الشبهة: صلح الإمام الحسن (عليه السلام) مع معاوية وإنهاء الخلاف الذي كان بينهما.. دليل على أن الخلاف كان بين أسرتين متناحرتين، وهو دليل واضح على أن سياسة أهل البيت تجاه الصحابة ليست سياسة معادية كما يدعي الشيعة. ويمكن الرد على هذه الشبهة وتفنيدها من خلال: أولاً: لم يكن الامام الحسن (عليه السلام) راغباً في صلح معاوية بل كان عازماً على قتاله. ثانياً: صلح الامام (عليه السلام) ما كان إلا نتيجة للظروف غير المناسبة للحرب. ثالثاً: عدم دلالة الصلح على صفو العلاقة بين المتصالحين وإنهاء العداء بينهما. رابعاً: لم يدعِ الشيعة أن سياسة أهل البيت (عليهم السلام) معادية للصحابة بشكل عام. وفيما يأتي نذكر كل جهة من هذه الجهات بشيء من التوضيح: أولاً: عزم الامام الحسن (عليه السلام) على القتال وعدم رغبته بالصلح لولا الظروف. بتصفح خاطف لسيرة الامام الحسن (عليه السلام) بعد استشهاد الإمام علي (عليه السلام) تستوقفنا العديد من القرائن والشواهد التاريخية التي تدل بوضوح على عزمه (عليه السلام)على قتال معاوية وتؤكد تصميمه على استكمال خطة أبيه (عليه السلام) في محاربة البغاة، منها: 1 ـ فرضُ الامام الحسن (عليه السلام) على المبايعين عند بيعته عهداً (بأن يحاربوا من حارب ويسالموا من سالم) دليلٌ على عزمه على القتال. وهذا ما استنتجه المبايعون أنفسهم كما جاء في الكامل في التاريخ: (وكان الحسن يشترط عليهم أنكم مطيعون تسالمون من سالمت وتحاربون من حاربت فارتابوا بذلك وقالوا ما هذا لكم بصاحب وما يريد هذا إلا القتال)(1)؛ ولذا فقد توجس المتخاذلون خيفة من العهد الذي فرضه عليهم، وعلموا أنه عازم على الحرب!. 2 ـ دعم المقاتلين ودفعهم للتأهب للقتال تنقل لنا كتب التاريخ ان أول عمل قام به بعد بيعته هو زيادته المقاتلة مائة مائة، مما يدل على حرصه على ترغيبهم في القتال وتشجيعهم على محاربة البغاة، وإلا فمن يرغب بالصلح وينأى عن الحرب لا مصلحة له بتاتاً في ذلك. 3 ـ اهتمام الامام الحسن (عليه السلام) الكبير بالحفاظ على وحدة مقاتليه، وعدم تهاونه تجاه من يحاول شق صفهم، إنما يشير الى حرصه على القتال. وقد تجسد ذلك في قتله الجاسوسين الذين دسّهما معاوية في البصرة والكوفة كجاسوسين ينقلان له الاخبار وكمخربين يبثا سموم الفرقة بين المقاتلين ويثبطا من عزيمتهم. 4 ـ تهديده لمعاوية بالحرب فقد كتب الإمام الحسن (عليه السلام) كتاباً جاء فيه: «وإنما حملني على الكتاب إليك الإعذار فيما بيني وبين الله عز وجلّ في أمرك ولك في ذلك إن فعلت الحظ الجسيم والصلاح للمسلمين فدع التمادي في الباطل وادخل فيما دخل الناس من بيعتي فإنك تعلم أني أحق بهذا الأمر منك وعند الله وعند كل أواب حفيظ ومن له قلب منيب واتق الله ودع البغي واحقن دماء المسلمين فوالله ما لك خير في أن تلقي الله من دمائهم بأكثر مما أنت لاقيه به وادخل في السلم والطاعة ولا تنازع الأمر أهله ومن هو أحق به منك ليطفئ الله الثائرة بذلك ويجمع الكلمة ويصلح ذات البين وإن أنت أبيت إلا التمادي في غيك سرت إليك بالمسلمين فحاكمتك حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين»(2). 5 ـ حفاظ الامام الحسن (عليه السلام) على نسق واحد في مراسلاته لمعاوية وهو التأكيد على أحقيته بالخلافة، وأنه أهل لها شرعاً، ومطالبته لمعاوية بالكف عن منازعة الحق أهله، بالرغم من تباين خطابات معاوية بين الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، فلم يخضع لوعوده أو يمل إلى ترغيبه، كما لم يهزه وعيده ولم يخش ترهيبه. بل إنه (سلام الله عليه) كان يترفع عن الرد على مغالطاته أحياناً ويفضل عدم الجواب عنها، كما جاء في آخر مراسلاته: «أما بعد فقد وصل إلي كتابك تذكر فيه ما ذكرت فتركت جوابك خشية البغي عليك وبالله أعوذ من ذلك فاتبع الحق تعلم أني من أهله وعلي إثم أن أقول فأكذب والسلام»(3). وعندما بلغ الامام الحسن (عليه السلام) سير معاوية وأنه قد وصل جسر منبج أمر الناس والعمال بالتهيؤ لمواجهته والاستعداد لمقاتلته وأمر بتجمعهم في مسجد الكوفة وخطب فيهم قائلاً: "..أما بعد فإن الله كتب الجهاد على خلقه وسماه كرهاً ثم قال لأهل الجهاد من المؤمنين: اصبروا إن الله مع الصابرين.. فلستم أيها الناس نائلين ما تحبون إلا بالصبر على ما تكرهون. بلغني إن معاوية بلغه أنا أزمعنا على المسير إليه فتحرك لذلك، أُخرجوا رحمكم الله إلى معسكركم بالنخيلة حتى ننظر وتنظروا ونرى وتروا"(4). 6 ـ تصريحه لمعاوية أن لو آثر القتال لبدأ بقتاله قبل أي أحد من الناس، وذلك عندما تمردت طائفة من الخوارج وأعلنت العصيان في جوار الكوفة، وكان موكب الامام الحسن (عليه السلام) لم يتجاوزها كثيراً، فأرسل إليه معاوية أن ارجع وقاتلها فأبى أن يرجع وكتب إليه « لو آثرت أن أقاتل أحداً من أهل القبلة لبدأت بقتالك قبل أي أحد من الناس»(5).ثانياً: صلح الامام (عليه السلام) ما كان إلا نتيجة للظروف غير المناسبة للحرب. ليس القائد المحنك هو من يلج ساحات الحروب كيفما اتفق، أو تقوده رغبته في القضاء على أعدائه إليها وإن لم تكن الظروف مواتية، فإن القائد إن قاد جيشه تحت ظروف غير مناسبة لم يعد قائداً بل يضحى مقوداً حيث قد يجبر على الاستسلام بلا قيود، أو الرضوخ دون شروط، وهو ما تجنبه الامام (عليه السلام)، وإنما القائد من هو من يجيد فهم جيشه ويشخص أسقام رعيته ويعالج أدوائهم. وقد شخص الامام (عليه السلام) ما كان يعانيه المسلمون في مرحلته، وهو ابتلائهم بمرض الشك، حيث خلفت الحروب مع الناكثين والقاسطين والمارقين ووقوف وجوه بارزة من صحابة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) مع المخالفين أوضاعاً نفسية مشككة في صفوف الموالين للإمام علي (عليه السلام)، وقد زادها عمقاً انتقال الحكم إلى الامام الحسن (عليه السلام) مما رجح انطباعاً خطيراً لدى الناس مفاده أن المعركة ليست إلا عداء متجذر بين عائلتي (بني هاشم وبني أمية) وليست بين الإسلام وقوى البغي!، أو بين الحق والباطل!. لاسيما إن حكم معاوية قد اكتسب شرعيته في واقعة التحكيم في صفين. وقد أخذ داء تشكيكهم في أحقية الامام الحسن (عليه السلام) مأخذه منهم حتى تخاذلوا وفسدت نياتهم، وتجسدت بما كانوا يكيلون عليه من السب والتكفير له واستحلال دمه ونهب أمواله، علاوة على الكتب التي كتبها بعضهم الى معاوية يضمنون له فيها الفتك بإمامهم وتسليمه مقيداً اليه، بحيث لم يبق معه من يأمن غوائله إلا الخاصة من شيعة أبيه. فتيقن الامام (عليه السلام) أنه لم يدرك جوهر المعركة بعد سوى بعض أصحابه، فآثر أن يمنحهم بعض الوقت ليدركوا الحقيقة، وقد أثمر رأيه (سلام الله عليه) فعلاً عندما انكشف لهم خداع معاوية وانفضح إسلامه القشري وتجلت لهم الحقيقة واضحةً وأدركوا طبيعة العداء بين الهاشميين والأمويين فكتبوا الى أخيه أن أقدم الينا....؛ لأنهم قد أدركوا فعلا أن الحرب كانت حرباً بين الحق والباطل، بين الاسلام واللا إسلام، لا أنها مجرد حرب لعداء تجذر بين عائلتين تروم كل منهما الثأر والانتقام من الأخرى، أو مصلحية تحاول كل منهما جهدها لتعيد أمجادها. والى جانب ما كان يعاني منه جيش الامام (عليه السلام) من تشكيك، فإن سم كذب وافتراء معاوية قد سرى في بعضهم، فيما أفقد بريق دنانيره لب بعضهم الآخر . ومن كذب معاوية أن بث بين صفوف الجيش أن الامام (عليه السلام) يراه أهلا للخلافة، فرد الامام (عليه السلام) على ذلك قائلاً :«وأن معاوية زعم لكم أنني رأيته للخلافة أهلاً ولم أر نفسي لها أهلاً فكذب معاوية نحن أولى الناس بالناس في كتاب الله (عز وجل) وعلى لسان نبيه ولم نزل أهل البيت مظلومين منذ قبض الله نبيه»(6). ولعل أكثر كذبة أثرت في جيش الامام (عليه السلام) وشقته الى نصفين كتاب معاوية الذي أرسله الى عبيد الله بن عباس قائد جيش الامام (عليه السلام): «إن الحسن راسلني في الصلح وهو مسلم الأمر إليّ فإن دخلت في طاعتي الآن كنت متبوعاً وإلا دخلت وأنت تابع ولكن إن أجبتني الآن أنا أعطيك ألف ألف درهم أُعجّل لك في هذا الوقت نصفها وإذا دخلتُ الكوفة النصف الآخر». فانسلّ عبيد الله بن العباس إلى جيش معاوية ومعه بضعة آلاف من جيش الحسن (هكذا قيل، وللبعض فيه نظر وتأمل) وأما النصف الآخر فقد أعلن عن رغبته في الحياة وعدم رغبته بالحرب عندما خطب به الامام الحسن (عليه السلام) فحمد الله وأثنى عليه وقال: «إنا والله ما يثنينا شك في أهل الشام ولا ندم وإنما كنا نقاتل أهل الشام بالسلامة والصبر فشيبت السلامة بالعداوة والصبر بالجزع وكنتم في مسيركم إلى صفين ودينكم أمام دنياكم وأصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم ألا وقد أصبحتم بين قتيلين قتيل بصفين تبكون له وقتيل بالنهروان تطلبون ثأره وأما الباقي فخاذل وأما الباكي فثائر ألا وإن معاوية دعانا لأمر ليس فيه عز ولا نصفة فإن أردتم الموت رددناه عليه وحاكمناه إلى الله عز وجل بظبي السيوف وإن أردتم الحياة قبلناه وأخذنا لكم الرضى». فناداه الناس من كل جانب البُقيَة! البُقيَة..(7) أ فهل بهذا الجيش المتهالك عقيدياً والمتخاذل نفسياً يخوض الامام (عليه السلام) غمار الحرب مع جيش قد رباه معاوية على الطاعة العمياء، ورسخ فيه أنه على حق فأقدم على الحرب بكل عزم موطناً نفسه على الفداء؟!ثالثاً: عدم دلالة الصلح على صفو العلاقة بين المتصالحين وإنهاء العداء بينهما. بالإضافة الى ما تقدم فإن الصلح بين الجهتين المتعاديتين أو الجيشين المتقاتلين لا يعني إنهاء العداء بينهما البتة، وإنما يعني إيقاف الحرب بينهما ليس إلا، كما لا يدل على صفو العلاقة بينهما من باب أولى. وإلا فهل أنهى صلح الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله) العداء مع الكفار الذين صالحهم؟ أم دل بشكل أو بآخر على صفاء علاقته بهم؟ وقد أوضح الامام الحسن (عليه السلام) هذه الحقيقة، بل وصرّح بكفر معاوية وأصحابه، فكيف يمكن الادعاء بأنه قد أنهى عداءه معهم؟ وذلك عندما سأله أحد أصحابه «يا ابن رسول الله لم هادنت معاوية وصالحته وقد علمت أن الحق لك دونه وأن معاوية ضال باغ؟ فأجابه: يا أبا سعيد ألست حجة الله تعالى على خلقه وإماما عليهم بعد أبي؟ قال: بلى. قال ألست الذي قال رسول الله لي ولأخي الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا؟ قال بلى. قال فأنا إمام لو قمت وأنا إمام لو قعدت، يا أبا سعيد علة مصالحتي لمعاوية علة مصالحة رسول الله لبني ضمرة وبني أشجع ولأهل مكة حين انصرف من الحديبية أولئك كفار بالتنزيل ومعاوية وأصحابه كفار بالتأويل»(8). من كل ما تقدم يتضح جلياً بأن الامام الحسن (عليه السلام) لم يقبل الصلح مع معاوية لأجل إنهاء العداء بين الهاشميين والأمويين كما تصور الشبهة ، بل لأجل حقن دماء جيشه الذي غزت جسده الأسقام من كل جانب، من تشكيك الى طمع الى ضعف وهوان، فأحالته الى جيش متهالك متخاذل. رابعاً: لم يدعِ الشيعة أن سياسة أهل البيت (عليهم السلام) معادية للصحابة بشكل عام. فقد كان العديد من الصحابة الأجلاء مع الحق يوالون الإمام علي (عليه السلام) كسلمان المحمدي وأبي ذر (رضوان الله عليهم)، بل وبعضهم قاتل مع الامام علي (عليه السلام) كعمار بن ياسر (رضوان الله عليه) الذي استشهد في معركة صفين ضد الفئة الباغية معاوية وأصحابه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الكامل لإبن الأثير ج3:ص742. (2) شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديدج16:ص227. (3) مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصفهاني ص39. (4) المصدر الأسبق، نفس الجزء ص231. (5) الكامل لابن الأثير ج3: 177. (6) الأمالي للطوسي ج2:ص146. (7) بحار الانوار للمجلسي ج75:ص107 (8) علل الشرائع للصدوق ج1:ص297
اخرىيتباين الناس فيما بينهم في شخصياتهم وفي مواقفهم ، فبينما تجد تلميذاً ينكبّ على كتابه يلتهم معلوماته التهاماً متعطشاً الى العلم والمعرفة، يجد لذته في زيادة علمه، تجد تلميذاً آخر لا يحتمل القراءة ولو لمدة وجيزة. وبينما تجد شخصاً يواجه مصاعب الحياة ويتغلب على مشاكلها مهما بدت عسيرة، تجد شخصاً آخر ينكسر عند أدنى المواقف صعوبة . وبينما تجد شخصاً لا يكلّ ولا يملّ من المحاولة لبلوغ هدفه مهما فشل، تجد آخر يستسلم عند أول فشل . ومما لا شك فيه أن هذا التباين بين الشخصيات هو الذي يفصل ويميز الشخصيات الناجحة عن سواها. ولكن ترى ما سبب هذا التباين أساساً؟ وما الذي تسبب في هذا الاختلاف؟ أ هو التباين الفسيولوجي؟ قطعاً لا، فإن جسم العالم لا يختلف عن جسم الجاهل ، كما إن أعضاء الناجح بشكل عام لا تزيد قوةً على أعضاء الفاشل، وهكذا ... إذن ما السبب؟! أ هو الظروف الخارجية كما يحلو للبعض أن يودعها قفص الاتهام عند كل كبوة وتعثر؟ قطعاً لا، فهناك الكثير من القصص التي تؤكد نجاح البعض رغم صعوبة الظروف وفشل آخرين رغم توفر كل ظروف التفوق وأسباب النجاح... إذن ما السبب؟ السبب يكمن في داخل الانسان، إنه شيء ينبع من باطنه ويدفعه الى تحقيق النجاح ويشده الى تحويل الأحلام الى واقع، وبلوغ الطموحات رغم كل المصاعب والمتاعب والتحديات .. إنها الإرادة القوية والعزيمة الأكيدة .. والإرادة هي القدرة على التصميم لبلوغ الهدف، والإصرار على تحقيق النجاح، والصمود في وجه الصعوبات من أجل ذلك.. ويتميز ذو الإرادة القوية بأنه لا يستسلم أبداً للفشل ولا يُقلع عن حلمه ولا ييأس من تحقيقه، فهو إما أن يحقق هدفه أو يغادر الحياة وهو يحاول ذلك.. والإرادة أمر فطري مغروس في نفس الانسان، فترى الطفل منذ ساعاته الأولى عندما يفتح فمه باحثاً عن الغذاء، فإنه لا ييأس أو يتوقف عن المحاولة إن لم يحصل عليه بل يحاول ويحاول. وما إن يقطع أشهراً معدودة حتى يبدأ بمحاولة الوقوف على قدميه، وعلى الرغم من كثرة سقوطه وما يتكبده من آلام وصعوبات، إلا أنه يبقى يحاول ويحاول حتى ينجح في ذلك... ولأن التكامل مطلب فطري، فإنه لا يتوقف عند إنجازه الوقوفَ على قدميه بل يبقى محاولاً الى أن يتمكن من المشي ومن ثم الركض وهكذا.. ومن الملاحظ أن الناس سواسية تقريباً في تحقيقهم لهذه النجاحات، مما يدل على أن مستوى الإرادة واحد عند جميعهم... إلا أن مستوى هذه الارادة قد يرتفع أو ينخفض تبعاً لتفكير كل إنسان وتجاربه، وبما لُقِن عليه منذ نعومة أظفاره، وما غُرس في صفحة نفسه وما طُبع في عقله الباطن... وعليه فإن قوة الإرادة أو ضعفها ليست صفة تكوينية أصيلة، وإنما هي صفة كسبية ثانوية... بل يمكن القول: إن الارادة كالعضلات تماماً، الجميع يمتلكها، لكنها تختلف قوة وضعفا تبعاً لاهتمام الانسان بتدريبها وتقويتها أو عدمه .. ومن هنا كان للمواقف التي يمر بها الانسان والظروف التي يعيشها دور كبير في صقلها وتقويتها أو العكس. ومن نعم الله (تعالى) علينا أنْ منّ علينا بدورة تدريبية عامة لجميع المسلمين -إلا من خرج بدليل خاص من المعذورين- وشاملة لمختلف التدريبات التي تعمل على تقوية الارادة وتنمية العزم والتصميم ، وتوطين النفس على الصبر وعلى قساوة الظروف والثبات عند المصاعب، وتبعث فيها الارادة القوية على مواجهة الإغراءات .. وقد اكتشف بعض علماء النفس أن تغيير العادات السيئة وغرس العادات الحسنة في النفس تتطلب مدة واحد وعشرين يوماً بشكل عام، ولكن قد يتطلب بعض الناس أكثر من ذلك بأيام، ومن رحمة الله (تعالى) بعباده أنْ جعل هذه الدورة التدريبية تمتد لشهر وهي المدة التي يتمكن فيها جميع الناس من ذلك شريطة أن يلتزموا بشروط الدورة. وما تلك الدورة إلا وجوب أداء الصوم في شهر رمضان المبارك، فالصوم خير عبادة تلزمنا بالامتناع عما اعتادت عليه أنفسنا من عادات يومية مباحة كالأكل والشرب مثلاً، ليكون علينا رفض العادات المحرمة أسهل، فما أن يمر وقت ما على تناول الطعام حتى تخلو المعدة منه، ويبدأ الجسم بإرسال إشعارات الى العقل بأني أطلب الطعام، متوقعاً منه أن يرسل إيعازاته الى الجوارح بالتحرك لتحقيق ذلك كما هي عادته. إلا أنه يُفاجأ بإيعاز الإرادة: أن لا طعام! ولا يمضي الكثير من الوقت حتى يشعر الجسم هذه المرة بالعطش الشديد... هذه المرة يبدأ برفع طلب الإسعاف الفوري لرفعه... ويأتيه جواب الإرادة مرة أخرى وبصورة قاطعة: أيضاً لا! إن الصوم يدرب أنفسنا على التعالي عن الشهوات، بالرغم من حليتها، ليسهل عليها فيما بعد التعالي عن المحرمات منها.. ومن مميزات هذه الدورة التدريبية (صوم شهر رمضان): تحديدها بزمن معين لا يقبل التأخير ولا التقديم ولا الزيادة فضلاً عن النقيصة ، الأمر الذي يغرس في النفس القدرة على التكيّف مع ما تكره، والتخلي عما تحب وترغب، والقوة على مواجهة الظروف القاسية والصبر على المصاعب. ومن مميزاتها أيضاً: أنها تدعو الى نبذ الخمول والكسل، وضرورة الاتسام بالحركة والنشاط والعمل، لما تتضمنه من أحكام، كالحكم ببطلان الصوم في حال تعمد البقاء على الجنابة ــ على تفصيل يذكر في الكتب الفقهية ــ. فمهما كان المؤمن مرهقاً أو متكاسلاً أو راغباً في الخلود الى النوم، فإن صوت إرادته القوية لابد أن يدوّي في باطنه ويقضّ مضجعه، رافضاً كل الأعذار، متجاوزاً كل تلك العراقيل، متغلباً على كل الصعوبات، امتثالاً لحكم رب السموات. ومما تتفرد به هذه الدورة التدريبية: أنها تصقل إرادة الانسان صقلاً لتمنح قوتها صلابة وقوة، فتحكم على الإنسان بوجوب مواصلة نية الصوم منذ الفجر وحتى الغروب، دونما أي تردد يساوره، أو تراجع يراوده أو فقدان للتصميم على الصوم يعتريه ولو للحظة من لحظات النهار، وإلا فإن صومه يُحكم عليه بالبطلان وإن لم يأتِ بأي أمر من المفطرات. إذن، أهم ثمرة يمكن للإنسان أن يقطفها من عبادة الصوم هي تقوية الإرادة، وتنمية صمود النفس، وتوطينها على الثبات، وتعويدها على الحيوية والحركة والنشاط.
اخرىونحن إذ نشهد سرعة تعاقب الليل والنهار، وتسابق عقارب الساعة لتعلن قرب رحيل الضيف العزيز، نجد المسلمين ينقسمون إلى عدة أقسام: فمنهم من يستبشر لقرب انتهائه وقدوم العيد، ومنهم من لم يجد فارقاً بين وجوده وعدمه، ومنهم من يتألم لأنه لم يُقدم من الأعمال الصالحة والعبادات ما كان ينبغي أن يقدمه، ومنهم على خوف ووجل مخافة أن يشد هذا الشهر العظيم رحاله مودعاً ولمّا يُكتَبْ من العتقاء من النيران، أو لازال محروماً من الرحمة والغفران... إذن فلا بد لكل مؤمن أن يبتعد قليلاً عن زحمة الحياة وضجتها وصخبها، ويلجأ إلى زاويةٍ للتأمل والتفكر من أي الأصناف هو؟ فلا زال في الشهر الكريم بقية... ولا زالت الرحمات والبركات تهطل بكثرة وغزارة على من تعرض لها، ولا زال سجلّ الغفران والعتق من النيران مفتوحاً، فليبادر كل منا وخصوصاً من يشعر بالتقصير في طاعاته في هذا الشهر الكريم إلى الجد والاجتهاد في الطاعات لتسجيل اسمه قبل أن ترفع الصحف ويجف القلم. و لا يُفهَم أننا نقصد بأن الرحمة الإلهية ستُرفع، وغفران الذنوب سينتهي بعد هذا الشهر المبارك، فالله (تبارك و تعالى) سمته الرحمة وصفته العفو والمغفرة إلا أن من لم يَحظَ بالرحمة والمغفرة والبركة في شهر ضيافة الله (تعالى)، حيث الشياطين مغلولة، وبوابة البركات على مصراعيها مفتوحة، والأنفاس فيه تسبيح، والنوم فيه عبادة، و و و... فمتى تُراه يحظى بالخير؟ ومتى تُراه تُغفَر ذنوبه؟ فقد روي عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه و آله): "إن الشقي من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم" وعنه (صلى الله عليه وآله): "إن الشقي حق الشقي من خرج منه هذا الشهر ولم يغفر ذنوبه" و عنه (صلى الله عليه وآله): "فمن لم يغفر له في رمضان ففي أي شهر يغفر له؟!" وعنه (صلى الله عليه وآله) لما صعد المنبر فقال: آمين "أيها الناس إن جبرئيل استقبلني فقال: يا محمد من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له فيه فمات فأبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين" فلنستثمر ما تبقى من أيام قلائل قبل فوات الأوان... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ رضا الله غايتي
اخرى