جذبني منظره، بلحيته الطويلة المسترسلة وقد زانتها شعيرات بيضاء تفرقت هنا وهناك، وهدوئه، وتلك الدموع التي بدت تغزو عينيه، وتقاطيع وجهه المتعب الذي بدى عليه الحزن، تعلقت عيناه في كبد السماء وانحدرت تلك الدموع من عينيه، لتختفي تحت شعيرات لحيته، وهو يتمتم بدعاء غريب لم أسمعه من قبل، لكنه أخذ بمجامع قلبي، كلمات تلامس شغاف القلب، تقرع صدري وتغوص في أعماقه فتتناغم مع روحي، فرحتُ أنصت إليه رغم زحام المارة وضجيج الحجاج الذي ملأ المكان... بعد برهة أكمل مناجاته... دنوتُ منه وزاحمت ركبتي ركبته... فهمست له : _من أين لك هذه الكلمات؟ ابتسم وهو يمسح بقايا دموع علقت بمآقي عينيه: -إنه من دعاء الإمام الحسين (عليه السلام) يوم عرفة ثم أردف قائلاً: هل تريد نسخة منها؟ -أومأت برأسي باستحياء موافقاً وفي داخلي أشعر بالهزيمة ناولني كُتيباً صغيراً جداً، فحشوته في جيبي، ثم شكرته. كان لطيف الكلام، عذب المنطق، شديد الإنصات لي حين أكلمه، تجاذبنا أطراف الحديث فعرّجتُ قاصداً على بيعة الغدير كما يسمونها. قلت: أنتم تدّعون أن الخلافة كانت لعلي بعد وفاة النبي صلى الله عليه؟ لم تتغير تقاطيع وجهه السمح وأجاب بهدوء وسكينة: لا ندعيّ، بل هو اليقين وهو الحق، ابتسمْت هازئاً وأجبت: تعتمدون كتباً قد حُرفت! اعتدل في جلسته ورمق بطرفه السماء وكأنه كان يطلب عوناً : بعيداً عن كتبنا وصحاحكم، هل لي أن أطرح عليك سؤالاً؟ -نعم تنهد قليلاً ثم قال: ما هي مهنتك؟ أجبته مستغرباً: طبيب أسنان انفرج ثغره عن نصف ابتسامة... وتابع: أرأيت أذا أردت أن تسافر لبضعة أيام _كما الحال الآن_، فمن تترك في عيادتك؟ قلت ببساطة: طبيب أسنان بديل. - ولِمَ لم تترك نجاراً أو حداداً أو أي صاحب حِرفة أخرى؟ - أتسخر مني! - لا، حاشا، لكن أنت طبيب ولا تترك في عيادتك إلا من هو مثلك يجيد حِرفتك وتأمنه على مرضاك ،فكيف بنبي الأمة يعدو علي (عليه السلام) ويترك فيهم من هو ليس أهلاً للخلافة! ألا تقولون في كتبكم إن الثاني كان يقول (اللهم لا تبقني لمعضلة وليس لها أبا الحسن ) (١) فكيف يترك الأمة بدون راع ينظم أمورها ويحقق عملية التغيير في ذلك المجتمع وهو في عمره الشريف القصير لم يستوفِ المهمات المناطة بالرسالة الإسلامية؟ وهذا ما لا يتأتى مع شريعة السماء وقاعدة اللطف. لم ينهِ كلامه إذ ناداه شاب في مقتبل العمر: شيخنا وقت الصلاة قرب ونحن بانتظارك.. اعتذر مني بلطف ورحل. ظلت عيناني تشيعانه، فقد غاصت كلماته في كياني وأحدثت ثورة كبيرة في داخلي وبدأ قلبي كقارب تتقاذفه الأمواج من كل جانب. نهضتُ مسرعاً لألحق به، لكنه غاب في الزحام، جلست حيثُ كان يجلس، تصفحت الكُتيب ثم طويته بسرعة، لم أعد أعلم ماذا أفعل! هنا تقابلنا قبل عامين، وهنا انبعثت فيّ الحياة فولدت من جديد، أخرجت الكُتيب ورحتُ ألثم حروفه وأتلمس غلافه لعل يدي تصافح يد من هداني الصراط المستقيم. ____________________________ ١_ينابيع المودة ثرى الامير
اخرى