بقلم: علي محمد عبدالحسين ابو شبع إنّ الموقف الديني لا يختلفُ مع الشعر والشعراء, إلا في بعض الأحيانِ حين يكون الشعرُ للهوِ, والاستهزاءِ, والذمِّ, وغير ذلك، ففي هذه الحالة ينتقدُ الدين الشعر, عندما يصلُ إلى غايةِ الهمجية. وقد أنزل الله (سبحانه وتعالى) آيةً يذمُّ فيها الشعراء في قوله (تعالى): ﴿وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ﴾[الشعراء 224_226]. نزلت هذه الآياتُ الثلاث واصفةً الشعراءِ بالغواة، وهذا الوصفُ تحوّل الآن إلى الفنِّ والفنانين بعد الشعرِ والشعراء؛ فهناك جماعاتٌ من الناس يشترون لهوَ الحديث؛ ليصرفوا الناس عن الأعمال الجادة للدنيا والدين، يعبدون الجماهير وتعبدهم الجماهير؛ فكلهم عابدٌ معبودٌ أو معبودٌ عابدٌ. وأما ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ فهي استفهامُ تقريرٍ وقدحٍ للرؤية, وأنّها ظاهرةٌ فاحشٌ أمرُها, وقدحٌ في وصفِ الشعراء وسوء طبعهم. وقد ذكر المطعني في (التفسير البلاغي): ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ "إنّ هذه الرؤية علمية؛ لأنّ موضوعُ الرؤيا أحوالٌ لأدواتِ الشعر، وأحوالُهم المقررُ بها لا تُدرك بحاسةِ البصر, بل بعضها يُدرك بالسمع، وبعضها بالعقل، فغلّب ما يُدرك بالفكر على ما يُدركُ عن طريق السمع، وهو عباراتهم وألفاظهم وجمعهم بين فنون القول". إنّ هؤلاء الشعراء يتحركون في عالمِ الخيال يبحثون عن العيش, واللذّة, والغزل, والتحريف, حتى في كتاب الله العزيز. كما هو الحال بالنسبة لبعض شعراء هذا العصر ممن يغيرون لفظ الجلالة (الله) ويضعون مكانه اسمًا لغير الله (سبحانه وتعالى) فيدخلون بالشرك، ومن أمثلة ذلك قيامُ أحدِ الشعراء بتغيير اسم الله (سبحانه وتعالى) ووضعِ اسمٍ لشخصٍ من أهل البيت(عليهم السلام)، حين ذكَرَه على لسان زوجة المعصوم في القصيدة قائلًا: (قُلْ هُوَ الأكبر أَحَدٌ) بدلًا من ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾[الإخلاص\1]. وهذا التغييرُ فاحشٌ وفادحٌ لا يتوافقُ مع الدينِ مطلقًا سواءٌ في الشعر الفصيح والشعبي. وقد ذكر الشيرازي في (الأمثل) أنّ هذه المجموعة من الشعراء المعاصرين والسابقين "غارقون في أخيلتهم وتشبيهاتهم الشعرية, حتى أنّ القوافي تجرّهم إلى هذا الاتجاه وغير ذلك, ويهيمون معها وفي كلِّ وادٍ، وهم غالبًا ليسوا أصحابَ منطقٍ واستدلال, وأشعارهم تنبعُ ممّا تهيجُ به عواطفهم وقرائحهم ... وهذه العواطف تسوقُهم في كلِّ آنٍ من وادٍ لآخر! فحين يرضون على أحدٍ يمدحونه ويرفعونه إلى أوجِ السماء وإنْ كان حقُّه أنْ يكون في أسفلِ السافلين، ويلبسونه ثوبَ الملاكِ الجميل وإنْ كان شيطانًا لعينًا" وذكر الشيرازي أيضًا عن شعراء السوء: "ومتى سخطوا على أحدٍ هجوه هجوًا مرًا وأنزلوه في شعرهم إلى أسفل السافلين, وإنْ كان موجودًا سماوّيًا. ترى هل يشبه محتوى القرآن الدقيق المنطلقات الشعرية أو الفكرية للشعراء وخاصة شعراء ذلك العصر، الذين لم تكن منطلقاتهم إلا وصف الخمر والجمال والعشق والمدح لقبائلهم وهجو أعدائهم... ثم إن الشعراء عادة هم رجال خطابة وجماهير لا أبطال قتال، وكذلك أصحاب أقوال لا أعمال، لذلك فإن الآية التالية تضيف فتقول عنهم: ﴿وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ﴾(الشعراء\226) مما تقدّم من الأوصاف التي ذكرها القرآن الكريم عن الشعراء, يُمكن أنْ يُقال بأنّ القرآن وصفهم بثلاثِ علامات: الأولى: أنّهم يتبعهم الغاوون الضالون, ويفرّون من الواقع, ويلجؤون إلى الخيال. وأما الثانية: أنّهم رجالٌ لا هدف لهم, متقلبون فكريًا, وواقعون تحت تأثير العواطف! والثالثة: أنّهم يقولون مالا يفعلون، وحتى في المجال الواقعي لا يُطبِّقون كلامهم على أنفسهم. وقد وصف الدكتور رمضان محسن في كتابه (الفنون الشعرية غير المعربة) هذه النماذج من الشعراء بالرعاع وغير ذلك. ولكن القرآن الكريم قد استثنى الشعراء المخلصين نحو قوله (تعالى): ﴿إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً﴾[الشعراء 227], فاستثنى هذه المجموعة من الشعراء المخلصين الذين يهدفون لصالحِ الأعمال والأقوال، ويوجهون شعرهم وفصاحتهم نحو الحقِّ والصدقِ. ومن أجل أنْ لا يضيعَ حقُّ هؤلاء الشعراء المؤمنين المخلصين الصادقين, استثناهم عن بقيةِ الشعراء فذكر عنهم الآية التي ذكرناها آنفًا. وذكر الشيرازي في (الأمثل) "أن هؤلاء المستثنين من الشعراء لم يكنْ هدفهم الشعر فحسب، بل يهدفون في شعرهم أهدافًا إلهيةً وإنسانيةً، ولا يغرقون في الأشعار فيغفلون عن ذكر الله، بل كما يقول القرآن: وذكروا الله كثيرا. وأشعارهم تُذكِّر الناس بالله أيضًا، وإذا ما ظلموا كان شعرهم انتصارًا للحق وانتصروا من بعدما ظلموا. فإذا هجوا جماعة هجوهم من أجلِ الحقِّ ودفاعًا عن الحقِّ الذي يهجوه أولئك فيذبون عنه". أمثالُ الشعراء الذين واكبوا النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) والأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) كحسان بن ثابت وغيره. وبعد استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) يوم الطفّ، فإنّ أكثرَ الشعراء قد توجّهوا بشعرهم نحو مصيبتِه (عليه السلام) والمصائب الأُخرى، مصوّرين في شعرهم ما حدث في تلك الواقعة، ويُثيرون الحزن والألم والبكاء في قلوبِ مُحبّي أهل البيت(عليهم السلام). وعندما تعرّض الوطن العربي للاحتلال تغيّرت وتعدّدت اللهجات بعدما كان الكلام كُلُّه فصيحًا, اختلفت اتجاهات الشعراء فمنهم من توجّه إلى الشعر الفصيح كما كان, ومنهم إلى الشعر الشعبي (العامي)، ومنهم إلى كليهما، ومهما كان التوجّه فلا نجد اختلافًا في علاقة الدين بالشعر. وقد لوحظ في بعضِ المواقع الإلكترونية التي تهدفُ إلى تعليمِ الشعر والرواديد تجمعُ علماءِ الدين والشعراء وغيرهم, حتى أنّ بعض العلماء عندما يتكلمون على المنابر الحسينية يذكرون شيئًا ما عن الشعراء، أمثالِ الدكتور المرحوم الشيخ أحمد الوائلي (ت2003هـ)، حيث قال في إحدى محاضراته: (أعرفُ تاجرًا ثريًا قد مات ولم يمشِ وراء جنازتِه إلا ثلاثةُ رجالٍ)، وبعد ذلك ذكر أحدَ شعراءِ النجفِ الأشرف الشعبيين وهو متأثرٌ به إذ قال: (بينما عبد الحسين أبو شبع رجلٌ فقيرٌ ماديًا، ولا يملك شيئًا قد ازدحمَ الناسُ في تشييعِ جنازته...). إنّ هذا لدليلٌ على أنّ علاقة الدين بالأدبِ ليست متنافرةً؛ لذلك تجد أنّ بعض الخطباء بعد إكمالِ محاضراته يُلقي قصيدةً لشاعرٍ على الجمهور، مما يعني أنّ الموقفَ الديني من الشعر والشعراء جيدٌ، وبخاصةٍ إذا ما كان توجُهُ الشعرِ إلى القضايا الدينية والأدبية والاجتماعية العامة، وهو ما نجدُ تجلياتِه في كثيرٍ من الكتب الدينية والأدبية.
اخرى