الزهراء زيتونة عمت بركاتها المشرق والمغرب، وأنا الآن أسير بسيري هذا أطوي صفحة من صفحات حياتي، لأبدأ صفحة جديدة مشرقة، أكثر إشراقاً من ذي قبل. إحساس وُلد في داخلي منذ استيقظت صباحاً، إحساس جميل دافئ، كان لا أعرف مصدره ولا منشأه لكن الآن أعرف أساسه ومنشأه. فإني في خطواتي هذه يختزل الزمن في ساعاته تحت وطأة شعوري هذا ،وكيف لا وأنا أتوجه لأقضي بقية عمري في أشرف بيت في قريش، بل على وجه الأرض على الاطلاق.. كلما كدت أن اقترب كلما ازدادت نبضات قلبي واقشعر بدني، رباه ما الذي يعتريني؟ ولمَ كل هذا الخشوع؟ احساس دونه سكرة الموت. وردت يدي لأطرق الباب. لا ادري أهو صوت طرقات الباب ام صوت دقات قلبي المختلج داخل احشائي؟! خطواتها تهب الربيع الأبدي لذرات الرمال تقترب من الباب الموصد. ثوان مرت، خلْتُها ساعات مرت بكل ما فيها من حلاوة الأيام وعذاباتها. شمس اشرقت من داخل الدار، جلال نور شع يغشي الابصار. لا أتبين سوى هيكل امرأة قد حاطها ذلك النور البهي. _فضة، تفضلي يا فضة هكذا نادتني بصوت مشوب بحنان عذب، وكأني لأول مرة أُحس بجمال وعذوبة اسمي، تمنيت لو انها تكرره مراراً، فأحس بهذا الاحساس الذي يفيض طافحاً بحلاوة اسمي، إنه صوت ملكوتي آسر وجه ملائكي جميل، لابد أنها حوراء من حور الجنة، جميلة المحيا، يعلو وجهها ابتسامة مضيئة، وما هذه السحنة الطيبة؟ كنت اتخيل عندما أراها سوف تكون بين وصيفاتها جالسة فوق ملحفة ناعمة من افخر أنواع الاقمشة. لكن... تقف مولاتي الآن قبالي وهي ترتدي ثوباً متهرئاً يثير في داخلي الاشفاق، أهذه ابنة أعظم الرجال وسيد الخلق كلهم! تفضلي يا فضة... فاليوم أنت ضيفة عندنا وغداً تبدئين العمل... يا الهي، ما هذا الكرم الذي لا يضاهيه كرم، كنت اسمع بكرمها واخلاقها، ولكن لم اتصور يوماً أن إنسانة ما تصل الى هذه الدرجة من الكمال والنضوج العقلي والإنساني… كانت تمر الأيام خفيفة وجميلة كنسمة هواء رخيمة. في كل يوم كانت اشياء جميلة في داخلها تدفعني وتجذبني اليها بقوة. كنت تمنيت لو قابلتها منذ نعومة اظافري، سيدة لا تضاهيها سيدة بالشرف والخلق. سيدة لا تضاهيها سيدة بالنبل والكرم، تفيض أملاً وخلقاً لدرجة أننا اقتسمنا اعمال المنزل. فيومٌ لها ويوم لي… رأيتها يوماً وقد أسدل الليل ستاره، وتلك العينان التي ينبثق منها نور مضيء، قد تعلق بكبد السماء وهي كالنسمة بيد الرياح تبدو، تناجيه وتقدسه بصوت متهجد ملتاع، كأن شذا الجنان تفوح من كل انحاء المنزل. العتمة في كل مكان سوى محرابها... يشع بنور وجهها، كأنها قمر في ليلة داجية تطوقها هالة من نور شفيف… تنساب الى اذني كلمات شفافة، شفافة روحها الآتية من ملكوت السماء. يحتويني شعور لطيف، ولا ادري... أرصفُ قدمي لأصلي معها وأنفاسها تخرق صمت الليل الأبكم، تفتح أبواب السماء لتنهمر فيوضات روحانية الذ من العسل، منذ زمن لم أتذوق مثلها. ... اذكرها جيدا تلك الليالي... لا أنساها، ثلاثة أيام باتوا يفطرون على الماء القراح دون طعام، عندما كانوا صياماً، صيام نذر، نذر للحسين عندما يشفى من مرضه. انزل الله بحقهم قرآنا… ويدخل عليها أبوها ليرى بين يديها جفنة تفور، يقول لها من أين لك ذلك؟ تجيب جواب الواثقة بربها: هو من عند الله إنه يرزق من يشاء بغير حساب، الحمد لله الذي جعل في امتي مثل مريم بنت عمران. خمسة اقمار في بيت واحد، يزورهم بين فينة واخرى... شمس بزغت للإنسانية جمعاء، أراه يفعل بمولاتي مالا يفعله بأحد غيرها، وكأنه يمتص شذا المسك من شفتاها، ويسأل عن ذلك فيجيب: انها تفاحة من الجنة فكلما اشتقت الى الجنة شممتها، انها روحي التي بين جنبي، إنها أم أبيها، وما هذا إلّا النزر القليل من أقواله في حقها. خرجتُ بتجارب حياتي معها بأشياء كثيرة ... كانت تجلس وتحتضن ابنتها الحوراء لتبث فيها قدسيتها وروحها الفانية في سبيل الإسلام وتعدها أعداداً كاملاً لواقعة الطف، ولتكمل مشوارها الطويل في تثبيت اركان الإسلام بدمها الطاهر وبدم بعلها وبنيها إلى قيام الساعة، فحقاً هي زيتونة عمت بركاتها المشرق والمغرب.... سماهر الخزرجي
اخرىبقلم: سماهر الخزرجي تمر أيامها ببطء شديد... وقد تتابعت عليها أيام عجاف... ومخمصة لا تعلم متى يتم انجلاؤه . وحيدة تجوب الدار، قاطعتها النساء ... تلك النساء اللاتي جدفنّ بالنعمة ،تلك النعمة الملكوتية، فظلام الجور والجهل يخيم على ارواحهن. تدعو الله لهن بالهداية فأنهن قد غُرّر بهن . اعمال المنزل الشاقة انهكتها .تمسح بيديها المتعبتين ذرات العرق المتصبب من جبينها يلوكها التعب ويعتصر قلبها الألم لحالها تارة.. وتارة لما يتعرض له حبيب قلبها وأنيس وحدتها. تجلس لترتاح قليلا من عناء يومها، وقد كحل النعاس مقلتيها، لم تنم ليلتها لمخاوف تساور قلبها ورغم ذلك اوكلت أمرها لله .. اللهم بدد عن روحي هذه الغيوم السوداء... واذا بصوت ملكوتي آسر يناديها يسلم عليها، يبدد وحشة يومها ويأنس وحدتها، إنها تراه بعين قلبها .. تحدثها تسايرها تشد من عزمها... فيدخل عليها حبيب الإله يسألها مع من تتحدثين ؟وهو العالم بها .. إنه الجنين في بطني يكلمني ويبدد سحب الحزن من سمائي .. إنه تناغم بين روحين ،بل هما كيان واحد بل هو قلبه يجري في قلبها ، إنه عشق اكنته ضلوعها. وأنامله الرقيقة تطرق باب قلبها ويبسط قلبها فراشا لها.. تمضي الايام والقلب ينمو في القلب، فتهب خديجة من رقادها متألمة... إنه الم المخاض... بل إنه حنين اللقاء ، فمآتي الدقائق تمر بعذوبة مشوبة بألم ،تروم امتصاص عذوبتها، وحيدة هي لا انثى معها تعينها في شدتها.. وما كانت الا لحظات واقتربت منها مراكب الأخيلة السائرة، بل انها حقيقة ...هذه مريم بنت عمران وآسيا بنت مزاحم وسارة وكلثم بنت عمران، وما هي الا سويعات وقد أنير الكون بنور ذهبت به دياجي الظلمات . فأزهرت الزهراء عليها السلام لتكون قطب الرحى الذي يدور على معرفتها القرون الأولى.
اخرىبقلم: سماهر الخزرجي إنَّ دراسة حياة الشخصيات العظيمة والرموز الإسلامية من ضروريات الحياة لأنهم يمثلون المنهل العذب الذي ننهل منه الدروس والعبر التي ترسم لنا خارطة طريق متكاملة تسمو بنا نحو الكمال، وقد أخفى التاريخ الكثير من الحقائق وغيّب أمورًا أخرى، ومنع تدوين الكثير منها مع ما لازمه من التحريف والحشو بالأباطيل والكذب، وهذا ما نلاحظه في سيّر العظماء والصالحين ولا سيما كل من يمتُ لبيت علي (عليه السلام) بصلة، محاولًا طمس تلك الفضائل والمشاهد العظيمة، ومن تلك الشخصيات العظيمة والرموز البارزة السيدة الجليلة أم البنين (فاطمة الكلابية) (سلام الله ورضوانه عليها)، تحجيمًا لشخصها وتغييبًا لدورها الفذ في الذود عن الآل وعن حياض الدين. إلا أنّ إرادة الله شاءت غير ذلك، فرغم أنه لم يصلنا عنها وعن تفاصيل حياتها إلا القليل، إلا أنّ فضلها وذكرها ومآثرها ملأت الخافقين وأصبحت قدوة للنساء ونموذجاً للفناء والانصهار في آل البيت (عليهم السلام). ففي ذلك البيت الحجازي الشريف وفي أجواء هجيرها المتقد نشأت تلك المرأة النبيلة ذات الخصال الحميدة والسجايا الفاضلة والمآثر الكريمة، النقية، الورعة، الفصيحة، البليغة، والعفيفة النفس وقد أثرت البيئة التي نشأت وترعرعت فيها على صقل شخصيتها وتربيتها وتنشئتها تنشئة صالحة، فقد تربت في أسرة عريقة شريفة حوت من الفضائل ما لا تحويه باقي الأسر، فقد أتفق المؤرخون أن آباء فاطمة وأجدادها هم من أشجع القبائل وأفرسهم بعد بني كلب، وقد تميّزت تلك الأسرة بولائها الشديد لآهل البيت (عليهم السلام)، فظهر ذلك جليًا على شخصية أم البنين (عليها السلام)، وذلك نستشفه من حادثة الخطبة، حيث تقدم عقيل لخطبتها من أبيها لأخيه علي (عليه السلام ) وهو يقول له: جئتك بشرف الدنيا والآخرة. ويروي لنا المؤرخون أن حزام أسرّه الخبر كثيرًا إلا أنه خشى أن لا تكون صالحة لهذا البيت، حيث إنه مهبط الوحي ومختلف الملائكة ومعدن الرسالة، فإنه يرى لمثل علي (عليه السلام) أن تكون له امرأة ذات علم وعقل وأخلاق حسنة -مع علمه بما تحمله ابنته من هذه الخصال- فينبري ليسأل أُمها عنها. فتجيب الأم بثقة عالية: يا حزام والله قد ربيتها وأحسنت تربيتها وأرجو الله العلي القدير أن يسعد جدها وأن تكون صالحة لخدمة سيدي ومولاي أمير المؤمنين (عليه السلام). فتنزل الكلمات على قلب حزام كنزول الغيث على أرض جدباء، ويقدمها لأميره بصفة خادمة لا زوجة! ولا بد أن يكون لفاطمة رأي في ذلك فهذه من مختصات حياتها وشؤونه، وقد أكد الشرع على استحصال رضاهنَّ في ذلك. فتقف تلك السيدة الجليلة الواعية الناضجة العالمة الورعة عند مفترقين، فهي تعرف بسيرة من جاءها خاطبًا، وما كان يطغى على ذلك البيت من إيثار وجوع وفقر ومشقة، وتلك العائلة التي نزل بحقها قرآنًا في خواء بطونهم وإيثارهم للمسكين واليتيم والأسير، تعلم المستوى المادي والمعيشي، وأضف لذلك علمها بما جار عليهم الدهر من محن ومصائب وظلم الأصحاب لهم بعد رحيل الحبيب صلى الله عليه و آله، وقد جال في خاطرها وهي تبدي الموافقة على الارتباط به -مفتخرةً بذلك- إعراضها عن الدنيا طالبة الزهد والتقشف مشيحةً وجهها عن ملذاتها وزبرجها وزينتها وعليها أن تعد جلباب الفقر والبلاء واللأواء، مستذكرة الحديث الشريف (من أحبنا فليعد للبلاء جلبابًا) (١) وما الذي قبال ذلك؟ قباله شرف الفوز بخدمتهم والفوز الأبدي والخلود في الدارين واللحوق بالنبي وآله في درجاتهم. وأثناء ذلك تنساب إلى مسامعها تلك الآيات ((يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29))) (٢) فتشعر بالاطمئنان وعذوبة الإيمان، فتشكر الله في سريرتها وتحمده أن خصها بهذه النعمة الكبرى.. وتدخل فاطمة ذلك البيت العلوي الشريف، وتنصهر في محبتهم وخدمتهم، وتعيش حالة من نكران الذات لأجلهم، فلقد ذابت وأذابت في ولائهم فلذات اكبادها، وتتوالى المحن على البيت العلوي ويعصف الحزن قلب فاطمة بفقدها زوجها وسندها، ثم لم يمهلها الزمن حتى يكلم قلبها بالحسن (عليه السلام)، وهي ما زالت تعيش ظلامات الحسين، ولم تنزع ذلك الجلباب الذي أعدته للبلاء وكانت شامخة كالجبل الأشم. يقول العلامة باقر شريف القرشي (رضوان الله عليه) في كتابه (العباس رائد الكرامة والفداء في الإسلام): "لم يعرف التاريخ أن ضرّة تخلص لأبناء ضرّتها وتقدمهم على أبنائها سوى هذه السيدة الزكية، فقد كانت ترى ذلك واجبًا دينيًا لأن الله أمر بمودتهم في كتابه الكريم" (٣) فكانت (سلام الله عليها) خير مصداق للأحاديث التي أمر بها النبي (صلى الله عليه وآله) بود أهل البيت بحبهم وولائهم والاتباع لهم والتمسك بحجزتهم. وكما هو معروف، فإنه عند الاختبار تظهر معادن البشر وتُعرف سرائرهم ودخائل ضمائرهم وصلابة إيمانهم، وقد أشار القرآن الكريم لذلك في قوله: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) )(٤) ولا أرى هناك فقد أعظم من فقد الولد فكيف إذا كانوا أربعة! وكيف الحال إن كانوا على هذه الدرجة العالية من الفضيلة ونفاذ البصيرة؟! مع إنها لم تعبأ بنبأ مقتل بنيها الأربع، بل راحت تحث الخطى لتسأل عن الحسين (عليه السلام) عن إمامها، وهذا ما يحدثنا عنه الشيخ المامقاني في كتابه تنقيح المقال قائلًا: (إن علقتها بالحسين عليه السلام ليس إلا لإمامته (عليه السلام) وتهوينها على نفسها موت هؤلاء الأشبال الأربعة إن سلم الحسين (عليه السلام) يكشف عن مرتبة في الديانة رفيعة) (٤) ولأجل ذلك تبوأت هذه السيدة الزكية تلك المنزلة الرفيعة والمقام السامي، فسلام عليها يوم ولدت ويوم ماتت ويوم تبعث يوم القيامة.. ______________ ١- غرر الحكم _٩٠٣٨ ميزان الحكمة، محمد الريشهري_ ص ٥٢٠ ٢- سورة الأحزاب الآيات _٢٨_٢٩ ٣- العباس رائد الكرامة والفداء في الإسلام، للقرشي صفحة ٢٧ ٤- سورة البقرة الآيات _١٥٥_١٥٧ ٥- تنقيح المقال للمامقاني صفحة ٣٤٧
اخرى