تشغيل الوضع الليلي

هونًا ما

منذ 5 سنوات عدد المشاهدات : 3214

بقلم: رضا الله غايتي
ما أن نطالع صفحات الكون حتى تدعونا الكثير من أجزائها إلى التأمل والاستغراب. فلا نجد أنفسنا إلا أن نردد سبحان الله.. سبحان الله.. وبكل إعجاب.
فهناك شمسٌ قد أضاءت كل ما حولها، وتمركزت وكأنها ملكةٌ قد أحيطت بجوارٍ علمت كل منهن حدودها فلم تعتدِها.
ومنهن الأرض فقد التزمت موقعها المناسب. ولو اقتربت لتحول كل ما عليها إلى رماد. ولو ابتعدت لصار كل ذلك إلى انجماد.
وهناك قمرٌ قد زيّن الله تعالى به السماء. فغدا في نظر البشر آيةً للجمال ومضربًا للأمثال في البهاء. ولكن ما اقترب منه أحدٌ إلا وتغيّرت صورته في نظره إذ لم يجد فيه سوى الحجر والمدر ومسافات فارغة توحش النظر. وما الابتعاد عنه أكثر من المعتاد بالخيار الأفضل. إذ يغيب جماله وينطفأ نوره بل ويمحى من صفحة البصر..
وبذا يمكننا القول: إن كتاب الله التكويني لا نقرأ فيه قدرته جل وعلا العظيمة وهندسته سبحانه الحكيمة وحسب، بل هو كذلك محطةٌ لاستلهام الدروس والعبر. إذ إنّ هناك مسافات بين أجزائه وجب حفظها؛ ولذا أوجد الباري جل وعلا لكلٍ منها مسارًا. وهناك حدودٌ وجب عدم اختراقها وإلا لكانت العاقبة هي الدمار. فالمسافات بين أفراد المجتمع هي الأخرى مطلوب حفظها ولابد أن يضع كل فرد منهم لها اعتبار.
وهذا ما يؤكده مستشارو العلاقات الاجتماعية اليوم وخبراء الاتصال. داعين كل فرد من أفراد المجتمع إلى ضرورة ترك مسافة أمان بينه وبين الآخرين إدامةً لعمر العلاقات، وصونًا لها من الصدمات. وقد أكَّد هذا المفهومَ عالِم الاتصال الإنساني (إدوارد هول) بقوله: إنَّ إدراك المسافة والمحافظة عليها مسألة مُهمة لإبقاء الودِّ والاحترام المتبادل في العلاقاتِ ما بين الأشخاص. ونفقِد علاقتَنا بالآخرينَ عندما نخطئ في احتساب تلك المسافة.
وقد سبق أمير المؤمنين وسيد الموحدين الإمام علي عليه السلام كل أولئك العلماء في الدعوة إلى هذا القانون بما روي عنه أنه قال: "أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْناً مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْماً مَا وَأَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْناً مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يَوْماً مَا"(1).
فهو عليه الصلاة والسلام حبيب القلوب وطبيبها وعالمٌ بمنافذ الألم ومسببات الحزن والأسى لها، فما أقسى أن يصبح الحبيب غريبًا و الصديق عدوا وما أقسى العكس أيضًا. كما أنه سلام الله عليه خبيرٌ بالعلاقات الاجتماعية وما يصلحها، عالمٌ بمداخل الشر إليها وما يفسدها. ولذا فقد دعا الانسان إلى تحرّي الاعتدال في كلٍ من المودة والبغضة، والحب والكره. فلا يُحب حبًا جمًا ولا يبغض بغضًا شديدًا وإنما يحاول أن ينتهج في حياته سبيلًا وسطيًا، يمهده بشيءٍ من الهون أي الرفق واللين والتأني فلا يكون أملس صقيلًا يودي به إلى مزالق مهلكة، ولا وعرًا خطيرًا يعرضه إلى مخاطر ومصاعب منهكة.
وقد علل صلوات الله وسلامه عليه سبب دعوته إلى ذلك، إذ قد يصبح الحبيب عدوًا وقد يصير العدو حبيبًا. فكم من شخصٍ قد بولغ في محبته وآخر قد أفرِط في عداوته، ولكن ما أن عصفت رياح التجارب وادلهمت الخطوب، وهطلت أمطار المكاره واُظلِمَت الدروب، حتى بانت للبعض محاسن ولآخرين عيوب، فتغيّرت الأحوال وانقلبت المواضع وتبدّلت المحال. فأُميط اللثام عمّن حُسِب حبيبًا وبانَ مكره وعداؤه، وكُشِف الغمام عمّن حُسِب عدوًّا فجاد بدفئه وضيائه!!
وأما الأسباب في تبدل الأحبة والأعداء إلى أضدادهم فمختلفة أبرزها تأثر بعضهم بالعوامل الخارجية والظروف المحيطة. فقد يغتر بمنصبٍ أو مالٍ أو شهرةٍ وما إلى ذلك من كأن يُعرف بالخير والسداد. فيتحول بين ليلةٍ وضحاها إلى مروّجٍ للشر والفساد. وقد يحصل العكس فيعقب الشقاءَ إسعادٌ. روي عنه عليه السلام: "في تقلب الاحوال علم جواهر الرجال"(2).
كما قد يطرأ التغيّر على الحبيب فيعود عدوا لا لشيء، فقط لأنه قد مُنِح من الحب أكثر مما يستحق. فكما لا يصح ري النبات بالماء إلا بما يناسبه من مقدار، فإن أكثرتَ تسببّتً في ذبوله وايذائه، فكذا إن أكثرت من الحب لمن لا يستحق تكون قد تسببّت في إعراضه وجفائه.
وقد يعود سبب التغير إلى الاحتكاك الدائم والتضييق على الحبيب بسبب غريزة حب التملك مما يؤدي إلى الملل والزهد به. قال بعض الحكماء: توقَّ الإفراط في المحبة فإن الإفراط فيها داعٍ إلى التقصير منها، وقال عدي بن زيد:
ولا تأمنن من مبغضٍ قرب داره *** ولا من محبٍ أن يملَ فيبعدا
وقد لا يكون التغيُّر حقيقيًا وإنما ظاهريًا ليس إلا. ويحدث ذلك بسبب الجهل بحقائق الآخرين الذي ينتج عنه الخطأ في التشخيص. والحكم عليهم بكونهم أحبةً تجب التضحية لأجلهم أو أعداءً لا بد من النأي عنهم من دون تمحيص. فتُرسم عنهم صورة ذهنية في غاية القبح أو في منتهى الجمال. فإن تبددت حجب الجهل بهم ادُعيَ تغير الحال!
والتعبير بلفظة (هونًا ما) تعبيرٌ غايةٌ في الدقة والإتقان، ولا غرو في ذلك وقد صدرت عن أمير البلاغة والبيان. فهي تدل على الابهام المطلق إشارةً إلى أن هناك درجات متفاوتة ينبغي مراعاة ترتيب الأحبة والأعداء كلٌ في الدرجة التي يستحقها. فربّ حبيبٍ يكفي الاقتصار معه فقط على إفشاء السلام والتلطف بالكلام. ورب عدوّ ينبغي معاملته بالاحترام والتغافل عن مساوئه؛ تحرزًا من أذاه ودفعًا لمكائده.
ختامًا لكي يهنأ الانسان في عيشه ويسعد بمختلف العلاقات الاجتماعية من دون آلامٍ ومنغصات. عليه أن يضع قول الإمام علي عليه السلام نصب عينيه، متقنًا وبدقةٍ: فنَّ المسافات. فلا يُلغي المسافة تمامًا ويقتحم خصوصيات الطرف الآخر ويضرب حصارًا عاطفيًا عليه بدعوى الحب لئلا يخسره فيتألم ألمًا عظيمًا. ولا يعمد إلى قطع جميع جسور التواصل فيخسر الكثير بدعوى البغض، فإن تبين خطؤه اتخذ من الندم نديمًا. بل لابد أن يمنح لكل شخص ما يستحق من المشاعر بلا مغالاة ولا تطفيف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) نهج البلاغة حكمة رقم 268
(2) الكافي ج8 ص32

اخترنا لكم

المراسلةُ مع الجنسِ الآخر ومراحلُها

بقلم: عليّ سعدون الغزيّ رُبَّما نغفل عن أنَّ المحادثةَ مع الجنسِ الآخر تسيرُ بشكلٍ تدريجيّ إلى أشياء غير مقصودة، بل ومرفوضة لنا. ومنشأُ غفلتِنا هو ثقتُنا بأنفسِنا بأنَّنا لا نقعُ في شراكِ الآخر، أو شراكِ الشيطان، وأنَّ حديثَنا مع الجنسِ المُختلفِ عنّا هو حديثٌ في ضمنِ الحدودِ الضروريّة. وفي الحقيقةِ: الثقةُ بالنفس بهذا المستوى أمرٌ جيد، لكنَّهُ لا يُمكن أنْ يُشكِّلَ لك حصانةً، أو عصمةً من أنْ تقعَ في المحذورِ لا سَمَحَ الله (تعالى). وهنا نريدُ أنْ نُبيِّنَ للقارئ مراحلَ مُهمّةً عليه أنْ يحذرها، ويرى نفسَه في أيِّ واحدةٍ منها؛ ليتخذَ الموقفَ المناسبَ لها، وهي: الأوَّلى: مرحلةُ الإعجاب، حينما تطّلِعُ على كمالاتِ المقابل تُعجبُ بها، ويبقى ذلك بحدّ الإعجاب. وهو أمرٌ لا مانعَ منه؛ إذْ من طبعِ النفس الإنسانيّة أنْ تنفعلَ وتتفاعلَ مع الكمال. الثانية: الانجذاب، بعد الإعجاب قد تتطوّرُ الحالةُ الإحساسيّة تجاه الآخر، وتتحوّل إلى الانجذاب ونحوه. وتظهرُ هذه المرحلةُ حينما تجدُ من نفسِك الرغبةَ في الاطلاعِ على خصوصياتِ الآخر، وما هي شؤونه الشخصيّة، والأُسريّة، والمعيشيّة، وما إلى ذلك، كما تجد من نفسِك الرغبة في أنْ تُعرّفه على خصوصياتِك تلك. وهنا ينبغي أنْ تلتفتَ لنفسك؛ لأنَّك بدأتَ أوَّلَ مراحلِ الوقوعِ في شراكِ المقابل، وعليك أنْ تُقلِّلَ من مراسلتِه إلى حدِّ الضرورة القصوى - إنْ كانت هناك ضرورة -، وإلّا فيلزم قطع العلاقةِ به؛ لأنَّها بدأتْ تخرجُ شيئًا فشيئًا إلى دائرةِ إبليس. الثالثة: التعلُّق، وهي مرحلةُ الدخولِ في حُبِّ المقابلِ بشكلٍ صريح، وبدأت تسمحُ للشيطان في أنْ يُسدّدَ لك ضربةً قاسيةً لك ولدينك، وهو من سيختار وقتَها وشكلَها. هنا لا تمتلكُ حلًّا سوى غلقِ هذا الباب كُلّيًا. وإلّا فإنَّك إنْ أبقيتَ عليه مفتوحًا بإرادتك، فإنَّهُ لا يكون بيدِك غلقَه.

القضايا الاجتماعية
منذ 3 سنوات
408

بصمةٌ سجّادية

بقلم: أم حوراء النداف "إلهي رضًا بقضائك، وتسليمًا لأمرك، لا معبود لي سواك" قد يتساءلُ البعضُ عن الحكمةِ من اصطحابِ الإمامِ السجاد (عليه السلام) إلى كربلاء مع ما يُعانيه من المرض، فلماذا لم يبقَ في المدينةِ مع سائرِ المعذورين من الالتحاقِ بركبِ سيّدِ الشهداءِ الإمامِ الحسين (عليه السلام)، أمثال عبدِ الله بن جعفر ومحمد بن الحنفية! أليست مجازفةً بحياةِ إمامِ معصوم؟! والحالُ أنَّ الأمامَ الحسين كان مُتيقنًا من الشهادةِ على يدِ بني أمية، وقد أخبرَ عن ذلك غير مرّة، ومثال ذلك ما قاله في خطبتِه الأخيرة قبل الخروجِ من مكة: "ألا ومن كان باذلًا فينا مُهجتَه، موطِّنًا على الموتِ نفسَه فليلتحقْ بركبنا.." مما لا شكَّ فيه أنَّ الإمامَ الحسينَ كان صاحبَ مشروعٍ إصلاحي إلهي هدفُه تقويمُ الاعوجاجِ الذي طرأ على مسارِ الأمّةِ الإسلاميةِ بعدَ وفاةِ رسولِ الله (صلى الله عليه وآله)، فكما اختارَ اللهُ رسولَه النبيَّ الخاتم (صلى الله عليه وآله) بشيرًا ونذيرًا، اختارَ الإمامَ الحسين (عليه السلام) مصباحَ هدايةٍ، لا يخبو ضياؤه، على مدى العصور بمدادِ دمِه الطاهر. انطلاقًا من هذا المبدأ عملَ الإمامُ الحسينُ على توفيرِ كافةِ العناصرِ اللازمةِ لإنجاحِ مشروعِه الرسالي، وكانَ وجودُ الإمامِ السجّاد أحدُ تلك العناصر الارتكازية التي سعى أهلُ البيت (عليهم السلام) لحفظِه وصيانتِه من أيدي الغدرِ والبطشِ الأُموي، فما هي الأدوارُ التي لعبَها الإمامُ (عليه السلام) في القضيةِ الحسينية؟ أولًا: رغمَ أنَّ السيّدةَ زينبَ (عليها السلام) قد تكفّلتْ برعايةِ النساءِ والأطفالِ إلا أنّها وحتى اللحظاتِ الأخيرةِ من حياةِ الإمامِ الحسين (عليه السلام)، وقبلَ خروجِه الأخير إلى المعركة، كانت تتلقى التوجيهَ من الإمامِ المعصوم، فكان (سلام الله عليه) كُلّما لاحظَ الحزنَ أو القلقَ في عينيها شدَّ إزرَها بكلماتِه الإيمانية: "أُخية تعزّي بعزاءِ الله، لا يذهبنّ بحلمِك الشيطان، اعلمي أنّ أهلَ الأرضِ يموتون وأهلَ السماءِ لا يبقون..."، وسواها من الكلماتِ التي تقوّي عزيمةَ السيّدةِ زينب (عليها السلام) في ظروفِ المحنة. وبعدَ استشهادِ الإمامِ الحسين (عليه السلام) كان لابُدّ للإمامِ السجّاد (عليه السلام) أنْ يتولى زمامَ الأمورِ وقيادةَ القافلةِ النبوية، وإن لم يكُ الأمرُ ظاهرًا. وهنالك عدّةُ شواهدَ تدلُّ على ذلك، كسؤالِ السيّدةِ زينب الإمامَ السجّاد (عليهما السلام) عن التكليف الشرعي حين بدأ الأعداءُ بحرقِ الخيام بعد استشهادِ أخيها (عليه السلام)، فقال لها: عمّة، فرّوا على وجوهكم في البيداء. فالدورُ الريادي للسيّدةِ زينب لا يخلو من توجيهِ إمامِ زمانِها وحجةِ اللهِ على أرضه. ثانيًا: التصدّي لإرادةِ الشرِّ الأموي الرامية إلى حرفِ الحقائقِ وتزييفِ الوقائع ونسبةِ الخروجِ عن الدين لشهداءِ الطف، فكانتْ خطبةُ الإمامِ في مجلسِ يزيد تحديدًا كفيلةً بفضحِ جريمةِ آل أمية، وذلك عندما عرّفهم بنفسه قائلًا: "أنا ابنُ مكةَ ومنى، أنا ابنُ زمزمَ والصفا، أنا ابنُ من حُمِلَ على البراق في الهوا،....." فأرجعَ الناسَ إلى حقيقةِ رسالةِ التوحيدِ المُحمّدي الأصيل، ومن هم المعنيون بحملِها بعدَ رسولِ الله (صلى الله عليه وآله)، بعيدًا عن أوهامِ الصراعِ على السلطةِ والحكم. ثالثًا: كان الإمامُ السجّاد (عليه السلام) شاهدَ حقٍ على واقعةِ الطفِّ، ولم يكن أحدٌ ليجرؤَ على تكذيبِ روايتِه. رابعًا: إنّ وجودَ الإمامِ (عليه السلام) في ساحةِ مُقارعةِ الظُلمِ هو بمقتضى وظيفتهِ الشرعية كإمامٍ للأمّةِ، فمن واجبِه إلقاءُ الحُجّةِ عليهم وإزالةُ الغشاوةِ عن أعينِهم، وحينئذٍ "فمن اهتدى فإنّما يهتدي لنفسه ومن يضلُّ فعليها". طبعًا لا يُمكننا الإحاطةُ بمجملِ الأسبابِ، فمشيئةُ اللهِ (تعالى) اقتضت، وأهلُ البيت (عليهم السلام) سلّموا وفوّضوا أمرَهم للحقِّ (سبحانه)، نصرةً لدينِه الحنيفِ وإعلاءً لرايةِ: لا إلهَ إلا الله، محمدٌ رسولُ الله. لرُبما لا زالَ الأذانُ في الجامعِ الأموي عندما ينطلقُ يرتدُّ إليه صدى تكبير الإمامِ السجّاد (عليه السلام) وتهليلُه المُبارك.. فالسلامُ عليه يومَ ولِدَ، ويومَ استُشهِدَ، ويومَ يُبعَثُ حيًا..

اخرى
منذ 3 سنوات
215

الفناء العقائدي

بقلم: أم مصطفى الكعبي إنَّ المتعرضَ لواقعةِ الطفِّ الأليمة ولشخصية الإمام الحسين (سلام الله عليه) يلمسُ أروعَ صورِ التضحية لأجل العقيدة والإخلاص لها وتحمُّلِ مسؤوليتها، وأنّ النبلَ والكمالَ الأخلاقي لقائدها يحمل جاذبيةً يُكسِبُها قوةً وجدانيةً عاطفيةً متوقدةً. فالمُتعرِّضُ لمعرفتِه وجزئيات تعامله قولًا وفعلًا مع المناصرين والمعادين، والصغير والكبير، والأسود والأبيض، والرجال والنساء يجد أنه كان في أعلى مراتبِ السموِ والرفعة؛ وأنّ أولَ بذرةٍ تُزرَعُ في قلبه هو حُبُّ الحسين (عليه السلام)، هذا البطلُ الهُمامُ والقائدُ الفذُّ، وصاحبُ القوةِ والقدرة والإرادةِ الصلبة في تحقيقِ هدفه على طريقِ الفناءِ في الحقِّ المحض. يقول (عليه السلام): "إنّ الحلم زينة، والوفاء مروّة، والصلة نعمة،.."، وهو المُنوِّرُ للعقول (عليه السلام) يقول: "مِن دَلائِل عَلاماتِ القَبولِ الجُلوسُ إلى أهلِ العقول، ومِن علاماتِ أسبابِ الجَهل المُمَارَاة لِغَير أهلِ الكفر، وَمِن دَلائلِ العَالِم انتقَادُه لِحَديثِه، وَعِلمه بِحقَائق فُنون النظَر". وهو الناصحُ إلى تركِ صفاتِ الضعفِ والشر، حيثُ يقول: "والاستكبار صلفٌ، والعجلةُ سفهٌ، والسفهُ ضعفٌ، والغلو ورطةٌ، ومجالسةُ أهلِ الدناءةِ شرٌ، ومجالسةُ أهلِ الفسقِ ريبةٌ". وهو الواعظ (عليه السلام)، إذ يقول: "يَا هَذا، كُفَّ عَن الغِيبة، فَإنَّها إِدَامَ كِلاب النار". وتكلّم رجلٌ عندَه (عليه السلام) فقال: "إنّ المعروف إذا أُسدِي إلى غيرِ أهله ضَاع"، فقال (عليه السلام): "ليس كذلك، ولكن تكونُ الصنيعةُ مثل وابلِ المطر تصيبُ البرّ والفاجر". وهو العزةُ والقدوةُ للأحرار، إذ يقول: "موتٌ في عِزٍّ خَيرٌ مِن حَياةٍ في ذُلٍّ". وهو ملهمُ العرفان والعبودية لله، يقول (عليه السلام): "البُكَاءُ مِن خَشيةِ اللهِ نَجاةٌ مِن النار". وكلما تزيدُ معرفةُ المريدِ والساعي نحو الملهم، ازداد حبًا وشوقًا وشجونًا واقترابًا ونورًا، وكيف لا، وهو حبيبُ حبيبِ مالكِ الملك العظيم، تجلّت اسماؤهُ وعظمُت آلاؤه. وكيف لا، وهو المعطي لله تعالى غاية ما عنده، فهو يريدُ الله (تعالى)، ويريدُ أن يحققَ شرعَ اللهِ تعالى ونهجه، وغايةَ ما أُرسِلَ لأجلهِ الرسلُ والأنبياءُ، فهو وراثُ الأنبياء، ألا نقول في الزيارة: "السلام عليك يا وراث آدم صفوة الله، السلام عليك يا وارث نوح". فهو وراثهم؛ لأنّه مُحقِّقُ هدف الأنبياء (عليهم السلام)، وهو العبادةُ الخالصةُ لله وحده لا شريك له، وإقامةُ العدلِ والنهي عن الظلم وارتكاب المعاصي ما ظهر منها وما بطن؛ كونه إمامًا مفترضَ الطاعة يحملُ صفاتٍ خاصةً ومزايا خاصة، وهو الذي بوجوده تحفظُ الأرضُ، والذي لولاه لساختِ الأرضُ بأهلِها. وهو الإمامُ الذي يتوقف إيمانُ كُلِّ شخصٍ من الأشخاص على معرفته، فقد روي عنه (صلى الله عليه وآله): "من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية" وهو الإمام الذي فعلهُ حجةٌ، وقولهُ حجةٌ، وتقريره حجة. ولم يكن كلُّ ما نذكره من خصائص قد اكتسبها الإمامُ الحسينُ (عليه السلام) بعد قيامهِ وثورتهِ المباركة كما يظنُّ البعض، بل الحسينُ (عليه السلام) هو رحمةُ الله (تعالى) قبل الإسلام، قال (تعالى): "وفديناه بذبحٍ عظيم" وهو أبو عبد الله الحسين (عليه السلام)، فلولا الحسين (عليه السلام) لم يكُ إسماعيلُ أبو النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله) وهو رسولُ الرحمة ومنقذ الأمة من الغمة والضلالة. والحسين (عليه السلام) رحمةٌ للبشرية جمعاء؛ فهو لا يخصُّ الإسلامَ فقط، بل يدعو إلى كُلِّ ما يُقيمُ حقوق الإنسان التي خصّه الله (تعالى) بها دونَ جميعِ المخلوقات؛ فهو خليفةُ الله في أرضه، ومن حقِّه العيشُ بكرامةٍ، لا أنْ يتحكمَ به الطغاةُ والمُتجبّرون الذين يتخذون مال الله تعالى دولًا وعباده خولًا.. يقول الكاتب المسيحي المعروف، أنطوان بارا: "إنّ الحسين (عليه السلام) ضميرُ الأديانِ، ولولاه لاندرستْ كُلُّ الأديانِ السماوية، فالإسلامُ بدؤه مُحمّدي واستمراره حُسيني، وزينبُ (عليها السلام) هي صرخةٌ أكملتْ مسيرةَ الجهادِ والمُحافظة على الدين". فكان المُنعطف "كربلاء"، فلو لم يقمِ الحسينُ (عليه السلام) بثورته، لما تبقّى شيءٌ من التوحيدِ أساسًا، ولأصبح الدينُ الإسلاميُ الجديد مُرتبطًا بمُمارساتِ السلاطين الذين على المُجتمعِ القبولُ بهم والرضوخُ لجورهم واضطهادِهم مهما حدثَ باعتبارِهم (ولاةٌ للأمر)". ويُضيفُ بارا "إنّي أعتقدُ بأنّ الحُسينَ (عليه السلام) كان مُسيرًا في هذا الاتّجاه؛ لأنّ له وظيفةً إلهيةً مُحدّدة، كما للأنبياء وظائفُ إلهيةٌ مُحدّدةٌ، ولكن مع الأسف، فإنّه على الرُغم من أنّ الحسين (عليه السلام) شخصيةٌ مُقدّسةٌ عندكم أنتم الشيعة والمُسلمين، إلا أنّكم لم تعرفوا قدرَه وأهملتم تُراثه وثورته، إذ الواجبُ عليكم أن تعرفوا كيف تنصروا هذا الإمام العظيم". ويرى أنطوان بارا أنّ "التشيّع هو أعلى درجات الحُب الإلهي، وهو طبيعيٌ لكُلِّ من يُحبُّ آلَ البيت (عليهم السلام) من ذُرّية مُحمّد وعلي (عليهما السلام)، وهو فخرٌ للبشرية، وكُلُّ شخصٍ في هذا العالم مهما كانت ديانته فإنّه يُمكنُ أنْ يكونَ شيعيًا لعظمةِ الاقتداء بأهل البيت (عليهم السلام)، وكي يُحافظَ على جمالياتِ عقيدته". إنّ إمامَنا وحبيَبنا أبا عبد الله برفضه وقيامه وتضحيته بأعزِّ وأغلى ما يملك من الروحِ والأهلِ والأحباءِ والأصحابِ الذين قال المعصومُ عنهم: إنهم أنصارُ الله وأنصارُ رسولِ الله.. أراد أنْ يُثبِتَ للإنسانيةِ درسًا عظيمًا وهو: أنّ الحقَّ لابُدَّ أنْ ينتصر ولا يعلو على الحق شيء مهما كان الظلمُ والجبروتُ كبيرًا، ومهما طغى الطواغيتُ والفراعنةُ في كُلِّ زمانٍ ومكانٍ. وهو درسٌ للمؤمنين وللمسلمين وللإنسانية جميعًا مفادُه الحفاظُ على العقيدة والدفاعُ عنها بإحياءِ ذكراه الخالدة، فهذا الشافعي يقول: تأوّب قلبي فالفؤاد كئيب وأرّق نومي فالسهاد غريب إلى أن يقول: فمن مُبلغٌ عَنّي الحسينَ رسالةً وإن كَرِهَتْها أنفسٌ وقلوبُ ذَبيحٌ بلاَ جُرمٍ كأنَّ قميصَه صَبِيغٌ بماءِ الاَرجوان خضيب فإحياءُ ذكراهم يوجبُ الحفاظَ على عقيدتِهم التي قُتلوا من أجلها، تلك العقيدة التي يتكوّنُ جوهرُها من التفاني في سبيلِ الدينِ وعدمِ الخضوع للذُل والهوان. وهاهم شيعةُ أهل البيت (عليهم السلام) يجدّدون في كلّ يومِ عاشوراء هذا المنطق العظيم الذي يُعلِّمُ الشعوبَ والأُمم دروسًا حيويّةً من نهضتهم وثورتهم الكبرى، وهي أمانةٌ ومسؤوليةٌ عظيمة، إذ ينبغي عليهم إبراز الوجه الناصع والمتجدد، فلا يكتفون بالمنهج القديم والطرح السطحي للواقعة من حيث تسلسل الأحداث، بل لابُدّ من التعمق والبحث عن أسرارٍ معنوية وروحية عن تلك الشعلة التي في قلوب المؤمنين والتي لن تنطفئ أبدًا. وعلى كلٍ مسؤوليته، فعلى الفرد مسؤولية وعلى المجتمع مسؤولية، وبحسب الظروف، فظروف الزمان المختلفة، وظروف زماننا تختلف عن كل ما فات من الأزمنة التي مرَّ بها المؤمنون، حيث الثقافة والتطور الفكري والتقنية والمعلوماتية بشكلٍ كبيرٍ وواسعِ النطاق؛ فبإمكان المؤمنِ أنْ يبحثَ وينشرَ الدين والعقيدة الحقة، وخاصةً الثورة الحسينية الباعثة والمحركة إلى القوة والتغيير بشكلٍ مستحدثٍ ومعبرٍ أكثر مما سبق كمًا ونوعًا؛ لأنّ أعداءَ الدين والإنسانية في المقابل يتآمرون ويخططون ويتفننون في أسلحتهم وأساليبهم بدقةٍ متناهيةٍ للقضاء على العقيدة لاسيما الثورة الحسينية، وهم كما نرى لهم شباكهم، وشراكهم، ومواقعهم، وجنودهم، مستهدفين كُلَّ شرائحِ المجتمع المحمدي بكُلِّ أنواعه، نسألُ اللهَ النجاةَ من الِفتَنِ والحفاظِ على الدين والأخلاق إلى ما فيه الصلاح والخير.. الحسين (عليه السلام) بقيامهِ جسّدَ عطاءً معنويًا وروحيًا كأنه سيلٌ يهزُّ الإنسانيةَ ويوقظها من الغفلةِ والركودِ والاستسلامِ، وإنّ العقيدةَ كالشجرة لابُدَّ أن نهتمَّ بها ونحافظ عليها ولو بدمائنا وأرواحنا؛ فهي غايةٌ تقودُنا إلى أسمى الغايات وهي تحقيقُ دولةِ العدلِ الإلهي بالانتظار الواعي وبسلاحِ العلمِ والمعرفة، نسألُ اللهَ أنْ نكونَ وجميعَ المؤمنين أهلًا لذلك، وصلى الله على رسولنا محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين.

اخرى
منذ 3 سنوات
283

التعليقات

يتصدر الان

لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع

يستشهد الكثير من الناس ــ وحتى بعض المثقفين ــ بقول:" لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع فإن الخير فيها دخيل وعاشر نفساً جاعت بعد شبع فإن الخير فيها أصيل" على أنه من أقوال أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، كما يستشهدون أيضاً بقولٍ آخر ينسبونه إليه (عليه السلام) لا يبعد عن الأول من حيث المعنى:"اطلبوا الخير من بطون شبعت ثم جاعت لأن الخير فيها باق، ولا تطلبوا الخير من بطون جاعت ثم شبعت لأن الشح فيها باق"، مُسقطين المعنى على بعض المصاديق التي لم ترُق افعالها لهم، لاسيما أولئك الذين عاثوا بالأرض فساداً من الحكام والمسؤولين الفاسدين والمتسترين عل الفساد. ونحن في الوقت الذي نستنكر فيه نشر الفساد والتستر عليه ومداهنة الفاسدين نؤكد ونشدد على ضرورة تحرّي صدق الأقوال ومطابقتها للواقع وعدم مخالفتها للعقل والشرع من جهة، وضرورة التأكد من صدورها عن أمير المؤمنين أبي الأيتام والفقراء (عليه السلام) أو غيرها من المعصومين (عليهم السلام) قبل نسبتها إليهم من جهة أخرى، لذا ارتأينا مناقشة هذا القول وما شابه معناه من حيث الدلالة أولاً، ومن حيث السند ثانياً.. فأما من حيث الدلالة فإن هذين القولين يصنفان الناس الى صنفين: صنف قد سبق له أن شبع مادياً ولم يتألم جوعاً، أو يتأوه حاجةً ومن بعد شبعه جاع وافتقر، وصنف آخر قد تقلّب ليله هماً بالدين، وتضوّر نهاره ألماً من الجوع، ثم شبع واغتنى،. كما جعل القولان الخير متأصلاً في الصنف الأول دون الثاني، وبناءً على ذلك فإن معاشرة أفراد هذا الصنف هي المعاشرة المرغوبة والمحبوبة والتي تجرّ على صاحبها الخير والسعادة والسلام، بخلاف معاشرة أفراد الصنف الثاني التي لا تُحبَّذ ولا تُطلب؛ لأنها لا تجر إلى صاحبها سوى الحزن والندم والآلام... ولو تأملنا قليلاً في معنى هذين القولين لوجدناه مغايراً لمعايير القرآن الكريم بعيداً كل البعد عن روح الشريعة الاسلامية ، وعن المنطق القويم والعقل السليم ومخالفاً أيضاً لصريح التاريخ الصحيح، بل ومخالف حتى لما نسمعه من قصص من أرض الواقع أو ما نلمسه فيه من وقائع.. فأما مناقضته للقرآن الكريم فواضحة جداً، إذ إن الله (تعالى) قد أوضح فيه وبشكلٍ جلي ملاك التفاضل بين الناس، إذ قال (عز من قائل):" يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)"(1) جاعلاً التقوى مِلاكاً للتفاضل، فمن كان أتقى كان أفضل، ومن البديهي أن تكون معاشرته كذلك، والعكس صحيحٌ أيضاً. وعليه فإن من سبق حاجتُه وفقرُه شبعَه وغناه يكون هو الأفضل، وبالتالي تكون معاشرته هي الأفضل كذلك فيما لو كان تقياً بخلاف من شبع وكان غنياً ، ثم افتقر وجاع فإنه لن يكون الأفضل ومعاشرته لن تكون كذلك طالما كان بعيداً عن التقوى. وأما بُعده عن روح الشريعة الإسلامية فإن الشريعة لطالما أكدت على أن الله (سبحانه وتعالى) عادلٌ لا جور في ساحته ولا ظلمَ في سجيته، وبالتالي لا يمكن أن يُعقل إطلاقاً أن يجعل البعض فقيراً ويتسبب في دخالة الخير في نفوسهم، التي يترتب عليها نفور الناس من عشرتهم، فيما يُغني سواهم ويجعل الخير متأصلاً في نفوسهم بسبب إغنائه إياهم ليس إلا ومن ثم يتسبب في كون الخير متأصلاً في نفوسهم، وبالتالي حب الناس لعشرتهم. فإن ذلك مخالف لمقتضى العدل الإلهي لأنه ليس بعاجزٍ عن تركه ولا بمُكره على فعله، ولا محب لذلك لهواً وعبثاً (تعالى عن كل ذلك علواً كبيراً). كما إن تأصل الخير في نفوس بعض الناس ودخالته في نفوس البعض الآخر منهم بناءً على أمر خارج عن إرادتهم واختيارهم كـ(الغنى والشبع أو الجوع والفقر) إنما هو أمرٌ منافٍ لمنهج الشريعة المقدسة القائم على حرية الانسان في اختياره لسبيل الخير والرشاد أو سبيل الشر والفساد، قال (تعالى):" إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)"(2) بل إن الانسان أحياناً قد يكون فقيراً بسبب حب الله (تعالى) له، كما ورد في الحديث القدسي: "أن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى فلو أفقرته لأفسده ذلك و أن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر فلو أغنيته لأفسده ذلك"(3) وهل يمكن ان نتصور أن الخيرَ دخيلٌ فيمن يحبه الله (تعالى) أو إن معاشرته لا تجدي نفعا، أو تسبب الهم والألم؟! نعم، ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"اِحْذَرُوا صَوْلَةَ اَلْكَرِيمِ إِذَا جَاعَ وَ اَللَّئِيمِ إِذَا شَبِعَ"(4) ولا يقصد به الجوع والشبع المتعارف عليه لدى الناس، وإنما المراد منه: احذروا صولة الكريم إذا اُمتُهِن، واحذروا صولة اللئيم إذا أكرم، وفي هذا المعنى ورد عنه (عليه السلام) أيضاً: "احذروا سطوة الكريم إذا وضع و سورة اللئيم إذا رفع"(5) وأما العقل السليم والمنطق القويم فإنهما يقتضيان أن تتأصل صفة الخير في الإنسان لملكاتٍ حميدة يتسم بها وصفات فضيلة يتميز بها، لا أن تتأصل صفة الخير في نفسه لمجرد أنه ولد في أسرة تتمتع بالرفاهية الاقتصادية ووجد في بيئة تتنعم بالثروات المادية! وعند مراجعتنا للتاريخ الصحيح نجد أن قادة البشر وصفوة الناس إنما كان أغلبهم ينتمي الى الطبقات الفقيرة من المجتمع، فهؤلاء الأنبياء ورسل الله (صلوات الله عليهم) منهم من كان نجاراً أو خياطاً أو راعياً، ومع ذلك فقد كانوا من أطيب الناس خلقاً، وأعظمهم شرفاً، وأرفعهم منزلةً، قد تأصّل الخير في نفوسهم تأصّلاً حتى غدوا قطعة منه، فكانوا هم الخير للبشر، وهم الرحمة للعالمين. وبالنزول إلى أرض الواقع نجد أن الكثير من الفقراء والمساكين طيبي الروح، كريمي النفس، يتألمون لألم المحتاج ولربما يؤثرونه على أنفسهم رغم حاجتهم. ولا نقصد من كلامنا هذا أن الأغنياء هم على نقيض ذلك، وإنما تأكيداً على مسألة عدم ارتباط تأصل الخير في النفوس وعدمه بمستواهم الاقتصادي الذي نشأوا فيه ارتباط العلة والمعلول، فكما إن بعض الفقراء أخيار، فإن بعض الأغنياء كذلك، والعكس صحيح أيضاً. ومن هنا يُفهم من بعض الروايات ضرورة عدم طلب الخير والحاجات ممن هم أهل للخير بقطع النظر عن مستواهم المعاشي الحالي والسابق، منها ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"أشد من الموت طلب الحاجة من غير أهلها"(5)، وعنه (عليه السلام) أيضاً: "فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غير أهلها"(6) إذن فلا صحة لهاتين المقولتين من حيث الدلالة، حتى وإن تنزلنا وحملنا الجوع والشبع على المعنى المعنوي لا المادي؛ وذلك لأنه حتى من يفتقر الى الأخلاق المعنوية فإنه ما إن يتكامل بالفضائل ويقلع عن الرذائل حتى يتسم بالخير وتحسن عشرته وتطيب للناس صحبته، والعكس صحيحٌ أيضا.. ومن البديهي أن ما لا يوافق العقل والمنطق السليم، ويخالف صريح القرآن الكريم، لا يمكن أن يصدر من وصي الرسول الكريم (صلوات الله عليهما وآلهما)، وعليه لا تصح نسبة هذين القولين الى أمير المؤمنين (عليه السلام).. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الحجرات 13 (2) الانسان 3 (3) عوالي الآلي ج2 ص29 (4) غرر الحكم ج1 227 (5) المدر السابق ج1 ص246 (6) ميزان الحكمة ج4 ص 238 رضا الله غايتي

اخرى
منذ 5 سنوات
70200

بين طيبة القلب وحماقة السلوك...

خلق الله الأشياء كلها في الحياة ضمن موازين وقياسات... فالزيادة أو النقيصة تسبب المشاكل فيها. وهكذا حياتنا وأفعالنا وعواطفنا لا بد أن تكون ضمن موازين دقيقة، وليست خالية منها، فالزيادة والنقيصة تسبب لنا المشاكل. ومحور كلامنا عن الطيبة فما هي؟ الطيبة: هي من الصفات والأخلاق الحميدة، التي يمتاز صاحبها بنقاء الصدر والسريرة، وحُبّ الآخرين، والبعد عن إضمار الشر، أو الأحقاد والخبث، كما أنّ الطيبة تدفع الإنسان إلى أرقى معاني الإنسانية، وأكثرها شفافية؛ كالتسامح، والإخلاص، لكن رغم رُقي هذه الكلمة، إلا أنها إذا خرجت عن حدودها المعقولة ووصلت حد المبالغة فإنها ستعطي نتائج سلبية على صاحبها، كل شيء في الحياة يجب أن يكون موزوناً ومعتدلاً، بما في ذلك المحبة التي هي ناتجة عن طيبة الإنسان، وحسن خلقه، فيجب أن تتعامل مع الآخرين في حدود المعقول، وعندما تبغضهم كذلك وفق حدود المعقول، ولا يجوز المبالغة في كلا الأمرين، فهناك شعرة بين الطيبة وحماقة السلوك... هذه الشعرة هي (منطق العقل). الإنسان الذي يتحكم بعاطفته قليلاً، ويحكّم عقله فهذا ليس دليلاً على عدم طيبته... بالعكس... هذا طيب عاقل... عكس الطيب الأحمق... الذي لا يفكر بعاقبة أو نتيجة سلوكه ويندفع بشكل عاطفي أو يمنح ثقة لطرف معين غريب أو قريب... والمبررات التي يحاول إقناع نفسه بها عندما تقع المشاكل أنه صاحب قلب طيب. الطيبة لا تلغي دور العقل... إنما العكس هو الصحيح، فهي تحكيم العقل بالوقت المناسب واتخاذ القرار الحكيم الذي يدل على اتزان العقل، ومهما كان القرار ظاهراً يحمل القسوة أحياناً لكنه تترتب عليه فوائد مستقبلية حتمية... وأطيب ما يكون الإنسان عندما يدفع الضرر عن نفسه وعن الآخرين قبل أن ينفعهم. هل الطيبة تصلح في جميع الأوقات أم في أوقات محددة؟ الطيبة كأنها غطاء أثناء الشتاء يكون مرغوباً فيه، لكنه اثناء الصيف لا رغبة فيه أبداً.. لهذا يجب أن تكون الطيبة بحسب الظروف الموضوعية... فالطيبة حالة تعكس التأثر بالواقع لهذا يجب أن تكون الطيبة متغيرة حسب الظروف والأشخاص، قد يحدث أن تعمي الطيبة الزائدة صاحبها عن رؤيته لحقيقة مجرى الأمور، أو عدم رؤيته الحقيقة بأكملها، من باب حسن ظنه بالآخرين، واعتقاده أن جميع الناس مثله، لا يمتلكون إلا الصفاء والصدق والمحبة، ماي دفعهم بالمقابل إلى استغلاله، وخداعه في كثير من الأحيان، فمساعدة المحتاج الحقيقي تعتبر طيبة، لكن لو كان المدّعي للحاجة كاذباً فهو مستغل. لهذا علينا قبل أن نستخدم الطيبة أن نقدم عقولنا قبل عواطفنا، فالعاطفة تعتمد على الإحساس لكن العقل أقوى منها، لأنه ميزان يزن الأشياء رغم أن للقلب ألماً أشد من ألم العقل، فالقلب يكشف عن نفسه من خلال دقاته لكن العقل لا يكشف عن نفسه لأنه يحكم بصمت، فالطيبة يمكن أن تكون مقياساً لمعرفة الأقوى: العاطفة أو العقل، فالطيّب يكون قلبه ضعيفاً ترهقه الضربات في أي حدث، ويكون المرء حينها عاطفياً وليس طيباً، لكن صاحب العقل القوي يكون طيباً أكثر من كونه عاطفياً. هل الطيبة تؤذي صاحبها وتسبب عدم الاحترام لمشاعره؟ إن الطيبة المتوازنة المتفقة مع العقل لا تؤذي صاحبها لأن مفهوم طيبة القلب هو حب الخير للغير وعدم الإضرار بالغير، وعدم العمل ضد مصلحة الغير، ومسامحة من أخطأ بحقه بقدر معقول ومساعدة المحتاج ... وغيرها كثير. أما الثقة العمياء بالآخرين وعدم حساب نية المقابل وغيرها فهذه ليست طيبة، بل قد تكون -مع كامل الاحترام للجميع- غباءً أو حماقة وسلوكاً غير عقلاني ولا يمت للعقل بصلة. إن المشكلة تقع عند الإنسان الطيب عندما يرى أن الناس كلهم طيبون، ثم إذا واجهه موقف منهم أو لحق به أذى من ظلم أو استغلال لطيبته، تُغلق الدنيا في وجهه، فيبدأ وهو يرى الناس الطيبين قد رحلوا من مجتمعه، وأن الخير انعدم، وتحصل له أزمة نفسية أو يتعرض للأمراض، لأن الطيّب يقدم الإحسان للناس بكل ما يستطيع فعله، ويقدّم ذلك بحسن نية وبراءة منه، فهو بالتالي ينتظر منهم الرد بالشكر أو المعاملة باللطف على الأقل... صحيح أن المعروف لوجه الله، ولكن من باب: من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق، لذلك يتأذى عندما يصدر فعل من الشخص الذي كان يعامله بكل طيب وصدق. هل الطيبة والصدق من علامات ضعف الشخصية؟ الكثير من الناس يصف طيب القلب بأنه ضعيف الشخصية، لأنه يتصف بعدم الانتقام ممن ظلمه، والصفح عنه عند رجوعه عن الخطأ، وأنه لا يحب إيقاع الآخرين بالمشاكل؛ لأنه مقتنع أن الله سيأخذ له حقه. والحقيقة هي أن الصدق والطيبة وحسن الظن بالآخرين ليست ضعف شخصية، بل هي من الأخلاق الراقية وهي تزيد صاحبها سمواً وجمالاً روحياً، وليس من المعيب أن يمتلك الإنسان الطيبة بل العيب في من لا يُقدّر هذه الطيبة ويعطيها حقها في التعامل بالمثل. فالمشكلة الأساسية ليست في الطيبة، إنما في استغلال الآخرين لهذه الطيبة، نتيجة لعدم عقلنة قراراتنا والاعتماد على عواطفنا بشكل كلي. فالصدق والطيبة حسب المنطق والعقل، ولها فوائد جمة للنفس ولعموم أفراد المجتمع، فهي تحصين للشخص عن المعاصي، وزيادة لصلة الإنسان بربه، وتهذيب للنفس والشعور بالراحة النفسية، فالصادق الطيب ينشر المحبة بين الناس، وهذا يعزّز التماسك الاجتماعي وتقويته من سوء الظنون والحقد، وهذا التعامل أكّدت عليه جميع الشرائع السماوية، ولو تأمّلنا تاريخ وأخلاق الأنبياء والأوصياء لوجدنا كل ما هو راقٍ من الأخلاق والتعامل بالطيبة والصدق... حنان الزيرجاوي

اخرى
منذ 5 سنوات
51269

الطلاق ليس نهاية المطاف

رحلةٌ مثقلة بالألم في طريق يئن من وطأة الظلم! ينهي حياة زوجية فشلت في الوصول إلى شاطئ الأمان. ويبدد طموحات أطفال في العيش في هدوء نفسي واجتماعي تحت رعاية أبوين تجمعهم المودة والرحمة والحب. الطلاق شرعاً: هو حل رابطة الزواج لاستحالة المعاشرة بالمعروف بين الطرفين. قال تعالى: [ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)].(١). الطلاق لغوياً: من فعل طَلَق ويُقال طُلقت الزوجة "أي خرجت من عصمة الزوج وتـحررت"، يحدث الطلاق بسبب سوء تفاهم أو مشاكل متراكمة أو غياب الانسجام والحب. المرأة المطلقة ليست إنسانة فيها نقص أو خلل أخلاقي أو نفسي، بالتأكيد إنها خاضت حروباً وصرعات نفسية لا يعلم بها أحد، من أجل الحفاظ على حياتها الزوجية، ولكن لأنها طبقت شريعة الله وقررت مصير حياتها ورأت أن أساس الـحياة الزوجيـة القائم على المودة والرحـمة لا وجود له بينهما. فأصبحت موضع اتهام ومذنبة بنظر المجتمع، لذلك أصبح المـجتمع يُحكم أهواءه بدلاً من الإسلام. ترى، كم من امرأة في مجتمعنا تعاني جرّاء الحكم المطلق ذاته على أخلاقها ودينها، لا لسبب إنما لأنها قررت أن تعيش، وكم من فتاة أُجبرت قسراً على أن تتزوج من رجل لا يناسب تطلعاتها، لأن الكثير منهن يشعرن بالنقص وعدم الثقة بسبب نظرة المجتمع، وتقع المرأة المطلّقة أسيرة هذه الحالة بسبب رؤية المجتمع السلبيّة لها. وقد تلاحق بسيل من الاتهامات وتطارد بجملة من الافتراءات. وتعاني المطلقة غالباً من معاملة من حولها، وأقرب الناس لها، بالرغم من أن الطلاق هو الدواء المر الذي قد تلجأ إليه المرأة أحياناً للخلاص من الظلم الذي أصبح يؤرق حياتها الزوجية، ويهدد مستقبلها النفسي، والله تعالى لم يشرع أمراً لخلقه إلا إذا كان فيه خير عظيم لهم، والطلاق ما شرّع إلا ليكون دواء فيه شفاء وإن كان مرّاً، وإن كان أمره صعباً على النفوس، حيث قال عز وجل: "وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا"، روي عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) ((أبغض الحلال إلى الله الطلاق) (٢). ورغم أن الشريعة الإسلامية أباحت الطلاق بشروط تلاءم لبناء المجتمع، وأولت أهمية في الإحسان دائمًا للطرف الأضعف والأكثر خسارة في هذه المعادلة وهي "المرأة"، إلا أن المجتمع الذي يدّعي الإسلام لا يرحمها، ويحكم عليها بالإدانة طوال حياتها دون النظر في صحة موقفها في الطلاق من عدمه! قال( تعالى ): [الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] (٣). ولكن بعد كل هذا فالحياة لم ولن تتوقف بعد الطلاق! الطلاق ليس نهاية الحياة. - أخيتي. ليكن الطلاق بداية جديدة لحياة جديدة وللانطلاق. -قطار العطاء لن يتعطل. فإن كنت السبب في الطلاق فالحمد لله على كل حال وتلك أمة قد خلت وأيام ذهبت وانجلت فلست بالمعصومة من الخطأ. وعليك استدراك الأخطاء وتقوية مواطن الضعف في شخصيتك، واجعليها درساً مفيداً في الحياة لتطوير نفسك وتقويتها. وإذا كنتِ مظلومة فهناك جبار يُحصي الصغير والكبير وسيأتي يوم ينتصر لك فيه. -ومن الجميل أن تعطي نفسك الإحساس بالحب والاحترام، ولا تتأثري بأي نظرة سلبية من المجتمع وكون البعض يتعامل مع المطلقة على أنها حالة خاصة فعليكِ إثبات ذاتك حتى تفرضي على الكل شخصيتك. - نظرتك لنفسك اجعليها نظرة ايجابية مشرقة ولا تنزلقي في مستنقع نبذ الذات وظلم النفس. - ابحثي عن الصفات الجيدة فيك فإن ذلك سيشعرك بالثقة في ذاتك والتقدير لها. -حاولي مراجعة نفسك للخروج بإيجابيات حصلت لك من طلاقك. - خالطي الآخرين وإياك والعزلة بسبب وضعك الجديد فلست بأول من يبتلى بالطلاق. -استمتعي بالموجود ولا تتعلقي بالمفقود، حلقي بروح تعبق أملاً وتفاؤلاً، استمتعي بما وهبك الله من نعم (صحة وأولاد وأهل وصديقات وعمل وهوايات وغيرها من الأمور الجميلة) فما حصل لك حصل… ولابد أن تتقبليه برضا، وأعلمي أن ما أصابك لم يكن ليخطأك وما أخطأك لم يكن ليصيبك. وقال أصدق من قال: ( وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم). فالرضا سر السعادة الحقيقي. - اقتربي من صديقاتك الصالحات، واقضي معهن وقتاً طيباً تنسين به ألمك وحزنك. - احرصي على الصلوات وقراءة القرآن الكريم والذكر والاستغفار وأكثري من الطاعات قدر ما تستطيعين، ففيها السلوى والفرح والسعادة. ونعم سعادة القرب من الرحمن. - اشغلي نفسك بأعمال البر والإحسان بمساعدة محتاج. بكفالة يتيم. بتعلم الفقه والقرآن وتعليمه. - اجتهدي في عمل برنامج يومي لك يكون ممتلأ بكل ما هو مفيد لك. من قراءة وزيارة الأصدقاء وصلة الرحم. بحيث لا تكون هناك دقيقة أنت فارغة فيها. - وأسرعي بقاربك الجميل بمجذافين من إيمان بالله وثقة بالنفس وسوف تصلين بإذن الله نحو جزيرة السعادة والنجاح. لكي تتسلق جبال الإنجاز، وتصل لأعلى مراتب الاعجاز. وعندها جزماً سيكون للحياة معنى آخر. --------------------------------- (١)-سورة البقرة الآية (٢٢٦-٢٢٧). (٢)-الكافي (٢)-سورة البقرة الآية (٢٢٨) حنان ستار الزيرجاوي

اخرى
منذ 5 سنوات
41403

لا تقاس العقول بالأعمار!

(لا تقاس العقول بالأعمار، فكم من صغير عقله بارع، وكم من كبير عقله فارغ) قولٌ تناولته وسائل التواصل الاجتماعي بكل تقّبلٍ ورضا، ولعل ما زاد في تقبلها إياه هو نسبته الى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولكننا عند الرجوع إلى الكتب الحديثية لا نجد لهذا الحديث أثراً إطلاقاً، ولا غرابة في ذلك إذ إن أمير البلاغة والبيان (سلام الله وصلواته عليه) معروفٌ ببلاغته التي أخرست البلغاء، ومشهورٌ بفصاحته التي إعترف بها حتى الأعداء، ومعلومٌ كلامه إذ إنه فوق كلام المخلوقين قاطبةً خلا الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ودون كلام رب السماء. وأما من حيث دلالة هذه المقولة ومدى صحتها فلابد من تقديم مقدمات؛ وذلك لأن معنى العقل في المفهوم الإسلامي يختلف عما هو عليه في الثقافات الأخرى من جهةٍ، كما ينبغي التطرق الى النصوص الدينية الواردة في هذا المجال وعرضها ولو على نحو الإيجاز للتعرف إلى مدى موافقة هذه المقولة لها من عدمها من جهةٍ أخرى. معنى العقل: العقل لغة: المنع والحبس، وهو (مصدر عقلت البعير بالعقال أعقله عقلا، والعِقال: حبل يُثنَى به يد البعير إلى ركبتيه فيشد به)(1)، (وسُمِّي العَقْلُ عَقْلاً لأَنه يَعْقِل صاحبَه عن التَّوَرُّط في المَهالِك أَي يَحْبِسه)(2)؛ لذا روي عنه (صلى الله عليه وآله): "العقل عقال من الجهل"(3). وأما اصطلاحاً: فهو حسب التصور الأرضي: عبارة عن مهارات الذهن في سلامة جهازه (الوظيفي) فحسب، في حين أن التصوّر الإسلامي يتجاوز هذا المعنى الضيّق مُضيفاً إلى تلك المهارات مهارة أخرى وهي المهارة العبادية. وعليه فإن العقل يتقوّم في التصور الاسلامي من تظافر مهارتين معاً لا غنى لأحداهما عن الأخرى وهما (المهارة العقلية) و(المهارة العبادية). ولذا روي عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنه عندما سئل عن العقل قال :" العمل بطاعة الله وأن العمّال بطاعة الله هم العقلاء"(4)، كما روي عن الإمام الصادق(عليه السلام)أنه عندما سئل السؤال ذاته أجاب: "ما عُبد به الرحمن، واكتسب به الجنان. فسأله الراوي: فالذي كان في معاوية [أي ماهو؟] فقال(عليه السلام): تلك النكراء، تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل"(5) والعقل عقلان: عقل الطبع وعقل التجربة، فأما الأول أو ما يسمى بـ(الوجدان الأخلاقي) فهو مبدأ الادراك، وهو إن نَما وتطور سنح للإنسان فرصة الاستفادة من سائر المعارف التي يختزنها عن طريق الدراسة والتجربة وبالتالي يحقق الحياة الإنسانية الطيبة التي يصبو اليها، وأما إن وهن واندثر لإتباع صاحبه الأهواء النفسية والوساوس الشيطانية، فعندئذٍ لا ينتفع الانسان بعقل التجربة مهما زادت معلوماته وتضخمت بياناته، وبالتالي يُحرم من توفيق الوصول إلى الحياة المنشودة. وعقل التجربة هو ما يمكن للإنسان اكتساب العلوم والمعارف من خلاله، وما أروع تشبيه أمير البلغاء (عليه السلام) العلاقة التي تربط العقلين معاً إذ قال فيما نسب إليه: رأيت العقل عقلين فمطبوع ومسموع ولا ينفع مسموع إذ لم يك مطبــوع كما لا تنفع الشمس وضوء العين ممنوع(6) فقد شبّه (سلام الله عليه) عقل الطبع بالعين وعقل التجربة بالشمس، ومما لاشك فيه لكي تتحقق الرؤية لابد من أمرين: سلامة العين ووجود نور الشمس، وكما إن الثاني لا ينفع إن لم يتوفر الأول فكذلك عقل التجربة لا ينفع عند غياب عقل الطبع فضلاً عن موته. وبما إن عقل الطبع قد ينمو ويزدهر فينفع صاحبه من عقل التجربة، وقد يموت ويندثر عند الاستسلام لإضلال شبهةٍ أوبسبب إرتكاب معصية، فإنه ومن باب أولى أن يتعرض الى الزيادة والنقصان كما سيأتي... وقد ورد في النصوص الدينية أن للعقل زمناً ينمو فيه ويكتمل، فعن إمامنا أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه):"يثغر الصبي لسبع، ويؤمر بالصلاة لتسع، ويفرق بينهم في المضاجع لعشر، ويحتلم لأربع عشرة، وينتهى طوله لإحدى وعشرين سنة، وينتهي عقله لثمان وعشرين إلا التجارب"(7)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يربى الصبي سبعاً ويؤدب سبعاً، ويستخدم سبعاً، ومنتهى طوله في ثلاث وعشرين سنة، وعقله في خمس وثلاثين [سنة] وما كان بعد ذلك فبالتجارب"(8). إذن يتوقف النمو الطبيعي لعقل الانسان عند سن الثامنة والعشرين أو الخامسة والثلاثين كما ورد في الروايتين، وأية زيادة أخرى في طاقته بعد ذلك إنما تأتي عن طريق التجارب، وقد يُتوهم بأن ثمة تعارضاً ما بين الروايتين المتقدمتين في شأن تحديد سن النمو العقلي، إلا إنه لا تعارض ينهما إذا حملنا اختلافهما فيه على اختلاف الاشخاص وتباين استعدادات وقابليات كل منهم. وعلى الرغم من توقف نمو عقل الإنسان إلا إن له أنْ يزيده بالتجارب ومواصلة التعلم ــ كما تقدم في الروايات ــ وسواء أثبت العلم هذه الحقيقة الروائية أم لا، فنحن نريد الإشارة إلى ضرورة استمرار التجربة والتعلم لزيادة نمو العقل وهذا المقدار لا خلاف فيه وعلى الرغم من إن لعمر الانسان مدخلية في زيادة عقله كما تقدم وكما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يزيد عقل الرجل بعد الاربعين إلى خمسين وستين، ثم ينقص عقله بعد ذلك"(9)، إلا إن ذلك ليس على نحو العلة التامة، إذ يمكن للعقل أن يبقى شاباً وقوياً وإن شاب الإنسان وضعف جسمه، وتقدم في السن ووهن عظمه، فالعاقل لا يشيب عقله ولا تنتقص الشيخوخة من قوته بل وقد يزداد طاقةً وحيويةً لذا ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"رأي الشيخ أحب الي من جَلَد الغلام"(10)، وفي أخرى ".....من حيلة الشباب "(11) وأما من لم يوفر أسباب صقل عقله في مرحلة الشباب فإنه بلا شك يضمحل عقله في مرحلة الشيخوخة. وليس تقدم العمر هو العامل الوحيد في نقصان العقل بل إن النصوص الشرعية أشارت الى عوامل عديدة اخرى أهمها: أولاً: التعلم: فقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "من لم يصبر على ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبداً"(13). ثانياً: التوبة: وعنه (عليه السلام) ايضاً:"من لم يرتدع يجهل"(14) ثالثاً: التقوى: فقد كتب إمامنا الباقر (عليه السلام) إلى سعد الخير: "بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإني اوصيك بتقوى الله فإن فيها السلامة من التلف والغنيمة في المنقلب إن الله (عزوجل) يقي بالتقوى عن العبد ما عزب عنه عقله ويجلي بالتقوى عنه عماه وجهله"(15) إذن التوبة هي سبب للتوفيق الإلهي الذي يؤدي فيما يؤدي إليه من إكمال العقل. رابعاً: الوقوف عند الشبهة: وقال (عليه السلام ): "لا ورع كالوقوف عند الشبهة"(16). فإن الوقوف عند الشبهات سبب من أسباب التوفيق الإلهي بلا شك. خامساً: الاعتراف بالجهل: كما روي عن الإمام علي (عليه السلام): "غاية العقل الاعتراف بالجهل"(17) إذ الاعتراف بالجهل يدفع الإنسان دوماً إلى مزيد من بذل الجهد واكتساب المعارف. مما تقدم تتضح جلياً صحة هذه المقولة دلالةً، إذ إن العقول فعلاً لا تقاس بالأعمار لأن كلٍاً من زيادتها ونقيصتها منوطٌ بالعديد من العوامل الأخرى والتي تقدم ذكرها، بيد إن ذلك لا يبرر التساهل في نشرها والتهاون في الاستشهاد بها على إنها من أقوال أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) لعدم ثبوت ذلك سنداً من جهة ولضعف بلاغتها وركاكة تركيبها بالنسبة إلى سيد البلغاء والبلاغة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) تهذيب اللغة ج1 ص65 (2) لسان العرب ج11 ص458 (3) نهاية الحكمة ص305 (4) ميزان الحكمة ج3 ص333 (5) أصول الكافي ج1، ح3 / 11 (6) نهج السعادة ج9 ص163 (7) الكافي ج7 ص94 (8) الفقيه ج3 ص493 (9) الاختصاص ص245 (10) نهج البلاغة حكمة 86 (11) بحار الأنوار ج72 ص105 (12) المصدر السابق ج1 ص94 (13) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص118 (14) الكافي ج8 ص73 (15) وسائل الشيعة ج1 ص162 (16) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص1 بقلم الكاتبة: رضا الله غايتي

اخرى
منذ 5 سنوات
35864

المرأة في فكر الإمام علي (عليه السلام)

بقلم: أم نور الهدى كان لأمير المؤمنين (عليه السلام) اهتمام خاص بالمرأة، فنراه تارة ينظر إليها كآية من آيات الخلق الإلهي، وتجلٍ من تجليات الخالق (عز وجل) فيقول: (عقول النساء في جمالهن وجمال الرجال في عقولهم). وتارة ينظر إلى كل ما موجود هو آية ومظهر من مظاهر النساء فيقول: (لا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها فإن المرأة ريحانة وليس قهرمانة). أي إن المرأة ريحانة وزهرة تعطر المجتمع بعطر الرياحين والزهور. ولقد وردت كلمة الريحان في قوله تعالى: (فأمّا إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة النعيم) والريحان هنا كل نبات طيب الريح مفردته ريحانة، فروح وريحان تعني الرحمة. فالإمام هنا وصف المرأة بأروع الأوصاف حين جعلها ريحانة بكل ما تشتمل عليه كلمة الريحان من الصفات فهي جميلة وعطرة وطيبة، أما القهرمان فهو الذي يُكلّف بأمور الخدمة والاشتغال، وبما إن الإسلام لم يكلف المرأة بأمور الخدمة والاشتغال في البيت، فما يريده الإمام هو إعفاء النساء من المشقة وعدم الزامهن بتحمل المسؤوليات فوق قدرتهن لأن ما عليهن من واجبات تكوين الأسرة وتربية الجيل يستغرق جهدهن ووقتهن، لذا ليس من حق الرجل إجبار زوجته للقيام بأعمال خارجة عن نطاق واجباتها. فالفرق الجوهري بين اعتبار المرأة ريحانة وبين اعتبارها قهرمانة هو أن الريحانة تكون، محفوظة، مصانة، تعامل برقة وتخاطب برقة، لها منزلتها وحضورها. فلا يمكن للزوج التفريط بها. أما القهرمانة فهي المرأة التي تقوم بالخدمة في المنزل وتدير شؤونه دون أن يكون لها من الزوج تلك المكانة العاطفية والاحترام والرعاية لها. علماً أن خدمتها في بيت الزوجية مما ندب إليه الشره الحنيف واعتبره جهادًا لها أثابها عليه الشيء الكثير جدًا مما ذكرته النصوص الشريفة. فمعاملة الزوج لزوجته يجب أن تكون نابعة من اعتبارها ريحانة وليس من اعتبارها خادمة تقوم بأعمال المنزل لأن المرأة خلقت للرقة والحنان. وعلى الرغم من أن المرأة مظهر من مظاهر الجمال الإلهي فإنها تستطيع كالرجل أن تنال جميع الكمالات الأخرى، وهذا لا يعني أنها لا بد أن تخوض جميع ميادين الحياة كالحرب، والأعمال الشاقة، بل أن الله تعالى جعلها مكملة للرجل، أي الرجل والمرأة أحدهما مكمل للآخر. وأخيرًا إن كلام الإمام علي (عليه السلام) كان تكريمًا للمرأة ووضعها المكانة التي وضعها الله تعالى بها، حيث لم يحملها مشقة الخدمة والعمل في المنزل واعتبر أجر ما تقوم به من اعمال في رعاية بيتها كأجر الجهاد في سبيل الله.

اخرى
منذ 5 سنوات
32682

أساليب في التربية

عالم الطفولة كأنه طاولة، لا تجد فيه غير طعام لذيذ، ومنظر لطيف وجديد، فعالمهم فاكهة الوجود، وخضار الأرواح، ومياه الحياة تسقي القلوب... عالم صفاء وأحلام جميلة بسيطة وتافهة ولكن بنظرهِ هو عظيمة وكبيرة، فهو العالم الذي ينطلق منه الإنسان في بداية عمره. فالطفل في بداية حياته ينظر إلى الحياة بتفكيره البريء، فالطفل يعيش بعالم خاص به مملوء بالمحبة البريئة. هذه هي الصورة الجميلة التي يحملها الطفل، وكم يتمنى كل إنسان أن يعود لطفولته البريئة ليتأمل في أرجاء عالمها الذي كان يصور له حياة مختلفة تشد الإنسان إليها بجمالها، هذا هو عالم الطفولة وهذه أحلام من يعيشها، فلا ينفذ إلى ملكوت ذلك العالم ولا يدرك كنهه إلا من عاشه وجال في ربوعه. حيث يتذوق الطفل مع أحلام طفولته هذه لذة الحياة ولذة العيش فيها، ومهما حاولنا أن نعبر عن هذه الحقيقة فلن نستطيع تصويرها بالكلمات. وبعد هذا، فإن الاهتمام بمستقبل الطفل هو في الواقع ضمان لمستقبل شعب بأسره. قال اللَّه تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا". التحريم/6 أعتنى الإسلام بتربية الأبناء عناية فائقة، وألقى على عاتق الأهل ما سيكون عليه الولد في مسلكه الدنيوي ومصيره الأخروي إن هم قصروا في تربيته وإعداده. وقد ذكر العلماء أن شخصية الولد تتأثر في نموها بعوامل ثلاثة وهي: الوراثة، والبيئة، والتربية. إذا خضنا في مضمار التربية السليمة للأبناء... فعلى الأبوين أن يكون لهما الوعي التربوي الذي يبنى على أسس صحيحة ويتوفر لديهم فهم لأساليب التربية والتوجيه والرعاية وهذه نقطة البداية. فمثلاً في أسلوب التعامل مع الطفل تبرز أمامنا ثلاثة اشكال لتعامل الآباء مع الأبناء: الشكل الأول: أسلوب الدلال المفرط وهذا الأسلوب له نتائجه السلبية الخطيرة، فإنه يخلق شخصية هشة متميعة وشخصية اتكالية تحب الكسل والخمول مجردة من الهدف والإقدام، انهزامية غير قادرة على مواجهة التحديات وبمعنى أدق شخصية لا تثق بنفسها. شخصية متسيبة في ظل غياب المراقبة والمحاسبة وهذا التسيب يقود إلى الانفلات والانحراف. الشكل الثاني: فهو أسلوب التربية القاسية والعنف. وهذا الأسلوب أيضاً له نتائجه الخطيرة والسلبية التي يعاني منها الأبناء طوال حياتهم فهو يخلق شخصية قلقة ومتأزمة ومعقدة وخائفة وتحمل عقدة الخوف، شخصية حاقدة وعدوانية وقد تتأزم الأمور لتصبح شخصية منافقة وكاذبة خوفاً من العقاب والتعنيف ضمن حدود الأسرة ولكن يوماً من الأيام سينطلق هذا الشخص ليواجه المجتمع ككل، فلنتصور كيف سيتعامل مع المحيطين ضمن مجالات الدراسة والعمل وهو شخصية هاربة من أجواء الأسرة وقد يعرضها للتسيب والانحراف لأنها شخصية متمردة مما يعرضها للعقوق. الأسلوب الثالث: التوازن. الأسلوب الصحيح يعتمد على التوازن فمن شروط نجاح التربية التوازن في المعاملة ما بين الأمور التي تحتاج إلى شدة وحزم ليتربى على أن هذه الأمور خطوط حمراء طبعاً هنا يمكن أن يعترض أحد ويقول: لا للعنف الأسري ولا لاستخدام القسوة. نعم فهناك طرق غير استخدام العنف. يكفي ان يبدي الآباء انزعاجهم مثلاً. وهنا النقطة مهمة جداً، وهي: أن نوضح لهم سبب المنع والرفض لا تعتقدوا أن أبناءكم لا يدركون ولن يفهموكم. تخصيص الوقت للنقاش مهم جداً. وما بين أسلوب المرونة والحنان والاحتواء. التوازن في المعاملة. إن الإمام زين العابدين (عليه السلام) يصرح بمسؤولية الأبوين بتربية الطفل، ويعتبر التنشئة الروحية والتنمية الخلقية لمواهب الأطفال واجباً دينياً يستوجب أجراً وثواباً من الله تعالى، وأن التقصير في ذلك يُعرّض الآباء إلى عقاب الله. فيقول (عليه السلام): (وأما حق ولدك عليك فأن تعلم أنه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره. وأنك مسؤول عما وليته به من حسن الأدب والدلالة على ربه عز وجل والمعونة له على طاعته. فأعمل في أمره عمل من يعلم أنه مثاب على الإحسان إليه معاقب على الإساءة إليه ) مكارم الأخلاق للطبرسي ص٢٣٢ حنان الزيرجاوي

اخرى
منذ 5 سنوات
32195