بقلم: فريال ياسر الأسدي تمهيد يقفُ قلمي وقفةَ صمتٍ وخشوعٍ أمامَ مدرسةِ كربلاء، هذه المدرسةُ التي مزجها أئمتُنا بالعِبرة؛ فالحديثُ عن مدرسةِ كربلاء يعني الحديثَ عن زينب (عليها السلام)، والحديثُ عن زينب (عليها السلام) في كربلاء يعني الحديثَ عن الرسائلِ التي تحملها إلينا. ومن أروعِ تلك الرسائل هو الضبطُ النفسي الذي تحلّتْ به في مواجهةِ عنفِ السلطة، والتصرفُ بحكمةٍ وتعقلٍ فدارتِ الدوائرُ على رموزِ السلطةِ (لعنةُ الله عليهم) في مجلسهم. على حين أنّ يزيدَ مثلًا أتى بهم؛ ليذلَّهم ويكسرَ شوكتهم، ولكنّ النتائجَ أتت على غيرِ ما كانَ يتوقع، فقد قلبتْ كُلَّ الموازين وفضحتْ يزيدَ وأعوانه أمامَ الرأي العام.. *مفهومُ الضبطِ النفسي. الضبطُ لغةً: لزومُ الشيء وحبسه، وضبطُ الشيء حفظُه بالحزم، وضبطُ النفسِ اصطلاحًا: منعُها من التصرُّفِ خطأً في المواقفِ الطارئةِ والمفاجئةِ التي تتطلبُ قدرًا من الشجاعة. وهناك تعريفٌ آخر لضبطِ النفسِ فيه معانٍ جميلة، منها: (القدرةُ لضبطِ نفسِك من الداخلِ، والحكمةُ، وشيءٌ حسنٌ يُمسِكُ بك من الداخل) وإنَّ هذه القدرةَ تنبعُ من الداخل، ونفسُ معنى كلمةِ ضبطِ النفس تعني القُدرةَ على قولِ (لا) لما هو خطأ، و (نعم) لما هو صحيح. *أبعادُ ضبطِ النفس. تُعدُّ الأزماتُ المُجتمعة والضغوطُ الدائمة على مُختلفِ الأصعدة السياسية والعسكرية والنفسية وغيرها من الأسبابِ التي تجعلُ الفردَ غيرَ سويٍ نفسيًا أو سلوكيًا، بحيث يُصاب بالإحباطِ والقلقِ أو الاضطراباتِ أو يُصبح عدوانيًا أو انطوائيًا، ولكن في كثيرٍ من الأحيان تخلقُ هذه الأزمات فردًا قادرًا على التحمل، وبالتالي يشبُّ الأفرادُ وهم أكثرُ صلابةً. وهذه الصلابةُ النفسيةُ لمن مرَّ بالأزماتِ والمِحنِ ناتجةٌ من ضبطِ النفسِ في المواقفِ الطارئةِ والمُفاجئةِ التي تتطلّبُ قدرًا من الشجاعةِ والحكمة وحسن التصرف. ولضبطِ النفسِ أبعادٌ أخرى مُشابهةٌ له، ومن تلك الأبعاد المُشابهة هو كظمُ الغيظ. وكظمَ الرجلُ غيظَه إذا اجترعه وردَّه وحبَسَه، والكاظمون الغيظ يعني الحابسين غيظهم، يقول العلامة الطباطبائي في تفسير الآية الكريمة: "والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يُحِبُّ المحسنين"، لفظةُ الكظمِ في اللغةِ تعني شدَّ رأسِ القربةِ عند ملئها، فيقولُ: كظمتُ القربةَ، إذا ملأتها ماءً ثم شددت رأسَها. وقد استُعمِلت كنايةً عمّن يمتلئُ غضبًا، ولكنّه لا ينتقمُ؛ ولهذا تجعلُ الآيةُ كظمَ الغيظ الصفةَ البارزة من صفات المتقين". وعليه فإنّ الذي يضبطُ نفسَه هو الذي يكظمُ غيظَه ويحبسُه ويتميّزُ بالعقل والحكمة ويكونُ قادرًا على فعلِ ما ينبغي في الوقت الذي ينبغي. ونجدُ هناك تشابهًا بين ضبطِ النفس والحكمة، والحكمةُ: العدلُ، ورجلٌ حكيمٌ عدلٌ حكيمٌ وأحكم الأمر: أتقنه. والحكمةُ أخِذتْ من مادةِ (حَكَمَ) بمعنى المنع، وبما أنَّ العلمَ والمعرفةَ والتدبيرَ تمنعُ الإنسانَ من ارتكابِ الأعمالِ الممنوعةِ والمُحرّمةِ؛ فلذا يُقالُ عنها إنّها حكمة. وضبطُ النفسِ هو أيضًا الصبرُ والتقوى، يقولُ اللهُ (عزّ وجل) في كتابه الحكيم: "وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُور"؛ لذلك يُعرَفُ الصبرُ بأنّه حبسُ النفسِ على ما يقتضيه العقلُ والشرعُ، ويضاده العجز. ولو لم يصبرِ الإنسانُ لما تكامل؛ لأنّ الصبرَ يحتوي على العزيمةِ والإرادةِ والوعي والتحمّلِ لأجلِ الله (تعالى). وقيمةُ الصبرِ تكمنُ في احتمالِ المكارهِ من غير جزعٍ ومواجهةِ المكارهِ التي قد تصعبُ على الإنسانِ لكنّ صبرَه يكونُ هو العكّاز الذي يتكئ عليه. ومواجهةُ الصعابِ مع الصبرِ يؤثرُ على حالةِ الإنسانِ النفسيّة. والصابرُ يكونُ في أعلى قممِ الصحةِ النفسية حينما يشعرُ بأنّ اللهَ (تعالى) يُعوِّضه عن صبرِه بالحُبِّ واللطفِ؛ فلا شقاءَ مع حُبِّ الله (تعالى) له، ولا قيمةَ لشيءٍ أمامَه وهو داخلٌ في دائرةِ الحُبِّ الإلهي؛ فلا تأثيرَ للابتلاءِ الذي يواجهه. يتبع إن شاء الله تعالى..
اخرىبقلم: فريال الأسدي اختارت له أمُّهُ في ساعةِ الولادة اسمًا مميزًا كأنّها كانتْ تعرفُ الدورَ الذي سيكونُ لوليدِها، دورٌ ثوريٌ في أروعِ قصةٍ ستحدثُ على رمالِ كربلاء، دورٌ فائقٌ يختصُّ به وحده، ولكنّه يُعبِّرُ عن أدوارِنا جميعًا في مواجهةِ الحياة. تتلملمُ ذراتُ رمالِ صحراء كربلاء تحتَ حوافرِ فرسِ الوليد الذي كبُرَ وحيدًا، بين أمّتين يسمعُ صوتَ أمير هذا الجانب يصيحُ بعسكر يزيد: "يا خيل الله اركبي"، ومن الجانبِ الآخر يسمعُ صوتَ إمام! تسألُ إحدى ذراتِ الرمل: هل تعرِفْنَ هذا الإمام؟! تقدَّمتْ إحداهُن وقالت: هو الإمامُ الحسينُ بن علي تساءلتْ أخرى: ماذا يقولُ الإمام؟! قالت ذرةُ الرمل: إنّه يطرحُ على الإنسانِ سؤالًا مُنادياً به: هل من ناصرٍ ينصرني؟ تلملمتْ ذراتُ رمالِ كربلاء بعد أن تطايرت تحت حوافرِ فرسِ الوليد الذي كبُرَ لتسأل إحداهُن الأخرى: هل تعرفين فارسَ هذا الفرس؟ أجابتْ ذراتُ الرملِ الأخرى: لا نعرفه عادتْ إحدى الذراتِ وتساءلت: لماذا يبدو على وجهه الحيرة والتردد؟ قالت أخرى: انصتي واسمعي صوتَ أفكاره! سادَ الصمتُ لحظاتٍ، قطعت إحدى ذراتِ الرملِ هذا الصمتَ قائلةً: "أيُّها الفارسُ لا حيلةَ لكَ إلا أنْ تختار، أما أنْ تلتحقَ بخيلِ الله وتُشعلَ النارَ في مُخيّمٍ خالٍ من القيود، مخيم الحرية والولاية، وأما أن تلتحقَ وتُحلِّقَ إلى روحِ الجنة وريحانِها، وتنطلقَ من ظلمةِ الظلمِ وتُلبّي دعوةَ الحق. تجمعتْ ذراتُ الرملِ مرةً أخرى مُحدقةً بوجهِ الوليد الذي كبُر، إنّه يُحقِّقُ ويتأملُ في نفسِه، ميدانُ كربلاء لا زال هادئًا، ولكنّ حربًا تشتعلُ في صدرِه تحرقُ أعماقَ روحه. قالت ذرةُ الرمل: هل سيهاجر؟! قالت أخرى: وهل هناك هجرة؟ ومن أين وإلى أين سيهاجرُ هذا الفارس؟! قالت ذرةُ الرمل: إنّه سوف يُهاجرُ من الجهلِ إلى العلم، ومن الحضيض إلى أسمى مقامٍ إنساني، هي الشهادة. تلملمتْ ذراتُ الرملِ وصِحنَ بصوتٍ واحدٍ تحتَ حوافرِ فرس الوليد الذي كبُرَ قائلةً: سوف يُهاجرُ هجرةً مسافتها ما بين أصنامِ الشركِ ومدينةِ الشهادة. انتصفَ النهارُ، تحرَّكَ الفرسُ ليقطعَ المسافة من الشيطان إلى الله (تعالى)، تلملمتْ مُجددًا ذراتُ الرملِ لتنظرَ إلى ذلك الوليد الذي كَبُرَ؛ لتسمعَ صدى صوته: إنّي أنا الحُرُّ.. وها أنا ماضٍ إلى الشهادة.. صاحتْ ذراتُ الرملِ مُجتمعةً: إنّه الحُرُّ صاحبُ الاسمِ المُميز، وظلّتْ تُراقبُ الأحداث، أمرَ أميرُ عسكرِ يزيد بإطلاقِ سهمٍ على مُعسكرِ الحُسين (عليه السلام)، وصاحَ بصوتٍ عالٍ: اشهدوا لي عندَ الأمير إنّي أولُ من رمى. قالت ذرةُ الرملِ: لقد سقط، شدَّتْ عليه جماعةٌ من عسكرِ يزيد فصرعته، سقط! قالت ذرةُ رملٍ أخرى: انظرنَ، ها هو الإمامُ الحُسينُ (عليه السلام) يأتي إليه.. يمسحُ الدم والتراب عن وجهه ويتحدثُ معه.. قالت ذرةُ الرمل: اسمعنَ يقولُ له: أنتَ الحُرُّ كما سمّوك حُرًا، حُرٌ في الدنيا، وحُرٌ في الآخرة.. أنشدتْ ذراتُ الرملِ مع الإمام الحسين (عليه السلام) باكياتٍ: لنعمَ الحُرُّ حُرُّ بني الرياح ونعمَ الحُرُّ عندَ مُختلفِ الرماح ونعمَ الحُرُّ إذ نادى حُسينًا فجادَ بنفسِه عندَ الصياح
اخرىبقلم: فريال ياسر الأسدي إنَّ الحجابَ هو أحدُ أهمِّ المسائلِ الإسلاميةِ المهمة، وعلى الرغم من ذلك فإنَّ حاله في المُجتمعاتِ الإسلامية يدعو إلى الحسرة والتأسف؛ فقد بدأت نسبةٌ ليست قليلةً بالتخلّي عنه، إمّا بخلعِه وهذا هو السفور، أو بلبسِ حجابِ الموضة وهذا هو السفور المقنع الذي كَثُرَ للأسف! من أسبابِ التراجعِ في الحجابِ هو الغزو الثقافي الذي طرحَ مجموعةً من الحُججِ الواهيةِ، ويُسلط هذا المقالُ الضوءَ على مسألةِ الحجاب، وبيانِ فلسفةِ تلك المسألة؛ لأنّ عدمَ توضيحِ وإدراكِ الفلسفة الحقيقية لكثيرٍ من الأحكامِ الإسلامية من أكثرِ الأسبابِ التي سببتِ العديدَ من الأمراضِ التي أصابتْ مجتمعاتنا الإسلامية. ولكي يتحصنَ المجتمعُ الإسلامي من مُخططات الغزو الثقافي في مسألةِ الحجابِ عليه أنْ يعرفَ فلسفته، وأدلته، والهدف منه بشكلٍ مدروس ودقيق. وبعد طرحِ الجانب النظري يجبُ علينا طرحُ القدوة العملية، ويتمُّ ذلك من خلالِ طرحِ الشخصية الأنموذج والمواقف التي مرّت بها؛ فالمواقفُ التي تمرُّ بها الشخصيةُ الأنموذج هي مواقفُ حيةٌ وواقعيةٌ، لا يُمكِنُ أنْ نُدرِكَها إلا بالدخولِ في عمقها، ولو عرفتِ المرأةُ المعاصرةُ اليومَ الصورةَ الحقيقيةَ لتلكَ المواقفِ التي مرّت بها السيدة زينب (عليها السلام) مثلًا؛ لأدركت كنه المرأة المثالية. 1ـ المعنى اللغوي والاصطلاحي للحجاب الحجابُ: هو الحاجزُ عن تلاقي الطرفين جسمًا أو نظرًا. واصطلاحًا: هو كُلّ ما يسترُ المطلوب، يقولُ الشهيدُ مطهري: "استعمالُ الحجابِ للمرأةِ مصطلحٌ جديدٌ نسبيًا، أما في مصطلحِ الفقهاءِ القدامى فقد كانتْ كلمةُ (الستر) هي المُستعملةُ بمعنى الحجاب اليوم، فهم يستعملون في كتابِ الصلاةِ والنكاحِ ـ اللذين يتناولان هذا الموضوع ـ كلمةَ السترِ بدلَ الحجاب" 2ـ تاريخُ الحجاب يحكي لنا التاريخُ أنَّ الحجابَ كان موجودًا في بعضِ الحضاراتِ الإنسانية المعروفة، فالآشوريون مثلًا كانوا يُميّزون بينَ السيّدةِ الحُرَّةِ والجاريةِ الوصيفة التي تعملُ ضِمنَ حاشيةِ الملكة، حيثُ يقولُ أبو ديَّة: "النسوةُ الأحرار كُنَّ يرتدينَ عباءَةً تُسفِرُ عن الوجهِ فقط وذلك عند الخروج إلى الشارع، فيما فُرِضَ على الإماءِ السفورُ لتميّزهن عن النسوةِ من الحرائر". وفي الحضارةِ اليونانية كانَ الحجابُ مثلَ القناعِ الذي يُغطِّي كُلَّ الوجهِ ماعدا العينين، ويصفُ ديكاريش حجابَ نساءِ طيبة وهي مدينةٌ من مُدُنِ اليونان قائلًا: "إنّهن كُنَّ يلبسنَ ثوبَهن حولَ وجهِهن بطريقةٍ يبدو معها هذا الأخير وكأنّه غُطيَ بقناعٍ، فلم يكنْ يُرى منهن سوى العينين" وفيما يتعلقُ بالحجابِ عندَ اليهود فقد كانوا مُتشددين على المرأةِ في ذلك، يقولُ الشهيدُ مطهري: "إذا خالفت امرأةٌ شريعةَ اليهود، كأنْ تخرجُ بين الناس مكشوفةَ الرأس، أو تغزلُ في الشارع العام ... في تلك الحالاتِ لزوجِها أنْ يُطلقها بغيرِ أنْ يدفع َلها مهرًا". وفي الديانةِ المسيحيةِ كان هناكَ عقابٌ لمن لا تُغطّي رأسَها في أثناءِ الصلاة وهذا ما ورد ذكرُه في رسالةِ بولس الأولى: "وكُلُّ امرأةٍ تُصلّي أو تتنبأ ورأسُها مكشوفٌ فإنّها تُشينُ رأسَها؛ لأنّها تكونُ كما لو حُلقَ شعرُها، إنّ المرأةَ إذا لم تتعظ فليُقص شعرها". وجاء في التاريخ أنَّ السُننَ الحنيفية التي كانت لعبدِ المطلب في دارِ الندوة أنَّ البنتَ إذا بلغتْ مبلغَ النساء أتوا بها إليه فيُلبِسها الخمارَ، وكان وجهُها مكشوفًا وأحيانًا تُسدِلُ خمارَها على كتفيها فيظهرُ صدرها". إذن الحجابُ كانَ معروفًا في الحضاراتِ القديمة مع التفاوتِ بين المُجتمعاتِ والقبائل، ولم يظهرْ بظهورِ الإسلامِ، وهذا الأمرُ يدفعُنا للتساؤلِ: كيف عرفت تلك المجتمعات الحجابَ والستر؟ وهل هذا الأمرُ مجبولٌ عليه الإنسان بفطرته؟ وهل إنَّ دوافعَ تلك المُجتمعاتِ في الحجاب هي نفسُها دوافعُ الدين الإسلامي؟ وهذا ما سوف نتطرق إليه في المطلبِ التالي، وهو الحجاب والفطرة.
اخرى