بقلم: علوية الحسيني ▪️المطلب الرابع: هدف الصيحة الإبليسية إنّ من يكون عدوًا لله تعالى ولرسله (عليهم السلام) فإن هدفه هو كفر الناس بالله تعالى, وبجميع رسله وشرائعهم. وما نلحظه من هذا الحدث الحتمي هو اضلال الناس عن اتباع الحق, لكن هذا الإضلال يتفاوت بالدرجات حسب فئات السامعين للصيحة, والتفصيل كالتالي: 1- غير المسلمين: إنّ سائر الأديان, ومن لا دين لهم لا يعني لهم (السفياني) المنادى باسمه, لعدم إيمانهم به؛ لكن هدف الصيحة الإبليسية هو زعزعة تصديقهم بما سمعوا من الصيحة الجبرائيلية بأن الحق مع قائم آل محمد (صلوات الله عليهم أجمعين)؛ فيرتابون, وتغشاهم الحيرة في اتخاذ قرار الاتباع, فمنهم من يؤمن بها, ومنهم من يكفر بها. 2- المسلمون: أما المسلمون الذين هم غير الشيعة فتأثرهم بالصيحة الإبليسية سيكون أكثر درجةً من تأثيرها على غير المسلمين؛ إذ تهدف إلى حصول فتنة بين أتباع الإمام علي (عليه السلام), وبين أتباع عثمان (الخليفة الثالث) الذي اتهموا الإمام علي بقتله آنذاك, فتحدث معمعة بينهما, ومنهم من يؤمن بها, ومنهم من يكفر ويبدّل موقفه؛ فيناصر أتباع الإمام. 3- المؤمنون: أما المؤمنون وهم الشيعة الإمامية فهنا يختبر مدى ثباتهم على عقيدتهم, فمن كانت عقيدته راسخة لا يتبّع الصيحة الإبليسية, فلا يوالي السفياني, ويبقى مصرًا على إيمانه بإمام زمانه. أمّا من كانت عقيدته متزلزلة فلربما يقع في الشك، خصوصاً إذا كان ممن لم يسمع ولم يقرأ الروايات عن الصيحة وكيفية الوقاية من صيحة إبليس. *وهنا التفاتة لطيفة لا بد من بيانها تعضيدًا للكلام؛ حيث روي أنّ زرارة سأل الإمام الصادق (عليه السلام) عن كيفية معرفة الحق من الباطل, فقال له الإمام: يعرفه الذين كانوا يروون حديثنا، ويقولون: إنه يكون قبل أن يكون، ويعلمون أنهم هم المحقون الصادقون" (31). وظاهرًا في ذلك إشارة من الإمام الصادق (عليه السلام) إلى ضرورة تثقيف المؤمن بقضية الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف), باطلاعه على أحاديث العترة المحمدية. وبهذا يندفع ما يسبب حيرةً لمن سمع الصيحة الإبليسية المُضلة. ▪️المطلب الخامس: الصيحة الإبليسية ليست اعجازًا: رغم أنّ المستفاد من ظاهر الروايات أنّ الصيحة الإبليسية يسمعها جميع أهل الأرض, إلّا أنّ هذا الأمر "ليس بمعجز؛ لعدّة أسباب" (32), منها: 1- لو كانت الصيحة الإبليسية معجزة للزم أن يغرر الله تعالى بالقبيح, والتالي باطل فالمقدم مثله في البطلان. فالمعجزة يقبح عقلاً اظهارها على يد كاذب منافق كالسفياني ومن يصيح باسمه, وبالتالي من يسميها معجزة لازم قوله أنّ الله تعالى يغرر بالقبيح بإجراء المعجزة على يد عدوه وهذا باطل. 2- لو كانت الصيحة الإبليسية معجزة للزم أن تكون وليدة العناية الإلهية, والتالي باطل فالمقدم مثله في البطلان. فصيحة إبليس هي وليدة تخطيط ودراسة وتنفيذ أعداء الله تعالى, بل وحذّرت روايات العترة المحمدية من اتباع مضمونها. 3- لو كانت الصيحة الإبليسية معجزة للزم أن يكون أصحابها متحلين بأكمل الفضائل والأخلاق الإنسانية, والتالي باطل فالمقدم مثله في البطلان. فمن يتأمل في سيرة السفياني يجدها دموية, محاربة لله (تبارك وتعالى), وللرسول وآله (عليهم السلام), فضلًا عن انحطاط أخلاقه, وانعدام إنسانيته, هو وأتباعه. ■الخاتمة الحمد لله الواحد المعبود، عمّ بحكمته الوجود، وشملت رحمته كلّ موجود، أحمده سبحانه وأشكره وهو بكلِّ لسانٍ محمود, على جميع النعم, لاسيما نعمة موالاة المنقذ الموعود (عجّل الله فرجه الشريف). وفي النهاية لا يخطر على بالي إلاّ أن أقول أنّي وبحمد الله أبديتُ جهديَ المتواضع, أسألُ الله تعالى أن وفّقت فى تقديمِ جهدٍ وإن كان متواضعًا في هكذا موضوع. ويبقى محلاً للنقد البنّاء, فلست أدّعي كماله. وتوصلتُ في بحثي المتواضع هذا إلى النتائجِ الآتية: 1/ الصيحة الجبرائيلية لطف من الله تعالى بالمؤمنين, وتنبيه للمسلمين وغير المسلمين. 2/ الصيحة الإبليسية حتمية الوقوع باللازم, ينحرف معها المعاند, والكافر, ومتزلزل العقيدة, وتبقى كيفيتها غيبية, وكل ما يورد فهو احتمال. 3/ الصيحة الجبرائيلية والإبليسية لا يتسببان بموت الناس. 4/ حث أهل البيت (عليه السلام) على ضرورة الالتزام بتراثهم. _________________ (31) إثبات الهداة: للشيخ الحر العاملي, ج3, ص736، ح104. بحار الأنوار: للعلامة المجلسي, ج52, ص294، ح46. معجم أحاديث الإمام المهدي (عليه السلام): للشيخ الكوراني, ج3, ص475، ح1018. (32) ظ: محاضرات في الإلهيات: للشيخ السبحاني, ص259, 261-263. اللّهم ثبتنا على دينك, واستعملنا بطاعتك, وليّن قلوبنا لولّي امرك. والحمد لله رب العالمين, وصلى الله على محمدٍ, وآله الطاهرين.
دراسات مهدويةبقلم: علوية الحسيني عرفنا في الروايات الشريفة أنّ هناك خمس علاماتٍ حتمية, لابد من تحققها قبل ظهور الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف), ومنها: الصيحة. وعرفنا هوية الصيحة الجبرائيلية, ولابد من معرفة هوية الصيحة التي تقابلها, وهي الصيحة الإبليسية, وبما أنّ الصيحة الأولى من العلامات الحتمية, كذلك العلامة الثانية كذلك, فلازم اللازم لازم. ونظرًا لأهمية هذا الموضوع أُفرد في مبحثٍ مستقل, وسيتم بيان هوية هذه الصيحة, من مصدرها, ووقتها, ومضمونها, وهدفها, ونفي اعجازها, وذلك ضمن المطالب التالية: ▪️المطلب الأول: مَصدَر ومُصدِر الصيحة الإبليسية إنّ مَصدر الصيحة الإبليسية هو الأرض, ولذا يُعبر عنها (بصيحة ابليس)؛ إشارةً إلى مُصدِرها وهو -ظاهرًا- ابليس اللعين الذي طرده الله تعالى من الجنة, فنزل من السماء, وسكن الأرض, هو وذريته. وهذه الصيحة أرضية, لا دخالة للملائكة بها, بل هي من فعل ابليسي. فبعد طرد ابليس من الجنة إلى الأرض, شكّل له أعوانًا وجنودًا, كما أخبرنا الله تعالى: {وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُون} (18), فلا يستبعد أن ينفذ الصيحة أحد جنود ابليس, وهم الشياطين من الجن, بل لا يستبعد أن يكونوا من الإنس الكفرة؛ بدليل الآية الكريمة: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} (19), التي جاء في تفسيرها أنّ "الأزّ هو التحريك بشدة وإزعاج, والمراد تهييج الشياطين إياهم إلى الشر والفساد وتحريضهم على اتباع الباطل وإضلالهم بالتزلزل عن الثبات والاستقامة على الحق" (20). وإرسال الشياطين على الكفرة وطلبهم فعل الشر والفساد "ليس جبرًا من الله تعالى؛ بل هم الذين جعلوا الشيطان عليهم ولهم وليًا, فهيمن عليهم, وجعلهم أداةً طيّعة" (21) وبالتالي فكل إنسان يعصي الله تعالى فهو موالٍ للشياطين, وجنود ابليس, ويشكلون حزبًا خاصًا بهم, بقيادة شيطانهم الأكبر -الذي يحتمل أن يكون من الإنس أيضًا- أسماهم الله تعالى بحزب الشيطان؛ بقوله: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُون} (22). إذًا مَصدَر الصيحة الإبليسية هو الأرض, ومُصدِرها هو إمّا ابليس, أو أحد شياطينه, أو أحد مواليهما من الإنس الكفرة. وما طرق أسماعنا اليوم من وجود مشروع ماسوني, يسمى بمشروع (الشعاع الأزرق -الهيلوغرافيا-), الذي عملت الجهات الصهيوأمريكية على انشائه منذ أكثر من عشر سنوات تقريبًا, ممكن أن يكون أبرز مصداقٍ لهذه الصيحة. وهذا المشروع "هو مشروع اصدار أصوات يسمعها جميع أهل الأرض, يخيّل للناس أنّه صادر من السماء, الهدف منه هو تشكيك الناس بعقائدهم, إلى أن يتخلوا عن أديانهم. ولعلّ الغرض الأسمى لهم هو التمهيد لهيمنتهم الدولية بقيادة المسيح الدّجال, الذي يرجون له" (23) ▪️المطلب الثاني: وقت الصيحة الإبليسية إنّ وقت هذه الصيحة هو آخر نهار اليوم الثالث والعشرون من شهر رمضان المبارك, الموافق يوم الجمعة. وتأتي هذه الصيحة كردّة فعلٍ على الصيحة الجبرائيلية –المشار إليها في المبحث الأول- أولاً وبالذات. وزمن الصيحة هذه يؤيد القول بأنّ مُصدِر الصيحة هم أناس كفرة, أتباع الشيطان؛ حيث إنّ الشياطين الجنيّة مغلولة الأيدي في شهر رمضان المبارك, فلا تستطيع الضر بالمؤمنين, لحكمةٍ من الله تعالى. إذًا هذا المطلب يكون تأييدًا للمطلب السابق, ففاعل الصيحة الإبليسية هو من فعل فاعل إنسي, كافر, ذي طباع وغايات إبليسية. ▪️المطلب الثالث: مضمون الصيحة الإبليسية إنّ مضمون الصيحة الكافرة هذه هو اتباع الخط المخالف لأهل البيت (عليهم السلام) المتمثل بالسفياني؛ حيث إنّه يخرج في شهر رجب, وتحصل الصيحة بعد شهرين من خروجه –في شهر رمضان كما علمنا في المطلب الثاني-. ولو لاحظنا الروايات لوجدناها تدرجت بتعريفنا بشخصية الشخص الذي يُصاح باسمه, فكانت على ثلاثة أصناف: 1- روايات مطلقة, منها ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: فِي آخِرِ النَّهَارِ صَوْتُ المَلْعُونِ إِبْلِيسَ يُنَادِي: أَلا إِنَّ فُـلاناً قُتِلَ مَظْلُوماً، لِيُشَكِّكَ النّاسَ وَيَفْتِنَهُمْ، فَكَمْ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ مِنْ شَاكٍّ مُتَحَيِّرٍ قَدْ هَوى فِي النَّارِ... وَالصَّوْتُ الثَّانِي مِنَ الأَرْضِ، وَهُوَ صَوْتُ إِبْلِيسَ اللَعِينِ، يُنَادِي بِاسْمِ فُلانٍ أَنَّهُ قُتِلَ مَظْلُوماً، يُرِيدُ بِذَلِكَ الفِتْنَةَ، فَاتَّبِعُوا الصَّوْتَ الأَوَّلَ [الصيحة الجبرائيلية]، وَإِيَّاكُمْ وَالأَخِيرَ أَنْ تُفْتَنُوا بِه" (24), فلعلّ جواب الإمام كان مناسبًا لإدراك الشخص السائل, فكان مطلقًا, دون أن يشخّص له المصداق. 2- روايات أخرى مصرّحة باسم ذلك الشخص, وهو عثمان؛ روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "قلت: وكيف يكون النداء؟ قال: ينادي مناد من السماء أول النهار يسمعه كل قوم بألسنتهم: ألا أنّ الحق في علي وشيعته. ثم ينادي إبليس في آخر النهار من الأرض: ألا أنّ الحق في عثـمان وشيعته فعند ذلك يرتاب المبطلون" (25). ولو رجعنا إلى كتب اللغة لوجدنا معنى اسم عثمان هو "فرخ الثعبان، وقيل: فرخ الحية ما كانت، وكنية الثعبان أبو عثمان" (26), فمن خلال هذه الرواية نفهم أنّ عثمان المنادى باسمه هو عدو المنادى باسمه في الصيحة الجبرائيلية (قائم آل محمد عليه وعليهم السلام) وقد يُفهم أنّه عثمان بن عفان باعتباره الخط المعارض, حيث كان عثمان خليفة جائرًا, ولم يكن أمير المؤمنين (عليه السلام) راضيًا على حكمه, فعندما قتل عثمان اتّهم أتباعه الإمام علي (عليه السلام), "فلعلّ الصيحة الإبليسية تريد اثارة الفتنة بين أتباع علي (عليه السلام) –ومن ضمنهم الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) ومن آمن بالصيحة الجبرائيلية وبين أتباع عثمان" (27) 3- روايات مصرّحة بنسب ذلك الشخص المصاح باسمه, وهو سفياني اللقب والمنهج, روي عن الصادق (عليه السلام): "...ثم ينادي ابليس في آخر النهار: ألا إن الحق مع الـسفياني وشيعته فيرتاب عند ذلك المبطلون." (28) يذكر أنّ شخص السفياني قد أوضحه الإمام السجاد (عليه السلام) فقال: "هو من ولد عتبة بن أبي سفيان" (29), ولا يخفى عداء الأمويين للعلويين, وقد بيّن لنا الإمام الصادق (عليه السلام) جذور ذلك العداء بقوله: "إنّا وآل أبي سفيان أهلُ بيتين تعادينا في الله، قُلنا: صَدَق الله، وقالوا: كَذَب الله، قاتل أبو سفيان رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقاتل معاوية عليَّ بن أبي طالب، وقاتل يزيدُ بنُ معاوية الحسين بن علي عليه السلام، والسفياني يقاتل القائم" (30), فثبت بذلك أنّ المصاح باسمه هو عدو قائم آل محمد (عليهم السلام) والجمع بين الثانية والثالثة يكون بأن المقصود من هذه الأسماء هي الإشارة إلى الخط المخالف لأهل البيت (عليهم السلام) كما تقدم. هدف الصيحة الإبليسية، ونفي إعجازها. يأتي لاحقًا إن شاء الله تعالى. ________________ (18) سورة الشعراء: 95. (19) سورة مريم: 83. (20) الميزان في تفسير القرآن: للسيد محمد حسين الطباطبائي, ج14, ص109. (21) ظ: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: للشيخ ناصر مكارم الشيرازي, ج9, ص503. (22) سورة المجادلة: 19. (23) ظ: حقيقة مشروع الشعاع الأزرق ( الهيلوغرافيا ): للكاتب أحمد سيف الدين سكاف. (24) الغيبة: للنعماني: ص262, ب14, ح13. (25) الغيبة: للشيخ الطوسي, ص435. (26) لسان العرب: لابن منظور, ح12, ص385. (27) مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (عليه السلام), الأسئلة والأجوبة المهدوية, س127. (28) بحار الأنوار: للعلامة المجلسي, ج52, ص206. (29) الغيبة: للشيخ الطوسي, ص444. ح437. (30) معاني الأخبار: للشيخ الصدوق, ص346, ح1.
دراسات مهدويةبقلم: علوية الحسيني ▪️المطلب الرابع: هدف الصيحة الجبرائيلية: تعتقد الشيعة الإمامية أنّ الله (تبارك وتعالى) عادل حكيم, لا يفعل عبثًا, فبالتالي كل فعلٍ من أفعاله نابع عن حكمةٍ منه, وعائد بالنفع على عباده. فمن عدله (تبارك وتعالى) أنّه دلّ عباده على الطريق القويم من خلال آية كونية, ليتفكروا بها وبمضمونها, ويصلوا إلى الحق بصورة أسرع. وهذا نظير أنّك إذا ذهبتَ ضيفًا لأحد أقاربك, ولم يشخص موقع منزله تحديدًا, ولم يعيّن لك أقرب نقطة دالة, فإنّ تصرفه هذا غير راجح عقلاً, بل غير لائق مع كرمه؛ فكيف يدعوك لضيافته دون أن يرشدكَ إلى مكان الضيافة! فهكذا أكرم الأكرمين, الله (تبارك وتعالى) جعل الصيحة الجبرائيلية تمهيدًا لظهور منقذ البشرية, وأمرنا باتباع وليّه حين ظهوره, وهذا حسب منطوق الرواية. أما مفهومها فيدل على اجتناب الشر وأهله, وهو السفياني وجيشه. وما ذلك إلّا لطف منه بعباده, وتحنن عليهم؛ تحقيقًا لغرضه, وهو الوصول بهم إلى الكمال, والحكيم مَن حقق غرضه, والعادل مَن أجرى مسببات رضاه. ▪️المطلب الخامس: اعجاز الصيحة الجبرائيلية إنّ الصيحة أمر خارق للعادة, يعجز البشر عن الإتيان بمثله –رغم محاولات اتباع ابليس في صيحتهم, كما سيأتي في المبحث القادم-. وإلّا كيف يفهم جميع أهل الأرض لغة الصيحة رغم اختلاف لغاتهم؟ وهذا سؤال واقعي, لا مفر منه, وطالما نحن بصدد بيان هوية الصيحة, ودراسة وتحليل مفرداتها، تعيّن التعرض لجوابه, الذي يحتمل عدّة وجوه متغايرة: 1- فيزيائيًا: على فرض أنّ جبرائيل (عليه السلام) سيحمل أداةً صوتية يتكلم بها-نظير ما للمَلَك اسرافيل (عليه السلام) مِن صورٍ ينفخ فيه- "فإنّ الصوت المنبثق من الجهاز يتعرض للضغط الجوي, مما يؤدي إلى تموجه, فيصل إلى بقاع الأرض بصورةٍ تدريجية, وهذا ما يسمى بالموجات ثلاثية الأبعاد" (12). وبالتالي ممكن أن تكون الموجة الأولى بلغةٍ معينة, والموجات الأخر بلغاتٍ مغايرة للأولى. *وقد يشكل على هذا الاحتمال بالقول: إنّ عدم استقامة الصوت وتموجه يتحقق بالقرب والبعد بين مصدر الصوت والسامع, والحال أنّ جبرائيل (عليه السلام) في السماء السابعة حين اصداره للصوت, والأرض قريبة عن السماء, فلا يتحقق التموج, بل يصل بسرعةٍ واحدة! - فممكن أن يُجاب: بأنّ الأرض كروية، فبالتالي تصلها موجات صوتية متعددة لا بسرعةٍ واحدة. ومهما تعددت الإشكالات, يبقى الإعجاز قائمًا, ويكفينا صحة الروايات بشأن هذا الحدث الكوني المحتوم. 2- روائيًا: الرواية جعلت فاعل النداء مبني للمجهول, بقولها: "حَتَّى يُنَادى بِاسْمِهِ مِنْ جَوْفِ السَّماء", نعم, يبقى اسم الصيحة جبرائيلية, لكن غموض هذه الرواية يجعلنا نتأمل في رواية أخرى, تقول أنّ لكلّ بلدٍ ملائكة, وهم يتولون أمر تبليغ كل بلدة بنص كلام الصيحة, "سُئِلَ أبو عبد الله (عليه السلام) عن العلَّة في الصيحة من السماء كيف يعلمها أهل الدنيا والصيحة هي بلسان واحد ولغات الناس تختلف؟ فقال: إنَّ في كلِّ بلد ملائكة موكَّلون، فينادي في كلِّ بلد ملك بلسانهم..." (13). فهنا تتعدد الاحتمالات بشأن لغات الصيحة, "وهناك من العلماء من جمع بين الروايتين, وخرج باحتمالاتٍ موضوعية, هي: 1- إنّ جبرائيل (عليه السلام) أخِذ طريقًا للإشارة إلى أنّ الملائكة هم الذين يصدرون الصيحة. 2- إنّ جبرائيل (عليه السلام) يأمر الملائكة بإصدار الصيحة, وكل ملك بلغةِ البلد يفهم بلدته. 3- إنّ جبرائيل (عليه السلام) والملائكة يتقاسمان الصيحة, فيبدأها هو (14). ورغم دقة واحتمالية وقوع جميع الاحتمالات, يرجّح الاحتمال الأخير منها؛ للحفاظ على اسم الصيحة وتسميتها بفاعلها, مع قرن مساعدة ملائكة كلّ بلد لجبرائيل (عليه السلام), فجبرائيل (عليه السلام) رغم ما له من منزلة عظيمة, فلا يستبعد وجود ملائكة يترأسهم, ويؤيد هذا ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) من تعدد الأمناء على الوحي من الملائكة, وما يطرق اسماعنا هو فقط جبرائيل, فكثرتهم لازمها تفضيل أحدهم عليهم, وهو جبرائيل (عليه السلام): " وَمِنْهُمْ أُمَنَاءُ عَلَى وَحْيِهِ، وأَلسِنَةٌ إِلَى رُسُلِهِ، وَمُخْتَلِفُونَ بِقَضَائِهِ وَأَمْره" (15). ________________ (12) ظ: أساسيات الفيزياء: لفريدريك بوش ، دافيد جيرد. (13) بحار الأنوار: للعلامة المجلسي, ج59, ص193, ح55. (14) ظ: الصيحة قراءة في أعماق الصوت: للشيخ حسين الأسدي, مجلة الموعود, العدد ٢/ ذو الحجة/ ١٤٣٧هـ. (15) نهج البلاغة: ج1, ص19.
دراسات مهدويةبقلم: علوية الحسيني ■تمهيد بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله ربّ العالمين, وصلى الله على سيّدنا محمدٍ وآله الطاهرين. لا شك في أنّ القضية المهدوية تشكّل جزءً كبيرًا من المنظومة المعرفة, رغم اندراجها تحت حقل العقيدة، وبالتالي لا يمكن البحث فيها, أو القراءة عنها إلّا بعد التثبت من العقيدة. ولهذه القضية علامات حتمية, ورد في الروايات الشريفة أنّ هناك خمس علامات, لا بد من تحققها قبل ظهور الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف), منها: الصيحة, أو النداء السماوي. والحتم: هو "اللازم الواجب الذي لا بد من فعله. وحتم الله الأمر يحتمه: قضاه" (1). فهي في عالم الثبوت ثابتة, أما في عالم الإثبات فأصل ثبوتها ثابت, إلاّ أنّ الاختلاف حاصل في إدراك كيفيّتها. والصيحة صيحتان: جبرائيلية لا نستطيع أخذ معناها اللغوي؛ لأنّها لا تعني العذاب, بل هي مجرد دال على مدلول, وهي ضرورة اتباع الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) -كما سيأتي-. وفي قبالها توجد صيحة إبليسية تضلل الناس عن اتباع الصيحة الأولى. ولا زال الأبالسة يعدّون لها منذ سنوات, ساعين لتحقيق هدفهم. كما وشاع في الآونة الأخيرة كلام الناس حول الصيحة, ووصفوها بوصفٍ لم يرد في الروايات, بل وزعموا أنّها قاتلة، والبعض الآخر أخذ يروج لتحليلاته الشخصية، وهناك من يتبعه! فنظرًا لأهمية هذا الموضوع الذي أثار لغطًا بين الناس, وخلطًا بالمفاهيم سيتم فرد كلّ من الصيحتين في مبحث مستقل بدراسةٍ مُجملة. ■المبحث الأول: الصيحة الجبرائيلية: حدث جاء التأكيد عليه في الروايات الحتمية لظهور الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف), ولبيان هوية هذه الصيحة لا بد من الوقوف على مصدرها, ووقتها, ومضمونها, وهدفها, والدليل على اعجازها, وهذا ما سيتم التطرق له ضمن المطالب التالية: ▪️المطلب الأول: مَصدر ومُصدر الصيحة: إنّ مَصدَر الصيحة الجبرائيلية هو السماء, ولذا تُسمى بـ(الصيحة الجبرائيلية)؛ إشارةً إلى مُصدِرها وهو المَلَك جبرائيل (عليه السلام). وهذا أمرٌ ممكن؛ وهو نظير الصوت الذي خلقه الله تعالى وكلّم به نبيّه موسى (عليه السلام). ونظير الصوت الذي سوف يصدره المَلَك اسرافيل (عليه السلام) في نفخة الصور -الإماتة, والإحياء-، وجميع ذلك خاضع لهيمنة وسلطنة وعلم الله تعالى. ▪️المطلب الثاني: وقت الصيحة الجبرائيلية: ذكرت الروايات أن وقت الصيحة سيكون في ليلة الثالث والعشرون من شهر رمضان المبارك, الموافق يوم الجمعة المبارك. وهذا الأمر: أولاً: محتوم صادر عن لسان أهل البيت (عليهم السلام). وثانيًا: إنّ عدم بيان هذا الحدث الكوني المهم نقض لغرض الأئمة (عليهم السلام) من ارشاد شيعتهم خصوصًا, والمسلمين عمومًا إلى التثقيف لهذه الصيحة, بل ونقض لغرض الله (تبارك وتعالى) من جعل الأئمة امتدادًا لوظيفة النبي (عليه وعليهم السلام) من تحقيق اللطف بعباده. وظاهرًا أنّ وقت الصيحة اختاره الله تعالى, وحتّمَ أمره؛ لسببين: 1- كون شهر رمضان أفضل الشهور. 2- كون قلوب المسلمين في هذا الشهر مقبلة على الله (تبارك وتعالى). 3- لحكمةٍ خفية هو (تعالى) أعلم بها. 4- ليلفت نظر غير المؤمنين إلى أحقيّة المذهب الشيعي؛ حيث إنّ أئمة هذا المذهب حصروا ليالي القدر -رغم مجهوليتها تحديدًا- بين ليلة التاسع عشر, والواحد والعشرون, والثالث والعشرون؛ كما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام): "في ليلة تسع عشرة من شهر رمضان التقدير وفي ليلة إحدى وعشرين القضاء وفي ليلة ثلاث وعشرين إبرام" (2). أما غير المؤمنين فطبقًا لما هو مروي في كتبهم إنّ ليلة القدر كل ليلة وترية ضمن العشر الأواخر من شهر رمضان (3). 5- ليلفت نظر غير المسلمين إلى أحقية الدّين الإسلامي, حيث إنّ يوم الصيحة هي ليلة القدر, وليلة القدر هذ الليلة التي نزل فيها القرآن الكريم على قلب النبي الخاتم محمد (صلى الله عليه وآله), كتاب الدّين الخاتم, الذي سوف يسود العالم بقيادة المنقذ العالمي الموعود, المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الرشيف). ▪️المطلب الثالث: مضمون الصيحة الجبرائيلية: إنّ مضمون الصيحة هي ضرورة اتباع قائم آل محمد (عجّل الله فرجه الشريف)؛ فقد وردت رواية عامة عن الإمام الصادق (عليه السلام) روي أنّه قال فيها: "...يَا أَبَا مُحَمَّدٍ إِنَّ قُدَّامَ هَذَا الأَمْرِ خَمْسُ عَلامَاتٍ:... وَلا يَخْرُجُ القَائِمُ حَتَّى يُنَادى بِاسْمِهِ مِنْ جَوْفِ السَّماءِ فِي لَيْلَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ (فِي شَهْرِ رَمَضانَ) لَيْلَةِ جُمُعَةٍ, قُلْتُ: بِمَ يُنَادى؟ قَالَ: بِاسْمِهِ وَاسْم أَبِيهِ: أَلا إِنَّ فُلانَ بْنَ فُلانِ قَائِمُ آلِ مُحَمَّدٍ فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوهُ، فَلا يَبْقَى شَيْءٌ خَلَقَ اللهُ فِيهِ الرُّوحَ إِلَّا يَسْمَعُ الصَّيْحَةَ، فَتُوقِظُ النَّائِمَ وَيَخْرُجُ إِلى صَحْنِ دَارِهِ، وَتَخْرُجُ العَذْرَاءُ مِنْ خِدْرِها، وَيَخْرُجُ القَائِمُ مِمَّا يَسْمَعُ، وَهِيَ صَيْحَةُ جَبْرَئِيلَ (عليه السلام" (4). ولا بد من الوقوف عند بعض مضامين هذه الرواية, ضمن النقاط التالية: 1- كيف تخرج العذراء من خدرها؟ ظاهرًا أّنّ الخروج حقيقي, فهو كناية عن شدّة الفزع من صوت الصيحة, حيث إنّ الاذن البشرية تألف الأصوات المعتادة, فيكون من باب فزعها ذلك الخروج, بقرينة سياقية متصلة سابقة لسياق هذه الجملة, وهي "فَتُوقِظُ النَّائِمَ وَيَخْرُجُ إِلى صَحْنِ دَارِه", ولاحقة لها, وهي "وَيَخْرُجُ القَائِمُ مِمَّا يَسْمَع". فممكن حمل خروج الرجل (النائم والقائم والمستيقظ من نومه على أثرها) إلى صحن داره على أنّه يخرج ليترقب ويتتبع مصدر الصوت, وهي دلالة فعلية, وجدانية, نلتمس وجودها في واقعنا المعاش, نظير أنّكَ اليوم عندما تسمع صوت جرس الباب يدق, تتوجه إلى الباب لترى من الطارق, ونظير ما إذا سمعت صوت انفجارٍ مدوٍ تهرع إلى الشارع مصدر الصوت لترى ما حصل. وهكذا تخرج النساء لترى ماذا حصل في السماء, فممكن حمل (خروجهنّ من خدورهن) على (خروجهنّ من بيوتهنّ ليرينَ ما حصل في السماء)؛ فالخدر لغةً هو: " سِتْرٌ يُمَدُّ للجارية في ناحية البيت ثم صار كلُّ ما واراك من بَيْتِ ونحوه خِدْراً, الخدر هو المتعارف لغةً، وهو: " سِتْرٌ يُمَدُّ للجارية في ناحية البيت ثم صار كلُّ ما واراك من بَيْتِ ونحوه خِدْراً" (5). أما هدف الصيحة وإعجازها يأتي لاحقًا إن شاء الله تعالى. _________________ (1) لسان العرب: لابن منظور, ج12, ص113. (2) الكافي: للشيخ الكليني, ج4, ص١٦٠, باب ليلة القدر. (3)ظ: البخاري في (الاعتكاف) باب الاعتكاف في العشر الأواخر برقم 1986، 1992، والترمذي في (الصوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) باب ما جاء في ليلة القدر برقم 792. (4) الغيبة: للنعماني, ص301, ب16, ح6. (5) لسان العرب: لابن منظور, ج4, ص230.
دراسات مهدويةبقلم: علوية الحسيني عبارةٌ أخذَ يرددها مَن جهلَ قضيّة إمام زمانه، فسمعَ أضاليلَ مِن ضُلاّل، حتى قالَ باطلًا: "فإنّهُ أوّل ما يبدأ بقتل الطلاب الحوزويين (طلبة العلم)". وجواب هذه الشبهة إجمالًا يكمن في بيان عدم صحة هذه الشبهة، وهل من المعقول أن يقتل الإمام أهل العلم؟ وإن أمكن ذلك فلماذا أهل العلم؟ وهل يقتلهم جميعًا -الصالح والطالح-؟ جواب تلك الأسئلة يتضح في المطالب التالية: ■المطلب الأول: معقولية قتل الإمام لجميع أهل العلم، على حدّ قولكم أيّتها القِيل الباطلة الناطقة بالشبهة إنْ قتَلَ الإمام لجميع أهل العلم، رغم أنّ الحوزات العلمية المباركة تسمى بيوتات الإمام الحُجّة؛ وفيها يُتدارس علوم محمّد وآل محمّد، ومَن يتدارس وينشر تلك العلوم هم (طلبة العلوم الدينية)... فهذا يلزم منه أن يكون الإمام معاديًا للعلم، داعيًا للجهل! والحالأنّه (عجّل الله فرجه الشريف) يسلك مسلك أجداده (عليهم السلام) بالترحم على مَن يُحيي أمرهم "رحم الله عبدًا أحيا أمرنا... يتعلم علومنا ويعلمها الناس، فإنّ الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا..." (1). وإلّا كيف كان أجداده يترحمون على مَن يتعلم علوم العترة المحمدية (عليهم السلام) ويأتي الإمام ويقتلهم! فهذا لازمه أن يكون الإمام ناكرًا لأحاديث أجداده (عليهم السلام)، وحاشاه من ذلك. إنّ الإمام المفترض الطاعة هو تجلي لرحمة الله تعالى للمؤمنين، داعٍ إلى الهدى والكمال -ومن الكمال طلب العلم-، ناهٍ عن الظلم والجهل. ■المطلب الثاني: منشأ هذه الشبهة وتحليلها ورد في كتاب الارشاد للشيخ المفيد (قدّس سرّه)، ما مضمونه: "انّ الامام الحجة عجّل الله فرجه الشريف إذا وصل الكوفة يخرج إليه بضعة عشرة آلاف في أعناقهم المصاحف، يدعون البترية، يطلبون منه الرجوع عن الكوفة، ولعلّ عبارة (في أعناقهم المصاحف) كناية عن حملهم وحفظهم للقرآن الكريم، مما يوهم البعض أنّهم حملة العلم، لكنّهم كالحمار الذي يحمل اسفارًا، كما وصف الله تعالى مَن حمل التوراة ليضل الناس، محرّفًا فيها، حيث قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارا} (2). إنّ صاحب الشبهة الذي جاء بها مرددًا مستبشرًا، لو تأمل في نص الرواية لكان قد بقي لعقله حياة، ولكان أبعد من الضلال أقرب إلى النجاة، ولم يكن سمعه أو نظره وعاءً للشبهات. الرواية رويت عن الإمام الباقر (عليه السلام)، قال فيها -كما هو مروي-: "إِذَا قَامَ القَائِمُ (عليه السلام) سَارَ إِلَى الكُوفَةِ، فَيُخْرِجُ مِنْهَا بَضْعَةَ عَشَرَ أَلْفاً يُدْعَوْنَ البَتْرِيَّةَ، عَلَيْهِمُ السِّلاحُ، فَيَقُولُونَ لَهُ: ارْجَعْ مِن حَيْثُ جِئْتَ (فَلا حاجَةَ) لَنَا فِي بَنِي فَاطِمَةَ، فَيَضَعُ فِيهِمُ السَّيْفَ حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى آخِرِهِمْ. ثُمَّ يَدْخُلُ الكُوفَةَ فَيَقْتُلُ بِهَا كُلَّ مُنَافِقٍ مُرْتَابٍ، وَيَهْدِمُ قُصُورَهَا، وَيَقْتُلُ مُقَاتِلَهَا حَتَّى يَرْضَى اللهُ (عَزَّ وَعَلا)" (3). ■المطلب الثالث: نقض الشبهة ممكن نقض الشبهة بكلمةٍ واحدة؛ بالطعن في سندها، بالقول: إنّ الرواية مرسلة. لكن على فرض الأخذ بها وفق المباني الرجالية، فنحتاج إلى الانتقال إلى مناقشة متن الرواية. فأول ما يستوقفنا في المتن هو تفسير مفردة (البترية)، حتى نعلم سبب قتل الإمام لهم. وبالرجوع إلى الكتب المعتبرة، التي كتبها أهل الاختصاص في القضية المهدوية، نجد أنّ البترية هي: "إحدى الفرق الزيدية التي تخرج على الإمام المهدي عليه السلام معترضين عليه بالمجيء إلى الكوفة وأنهم لا حاجة لهم بالإمام (عليه السلام) فيعمل الإمام على تصفيتهم وقتلهم لنفاقهم ولكونهم لم يكونوا صادقين في تدينهم ولا مؤمنين بالتزامهم وإنما جعلوا عبادتهم للدنيا فهم شر جماعة تُخذل الناس عن نصرة الإمام عليه السلام" (4). والزيدية: "هم من الفرق الشيعية التي آمنت بإمامة زيد بن علي بن الحسين بعد استشهاد والده الإمام السجاد (عليه السلام)" (5). وحيث أنّ فرق الشيعة عديدة، وجميعها ضالة، سوى فرقة الشيعة الإمامية الاثني عشرية (الجعفرية) الذين يعتقدون بإمامة الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فيتضح للقارئ أنّ البترية (الزيدية) عوامهم وعلماؤهم لا يعتقدون بإمامة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) فينصبون له العداء، ويحاولون شلّ دعوته إلى دين الله تعالى، وإلى المذهب والفرقة القويمين. وبغض النظر عن خروجهم على الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) بالقتل، فإنّ نعتهم بالانحراف والكفر ثابت لهم من بادئ الأمر؛ حيث "أجمع أهل الإسلام قاطبة واتِّفقوا على مَرِّ الاعصار والأعوام على خروج المهديِّ المنتظر (عليه السلام)، حتى عُدَّ ذلك من ضروريات الدين، وهو اتفاقٌ قطعي منهم، لا يشوبه شك، ولا يعتريه ريب. اللهم إلا من شَذَّ، مِمَّن لا يُعتدُّ بخلافه، ولا يلتفت إليه، ولا تكون مخالفته قادحة في حُجِّيَّة الإجماع. مضافًا إلى تواتر أحاديث الإمام المهدي ( عليه السلام ) تواترًا قطعيًّا. وظاهر أنَّ من أنكر المتواتر من أُمور الشرع والغيب بعد ما ثبت عنده ثبوتًا يقينيًّا فإنّه كافر، لردِّه ما قُطع بصـدوره، وتحقَّقَ ثبوته عـنه (صلى الله عليه وآله) . ولا شُبهَة في كفر من ارتكب ذلك بإجماع المسلمين؛ لأنّ الرادَّ عليه ( صلى الله عليه وآله ) كالرادُّ على الله تعالى، والرادُّ على الله كافر باتِّفاق أهل المِلَّة، وإجماع أهل القبلة" (6). إنّ علماء الزيدية علماء سوء؛ لضلالهم، ومن هنا يتضح للقارئ سبب قتل الإمام لهم. خصوصاً وأنهم يخرجون ضده حاملين السلاح، مما يُشير إلى أنهم خرجوا يُقاتلونه ويبغون تقويض حركته الهادية المهدية. ___________________ (1) حديث روي عن الإمام الرضا (عليه السلام) في عيون أخبار الرضا: للشيخ الصدوق, ج2, ص275. (2) الجمعة: 5. (3) الإرشاد: للشيخ المفيد, ص٣٦٤. (4) موجز دائرة معارف الغيبة: مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي عجل الله فرجه, ٧٣/٤. (5) فرق الشيعة: للنوبختي، ص89. (6) الروض الفسيح في بيان الفوارق بين المهديّ والمسيح (عليهما السلام): للشيخ محمّد باقر الإلهيّ القمّي. اللهم وفقنا والمشتغلين للعلم والعمل الصالح، وأنلنا رضاك ووليّك، بحق محمد وآل محمد.
دراسات مهدويةيستشهد الكثير من الناس ــ وحتى بعض المثقفين ــ بقول:" لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع فإن الخير فيها دخيل وعاشر نفساً جاعت بعد شبع فإن الخير فيها أصيل" على أنه من أقوال أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، كما يستشهدون أيضاً بقولٍ آخر ينسبونه إليه (عليه السلام) لا يبعد عن الأول من حيث المعنى:"اطلبوا الخير من بطون شبعت ثم جاعت لأن الخير فيها باق، ولا تطلبوا الخير من بطون جاعت ثم شبعت لأن الشح فيها باق"، مُسقطين المعنى على بعض المصاديق التي لم ترُق افعالها لهم، لاسيما أولئك الذين عاثوا بالأرض فساداً من الحكام والمسؤولين الفاسدين والمتسترين عل الفساد. ونحن في الوقت الذي نستنكر فيه نشر الفساد والتستر عليه ومداهنة الفاسدين نؤكد ونشدد على ضرورة تحرّي صدق الأقوال ومطابقتها للواقع وعدم مخالفتها للعقل والشرع من جهة، وضرورة التأكد من صدورها عن أمير المؤمنين أبي الأيتام والفقراء (عليه السلام) أو غيرها من المعصومين (عليهم السلام) قبل نسبتها إليهم من جهة أخرى، لذا ارتأينا مناقشة هذا القول وما شابه معناه من حيث الدلالة أولاً، ومن حيث السند ثانياً.. فأما من حيث الدلالة فإن هذين القولين يصنفان الناس الى صنفين: صنف قد سبق له أن شبع مادياً ولم يتألم جوعاً، أو يتأوه حاجةً ومن بعد شبعه جاع وافتقر، وصنف آخر قد تقلّب ليله هماً بالدين، وتضوّر نهاره ألماً من الجوع، ثم شبع واغتنى،. كما جعل القولان الخير متأصلاً في الصنف الأول دون الثاني، وبناءً على ذلك فإن معاشرة أفراد هذا الصنف هي المعاشرة المرغوبة والمحبوبة والتي تجرّ على صاحبها الخير والسعادة والسلام، بخلاف معاشرة أفراد الصنف الثاني التي لا تُحبَّذ ولا تُطلب؛ لأنها لا تجر إلى صاحبها سوى الحزن والندم والآلام... ولو تأملنا قليلاً في معنى هذين القولين لوجدناه مغايراً لمعايير القرآن الكريم بعيداً كل البعد عن روح الشريعة الاسلامية ، وعن المنطق القويم والعقل السليم ومخالفاً أيضاً لصريح التاريخ الصحيح، بل ومخالف حتى لما نسمعه من قصص من أرض الواقع أو ما نلمسه فيه من وقائع.. فأما مناقضته للقرآن الكريم فواضحة جداً، إذ إن الله (تعالى) قد أوضح فيه وبشكلٍ جلي ملاك التفاضل بين الناس، إذ قال (عز من قائل):" يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)"(1) جاعلاً التقوى مِلاكاً للتفاضل، فمن كان أتقى كان أفضل، ومن البديهي أن تكون معاشرته كذلك، والعكس صحيحٌ أيضاً. وعليه فإن من سبق حاجتُه وفقرُه شبعَه وغناه يكون هو الأفضل، وبالتالي تكون معاشرته هي الأفضل كذلك فيما لو كان تقياً بخلاف من شبع وكان غنياً ، ثم افتقر وجاع فإنه لن يكون الأفضل ومعاشرته لن تكون كذلك طالما كان بعيداً عن التقوى. وأما بُعده عن روح الشريعة الإسلامية فإن الشريعة لطالما أكدت على أن الله (سبحانه وتعالى) عادلٌ لا جور في ساحته ولا ظلمَ في سجيته، وبالتالي لا يمكن أن يُعقل إطلاقاً أن يجعل البعض فقيراً ويتسبب في دخالة الخير في نفوسهم، التي يترتب عليها نفور الناس من عشرتهم، فيما يُغني سواهم ويجعل الخير متأصلاً في نفوسهم بسبب إغنائه إياهم ليس إلا ومن ثم يتسبب في كون الخير متأصلاً في نفوسهم، وبالتالي حب الناس لعشرتهم. فإن ذلك مخالف لمقتضى العدل الإلهي لأنه ليس بعاجزٍ عن تركه ولا بمُكره على فعله، ولا محب لذلك لهواً وعبثاً (تعالى عن كل ذلك علواً كبيراً). كما إن تأصل الخير في نفوس بعض الناس ودخالته في نفوس البعض الآخر منهم بناءً على أمر خارج عن إرادتهم واختيارهم كـ(الغنى والشبع أو الجوع والفقر) إنما هو أمرٌ منافٍ لمنهج الشريعة المقدسة القائم على حرية الانسان في اختياره لسبيل الخير والرشاد أو سبيل الشر والفساد، قال (تعالى):" إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)"(2) بل إن الانسان أحياناً قد يكون فقيراً بسبب حب الله (تعالى) له، كما ورد في الحديث القدسي: "أن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى فلو أفقرته لأفسده ذلك و أن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر فلو أغنيته لأفسده ذلك"(3) وهل يمكن ان نتصور أن الخيرَ دخيلٌ فيمن يحبه الله (تعالى) أو إن معاشرته لا تجدي نفعا، أو تسبب الهم والألم؟! نعم، ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"اِحْذَرُوا صَوْلَةَ اَلْكَرِيمِ إِذَا جَاعَ وَ اَللَّئِيمِ إِذَا شَبِعَ"(4) ولا يقصد به الجوع والشبع المتعارف عليه لدى الناس، وإنما المراد منه: احذروا صولة الكريم إذا اُمتُهِن، واحذروا صولة اللئيم إذا أكرم، وفي هذا المعنى ورد عنه (عليه السلام) أيضاً: "احذروا سطوة الكريم إذا وضع و سورة اللئيم إذا رفع"(5) وأما العقل السليم والمنطق القويم فإنهما يقتضيان أن تتأصل صفة الخير في الإنسان لملكاتٍ حميدة يتسم بها وصفات فضيلة يتميز بها، لا أن تتأصل صفة الخير في نفسه لمجرد أنه ولد في أسرة تتمتع بالرفاهية الاقتصادية ووجد في بيئة تتنعم بالثروات المادية! وعند مراجعتنا للتاريخ الصحيح نجد أن قادة البشر وصفوة الناس إنما كان أغلبهم ينتمي الى الطبقات الفقيرة من المجتمع، فهؤلاء الأنبياء ورسل الله (صلوات الله عليهم) منهم من كان نجاراً أو خياطاً أو راعياً، ومع ذلك فقد كانوا من أطيب الناس خلقاً، وأعظمهم شرفاً، وأرفعهم منزلةً، قد تأصّل الخير في نفوسهم تأصّلاً حتى غدوا قطعة منه، فكانوا هم الخير للبشر، وهم الرحمة للعالمين. وبالنزول إلى أرض الواقع نجد أن الكثير من الفقراء والمساكين طيبي الروح، كريمي النفس، يتألمون لألم المحتاج ولربما يؤثرونه على أنفسهم رغم حاجتهم. ولا نقصد من كلامنا هذا أن الأغنياء هم على نقيض ذلك، وإنما تأكيداً على مسألة عدم ارتباط تأصل الخير في النفوس وعدمه بمستواهم الاقتصادي الذي نشأوا فيه ارتباط العلة والمعلول، فكما إن بعض الفقراء أخيار، فإن بعض الأغنياء كذلك، والعكس صحيح أيضاً. ومن هنا يُفهم من بعض الروايات ضرورة عدم طلب الخير والحاجات ممن هم أهل للخير بقطع النظر عن مستواهم المعاشي الحالي والسابق، منها ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"أشد من الموت طلب الحاجة من غير أهلها"(5)، وعنه (عليه السلام) أيضاً: "فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غير أهلها"(6) إذن فلا صحة لهاتين المقولتين من حيث الدلالة، حتى وإن تنزلنا وحملنا الجوع والشبع على المعنى المعنوي لا المادي؛ وذلك لأنه حتى من يفتقر الى الأخلاق المعنوية فإنه ما إن يتكامل بالفضائل ويقلع عن الرذائل حتى يتسم بالخير وتحسن عشرته وتطيب للناس صحبته، والعكس صحيحٌ أيضا.. ومن البديهي أن ما لا يوافق العقل والمنطق السليم، ويخالف صريح القرآن الكريم، لا يمكن أن يصدر من وصي الرسول الكريم (صلوات الله عليهما وآلهما)، وعليه لا تصح نسبة هذين القولين الى أمير المؤمنين (عليه السلام).. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الحجرات 13 (2) الانسان 3 (3) عوالي الآلي ج2 ص29 (4) غرر الحكم ج1 227 (5) المدر السابق ج1 ص246 (6) ميزان الحكمة ج4 ص 238 رضا الله غايتي
اخرىخلق الله الأشياء كلها في الحياة ضمن موازين وقياسات... فالزيادة أو النقيصة تسبب المشاكل فيها. وهكذا حياتنا وأفعالنا وعواطفنا لا بد أن تكون ضمن موازين دقيقة، وليست خالية منها، فالزيادة والنقيصة تسبب لنا المشاكل. ومحور كلامنا عن الطيبة فما هي؟ الطيبة: هي من الصفات والأخلاق الحميدة، التي يمتاز صاحبها بنقاء الصدر والسريرة، وحُبّ الآخرين، والبعد عن إضمار الشر، أو الأحقاد والخبث، كما أنّ الطيبة تدفع الإنسان إلى أرقى معاني الإنسانية، وأكثرها شفافية؛ كالتسامح، والإخلاص، لكن رغم رُقي هذه الكلمة، إلا أنها إذا خرجت عن حدودها المعقولة ووصلت حد المبالغة فإنها ستعطي نتائج سلبية على صاحبها، كل شيء في الحياة يجب أن يكون موزوناً ومعتدلاً، بما في ذلك المحبة التي هي ناتجة عن طيبة الإنسان، وحسن خلقه، فيجب أن تتعامل مع الآخرين في حدود المعقول، وعندما تبغضهم كذلك وفق حدود المعقول، ولا يجوز المبالغة في كلا الأمرين، فهناك شعرة بين الطيبة وحماقة السلوك... هذه الشعرة هي (منطق العقل). الإنسان الذي يتحكم بعاطفته قليلاً، ويحكّم عقله فهذا ليس دليلاً على عدم طيبته... بالعكس... هذا طيب عاقل... عكس الطيب الأحمق... الذي لا يفكر بعاقبة أو نتيجة سلوكه ويندفع بشكل عاطفي أو يمنح ثقة لطرف معين غريب أو قريب... والمبررات التي يحاول إقناع نفسه بها عندما تقع المشاكل أنه صاحب قلب طيب. الطيبة لا تلغي دور العقل... إنما العكس هو الصحيح، فهي تحكيم العقل بالوقت المناسب واتخاذ القرار الحكيم الذي يدل على اتزان العقل، ومهما كان القرار ظاهراً يحمل القسوة أحياناً لكنه تترتب عليه فوائد مستقبلية حتمية... وأطيب ما يكون الإنسان عندما يدفع الضرر عن نفسه وعن الآخرين قبل أن ينفعهم. هل الطيبة تصلح في جميع الأوقات أم في أوقات محددة؟ الطيبة كأنها غطاء أثناء الشتاء يكون مرغوباً فيه، لكنه اثناء الصيف لا رغبة فيه أبداً.. لهذا يجب أن تكون الطيبة بحسب الظروف الموضوعية... فالطيبة حالة تعكس التأثر بالواقع لهذا يجب أن تكون الطيبة متغيرة حسب الظروف والأشخاص، قد يحدث أن تعمي الطيبة الزائدة صاحبها عن رؤيته لحقيقة مجرى الأمور، أو عدم رؤيته الحقيقة بأكملها، من باب حسن ظنه بالآخرين، واعتقاده أن جميع الناس مثله، لا يمتلكون إلا الصفاء والصدق والمحبة، ماي دفعهم بالمقابل إلى استغلاله، وخداعه في كثير من الأحيان، فمساعدة المحتاج الحقيقي تعتبر طيبة، لكن لو كان المدّعي للحاجة كاذباً فهو مستغل. لهذا علينا قبل أن نستخدم الطيبة أن نقدم عقولنا قبل عواطفنا، فالعاطفة تعتمد على الإحساس لكن العقل أقوى منها، لأنه ميزان يزن الأشياء رغم أن للقلب ألماً أشد من ألم العقل، فالقلب يكشف عن نفسه من خلال دقاته لكن العقل لا يكشف عن نفسه لأنه يحكم بصمت، فالطيبة يمكن أن تكون مقياساً لمعرفة الأقوى: العاطفة أو العقل، فالطيّب يكون قلبه ضعيفاً ترهقه الضربات في أي حدث، ويكون المرء حينها عاطفياً وليس طيباً، لكن صاحب العقل القوي يكون طيباً أكثر من كونه عاطفياً. هل الطيبة تؤذي صاحبها وتسبب عدم الاحترام لمشاعره؟ إن الطيبة المتوازنة المتفقة مع العقل لا تؤذي صاحبها لأن مفهوم طيبة القلب هو حب الخير للغير وعدم الإضرار بالغير، وعدم العمل ضد مصلحة الغير، ومسامحة من أخطأ بحقه بقدر معقول ومساعدة المحتاج ... وغيرها كثير. أما الثقة العمياء بالآخرين وعدم حساب نية المقابل وغيرها فهذه ليست طيبة، بل قد تكون -مع كامل الاحترام للجميع- غباءً أو حماقة وسلوكاً غير عقلاني ولا يمت للعقل بصلة. إن المشكلة تقع عند الإنسان الطيب عندما يرى أن الناس كلهم طيبون، ثم إذا واجهه موقف منهم أو لحق به أذى من ظلم أو استغلال لطيبته، تُغلق الدنيا في وجهه، فيبدأ وهو يرى الناس الطيبين قد رحلوا من مجتمعه، وأن الخير انعدم، وتحصل له أزمة نفسية أو يتعرض للأمراض، لأن الطيّب يقدم الإحسان للناس بكل ما يستطيع فعله، ويقدّم ذلك بحسن نية وبراءة منه، فهو بالتالي ينتظر منهم الرد بالشكر أو المعاملة باللطف على الأقل... صحيح أن المعروف لوجه الله، ولكن من باب: من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق، لذلك يتأذى عندما يصدر فعل من الشخص الذي كان يعامله بكل طيب وصدق. هل الطيبة والصدق من علامات ضعف الشخصية؟ الكثير من الناس يصف طيب القلب بأنه ضعيف الشخصية، لأنه يتصف بعدم الانتقام ممن ظلمه، والصفح عنه عند رجوعه عن الخطأ، وأنه لا يحب إيقاع الآخرين بالمشاكل؛ لأنه مقتنع أن الله سيأخذ له حقه. والحقيقة هي أن الصدق والطيبة وحسن الظن بالآخرين ليست ضعف شخصية، بل هي من الأخلاق الراقية وهي تزيد صاحبها سمواً وجمالاً روحياً، وليس من المعيب أن يمتلك الإنسان الطيبة بل العيب في من لا يُقدّر هذه الطيبة ويعطيها حقها في التعامل بالمثل. فالمشكلة الأساسية ليست في الطيبة، إنما في استغلال الآخرين لهذه الطيبة، نتيجة لعدم عقلنة قراراتنا والاعتماد على عواطفنا بشكل كلي. فالصدق والطيبة حسب المنطق والعقل، ولها فوائد جمة للنفس ولعموم أفراد المجتمع، فهي تحصين للشخص عن المعاصي، وزيادة لصلة الإنسان بربه، وتهذيب للنفس والشعور بالراحة النفسية، فالصادق الطيب ينشر المحبة بين الناس، وهذا يعزّز التماسك الاجتماعي وتقويته من سوء الظنون والحقد، وهذا التعامل أكّدت عليه جميع الشرائع السماوية، ولو تأمّلنا تاريخ وأخلاق الأنبياء والأوصياء لوجدنا كل ما هو راقٍ من الأخلاق والتعامل بالطيبة والصدق... حنان الزيرجاوي
اخرىرحلةٌ مثقلة بالألم في طريق يئن من وطأة الظلم! ينهي حياة زوجية فشلت في الوصول إلى شاطئ الأمان. ويبدد طموحات أطفال في العيش في هدوء نفسي واجتماعي تحت رعاية أبوين تجمعهم المودة والرحمة والحب. الطلاق شرعاً: هو حل رابطة الزواج لاستحالة المعاشرة بالمعروف بين الطرفين. قال تعالى: [ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)].(١). الطلاق لغوياً: من فعل طَلَق ويُقال طُلقت الزوجة "أي خرجت من عصمة الزوج وتـحررت"، يحدث الطلاق بسبب سوء تفاهم أو مشاكل متراكمة أو غياب الانسجام والحب. المرأة المطلقة ليست إنسانة فيها نقص أو خلل أخلاقي أو نفسي، بالتأكيد إنها خاضت حروباً وصرعات نفسية لا يعلم بها أحد، من أجل الحفاظ على حياتها الزوجية، ولكن لأنها طبقت شريعة الله وقررت مصير حياتها ورأت أن أساس الـحياة الزوجيـة القائم على المودة والرحـمة لا وجود له بينهما. فأصبحت موضع اتهام ومذنبة بنظر المجتمع، لذلك أصبح المـجتمع يُحكم أهواءه بدلاً من الإسلام. ترى، كم من امرأة في مجتمعنا تعاني جرّاء الحكم المطلق ذاته على أخلاقها ودينها، لا لسبب إنما لأنها قررت أن تعيش، وكم من فتاة أُجبرت قسراً على أن تتزوج من رجل لا يناسب تطلعاتها، لأن الكثير منهن يشعرن بالنقص وعدم الثقة بسبب نظرة المجتمع، وتقع المرأة المطلّقة أسيرة هذه الحالة بسبب رؤية المجتمع السلبيّة لها. وقد تلاحق بسيل من الاتهامات وتطارد بجملة من الافتراءات. وتعاني المطلقة غالباً من معاملة من حولها، وأقرب الناس لها، بالرغم من أن الطلاق هو الدواء المر الذي قد تلجأ إليه المرأة أحياناً للخلاص من الظلم الذي أصبح يؤرق حياتها الزوجية، ويهدد مستقبلها النفسي، والله تعالى لم يشرع أمراً لخلقه إلا إذا كان فيه خير عظيم لهم، والطلاق ما شرّع إلا ليكون دواء فيه شفاء وإن كان مرّاً، وإن كان أمره صعباً على النفوس، حيث قال عز وجل: "وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا"، روي عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) ((أبغض الحلال إلى الله الطلاق) (٢). ورغم أن الشريعة الإسلامية أباحت الطلاق بشروط تلاءم لبناء المجتمع، وأولت أهمية في الإحسان دائمًا للطرف الأضعف والأكثر خسارة في هذه المعادلة وهي "المرأة"، إلا أن المجتمع الذي يدّعي الإسلام لا يرحمها، ويحكم عليها بالإدانة طوال حياتها دون النظر في صحة موقفها في الطلاق من عدمه! قال( تعالى ): [الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] (٣). ولكن بعد كل هذا فالحياة لم ولن تتوقف بعد الطلاق! الطلاق ليس نهاية الحياة. - أخيتي. ليكن الطلاق بداية جديدة لحياة جديدة وللانطلاق. -قطار العطاء لن يتعطل. فإن كنت السبب في الطلاق فالحمد لله على كل حال وتلك أمة قد خلت وأيام ذهبت وانجلت فلست بالمعصومة من الخطأ. وعليك استدراك الأخطاء وتقوية مواطن الضعف في شخصيتك، واجعليها درساً مفيداً في الحياة لتطوير نفسك وتقويتها. وإذا كنتِ مظلومة فهناك جبار يُحصي الصغير والكبير وسيأتي يوم ينتصر لك فيه. -ومن الجميل أن تعطي نفسك الإحساس بالحب والاحترام، ولا تتأثري بأي نظرة سلبية من المجتمع وكون البعض يتعامل مع المطلقة على أنها حالة خاصة فعليكِ إثبات ذاتك حتى تفرضي على الكل شخصيتك. - نظرتك لنفسك اجعليها نظرة ايجابية مشرقة ولا تنزلقي في مستنقع نبذ الذات وظلم النفس. - ابحثي عن الصفات الجيدة فيك فإن ذلك سيشعرك بالثقة في ذاتك والتقدير لها. -حاولي مراجعة نفسك للخروج بإيجابيات حصلت لك من طلاقك. - خالطي الآخرين وإياك والعزلة بسبب وضعك الجديد فلست بأول من يبتلى بالطلاق. -استمتعي بالموجود ولا تتعلقي بالمفقود، حلقي بروح تعبق أملاً وتفاؤلاً، استمتعي بما وهبك الله من نعم (صحة وأولاد وأهل وصديقات وعمل وهوايات وغيرها من الأمور الجميلة) فما حصل لك حصل… ولابد أن تتقبليه برضا، وأعلمي أن ما أصابك لم يكن ليخطأك وما أخطأك لم يكن ليصيبك. وقال أصدق من قال: ( وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم). فالرضا سر السعادة الحقيقي. - اقتربي من صديقاتك الصالحات، واقضي معهن وقتاً طيباً تنسين به ألمك وحزنك. - احرصي على الصلوات وقراءة القرآن الكريم والذكر والاستغفار وأكثري من الطاعات قدر ما تستطيعين، ففيها السلوى والفرح والسعادة. ونعم سعادة القرب من الرحمن. - اشغلي نفسك بأعمال البر والإحسان بمساعدة محتاج. بكفالة يتيم. بتعلم الفقه والقرآن وتعليمه. - اجتهدي في عمل برنامج يومي لك يكون ممتلأ بكل ما هو مفيد لك. من قراءة وزيارة الأصدقاء وصلة الرحم. بحيث لا تكون هناك دقيقة أنت فارغة فيها. - وأسرعي بقاربك الجميل بمجذافين من إيمان بالله وثقة بالنفس وسوف تصلين بإذن الله نحو جزيرة السعادة والنجاح. لكي تتسلق جبال الإنجاز، وتصل لأعلى مراتب الاعجاز. وعندها جزماً سيكون للحياة معنى آخر. --------------------------------- (١)-سورة البقرة الآية (٢٢٦-٢٢٧). (٢)-الكافي (٢)-سورة البقرة الآية (٢٢٨) حنان ستار الزيرجاوي
اخرى(لا تقاس العقول بالأعمار، فكم من صغير عقله بارع، وكم من كبير عقله فارغ) قولٌ تناولته وسائل التواصل الاجتماعي بكل تقّبلٍ ورضا، ولعل ما زاد في تقبلها إياه هو نسبته الى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولكننا عند الرجوع إلى الكتب الحديثية لا نجد لهذا الحديث أثراً إطلاقاً، ولا غرابة في ذلك إذ إن أمير البلاغة والبيان (سلام الله وصلواته عليه) معروفٌ ببلاغته التي أخرست البلغاء، ومشهورٌ بفصاحته التي إعترف بها حتى الأعداء، ومعلومٌ كلامه إذ إنه فوق كلام المخلوقين قاطبةً خلا الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ودون كلام رب السماء. وأما من حيث دلالة هذه المقولة ومدى صحتها فلابد من تقديم مقدمات؛ وذلك لأن معنى العقل في المفهوم الإسلامي يختلف عما هو عليه في الثقافات الأخرى من جهةٍ، كما ينبغي التطرق الى النصوص الدينية الواردة في هذا المجال وعرضها ولو على نحو الإيجاز للتعرف إلى مدى موافقة هذه المقولة لها من عدمها من جهةٍ أخرى. معنى العقل: العقل لغة: المنع والحبس، وهو (مصدر عقلت البعير بالعقال أعقله عقلا، والعِقال: حبل يُثنَى به يد البعير إلى ركبتيه فيشد به)(1)، (وسُمِّي العَقْلُ عَقْلاً لأَنه يَعْقِل صاحبَه عن التَّوَرُّط في المَهالِك أَي يَحْبِسه)(2)؛ لذا روي عنه (صلى الله عليه وآله): "العقل عقال من الجهل"(3). وأما اصطلاحاً: فهو حسب التصور الأرضي: عبارة عن مهارات الذهن في سلامة جهازه (الوظيفي) فحسب، في حين أن التصوّر الإسلامي يتجاوز هذا المعنى الضيّق مُضيفاً إلى تلك المهارات مهارة أخرى وهي المهارة العبادية. وعليه فإن العقل يتقوّم في التصور الاسلامي من تظافر مهارتين معاً لا غنى لأحداهما عن الأخرى وهما (المهارة العقلية) و(المهارة العبادية). ولذا روي عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنه عندما سئل عن العقل قال :" العمل بطاعة الله وأن العمّال بطاعة الله هم العقلاء"(4)، كما روي عن الإمام الصادق(عليه السلام)أنه عندما سئل السؤال ذاته أجاب: "ما عُبد به الرحمن، واكتسب به الجنان. فسأله الراوي: فالذي كان في معاوية [أي ماهو؟] فقال(عليه السلام): تلك النكراء، تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل"(5) والعقل عقلان: عقل الطبع وعقل التجربة، فأما الأول أو ما يسمى بـ(الوجدان الأخلاقي) فهو مبدأ الادراك، وهو إن نَما وتطور سنح للإنسان فرصة الاستفادة من سائر المعارف التي يختزنها عن طريق الدراسة والتجربة وبالتالي يحقق الحياة الإنسانية الطيبة التي يصبو اليها، وأما إن وهن واندثر لإتباع صاحبه الأهواء النفسية والوساوس الشيطانية، فعندئذٍ لا ينتفع الانسان بعقل التجربة مهما زادت معلوماته وتضخمت بياناته، وبالتالي يُحرم من توفيق الوصول إلى الحياة المنشودة. وعقل التجربة هو ما يمكن للإنسان اكتساب العلوم والمعارف من خلاله، وما أروع تشبيه أمير البلغاء (عليه السلام) العلاقة التي تربط العقلين معاً إذ قال فيما نسب إليه: رأيت العقل عقلين فمطبوع ومسموع ولا ينفع مسموع إذ لم يك مطبــوع كما لا تنفع الشمس وضوء العين ممنوع(6) فقد شبّه (سلام الله عليه) عقل الطبع بالعين وعقل التجربة بالشمس، ومما لاشك فيه لكي تتحقق الرؤية لابد من أمرين: سلامة العين ووجود نور الشمس، وكما إن الثاني لا ينفع إن لم يتوفر الأول فكذلك عقل التجربة لا ينفع عند غياب عقل الطبع فضلاً عن موته. وبما إن عقل الطبع قد ينمو ويزدهر فينفع صاحبه من عقل التجربة، وقد يموت ويندثر عند الاستسلام لإضلال شبهةٍ أوبسبب إرتكاب معصية، فإنه ومن باب أولى أن يتعرض الى الزيادة والنقصان كما سيأتي... وقد ورد في النصوص الدينية أن للعقل زمناً ينمو فيه ويكتمل، فعن إمامنا أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه):"يثغر الصبي لسبع، ويؤمر بالصلاة لتسع، ويفرق بينهم في المضاجع لعشر، ويحتلم لأربع عشرة، وينتهى طوله لإحدى وعشرين سنة، وينتهي عقله لثمان وعشرين إلا التجارب"(7)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يربى الصبي سبعاً ويؤدب سبعاً، ويستخدم سبعاً، ومنتهى طوله في ثلاث وعشرين سنة، وعقله في خمس وثلاثين [سنة] وما كان بعد ذلك فبالتجارب"(8). إذن يتوقف النمو الطبيعي لعقل الانسان عند سن الثامنة والعشرين أو الخامسة والثلاثين كما ورد في الروايتين، وأية زيادة أخرى في طاقته بعد ذلك إنما تأتي عن طريق التجارب، وقد يُتوهم بأن ثمة تعارضاً ما بين الروايتين المتقدمتين في شأن تحديد سن النمو العقلي، إلا إنه لا تعارض ينهما إذا حملنا اختلافهما فيه على اختلاف الاشخاص وتباين استعدادات وقابليات كل منهم. وعلى الرغم من توقف نمو عقل الإنسان إلا إن له أنْ يزيده بالتجارب ومواصلة التعلم ــ كما تقدم في الروايات ــ وسواء أثبت العلم هذه الحقيقة الروائية أم لا، فنحن نريد الإشارة إلى ضرورة استمرار التجربة والتعلم لزيادة نمو العقل وهذا المقدار لا خلاف فيه وعلى الرغم من إن لعمر الانسان مدخلية في زيادة عقله كما تقدم وكما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يزيد عقل الرجل بعد الاربعين إلى خمسين وستين، ثم ينقص عقله بعد ذلك"(9)، إلا إن ذلك ليس على نحو العلة التامة، إذ يمكن للعقل أن يبقى شاباً وقوياً وإن شاب الإنسان وضعف جسمه، وتقدم في السن ووهن عظمه، فالعاقل لا يشيب عقله ولا تنتقص الشيخوخة من قوته بل وقد يزداد طاقةً وحيويةً لذا ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"رأي الشيخ أحب الي من جَلَد الغلام"(10)، وفي أخرى ".....من حيلة الشباب "(11) وأما من لم يوفر أسباب صقل عقله في مرحلة الشباب فإنه بلا شك يضمحل عقله في مرحلة الشيخوخة. وليس تقدم العمر هو العامل الوحيد في نقصان العقل بل إن النصوص الشرعية أشارت الى عوامل عديدة اخرى أهمها: أولاً: التعلم: فقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "من لم يصبر على ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبداً"(13). ثانياً: التوبة: وعنه (عليه السلام) ايضاً:"من لم يرتدع يجهل"(14) ثالثاً: التقوى: فقد كتب إمامنا الباقر (عليه السلام) إلى سعد الخير: "بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإني اوصيك بتقوى الله فإن فيها السلامة من التلف والغنيمة في المنقلب إن الله (عزوجل) يقي بالتقوى عن العبد ما عزب عنه عقله ويجلي بالتقوى عنه عماه وجهله"(15) إذن التوبة هي سبب للتوفيق الإلهي الذي يؤدي فيما يؤدي إليه من إكمال العقل. رابعاً: الوقوف عند الشبهة: وقال (عليه السلام ): "لا ورع كالوقوف عند الشبهة"(16). فإن الوقوف عند الشبهات سبب من أسباب التوفيق الإلهي بلا شك. خامساً: الاعتراف بالجهل: كما روي عن الإمام علي (عليه السلام): "غاية العقل الاعتراف بالجهل"(17) إذ الاعتراف بالجهل يدفع الإنسان دوماً إلى مزيد من بذل الجهد واكتساب المعارف. مما تقدم تتضح جلياً صحة هذه المقولة دلالةً، إذ إن العقول فعلاً لا تقاس بالأعمار لأن كلٍاً من زيادتها ونقيصتها منوطٌ بالعديد من العوامل الأخرى والتي تقدم ذكرها، بيد إن ذلك لا يبرر التساهل في نشرها والتهاون في الاستشهاد بها على إنها من أقوال أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) لعدم ثبوت ذلك سنداً من جهة ولضعف بلاغتها وركاكة تركيبها بالنسبة إلى سيد البلغاء والبلاغة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) تهذيب اللغة ج1 ص65 (2) لسان العرب ج11 ص458 (3) نهاية الحكمة ص305 (4) ميزان الحكمة ج3 ص333 (5) أصول الكافي ج1، ح3 / 11 (6) نهج السعادة ج9 ص163 (7) الكافي ج7 ص94 (8) الفقيه ج3 ص493 (9) الاختصاص ص245 (10) نهج البلاغة حكمة 86 (11) بحار الأنوار ج72 ص105 (12) المصدر السابق ج1 ص94 (13) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص118 (14) الكافي ج8 ص73 (15) وسائل الشيعة ج1 ص162 (16) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص1 بقلم الكاتبة: رضا الله غايتي
اخرىبقلم: أم نور الهدى كان لأمير المؤمنين (عليه السلام) اهتمام خاص بالمرأة، فنراه تارة ينظر إليها كآية من آيات الخلق الإلهي، وتجلٍ من تجليات الخالق (عز وجل) فيقول: (عقول النساء في جمالهن وجمال الرجال في عقولهم). وتارة ينظر إلى كل ما موجود هو آية ومظهر من مظاهر النساء فيقول: (لا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها فإن المرأة ريحانة وليس قهرمانة). أي إن المرأة ريحانة وزهرة تعطر المجتمع بعطر الرياحين والزهور. ولقد وردت كلمة الريحان في قوله تعالى: (فأمّا إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة النعيم) والريحان هنا كل نبات طيب الريح مفردته ريحانة، فروح وريحان تعني الرحمة. فالإمام هنا وصف المرأة بأروع الأوصاف حين جعلها ريحانة بكل ما تشتمل عليه كلمة الريحان من الصفات فهي جميلة وعطرة وطيبة، أما القهرمان فهو الذي يُكلّف بأمور الخدمة والاشتغال، وبما إن الإسلام لم يكلف المرأة بأمور الخدمة والاشتغال في البيت، فما يريده الإمام هو إعفاء النساء من المشقة وعدم الزامهن بتحمل المسؤوليات فوق قدرتهن لأن ما عليهن من واجبات تكوين الأسرة وتربية الجيل يستغرق جهدهن ووقتهن، لذا ليس من حق الرجل إجبار زوجته للقيام بأعمال خارجة عن نطاق واجباتها. فالفرق الجوهري بين اعتبار المرأة ريحانة وبين اعتبارها قهرمانة هو أن الريحانة تكون، محفوظة، مصانة، تعامل برقة وتخاطب برقة، لها منزلتها وحضورها. فلا يمكن للزوج التفريط بها. أما القهرمانة فهي المرأة التي تقوم بالخدمة في المنزل وتدير شؤونه دون أن يكون لها من الزوج تلك المكانة العاطفية والاحترام والرعاية لها. علماً أن خدمتها في بيت الزوجية مما ندب إليه الشره الحنيف واعتبره جهادًا لها أثابها عليه الشيء الكثير جدًا مما ذكرته النصوص الشريفة. فمعاملة الزوج لزوجته يجب أن تكون نابعة من اعتبارها ريحانة وليس من اعتبارها خادمة تقوم بأعمال المنزل لأن المرأة خلقت للرقة والحنان. وعلى الرغم من أن المرأة مظهر من مظاهر الجمال الإلهي فإنها تستطيع كالرجل أن تنال جميع الكمالات الأخرى، وهذا لا يعني أنها لا بد أن تخوض جميع ميادين الحياة كالحرب، والأعمال الشاقة، بل أن الله تعالى جعلها مكملة للرجل، أي الرجل والمرأة أحدهما مكمل للآخر. وأخيرًا إن كلام الإمام علي (عليه السلام) كان تكريمًا للمرأة ووضعها المكانة التي وضعها الله تعالى بها، حيث لم يحملها مشقة الخدمة والعمل في المنزل واعتبر أجر ما تقوم به من اعمال في رعاية بيتها كأجر الجهاد في سبيل الله.
اخرىعالم الطفولة كأنه طاولة، لا تجد فيه غير طعام لذيذ، ومنظر لطيف وجديد، فعالمهم فاكهة الوجود، وخضار الأرواح، ومياه الحياة تسقي القلوب... عالم صفاء وأحلام جميلة بسيطة وتافهة ولكن بنظرهِ هو عظيمة وكبيرة، فهو العالم الذي ينطلق منه الإنسان في بداية عمره. فالطفل في بداية حياته ينظر إلى الحياة بتفكيره البريء، فالطفل يعيش بعالم خاص به مملوء بالمحبة البريئة. هذه هي الصورة الجميلة التي يحملها الطفل، وكم يتمنى كل إنسان أن يعود لطفولته البريئة ليتأمل في أرجاء عالمها الذي كان يصور له حياة مختلفة تشد الإنسان إليها بجمالها، هذا هو عالم الطفولة وهذه أحلام من يعيشها، فلا ينفذ إلى ملكوت ذلك العالم ولا يدرك كنهه إلا من عاشه وجال في ربوعه. حيث يتذوق الطفل مع أحلام طفولته هذه لذة الحياة ولذة العيش فيها، ومهما حاولنا أن نعبر عن هذه الحقيقة فلن نستطيع تصويرها بالكلمات. وبعد هذا، فإن الاهتمام بمستقبل الطفل هو في الواقع ضمان لمستقبل شعب بأسره. قال اللَّه تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا". التحريم/6 أعتنى الإسلام بتربية الأبناء عناية فائقة، وألقى على عاتق الأهل ما سيكون عليه الولد في مسلكه الدنيوي ومصيره الأخروي إن هم قصروا في تربيته وإعداده. وقد ذكر العلماء أن شخصية الولد تتأثر في نموها بعوامل ثلاثة وهي: الوراثة، والبيئة، والتربية. إذا خضنا في مضمار التربية السليمة للأبناء... فعلى الأبوين أن يكون لهما الوعي التربوي الذي يبنى على أسس صحيحة ويتوفر لديهم فهم لأساليب التربية والتوجيه والرعاية وهذه نقطة البداية. فمثلاً في أسلوب التعامل مع الطفل تبرز أمامنا ثلاثة اشكال لتعامل الآباء مع الأبناء: الشكل الأول: أسلوب الدلال المفرط وهذا الأسلوب له نتائجه السلبية الخطيرة، فإنه يخلق شخصية هشة متميعة وشخصية اتكالية تحب الكسل والخمول مجردة من الهدف والإقدام، انهزامية غير قادرة على مواجهة التحديات وبمعنى أدق شخصية لا تثق بنفسها. شخصية متسيبة في ظل غياب المراقبة والمحاسبة وهذا التسيب يقود إلى الانفلات والانحراف. الشكل الثاني: فهو أسلوب التربية القاسية والعنف. وهذا الأسلوب أيضاً له نتائجه الخطيرة والسلبية التي يعاني منها الأبناء طوال حياتهم فهو يخلق شخصية قلقة ومتأزمة ومعقدة وخائفة وتحمل عقدة الخوف، شخصية حاقدة وعدوانية وقد تتأزم الأمور لتصبح شخصية منافقة وكاذبة خوفاً من العقاب والتعنيف ضمن حدود الأسرة ولكن يوماً من الأيام سينطلق هذا الشخص ليواجه المجتمع ككل، فلنتصور كيف سيتعامل مع المحيطين ضمن مجالات الدراسة والعمل وهو شخصية هاربة من أجواء الأسرة وقد يعرضها للتسيب والانحراف لأنها شخصية متمردة مما يعرضها للعقوق. الأسلوب الثالث: التوازن. الأسلوب الصحيح يعتمد على التوازن فمن شروط نجاح التربية التوازن في المعاملة ما بين الأمور التي تحتاج إلى شدة وحزم ليتربى على أن هذه الأمور خطوط حمراء طبعاً هنا يمكن أن يعترض أحد ويقول: لا للعنف الأسري ولا لاستخدام القسوة. نعم فهناك طرق غير استخدام العنف. يكفي ان يبدي الآباء انزعاجهم مثلاً. وهنا النقطة مهمة جداً، وهي: أن نوضح لهم سبب المنع والرفض لا تعتقدوا أن أبناءكم لا يدركون ولن يفهموكم. تخصيص الوقت للنقاش مهم جداً. وما بين أسلوب المرونة والحنان والاحتواء. التوازن في المعاملة. إن الإمام زين العابدين (عليه السلام) يصرح بمسؤولية الأبوين بتربية الطفل، ويعتبر التنشئة الروحية والتنمية الخلقية لمواهب الأطفال واجباً دينياً يستوجب أجراً وثواباً من الله تعالى، وأن التقصير في ذلك يُعرّض الآباء إلى عقاب الله. فيقول (عليه السلام): (وأما حق ولدك عليك فأن تعلم أنه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره. وأنك مسؤول عما وليته به من حسن الأدب والدلالة على ربه عز وجل والمعونة له على طاعته. فأعمل في أمره عمل من يعلم أنه مثاب على الإحسان إليه معاقب على الإساءة إليه ) مكارم الأخلاق للطبرسي ص٢٣٢ حنان الزيرجاوي
اخرى