بقلم: سماهر الخزرجي/ رجاء الأنصاري توارى الصبر خلف آلامها واحتجب النهار خلف خلجات نفسها، فالانتظار ليل أدهم لا قمر فيه ولا نهاية لأمده، انتصفت أيام عمرها وهي ما زالت تعتاد جلستها تلك نسيمات الهواء الرخيمة تمر بها كوخز الإبر، فلا شيء يحلو لها دون رؤية وجهه المشرق. تتضارب دقات قلبها وتتماوج بين أضلعها، يمر به سيل من الأحداث ولا رجحان لأحد الاحتمالات فيها... هكذا يعبث بها الشوق والألم، فتمخض عباب الانتظار عن سراب بدى كأشباح الوجوه التي فارقتها، فأسدلت أستار عيونها المتعبة تحت أجفان أجهدتها ليالي اللوعة والأنين... عمة، خذي بيدي، فليلي يتوارى خجلًا من حزني، ونهاري يئنّ بصمت كأنين المحتضرين، تغتالني دموعي بين غصة وأُخرى... عمة، جئتك أشكو مهدًا غادرته الروح... تتدفق من بين خيوطها دماءً كوثرية، اسبح في فضاءات روحي أبحث عن صدى أصواتكم لعلي ألقاكم. - بنية، كنّا نسير ومراكب الموت تسير خلفنا، هناك احتدم الموت، هناك امتزج نجيع دم طفل بنجيع دم الشاب وذي الشيبة. هناك تركتُ على الرمضاء اصبعًا مبتورًا... وقربة تئنّ شوقًا ليد العطاء، وكفّين بجنب الفرات تسقي الوالهين إيثارًا وفداءً. تعلقت برداء مخيلتها عباءة من سراب الخيال، فمسحت دموعها، توقفت قليلًا وكأن الزمن كله ينصت لدقات قلبها -عباءة ممزوجة بدخان الخيام وأنفاس ملتهبة- -عمة ما بال عباءتك التي كانت يضوع منها المسك، لِمَ تغير لونها؟ غبار... تراب... دخان... وآثار حبال… - بنية سُحب الأقدار أمطرت علينا سهام الغدر فأصابت منا مقتلًا، والحطب الذي قد أوقد في دار الزهراء نارًا حث خطاه إلينا... فحرق خيامنا وأحرق قلوبنا وهذه بقايا عباءة سترتُ بها وجه عرش الله... والأرض تيممت بغبار العباءة، وانظري هذه آثار الجامعة في عنق السجاد (عليه السلام) واتركي آثار الحبال... رمت بنفسها في حجر السراب، أخفت وجهها بين كفيها وأشارت وعبراتها وخزات في قلب الزمن. - عمة من هنا تراءى لي طيف الأكبر، هرعت إليه، ونبض قلبي يسابق خطواتي حتى قدت يداي سراب صورته، فرجعت خاوية، هنا يا عمة أفل قمرهُ، هنا يا عمة تساقطت قطيرات ماء معتذرة عن لسان صيّره الجفاف خشبة… تكابد الشوق بالكاد فسقف قلبها مكشوف... يروي لها لواعج الهموم وآهات الألم... - بنية هناك في أقدس بقعة غرست أرواحهم في أرض الميدان، فدمهم بدد أحلام السفهاء وقطع آمال الطلقاء، تركتهم كالغلة في جوف الأرض ورحلت عنهم مرغمة... نهضتْ وقد تعفر وجهها بالتراب تستجمع ما تبقى من قواها لاحت لها تلك البقعة التي اصبحت منبرًا للعشاق في كل زمان، تسمرت عيناها في مكان صلاته... - هنا يا عمة لي مع كل آذان حكاية وطيف يركع ويسجد على سجادته فطرس، هذه المرة كان مكسور الظهر والجناح، حام حول سجادته بانكسار، عاد مفجوعًا ينعى الملائكة غريب الغاضريات وصهيل خيل آت من عمق نينوى... الظليمة الظليمة... - انهضي بنية ودعي الانكسار، فابنة من أرّقَ الأعداء لا يليق بها الافتجاع، قومي وألقي عنك ثوب الجزع وانظري بعينيك للمستقبل وسترين وعد الله فإن هناك أقواماً سيثلجون قلوب الشهداء، وَيَنْصِبُونَ لِهَذَا الطَّفِ عَلَمًا لِقَبْرِ أَبِيكَ سَيِّدِ الشُّهَدَاءِ لَا يَدْرُسُ أَثَرُهُ وَلَا يَعْفُو رَسْمُهُ عَلَى كُرُورِ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ وَ لَيَجْتَهِدَنَّ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ وَأَشْيَاعُ الضَّلَالَةِ فِي مَحْوِهِ وَ تَطْمِيسِهِ فَلَا يَزْدَادُ أَثَرُهُ إِلَّا ظُهُورًا وَأَمْرُهُ إِلَّا علوًا…
اخرى