بقلم: إيمان صاحب طالعت السماء بطرفها الحزين وشفتاها تتحرك بكلمات العتاب، لم يسمعها أحد إلا أمها الثكلى، ثم ارتفع صوتها المخنوق بالعبرة: أين ذلك الرجل الحنون؟ لماذا لم يطرق الباب ما الذي جرى له؟ ربما انشغل عني بغيري من الأيتام هم أشد فقرًا مني؟! أو يكون على سفر بعيد! ولكني أنتظر قدومه برغيف الخبز وابتسامة شفتيه كلما نظرتُ إليه. كان وجهه يشع بالنور وأنامله الرقيقة تمسح على خصلات شعري حينما يلاطفني… أه يا ربي لماذا تركني؟! التفتت إلى أمها قائلة: سوف أبحث عنه في أزقة الكوفة وبيوتها، لعلّي أجده هناك، تنهدت الأم وفي قلبها الموجوع ركام من الأحزان: بُنيتي أين تجدينه وأنت لا تعرفين حتى اسمه! ألا تذكرين كم مرة سألتِهِ عن ذلك ولم تحصلي على إجابة، سوى أنه عبد من عباد الله؟ انتظري يا مريم، لعلّه يأتي هذه الليلة… قاطعتها الصغيرة والدموع تملأ عينيها: لا استطيع البقاء أكثر من هذا، سوف أذهب الآن... استدارت نحو الباب وإذا بصوت أُمها من خلفها: انتظري سوف اتي معكِ... توقفت الصغيرة ريثما أتت أُمها، ثم ذهبتا معًا. كانت مريم تمشي مسرعة وهي لا تدري إلى أين؟ تنظر في وجوه المارة، تسأل هنا وهناك، لكن دون جدوى، وبينما هي كذلك، إذ أوقفتها قدماها عند بيت التفّ حوله جمع كبير من الناس، أقبلت على أحدهم تسأله، ما الخبر؟ أجابها بقلب منكسر: ألا تعلمين بما حصل منذ يومين ومولانا مسجىً على فراشه؟! لقد أصيب أمير المؤمنين (عليه السلام) بسيف المرادي (عليه لعنة الله والأنام)! سألته مرة أُخرى: أرجوك صف لي هذا الأمير؟ أجابها الرجل بأوصاف ليس لها نظير سوى أوصاف ذلك الرجل الكريم، حينها تيقنت أنه هو! حاولت أن تتماسك لكي لا تنهار علّها تراه، وبينما هي كذلك إذ فُتحت الباب، وإذا برجل يخرج منها، أحاط به الناس يخاطبونه: أيها الطبيب، ما حال مولانا؟ أشار بيده قائلًا: إنه ليس على مرام، ادعوا الله له بالشفاء، جرحه عميق والسم قد سرى في جميع الأعضاء! انصرف الطبيب... ضج الجميع بالبكاء والنحيب، قال بعضهم: علينا أن نحضر اللبن له ليخفّف عنه السم... وما أن سمعت ذلك مريم حتى ركضت إلى بيتها، دخلت... تلفتت يمينًا ويسارًا... لاحظت أمها أنها تبحث عن شيء لتبيعه وتشتري بثمنه قدح من لبن، ولكنها لم تدع الصغيرة في حيرتها بل اعطتها جبة قديمة كانت لأبيها وما كان من مريم إلّا أن تنطلق بها إلى السوق... نست ما بها من جوع ولكنها لم تنس أن عليها أن تسرع بقدح اللبن الذي كانت تمسكه بقوة... أقبلت على الباب... لكن فاجأها ما رأت! نساء تحث على رأسها التراب، وهي تندب وا إماماه وا علياه، وبلا شعور سقط القدح من يدها وأريق ما فيه من لبن... حينها صرخت بوجه الباب، لماذا لم ينتظرني؟ لماذا لم يشرب من يدي سيدي؟ أطعمتني بيديك كل ليلة، ولم أستطع أن أسقيك شربة واحدة... أنّا عديمة الوفاء... أنّا لا أستحق منه كل ذلك السخاء... اليوم أصبحت يتيمة وليس بالأمس... سامحني مولاي لقد تأخرت عنك ولم أعلم برحيلك... كُسر قلبي كزجاج القدح المنثور إمامي... وداعًا يا إمامي.
اخرى