تشغيل الوضع الليلي
كوني قوية قبل كل شيء
منذ 4 سنوات عدد المشاهدات : 850
بقلم: أم مهدي
جلست نهاد حزينة شاردة الذهن؛ في حصة اللغة العربية؛ انتبهت لها زميلتها هدى؛ فنقرت الرحلة بخفة قبل أن تلاحظها المدرسة وهي بهذه الحال...
وأخيرًا انتهينا من هذا اليوم الدراسي... قالت نهاد جملتها عند سماع جرس المدرسة؛ فحملت الطالبات حقائبهن مغادرات قاعة الدرس .
فعدلت هدى حجابها وعباءتها قائلة: إن درس اللغة العربية جميل جدًا، والمادة غاية في الروعة والمتعة. ولم تقصر المعلمة بيداء بالشرح، فلماذا هذا السرحان وأنت في الدرس؟
فتبسمت نهاد وقالت بتهكم: أين الممتع؛ إنها لغة صعبة وكثيرة القواعد؟!
فتبسمت هدى قائلةً أثناء مغادرة الصف: نعم، هي صعبة لمن لا يعشقها؛ إن للغتنا مقامًا رفيعًا؛ لما تحويه من معاني غير موجودة في باقي لغات العالم، يكفينا فخرًا أنها بدأت تغزو العالم بجمال معانيها الغنية بالدلالات.
فضربتها نهاد مازحة وقالت: إن طرازَكَ قديمٌ يا سيبويه!
ولوحت بيدها مودعة فأمسكت هدى يدها بلطف قالت: هل فكرت بما قلته لك بالأمس؟
ردت نهاد غير مهتمة: وإن كنت لا أرتدي حجابًا فماذا سوف يحصل؟! انظري لمن حولك! أنت فقط من ترتدي العباءة والحجاب بهذا الشكل!! تذكرينني بجدتي! أشعر بحرية تامة هكذا؛ إنني غير مقيدة بشيء...
وفي هذه الأثناء دخلت عليهما زميلاتهما غادة وسعاد تستعجلنهما بالخروج (كانتا أيضا سافرتين ومتبرجتين)
غادة: ما بك هدى؟؟ ألا تتعبين من الكلام؟! تعيدنه مرارا وتكرارا !! حبيبتي من يريد طاعة الله تعالى ليس شرطًا أن يربط نفسه بحجاب مثل حجابك؛ نحن أكثر منك حرية لأنك مقيدة بحجابك، عباءتك، جواربك!
قالت هدى متعجبة: أنا مقيدة! ومن مثلي في حريتي عندما أسير وأتكلم؛ إنهما يمنحانني مساحة واسعة من الحرية، أشعر معها بالقوة.
غادة بتهكم: أين قوتك يا قوية؟!
هدى بثبات واعتزاز: قوتي في وضع الأولويات أمام ناظري والتفكر مليًّا قبل كل خطوة أخطوها؛
هل هذا الفعل يقويني أم لا؟ هل يضمن أنني سأكون عند حدود حريتي ولا أتجاوز على حريات الآخرين إذا فعلته؟
نُهاد: القوة! وهل تحتاج الأنثى إلى قوة؟! إنها رقيقة فأين هي والقوة؟!
هدى: حبيباتي بالقوة تكون الأنثى حرة، وليس المعنى أن ترفع أثقالًا لتصبح قوية! امتلاكها القدرة على مغالبة نفسها يجعلها قوية فلن يستطيع أحد قهرها رغما عنها، ومثالنا الدائم السيدة زينب (عليها السلام) وكيف استطاعت الثبات رغم رقتها وأنها مخدرة بني هاشم التي لم يُر لها ظلٌ! لم يرو لنا التاريخ قصة ولو واحدة عن النساء في واقعة الطف أنها ذهلت عن حجابها رغم قساوة الظروف وهول المصاب؛ ولو كان قد وقع لرواه الأعداء.
ولو سرنا معها وهي تكابد أحزانها أثناء دخولها إلى قصر يزيد بعد طول الرحلة، وأنصتنا إلى خطبتها في مجلسه واستمعنا لكلماتها التي قرعت أسماع الظالم ولوت بسياط التقريع سيرته النتنة: أمِنَ العدل يا ابن الطلقاء تخديرُك حرائرك وإماءك وسوقُك بنات رسول الله سبايا، قد هتكت ستورهن! إلى آخر خطبتها الشريفة.
فصمتن برهة، ثم نطقت سعاد: مهلًا مهلًا وما لي بكل هذا القيد وأن أُتعب نفسي بالتفكير الزائد هكذا! الأزياء تملأ الأسواق اشتري ما يناسب مقاسي وانتهى الأمر؟!
قالت هدى بكل ثقة: نعم اتفق معك السوق مليء بالأشياء فلماذا اختار ما يخالف القانون الإلهي؟ هنا بالمدرسة ألسنا نلتزم بزي واحد، والمديرة ترفض أي نوع آخر، وإذا تجاوزت الطالبة قد تتعرض للإهانة!
وشيء آخر غير الملابس: هل ينقص من إنسانيتي أو حريتي شيء إذا لم أبرز خَصلات شعري من تحت الحجاب؟! أو هل تنقص من حريتي عندما لا أضع ما يؤذي بشرتي على المدى البعيد أو القريب؛ وكل يوم يأتي لنا العلم بأشياء جديدة تدل على خطورة مستحضرات التجميل وما تفعله بالجلد حتى أرقى الأنواع! ألسنا نصدق كلام العلماء وهم أعرف؟!
غادة: هذه قوانين المدارس ويجب الالتزام بها وأنا بإرادتي ألبس ما أشاء وبكامل حريتي، ثم ليس كل كلام الخبراء صحيحا...
هدى: إن سلمنا بالأمر، فإنني سأكون مجرد مقلدة لما يظهر من موضة سواء وافقت مجتمعنا أم لم توافق، وإنما نتغير وفق الموضة وليس العكس!
إضافة إلى أنني أرتدي أزياء تخص أناسًا آخرين لا يمثلونني، إنما سوف أمثل أفكارهم ومجتمعاتهم ولا أجدهم ويقلدونني في ازيائي أو طريقة كلامي أليس بهذا الزي أُعرف بشخصيتي العربية والإسلامية!
إضافة إلى إثبات أصالة الحشمة في مجتمعنا فنحن بلد مسلم ونحن في بلد عريق فلماذا أترك اصالتي لضياعهم؟!
لماذا أكون تبع مخلوق والله خلقني حرة؟!
سعاد: ولكن العالم يتطور والتقنية الحديثة أتاحت للمجتمعات والثقافات التلاقي والتلاقح فيما بينها وهذا هو التطور، فلماذا نبقى كما كانت أمهاتنا وجداتنا والله قال: "..... إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ ...."
هدى: نعم صدق الله العلي العظيم، ولكن اكملي الآية الكريمة: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنّ َ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ"
إضافة إلى أن التقنية الحديثة أتاحت لنا فرصة للاطلاع على العلوم ومستجداتها وكلنا نطمح أن تكون أوطاننا مثل باقي الدول المتقدمة ومع ذلك فإننا لا نعمل بما يتوافق مع ما نتمناه؛ مثلا سائق لا يربط حزام الأمان إلا إذا شاهد شرطي المرور خوفا من الغرامة المالية، ولا يلتزم بآداب الطريق، أو عامة الناس لا تهتم بطريقة جمع وإلقاء النفايات والازبال فتلقيها بلا عناية أو مداراة لعامل النظافة. ضربت آداب الطريق كمثال والا هناك أمور أخرى كثيرة... وهي أمور يدعو إليها ديننا الحنيف. ونقاشي ليس من الناحية الدينية.
فهنا في هكذا مجالات علينا أن نتلاقح بهذه الأفكار والمواضيع مع باقي الثقافات والأمم.
كلامي في أن الحرص والحرية يجب أن تكون نابعة من الداخل، ومن موقع القوة؛ حتى تتحقق بالفعل؛ فأنا حرة من حيث أنني لا أسمح لأحد باستغلالي، وإظهار ما لا يقبل العقل إظهاره؛ وقيّده الدين، أكد عليه، أيده بالحجاب؛ فقد شرع الله الحجاب صيانةً لذلك الجمال الذي أودعه في الأنثى.
وما الآيات المطالبة بالعفة تخص الأنثى فقط، إنما الذكر أيضا؛ فكلاهما مطالب بالعفة؛ الرجل مطالب بها. إنه لمن المحزن رؤية أزياء شاذة قد بدأ الشباب يلبسونها لأنهم سمحوا للآخرين أن يستغلوهم من خلال إبراز وتقوية الشهوات فيهم من خلال الرغبة بالتقليد.
غادة: على مهلك اختي على مهلك كيف طالب الله الرجل بالحجاب؟ وثانيًا هذا زي هذا الزمان أليس لكل زمان زي؟
هدى: نعم لكل زمان زي ولكن وفق العقل؛ لأن الله أودع العقل فينا ليكون ضابطة وجاء الدين أيد ما بنى عليه العقل طبعا اقصد بالعقل الفطرة السليمة التي ترفض كل شاذ.
والا بربك هل يعقل أن يشترى الشاب بنطالا ممزقًا بآلاف الدنانير فقط لأنه موضة! هل رأينا أن العظماء والمشاهير من المثقفين حقًا وليس مُدّعي الثقافة يرتدي مثل هذه الأزياء والموضة.
أجبنني؟
أليس هو استغلال لضعفنا وشهواتنا؟
فلنكن أقوياء في مقابل هذا وسوف نرى أن زينا هو الصحيح، وهو الأمثل، فلقد خلق الله الكون كله مغلفًا، حفاظًا عليه من التأثيرات الخارجية.
لو نسأل أنفسنا هل هناك عاقل يأكل ويشرب أطعمة مكشوفة؟
ومثال آخر ندرسه في كتبنا، إن ثقبًا بسيطًا في طبقة الأوزان أحدثت كل هذه التأثيرات
فكيف بنا ونحن ندوس على تعاليم الإله وسنن رسوله الكريم (صلى الله عليه وآله) ونحن ندّعي أننا مسلمون!
أخواتي فقط أدعوكم للتفكير ولا أجبر واحدة منكن والسبب ببساطة كل واحدة ستجد الجواب في قرارة نفسها.
وهنا سمعت الفتيات صوت الحارس وهو ينادي هل هناك أحد قبل أن يغلق البوابة فانتفضت هدى قائلة: هيا بنا لقد تأخر بنا المقام
سننال توبيخًا من الحارس الطيب، علت ضحكاتهن ولكن كانت غادة ونهاد شاحبات اللون يبدو أن كلام هدى وقع في محله.
هدى: انتظركن عصرًا لنكمل اللقاء...
اخترنا لكم
أختي الزائرة
هناك من يتصيّدُ بالماءِ العَكِر، فلا تكوني سهلةَ المنال، وكوني لبوةً كبنتِ علي بن أبي طالب (عليهما السلام)
اخرىروزبة بن خشفوذان
بين المروج الخضراء واريج الورد تفتحت عاقلتي ونمت ، كنت كالفراشة أنتقل من غصن لغصن من وردة لوردة، استنشق رياحين الطبيعة .فقد ولدت لأب من بلاد فارس ومن دهاقينها وكان من كبار الزرادشتيين في أصفهان، كان له نفوذ وسلطة على بعض الفلاحين ، كان يملك بعض المزارع، لذا كنت ما انفك عن التجوال فيها ، لكن هذه الحرية لم تدم لي طويلاً فقد كنت الابن الأثير لأبي فقد حبسني في البيت كما تُحبس الجارية، كانت الأيام تمر ثقيلة جداً فلم أكن من قبل قد أعتدت على التقييد ! فبرقت لي بارقة أمل لأبدد وحشة أيامي فأصبحت اجتهد في المجوسية حتى صرتُ خادماً في بيت النار، مرّت الايام حبلى بالأحداث وربّ حدث صغير يغير مسار الحياة برمته ! في يومها أرسلني أبي إلى ضيعة له ، وفي طريق رحلتي مررتُ بكنيسة النصارى فدخلت عليهم ، استولت على عاقلتي صلاتهم، فسألتهم عن أصل هذا الدين قالوا: في الشام . في طريق العودة كانت نفسي تصارعني في الهرب إلى الشام فهربت من أبي إلى الشام ، حتى قدمت عليها ، فدخلت على الأسقف ، فتودّدتُ إليه وصرتُ أخدمه وأتعلم فقد استمال قلبي بطيب خلقه، وما كادت تمر الأيام حتى فاضت روحه على يدي بعد أن طلبت منه أن يوصي بي لأحد فقال: قد هلك الناس ، وتركوا دينهم إلا رجلاً بالموصل فالتحق به. حثثت الخطى وفي قلبي تتماوج الفرحة ، الأرض اطويها بين قدمي جذلاً مسروراً، وكيف لا وسوف أصفي نفسي من كدورات الدنيا وشوائبها ، فما مرّت إلا أيام ولحقت لذلك الرجل ، فمكثُ معه أياماً استسقي من علومه، فما إن دنى أجله حتى أوصى بي إلى رجل قال إنه الوحيد الذي بقي على الطريقة المستقيمة في نصيبين ثم مكثتُ عنده سنيناً حتى أحتضر ،فبعثني إلى رجل بعمورية من أرض الروم، فلحقته، وكنت كالفصيل اتبعه باحثاً عن دين الحق ، فلما حضرته الوفاة كالذين سبقوه ،أقبلت عليه أن يوصي بي من هو على حق لاتبعه ، فكان لي ناصحاً أميناً ، فأشار لي بإصبعه المرتجف : هناك في أرض العرب تزهر الأرض بنبي مبعوث بدين إبراهيم فيهاجر إلى أرض بين حرتين لها نخل ، فرحتُ أسأله بلهفة فما علامته؟ فأجابني: وهو يباعد بين أجفانه التي تكاد أن تنطبقان على هذه الدنيا: يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة ، بين كتفيه خاتم النبوة . فرحتُ أشد الرحال شوقاً ، فمر بي ركب من كلب فخرجت معهم ، كنت فيهم كأحدهم فما أن وصلنا وادي القرى حتى غدروا بي فباعوني من يهودي، بقيت نيراً من الزمن تحت رق العبودية أعمل في زرعه ونخله. كثيراً ما تأتي النعمة مغلفة بالبلاء ، فما أكرم عطايا الرب ، فما مرت أيام إلا واقبل ابن عم له فابتاعني منه وحملني إلى المدينة ، هناك حيث يسكن النبي المبعوث ، فصرت أتحين الفرص للقياه، وأناجي الرب ليعجل لي اللقاء به فما لهذا القلب من قرار ، حتى لقيته ذات يوم مع اصحابه جالساً ، خامرني شعور غريب ، مزيج من الفرح والهيبة التي ملئت نفسي من رؤيته فرحتُ مهرولاً احمل بيدي طبقاً من رطبٍ على إنها صدقة ، كنت أرقب بدقة تصرفاته فرأيته قد أمرَ أصحابه بأن يأكلوا ولم يأكل هو ،لأنها كانت صدقة فقلت في نفسي لقد تحقق واحدة من العلامات ، كان ذلك في قباء . توالت الأيام وقلبي لا يسكن من وجد شوقي له ، حتى لقيته في المدينة وقدمت له رطباً على إنها هدية ، فأكل منه ، اغرورقت عيناي بالدموع ،فبعد رحلاتي الطويلة سأحظى برفقة النبي المبعوث . وشاءت الاقدار ان ألتقي به في بقيع الغرقد وهو يشيّع أحد اصحابه، سلمت عليه واستدرت خلفه فرأيت ختم النبوة بين كتفيه الشريفتين، لا أعلم كم من الوقت مضى وأنا منكب عليه وأقبله وأبكي ، إنه كان أشد شوقاً لي مني، فكانت تلك اللحظة هي بداية ولادتي حيث أسلمت علي يديه، واشتراني من صاحبي فأعتقني. الايام عذبة رقيقة كنسمة هواء رغم قساوة العيش وشظف الحياة إلا أن مرافقتهم ومجاورة أهل البيت عليهم تبدد كل تلك الغيوم القاتمة المحملة بالأرزاء... لقد قرب موعد الرحيل ولقد تزودت لها _فخير الزاد التقوى- فشددت رحالي ورحتُ أحثُ الخطى للحبيب في عليائه كما حثثت الخطى سابقا للقياه ... سماهر الخزرجي
اخرىحَتَّی جَاءَ اليَقِین
بقلم: مريم الخفاجي كنتُ أختنق، حين الوحوش حُشِرت، نعم.. شعرتُ أنّه اليومُ المَوعُود، نظرتُ نظرةً فإذا كواكبهم قد انتَثَرت، ونُجُومُهم قد انكدرت، ورمقتُ سماءهم فإذا بها انفَطَرت، وشَمسُها قد كُوّرت، ودوّامة ما لها من قرار عصفت بي تلك الظّهيرة. كان كل شيء يُنبئ بأنّ غضب الله نازل لا محالة، تلبَّدَ الفضاء بالغيوم و بدا كأنّه يرعف دمًا، أحمرَ قانٍ، فلا لونَ يجرؤ أن يمحو شرّ بني آدم منه، ويحيله إلى أنفاسِ حياة. وحرتُ، أهو شفقٌ حزين، أم حزنٌ من حزن النبييّن؟ وتذكرتُ قولَ الملائكة حين قال اللهُ لهم "إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ"؟ وأنا في دهشتي، كان ُيزعجني وقعُ أقدامهم المشؤومة حدَّ الثورة، وزاد بؤسها فيضُ الدّماء التي مازَجَتها، يحومون بخَتلِهم، وقد أزاحوا عن قلوبهم رحمة البشر. ذُهلتُ من بَطشِهم، ماذا يريدون؟ ها قد هدأت أنّاته، وقرّت أنفاسه، وأسبل أطرافه المُنهَكة... وأُفعِمَت رأَتي بدمِه الذي يفُور غَيرةً على الخِيام، وحرائرِ بيت النَّبي (صلى الله عليه وآله). ألم يكن القوم يطلبونه؟ ها قد بلغوا مُناهم، ها قد ملأت طعناتهم جسده، واستحييتُ كيف أمنع صدوعي عنه فلا تحرق الجِراح. حتى هممتُ أن أتفجّر غضبًا، لكن... كبحت جماحي، لقد استوقفتني جراحاته، خشيتُ أن تُنكأ، ولستُ أقوى على أنّةِ الحسين (عليه السلام) الخَافتة، وصرخاته المكتومة بين أضلاعه المتكسّرة. وبدأتُ أصرخ بكظم صوتِي : "يا مَن يَعلَم ضَميرَ الصَّامِتين، لكلِّ مسألةِِ منكَ سمع حاضر وجواب عتيد". فأتت من خلفِ الأحزان تُهَروِل، ولم يكن بمقدوري عدُّ المرّات التي سَقَطت بها على وجهها وهي تتلقاني بيديها المتشققتین من نار أضرموها بالخِباء، كانت يُغمى عليها تارة فتشتد خشيتي حين أفقد حرارة أنفاسها، فتصحو أخرى، وأنا أكرر بسكون: "اللهمّ و مواعيدك الصّادقة، يا كاشف كُرب المَكروبين أَغِث كربي، وأعني على حمل جَسَد وليّك المضرّج".. وهي تصرخ شاكيةً، یُشجي صوتها عوالم الملكوت: "يا مُحمداه، هذا حسينٌ بالعَراء، مرمّل بالدّماء، مُقطّع الأعضَاء"... فوجم القومُ مبهوتين، وبانَ عظمُ الجريمة حين علت أصواتُهم بالبُكاء والعَويل... وتخيلتُ أنّ أمر الله واقع، لا شكّ أنني سأسِيخ بالعَالَمين، وتأهبتُ جيدًا، فما هو إلا صوتٌ من عِنان السّماء يأتي بقرارِ القَهّار المُنتقِم، وحينَها سَأُخسَفُ بقومٍ جاحدين، لتستحيل ذراتي شررًا كالقَصر كأنّه جمالة صُفر، وأغشيهم بالعذاب، فأثأر لابن فاطمة. وفجأة؛ شعرتُ أنّ كل شيء انتهى، فلم يعد ذاك الحِمل الذي أثقل كاهلي كما كان، وتناهى إلى سمعي قولُ امرأةٍ ثكلى خَفِرة تنحَب وتتمّتم برضاً وهي جاثية: "اللهم تقبّل منّا هذا القربان"... ورنت للسّماء تسليمًا، وكأنّها كانت تقرأ علامات القبول بعين أصحاب اليقين. لقد رَفَعَت جَسَدًا بلا رأس، بكفّين ملؤهما توكّل وصَلاَبة، كانت تحركه بِحَنان، وكأنّها هي وحسب ما يمكنها حمل ثقل الأولياء، حاولَت أن تُبعد حبّات رملي المتشرفة بتقبيل مواطن الطَّعنات، وتزیح أشواكي المُدمِية، فازددتُ خجلًا، لاشكّ أنّ ذلك يزيد شجاها. ثم أعادته بروِيَّة، وهي تَهمِس في أعمَاقي، تُصَبِّرني، تُخبِرني أنّ ثقلاً من نوع القضيّة حملته معها، و ربّتت علي بِحُنُوّ. يا لهفي؛ لولا تربيت كَفَّيهَا، لم أطق حمل وصيٍّ كريم. لم أنفرد تلكَ اللّيلة بمُواسَاتِها، فبعد أن التهمت ألسِنة النّار الخِيام، وبعد أن نفخَ إبليس شرًّا حَدَّ الغيظ في نفوس بعض بني آدم، وهو لمّا يزل يحتَنِكهم واحداً تلو الآخر، هناكَ نَهَبُوا، وسَلَبوا، وأعاثوا في الأرواح الأوجَاع. فقصدت سليلة الأنبياء بقيّة أخيها. كان يتمَلمَلُ تململ العَلِيل، يجودُ بِنَفسه، وكلّ شيء يَميل حزنًا مَعه. كيف لا، وهو يرى كلّ شيء استحال رمادًا، حتى البراءة نُحرت غيلة بسهمٍ ذي شُعبٍ . واختنق صدر الخَلائِق، وعُدنا لنختنق معه من جديد، وبدأت الموجودات تبتهل: - اللهمّ كم من همِّ يضعف فيه الفُؤاد، وتقِلّ فيه الحِيلة، أنت رجاءنا في كل شدّة، أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السّوء، اكشف الضُرّ والسُّوء عن وَلِيّك... وحين بلغت القلوب الحَناجِر، سَمعِنا صوتها النَحِیل المتوشّح بالصّبر من جديد يقول: - "مالي أراك تجود بنفسك يا بقيّة جدّي وأبي وإخوتي"؟ أناخ رَحل شَكواهُ في قلبِ عَمَّتِه العَالِمة فقال: - "وَ كَيْفَ لَا أَجْزَعُ وَ أَهْلَعُ وَ قَدْ أَرَى سَيِّدِي وَ إِخْوَتِي وَ عُمُومَتِي وَ وُلْدَ عَمِّي وَ أَهْلِي مُصْرَعِينَ بِدِمَائِهِمْ مُرَمَّلِينَ بِالْعَرَاءِ مُسَلَّبِينَ لَا يُكَفَّنُونَ وَ لَا يُوَارَوْنَ وَ لَا يُعَرِّجُ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ وَ لَا يَقْرَبُهُمْ بَشَرٌ كَأَنَّهُمْ أَهْلُ بَيْتٍ مِنَ الدَّيْلَمِ وَ الْخَزَر". أدارت بوجهها نحوه، تُطيل النّظر وكأنّ عينيها المفجوعتين ما زال فيهِما مُتّسَع من القُوَّة يَستَسقي بهما وليّ الله جرعة يواسي بها فجيعته. ثم قالت: وهي تَستَعيد وصايا جدّها الصادق الأمين: - "لَا يُجْزِعَنَّكَ مَا تَرَى فَوَ اللَّهِ إِنَّ ذَلِكَ لَعَهْدٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ص إِلَى جَدِّكَ وَ أَبِيكَ وَ عَمِّكَ وَ لَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ أُنَاسٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَا تَعْرِفُهُمْ فَرَاعِنَةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَ هُمْ مَعْرُوفُونَ فِي أَهْلِ السَّمَاوَاتِ أَنَّهُمْ يَجْمَعُونَ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ الْمُتَفَرِّقَةَ فَيُوَارُونَهَا وَ هَذِهِ الْجُسُومَ الْمُضَرَّجَةَ وَ يَنْصِبُونَ لِهَذَا الطَّفِّ عَلَماً لِقَبْرِ أَبِيكَ سَيِّدِ الشُّهَدَاءِ لَا يَدْرُسُ أَثَرُهُ وَ لَا يَعْفُو رَسْمُهُ عَلَى كُرُورِ اللَّيَالِي وَ الْأَيَّامِ وَ لَيَجْتَهِدَنَّ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ وَ أَشْيَاعُ الضَّلَالَةِ فِي مَحْوِهِ وَ تَطْمِيسِهِ فَلَا يَزْدَادُ أَثَرُهُ إِلَّا ظُهُوراً وَ أَمْرُهُ إِلَّا عُلُوّا". فأزالت حزنه العميق، وهدّأت من روعه، حتى سكَنَ قلب حُجّة الله. عجبًا، يا سِرّ زينب الذي أحَالت به اضطرابَنا إلى سكونٍ، وهوّنت به قيدَ السّلاسِل وأذابت القيود فالتفّت على أعناقِ الظّالمين، حتى عَصف بهم الأَرَق، ولم يغادِر الحُسَين (عليه السلام) كما أرادُوا، ولم يُغَيّب ذِكره، وما برِحَ يلوحُ عَلَمه عَالِياً عَالِيا. ما زلتُ أذكر نبوءة زَينَب، حتّى تحقّق الوَعد. فمذ رَحَل الحُسَين (عليه السلام)، وهي لَمَّا تزل تَعِدُ بوعد الله للأنبياء، أن "كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزيز" وسمِعتُ صَوتها يَرِنّ من على منبرِ الجُمعة، حين اجتهد أئمة الكُفر وأشيَاع الضّلال في مَحو اسم حُسَينها، فعادَ وعدها من جديدِِ ليَختَرِق جِدار الزّمن عِبر مئات السِّنين ويَتَمَثّل على لِسان وليّ من أولياء الله قائلًا: - "إنّ مَن يُضحِي مِنكُم في سَبيل الدِّفاع ِعن بَلَده وأَهلِه وأعراضهم فإنّه يكون شهيدًا". نعم كان صوتها، ما برحتُ أعرِفه، ما فتئتُ أختزله في كلّ أجزائي الصغيرة، فإنّ فيه من لَحنِ الأوصِيَاء. وأيقنتُ توًا أن جميل زينب (عليها السلام) الذي رأته هو إحياء قلوبِِ في زمنِِ جفّت فیه ینابیع الضّمِیر.
اخرىالتعليقات
يتصدر الان
لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع
يستشهد الكثير من الناس ــ وحتى بعض المثقفين ــ بقول:" لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع فإن الخير فيها دخيل وعاشر نفساً جاعت بعد شبع فإن الخير فيها أصيل" على أنه من أقوال أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، كما يستشهدون أيضاً بقولٍ آخر ينسبونه إليه (عليه السلام) لا يبعد عن الأول من حيث المعنى:"اطلبوا الخير من بطون شبعت ثم جاعت لأن الخير فيها باق، ولا تطلبوا الخير من بطون جاعت ثم شبعت لأن الشح فيها باق"، مُسقطين المعنى على بعض المصاديق التي لم ترُق افعالها لهم، لاسيما أولئك الذين عاثوا بالأرض فساداً من الحكام والمسؤولين الفاسدين والمتسترين عل الفساد. ونحن في الوقت الذي نستنكر فيه نشر الفساد والتستر عليه ومداهنة الفاسدين نؤكد ونشدد على ضرورة تحرّي صدق الأقوال ومطابقتها للواقع وعدم مخالفتها للعقل والشرع من جهة، وضرورة التأكد من صدورها عن أمير المؤمنين أبي الأيتام والفقراء (عليه السلام) أو غيرها من المعصومين (عليهم السلام) قبل نسبتها إليهم من جهة أخرى، لذا ارتأينا مناقشة هذا القول وما شابه معناه من حيث الدلالة أولاً، ومن حيث السند ثانياً.. فأما من حيث الدلالة فإن هذين القولين يصنفان الناس الى صنفين: صنف قد سبق له أن شبع مادياً ولم يتألم جوعاً، أو يتأوه حاجةً ومن بعد شبعه جاع وافتقر، وصنف آخر قد تقلّب ليله هماً بالدين، وتضوّر نهاره ألماً من الجوع، ثم شبع واغتنى،. كما جعل القولان الخير متأصلاً في الصنف الأول دون الثاني، وبناءً على ذلك فإن معاشرة أفراد هذا الصنف هي المعاشرة المرغوبة والمحبوبة والتي تجرّ على صاحبها الخير والسعادة والسلام، بخلاف معاشرة أفراد الصنف الثاني التي لا تُحبَّذ ولا تُطلب؛ لأنها لا تجر إلى صاحبها سوى الحزن والندم والآلام... ولو تأملنا قليلاً في معنى هذين القولين لوجدناه مغايراً لمعايير القرآن الكريم بعيداً كل البعد عن روح الشريعة الاسلامية ، وعن المنطق القويم والعقل السليم ومخالفاً أيضاً لصريح التاريخ الصحيح، بل ومخالف حتى لما نسمعه من قصص من أرض الواقع أو ما نلمسه فيه من وقائع.. فأما مناقضته للقرآن الكريم فواضحة جداً، إذ إن الله (تعالى) قد أوضح فيه وبشكلٍ جلي ملاك التفاضل بين الناس، إذ قال (عز من قائل):" يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)"(1) جاعلاً التقوى مِلاكاً للتفاضل، فمن كان أتقى كان أفضل، ومن البديهي أن تكون معاشرته كذلك، والعكس صحيحٌ أيضاً. وعليه فإن من سبق حاجتُه وفقرُه شبعَه وغناه يكون هو الأفضل، وبالتالي تكون معاشرته هي الأفضل كذلك فيما لو كان تقياً بخلاف من شبع وكان غنياً ، ثم افتقر وجاع فإنه لن يكون الأفضل ومعاشرته لن تكون كذلك طالما كان بعيداً عن التقوى. وأما بُعده عن روح الشريعة الإسلامية فإن الشريعة لطالما أكدت على أن الله (سبحانه وتعالى) عادلٌ لا جور في ساحته ولا ظلمَ في سجيته، وبالتالي لا يمكن أن يُعقل إطلاقاً أن يجعل البعض فقيراً ويتسبب في دخالة الخير في نفوسهم، التي يترتب عليها نفور الناس من عشرتهم، فيما يُغني سواهم ويجعل الخير متأصلاً في نفوسهم بسبب إغنائه إياهم ليس إلا ومن ثم يتسبب في كون الخير متأصلاً في نفوسهم، وبالتالي حب الناس لعشرتهم. فإن ذلك مخالف لمقتضى العدل الإلهي لأنه ليس بعاجزٍ عن تركه ولا بمُكره على فعله، ولا محب لذلك لهواً وعبثاً (تعالى عن كل ذلك علواً كبيراً). كما إن تأصل الخير في نفوس بعض الناس ودخالته في نفوس البعض الآخر منهم بناءً على أمر خارج عن إرادتهم واختيارهم كـ(الغنى والشبع أو الجوع والفقر) إنما هو أمرٌ منافٍ لمنهج الشريعة المقدسة القائم على حرية الانسان في اختياره لسبيل الخير والرشاد أو سبيل الشر والفساد، قال (تعالى):" إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)"(2) بل إن الانسان أحياناً قد يكون فقيراً بسبب حب الله (تعالى) له، كما ورد في الحديث القدسي: "أن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى فلو أفقرته لأفسده ذلك و أن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر فلو أغنيته لأفسده ذلك"(3) وهل يمكن ان نتصور أن الخيرَ دخيلٌ فيمن يحبه الله (تعالى) أو إن معاشرته لا تجدي نفعا، أو تسبب الهم والألم؟! نعم، ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"اِحْذَرُوا صَوْلَةَ اَلْكَرِيمِ إِذَا جَاعَ وَ اَللَّئِيمِ إِذَا شَبِعَ"(4) ولا يقصد به الجوع والشبع المتعارف عليه لدى الناس، وإنما المراد منه: احذروا صولة الكريم إذا اُمتُهِن، واحذروا صولة اللئيم إذا أكرم، وفي هذا المعنى ورد عنه (عليه السلام) أيضاً: "احذروا سطوة الكريم إذا وضع و سورة اللئيم إذا رفع"(5) وأما العقل السليم والمنطق القويم فإنهما يقتضيان أن تتأصل صفة الخير في الإنسان لملكاتٍ حميدة يتسم بها وصفات فضيلة يتميز بها، لا أن تتأصل صفة الخير في نفسه لمجرد أنه ولد في أسرة تتمتع بالرفاهية الاقتصادية ووجد في بيئة تتنعم بالثروات المادية! وعند مراجعتنا للتاريخ الصحيح نجد أن قادة البشر وصفوة الناس إنما كان أغلبهم ينتمي الى الطبقات الفقيرة من المجتمع، فهؤلاء الأنبياء ورسل الله (صلوات الله عليهم) منهم من كان نجاراً أو خياطاً أو راعياً، ومع ذلك فقد كانوا من أطيب الناس خلقاً، وأعظمهم شرفاً، وأرفعهم منزلةً، قد تأصّل الخير في نفوسهم تأصّلاً حتى غدوا قطعة منه، فكانوا هم الخير للبشر، وهم الرحمة للعالمين. وبالنزول إلى أرض الواقع نجد أن الكثير من الفقراء والمساكين طيبي الروح، كريمي النفس، يتألمون لألم المحتاج ولربما يؤثرونه على أنفسهم رغم حاجتهم. ولا نقصد من كلامنا هذا أن الأغنياء هم على نقيض ذلك، وإنما تأكيداً على مسألة عدم ارتباط تأصل الخير في النفوس وعدمه بمستواهم الاقتصادي الذي نشأوا فيه ارتباط العلة والمعلول، فكما إن بعض الفقراء أخيار، فإن بعض الأغنياء كذلك، والعكس صحيح أيضاً. ومن هنا يُفهم من بعض الروايات ضرورة عدم طلب الخير والحاجات ممن هم أهل للخير بقطع النظر عن مستواهم المعاشي الحالي والسابق، منها ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"أشد من الموت طلب الحاجة من غير أهلها"(5)، وعنه (عليه السلام) أيضاً: "فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غير أهلها"(6) إذن فلا صحة لهاتين المقولتين من حيث الدلالة، حتى وإن تنزلنا وحملنا الجوع والشبع على المعنى المعنوي لا المادي؛ وذلك لأنه حتى من يفتقر الى الأخلاق المعنوية فإنه ما إن يتكامل بالفضائل ويقلع عن الرذائل حتى يتسم بالخير وتحسن عشرته وتطيب للناس صحبته، والعكس صحيحٌ أيضا.. ومن البديهي أن ما لا يوافق العقل والمنطق السليم، ويخالف صريح القرآن الكريم، لا يمكن أن يصدر من وصي الرسول الكريم (صلوات الله عليهما وآلهما)، وعليه لا تصح نسبة هذين القولين الى أمير المؤمنين (عليه السلام).. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الحجرات 13 (2) الانسان 3 (3) عوالي الآلي ج2 ص29 (4) غرر الحكم ج1 227 (5) المدر السابق ج1 ص246 (6) ميزان الحكمة ج4 ص 238 رضا الله غايتي
اخرىبين طيبة القلب وحماقة السلوك...
خلق الله الأشياء كلها في الحياة ضمن موازين وقياسات... فالزيادة أو النقيصة تسبب المشاكل فيها. وهكذا حياتنا وأفعالنا وعواطفنا لا بد أن تكون ضمن موازين دقيقة، وليست خالية منها، فالزيادة والنقيصة تسبب لنا المشاكل. ومحور كلامنا عن الطيبة فما هي؟ الطيبة: هي من الصفات والأخلاق الحميدة، التي يمتاز صاحبها بنقاء الصدر والسريرة، وحُبّ الآخرين، والبعد عن إضمار الشر، أو الأحقاد والخبث، كما أنّ الطيبة تدفع الإنسان إلى أرقى معاني الإنسانية، وأكثرها شفافية؛ كالتسامح، والإخلاص، لكن رغم رُقي هذه الكلمة، إلا أنها إذا خرجت عن حدودها المعقولة ووصلت حد المبالغة فإنها ستعطي نتائج سلبية على صاحبها، كل شيء في الحياة يجب أن يكون موزوناً ومعتدلاً، بما في ذلك المحبة التي هي ناتجة عن طيبة الإنسان، وحسن خلقه، فيجب أن تتعامل مع الآخرين في حدود المعقول، وعندما تبغضهم كذلك وفق حدود المعقول، ولا يجوز المبالغة في كلا الأمرين، فهناك شعرة بين الطيبة وحماقة السلوك... هذه الشعرة هي (منطق العقل). الإنسان الذي يتحكم بعاطفته قليلاً، ويحكّم عقله فهذا ليس دليلاً على عدم طيبته... بالعكس... هذا طيب عاقل... عكس الطيب الأحمق... الذي لا يفكر بعاقبة أو نتيجة سلوكه ويندفع بشكل عاطفي أو يمنح ثقة لطرف معين غريب أو قريب... والمبررات التي يحاول إقناع نفسه بها عندما تقع المشاكل أنه صاحب قلب طيب. الطيبة لا تلغي دور العقل... إنما العكس هو الصحيح، فهي تحكيم العقل بالوقت المناسب واتخاذ القرار الحكيم الذي يدل على اتزان العقل، ومهما كان القرار ظاهراً يحمل القسوة أحياناً لكنه تترتب عليه فوائد مستقبلية حتمية... وأطيب ما يكون الإنسان عندما يدفع الضرر عن نفسه وعن الآخرين قبل أن ينفعهم. هل الطيبة تصلح في جميع الأوقات أم في أوقات محددة؟ الطيبة كأنها غطاء أثناء الشتاء يكون مرغوباً فيه، لكنه اثناء الصيف لا رغبة فيه أبداً.. لهذا يجب أن تكون الطيبة بحسب الظروف الموضوعية... فالطيبة حالة تعكس التأثر بالواقع لهذا يجب أن تكون الطيبة متغيرة حسب الظروف والأشخاص، قد يحدث أن تعمي الطيبة الزائدة صاحبها عن رؤيته لحقيقة مجرى الأمور، أو عدم رؤيته الحقيقة بأكملها، من باب حسن ظنه بالآخرين، واعتقاده أن جميع الناس مثله، لا يمتلكون إلا الصفاء والصدق والمحبة، ماي دفعهم بالمقابل إلى استغلاله، وخداعه في كثير من الأحيان، فمساعدة المحتاج الحقيقي تعتبر طيبة، لكن لو كان المدّعي للحاجة كاذباً فهو مستغل. لهذا علينا قبل أن نستخدم الطيبة أن نقدم عقولنا قبل عواطفنا، فالعاطفة تعتمد على الإحساس لكن العقل أقوى منها، لأنه ميزان يزن الأشياء رغم أن للقلب ألماً أشد من ألم العقل، فالقلب يكشف عن نفسه من خلال دقاته لكن العقل لا يكشف عن نفسه لأنه يحكم بصمت، فالطيبة يمكن أن تكون مقياساً لمعرفة الأقوى: العاطفة أو العقل، فالطيّب يكون قلبه ضعيفاً ترهقه الضربات في أي حدث، ويكون المرء حينها عاطفياً وليس طيباً، لكن صاحب العقل القوي يكون طيباً أكثر من كونه عاطفياً. هل الطيبة تؤذي صاحبها وتسبب عدم الاحترام لمشاعره؟ إن الطيبة المتوازنة المتفقة مع العقل لا تؤذي صاحبها لأن مفهوم طيبة القلب هو حب الخير للغير وعدم الإضرار بالغير، وعدم العمل ضد مصلحة الغير، ومسامحة من أخطأ بحقه بقدر معقول ومساعدة المحتاج ... وغيرها كثير. أما الثقة العمياء بالآخرين وعدم حساب نية المقابل وغيرها فهذه ليست طيبة، بل قد تكون -مع كامل الاحترام للجميع- غباءً أو حماقة وسلوكاً غير عقلاني ولا يمت للعقل بصلة. إن المشكلة تقع عند الإنسان الطيب عندما يرى أن الناس كلهم طيبون، ثم إذا واجهه موقف منهم أو لحق به أذى من ظلم أو استغلال لطيبته، تُغلق الدنيا في وجهه، فيبدأ وهو يرى الناس الطيبين قد رحلوا من مجتمعه، وأن الخير انعدم، وتحصل له أزمة نفسية أو يتعرض للأمراض، لأن الطيّب يقدم الإحسان للناس بكل ما يستطيع فعله، ويقدّم ذلك بحسن نية وبراءة منه، فهو بالتالي ينتظر منهم الرد بالشكر أو المعاملة باللطف على الأقل... صحيح أن المعروف لوجه الله، ولكن من باب: من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق، لذلك يتأذى عندما يصدر فعل من الشخص الذي كان يعامله بكل طيب وصدق. هل الطيبة والصدق من علامات ضعف الشخصية؟ الكثير من الناس يصف طيب القلب بأنه ضعيف الشخصية، لأنه يتصف بعدم الانتقام ممن ظلمه، والصفح عنه عند رجوعه عن الخطأ، وأنه لا يحب إيقاع الآخرين بالمشاكل؛ لأنه مقتنع أن الله سيأخذ له حقه. والحقيقة هي أن الصدق والطيبة وحسن الظن بالآخرين ليست ضعف شخصية، بل هي من الأخلاق الراقية وهي تزيد صاحبها سمواً وجمالاً روحياً، وليس من المعيب أن يمتلك الإنسان الطيبة بل العيب في من لا يُقدّر هذه الطيبة ويعطيها حقها في التعامل بالمثل. فالمشكلة الأساسية ليست في الطيبة، إنما في استغلال الآخرين لهذه الطيبة، نتيجة لعدم عقلنة قراراتنا والاعتماد على عواطفنا بشكل كلي. فالصدق والطيبة حسب المنطق والعقل، ولها فوائد جمة للنفس ولعموم أفراد المجتمع، فهي تحصين للشخص عن المعاصي، وزيادة لصلة الإنسان بربه، وتهذيب للنفس والشعور بالراحة النفسية، فالصادق الطيب ينشر المحبة بين الناس، وهذا يعزّز التماسك الاجتماعي وتقويته من سوء الظنون والحقد، وهذا التعامل أكّدت عليه جميع الشرائع السماوية، ولو تأمّلنا تاريخ وأخلاق الأنبياء والأوصياء لوجدنا كل ما هو راقٍ من الأخلاق والتعامل بالطيبة والصدق... حنان الزيرجاوي
اخرىالطلاق ليس نهاية المطاف
رحلةٌ مثقلة بالألم في طريق يئن من وطأة الظلم! ينهي حياة زوجية فشلت في الوصول إلى شاطئ الأمان. ويبدد طموحات أطفال في العيش في هدوء نفسي واجتماعي تحت رعاية أبوين تجمعهم المودة والرحمة والحب. الطلاق شرعاً: هو حل رابطة الزواج لاستحالة المعاشرة بالمعروف بين الطرفين. قال تعالى: [ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)].(١). الطلاق لغوياً: من فعل طَلَق ويُقال طُلقت الزوجة "أي خرجت من عصمة الزوج وتـحررت"، يحدث الطلاق بسبب سوء تفاهم أو مشاكل متراكمة أو غياب الانسجام والحب. المرأة المطلقة ليست إنسانة فيها نقص أو خلل أخلاقي أو نفسي، بالتأكيد إنها خاضت حروباً وصرعات نفسية لا يعلم بها أحد، من أجل الحفاظ على حياتها الزوجية، ولكن لأنها طبقت شريعة الله وقررت مصير حياتها ورأت أن أساس الـحياة الزوجيـة القائم على المودة والرحـمة لا وجود له بينهما. فأصبحت موضع اتهام ومذنبة بنظر المجتمع، لذلك أصبح المـجتمع يُحكم أهواءه بدلاً من الإسلام. ترى، كم من امرأة في مجتمعنا تعاني جرّاء الحكم المطلق ذاته على أخلاقها ودينها، لا لسبب إنما لأنها قررت أن تعيش، وكم من فتاة أُجبرت قسراً على أن تتزوج من رجل لا يناسب تطلعاتها، لأن الكثير منهن يشعرن بالنقص وعدم الثقة بسبب نظرة المجتمع، وتقع المرأة المطلّقة أسيرة هذه الحالة بسبب رؤية المجتمع السلبيّة لها. وقد تلاحق بسيل من الاتهامات وتطارد بجملة من الافتراءات. وتعاني المطلقة غالباً من معاملة من حولها، وأقرب الناس لها، بالرغم من أن الطلاق هو الدواء المر الذي قد تلجأ إليه المرأة أحياناً للخلاص من الظلم الذي أصبح يؤرق حياتها الزوجية، ويهدد مستقبلها النفسي، والله تعالى لم يشرع أمراً لخلقه إلا إذا كان فيه خير عظيم لهم، والطلاق ما شرّع إلا ليكون دواء فيه شفاء وإن كان مرّاً، وإن كان أمره صعباً على النفوس، حيث قال عز وجل: "وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا"، روي عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) ((أبغض الحلال إلى الله الطلاق) (٢). ورغم أن الشريعة الإسلامية أباحت الطلاق بشروط تلاءم لبناء المجتمع، وأولت أهمية في الإحسان دائمًا للطرف الأضعف والأكثر خسارة في هذه المعادلة وهي "المرأة"، إلا أن المجتمع الذي يدّعي الإسلام لا يرحمها، ويحكم عليها بالإدانة طوال حياتها دون النظر في صحة موقفها في الطلاق من عدمه! قال( تعالى ): [الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] (٣). ولكن بعد كل هذا فالحياة لم ولن تتوقف بعد الطلاق! الطلاق ليس نهاية الحياة. - أخيتي. ليكن الطلاق بداية جديدة لحياة جديدة وللانطلاق. -قطار العطاء لن يتعطل. فإن كنت السبب في الطلاق فالحمد لله على كل حال وتلك أمة قد خلت وأيام ذهبت وانجلت فلست بالمعصومة من الخطأ. وعليك استدراك الأخطاء وتقوية مواطن الضعف في شخصيتك، واجعليها درساً مفيداً في الحياة لتطوير نفسك وتقويتها. وإذا كنتِ مظلومة فهناك جبار يُحصي الصغير والكبير وسيأتي يوم ينتصر لك فيه. -ومن الجميل أن تعطي نفسك الإحساس بالحب والاحترام، ولا تتأثري بأي نظرة سلبية من المجتمع وكون البعض يتعامل مع المطلقة على أنها حالة خاصة فعليكِ إثبات ذاتك حتى تفرضي على الكل شخصيتك. - نظرتك لنفسك اجعليها نظرة ايجابية مشرقة ولا تنزلقي في مستنقع نبذ الذات وظلم النفس. - ابحثي عن الصفات الجيدة فيك فإن ذلك سيشعرك بالثقة في ذاتك والتقدير لها. -حاولي مراجعة نفسك للخروج بإيجابيات حصلت لك من طلاقك. - خالطي الآخرين وإياك والعزلة بسبب وضعك الجديد فلست بأول من يبتلى بالطلاق. -استمتعي بالموجود ولا تتعلقي بالمفقود، حلقي بروح تعبق أملاً وتفاؤلاً، استمتعي بما وهبك الله من نعم (صحة وأولاد وأهل وصديقات وعمل وهوايات وغيرها من الأمور الجميلة) فما حصل لك حصل… ولابد أن تتقبليه برضا، وأعلمي أن ما أصابك لم يكن ليخطأك وما أخطأك لم يكن ليصيبك. وقال أصدق من قال: ( وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم). فالرضا سر السعادة الحقيقي. - اقتربي من صديقاتك الصالحات، واقضي معهن وقتاً طيباً تنسين به ألمك وحزنك. - احرصي على الصلوات وقراءة القرآن الكريم والذكر والاستغفار وأكثري من الطاعات قدر ما تستطيعين، ففيها السلوى والفرح والسعادة. ونعم سعادة القرب من الرحمن. - اشغلي نفسك بأعمال البر والإحسان بمساعدة محتاج. بكفالة يتيم. بتعلم الفقه والقرآن وتعليمه. - اجتهدي في عمل برنامج يومي لك يكون ممتلأ بكل ما هو مفيد لك. من قراءة وزيارة الأصدقاء وصلة الرحم. بحيث لا تكون هناك دقيقة أنت فارغة فيها. - وأسرعي بقاربك الجميل بمجذافين من إيمان بالله وثقة بالنفس وسوف تصلين بإذن الله نحو جزيرة السعادة والنجاح. لكي تتسلق جبال الإنجاز، وتصل لأعلى مراتب الاعجاز. وعندها جزماً سيكون للحياة معنى آخر. --------------------------------- (١)-سورة البقرة الآية (٢٢٦-٢٢٧). (٢)-الكافي (٢)-سورة البقرة الآية (٢٢٨) حنان ستار الزيرجاوي
اخرىلا تقاس العقول بالأعمار!
(لا تقاس العقول بالأعمار، فكم من صغير عقله بارع، وكم من كبير عقله فارغ) قولٌ تناولته وسائل التواصل الاجتماعي بكل تقّبلٍ ورضا، ولعل ما زاد في تقبلها إياه هو نسبته الى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولكننا عند الرجوع إلى الكتب الحديثية لا نجد لهذا الحديث أثراً إطلاقاً، ولا غرابة في ذلك إذ إن أمير البلاغة والبيان (سلام الله وصلواته عليه) معروفٌ ببلاغته التي أخرست البلغاء، ومشهورٌ بفصاحته التي إعترف بها حتى الأعداء، ومعلومٌ كلامه إذ إنه فوق كلام المخلوقين قاطبةً خلا الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ودون كلام رب السماء. وأما من حيث دلالة هذه المقولة ومدى صحتها فلابد من تقديم مقدمات؛ وذلك لأن معنى العقل في المفهوم الإسلامي يختلف عما هو عليه في الثقافات الأخرى من جهةٍ، كما ينبغي التطرق الى النصوص الدينية الواردة في هذا المجال وعرضها ولو على نحو الإيجاز للتعرف إلى مدى موافقة هذه المقولة لها من عدمها من جهةٍ أخرى. معنى العقل: العقل لغة: المنع والحبس، وهو (مصدر عقلت البعير بالعقال أعقله عقلا، والعِقال: حبل يُثنَى به يد البعير إلى ركبتيه فيشد به)(1)، (وسُمِّي العَقْلُ عَقْلاً لأَنه يَعْقِل صاحبَه عن التَّوَرُّط في المَهالِك أَي يَحْبِسه)(2)؛ لذا روي عنه (صلى الله عليه وآله): "العقل عقال من الجهل"(3). وأما اصطلاحاً: فهو حسب التصور الأرضي: عبارة عن مهارات الذهن في سلامة جهازه (الوظيفي) فحسب، في حين أن التصوّر الإسلامي يتجاوز هذا المعنى الضيّق مُضيفاً إلى تلك المهارات مهارة أخرى وهي المهارة العبادية. وعليه فإن العقل يتقوّم في التصور الاسلامي من تظافر مهارتين معاً لا غنى لأحداهما عن الأخرى وهما (المهارة العقلية) و(المهارة العبادية). ولذا روي عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنه عندما سئل عن العقل قال :" العمل بطاعة الله وأن العمّال بطاعة الله هم العقلاء"(4)، كما روي عن الإمام الصادق(عليه السلام)أنه عندما سئل السؤال ذاته أجاب: "ما عُبد به الرحمن، واكتسب به الجنان. فسأله الراوي: فالذي كان في معاوية [أي ماهو؟] فقال(عليه السلام): تلك النكراء، تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل"(5) والعقل عقلان: عقل الطبع وعقل التجربة، فأما الأول أو ما يسمى بـ(الوجدان الأخلاقي) فهو مبدأ الادراك، وهو إن نَما وتطور سنح للإنسان فرصة الاستفادة من سائر المعارف التي يختزنها عن طريق الدراسة والتجربة وبالتالي يحقق الحياة الإنسانية الطيبة التي يصبو اليها، وأما إن وهن واندثر لإتباع صاحبه الأهواء النفسية والوساوس الشيطانية، فعندئذٍ لا ينتفع الانسان بعقل التجربة مهما زادت معلوماته وتضخمت بياناته، وبالتالي يُحرم من توفيق الوصول إلى الحياة المنشودة. وعقل التجربة هو ما يمكن للإنسان اكتساب العلوم والمعارف من خلاله، وما أروع تشبيه أمير البلغاء (عليه السلام) العلاقة التي تربط العقلين معاً إذ قال فيما نسب إليه: رأيت العقل عقلين فمطبوع ومسموع ولا ينفع مسموع إذ لم يك مطبــوع كما لا تنفع الشمس وضوء العين ممنوع(6) فقد شبّه (سلام الله عليه) عقل الطبع بالعين وعقل التجربة بالشمس، ومما لاشك فيه لكي تتحقق الرؤية لابد من أمرين: سلامة العين ووجود نور الشمس، وكما إن الثاني لا ينفع إن لم يتوفر الأول فكذلك عقل التجربة لا ينفع عند غياب عقل الطبع فضلاً عن موته. وبما إن عقل الطبع قد ينمو ويزدهر فينفع صاحبه من عقل التجربة، وقد يموت ويندثر عند الاستسلام لإضلال شبهةٍ أوبسبب إرتكاب معصية، فإنه ومن باب أولى أن يتعرض الى الزيادة والنقصان كما سيأتي... وقد ورد في النصوص الدينية أن للعقل زمناً ينمو فيه ويكتمل، فعن إمامنا أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه):"يثغر الصبي لسبع، ويؤمر بالصلاة لتسع، ويفرق بينهم في المضاجع لعشر، ويحتلم لأربع عشرة، وينتهى طوله لإحدى وعشرين سنة، وينتهي عقله لثمان وعشرين إلا التجارب"(7)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يربى الصبي سبعاً ويؤدب سبعاً، ويستخدم سبعاً، ومنتهى طوله في ثلاث وعشرين سنة، وعقله في خمس وثلاثين [سنة] وما كان بعد ذلك فبالتجارب"(8). إذن يتوقف النمو الطبيعي لعقل الانسان عند سن الثامنة والعشرين أو الخامسة والثلاثين كما ورد في الروايتين، وأية زيادة أخرى في طاقته بعد ذلك إنما تأتي عن طريق التجارب، وقد يُتوهم بأن ثمة تعارضاً ما بين الروايتين المتقدمتين في شأن تحديد سن النمو العقلي، إلا إنه لا تعارض ينهما إذا حملنا اختلافهما فيه على اختلاف الاشخاص وتباين استعدادات وقابليات كل منهم. وعلى الرغم من توقف نمو عقل الإنسان إلا إن له أنْ يزيده بالتجارب ومواصلة التعلم ــ كما تقدم في الروايات ــ وسواء أثبت العلم هذه الحقيقة الروائية أم لا، فنحن نريد الإشارة إلى ضرورة استمرار التجربة والتعلم لزيادة نمو العقل وهذا المقدار لا خلاف فيه وعلى الرغم من إن لعمر الانسان مدخلية في زيادة عقله كما تقدم وكما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يزيد عقل الرجل بعد الاربعين إلى خمسين وستين، ثم ينقص عقله بعد ذلك"(9)، إلا إن ذلك ليس على نحو العلة التامة، إذ يمكن للعقل أن يبقى شاباً وقوياً وإن شاب الإنسان وضعف جسمه، وتقدم في السن ووهن عظمه، فالعاقل لا يشيب عقله ولا تنتقص الشيخوخة من قوته بل وقد يزداد طاقةً وحيويةً لذا ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"رأي الشيخ أحب الي من جَلَد الغلام"(10)، وفي أخرى ".....من حيلة الشباب "(11) وأما من لم يوفر أسباب صقل عقله في مرحلة الشباب فإنه بلا شك يضمحل عقله في مرحلة الشيخوخة. وليس تقدم العمر هو العامل الوحيد في نقصان العقل بل إن النصوص الشرعية أشارت الى عوامل عديدة اخرى أهمها: أولاً: التعلم: فقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "من لم يصبر على ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبداً"(13). ثانياً: التوبة: وعنه (عليه السلام) ايضاً:"من لم يرتدع يجهل"(14) ثالثاً: التقوى: فقد كتب إمامنا الباقر (عليه السلام) إلى سعد الخير: "بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإني اوصيك بتقوى الله فإن فيها السلامة من التلف والغنيمة في المنقلب إن الله (عزوجل) يقي بالتقوى عن العبد ما عزب عنه عقله ويجلي بالتقوى عنه عماه وجهله"(15) إذن التوبة هي سبب للتوفيق الإلهي الذي يؤدي فيما يؤدي إليه من إكمال العقل. رابعاً: الوقوف عند الشبهة: وقال (عليه السلام ): "لا ورع كالوقوف عند الشبهة"(16). فإن الوقوف عند الشبهات سبب من أسباب التوفيق الإلهي بلا شك. خامساً: الاعتراف بالجهل: كما روي عن الإمام علي (عليه السلام): "غاية العقل الاعتراف بالجهل"(17) إذ الاعتراف بالجهل يدفع الإنسان دوماً إلى مزيد من بذل الجهد واكتساب المعارف. مما تقدم تتضح جلياً صحة هذه المقولة دلالةً، إذ إن العقول فعلاً لا تقاس بالأعمار لأن كلٍاً من زيادتها ونقيصتها منوطٌ بالعديد من العوامل الأخرى والتي تقدم ذكرها، بيد إن ذلك لا يبرر التساهل في نشرها والتهاون في الاستشهاد بها على إنها من أقوال أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) لعدم ثبوت ذلك سنداً من جهة ولضعف بلاغتها وركاكة تركيبها بالنسبة إلى سيد البلغاء والبلاغة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) تهذيب اللغة ج1 ص65 (2) لسان العرب ج11 ص458 (3) نهاية الحكمة ص305 (4) ميزان الحكمة ج3 ص333 (5) أصول الكافي ج1، ح3 / 11 (6) نهج السعادة ج9 ص163 (7) الكافي ج7 ص94 (8) الفقيه ج3 ص493 (9) الاختصاص ص245 (10) نهج البلاغة حكمة 86 (11) بحار الأنوار ج72 ص105 (12) المصدر السابق ج1 ص94 (13) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص118 (14) الكافي ج8 ص73 (15) وسائل الشيعة ج1 ص162 (16) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص1 بقلم الكاتبة: رضا الله غايتي
اخرىالمرأة في فكر الإمام علي (عليه السلام)
بقلم: أم نور الهدى كان لأمير المؤمنين (عليه السلام) اهتمام خاص بالمرأة، فنراه تارة ينظر إليها كآية من آيات الخلق الإلهي، وتجلٍ من تجليات الخالق (عز وجل) فيقول: (عقول النساء في جمالهن وجمال الرجال في عقولهم). وتارة ينظر إلى كل ما موجود هو آية ومظهر من مظاهر النساء فيقول: (لا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها فإن المرأة ريحانة وليس قهرمانة). أي إن المرأة ريحانة وزهرة تعطر المجتمع بعطر الرياحين والزهور. ولقد وردت كلمة الريحان في قوله تعالى: (فأمّا إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة النعيم) والريحان هنا كل نبات طيب الريح مفردته ريحانة، فروح وريحان تعني الرحمة. فالإمام هنا وصف المرأة بأروع الأوصاف حين جعلها ريحانة بكل ما تشتمل عليه كلمة الريحان من الصفات فهي جميلة وعطرة وطيبة، أما القهرمان فهو الذي يُكلّف بأمور الخدمة والاشتغال، وبما إن الإسلام لم يكلف المرأة بأمور الخدمة والاشتغال في البيت، فما يريده الإمام هو إعفاء النساء من المشقة وعدم الزامهن بتحمل المسؤوليات فوق قدرتهن لأن ما عليهن من واجبات تكوين الأسرة وتربية الجيل يستغرق جهدهن ووقتهن، لذا ليس من حق الرجل إجبار زوجته للقيام بأعمال خارجة عن نطاق واجباتها. فالفرق الجوهري بين اعتبار المرأة ريحانة وبين اعتبارها قهرمانة هو أن الريحانة تكون، محفوظة، مصانة، تعامل برقة وتخاطب برقة، لها منزلتها وحضورها. فلا يمكن للزوج التفريط بها. أما القهرمانة فهي المرأة التي تقوم بالخدمة في المنزل وتدير شؤونه دون أن يكون لها من الزوج تلك المكانة العاطفية والاحترام والرعاية لها. علماً أن خدمتها في بيت الزوجية مما ندب إليه الشره الحنيف واعتبره جهادًا لها أثابها عليه الشيء الكثير جدًا مما ذكرته النصوص الشريفة. فمعاملة الزوج لزوجته يجب أن تكون نابعة من اعتبارها ريحانة وليس من اعتبارها خادمة تقوم بأعمال المنزل لأن المرأة خلقت للرقة والحنان. وعلى الرغم من أن المرأة مظهر من مظاهر الجمال الإلهي فإنها تستطيع كالرجل أن تنال جميع الكمالات الأخرى، وهذا لا يعني أنها لا بد أن تخوض جميع ميادين الحياة كالحرب، والأعمال الشاقة، بل أن الله تعالى جعلها مكملة للرجل، أي الرجل والمرأة أحدهما مكمل للآخر. وأخيرًا إن كلام الإمام علي (عليه السلام) كان تكريمًا للمرأة ووضعها المكانة التي وضعها الله تعالى بها، حيث لم يحملها مشقة الخدمة والعمل في المنزل واعتبر أجر ما تقوم به من اعمال في رعاية بيتها كأجر الجهاد في سبيل الله.
اخرىأساليب في التربية
عالم الطفولة كأنه طاولة، لا تجد فيه غير طعام لذيذ، ومنظر لطيف وجديد، فعالمهم فاكهة الوجود، وخضار الأرواح، ومياه الحياة تسقي القلوب... عالم صفاء وأحلام جميلة بسيطة وتافهة ولكن بنظرهِ هو عظيمة وكبيرة، فهو العالم الذي ينطلق منه الإنسان في بداية عمره. فالطفل في بداية حياته ينظر إلى الحياة بتفكيره البريء، فالطفل يعيش بعالم خاص به مملوء بالمحبة البريئة. هذه هي الصورة الجميلة التي يحملها الطفل، وكم يتمنى كل إنسان أن يعود لطفولته البريئة ليتأمل في أرجاء عالمها الذي كان يصور له حياة مختلفة تشد الإنسان إليها بجمالها، هذا هو عالم الطفولة وهذه أحلام من يعيشها، فلا ينفذ إلى ملكوت ذلك العالم ولا يدرك كنهه إلا من عاشه وجال في ربوعه. حيث يتذوق الطفل مع أحلام طفولته هذه لذة الحياة ولذة العيش فيها، ومهما حاولنا أن نعبر عن هذه الحقيقة فلن نستطيع تصويرها بالكلمات. وبعد هذا، فإن الاهتمام بمستقبل الطفل هو في الواقع ضمان لمستقبل شعب بأسره. قال اللَّه تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا". التحريم/6 أعتنى الإسلام بتربية الأبناء عناية فائقة، وألقى على عاتق الأهل ما سيكون عليه الولد في مسلكه الدنيوي ومصيره الأخروي إن هم قصروا في تربيته وإعداده. وقد ذكر العلماء أن شخصية الولد تتأثر في نموها بعوامل ثلاثة وهي: الوراثة، والبيئة، والتربية. إذا خضنا في مضمار التربية السليمة للأبناء... فعلى الأبوين أن يكون لهما الوعي التربوي الذي يبنى على أسس صحيحة ويتوفر لديهم فهم لأساليب التربية والتوجيه والرعاية وهذه نقطة البداية. فمثلاً في أسلوب التعامل مع الطفل تبرز أمامنا ثلاثة اشكال لتعامل الآباء مع الأبناء: الشكل الأول: أسلوب الدلال المفرط وهذا الأسلوب له نتائجه السلبية الخطيرة، فإنه يخلق شخصية هشة متميعة وشخصية اتكالية تحب الكسل والخمول مجردة من الهدف والإقدام، انهزامية غير قادرة على مواجهة التحديات وبمعنى أدق شخصية لا تثق بنفسها. شخصية متسيبة في ظل غياب المراقبة والمحاسبة وهذا التسيب يقود إلى الانفلات والانحراف. الشكل الثاني: فهو أسلوب التربية القاسية والعنف. وهذا الأسلوب أيضاً له نتائجه الخطيرة والسلبية التي يعاني منها الأبناء طوال حياتهم فهو يخلق شخصية قلقة ومتأزمة ومعقدة وخائفة وتحمل عقدة الخوف، شخصية حاقدة وعدوانية وقد تتأزم الأمور لتصبح شخصية منافقة وكاذبة خوفاً من العقاب والتعنيف ضمن حدود الأسرة ولكن يوماً من الأيام سينطلق هذا الشخص ليواجه المجتمع ككل، فلنتصور كيف سيتعامل مع المحيطين ضمن مجالات الدراسة والعمل وهو شخصية هاربة من أجواء الأسرة وقد يعرضها للتسيب والانحراف لأنها شخصية متمردة مما يعرضها للعقوق. الأسلوب الثالث: التوازن. الأسلوب الصحيح يعتمد على التوازن فمن شروط نجاح التربية التوازن في المعاملة ما بين الأمور التي تحتاج إلى شدة وحزم ليتربى على أن هذه الأمور خطوط حمراء طبعاً هنا يمكن أن يعترض أحد ويقول: لا للعنف الأسري ولا لاستخدام القسوة. نعم فهناك طرق غير استخدام العنف. يكفي ان يبدي الآباء انزعاجهم مثلاً. وهنا النقطة مهمة جداً، وهي: أن نوضح لهم سبب المنع والرفض لا تعتقدوا أن أبناءكم لا يدركون ولن يفهموكم. تخصيص الوقت للنقاش مهم جداً. وما بين أسلوب المرونة والحنان والاحتواء. التوازن في المعاملة. إن الإمام زين العابدين (عليه السلام) يصرح بمسؤولية الأبوين بتربية الطفل، ويعتبر التنشئة الروحية والتنمية الخلقية لمواهب الأطفال واجباً دينياً يستوجب أجراً وثواباً من الله تعالى، وأن التقصير في ذلك يُعرّض الآباء إلى عقاب الله. فيقول (عليه السلام): (وأما حق ولدك عليك فأن تعلم أنه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره. وأنك مسؤول عما وليته به من حسن الأدب والدلالة على ربه عز وجل والمعونة له على طاعته. فأعمل في أمره عمل من يعلم أنه مثاب على الإحسان إليه معاقب على الإساءة إليه ) مكارم الأخلاق للطبرسي ص٢٣٢ حنان الزيرجاوي
اخرى