المؤثرات القبلية في قراءة النص الديني أثقل كفةً في ميزان التأثير على نتيجة الفهم البشري، إن عملية الفهم تمر بمقدمات إن لم تضبط وتنظم بما لا يرمينا بعيدًا عن المراد الجدي للنص، فستوجَّه عقولنا أوتوماتيكيًّا لما تفرضه علينا المواقف، والاتجاهات، والمذاهب، والمباني القبلية، إلى ولادة مسخ لا ينتمي نوعًا للمعاني الحقيقية للنص، فلابد إذًا أن نستقرئ أنواع القراءات لانتخاب القراءة المناسبة لتطبيق العدالة العلميَّة تجاه هذه النصوص المقدسة. إذن فموضوع مقالنا هو المؤثرات القبلية لقراءة النص الديني، لا النص الديني نفسه، ولا موانع فهم النص الديني، والنصوص الدينية أعم من كونها قرآنًا أو سنةً، بل أعم من كونها قرآنًا أو توراةً أو إنجيلًا، إذ نعني به كل ما صدق عليه ولو فرضًا أنه نص ديني، فما هي هذه المؤثرات بحسب الاستقراء؟ بعد أن استقرأنا المؤثرات لاحظنا أن بعض المؤثرات أعم من الأخرى، وبعضها مباينة للآخرى، وكذلك توجد ما لا يمتنع اقترانها مع غيرها في قراءة واحدة، ونذكرها بالترتيب مع محاولة شرح وبيان تأثيرها على القراءة المعنية، وسنسمي كل واحدة بالقراءة الكذائية نسبة إلى التأثير الذي يتحكم بها، والقراءات هي: 1- القراءة الإسقاطية (قصد الهدم): وهي الدخول لقراءة النص الديني بتأثير هدف وغاية إسقاط المحتوى والأساس الديني، ومن المعلوم أن هكذا قراءة لن تكون إنصافيةً أبدًا، ومن الطبيعي أنها ليست باحثةً عن الحقيقة بل لهدف إسقاط الطرف المقابل، فليست قراءة علميَّة مطلوبة، البعض ينظر للحركات الاستشراقية بهذه النظرة، أي أنها تدخل لقراءة المحتوى الديني في الشرق قراءة إسقاطية لا لتقرير الوضع الديني فيه، أو إنصافه، أو تقويمه، وعلى فرض صدق هذه النظرة فهي مصداق من مصاديق هذه القراءة السلبية. 2- القراءة السطحية: وهي قراءة النص الديني بلا تدبر، أي استطعام القشر دون اللب، وقد تكون لحجاب معنوي ما يمنعه منه، أو لا، هو غير متعلم، أو غير مطلع على كيفية الفهم، أو لم يدرس مقدمات فهم النص الديني، أو الوسائل التي تعين على ذلك، فيمر على النص ويلتقط أسرع الاحتمالات الظاهرة من سياقات النص التقاطاً لا ضامنًا بصحته، فيولد عندئذ من التزاوج بين أجنبية الصنعة وفقدان مكنة التدبر معنىً مشوه باسم المقصد الديني. 3- القراءة القفليَّة: -اعلم أن هذه المصطلحات ليست دارجة في الفنون، ولكن استدعت الحاجة أن نصف المطالب خلف كواليسها بها، فالمهم هو فهم المطلوب لا حفظ الألفاظ، فإن تم الفهم فسمّها ما تشاء- وهي قراءة النص بلا تدبر بسبب الأقفال التي فرضها القارئ على نفسه، وقيد نفسه بها ويسمونها الحجب الظلمانية، ومنها: أ- حجاب غياب قصدية التعلّم: وينشأ من ضآلة الاستفادة من النص الديني –خصوصًا القرآن- مما يعود إلى غياب هذا القصد، فنحن لا نتعامل معه بقصد التعليم والتعلّم، بل غالبا ما تقتصر علاقتنا مع القرآن –بل النص الديني عمومًا- على القراءة وحسب، نقرأ القرآن لغرض نيل الثواب والأجر، لهذا لا نهتمّ إلّا بجهاته التجويديّة، فقصدنا أن نتلو القرآن صحيحًا لينالنا الثواب، نحن نقنع بهذا القدر وتجمد علاقتنا مع القرآن عند هذه التخوم من دون أن نتخطّاها(1). ب- ومن الحجب الكبيرة حجاب الذاتية والغرور وتضخّم الذات، أو حجاب رؤية النفس (2 )، حيث يرى الإنسان المتعلّم نفسه بواسطة هذا الحجاب مستغنياً لا يحتاج إلى الاستفادة (3). ج- حجاب المعاصي: من الحجب الأخرى المانعة عن فهم القرآن الشريف والاستفادة من معارف هذا الكتاب الإلهي ومواعظه، حجاب المعاصي والكدورات الناشئة عن الطغيان والكبر بإزاء ساحة قدس ربّ العالمين، ممّا يؤدّي إلى حجب القلب عن إدراك الحقائق (4). د- ومن الحجب حجاب الآراء الفاسدة والمذاهب الباطلة، وأغلب هذا يوجد من التبعية والتقليد، مثلاً إذا رسخ في قلوبنا اعتقاد بمجرّد الاستماع من الأب أو الأم أو من الجهلة، نبني على هذا الاعتقاد، ولا نبدّله ولو أتانا واضح البرهان (5). لو دققنا في هذه الأمثلة المنتخبة من الحجب للاحظنا أن ضابطة الحاجبية هو كون الشيء ظلمانيًا من جهة، ومانعًا من جهة أخرى، وفي الأول يُسأل هل يمكن أن يكون الحجاب النوراني قفلًا كذلك؟ إنه لبحث جميل وواسع ليتنا نتمكن ونتفرغ للقيام به، وفي الثاني نستفيد السعة وشموله لجميع المؤثرات والقيود المؤثرة في فهم وإدراك المراد الجدي من النص الديني، وبالتالي قراءته قراءة غير سليمة. نعم هذه الحجب والأقفال ذكرت في البحث القرآني وإنما عممناها لسعة الضابطة، وإمكانية تطبيقها على سائر النصوص الدينية، فالتمسك برأي فاسد مثلًا يحدد الواردات المعرفية من النص بحدود الخلفيات التي يتبناها هذا الرأي، والمعاصي كذلك، وغياب قصد التعلم، فلا خصوصية لنص ديني ما دون غيره من القسماء. 4- القراءة المؤدلجة: وقد تدخل هذه القراءة تحت عنوان القراءة القفلية إلا أننا نظن قبل التحقيق باشتراط كون الحجاب ظلمانيًّا، ولكن هذه القراءة قد يكون الحجاب فيها نورانيًا كتأدلج الفرد ذي العقيدة الحقانية في سلوكه وتصرفاته وقراءاته، ولذلك نضع احتمالاً معتدًا به بمدخلية الحجاب النوراني في بحث القفليَّة. وتأدلج الشخص لا يعني بالضرورة ذمه، فلا معنى لتجرد الشخص من مطلق المعارف السابقة حتى يستقبل غيرها، نعم المطلوب أن لا تسيطر تلك الإيدلوجية على قيادة البحث العلمي، يقول بدر العامر(6). في مقالٍ له: «إن المشهد الثقافي عندنا يشهد نزوعاً إلى القراءة "المعيارية" و"المؤدلجة" للأفكار أكثر من القراءة "السننية" و"المعرفية" فيها، وهذا يجعل المخرجات محسومة، والأفكار ضعيفة، والقراءات ناقصة وهزيلة، لأن الرجل المعرفي هو الذي يحترم العلم ويقبل بنتائجه، بينما "المؤدلج" قد حزم أمره في كثير من المسائل وعطل دماغه عن العمل في فحص الأفكار والمسائل، فأحكامه قاطعة في كل قضية يحملها، ومواقفه محسومة من الأعيان والقضايا، ولذلك تجد الرجل الذي حصر نفسه في أطر من التفكير ضيقة جداً لا يحبذ الخوض في "تحرير المصطلحات"، لأنه معارفه هشة قد بنيت على الثقافة "الاستهلاكية" البسيطة التي يأخذها من مفكر يحبه، أو شيخ يتبعه، أو محيط تشكل فيه، وهذا يعفيه عن (الكد المعرفي) الذي من خلاله يبني شخصيته الاعتبارية والثقافية، وتكون معارفه قائمة على احترام العلم وأصول المعرفة» (7). 5- القراءة الانتقالية: ولا نجزم أن تكون هذه النوعية من القراءة قراءةً سلبية على الدوام، إذ قد تكون قراءةً إيجابية إذا ألبسناها ضوابط الحفاظ على السير البحثي الهادف، كمنهجية التفسير الموضوعي في قراءة النص القرآني إذ على ضوابطه، ورعاية الدقة العلمية فيه ينتج نتائجًا صحيحة وعلميَّة، ففيه يتم انتقاء الموضوع والمسائل الدائرة حوله في القرآن، وقد تكون قراءةً سلبية كما لو دخل الباحث في النص الديني لانتقاء الانحيازات التأكيدية، وإهمال اللا تأكيدية منها، أي إهمال الشواهد المعارضة للفكرة التي دخل على النص بنية إثبات حقانيتها مسبقًا. يذكر الشيخ الدكتور محمد كرم الله مثالًا للقراءة الانتقائية ومضارها في منشور له عبر حسابه في الفيس بوك: «وهكذا بمثل هذه القراءة الانتقائية تصوَّر الحياة الزوجية على درجة كبيرة من المثالية التي لن تكون واقعية في كل جوانبها . أين يكون الضرر ؟ : يأتي أحد الشباب يريد الزواج وليست لديه دراية كافية عن حقائق الحياة الزوجية ، فيطلع على هذه القراءة الانتقائية ، ويُمنّي نفسه بتلك الحياة المثالية، وبعد الزواج ؛ يجد وقائع لا تجري على تصوراته التي بُنيت على تلك القراءة الانتقائية ، وهي أمور معتادة في كل حياة زوجية ، بل وقع من أمثالها في البيت النبوي الشريف ، ولكن مع ذلك ؛ يحكم على حياته بالفشل ويقضي عليها بالانتهاء العاجل من غير عود ! » (8). وللشيخ حسين الخشن (9)، مقال جميل، حول القراءة الانتقائية وعلامات الظهور يقول في فقرة من فقراتها: «..بل كيف يمكن إعطاء صورة نقية لهذا العصر في ظل تحكّم القراءة الانتقائية المجتزئة لنصوص وأخبار الملاحم والفتن؟! فإن الملحوظ في المقام هو لجوء أصحاب الكتابات التي تتناول أحداث عصر الظهور إلى التمسك ببعض الروايات التي تخدم تصوراتهم المتخيلة والإعراض عن سائر الروايات الواردة في نفس الحدث الذي يتناولونه بالبحث..» (10). وفي نفس المقال يذكر الشيخ صورة لقراءة أخرى ويربطها مع القراءة الانتقائية، وهي قراءتنا التالية. 6- القراءة الإسقاطية (الرمي على الواقع): وفيها يقوم القارئ بإسقاط النص على الواقع المعاصر، بينما يحتمل النص عدة أوجه واحتمالات لا علاقة لها بالواقع، وذكر الشيخ الخشن في مقاله مثالًا، وهو إسقاط علامات الظهور المبارك على الأحداث، والشخصيات في واقعنا المعاصر، بينما يمكن حملها على أحداث وشخصيات لم توجد بعد، إذ يمكن أن توجد في المستقبل، وسلبيته في تشكيك البسطاء بأصل الفكرة التي يحتويها النص لا القراءة والإسقاط الاجتهادي على الواقع، فعندما يتبين خطأ القراءة قل من يتمنطق في ردة فعله تجاه ذلك، خصوصًا إذا كان الإسقاط موجهًا لبسطاء الناس. 7- القراءة الموضوعية: وهي قراءة النص الديني قراءة حيادية لا تلزم التجرد من جميع المعارف والعقائد القبلية، ولكن النص فيها هو الذي يقودنا نحو مراده لا المؤثرات القبلية، نعم هنا يوجه سؤال: هل يعني ذلك أن نتجرد من الثقافة والمقدمات العلمية التي تعلمناها مثل العلوم الآلية، كقواعد المنطق مثلًا؟ طبعًا لا، لأنها وسائل تضبط التفكير وتعصمه عن الخطأ، بل هي التي توجهنا نحو الموضوعية، يقول الشيخ مازن المطوري (11): «إن القبليات المذمومة هي الأحكام المسبقة، أما الأدوات والوسائل فلا يمكن مطالبة الباحث الديني بتفريغ ذهنه منها ومواجهة النص الديني بذهن عامّي خال من تلك الأدوات، إذ مثل تلك المطالبة عبثية ولا معنى لها. نعم؛ الباحث في الشأن الديني، بل في كلّ الشؤون المعرفية، مطالب بتفريغ ذهنه من الأحكام المسبقة التي تسهم في صياغة محتوى النص حسب رأي المفسّر وقناعاته المسبقة، وهذا المعنى هو الذي وردت فيه النصوص الناهية عن تفسير القرآن بالرأي. أي أنها تنهى عن تفسير القرآن بالقناعة المسبقة والأحكام القبلية، وليس عن التفسير المسبوق بالأدوات والوسائل العقلية والعقلائية والدلالية». هذه الأمثلة وليدة الاستقراء لا الحصر العقلي، فلذلك يمكن اكتشاف قراءات أخرى، وغاية البحث أن ننبّه القارئ على ما يقترن بدخوله لقراءة النص الديني، ليحدد عندئذٍ هل رافقه مؤثر نافع، أم مضر؟ حتى لا تتشوه الصورة التي ينتظر تصورها منه، والبحث قابل لفتح محاور وتحقيقات كثيرة، إلا أن هذا المقدار كافٍ ومفيد. المراجع: 1- السيد الإمام الخميني، آداب الصلاة 192 2- منبر المحراب، العدد 1000، السنة العشرون، 4 رمضان 1433هـ 3- نفس المصدر 195 4- نفس المصدر : 201. ٥- منبر المحراب، العدد 1000، السنة العشرون، 4 رمضان 1433هـ ٦- باحث في الجماعات والاتجاهات الفكرية، داعية وخطيب جامع من السعودية. ٧- جريدة الوطن أون لاين، مقال القراءة المؤدلجة والقراءة المعرفية، بتاريخ ٢٠١٢/١١/٢٦م. ٨- شيخ ودكتور ومدرس من الخرطوم السودان. ٩- مدير المعهد الشرعي الإسلامي في بيروت، وأستاذ الدراسات العليا في مادتيّ الفقه والأصول في المعهد الشرعي الإسلامي. ١٠- موقع سماحة الشيخ حسين الخشن، مقالات، فكر ديني، علامات الظهور والقراءة الانتقائية الاسقاطية. ١١- أستاذ في حوزة النجف الأشرف.
اخرىهل تتوقع ما قال لي ولدي؟ - سأجيبك في الختام. كل كاتب إن لم يتمنَ نجاح مقاله، فلا يخلو من رغبةٍ للفْت الانتباه إليه؛ لتحضى كتاباته، وأفكاره، وأهدافه وسعيه نحو غايته بفرصة من فرص القراءة، فدائمًا يسعى الكاتب المتطلع للنجاح أن تظهر مقالته بأسلوب متحرك، فعّال، نابض، ليشعر القارئ بحرارة المحتوى، ونشاط المضمون، فالسطر يدفعك لقراءة الآخر، والكلمات تتعارك فيما بينها؛ للحفاظ على الانتباه والتركيز في الفقرة. (المصيدة) حيلة احترافية لجذب القارئ نحو المحتوى، ومكنة بلاغية للقبض على ذهنه وإقفال قفص المقال عليه، فلا يهرب –بسببها- حتى يُفرغ حاجته المعرفية، الحاجة التي فرضتها عليه هذه المصيدة. عرَّفها (ميلو أو. فرانك) 1 في كتابه: (كيف توصل رسالتك في 30 ثانية أو أقل) بأنها: (عبارة أو عنصر ما يستخدم تحديدًا لجذب الانتباه...)، وهذا التعريف واسع دخل ضمن إطاره صورٌ كثيرة، وألوان متعددة من واردات الحياة اليومية: سياسة، فن، إدارة منزل، اقتصاد، كتب، مجلات، إعلانات تلفزيونية، لذلك يقول: (المصائد تحوم حولك في كل ساعة من النهار والليل...)، لماذا؟ لأنها قد تكون داخل دعاية إعلانية يقول فيها المذيع نكتة قبل أن يرفع يده مخرجاً علبة (شامبو) لا ملازمة منطقية بينها وبين النكتة، أو مقطعاً غنائياً لمحاربة الفكر الإرهابي يُردَّد فيه: (لنفجّر، لنفجّر) ولكنه يريد أن يفجر –في هذه المرة- الحب والحنان! وقد تكون علامة تعجّب لا علاقة لها بالعبارة: (!)، وقد تكون نبرة صوتٍ غريبة، أو صوتًا عاليًا، أو حركاتٍ يدوية وإيماءاتٍ بالرأس، أو نكتة قبل الدخول في حديث، أو عنوان يشد الانتباه كما فعلت في هذا المقال، أو مقدمة لكتاب. الكاتب المصري محمد رضا عبد الله 2 استعمل حيلة المصيدة في كتابه، وأشد المصائد قوة عنوان كتابه إذ سماه: (كيف تقتل زوجتك دون أن تجرح مشاعرها)!، فالعنوان غريب، ولكن المحتوى أغرب، فهو يبدأ –مثلًا- مجموعته القصصية بإهداء يقول فيه: (أهو يا ستِّي... عشان ما تقوليش إني حارمك من حاجة...)، ثم في الصفحة الثانية يكتب إهداءً ثانيًا: (إلى زوجتي العزيزة برضو... شوفتي بقه؟ ... إيه رأيك؟... إهدائين في كتاب واحد...)، ثم يدَّعي وجود إهداءٍ ثالث في الصفحة التالية، فإن قلبتها تجد: (إنتي صدقتي ولا إيه؟)، هذا الكاتب محترف، إذ هذه الصفحات الثلاث كفت لنقل القارئ تلقائيًا لباقي الصفحات ومعه كم هائل من الجذب، خلّفته هذه المصيدة الفكاهية. نرجع إلى أبي فرانك (ميلو أو) في تعليقه على مصيدة الدعابة: (كنت أعقد حلقة دراسية في أحد فنادق بيفرلي هيلز 3، وقد كان هناك ستة مديرين تنفيذيين في القاعة الضخمة، والأنيقة الرائعة. طلبت من كل واحد منهم أن يبتكر مصيدة، أو عبارة بسيطة تستحوذ على انتباه كل شخص، فقالت تنفيذية شابة: لقد مر فأر في الحجرة توًا! فقلت: تلك واحدة من أفضل المصائد التي سمعتها في حياتي حتى الآن، فقالت: "وإنها لصادقة أيضاً"). هو نفسه ميلو جعل عنوان كتابه مصيدة، وكذلك فعل ريتشارد تمبلر في كتابه: (قواعد الثراء)، وأنتوني روبنز 4 في كتابه: (أيقظ قواك الخفية)، إلا أن جورج سيمسون 5 لم يلتفت لفائدة استعمال العنوان كمصيدة، وبقي كتابه: (الإنسان في المجتمع) آخر الكتب التي قد تلتفت إليها في رفوف المكتبة، إلا عند من يعرف قيمة هذا الكتاب المؤدب، وعلى كل حال: يكفي متابعة قيمة المشتريات، وعدد الطبعات التي حقّقتها كتب المصائد، التي قل منها ما يحمل موضوعًا يصور -فعلًا- الانسجام بينه وبين العنوان البرَّاق. علامة حمراء مكتوب فيها: (بيع منه أكثر من مليون نسخة)، ما هو؟ الوضعية تشير إلى كتاب، يستحق القراءة، لنشتريه يا زوجتي حتى نوقظ قوانا الخفية! شكرًا يا أنتوني روبنز، ولكن لم أجد مهلة لقراءة كتابك، إذ جذبني قبل ذلك عنوان كتابٍ آخر، حتى امتلأت مكتباتنا بالعناوين، وخلت أذهاننا من المعلومات المفيدة. بالنسبة للسؤال في بداية المقال فهل فهمت المغزى؟ نعم هو كذلك: (مصيدة)، أما للفضوليين فقد قال: (بابا) كعادة أي طفل، وأنا لا أدعو –هذا المقال- لممارسة المصيدة للغو واللعب، بل لاستعمالها في جذب القراءة، وأسر العيون والأذهان بالكلمات والعبارات المنبِّهة؛ لإيقاض القارئ وإنعاشه حتى لا يتكاسل عن إكمال باقي المقال، وليس من الضروري أن تلتزم بهذه التسمية، بل سمِّها ما تشاء، كتسميتها أسلوباً جميلاً، فيه تحقق غايتك من الكتابةـ وبالأخص ما نحن فيه: الغايات المقدسة، كالتبليغ الديني. ................ 1- ميلو فرانك مواليد عام 1922 في نيويورك، مؤلف كتب. 2- محمد رضا العبد الله، كاتب مصري، لديه مؤلفات كثيرة مثل: (حالات خاصة، مذكرات طبيب نفسي...)، و(الصرخة). 3- بيفرلي هيلز(Beverly Hills) هي مدينة أمريكية تقع في الجانب الغربي لمقاطعة لوس أنجلوس بولاية كاليفورنيا. 4- ريتشارد تمبلر كاتب إنجليزى فى مجال التنمية البشرية ومن مؤلفاته: (قواعد الحياة)، (قواعد العمل)، (قواعد التربية). 5- كاتب ومتحدث أمريكي، ولد في 29 فبراير 1960 في كاليفورنيا وله عدة كتب وبرامج في مجال تطوير الذات. 6- الظاهر أنه جورج جايلورد سيمبسون من مواليد يونيو 1902 وكان عالم حفريات أمريكي، ولم أجد كتابه الذي أملكه عبر النت لأتأكد منه.
اخرىمن المنطلقات الأخلاقية الهامة في الأديان هي النصيحة، إذ شدّدت الأديان على النصح بما هو عامل من عوامل الإصلاح الاجتماعي، والتكامل البشري، إلاَّ أنها –كما هو حال جميع المنطلقات الأخلاقية- لابد أن تتأطَّر بضوابط تعصمها عن التفريط والإفراط، وتوجهها نحو الانسجام والتناسب مع القابلية عند من توجه له النصيحة، ومنها أن لا يكون الناصح غارقًا في وحل الانحياز التأكيدي. عفوًا، ما هو الانحياز التأكيدي؟ هو اختيار وتوظيف المعلومات الجديدة –أو المعلومات التي نصادفها في البحث- لخدمة وتأييد المعتقد، أو الفكرة التي نؤمن بها، أو للدفاع عن وجهة النظر الخاصة، فإن كانت المعلومات تتصادم مع التوجه، والاعتقاد، والفكرة، والمدعى ضربناها بعرض الجدار، فكأننا من الأساس داخلون للبحث بنظارة مصبوغة بصبغة الأشياء التي نؤيدها، فنراه صحيحًا وما عداه باطلًا، وحينها نذكر المؤيدات ونتغاضى عن الانحيازات اللا تأكيدية، أي المعلومات المعارضة لأفكارنا وإن كانت هي الصحيحة. وللنصح الديني حينما يتزاوج مع ممارسة الانحياز التأكيدي صورة سلبيَّة مشوهة للأصل النوراني منه، إذ أصل النصيحة الدينية هو الموضوعية وعدم الإنحياز، إذ لو كان للانحياز مدخلية فيها لكانت النفس الإنسانية أولى به، إلا أن النصح تعدى ذلك ليتموضع بشدة فلا يتوقف عندئذٍ أمام حاجز النفس، فالنفس عند المتدين أولى بالنصح المضاد من غيرها. وأيّاً كان، فالنصح الديني المشوَّه بالإنحياز التأكيدي منه ليس نقصًا في ذات النصيحة، إذ التطبيق الخاطئ لا يعيب المنطلق الأخلاقي المطلوب. المثال الشائع حول هذا الموضوع هي النصيحة الدينية الموجهة إلى النساء –ولا خصوصية-، إذ كثر ما كانت المناصحة مشبعة بخلفيات متشددة تنظر للمرأة نظرة الأثاث المنزلي، ويظهر ذلك في طرح الشواهد والمؤيدات المنحازة للفكرة التي يتقوقع عليها، بينما يغض الطرف عن الشواهد التي تعارض توجهاته، فتتبلور حينئذٍ صورة مغايرة تمامًا للمراد والمقصد الديني تجاه النصف الثاني من المجتمع. لا ندعي أن الجميع قادر على التفريق بين الانحيازين: التأكيدي واللا تأكيدي عند البحث عن الألوان المناسبة لرسم النصيحة، أو أن الجميع متمكن من النصح الموضوعي الخالص، إلا أننا لابد أن نراجع نصائحنا ونرى هل خلصت من هذه الشوائب؟ أم لا؟
اخرىبقلم: حسين جبر السعيداوي مثلما نتلمس الفرق بين القنوات التلفزيونيّة الحكوميّة وبين القنوات الخاصة التي يمتلكها أشخاص مستقلّون فإنّنا نتلمسه أكثر بين بعض المنابر الدينيّة الإعلاميّة وغيرها، إذ تتشابه بعض المنابر – أعني تلك القنوات ذات المنشورات الدينيّة سواء أكانت قناة تلفزيونيّة، أو يوتيوب، أو مؤسسة بحث وتحقيق، أو منبرًا تقليديًا- مع بعض القنوات التلفزيونية في أمور، منها: الأول: أنّها تعتمد على شروط وقيود كثيرة، وخطوط حمراء يحرم التعدي عليها ولذلك فإن منشوراتها ونتاجها عادةً ما يكون مكرّرًا ومملًّا إذ كلما زادت القيود قلّت إمكانيّة الإبداع وطرح الجديد، وبالتالي فإن نسبة الالتفات، والاهتمام من الجمهور ستكون أقل من المأمول، وهذا يفسر كثرة الكتب والبحوث الدينيّة التي لا تجد من يحركها في رفوف معارض الكتب، وحصول البرامج الدينيّة على نسبة مشاهدات أقل من برامج الطبخ! الثاني: أنّها قنوات ومؤسّسات ذات قيادة غير شبابيّة وبالتالي فإنّ الخطة التي تدار فيها تلك القنوات، أو هذه المؤسسات البحثيّة غير متلائمة مع الواقع السيكولوجي المعاصر بمشاكله، وإشكالاته، وتحديّاته وحاجاته الجديدة، نعم الملاحظ أن الكادر العامل في هذه المؤسسات من الشباب ولكنهم خارجين عن دائرة تحديد أهليّة المحتوى، واستقراء الخطاب المناسب، فليس لهم غير إخراج المحتوى الممل والمكرّر بهيأة جميلة، وتصميم راقي وهذا لا يعالج المشكلة ولا يجذب الجمهور. الثالث: الاحتراز من نقد الذات والمبالغة في الدفاع عنها، إذ من البعيد أن تجد القنوات الدينيّة –أعني التي تتشابه مع القنوات الحكوميَة- تفتح برنامجًا لنقد الذات، أو أن لا تبالغ في الدفاع عنها وتلميعها، ولذلك فإنّ الجمهور لا يجد غير صورة ملائكيّة تتصادم مع الواقع الخارجي المليء بالتعارض الصارخ. الرابع: تحجيم الجمهور وإبعاده عن الحركة والتفاعل مع المحيط، وهذا هو المحل الذي يشتد التشابه بينهما فيه، إذ مثلما تحاول القنوات الحكوميّة أن تضع الجمهور في صندوق صغير من الآمال المحدودة المنتخبة وتغلق عليه، بحيث ينشغل عن السياسة والتعلّم وتطوير البلد والمشاركة في صنع القرار في السعي الحثيث اليومي لطلب الرزق، والتفكير في سعر الخضروات المتقلّب، والستر والعافيّة، أقول: مثلما تسعى القنوات الحكوميّة لذلك فإنّ القنوات التي تتشابه معها من القنوات الدينيّة أو المؤسسات البحثيّة تحاول أن تجعل الجمهور المتديّن حِلسَ البيوت والمساجد، غايته العلم بحُلَيله من حُرَيمه، و"أبوك الله يرحمه"، فلا تغيير ولا تطور ولا أقلّها التعرّف على الطرق والمباني والمشوار الاستدلالي الذي صنع لنا هذه المنظومة الكبيرة من المسائل النظريّة الاجتهاديّة التي تبث وتنشر ليلًا ونهارًا، فلا يستميل هذا النهج التحجيمي غير جمهور الوجبات الجاهزة، وهذا يبرّر قلة المشاهدات والمتابعة؛ لأن الجمهور المعاصر جمهور مثقف يختار ولا يختار له، ويسأل قبل أن يستهلك وقته الثمين. إذن، فمثلما صارت القنوات الحكوميّة مهجورة بسبب القيود الشديدة، والأخطاء الإداريّة، والمنشورات السلبيّة فإنّ القنوات الدينيّة –ولا زلت أعيد أنّي لا أقصد القنوات فقط- أوشكت أن تعيد نفس التجربة ما لم ينتبه القائمون عليها لقلة الجمهور والمتابعة، ويعيدوا ترتيب الخطّة، ويتيحوا المجال للشباب المثقّف، ويرفعوا القيود التعجيزيّة والمبالغ فيها، ويفتحوا المجال للتجديد والإبداع، والنقد حتى يتمكنوا من إرجاع الشباب المتجمهر على القنوات المستقلّة.
اخرى