ قصة عشقٍ لا تنتهي، فقد وصل به حبُّ الأمير (عليه السلام) إلى أنْ قالوا عنه مجنون، وختم كتاب قصته بدمه الطاهر ليُدعى بعاشق حيدر. يا تُرى متى نكتبُ قصةَ عشقنِا مع أمير هذا الزمان؟ وماذا سنكتب؟ هل كنا مع إمامِ زماننا كميثمَ مع إمام زمانه؟ أين ميثم زماننا ؟ صاحبُ الزمان (عجل الله فرجه) يُريدُ منا أنْ نكونَ كميثم، لا أن نطعنَ بقلبه الطاهر بسيوف بني أمية.
اخرىبقلم: شفاء طارق الشمري بينما كان ذلك العجوزُ جالساً على شُرفةِ منزله المُطلِّةُ على بقيةِ البنايات والتي يُمكنُه من خلالها أن يرى حركة الحياة، انتبه للكوبِ الذي بيده وقد نفدت منه القهوة. فقام متعاجزًا ليُحضِّر لنفسه القهوة؛ فهو يعيشُ وحيدًا في هذه العمارة منذُ أربعين سنة، وها قد شارفَ عمرُه على السبعين، لا عملَ له ولا عائلة، حياتُه عبارةٌ عن كوبِ قهوةٍ وشُرفةِ منزلٍ يتأملُّ بها كُلَّ صباح. فتح خزانةُ المطبخ فأخرج علبةَ القهوة منها، ثم نظر إلى علبةِ السكر فوجدها خاليةً تمامًا، ضحك وقال: يبدو أنّ عليّ أنْ أشربَ القهوة مُرةً. ثم قال: لقد كان لديّ الكثير من السكر ولكنّي أسرفتُ في استخدامه كثيرًا. أحضر كوبَ القهوة المُر ثم تناوله بمرارة، ثم ضحك بصوتٍ عالٍ قائلًا: هذا العمر كحباتِ السكر، ضيّعتُها طوالَ حياتي، وأسرفتُ فيها حتى جاءَ اليومُ لأحس بها وبمرارتها. وعمري هذا مثل هذه الحبات ضيّعتُ حلاوتَه وسكره، والآن أعيش في مرارة ضياعه مني، ثم سقطت دمعةٌ من عينه وقال: إنّها مُرة. العبرة: لا تُضيّع لحظات حياتك الآن، ولا تسرفْ بها دونَ استغلالها بتطوير ذاتك وفي أن يكون لك كيانٌ في المجتمع، وتترك أثرًا مهمًا في حياتك وفي بلدك ومجتمعك، لا أنْ تلهو وتلعب وتُضيّع حباتِ سكر لحظاتِك وريعانِ شبابك، لتقول في النهاية: إنّها مُرة.
اخرىبقلم: شفاء طارق الشمري هُناكَ في صحراءٍ قاحلةٍ وحارقةٍ بشمسِ الأيامِ المؤلمةِ التي تفوحُ منها رائحةُ الدماءِ الطاهرة، رأيتُ المصيبةَ، رأيتُ الدمعةَ الساكبةَ على الوجناتِ، رأيتُ أنواعَ الآلامِ في كربلاء.. رأيت أُمّةً قتلت ابنَ بنتِ نبيها، رأيتُ أمّةً رفعتْ سيفَ الغدرِ بوجهه وهو سيّدُ الإباءِ والشهداء، رأيتُ قمةَ الحُزنِ في دموعِ تلك المرأةِ التي تقفُ في بابِ الخيمةِ، لم أعرفْ من هي إلا حين سمعتُ الإمامُ يناديها: أخيّة زينب! ولكن هل يُعقلُ أنْ تكونَ هذه زينب التي لم يكن لأحدٍ أنْ يرى ظلَّها أو يسمعَ صوتَها؟ هل يُعقلُ أنَّ زينبَ العقيلةَ ابنة علي وفاطمة تتجهّزُ لتودِّعَ أخاها الحسين وتستعدّ للسبي. لقد أحرقتْني الشمسُ بحرارتِها، وآلمتْني الأرضُ المُلطّخةُ بالدماءِ بدمائها، أسمعُ نحيبَ الأرضِ، وأقرأُ شجنَ دموعِها، وأرى السماءَ تبكي دمًا.. فالحُسينُ سقطَ صريعًا على الأرض، لم يجدْ من ينصرُه أو يُنهضه بعدَ أنْ سقطَ عن فرسهِ حين اجتمعوا حولَه بسيوفِ الشرِّ والكره، كم تعجّبتُ مما يقوله في آخرِ لحظاته: "اللهم أنتَ ثقتي في كُلِّ كربٍ ورجائي في كُلِّ شدة" يا الله! ما أعظمَ حروفِ ولائك ومناجاتِك للهِ يا حسين! للهِ درّك يا حسين! ما أروعَ الكلماتِ التي تنطقُ بها! قطعَ مناجاة الحسين مجيءُ الشمرِ اللعين، يحملُ السيفَ بيدِه وهو يقتربُ من الحسينِ ليحزَّ رأسه الشريف.. ما أقساكَ أيُّها اللعين! أتجلسُ على صدرِ الحسين وتنسى ما قالَ الرسول (صلى الله عليه وآله) في حقِّه؟! يسحبُ السيفَ ويضعُه على نحرِ الحسين ليحزّه تأتي زينبُ فيدفعَها فتسقطَ أرضًا، ففاضتْ روحُ الحسينِ الطاهرةِ إلى السماء.. كانتْ ليلةُ الحادي عشر قاسيةً عليهم، أتى صباحُ الحزنِ ليُعلِن موعد مغادرةِ ركبِ النساء والأطفال وهم مُقيّدون بالحبالِ يُضربون بالسياط.. لقد غادروا جميعًا، غادروا تاركينَ الأجسادِ على هذهِ الصحراءِ الحارقة، مضى يومٌ، اثنان، ثلاثُ.. بقيتِ الأجسادُ ثلاثَةَ أيامٍ في العراء لم تجف حينها الدماءُ في الصحراء! وهذه الرمالُ ما زالتْ تبكي على الحسين (عليه السلام) هدوءٌ خيّمَ لثلاثةِ أيامٍ؛ فلا تسمعُ فيه إلا صوتَ ملائكةٍ تبكي وتندبُ، مشعثة مغبرة. كسرَ هذا الهدوءَ صوتُ نساءٍ يبدو أنّهن أتينَ لأخذِ الماءِ من الفرات، أو لأمرٍ آخر.. وصلتِ النساءُ لترى الجثثَ على الأرضِ ملطخةً بالدماء.. لطمنَ على الوجوه وأجهشن بالبكاء، ثم رحلنَ مُسرعاتٍ... وبعد وقتٍ ليس بالطويل جاءَ جمعٌ من الناسِ وتوجّهوا نحوَ الجُثثِ وقد عرفوا أنّ ها هنا الواقعة.. بكوا ولطموا ثم قرّروا أنْ يدفنوا الأجسادَ الطاهرة ... أرادوا حملَ جسدِ الإمامِ الحسين (عليه السلام)، فاجتمعوا جميعًا لكنّهم لم يستطيعوا.. وبينما كانوا يُحاولون جاءَ أحدُهم ليقولَ: إنّ إعرابيًا قادم إلى هنا، فخافَ القومُ أنْ يكونَ من عصابةِ ابنِ زياد فاختبأوا، وصل الإعرابيُ مُلثمًا. وصل إلى جسدِ الحُسين (عليه السلام) فأجهشَ بالبُكاءِ حتى ابتلَّ لثامه... كانت دموعُه الحارقةُ تسقطُ كالمطرِ في ليلةٍ حزينة.. عَلِمَ القومُ أنَّ هذا الشخصَ يمتُّ إلى أصحابِ الجُثثِ بقرابةٍ... تقدّمَ القومُ ليُساعدوه بالدفنِ ... حفروا حفرةً لدفنِ الجسدِ الحُسيني، ووضعوا معه علي الأكبر والرضيع.... ثم بدأ يبحثُ الإعرابي في الأرضِ، ذهب يمينًا وشمالًا ... وعندما سألوه أجاب: أبحثُ عن خنصرِ الحُسين ... فأجهشَ القومُ بالبُكاء.. أذكرُ كيفَ جاءَ اللعينُ ليسلبَ الخاتمَ من يدِ الحسين (عليه السلام)... وعندما لم يستطعْ أخذه من إصبعِ الإمامِ قطعَ خنصرَه الشريف ... إنّها مشاهدُ قاسيةٌ على الحجرِ، فكيفَ بمشاعرِ البشر؟! كيفَ بمشاعرِ النساءِ والأطفال؟! كيف بمشاعرِ رقيةَ وهي ترى أباها مسلوبَ العمامةِ والرداء؟! كيف بقلبكِ سيّدتي زينب، وأنت ترين الحسينَ مقطعًا بسيوفِ الغدر والغل؟َ! ثم خط هذا الإعرابي بيدِه وكتبَ: (هذا قبرُ الحُسين بن علي المظلوم الشهيد). آهٍ.. وهل جاءَ اليومُ ليضعوا الترابَ عليك يا حسين؟ وهل يدفنُ الترابُ جودَك وذكرَك؟ لا والله، يدفن جسدك، وتبقى روحك واسمك عزاءً في قلبِ كُلِّ مُحبٍّ يذكرُك. ثم حفروا حفرةً ووضعوا فيها الشهداء.. ثم دفنوا حبيبَ بن مظاهر ... ودفنوا مسلمَ بن عوسجة وباقي الشهداء، ثم توجّهَ الإعرابيُ نحو العلقمي لدفنِ جسدِ وبقايا روح الكرمِ والجودِ والإيثار وهي حروفٌ في مدرسةِ الوفاء لسيّدِ الفضلِ العباس (عليه السلام).. وهل يضمُّ الترابُ جمالَك؟ حاشا فأنتَ قمرُ النورِ في سماءِ الولاء... تقدّمَ لدفنِ بطلِ العلقمي أبي الفضل، وخطَّ عليه: (هذا قبرُ العباس بن علي بن ابي طالب). وبعدَ دفنِ كُلِّ الأجسادِ توجّهَ الإعرابيُ بالرحيلِ فسأله بنو أسد عن هويته فقال: أنا عليُ بن الحسين.. آهٍ لهذا القلبِ كيفَ تحمّلَ هذه المشاهدَ؟! ساعدَ اللهُ قلبَكَ يا سيّدي كيف صبرَ على كُلِّ هذه المصائب؟! كيفَ تحمّلَ دفنَ الهواشم؟! كيف تحمَّلَ فقدَ الأحبةِ؟! ساعدَ اللهُ قلبَك يا سيّدي يا علي السجاد وبعدما خطّ الحسينُ حكايتَه التي خلّدَها بانتصارٍ بلونِ الدم فمن حكايةِ الطفِّ إلى حكايةِ دفنِ الأجسادِ ألفُ حكايةٍ وما بعدها ألف حكاية فها هو قبرُ الحسينِ (عليه السلام) اليومَ، قد اجتمعت حولهُ الملائكةُ، وحفَّتْ بقبرِه وانبعثَ نورٌ من قبرِ الحسين إلى السماء؛ ليُعانقَ نورَ القمرِ العباسي فولاءُ أبي الفضلِ للحسين (عليه السلام) حكايةٌ خالدةٌ وبدأتِ الكراماتُ والحكاياتُ تُسجّلُ من عندِ هذا القبرِ الذي بقيَ خالدًا على مرِّ الأزمانِ فنسمعُ ونشاهدُ ونقرأُ الكثير من الكرامات الحسينية وفضل زيارة قبر الحسين (عليه السلام). لقد أعطى الحسينُ كُلَّ شيءٍ لله (تعالى) فوهبَه اللهُ (تعالى) أعلى وأرفع الدرجات وبقيتْ حكايةُ الحسين (عليه السلام) ودفن جسده وأجساد الشهداء حكايةَ خلودٍ تُتناقلُ من جيلٍ إلى جيل ستقولُ: ومن روى هذه الحكاية؟! أقولُ: "رواها من رآها"، فأنا حبةُ رملٍ من تلك الصحراء التي تلطّختْ بدماءِ الأزكياء، في أرضِ الكرب والبلاء، أنا صوتُ حزنٍ ورثاءٍ ودمعٍ ودماءٍ، أنا حبةُ رملٍ رأتْ فروتْ، أنا حبةُ رملٍ رأتْ فبكتْ وعلمتْ أنّ الدنيا لم تخشعْ ولم تُكبِّرْ إلا للحُسين
اخرى