بقلم: هناء الخفاجي جمعني بها القدر، فلم يكن في حساباتي أن أتعرف على كائن من ألم، خليط من ضياع، نهارها يساوي ليلها في وحشته، على ضعف بصرها فهي لا تبصر سوى جدران متصدعة، كقلبها المتهرئ على حداثة ولادته، تحيط بها قناني الأدوية في ردهة الرقود، بعد أن ألمّت بها الأمراض على صغر سنها، كانت في نفس الردهة التي ترقد فيها والدتي بعد أن أُجريت لها عملية جراحية. يسمونها (حورية)! لكنها حورية جرداء من هذا الزمن الذي علقوا فيه أعناق القيم على أحبال المشانق. جلستُ بجانبها، نظرتْ إليّ، وبصوت خافت ونصف ابتسامة بريئة قالت: أتعلمين إني أعيش على (المغذي) السوائل الوريدية منذ مدة ليست بالقصيرة؟! سألتها عن السبب... أجابت: ودموعها تسابق كلماتها: بعد أن فتح لنا الحرمان أبوابه على مصراعيها، معاناة في كل شيء، فقر وجوع ومرض، أُصبتُ بانسداد الأمعاء وضعف بصري، ولم أعد أرى سوى أشباح وخطوط متعرجة كحياتي، مما جعلني رهينة المشفى... وأردفت بكلمات متقطعة كأنفاسها: والدتي لا تملك شيئًا من حطام الدنيا، لا مهنة ولا شهادة ولا عملًا، وأخي الصغير ترك المدرسة وامتهن جمع القناني الفارغة من النفايات ليؤمن قوت يومنا! وعندما سألتها عن والدها، اختنقت بدموعها الممزوجة بحسرة وألم، ثم هدأت قليلًا: مات والدي وأنا في الخامسة من عمري، وترك معي أخًا وأختًا أصغر مني مكفوفة. وكيف مات؟ تنهدت عميقًا كادت تخرج بروحها مع الكلمة: قتلته أُمرأة! وأردفت: أُمرأة دمرت حياتنا! كيف؟ كان أبي موظفًا، تعرّف إلى موظفة معه، اشترطت عليه أن يطلق أمي كي يتزوجها، فطلقنا معها بالثلاثة كمهر لها. كانت أمي في أيام حملها الأخيرة، لم تحتمل وقع الخبر، فخرج الطفل ميتًا، وأصابت أمي حالة نفسية شديدة ما تزال تعاني منها بعد عشر سنين من ذلك اليوم المشؤوم، وهو أصبح من التجار والوجهاء، وزوجته وأولاده يعيشون في ترف ودلال. سألتها: إذًا والدك مازال على قيد الحياة؟! صمتت برهة قصيرة وأشاحت بوجهها عني مرددة: لقد مات في عيوننا منذ أن طرقْنا باب التسوّل، وبدأت الناس تتصدق علينا، وتركَنا للذل والحرمان دون أن يطرف له جفن أو يرق له قلب. تابعت والحسرة تملى خافقيها: حتى أن الناس في المنطقة (العشوائيات) التي نسكنها يسموننا بيت اليتامى ويتصدقون علينا ليكسبوا الأجر والثواب. مسحت دموعي وابتسمت في وجهها الملائكي الحزين محاولة أن أخفّف ألمها. قلت ممازحة: أنت جميلة كالقمر، تبسمت ضاحكة... خرجت والدتي بسلام... وبقيت حورية ترقد في بيت راحتها كما يحلو لها أن تسمي المشفى الذي تقضي فيه أغلب أيامها. على طول الطريق المؤدي إلى بيتنا وأنا أفكر فيها، مما دفعني لكتابة قصتها الموجعة للقلب. فكم من حورية مجهولة المصير ضيّعها الآباء، أو حكم عليها القدر؟! ملفات متشعبة لحوريات من هذا الزمن القبيح، فالبعض قضى الآباء على مستقبلهن بزواجهن المبكر وطلاقهن المبكر. وبعضهن وبعد انفصال الأبوين تشردْن في البيوتات بين الأعمام والأخوال وزوجات الآباء وأزواج الأمهات. وأخريات من دون مأوى تجمعهن الطرقات وأرصفة الشوارع فيكُنَّ عرضة للمتعرضين من الذئاب البشرية المتوحشة. وبعضهن الآخر حكم عليهن القدر بوفاة الآباء وفقدان المعيل ليلاقين المصير نفسه. إذا ما الفرق بين من غيبه الموت ومن مات ضميره وقلبه وهو على قيد الحياة!
اخرىبقلم: هناء الخفاجي محدثتي فرحة بسن تكليفها في مولد السيدة الزهراء، بعفوية سألتني. قالت: من هي فاطمة؟ قلت: حورية أنسية من أعالي الفردوس أطلت بنورها فأشرقت بطلّتها الأكوان. هي ليلة القدر، سطعت بفجرها فكانت سلامًا. حروف اسمها صاغها الفاطر من حروفه.. فمنح فضة الفردوس من فائها وفي الإلف اهتداء الأنام، وطه من الطاء اشتقاقه، والميم مشكاة نور الملكوت طاف حولها الذر. أين مولدها؟ بظلال العرش أينعت ثمرة الوجود، مقامها الجنان، رحيقها الكوثر وروح وريحان. من خدمها؟ حور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون، وولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا، تغبطهم ملائكة السماء على شرف المخدوم. صفاتها؟ زهرة الكون لا شبيهة لها، كل صفات الحسن فيها وتأبى صفاتها الإحصاء، خلق النبي والوصي إكرامًا لها، ولولاها ما دارت الأفلاك. عبادتها؟ سيدة الإيمان، إنها وطن النبوة ومهبط الوحي ومعدن التنزيل، وسر الإمامة ومحور التوحيد، كافأها ربها بجعل رضاه من رضاها. كيف جاءت إلى الدنيا؟ أهداها الحبيب لحبيبه المصطفى (صلى الله عليه واله) النجمة الدرية هدية الرحمن، أزهرت من نور وجهها الدنيا، واستمدت من نورها الأقمار، أيام معدودات مجيئها كشهر رمضان، لحكمة أراد الله فيها إزالة الأوثان. حياتها؟ كزنبقة بيضاء بمحراب الزهد والتبتل أكتمل صباها، بحسن التبعل جاهدت وهي خير أم لأبيها، يكفيها من الدنيا قرص بر تطوي عليه لتطعم على حبه "مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرً" قبل أن ينهي المسمار حياتها في يومٍ "كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرً" هل ماتت؟! بل نحن من نحيا باسمها وهي مخلدة، مُلْهمتُنا بين الخافقين تنبض مادامت الأرواح فينا، أرجعها الله إلى موطنها فعرج بروحها نحو السماء، وتلقتها الملائكة مستبشرة "ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً" وجزى الله تعالى صبرها "جَنَّةً وَحَرِيرًا" و "نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا". آآآه... أي سر أنت ياروح الحياة، فطم الخلق عن معرفتك، وفيك انطوى العالم الأكبر، أيا بضع النبي أضاءت أفق الكون فضائلك، تائهة عقول من لم يرها عن الصواب.
اخرىبقلم: هناء الخفاجي استبشرت مبتهجة: تحققت رؤيتي، قالت لهم، وناولتهم القمر، انحنى عليه، لَثَمَه بين عينيه "سأحملك اليوم وتحمل رايتي غدًا، عندما يشتد صليل السيوف!" أخذته برفق، ضمته إلى صدرها، قبّلت كفيه وهمست بإذنه "ستكون كفيلي!" تبسّم القمر بين مقلتيها، ترقرقت لؤلؤة من طرفها. التفتت إليها: " هنيئا لك يا أم البنين، وليدك أبهى من بدر التمام وأكمل، شمائل الحسن في محياه وضاءة ". شعشع السعد بينهم، عانقت عنان السماء أكفهم مرتلة الصلوات "رباه أينعت الربيع في بيتنا بإشراقة قدسية، أهديتنا بحر الوفاء الزاخر، وعنوان الكرامة والفضل كله والسخاء، تسجد الأُخوّة عند أعتابه، وتركع له الشهامة والإباء، مصحف الأخلاق يرتّل آياته، ويطوف حول جوده العطاء، تفد إليه الخلائق تغترف من كفيه معنى الحياة. أي أخ هو ومن مثله جامع فضائل الإيثار؟ يتسامى بعشقه لإخوته ويقدم روحه لهم فداء". كأن الوليد في مهده سمع تحاورهم: "يا نفسي من بعد الحسين هوني... خلقت لأجلك، لكي أشد أزرك، أرافقك كظلك، تحت جناحك انضوي، لواء مجدك يحويني، صمام أمانك في السلم، وضرغامك ولامة حربك في الأهوال ، أزلزل الأرض تحت الأقدام، معًا سنهزم الظلام ونزيل الطغيان، أذود عنك بنفسي، وأنقل بكفي الفرات للأيتام، وسوف أبقى أُناديك يا سيدي… حتى تفيض بين يديك أنفاسي". أُخيتي: "يا شلال الحنان المتدفق، عيناك محراب صلاتي، كلماتك بلسم على جرح الزمان، أنت الأنفاس التي تبعث فينا الحياة، بفيض علمك غذيتني، ومنك اقتبس الصبر والكبرياء. ملهمتي يا قدوة النساء، من البيت العتيق نحو كعبة الطف معي سترحلين، ترتلين لي آيات الفتح المبين، فأكون لك غمامة بيضاء، ونسمة باردة تطفئ هجير فؤادك، وقنديل يحرس أحلامك المسهدة، وإن افترقت الأرواح عن الأبدان، لن نفترق فأنت موطن روحي..." وقفت كالطود الشامخ، تنفست بعمق، ارتجفت يداها، أشاحت بعينيها نحو السماء "يا شمسي ويا قمري، سوف أهديكما قربانا للفداء... وأرتل صلاة الآيات!" زحف النهر من عينيها ولاذ به، فتدفق من جوده شلال التضحيات.
اخرى