تشغيل الوضع الليلي

الأبعاد العقائدية في أدعية السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) دعاء طلب تفريج الهموم والغموم نموذجًا

منذ 5 سنوات عدد المشاهدات : 3502

بقلم: دينا فؤاد
الحلقة الثالثة
تكملة الأبعاد العقائدية في دعاء طلب تفريج الهموم والغموم

2- الترسيخ الروحي والعقدي لقضية أهل البيت (عليهم السلام):
لقد أكدت الزهراء (عليها السلام) على قضية أهل البيت لأهميتها البالغة، فالتوجه إلى الرسول وأهل بيته (عليهم سلام الله أجمعين) ــ الذي هو وسيلة وشرط في التوجه لله عز وجل ــ إنما يكون بالتوجه الروحي والعقدي، ولا يتم هذا التوجه ما لم تكن هناك معرفة واعتقاد بصاحب التوجه، وهذا بدوره يستلزم معرفة ولو إجمالية لهؤلاء النخبة التي انتخبها الله لعباده، وقرن طاعته بطاعتهم، كما في قوله جل وعلا: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}. (47)
لقد بيّنت الزهراء (عليها السلام) بأن قضية الرسول وأهل بيته ليست قضية عادية، ومجرد ألفاظ يذكرها المتكلم، بل هي قضية عقائدية بحتة تحتاج إلى نظر وتمحيص، حيث إن نفس التوجه للنبي وآله (صلوات الله عليهم أجمعين) هو شرط زائد على الإيمان بهم، وإن الإيمان مقرون بالمعرفة الحقة لهم، فهم خلفاء الله على أرضه، وبهم يصان الدين، وتقام الشرائع. وإن وجودهم (سلام الله عليهم) هو لطف إلهي على العباد، وهو ما يقربهم إلى الطاعة ويبعدهم عن المعصية، ورفع الظلم والفساد، وإحلال الأمن والأمان. (48)
وقد أشارت السيدة فاطمة (عليها السلام) إلى هذه الأمور، في دعائها في عدة مواضع، منها: "أتوسل إليك بحقهم العظيم الذي لا يعلم كنهه سواك"، و"أسألك ...، وبحق محمد وآل محمد"، و"وتسمع محمداً وعلياً وفاطمة ... صوتي فيشفعوا لي إليك وتشفعهم فيِّ"، و"بحق محمد وآل محمد ...يا كريم".

3- التأكيد على السؤال بالأسماء الحسنى والاسم الأعظم:
لقد كان هناك تكرار من قبل السيدة الزهراء (عليها السلام) في دعائها للأسماء الحسنى بصورة عامة والاسم الأعظم بصورة خاصة، فقد كررت (سلام الله عليها) لفظ الأسماء والاسم الأعظم (8) مرات، ولا شك في أن يكون هناك قصد من التكرار لأسماء الله تعالى.
أن هذا التكرار جاء من أجل بيان أن لهذه الأسماء أسرارًا، فالأسماء الإلهية والاسم الأعظم خاصة لها تأثيرات كونية، ويعد السؤال بها من أهم الوسائط والأسباب التي تنزل الفيض من الذات المتعالية في هذا العالم المشهود (49)، وهذا له دلالة على أن الله سبحانه وتعالى هو الموجد والفاعل لكل شيء، وعلى هذا يجب أن يكون الدعاء والطلب منه وحده لا من غيره، قال تعالى: {أجيبُ دعوة الداعِ إذا دعانِ}. (50)
وهناك التفاتة مهمة أرادت الزهراء (سلام الله عليها) بيانها، وهي أن الدعاء بالأسماء الإلهية يحتاج إلى معرفة، فهي ليست مجرد ألفاظ يرددها الداعي بلسانه، بل هي حقائق حاوية لمعان لا يعلمها إلّا أولي العلم، وهم اهل بيت النبوة، المعصومون الأربعة (عليهم الصلاة والسلام)، فقد ورد عن الإمام الباقر(عليه السلام) أنه قال: "ان اسم الله الأعظم على ثلاثة وسبعين حرفاً، وإنما كان عند آصف منها حرف واحد فتكلم به فخسف بالأرض ما بينه وبين سرير بلقيس، ثم تناول السرير يده ثم عادت الأرض كما كانت أسرع من طرفة عين، وعندنا نحن من الاسم اثنان وسبعون حرفاً وحرف عند الله استأثر به في علم الغيب عنده، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم" (52)

4- اعلان الولاية التامة والمطلقة لأهل البيت (عليهم السلام) والبراءة من أعدائهم:
معنى الولاية هنا: أن يجعل الإنسان المؤمن أهل البيت (عليهم السلام) هم الذين يتولون جميع أموره، ويواليهم ويقتدي بهم في جميع شؤونه، لأنهم الأئمة المفترضون الطاعة من الخلق، وولايتهم تعني التمسك بالإمامة التي هي إحدى الأركان لأصول الدين.
ومعنى البراءة من أعدائهم: أن يتبرأ المؤمن من جميع الذين نصبوا وأعلنوا العداء لهم.
وهذان فرعان من فروع الدين، فهما من الضروريات اللازمة للمؤمن، والثابتة له بالأدلة القاطعة في الكتاب والسنة؛ لأنهما يعنيان الاعتقاد بإمامة أهل البيت (عليهم السلام)، والتولي للأئمة والتبري من أعدائهم هو كأي أمر اعتقادي لا يحتاج إلى حضوره أو حياته، بل يحتاج إلى الإيمان بهم بأنهم أئمة، والتولي والتبري وإن كانا من الفروع ولكن أصل معرفتهما من الأصول، فمحبة الأئمة وبغض أعدائهم هي من الأمور الركنية المتوقفة على معرفة نفس الأئمة والتي هي مصداق للولاية. (53)
وهذا ما عبرت عنه الزهراء (عليها السلام) من خلال دعائها: "وأسألك أن تصلي على محمد وآل محمد، وأن تفرج عن محمد وآله، وتجعل فرجي مقروناً بفرجهم"، فقد دعت أن يكون فرج العبد مقترن بالفرج لأهل البيت (عليهم السلام)، وهذا يمثل الولاية الحقيقية للأئمة، والاقتداء بهم في جميع شؤونهم.
5- إيقاظ الفطرة السليمة في الناس:
عندما خلق الله تعالى الإنسان أوجد في داخله الفطرة السليمة، وهي عبارة عن ذلك الشعور المغروس في النفس البشرية، وبشكل تكويني والذي أوجده في الإنسان هو الله سبحانه (54). وهذه الفطرة عبر عنها الله تعالى في محكم كتابة بالصبغة من خلال قوله: {صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون} 55
وقد بيّن الإمام الصادق (عليه السلام) معنى الفطرة بجوابه حينما سُئل عنها بأنها: التوحيد والإسلام ومعرفة الله سبحانه. (56)
لقد أردت فاطمة الزهراء (عليها السلام) أن توقظ من خلال دعائها فطرة الناس التي اندثرت أو تهالكت بسبب غلبة الأهواء والغرائز، وتوجيه الناس نحو عظمة الله الخالق القادر على كل شيء، وأرادت أن تنبه الناس من الغفلة التي قد سكنوا إليها وهم غير منتبهين، بل هم سائرون في طاعة الدنيا، بعيدون عن الله سبحانه.
وقد أكدت (عليها السلام) ذلك بقولها: "امسح ما بي يمينك الشافية، وانظر إليِّ بعينك الراحمة، وأدخلني في رحمتك الواسعة، واقبل إليِّ بوجهك الذي إذا أقبلت به على اسير فككته، وعلى ضال هديته، وعلى جائز أديته، وعلى فقير أغنيته، وعلى ضعيف قوّيته، وعلى خائف امنته، ...يا من سدَّ الهواء بالسماء، وكبس الأرض على الماء"، كل هذه الجمل في الحقيقة هي ألطاف لا يقدر على تحقيقها غير الله القادر، هو وحده وليس غيره، فإذا ما تمعن الإنسان بقدرته سبحانه حال عن غيره، والتجأ له، وعبده حق عبادته.

الخاتمة وأهم النتائج
1. إن الدعاء هو من أهم العبادات وأشرفها والتي يجب على المؤمن أن يتخلق بها ليتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى.
2. للدعاء أهمية بالغة أقرها الله عز وجل على عباده وجعله الوسيلة لتحقيق مطالبهم.
3. تعتبر السيدة الزهراء (سلام الله عليها) النموذج الكامل والمتكامل ذاتيًا وتربويًا، فهي مجمع للكمالات البشرية، وهي بنة وزوجة وأم للمعصومين (عليهم السلام).
4. إن للزهراء (عليها السلام) دورًا كبيرًا في التبليغ والإرشاد والوعظ للأمة الإسلامية مارسته في بطرق عديدة وأحدها هو الدعاء.
5. تمثل أدعية السيدة الزهراء (عليها السلام) مورداً فكرياً للفرد المؤمن في تحصيل المعرفة الحقة.
6. إن دعاء السيدة فاطمة (سلام الله عليها) ضم في طياته نوعين من الأدعية التي ذكرها القرآن الكريم وهما دعاء الأنبياء ودعاء الصالحين.
7. اشتمال دعاء طلب تفريج الهموم والغموم على العديد من الأبعاد العقائدية التي أرادت الزهراء (عليها السلام) بيانها من خلال هذا الدعاء.
8. إن من النكت الدلالية في هذا الدعاء عقد العزم على التوكل بالله الواحد القادر في كل حاجة ومطلب.
9. افتتاح مستهل الدعاء بكلمة (اللهم) له دلالة على ابداء الخضوع والخشوع لله سبحانه القادر على قضاء الحاجة وتفريج الهموم والغموم.
10. توجيه النداء بدعاء الزهراء (عليها السلام) لله جل وعلا بـ اللهم وبالأسماء الحسنى وبالاسم الأعظم دلالة على تعظيم المدعو من قبل الداعي.
11. أكدت الزهراء (عليها السلام) أن حصول الدعاء والتوجه إلى الله تعالى لابد له من واسطة تتوسط في إجابة الدعاء بين العبد وربه، وهذه الواسطة هم الرسول وأهل بيته (عليهم أفضل الصلاة والسلام).
12. جاء التأكيد من قبل سيدة نساء العالمين بأن حصول التوجه الذي يكون سبباً للإجابة مقرون بمعرفتهم، فلابد من معرفة النخب التي انتخبها الله لعباده معرفة صحيحة ليحصل التوجه الصحيح المؤدي إلى الإجابة.
13. ان اختتام الدعاء بذكر صفة من الصفات الإلهية المهمة وهي الكريم يدل على تأكيد التوكل بالله عز وجل، والعزم على الدعاء الذي يقرب العبد إلى مولاه وتوكيد العلاقة بينهما.
والحمد لله رب العالمين.
_____________________
47. سورة النساء، الآية: 59.
48. ينظر، السبحاني، جعفر، محاضرات في الإلهيات، ص347,
49. ينظر، الريشهري، محمد، موسوعة العقائد الإسلامية، ج3، ص467.
50. سورة البقرة، الآية: 186.
51. ينظر، الحيدري، كمال، التوحيد، ج2، ص372. 52. الصفار، محمد بن الحسن، بصائر الدرجات، ج1، ص228.
53. ينظر، بحر العلوم، محمد علي، الإمامة الإلهية، ج1، ص425.
54. ينظر، الخوئي، أبو القاسم، بحوث عقائدية، ص26.
55. سورة البقرة، الآية: 138.
56. ينظر، الكليني، الكافي، ج2، ص12، ح1ــ3.

اخترنا لكم

قالتْ نملةٌ!

بقلم: حنان الزيرجاوي جلست مع صديقتها ورفيقة عمرها وتوأم روحها بعد الانتهاء من درسٍ أخلاقي في حوزةٍ نسوية في مدينةٍ صغيرة. نعم، فهي كانت دائمًا تميل إلى مُجالستها والتحدث معها في شؤونٍ كثيرة لتقاربِ أفكارهما وسلوكهما ونظرتهما للحياة، فكانت الواحدة منهن تُصغي للأخرى... تتمعنُ في جميلِ كلامها وحُسنِ منطقها وكأنّها تشمُّ عبيرَ حروفِها التي تنسابُ رويدًا رويداً، لترسم لوحةً يعجز عن وصفِها الواصفون وينبهر من معانيها العارفون. فالتفتت إحداهن إلى نصفها الثاني وهي تقول لها: واخجلتاه ... واخجلتاه! فبادرتْها الأخرى بِتعجبٍ: ولِمَ كُلُّ هذا الخجل؟ وممن تخجلين ونحن لم نعمل شيئًا يُمكن أنْ نخجلَ منه؟ ــ نعم ... نعم، هذا الذي تقولينه صحيحٌ عندما يتعلق الأمرُ بتعاملنا مع مَن حولنا، ولكن أ سمِعتِ ماذا قالت أستاذتنا اليوم؟ وأيّ قصةٍ شَنّفتْ أسماعَنا بها؟ ومَنْ كان بطل هذه القصة؟ ــ نعم ... سمعتُ كلَّ ذلك، وما الغريبُ في الأمر؟ فدائمًا تستشهد أستاذتُنا بقصص القرآن للعبرةِ والموعظة. ــ نعم ... نعم ... ولكن عندما كانت تسردُ علينا القصة وعِبرتَها شعرتُ بخجلٍ لا يوصف وأنا أكلم نفسي: "نملةٌ عرجاء تُنذر قومها وتُرشدهم إلى النجاة من الهلاك، وتؤدي ذلك الدور في حياة جنسها؟! .. هُنا شعرتُ بالخجل من الله (تعالى)، نعم، خجل من ربي وأنا أحدِّثُ نفسي أهكذا يكون دور الأنثى في المجتمع؟ فهلْ يا ترى أدّينا دورَنا كما ينبغي؟ هل كنا فعلًا كما قال الشاعر: الأمُّ مدرسةٌ إذا أعددتْها أعددتَ شعبًا طيبَ الأعراقِ ونحنُ في خضم هذه المُتغيرات في عالمنا، هل أدّينا دورنا في تنشئة هذا الجيل بصورةٍ تجعل منهم يعرفون معنى العبادة وسرَّ لذتها؟ فالمرأةُ تقع على عاتقِها مسؤوليةٌ كبيرةٌ في إصلاح المجتمع في بيتها وفي عملها وفي علاقتها. هل نبّهنا بناتِنا إلى ذلك؟ هل رسمنا لهن طريق الحياة بأسسٍ صحيحة؟ فالمرأة هي الأمُّ وهي الأختُ وهي الزوجةُ وهي رفيقةُ العمرِ وهي جوهرةُ المنزلِ إنْ صلُحت، ودمارُ الأسرة إنْ فَسُدت. هل نبَّهنا فتياتِنا إلى خطر الغزو الثقافي الذي يتعرضن له؟ هل بنينا جسور الثقة بيننا وبينهن؟ وهل؟ وهل ؟ وكانت رفيقتُها تُصغي بكلِّ جوارحها وهي ترددُ... واخجلتاه!

اخرى
منذ 4 سنوات
499

#مرجعية_وطن

لم تجف أقدام بني إسرائيل من ماء البحر حتى اختلفوا في النبي موسى (عليه السلام)! ولم تطهر أرض العراق بالكامل من دنس الدواعش حتى اختلف البعض في حكمة المرجعية! هل تشابهت قلوبهم؟!

اخرى
منذ 5 سنوات
578

حواريةٌ في آداب السلام

بقلم: زينب العارضي وسوسن عبدالله (السلام عليكم) شعارنا وتحيتنا الإسلامية المباركة، لذلك علينا أن نغرس هذه الصفة في الطفل؛ لأنها أهم سلوك يبدأ به يومه ولا ينساه طوال عمره، وهو: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وأيضاً رد السلام، لذا فإن الأب إذا دخل البيت وقال: السلام عليكم، فعلى الأم أن ترد عليه (عليكم السلام ورحمة الله وبركاته)، ولا تكسل بالرد، وهذا يعّود الطفل على السلام. وقال الرسول (صلى الله عليه وآله): ((أفشوا السلام بينكم، تحابّوا))، و((أفشوا السلام، تسلموا))، و((أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنّة بسلام))(1). - ما مفهوم تحية الإسلام؟ وما اهمية القاء تحية الإسلام؟ - قال تعالى: ((وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحسَنَ مِنهَا أَو رُدُّوهَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ حَسِيبًا)) (النساء/86)، حينما نتأمل آيات القرآن الكريم وكلمات أهل البيت (عليهم السلام)، نرى أن الدين الإسلامي أولى موضوع التحية والسلام اهمية كبيرة، وأفرد له مساحة واسعة من الاهتمام، كل هذا يدل على الاهتمام وأهمية هذا الأمر. مفهوم التحية: هي مصدر الحياة ومعناها في اللغة الدعاء بالحياة فيقال حياك الله: أي ابقاك، وهي أعم من السلام؛ لأن السلام نوع من أنواع التحية . أما السلام: فكلمة السلام تعني السلامة، وهي مطلقة تعني سلامة الدين والصحة فعندما نقول لأحد: السلام عليكم: فإننا ندعو له بكل أنواع السلامة: كسلامة الدين والمعتقد والصحة والسمعة. قبل الإسلام كان السائد هو التحية، بأن يقول أحدهم للآخر: أنعم صباحًا، فيأتون بلفظ النعمة وهي طيب العيش ويصلونها بالصباح؛ لأنه أول ما يبدأ به الانسان نهاره، فإذا حصلت فيه النعمة والخير استصحب ذلك طول نهاره. كان أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) اذا اتوه قالوا له: أنعم صباحًا أو أنعم مساء، وهي تحية أهل الجاهلية، فانزل الله تعالى: ((وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ)) (المجادلة: 8)، فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله): ((قد أبدلنا الله بخير من ذلك)) تحية أهل الجنة، السلام عليكم. وهكذا صار للمسلمين تحية تميزهم عن غيرهم، ومن رحمته سبحانه أن جعلها عبادة يؤجر عليها قائلها، وينال ازاءها ثواباً وأجراً. والإسلام يريد من خلال ذلك تقوية الروابط الاجتماعية، وزرع المحبة والتآلف في نفوس الناس، ونشر الأمان في اوساط المجتمع، ولا شك إن الالتزام بإلقاء التحية والسلام على الآخرين له ثمار وأهمية كبيرة؛ لأنه سبب في توطيد العلاقات وزيادة المحبة وتآلف القلوب؛ لأن فيه اشارة إلى الخلق الرفيع وتواضع الشخص، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): (من التواضع أن تسلّم على من لقيت). وهو سبب الخير والبركة وزيادة الارزاق، فعن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: (افش السلام يكثر خير بيتك)، وهو أيضاً سبب الفوز بالثواب والأجر العظيم؛ لأنه من أفضل الأعمال والقربات. - ما الهدف من تعليم الأبناء تحية السلام؟ - من أهم عوامل تنمية ثقافة السلام بشكل عام في المجتمع هي الأسرة التي تعتبر المؤثر الأول والأكبر في سلوك الفرد، والمدرسة الاجتماعية الأولى التي تقوم بتربية وتكوين شخصيته وتوجيه سلوكه بالاتجاه الصحيح. والإسلام العظيم رسم الطريق لبناء الإنسان في الأسرة بحيث يكون سليم النفس والروح، قادرًا على التفاعل مع المحيط الاجتماعي بشكل مميز، وقد أمر لذلك بتعويد الطفل منذ نعومة اظفاره على جملة من الآداب المهمة من بينها السلام؛ كي يتعود عليه، فإذا كبر يكون ذلك جزءاً من شخصيته وسلوكه لا يتركه ابداً؛ لأنه ينبعث من سجية ثابتة، وعادات اصلية يحكمها البر والاحسان واللطف في التعامل مع الاخرين. اللطيف أن من اخلاق رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه كان يسلم على الأطفال والصبيان، ورد في الحديث: (خمس لست بتاركهن حتى الممات... وتسليمي على الصبيان لتكون سنة من بعدي). وبالتأكيد، فان لبدء الطفل بالسلام أثرين مهمين هما: تقوية التواضع في نفس الإنسان، يحيي في الطفل الشخصية الرصينة والأرادة المستقلة؛ لأنه إذا شعر بأن الكبار يحترمونه ويسلمون عليه وينظرون له باهتمام، حينها سيصدق بكفاءته وأهليته للاحترام، ويطمئن الى ان المجتمع يعتبره انساناً محترماً، ويعيره الاهتمام المطلوب، وهذا مهم جدا لتكوين شخصيته وبنائها بالشكل الصحيح. فنحن عندما نعلم أطفالنا السلام وآدابه، إنما نربيهم على أن يحيا كل واحد منهم مستقيمًا مسالمًا محترما للآخرين، قادرًا على التفاعل والتواصل باحترام، فالهدف من تعليمهم وتعويدهم على السلام، هو أن يتخلقوا بهذا الخلق السامي، وينشؤوا وهم يحبون الخير والسلام للآخرين. وهذا سيمنحهم في المستقبل شخصية كريمة محبوبة مهذبة تكون مفخرة للوالدين ومحط أعجاب للآخرين وقدوة ومثالاً يمكن أن يحتذى به من قبل أخوتهم في المنزل. وعليه، فكلما عودناهم بشكل مبكر على الالتزام بهذه الآداب، ساهمنا في صنع شخصية صالحة متزنة تتمتع بحضور جميل وقبول اجتماعي مميز، تكون قادرة على التفاعل والتواصل والنجاح والتألق. - برأيكم كيف باستطاعة الأهل تعليم الطفل التحية والسلام؟ وفي أي سن ينبغي ذلك؟ - إن الالتزام بإلقاء التحية والسلام يدل على حسن تربية الإنسان ورقي شخصيته، وهذا التعليم من مسؤوليات الأسرة التي ينبغي لها أن تلتفت لها وتهتم بها منذ أن يعي أطفالها ويبدؤون بالتواصل مع الأخرين. فعندما يبدأ الطفل بمد يده وتقبيل الآخرين، ويكون قادرًا على نطق الكلمات، هنا تبدأ بتعليمه السلام على أبيه وأخوته، ومن ثم المحيط والمجتمع الذي يختلط به، فمثلا عندما نتصل بأبيه نقول له: بابا يتكلم تعال سلم عليه، أو عندما يجلس صباحا بعد ان نسلم نحن عليه ندفعه للسلام على جده أو جدته، ونعلمه كذلك الرد على السلام، اضافة إلى حسن الاستماع والمشاركة والإنصات للآخرين . - كيف يمكن أن نعلمه؟ ذلك من خلال عدة أمور: ١- القدوة: فالطفل يتعلم من أبويه أولاً عند زيارة أحد للبيت، وعند زيارة العائلة لعائلة أخرى، وعند اتصالكم بأحد في الهاتف، كل هذا يمكن أن يعلم الطفل من خلاله كيفية السلام والرد والترحيب بالآخرين، والطفل بطبعه سيحاكي طريقتنا ويقتدي بنا، لذا لابد أن نحذر، وأن نوفر له بسلوكنا تجارب جميلة وصالحة للاقتداء، ونبتعد عن الأخطاء؛ لأنها مدمرة. ٢- التشجيع: كلما تعرف الطفل بشكل لائق وألقى السلام بشكل صحيح، نكافئه ونشجعه حتى يتعزز لديه السلوك الطيب، ويسعى لتكراره؛ لأنه رأى ملامح الرضا والسعادة بادية على وجوهنا. ٣- اللعب: ممكن أن نلقّن ونعلم الطفل من خلال اللعب، فالمشاهد التمثيلية جو مناسب لتمرير كل ما نريد لأطفالنا (بيت بيوت) لعبة الأطفال المفضلة ندخل فيها لنعلمهم آداب اللقاء وتحية السلام. ٤- القصة والكتاب المصور: لا بأس باستثمار هذه الوسائل كلما كانت الصور والكتب جميلة وملونة أفضل، كذلك الأناشيد والأفلام الكارتونية التي تؤكد على اهمية هذه الآداب. ٥- شرح آثار الالتزام بهذه الآداب وثمارها ونتائجها في الدنيا والآخرة بأسلوب سلس يفهمه الطفل. - ما هي الآداب المتعلقة بالسلام والتحية التي ينبغي أن نحرص على تعليمها لأولادنا؟ - نعلمهم السلام قبل الكلام، فعن الامام الصادق (عليه السلام): (السلام قبل الكلام)، وعند دخول البيت: عن النبي (صلى الله عليه وآله): ((اذا دخل احدكم بيته فليسلم، فانه ينزله البركة وتؤنسه الملائكة). الالتزام ببدء السلام، الصغير على الكبير اجلالاً واحتراماً وتوقيرًا لكبره... سلام الواحد على الأثنين، والاقل على الاكثر... سلام الراكب على الماشي، والماشي على القاعد وغيرها، وقد جمعت هذه في الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله): (يسلم الصغير على الكبير، ويسلم الواحد على الاثنين، ويسلم القليل على الكثير، ويسلم الراكب على الماشي، ويسلم المار على القائم، ويسلم القائم على القاعد). نعلمه المصافحة وحسن البشر وملاقاة الآخرين بوجه مبتسم، وأن يرفع صوته عند السلام ليسمع من يريد السلام عليه. وأخيراً، لابد للآباء من الالتزام بكل هذه الآداب والأخلاقيات؛ كي يكونوا قدوة حسنة لأبنائهم يحاكونهم ويقلدونهم ويقتدون بهم، ويتعلمون منهم وتتكون شخصيتهم بشكل جميل يجعلها قادرة على التفاعل الايجابي والمميز مع الاخرين وسط المجتمع.

اخرى
منذ 5 سنوات
6456

التعليقات

يتصدر الان

لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع

يستشهد الكثير من الناس ــ وحتى بعض المثقفين ــ بقول:" لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع فإن الخير فيها دخيل وعاشر نفساً جاعت بعد شبع فإن الخير فيها أصيل" على أنه من أقوال أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، كما يستشهدون أيضاً بقولٍ آخر ينسبونه إليه (عليه السلام) لا يبعد عن الأول من حيث المعنى:"اطلبوا الخير من بطون شبعت ثم جاعت لأن الخير فيها باق، ولا تطلبوا الخير من بطون جاعت ثم شبعت لأن الشح فيها باق"، مُسقطين المعنى على بعض المصاديق التي لم ترُق افعالها لهم، لاسيما أولئك الذين عاثوا بالأرض فساداً من الحكام والمسؤولين الفاسدين والمتسترين عل الفساد. ونحن في الوقت الذي نستنكر فيه نشر الفساد والتستر عليه ومداهنة الفاسدين نؤكد ونشدد على ضرورة تحرّي صدق الأقوال ومطابقتها للواقع وعدم مخالفتها للعقل والشرع من جهة، وضرورة التأكد من صدورها عن أمير المؤمنين أبي الأيتام والفقراء (عليه السلام) أو غيرها من المعصومين (عليهم السلام) قبل نسبتها إليهم من جهة أخرى، لذا ارتأينا مناقشة هذا القول وما شابه معناه من حيث الدلالة أولاً، ومن حيث السند ثانياً.. فأما من حيث الدلالة فإن هذين القولين يصنفان الناس الى صنفين: صنف قد سبق له أن شبع مادياً ولم يتألم جوعاً، أو يتأوه حاجةً ومن بعد شبعه جاع وافتقر، وصنف آخر قد تقلّب ليله هماً بالدين، وتضوّر نهاره ألماً من الجوع، ثم شبع واغتنى،. كما جعل القولان الخير متأصلاً في الصنف الأول دون الثاني، وبناءً على ذلك فإن معاشرة أفراد هذا الصنف هي المعاشرة المرغوبة والمحبوبة والتي تجرّ على صاحبها الخير والسعادة والسلام، بخلاف معاشرة أفراد الصنف الثاني التي لا تُحبَّذ ولا تُطلب؛ لأنها لا تجر إلى صاحبها سوى الحزن والندم والآلام... ولو تأملنا قليلاً في معنى هذين القولين لوجدناه مغايراً لمعايير القرآن الكريم بعيداً كل البعد عن روح الشريعة الاسلامية ، وعن المنطق القويم والعقل السليم ومخالفاً أيضاً لصريح التاريخ الصحيح، بل ومخالف حتى لما نسمعه من قصص من أرض الواقع أو ما نلمسه فيه من وقائع.. فأما مناقضته للقرآن الكريم فواضحة جداً، إذ إن الله (تعالى) قد أوضح فيه وبشكلٍ جلي ملاك التفاضل بين الناس، إذ قال (عز من قائل):" يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)"(1) جاعلاً التقوى مِلاكاً للتفاضل، فمن كان أتقى كان أفضل، ومن البديهي أن تكون معاشرته كذلك، والعكس صحيحٌ أيضاً. وعليه فإن من سبق حاجتُه وفقرُه شبعَه وغناه يكون هو الأفضل، وبالتالي تكون معاشرته هي الأفضل كذلك فيما لو كان تقياً بخلاف من شبع وكان غنياً ، ثم افتقر وجاع فإنه لن يكون الأفضل ومعاشرته لن تكون كذلك طالما كان بعيداً عن التقوى. وأما بُعده عن روح الشريعة الإسلامية فإن الشريعة لطالما أكدت على أن الله (سبحانه وتعالى) عادلٌ لا جور في ساحته ولا ظلمَ في سجيته، وبالتالي لا يمكن أن يُعقل إطلاقاً أن يجعل البعض فقيراً ويتسبب في دخالة الخير في نفوسهم، التي يترتب عليها نفور الناس من عشرتهم، فيما يُغني سواهم ويجعل الخير متأصلاً في نفوسهم بسبب إغنائه إياهم ليس إلا ومن ثم يتسبب في كون الخير متأصلاً في نفوسهم، وبالتالي حب الناس لعشرتهم. فإن ذلك مخالف لمقتضى العدل الإلهي لأنه ليس بعاجزٍ عن تركه ولا بمُكره على فعله، ولا محب لذلك لهواً وعبثاً (تعالى عن كل ذلك علواً كبيراً). كما إن تأصل الخير في نفوس بعض الناس ودخالته في نفوس البعض الآخر منهم بناءً على أمر خارج عن إرادتهم واختيارهم كـ(الغنى والشبع أو الجوع والفقر) إنما هو أمرٌ منافٍ لمنهج الشريعة المقدسة القائم على حرية الانسان في اختياره لسبيل الخير والرشاد أو سبيل الشر والفساد، قال (تعالى):" إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)"(2) بل إن الانسان أحياناً قد يكون فقيراً بسبب حب الله (تعالى) له، كما ورد في الحديث القدسي: "أن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى فلو أفقرته لأفسده ذلك و أن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر فلو أغنيته لأفسده ذلك"(3) وهل يمكن ان نتصور أن الخيرَ دخيلٌ فيمن يحبه الله (تعالى) أو إن معاشرته لا تجدي نفعا، أو تسبب الهم والألم؟! نعم، ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"اِحْذَرُوا صَوْلَةَ اَلْكَرِيمِ إِذَا جَاعَ وَ اَللَّئِيمِ إِذَا شَبِعَ"(4) ولا يقصد به الجوع والشبع المتعارف عليه لدى الناس، وإنما المراد منه: احذروا صولة الكريم إذا اُمتُهِن، واحذروا صولة اللئيم إذا أكرم، وفي هذا المعنى ورد عنه (عليه السلام) أيضاً: "احذروا سطوة الكريم إذا وضع و سورة اللئيم إذا رفع"(5) وأما العقل السليم والمنطق القويم فإنهما يقتضيان أن تتأصل صفة الخير في الإنسان لملكاتٍ حميدة يتسم بها وصفات فضيلة يتميز بها، لا أن تتأصل صفة الخير في نفسه لمجرد أنه ولد في أسرة تتمتع بالرفاهية الاقتصادية ووجد في بيئة تتنعم بالثروات المادية! وعند مراجعتنا للتاريخ الصحيح نجد أن قادة البشر وصفوة الناس إنما كان أغلبهم ينتمي الى الطبقات الفقيرة من المجتمع، فهؤلاء الأنبياء ورسل الله (صلوات الله عليهم) منهم من كان نجاراً أو خياطاً أو راعياً، ومع ذلك فقد كانوا من أطيب الناس خلقاً، وأعظمهم شرفاً، وأرفعهم منزلةً، قد تأصّل الخير في نفوسهم تأصّلاً حتى غدوا قطعة منه، فكانوا هم الخير للبشر، وهم الرحمة للعالمين. وبالنزول إلى أرض الواقع نجد أن الكثير من الفقراء والمساكين طيبي الروح، كريمي النفس، يتألمون لألم المحتاج ولربما يؤثرونه على أنفسهم رغم حاجتهم. ولا نقصد من كلامنا هذا أن الأغنياء هم على نقيض ذلك، وإنما تأكيداً على مسألة عدم ارتباط تأصل الخير في النفوس وعدمه بمستواهم الاقتصادي الذي نشأوا فيه ارتباط العلة والمعلول، فكما إن بعض الفقراء أخيار، فإن بعض الأغنياء كذلك، والعكس صحيح أيضاً. ومن هنا يُفهم من بعض الروايات ضرورة عدم طلب الخير والحاجات ممن هم أهل للخير بقطع النظر عن مستواهم المعاشي الحالي والسابق، منها ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"أشد من الموت طلب الحاجة من غير أهلها"(5)، وعنه (عليه السلام) أيضاً: "فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غير أهلها"(6) إذن فلا صحة لهاتين المقولتين من حيث الدلالة، حتى وإن تنزلنا وحملنا الجوع والشبع على المعنى المعنوي لا المادي؛ وذلك لأنه حتى من يفتقر الى الأخلاق المعنوية فإنه ما إن يتكامل بالفضائل ويقلع عن الرذائل حتى يتسم بالخير وتحسن عشرته وتطيب للناس صحبته، والعكس صحيحٌ أيضا.. ومن البديهي أن ما لا يوافق العقل والمنطق السليم، ويخالف صريح القرآن الكريم، لا يمكن أن يصدر من وصي الرسول الكريم (صلوات الله عليهما وآلهما)، وعليه لا تصح نسبة هذين القولين الى أمير المؤمنين (عليه السلام).. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الحجرات 13 (2) الانسان 3 (3) عوالي الآلي ج2 ص29 (4) غرر الحكم ج1 227 (5) المدر السابق ج1 ص246 (6) ميزان الحكمة ج4 ص 238 رضا الله غايتي

اخرى
منذ 6 سنوات
76201

بين طيبة القلب وحماقة السلوك...

خلق الله الأشياء كلها في الحياة ضمن موازين وقياسات... فالزيادة أو النقيصة تسبب المشاكل فيها. وهكذا حياتنا وأفعالنا وعواطفنا لا بد أن تكون ضمن موازين دقيقة، وليست خالية منها، فالزيادة والنقيصة تسبب لنا المشاكل. ومحور كلامنا عن الطيبة فما هي؟ الطيبة: هي من الصفات والأخلاق الحميدة، التي يمتاز صاحبها بنقاء الصدر والسريرة، وحُبّ الآخرين، والبعد عن إضمار الشر، أو الأحقاد والخبث، كما أنّ الطيبة تدفع الإنسان إلى أرقى معاني الإنسانية، وأكثرها شفافية؛ كالتسامح، والإخلاص، لكن رغم رُقي هذه الكلمة، إلا أنها إذا خرجت عن حدودها المعقولة ووصلت حد المبالغة فإنها ستعطي نتائج سلبية على صاحبها، كل شيء في الحياة يجب أن يكون موزوناً ومعتدلاً، بما في ذلك المحبة التي هي ناتجة عن طيبة الإنسان، وحسن خلقه، فيجب أن تتعامل مع الآخرين في حدود المعقول، وعندما تبغضهم كذلك وفق حدود المعقول، ولا يجوز المبالغة في كلا الأمرين، فهناك شعرة بين الطيبة وحماقة السلوك... هذه الشعرة هي (منطق العقل). الإنسان الذي يتحكم بعاطفته قليلاً، ويحكّم عقله فهذا ليس دليلاً على عدم طيبته... بالعكس... هذا طيب عاقل... عكس الطيب الأحمق... الذي لا يفكر بعاقبة أو نتيجة سلوكه ويندفع بشكل عاطفي أو يمنح ثقة لطرف معين غريب أو قريب... والمبررات التي يحاول إقناع نفسه بها عندما تقع المشاكل أنه صاحب قلب طيب. الطيبة لا تلغي دور العقل... إنما العكس هو الصحيح، فهي تحكيم العقل بالوقت المناسب واتخاذ القرار الحكيم الذي يدل على اتزان العقل، ومهما كان القرار ظاهراً يحمل القسوة أحياناً لكنه تترتب عليه فوائد مستقبلية حتمية... وأطيب ما يكون الإنسان عندما يدفع الضرر عن نفسه وعن الآخرين قبل أن ينفعهم. هل الطيبة تصلح في جميع الأوقات أم في أوقات محددة؟ الطيبة كأنها غطاء أثناء الشتاء يكون مرغوباً فيه، لكنه اثناء الصيف لا رغبة فيه أبداً.. لهذا يجب أن تكون الطيبة بحسب الظروف الموضوعية... فالطيبة حالة تعكس التأثر بالواقع لهذا يجب أن تكون الطيبة متغيرة حسب الظروف والأشخاص، قد يحدث أن تعمي الطيبة الزائدة صاحبها عن رؤيته لحقيقة مجرى الأمور، أو عدم رؤيته الحقيقة بأكملها، من باب حسن ظنه بالآخرين، واعتقاده أن جميع الناس مثله، لا يمتلكون إلا الصفاء والصدق والمحبة، ماي دفعهم بالمقابل إلى استغلاله، وخداعه في كثير من الأحيان، فمساعدة المحتاج الحقيقي تعتبر طيبة، لكن لو كان المدّعي للحاجة كاذباً فهو مستغل. لهذا علينا قبل أن نستخدم الطيبة أن نقدم عقولنا قبل عواطفنا، فالعاطفة تعتمد على الإحساس لكن العقل أقوى منها، لأنه ميزان يزن الأشياء رغم أن للقلب ألماً أشد من ألم العقل، فالقلب يكشف عن نفسه من خلال دقاته لكن العقل لا يكشف عن نفسه لأنه يحكم بصمت، فالطيبة يمكن أن تكون مقياساً لمعرفة الأقوى: العاطفة أو العقل، فالطيّب يكون قلبه ضعيفاً ترهقه الضربات في أي حدث، ويكون المرء حينها عاطفياً وليس طيباً، لكن صاحب العقل القوي يكون طيباً أكثر من كونه عاطفياً. هل الطيبة تؤذي صاحبها وتسبب عدم الاحترام لمشاعره؟ إن الطيبة المتوازنة المتفقة مع العقل لا تؤذي صاحبها لأن مفهوم طيبة القلب هو حب الخير للغير وعدم الإضرار بالغير، وعدم العمل ضد مصلحة الغير، ومسامحة من أخطأ بحقه بقدر معقول ومساعدة المحتاج ... وغيرها كثير. أما الثقة العمياء بالآخرين وعدم حساب نية المقابل وغيرها فهذه ليست طيبة، بل قد تكون -مع كامل الاحترام للجميع- غباءً أو حماقة وسلوكاً غير عقلاني ولا يمت للعقل بصلة. إن المشكلة تقع عند الإنسان الطيب عندما يرى أن الناس كلهم طيبون، ثم إذا واجهه موقف منهم أو لحق به أذى من ظلم أو استغلال لطيبته، تُغلق الدنيا في وجهه، فيبدأ وهو يرى الناس الطيبين قد رحلوا من مجتمعه، وأن الخير انعدم، وتحصل له أزمة نفسية أو يتعرض للأمراض، لأن الطيّب يقدم الإحسان للناس بكل ما يستطيع فعله، ويقدّم ذلك بحسن نية وبراءة منه، فهو بالتالي ينتظر منهم الرد بالشكر أو المعاملة باللطف على الأقل... صحيح أن المعروف لوجه الله، ولكن من باب: من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق، لذلك يتأذى عندما يصدر فعل من الشخص الذي كان يعامله بكل طيب وصدق. هل الطيبة والصدق من علامات ضعف الشخصية؟ الكثير من الناس يصف طيب القلب بأنه ضعيف الشخصية، لأنه يتصف بعدم الانتقام ممن ظلمه، والصفح عنه عند رجوعه عن الخطأ، وأنه لا يحب إيقاع الآخرين بالمشاكل؛ لأنه مقتنع أن الله سيأخذ له حقه. والحقيقة هي أن الصدق والطيبة وحسن الظن بالآخرين ليست ضعف شخصية، بل هي من الأخلاق الراقية وهي تزيد صاحبها سمواً وجمالاً روحياً، وليس من المعيب أن يمتلك الإنسان الطيبة بل العيب في من لا يُقدّر هذه الطيبة ويعطيها حقها في التعامل بالمثل. فالمشكلة الأساسية ليست في الطيبة، إنما في استغلال الآخرين لهذه الطيبة، نتيجة لعدم عقلنة قراراتنا والاعتماد على عواطفنا بشكل كلي. فالصدق والطيبة حسب المنطق والعقل، ولها فوائد جمة للنفس ولعموم أفراد المجتمع، فهي تحصين للشخص عن المعاصي، وزيادة لصلة الإنسان بربه، وتهذيب للنفس والشعور بالراحة النفسية، فالصادق الطيب ينشر المحبة بين الناس، وهذا يعزّز التماسك الاجتماعي وتقويته من سوء الظنون والحقد، وهذا التعامل أكّدت عليه جميع الشرائع السماوية، ولو تأمّلنا تاريخ وأخلاق الأنبياء والأوصياء لوجدنا كل ما هو راقٍ من الأخلاق والتعامل بالطيبة والصدق... حنان الزيرجاوي

اخرى
منذ 5 سنوات
56130

الطلاق ليس نهاية المطاف

رحلةٌ مثقلة بالألم في طريق يئن من وطأة الظلم! ينهي حياة زوجية فشلت في الوصول إلى شاطئ الأمان. ويبدد طموحات أطفال في العيش في هدوء نفسي واجتماعي تحت رعاية أبوين تجمعهم المودة والرحمة والحب. الطلاق شرعاً: هو حل رابطة الزواج لاستحالة المعاشرة بالمعروف بين الطرفين. قال تعالى: [ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)].(١). الطلاق لغوياً: من فعل طَلَق ويُقال طُلقت الزوجة "أي خرجت من عصمة الزوج وتـحررت"، يحدث الطلاق بسبب سوء تفاهم أو مشاكل متراكمة أو غياب الانسجام والحب. المرأة المطلقة ليست إنسانة فيها نقص أو خلل أخلاقي أو نفسي، بالتأكيد إنها خاضت حروباً وصرعات نفسية لا يعلم بها أحد، من أجل الحفاظ على حياتها الزوجية، ولكن لأنها طبقت شريعة الله وقررت مصير حياتها ورأت أن أساس الـحياة الزوجيـة القائم على المودة والرحـمة لا وجود له بينهما. فأصبحت موضع اتهام ومذنبة بنظر المجتمع، لذلك أصبح المـجتمع يُحكم أهواءه بدلاً من الإسلام. ترى، كم من امرأة في مجتمعنا تعاني جرّاء الحكم المطلق ذاته على أخلاقها ودينها، لا لسبب إنما لأنها قررت أن تعيش، وكم من فتاة أُجبرت قسراً على أن تتزوج من رجل لا يناسب تطلعاتها، لأن الكثير منهن يشعرن بالنقص وعدم الثقة بسبب نظرة المجتمع، وتقع المرأة المطلّقة أسيرة هذه الحالة بسبب رؤية المجتمع السلبيّة لها. وقد تلاحق بسيل من الاتهامات وتطارد بجملة من الافتراءات. وتعاني المطلقة غالباً من معاملة من حولها، وأقرب الناس لها، بالرغم من أن الطلاق هو الدواء المر الذي قد تلجأ إليه المرأة أحياناً للخلاص من الظلم الذي أصبح يؤرق حياتها الزوجية، ويهدد مستقبلها النفسي، والله تعالى لم يشرع أمراً لخلقه إلا إذا كان فيه خير عظيم لهم، والطلاق ما شرّع إلا ليكون دواء فيه شفاء وإن كان مرّاً، وإن كان أمره صعباً على النفوس، حيث قال عز وجل: "وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا"، روي عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) ((أبغض الحلال إلى الله الطلاق) (٢). ورغم أن الشريعة الإسلامية أباحت الطلاق بشروط تلاءم لبناء المجتمع، وأولت أهمية في الإحسان دائمًا للطرف الأضعف والأكثر خسارة في هذه المعادلة وهي "المرأة"، إلا أن المجتمع الذي يدّعي الإسلام لا يرحمها، ويحكم عليها بالإدانة طوال حياتها دون النظر في صحة موقفها في الطلاق من عدمه! قال( تعالى ): [الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] (٣). ولكن بعد كل هذا فالحياة لم ولن تتوقف بعد الطلاق! الطلاق ليس نهاية الحياة. - أخيتي. ليكن الطلاق بداية جديدة لحياة جديدة وللانطلاق. -قطار العطاء لن يتعطل. فإن كنت السبب في الطلاق فالحمد لله على كل حال وتلك أمة قد خلت وأيام ذهبت وانجلت فلست بالمعصومة من الخطأ. وعليك استدراك الأخطاء وتقوية مواطن الضعف في شخصيتك، واجعليها درساً مفيداً في الحياة لتطوير نفسك وتقويتها. وإذا كنتِ مظلومة فهناك جبار يُحصي الصغير والكبير وسيأتي يوم ينتصر لك فيه. -ومن الجميل أن تعطي نفسك الإحساس بالحب والاحترام، ولا تتأثري بأي نظرة سلبية من المجتمع وكون البعض يتعامل مع المطلقة على أنها حالة خاصة فعليكِ إثبات ذاتك حتى تفرضي على الكل شخصيتك. - نظرتك لنفسك اجعليها نظرة ايجابية مشرقة ولا تنزلقي في مستنقع نبذ الذات وظلم النفس. - ابحثي عن الصفات الجيدة فيك فإن ذلك سيشعرك بالثقة في ذاتك والتقدير لها. -حاولي مراجعة نفسك للخروج بإيجابيات حصلت لك من طلاقك. - خالطي الآخرين وإياك والعزلة بسبب وضعك الجديد فلست بأول من يبتلى بالطلاق. -استمتعي بالموجود ولا تتعلقي بالمفقود، حلقي بروح تعبق أملاً وتفاؤلاً، استمتعي بما وهبك الله من نعم (صحة وأولاد وأهل وصديقات وعمل وهوايات وغيرها من الأمور الجميلة) فما حصل لك حصل… ولابد أن تتقبليه برضا، وأعلمي أن ما أصابك لم يكن ليخطأك وما أخطأك لم يكن ليصيبك. وقال أصدق من قال: ( وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم). فالرضا سر السعادة الحقيقي. - اقتربي من صديقاتك الصالحات، واقضي معهن وقتاً طيباً تنسين به ألمك وحزنك. - احرصي على الصلوات وقراءة القرآن الكريم والذكر والاستغفار وأكثري من الطاعات قدر ما تستطيعين، ففيها السلوى والفرح والسعادة. ونعم سعادة القرب من الرحمن. - اشغلي نفسك بأعمال البر والإحسان بمساعدة محتاج. بكفالة يتيم. بتعلم الفقه والقرآن وتعليمه. - اجتهدي في عمل برنامج يومي لك يكون ممتلأ بكل ما هو مفيد لك. من قراءة وزيارة الأصدقاء وصلة الرحم. بحيث لا تكون هناك دقيقة أنت فارغة فيها. - وأسرعي بقاربك الجميل بمجذافين من إيمان بالله وثقة بالنفس وسوف تصلين بإذن الله نحو جزيرة السعادة والنجاح. لكي تتسلق جبال الإنجاز، وتصل لأعلى مراتب الاعجاز. وعندها جزماً سيكون للحياة معنى آخر. --------------------------------- (١)-سورة البقرة الآية (٢٢٦-٢٢٧). (٢)-الكافي (٢)-سورة البقرة الآية (٢٢٨) حنان ستار الزيرجاوي

اخرى
منذ 6 سنوات
43336

لا تقاس العقول بالأعمار!

(لا تقاس العقول بالأعمار، فكم من صغير عقله بارع، وكم من كبير عقله فارغ) قولٌ تناولته وسائل التواصل الاجتماعي بكل تقّبلٍ ورضا، ولعل ما زاد في تقبلها إياه هو نسبته الى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولكننا عند الرجوع إلى الكتب الحديثية لا نجد لهذا الحديث أثراً إطلاقاً، ولا غرابة في ذلك إذ إن أمير البلاغة والبيان (سلام الله وصلواته عليه) معروفٌ ببلاغته التي أخرست البلغاء، ومشهورٌ بفصاحته التي إعترف بها حتى الأعداء، ومعلومٌ كلامه إذ إنه فوق كلام المخلوقين قاطبةً خلا الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ودون كلام رب السماء. وأما من حيث دلالة هذه المقولة ومدى صحتها فلابد من تقديم مقدمات؛ وذلك لأن معنى العقل في المفهوم الإسلامي يختلف عما هو عليه في الثقافات الأخرى من جهةٍ، كما ينبغي التطرق الى النصوص الدينية الواردة في هذا المجال وعرضها ولو على نحو الإيجاز للتعرف إلى مدى موافقة هذه المقولة لها من عدمها من جهةٍ أخرى. معنى العقل: العقل لغة: المنع والحبس، وهو (مصدر عقلت البعير بالعقال أعقله عقلا، والعِقال: حبل يُثنَى به يد البعير إلى ركبتيه فيشد به)(1)، (وسُمِّي العَقْلُ عَقْلاً لأَنه يَعْقِل صاحبَه عن التَّوَرُّط في المَهالِك أَي يَحْبِسه)(2)؛ لذا روي عنه (صلى الله عليه وآله): "العقل عقال من الجهل"(3). وأما اصطلاحاً: فهو حسب التصور الأرضي: عبارة عن مهارات الذهن في سلامة جهازه (الوظيفي) فحسب، في حين أن التصوّر الإسلامي يتجاوز هذا المعنى الضيّق مُضيفاً إلى تلك المهارات مهارة أخرى وهي المهارة العبادية. وعليه فإن العقل يتقوّم في التصور الاسلامي من تظافر مهارتين معاً لا غنى لأحداهما عن الأخرى وهما (المهارة العقلية) و(المهارة العبادية). ولذا روي عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنه عندما سئل عن العقل قال :" العمل بطاعة الله وأن العمّال بطاعة الله هم العقلاء"(4)، كما روي عن الإمام الصادق(عليه السلام)أنه عندما سئل السؤال ذاته أجاب: "ما عُبد به الرحمن، واكتسب به الجنان. فسأله الراوي: فالذي كان في معاوية [أي ماهو؟] فقال(عليه السلام): تلك النكراء، تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل"(5) والعقل عقلان: عقل الطبع وعقل التجربة، فأما الأول أو ما يسمى بـ(الوجدان الأخلاقي) فهو مبدأ الادراك، وهو إن نَما وتطور سنح للإنسان فرصة الاستفادة من سائر المعارف التي يختزنها عن طريق الدراسة والتجربة وبالتالي يحقق الحياة الإنسانية الطيبة التي يصبو اليها، وأما إن وهن واندثر لإتباع صاحبه الأهواء النفسية والوساوس الشيطانية، فعندئذٍ لا ينتفع الانسان بعقل التجربة مهما زادت معلوماته وتضخمت بياناته، وبالتالي يُحرم من توفيق الوصول إلى الحياة المنشودة. وعقل التجربة هو ما يمكن للإنسان اكتساب العلوم والمعارف من خلاله، وما أروع تشبيه أمير البلغاء (عليه السلام) العلاقة التي تربط العقلين معاً إذ قال فيما نسب إليه: رأيت العقل عقلين فمطبوع ومسموع ولا ينفع مسموع إذ لم يك مطبــوع كما لا تنفع الشمس وضوء العين ممنوع(6) فقد شبّه (سلام الله عليه) عقل الطبع بالعين وعقل التجربة بالشمس، ومما لاشك فيه لكي تتحقق الرؤية لابد من أمرين: سلامة العين ووجود نور الشمس، وكما إن الثاني لا ينفع إن لم يتوفر الأول فكذلك عقل التجربة لا ينفع عند غياب عقل الطبع فضلاً عن موته. وبما إن عقل الطبع قد ينمو ويزدهر فينفع صاحبه من عقل التجربة، وقد يموت ويندثر عند الاستسلام لإضلال شبهةٍ أوبسبب إرتكاب معصية، فإنه ومن باب أولى أن يتعرض الى الزيادة والنقصان كما سيأتي... وقد ورد في النصوص الدينية أن للعقل زمناً ينمو فيه ويكتمل، فعن إمامنا أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه):"يثغر الصبي لسبع، ويؤمر بالصلاة لتسع، ويفرق بينهم في المضاجع لعشر، ويحتلم لأربع عشرة، وينتهى طوله لإحدى وعشرين سنة، وينتهي عقله لثمان وعشرين إلا التجارب"(7)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يربى الصبي سبعاً ويؤدب سبعاً، ويستخدم سبعاً، ومنتهى طوله في ثلاث وعشرين سنة، وعقله في خمس وثلاثين [سنة] وما كان بعد ذلك فبالتجارب"(8). إذن يتوقف النمو الطبيعي لعقل الانسان عند سن الثامنة والعشرين أو الخامسة والثلاثين كما ورد في الروايتين، وأية زيادة أخرى في طاقته بعد ذلك إنما تأتي عن طريق التجارب، وقد يُتوهم بأن ثمة تعارضاً ما بين الروايتين المتقدمتين في شأن تحديد سن النمو العقلي، إلا إنه لا تعارض ينهما إذا حملنا اختلافهما فيه على اختلاف الاشخاص وتباين استعدادات وقابليات كل منهم. وعلى الرغم من توقف نمو عقل الإنسان إلا إن له أنْ يزيده بالتجارب ومواصلة التعلم ــ كما تقدم في الروايات ــ وسواء أثبت العلم هذه الحقيقة الروائية أم لا، فنحن نريد الإشارة إلى ضرورة استمرار التجربة والتعلم لزيادة نمو العقل وهذا المقدار لا خلاف فيه وعلى الرغم من إن لعمر الانسان مدخلية في زيادة عقله كما تقدم وكما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يزيد عقل الرجل بعد الاربعين إلى خمسين وستين، ثم ينقص عقله بعد ذلك"(9)، إلا إن ذلك ليس على نحو العلة التامة، إذ يمكن للعقل أن يبقى شاباً وقوياً وإن شاب الإنسان وضعف جسمه، وتقدم في السن ووهن عظمه، فالعاقل لا يشيب عقله ولا تنتقص الشيخوخة من قوته بل وقد يزداد طاقةً وحيويةً لذا ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"رأي الشيخ أحب الي من جَلَد الغلام"(10)، وفي أخرى ".....من حيلة الشباب "(11) وأما من لم يوفر أسباب صقل عقله في مرحلة الشباب فإنه بلا شك يضمحل عقله في مرحلة الشيخوخة. وليس تقدم العمر هو العامل الوحيد في نقصان العقل بل إن النصوص الشرعية أشارت الى عوامل عديدة اخرى أهمها: أولاً: التعلم: فقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "من لم يصبر على ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبداً"(13). ثانياً: التوبة: وعنه (عليه السلام) ايضاً:"من لم يرتدع يجهل"(14) ثالثاً: التقوى: فقد كتب إمامنا الباقر (عليه السلام) إلى سعد الخير: "بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإني اوصيك بتقوى الله فإن فيها السلامة من التلف والغنيمة في المنقلب إن الله (عزوجل) يقي بالتقوى عن العبد ما عزب عنه عقله ويجلي بالتقوى عنه عماه وجهله"(15) إذن التوبة هي سبب للتوفيق الإلهي الذي يؤدي فيما يؤدي إليه من إكمال العقل. رابعاً: الوقوف عند الشبهة: وقال (عليه السلام ): "لا ورع كالوقوف عند الشبهة"(16). فإن الوقوف عند الشبهات سبب من أسباب التوفيق الإلهي بلا شك. خامساً: الاعتراف بالجهل: كما روي عن الإمام علي (عليه السلام): "غاية العقل الاعتراف بالجهل"(17) إذ الاعتراف بالجهل يدفع الإنسان دوماً إلى مزيد من بذل الجهد واكتساب المعارف. مما تقدم تتضح جلياً صحة هذه المقولة دلالةً، إذ إن العقول فعلاً لا تقاس بالأعمار لأن كلٍاً من زيادتها ونقيصتها منوطٌ بالعديد من العوامل الأخرى والتي تقدم ذكرها، بيد إن ذلك لا يبرر التساهل في نشرها والتهاون في الاستشهاد بها على إنها من أقوال أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) لعدم ثبوت ذلك سنداً من جهة ولضعف بلاغتها وركاكة تركيبها بالنسبة إلى سيد البلغاء والبلاغة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) تهذيب اللغة ج1 ص65 (2) لسان العرب ج11 ص458 (3) نهاية الحكمة ص305 (4) ميزان الحكمة ج3 ص333 (5) أصول الكافي ج1، ح3 / 11 (6) نهج السعادة ج9 ص163 (7) الكافي ج7 ص94 (8) الفقيه ج3 ص493 (9) الاختصاص ص245 (10) نهج البلاغة حكمة 86 (11) بحار الأنوار ج72 ص105 (12) المصدر السابق ج1 ص94 (13) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص118 (14) الكافي ج8 ص73 (15) وسائل الشيعة ج1 ص162 (16) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص1 بقلم الكاتبة: رضا الله غايتي

اخرى
منذ 6 سنوات
42954

المرأة في فكر الإمام علي (عليه السلام)

بقلم: أم نور الهدى كان لأمير المؤمنين (عليه السلام) اهتمام خاص بالمرأة، فنراه تارة ينظر إليها كآية من آيات الخلق الإلهي، وتجلٍ من تجليات الخالق (عز وجل) فيقول: (عقول النساء في جمالهن وجمال الرجال في عقولهم). وتارة ينظر إلى كل ما موجود هو آية ومظهر من مظاهر النساء فيقول: (لا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها فإن المرأة ريحانة وليس قهرمانة). أي إن المرأة ريحانة وزهرة تعطر المجتمع بعطر الرياحين والزهور. ولقد وردت كلمة الريحان في قوله تعالى: (فأمّا إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة النعيم) والريحان هنا كل نبات طيب الريح مفردته ريحانة، فروح وريحان تعني الرحمة. فالإمام هنا وصف المرأة بأروع الأوصاف حين جعلها ريحانة بكل ما تشتمل عليه كلمة الريحان من الصفات فهي جميلة وعطرة وطيبة، أما القهرمان فهو الذي يُكلّف بأمور الخدمة والاشتغال، وبما إن الإسلام لم يكلف المرأة بأمور الخدمة والاشتغال في البيت، فما يريده الإمام هو إعفاء النساء من المشقة وعدم الزامهن بتحمل المسؤوليات فوق قدرتهن لأن ما عليهن من واجبات تكوين الأسرة وتربية الجيل يستغرق جهدهن ووقتهن، لذا ليس من حق الرجل إجبار زوجته للقيام بأعمال خارجة عن نطاق واجباتها. فالفرق الجوهري بين اعتبار المرأة ريحانة وبين اعتبارها قهرمانة هو أن الريحانة تكون، محفوظة، مصانة، تعامل برقة وتخاطب برقة، لها منزلتها وحضورها. فلا يمكن للزوج التفريط بها. أما القهرمانة فهي المرأة التي تقوم بالخدمة في المنزل وتدير شؤونه دون أن يكون لها من الزوج تلك المكانة العاطفية والاحترام والرعاية لها. علماً أن خدمتها في بيت الزوجية مما ندب إليه الشره الحنيف واعتبره جهادًا لها أثابها عليه الشيء الكثير جدًا مما ذكرته النصوص الشريفة. فمعاملة الزوج لزوجته يجب أن تكون نابعة من اعتبارها ريحانة وليس من اعتبارها خادمة تقوم بأعمال المنزل لأن المرأة خلقت للرقة والحنان. وعلى الرغم من أن المرأة مظهر من مظاهر الجمال الإلهي فإنها تستطيع كالرجل أن تنال جميع الكمالات الأخرى، وهذا لا يعني أنها لا بد أن تخوض جميع ميادين الحياة كالحرب، والأعمال الشاقة، بل أن الله تعالى جعلها مكملة للرجل، أي الرجل والمرأة أحدهما مكمل للآخر. وأخيرًا إن كلام الإمام علي (عليه السلام) كان تكريمًا للمرأة ووضعها المكانة التي وضعها الله تعالى بها، حيث لم يحملها مشقة الخدمة والعمل في المنزل واعتبر أجر ما تقوم به من اعمال في رعاية بيتها كأجر الجهاد في سبيل الله.

اخرى
منذ 5 سنوات
39678

أساليب في التربية

عالم الطفولة كأنه طاولة، لا تجد فيه غير طعام لذيذ، ومنظر لطيف وجديد، فعالمهم فاكهة الوجود، وخضار الأرواح، ومياه الحياة تسقي القلوب... عالم صفاء وأحلام جميلة بسيطة وتافهة ولكن بنظرهِ هو عظيمة وكبيرة، فهو العالم الذي ينطلق منه الإنسان في بداية عمره. فالطفل في بداية حياته ينظر إلى الحياة بتفكيره البريء، فالطفل يعيش بعالم خاص به مملوء بالمحبة البريئة. هذه هي الصورة الجميلة التي يحملها الطفل، وكم يتمنى كل إنسان أن يعود لطفولته البريئة ليتأمل في أرجاء عالمها الذي كان يصور له حياة مختلفة تشد الإنسان إليها بجمالها، هذا هو عالم الطفولة وهذه أحلام من يعيشها، فلا ينفذ إلى ملكوت ذلك العالم ولا يدرك كنهه إلا من عاشه وجال في ربوعه. حيث يتذوق الطفل مع أحلام طفولته هذه لذة الحياة ولذة العيش فيها، ومهما حاولنا أن نعبر عن هذه الحقيقة فلن نستطيع تصويرها بالكلمات. وبعد هذا، فإن الاهتمام بمستقبل الطفل هو في الواقع ضمان لمستقبل شعب بأسره. قال اللَّه تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا". التحريم/6 أعتنى الإسلام بتربية الأبناء عناية فائقة، وألقى على عاتق الأهل ما سيكون عليه الولد في مسلكه الدنيوي ومصيره الأخروي إن هم قصروا في تربيته وإعداده. وقد ذكر العلماء أن شخصية الولد تتأثر في نموها بعوامل ثلاثة وهي: الوراثة، والبيئة، والتربية. إذا خضنا في مضمار التربية السليمة للأبناء... فعلى الأبوين أن يكون لهما الوعي التربوي الذي يبنى على أسس صحيحة ويتوفر لديهم فهم لأساليب التربية والتوجيه والرعاية وهذه نقطة البداية. فمثلاً في أسلوب التعامل مع الطفل تبرز أمامنا ثلاثة اشكال لتعامل الآباء مع الأبناء: الشكل الأول: أسلوب الدلال المفرط وهذا الأسلوب له نتائجه السلبية الخطيرة، فإنه يخلق شخصية هشة متميعة وشخصية اتكالية تحب الكسل والخمول مجردة من الهدف والإقدام، انهزامية غير قادرة على مواجهة التحديات وبمعنى أدق شخصية لا تثق بنفسها. شخصية متسيبة في ظل غياب المراقبة والمحاسبة وهذا التسيب يقود إلى الانفلات والانحراف. الشكل الثاني: فهو أسلوب التربية القاسية والعنف. وهذا الأسلوب أيضاً له نتائجه الخطيرة والسلبية التي يعاني منها الأبناء طوال حياتهم فهو يخلق شخصية قلقة ومتأزمة ومعقدة وخائفة وتحمل عقدة الخوف، شخصية حاقدة وعدوانية وقد تتأزم الأمور لتصبح شخصية منافقة وكاذبة خوفاً من العقاب والتعنيف ضمن حدود الأسرة ولكن يوماً من الأيام سينطلق هذا الشخص ليواجه المجتمع ككل، فلنتصور كيف سيتعامل مع المحيطين ضمن مجالات الدراسة والعمل وهو شخصية هاربة من أجواء الأسرة وقد يعرضها للتسيب والانحراف لأنها شخصية متمردة مما يعرضها للعقوق. الأسلوب الثالث: التوازن. الأسلوب الصحيح يعتمد على التوازن فمن شروط نجاح التربية التوازن في المعاملة ما بين الأمور التي تحتاج إلى شدة وحزم ليتربى على أن هذه الأمور خطوط حمراء طبعاً هنا يمكن أن يعترض أحد ويقول: لا للعنف الأسري ولا لاستخدام القسوة. نعم فهناك طرق غير استخدام العنف. يكفي ان يبدي الآباء انزعاجهم مثلاً. وهنا النقطة مهمة جداً، وهي: أن نوضح لهم سبب المنع والرفض لا تعتقدوا أن أبناءكم لا يدركون ولن يفهموكم. تخصيص الوقت للنقاش مهم جداً. وما بين أسلوب المرونة والحنان والاحتواء. التوازن في المعاملة. إن الإمام زين العابدين (عليه السلام) يصرح بمسؤولية الأبوين بتربية الطفل، ويعتبر التنشئة الروحية والتنمية الخلقية لمواهب الأطفال واجباً دينياً يستوجب أجراً وثواباً من الله تعالى، وأن التقصير في ذلك يُعرّض الآباء إلى عقاب الله. فيقول (عليه السلام): (وأما حق ولدك عليك فأن تعلم أنه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره. وأنك مسؤول عما وليته به من حسن الأدب والدلالة على ربه عز وجل والمعونة له على طاعته. فأعمل في أمره عمل من يعلم أنه مثاب على الإحسان إليه معاقب على الإساءة إليه ) مكارم الأخلاق للطبرسي ص٢٣٢ حنان الزيرجاوي

اخرى
منذ 6 سنوات
33434