تشغيل الوضع الليلي
فشل النظام التربوي وأسبابه
منذ 6 سنوات عدد المشاهدات : 1950
فشل النظام التربوي وأسبابه
في ظل التطور التكنولوجي الذي شهّدهُ العالم مؤخراً، وهذه الانتقالة السريعة في تطور الصناعات بمختلف أشكالها وأنواعها، وتنافس الدول الكبرى في الساحة من أجل أثبات من هو الأقوى…
فإن هذا التقدم بمختلف أشكاله لم يمنع التقاتل بين الشعوب، بل سرّع وتيرته وأحدث صراعات واضطرابات وحروباً، والسبب الرئيسي في ذلك هو غياب وضعف الجانب الأخلاقي والإنساني لهذه الشعوب، وتغلب الطابع المادي والكسب بأي طريقة تؤدي إلى زيادة الثروات، وهذا مما أدى إلى تفكك المجتمعات بشكل عام وابتعادها عن الإنسانية بسبب سياسات الدول المادية، وقد عملت الدول الكبرى الاستعمارية منذ القدم على السيطرة على الشعوب العربية والتحكم في خيراتها ومقدراتها وسلب إرادتها، وقد نجحت في ذلك نجاحاً باهراً، وهذا النجاح سببه فقدان تلك الدول العربية ثقتها بنفسها من خلال عدم تمسكها بأوامر الله تعالى مما أفقدها قوتها وهيبتها وأضعف عزيمتها،
وحين استولت تلك الدول الغادرة على الوطن العربي ومزقته إلى دويلات خاضعة لنفوذها، عملت إلى القضاء على العقيدة الإسلامية ومحاربة القيم الأخلاقية والتي هي أساس قوة المجتمعات الإسلامية، فقد أدركت هذه القوى الاستكبارية أن قوة الأمة الإسلامية تكمن في تمسكها بعقيدتها وهويتها فعمدت إلى محاربة الوعي الإسلامي والقضاء عليه.
وقد استخدمت عدة أساليب خبيثة منها:
أولاً: تغيير المناهج التربوية:
وقد عمد المستعمرون إلى تغيير جميع مناهج التربية والتعليم في جميع البلدان الإسلامية فجردوها تجريداً كاملاً من المحتوى الديني والأخلاقي وعمدوا إلى تشويه التاريخ الإسلامي، وقد عهدت الحكومة البريطانية في مصر إلى (دنلوب) بوضع مناهج التعليم ووضع هذا الشخص سياسة خاصة أقصى من خلالها جميع الأسس التربوية والأخلاقية.
وقد قامت سياسة (دنلوب) إلى حشو المناهج بكمٍّ هائل من المعلومات والتواريخ المعادة والمكررة مما يؤدى إلى إرباك عملية التفكير وتوقفها وتحويل الأطفال إلى آلة للحفظ، والنتيجة هي الملل والكره للدراسة والتعليم وعدم الرغبة فيها والابتعاد عنها، وأغفلت وتغافلت عن الجانب التربوي والإنساني الذي يبني الإنسان الصالح.
والثاني: نظام التجانس العقيم الذي وحّد أساليب التربية والتعليم ومناهجها وخططها في جميع مدارس المرحلة الواحدة حتى أصبحت متكررة ومتشابهة وبذلك انعدم الطابع الشخصي الذي يجب أن تتمتع به كل مدرسة في حدود بيئتها الخاصة، وكذلك فعل الاحتلال البريطاني في العراق فقد عمد إلى تغيير المناهج التربوية وفقاً لمصالحه وأهوائه وبذلك صرف النظر عن بناء وغرس القيم الأخلاقية في نفوس الأجيال والناشئة، وهذا هو مبتغاه وهدفه.
وإلى يومنا هذا فإن المناهج الدراسية في العراق قائمة على أساس الحفظ والتلقين ودس أكبر عدد ممكن من المعلومات في أذهان التلاميذ وهذا ما يحوّل ذهن التلميذ إلى آلة لحفظ المعلومات دون العمل على تطوير عمليات الذهن بأشكال محببة إلى نفوس الأطفال، فأغلب المناهج مكثفة بالمعلومات ومكتظة بالتواريخ والأحداث التي لا تساهم في تطوير إبداع الطفل وصقل مهاراته والنهوض بشخصيته، وهنا توجب على الدول العربية ككل تغيير المناهج التربوية والدراسية وتطويرها وتسهيلها بشكل يناسب عقلية الطفل وقدرته، والأخذ بنظر الاعتبار علاقة هذه المعلومات بأحداث الحياة ليتم فهمها بشكل اعمق.
فتعليم الأطفال على منهج الحفظ والتلقين دون الفهم والإدراك يؤدي بوقت مبكر إلى ظهور الملل والسأم في نفوس الأطفال مما يدفع بهم إلى كراهية التعليم بسبب سخافة المعلومات وتكرارها وعدم فائدتها مما يفقد الرغبة في التعلم والدراسة ويؤدي بالأطفال إلى التهّرب من المدرسة والعزوف عنها، والنتيجة انتشار الجهل والتخلف في ربوع المجتمعات وظهور الخرافات وانعدام الوعي والمعرفة بين الناس.
قاسم المشرفاوي
اخترنا لكم
أنا الغديرُ
بقلم :العهد عرفتُ الله (تعالى) منذ أنْ عرفتك يا علي، وعشقتُ الله (جل وعلا) منذ أنْ عرفتك يا علي. جاء الغديرُ معلنًا عن حدثٍ عظيم، تنساب منه الكلمات مثل صفاء مائه وعذوبته، يختالُ ضاحكًا، ويترنمُ بحديثِه ويقول: السلام عليك يا أيُّها النبأ العظيم "الذي هم فيه مختلفون"، وعنه يسألون.. ويتمتمُ بكلماتِ العشق: السلامُ عليك يا أمير المؤمنين، وينسج منها حديثَ العشق الأزلي الذي تربّع على قلبه، فهو يهواهُ لسنين، (آمنتَ بالله وهم به مشركون، وصدّقتَ بالحقِّ وهم له مُكذِّبون، عبدتَ الله مخلصًا له الدين، صابرًا محتسبًا حتى أتاك اليقين). فزاد تعلقًا بهواه وبعشقه المُبين، وصار ينتظر قدومه ليحيا حياة العاشقين ويخلد تخليد الذاكرين على مرِّ السنين. شاء الله (سبحانه) أنْ أكون تاريخًا عظيمًا، وذكرًا خلّده تخليدًا على لسان النبي العظيم (صلى الله عليه وآله)، بأنْ جعلني موضع حادثةٍ اسمُها في السماء (اليوم المعهود)، وبالأرض (يوم الغدير). إذ كنتُ منذ كنتُ ولم أكن إلا حينما حلَّ بقربي رسولُ الإنسانية النبي محمد (صلى الله عليه وآله) حيث قام صادحًا بأمر ربه، فأوجب على أمته فرض وطاعة الولاية لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) بعد عودته من حجّة الوداع، والتوقّف في منطقة غدير خم - بإبلاغ المسلمين بالأمر الإلهي الصادر بتنصيب علي بن أبي طالب إمامًا للمسلمين، وخليفةً له عليهم، والتي انتهت بمبايعته من قبل كبارِ الصحابة وجميع الحجاج الحاضرين هناك. سأروي لكم ما جرى: مثلُ عذبِ مائي كنتُ أرى النّاس مجتمعين، فنودي لصلاة الظهر، فصلى النبي (صلى الله عليه وآله) بهم، ولمّا انصرف من صلاته قام خطيبًا وسط القوم على أقتاب الإبل وأسمعَ الجميع، قائلًا: الحمد لله ونستعينه ونؤمن به، ونتوكل عليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا الذي لا هادي لمن ضلّ، ولا مُضلّ لمن هدى. وأشهد أنْ لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله. أما بعد: أيُّها الناس، إنّي أوشك أنْ اُدعى فأجيب. وإنّي مسؤولٌ وأنتم مسؤولون، فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهدُ أنّك قد بلّغت ونصحت وجهدت فجزاك الله خيرًا. قال: ألستم تشهدون أنْ لا إله الا الله، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، وأنّ جنته حق، وناره حق، وأنّ الموت حق، وأنّ الساعة آتية لاريب فيها، وأنّ الله يبعث من في القبور؟ قالوا: بلى نشهد بذلك. قال: فإنّي فرط على الحوض، وأنتم واردون عليَّ الحوض. فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين؟ الأكبر كتاب الله طرفٌ بيدِ الله وطرفٌ بأيديكم فتمسكوا به لا تضلّوا، والآخر الأصغر عترتي. وإن اللطيف الخبير نبّأني أنّهما لنْ يتفرّقا حتى يردا عليّ الحوض، فسألتُ ذلك لهما ربّي. فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا، ثم أخذ بيدِ عليٍ فرفعها حتى رؤي بياضَ آباطهما وعرّفه القوم أجمعون. فقال: أيُّها الناس مَنْ أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: اللهُ ورسولُه أعلم، قال: إنّ الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم، فمن كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه. "يقولها ثلاث". ثم قال : اللهم والِ من والاَهُ، وعادِ من عادَاهُ، وأحب من أحبَّه، وأبغضْ من أبغضه، وأنصرْ من نصره، وأخذلْ من خذله، وأدِرْ الحقَّ معه حيث دار. ألا فليبلّغ الشاهد الغائب. وكان هذا التنصيبُ إثرَ نزولِ آيةِ التبليغ حيثُ أمر الله (تعالى) نبيه بتبليغ ما اُنزل إليه فإنْ لم يفعل فما بلّغ رسالته، قال (تعالى): "يَا أيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ مِن رَبِّكَ وَإن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاس" فوضع على نفسه أوزار المسير، في رمضاء الهجير، فخطب فاسمع، ونادى فابلغ، وبعدما قام النبي (صلى الله عليه وآله) بإبلاغ الأمر وتنصيب علي (عليه السلام) نزلت آية الإكمال ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾. وأخبر الله (سبحانه) عن إكمال الدين، وإتمام النعمة، وقد احتج المعصومون بهذه الواقعة على ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام). ومنذُ تلك اللحظة كان لسان حالي يترنم بكلماته ويُشنِّفُ أسماع الواقفين ويقول: "ألا لعنة الله على الظالمين". وصرتُ أطرِبُ لكلِّ من يحذو بحذو غديري، وأقول: اشرب على حبِّ علي عشق "الولاية العلوية والنور المحمدي السرمدي فكنتُ من ذي وذا عذبًا منذ أنْ عرفتُ حب علي". ما أدراكم ما علي؟! فيا أيها النازحون بأرضي قفوا، وارفعوا أيديكم بالدعاء، واشكروا الله شكرًا أبديًا؛ لتتم النعمة الإلهية على جميع شيعةِ أمير المؤمنين (عليه السلام). فالسلام عليك يا سيد المسلمين، ويعسوب المؤمنين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين ورحمة الله وبركاته.
اخرىالمنهجُ الحسني ضرورةٌ مُعاصرةٌ
بقلم: أم حوراء النداف في الخامسِ والعشرين من رمضان سنة ١٤٤٠للهجرة بايعَ أربعون ألفًا من الكوفيين الإمامَ الحسن بن علي المجتبى (عليه السلام) خليفةً للمسلمين بعدَ شهادةِ أبيه الإمامِ علي (عليه السلام) وتذكرُ مصادرُ التاريخ أنّ الحجازَ واليمنَ والعراقَ وخُرسانَ لم يبدُ منها أيّ اعتراضٍ على هذه البيعة، لكنّ مُعاويةَ رفضَ وأرسلَ جيشًا إلى ثغورِ العراق، فأعدَّ الإمامُ جيشًا بقيادةِ ابنِ عمِّه عبيد الله بن العباس لمواجهةِ الجيش الأموي. معاويةُ المُتشبِّثُ بالحكمِ والسلطةِ كان مُتيقنًا من هزيمته العسكرية، لكنّه حقّقَ انتصارًا كبيرًا في ميدانِ المكرِ والحيلِ وشراءِ الذمم، فأرسلَ إلى الإمام الحسن (عليه السلام) رسائلَ زعماءِ ووجهاءِ الكوفة الذين أبدوا استعدادَهم للتحالُفِ مع معاوية، وتسليمِ سبطِ الرسولِ للحاكمِ الأموي، مما اضطرَّ الإمام إلى قبولِ الصلح لكن بشرطِه وشروطه، ثم تركَ الكوفةَ وعادَ إلى مدينةِ جدّه (صلى الله عليه وآله). والسؤال الذي يطرح نفسه هو: لِمَ كُلُّ هذه الانتكاسات في صفوفِ القواعدِ الشيعيةِ وخاصةً في العراق؟! فتكرُّر مشهدِ التحكيمِ مع الإمامِ الحسن (عليه السلام)، لكن بقالبِ المُصالحةِ أمرٌ يدعو للتأمل. لو تحرّينا حياةَ الإمامِ الحسن (عليه السلام) فسنَجِدُه (سلام الله عليه) قد شهدَ وقائعَ مهمةً جعلتْه يُدرِكُ تمامًا التشكيلةَ المُجتمعيةَ للأمّةِ الإسلاميةِ على الصعيدِ العقائدي الإيماني كالأحداث التي أعقبتْ وفاة جدِّه رسولِ الله (صلى الله عليه وآله)، ومُعايشته لحكمِ الخلفاءِ الثلاثة. يذكرُ المؤرخون أنَّ الخليفةَ الثاني عمر بن الخطاب جعلَه شاهدًا على الشورى السُداسية، وكان ساقي الماءِ في مِحنةِ عثمان، كما أنّه كانَ بمنزلةِ الوزير لأبيه أمير المؤمنين بعد تسلُّمِه الخلافة وشاركه في حروبه. هذا الاستشرافُ الواسعُ لمدياتِ الأحداثِ تجعلُه خبيرًا مُدركًا أنّ محنةَ الأمّةِ تكمنُ في تحقُّقِ الفهمِ الحقيقي لمعنى الإمامة؛ فالإمامةُ ليستْ منصبًا حكوميًا لإدارةِ شؤونِ الناسِ الدنيوية لفترةٍ زمنية، بل هي ولايةٌ إلهيةٌ مُتفرعةٌ عن النبوّة، تتحقّقُ بنصٍ من الله (تعالى) ورسوله (صلى الله عليه وآله) ليس إلا، فيثبتُ للإمامِ ما يثبتُ للنبي من العصمةِ والطاعةِ والتسليمِ. قال (تعالى): "إنّما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا* الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون"، و"وأطيعوا الله واطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم". ولسنا في مقامِ إثباتِ الإمامة، لكن في مقامِ توضيحِ دور المأمومين الموالين على أقلِّ تقدير، فكم فردًا يا تُرى فهِمَ هذا النص وأطاع مضمونه؟! التأريخُ يُصرِّحُ أنّهم لم يكونوا كُثُراً؛ والدليلُ هو ما حصلَ بعدَ وفاةِ النبي (صلى الله عليه وآله) الأمر المهم الثاني هو كيفيةُ الحفاظِ على هذه القلّةِ المؤمنة والسعي لتوسيع قاعدتهم الإيمانية الولائية؛ لذا تعاملَ الإمامُ الحسنُ مع مُجرياتِ الأمورِ بروحِ الإمامةِ الأبوية، وصبّر المؤمنين المُطيعين لله (تعالى) الماضين في إقرارِ حُكمِه وقضائه. إنَّ ما أكتبُه بكلماتٍ وسطورٍ كانتْ في الواقع أيامَ مِحَنٍ عصيبةٍ أوجعتْ قلبَ الإمامِ الحسنِ (عليه السلام) بلومِ اللائمين، وكيدِ المُنافقين، وشماتةِ الحاسدين، وهو الإمامُ السبطُ بنصِ رسولِ الله (صلى الله عليه وآله): "الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا"، لكنّه واصلَ الجهدَ في مُجابهةِ المُشكلاتِ والعوائقِ التي تواجهُ المُبلّغين عن الله (سبحانه)، في سبيلِ الإعدادِ ليومِ الفصل، واقعة الطف الأليمة. فلولا تلك الجهودُ المُضنيةُ لم يكن ليقفَ مع الإمامِ الحسين (عليه السلام) سوى أهل بيتِه، ولتحوّلتِ المعركةُ إلى نزاعٍ عشائري قبلي، فتميّزُ أنصارِ الإمامِ الحسين (عليه السلام) يكمُنُ في أنّهم يمتلكون خصائصَ نوعيةً على الصعيدِ العقائدي، القومي، والعرقي؛ لذلك فشلت كُلُّ الجهود الرامية إلى تحجيمِ تلك النهضة المباركة؛ لذا كان للإمام الحسن (عليه السلام) دورُ الريادةِ في حفظِ تلك النخبة من المؤمنين. واليومَ نحنُ نعيشُ الانتظارَ الذي عاشه الكوفيون مع الإمامِ الحسين (عليه السلام)، ولكي لا نُكرِّر أخطاءَ الماضي يتوجّبُ علينا اقتفاءَ آثارِ النهجِ الحسني في تربيةِ أفرادٍ من المجتمع، النخبة، الذين يُمكِنُ التعويلُ عليهم لصيانةِ الشريعةِ وحفظِ الدين ونصرةِ الإمام (عجل الله فرجه)، مع مُعايشةِ الحكام الظالمين الذين تتكشفُ مع مرورِ الوقتِ وعودهم الكاذبة وعهودهم الباطلة وتشبُثهم بالسلطة. ويُمكِنُ لكُلِّ فردٍ أن يُقيّمَ نفسَه من خلالِ اختبارٍ بسيطٍ، هل هو حسنيُ المنهجِ من حيث تربيةِ الذات على طاعةِ اللهِ (تعالى) ورسولِه وأولي الأمر (عليهم السلام)، أم كوفيُ الهوى ينعقُ مع كُلِّ ناعقٍ! كيف؟ انظر إلى علاقتِك مع نائبِ الإمام (عجل الله فرجه)، العلماء المجتهدين العاملين، الذين أوصى الإمامُ بطاعتِهم والتزامِ أوامرِهم وأنّهم سيكونون شهودًا علينا أمامَ الله (تعالى) وأمامَ الإمام (عليه السلام)، كما أنّ الإمامَ سيكونُ شاهدًا عليهم، فقد روي عنه (عجل الله فرجه): "وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله" فهل ترجع إليهم في أمورك العبادية وتعاملاتك المالية؟! أم أنّك ممّن يصدقُ عليهم قول الإمامِ الحسين (عليه السلام): "الدينُ لعقٌ على ألسنتِهم، يحوطونه ما درّت معايشهم، فإنْ مُحِّصوا بالبلاء قلَّ الديّانون" فانتظارُ الفرجِ يعني أنْ تكونَ حسنيَ المنهج، حُسيني العقيدة. قال الإمامُ الحسن (عليه السلام): "إنّ الشّاةَ أعقلُ من أكثر النّاس، تنزجرُ بصياحِ الرّاعي عن هواها، والإنسانُ لا ينزجرُ بأوامرِ الله وكتبه ورسله". السلام عليه يومَ ولِدَ، ويومَ يموتُ، ويومَ يُبعثُ حيًا..
اخرىعلى وتر اللقاء
بقلم: زينب سامي أصحرَ ماشيًا على قدميهِ في غورِ الصحراء، عائدًا من مكة يجرُ خلفه أذيال الخيبة، خالي الوفاض مما تروم إليه نفسهُ، ولكن يا لهُ من رجلٍ عجيب، رغم ذلك يشع أملًا وصبرًا، وكأن مبتغاه بات قريبًا جدًا، وكيف لا يبدو كذلك وصاحبهُ يقتبس الصبر الكبير من ولائهِ وحبهِ لأهل البيت (صلوات الله عليهم). مرت تسع عشرة سنة، والرجل يسعى في الصحاري كل سنة دون أن يحصل لهُ شرف اللقاء، والآن قد جاء العام العشرون، وها هو يلتحف الصحراء مرة أخرى! يراه الرائي من بعيد، وهو يبدو مسرورًا وسعيدًا وروحهُ التي بدت مشرقة بالسعادة. كان يراودهُ هذا الشعور دومًا؛ أنّ لهُ في عالم الذر عهدًا ولقاءً مع ذلك المنتظر الذي ينتظرهُ العالم بأكملهِ وازداد يقينهُ مذ بشّره أحدهم ليلة الأمس قائلًا ‹يابن مهزيار؛ حجّ هذهِ السنة فإنك تلقى صاحب زمانك». لا يعرف إن كان ذلك منامًا أو حقيقة لكنهُ يدرك أنّ هذا النداء لهُ وأنّ ذلك الشخص المجهول قد نطق باسمهِ هو؛ فتهلل قلبهُ فرحًا وأكمل المسير، وانطوت أيام الرحلة من الأهواز إلى مكة وها قد اقترب موعد اللقاء.. ذهب ليقوم بمراسم العبادة ويشكر الخالق الذي أفاض عليه كل النعم، ولم يحرمهُ نعمة الوصل لأرض باركها وجعلها قبلةً للمسلمين، وجنَّ الليل واختلى عليٌ بربهِ يناجيه ويدعوهُ أن يرزقه شرف الوصال لولي الله في أرضهِ، وأن يعرفهُ ذلك الأمل المنشود الذي يبحث عنه. يطوف حول الكعبة والسماء من فوقه وكل شيء يطوف ويسبحُ للباري هنا، بينما هو على هذا الحال يقتربُ منهُ فتى مليح الوجه، يسألهُ أتعرف عليّ بن مهزيار؟ «نعم وكيف لا يعرف الإنسان نفسه» يسألهُ الفتى؛ يا علي ماذا فعلت بالأمانة؟ في هذهِ الاثناء يخرج علي خاتمًا لأبي محمد الحسن العسكري (صلوات الله عليه)، ذلك الخاتم الذي كان يرجو أن يسلمه لولدهِ المنتظر، أمسكه الفتى المليح وأخذ يبكي بكاءً شديدًا قائلًا: يا علي بن مهزيار قد بلغت مبتغاك، ولكن عليك الانتظار حتى يمضي من الليل ثلثهُ. كيف لهذه الساعات أن تنطوي في رقعة الزمن، ولكنها مرت فمهما طالت ساعات الانتظار لا بد أن تمضي وتأتي ساعة الفرج آخرًا. دقت الساعة في قلب العاشق معلنةً أن الوقت قد حان، والتقى ثانيةً بصاحبهِ الذي صادفه في مكة وهو يقول له: أهلًا وسهلًا يا أبا الحسن، طوبى لك فقد أُذن لك. وانطلق الرجل واتبعهُ علي حتى اجتازوا عرفات ومنى ووصلا أسفل ذروةِ الطائف، فنزلا يقتبسان نورًا من الإله فقد بانَ الخيطُ الأبيض من الأسود وارتفع نداء السماء. صليا الفجر عروجًا، وما لبثا إلا قليلًا فعفّر صاحبه جبينهُ بالتراب، وانطلق ساعيًا واتبعهُ عليٌ هذهِ المرة نحو المرتجى.. نحو حلمٍ انتظرهُ سنينًا عجافًا وها قد اقتربت لحظة الحصاد. حتى ما علا ذروة الطائف قال لهُ صاحبهُ: المح، هل ترى شيئاً؟ رأى وقد صدع الفؤاد بما رأى، هناكَ لمحَ بين العشب والكلأ كثيبَ رمل فوقه بيت شعرٍ يتقد نورًا. يحترق قلبهُ صبابة يود لو أن لهُ جناح طير ليطير بهِا الى هناك فنسيم الرائحة وذلك النور ليس له بعالم الدنيا صلة وفي هذهِ الاثناء ينتشر في الإرجاء صدى صوت صاحبهِ وهو يقول ”يا بن مهزيار، طب نفسًا وقرّ عينًا، فإن هناك أمل كلّ مؤمل“. ما أجمل هذهِ الكلمات التي انسابت في روح علي كماء بارد زلال في أرض قاحلة عطشى. فترجل عن راحلته وكُتبت له خطوة في أرضٍ لا يدخلها إلّا الأولياء! غاب صاحبهُ ثمَ قليلاً عادَ يحمل البشرى ليقول: طوبى لك فقد أُعطيت سؤلك. دخل عليٌ يحملُ جواز الأولياء؛ لم يكن الأمر سهلاً عليه أبدًا فعشرون عامًا من الانتظار والعمل الدؤوب قد جاءت بثمارٍ كهذهِ، وكأن بهذا اللقاء نالَ ختم الاوفياء. لمح الحبيب، وفاضت عيناهُ دمعًا، ها هو يراه وكأنهُ فلقة قمر يتصفح الوجه مليًّا ويحفظ جميع تفاصيله؛ أزج الحاجبين، أدعج العينين، أقنى الأنف، سهل الخدين، على خدهِ الأيمن خالٌ أسود؛ كأنهُ فتاتة مسك على بياض الفضة. يود لو أنّ للساعات أن تتوقف، فما أطيب العيش وأجمله برؤية سبط النبي (صلى الله عليه وآله)، ما أجمل اللقاء بعد الفراق هل يقبل العين أو الرأس أو اليد أو ينحني يقبلُ القدم؟ هل يمد ذراعيه فيحتضنه؟ أو ماذا يفعل! حقًّا يعجز عن فعل أي شيء. يود لو يكون رداء يحملهُ كي لا يفارقهُ. هل يمكن لهذهِ اللحظات أن تتوقف وأن لا تنتهي؟ أعوام مضت من الجزع والألم بفقدهِ هل هذهِ حقيقة الآن هو يرى ذلك المضطر الذي يجاب إذا دعا، والمنصور على من اعتدى والطالب بذحول الأنبياء والسبب المتصل بين الأرض والسماء يا لها من لحظة عظيمة! وشرف كبير أنه أمام إمام زمانه الذي يدرك روحه وألمه. أخيرًا نطق صوتُ الحق، صوت ينسابُ بين دهاليز الروح فيحيها كماطرٍ بعد جدب: «إنّ أبي (صلوات الله عليه) قال: يا بنيّ إنّ الله (جلَّ ثناؤه) لم يكن ليخلّي أطباق أرضه وأهل الجدّ في طاعته وعبادته بلا حجة يُستعلى بها، وإمام يؤتمّ به، ويُقتدى بسبل سنّته ومنهاج قصده وأرجو يا بني أن تكون أحد من أعدّه اللّه لنشر الحق وطيّ الباطل وإعلاء الدين وإطفاء الضَلال؛ فعليك يا بنيّ بلزوم خوافي الأرض، وتتبع أقاصيها، فإنّ لكل وليّ من أولياءِ اللّه (عز وجل) عدوًّا مُقارعًا فلا يوحشنّك ذلك، وأعلم أنّ قلوبَ أهل الطاعَة والإخلاص نُزّعٌ إليك مثل الطير إذا أمّت أوكارها؛ فاقتبس يا بني نور الصبر على موارد أمورك تفُز بدركِ الصُّنع في مصادرها؛ فعندها يتلألأ صبحُ الحق وينجلي ظلامُ الباطل ويَقصم اللّه بكَ الطغيان ويُعيد معالم الايمان، تهتزّ بك أطرافُ الدنيا بهجةً، وتهزّ بك أغصان العزّ نضرة وتستقرّ بواني العزّ في قرارها وتؤوب شوارد الدّين إلى أوكارها. ثم قال: ليكن مجلسي هذا عندك مكتومًا إلّا عن أهل الصدق والأخوة الصادقة في الدين».
اخرىالتعليقات
يتصدر الان
لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع
يستشهد الكثير من الناس ــ وحتى بعض المثقفين ــ بقول:" لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع فإن الخير فيها دخيل وعاشر نفساً جاعت بعد شبع فإن الخير فيها أصيل" على أنه من أقوال أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، كما يستشهدون أيضاً بقولٍ آخر ينسبونه إليه (عليه السلام) لا يبعد عن الأول من حيث المعنى:"اطلبوا الخير من بطون شبعت ثم جاعت لأن الخير فيها باق، ولا تطلبوا الخير من بطون جاعت ثم شبعت لأن الشح فيها باق"، مُسقطين المعنى على بعض المصاديق التي لم ترُق افعالها لهم، لاسيما أولئك الذين عاثوا بالأرض فساداً من الحكام والمسؤولين الفاسدين والمتسترين عل الفساد. ونحن في الوقت الذي نستنكر فيه نشر الفساد والتستر عليه ومداهنة الفاسدين نؤكد ونشدد على ضرورة تحرّي صدق الأقوال ومطابقتها للواقع وعدم مخالفتها للعقل والشرع من جهة، وضرورة التأكد من صدورها عن أمير المؤمنين أبي الأيتام والفقراء (عليه السلام) أو غيرها من المعصومين (عليهم السلام) قبل نسبتها إليهم من جهة أخرى، لذا ارتأينا مناقشة هذا القول وما شابه معناه من حيث الدلالة أولاً، ومن حيث السند ثانياً.. فأما من حيث الدلالة فإن هذين القولين يصنفان الناس الى صنفين: صنف قد سبق له أن شبع مادياً ولم يتألم جوعاً، أو يتأوه حاجةً ومن بعد شبعه جاع وافتقر، وصنف آخر قد تقلّب ليله هماً بالدين، وتضوّر نهاره ألماً من الجوع، ثم شبع واغتنى،. كما جعل القولان الخير متأصلاً في الصنف الأول دون الثاني، وبناءً على ذلك فإن معاشرة أفراد هذا الصنف هي المعاشرة المرغوبة والمحبوبة والتي تجرّ على صاحبها الخير والسعادة والسلام، بخلاف معاشرة أفراد الصنف الثاني التي لا تُحبَّذ ولا تُطلب؛ لأنها لا تجر إلى صاحبها سوى الحزن والندم والآلام... ولو تأملنا قليلاً في معنى هذين القولين لوجدناه مغايراً لمعايير القرآن الكريم بعيداً كل البعد عن روح الشريعة الاسلامية ، وعن المنطق القويم والعقل السليم ومخالفاً أيضاً لصريح التاريخ الصحيح، بل ومخالف حتى لما نسمعه من قصص من أرض الواقع أو ما نلمسه فيه من وقائع.. فأما مناقضته للقرآن الكريم فواضحة جداً، إذ إن الله (تعالى) قد أوضح فيه وبشكلٍ جلي ملاك التفاضل بين الناس، إذ قال (عز من قائل):" يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)"(1) جاعلاً التقوى مِلاكاً للتفاضل، فمن كان أتقى كان أفضل، ومن البديهي أن تكون معاشرته كذلك، والعكس صحيحٌ أيضاً. وعليه فإن من سبق حاجتُه وفقرُه شبعَه وغناه يكون هو الأفضل، وبالتالي تكون معاشرته هي الأفضل كذلك فيما لو كان تقياً بخلاف من شبع وكان غنياً ، ثم افتقر وجاع فإنه لن يكون الأفضل ومعاشرته لن تكون كذلك طالما كان بعيداً عن التقوى. وأما بُعده عن روح الشريعة الإسلامية فإن الشريعة لطالما أكدت على أن الله (سبحانه وتعالى) عادلٌ لا جور في ساحته ولا ظلمَ في سجيته، وبالتالي لا يمكن أن يُعقل إطلاقاً أن يجعل البعض فقيراً ويتسبب في دخالة الخير في نفوسهم، التي يترتب عليها نفور الناس من عشرتهم، فيما يُغني سواهم ويجعل الخير متأصلاً في نفوسهم بسبب إغنائه إياهم ليس إلا ومن ثم يتسبب في كون الخير متأصلاً في نفوسهم، وبالتالي حب الناس لعشرتهم. فإن ذلك مخالف لمقتضى العدل الإلهي لأنه ليس بعاجزٍ عن تركه ولا بمُكره على فعله، ولا محب لذلك لهواً وعبثاً (تعالى عن كل ذلك علواً كبيراً). كما إن تأصل الخير في نفوس بعض الناس ودخالته في نفوس البعض الآخر منهم بناءً على أمر خارج عن إرادتهم واختيارهم كـ(الغنى والشبع أو الجوع والفقر) إنما هو أمرٌ منافٍ لمنهج الشريعة المقدسة القائم على حرية الانسان في اختياره لسبيل الخير والرشاد أو سبيل الشر والفساد، قال (تعالى):" إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)"(2) بل إن الانسان أحياناً قد يكون فقيراً بسبب حب الله (تعالى) له، كما ورد في الحديث القدسي: "أن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى فلو أفقرته لأفسده ذلك و أن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر فلو أغنيته لأفسده ذلك"(3) وهل يمكن ان نتصور أن الخيرَ دخيلٌ فيمن يحبه الله (تعالى) أو إن معاشرته لا تجدي نفعا، أو تسبب الهم والألم؟! نعم، ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"اِحْذَرُوا صَوْلَةَ اَلْكَرِيمِ إِذَا جَاعَ وَ اَللَّئِيمِ إِذَا شَبِعَ"(4) ولا يقصد به الجوع والشبع المتعارف عليه لدى الناس، وإنما المراد منه: احذروا صولة الكريم إذا اُمتُهِن، واحذروا صولة اللئيم إذا أكرم، وفي هذا المعنى ورد عنه (عليه السلام) أيضاً: "احذروا سطوة الكريم إذا وضع و سورة اللئيم إذا رفع"(5) وأما العقل السليم والمنطق القويم فإنهما يقتضيان أن تتأصل صفة الخير في الإنسان لملكاتٍ حميدة يتسم بها وصفات فضيلة يتميز بها، لا أن تتأصل صفة الخير في نفسه لمجرد أنه ولد في أسرة تتمتع بالرفاهية الاقتصادية ووجد في بيئة تتنعم بالثروات المادية! وعند مراجعتنا للتاريخ الصحيح نجد أن قادة البشر وصفوة الناس إنما كان أغلبهم ينتمي الى الطبقات الفقيرة من المجتمع، فهؤلاء الأنبياء ورسل الله (صلوات الله عليهم) منهم من كان نجاراً أو خياطاً أو راعياً، ومع ذلك فقد كانوا من أطيب الناس خلقاً، وأعظمهم شرفاً، وأرفعهم منزلةً، قد تأصّل الخير في نفوسهم تأصّلاً حتى غدوا قطعة منه، فكانوا هم الخير للبشر، وهم الرحمة للعالمين. وبالنزول إلى أرض الواقع نجد أن الكثير من الفقراء والمساكين طيبي الروح، كريمي النفس، يتألمون لألم المحتاج ولربما يؤثرونه على أنفسهم رغم حاجتهم. ولا نقصد من كلامنا هذا أن الأغنياء هم على نقيض ذلك، وإنما تأكيداً على مسألة عدم ارتباط تأصل الخير في النفوس وعدمه بمستواهم الاقتصادي الذي نشأوا فيه ارتباط العلة والمعلول، فكما إن بعض الفقراء أخيار، فإن بعض الأغنياء كذلك، والعكس صحيح أيضاً. ومن هنا يُفهم من بعض الروايات ضرورة عدم طلب الخير والحاجات ممن هم أهل للخير بقطع النظر عن مستواهم المعاشي الحالي والسابق، منها ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"أشد من الموت طلب الحاجة من غير أهلها"(5)، وعنه (عليه السلام) أيضاً: "فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غير أهلها"(6) إذن فلا صحة لهاتين المقولتين من حيث الدلالة، حتى وإن تنزلنا وحملنا الجوع والشبع على المعنى المعنوي لا المادي؛ وذلك لأنه حتى من يفتقر الى الأخلاق المعنوية فإنه ما إن يتكامل بالفضائل ويقلع عن الرذائل حتى يتسم بالخير وتحسن عشرته وتطيب للناس صحبته، والعكس صحيحٌ أيضا.. ومن البديهي أن ما لا يوافق العقل والمنطق السليم، ويخالف صريح القرآن الكريم، لا يمكن أن يصدر من وصي الرسول الكريم (صلوات الله عليهما وآلهما)، وعليه لا تصح نسبة هذين القولين الى أمير المؤمنين (عليه السلام).. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الحجرات 13 (2) الانسان 3 (3) عوالي الآلي ج2 ص29 (4) غرر الحكم ج1 227 (5) المدر السابق ج1 ص246 (6) ميزان الحكمة ج4 ص 238 رضا الله غايتي
اخرىبين طيبة القلب وحماقة السلوك...
خلق الله الأشياء كلها في الحياة ضمن موازين وقياسات... فالزيادة أو النقيصة تسبب المشاكل فيها. وهكذا حياتنا وأفعالنا وعواطفنا لا بد أن تكون ضمن موازين دقيقة، وليست خالية منها، فالزيادة والنقيصة تسبب لنا المشاكل. ومحور كلامنا عن الطيبة فما هي؟ الطيبة: هي من الصفات والأخلاق الحميدة، التي يمتاز صاحبها بنقاء الصدر والسريرة، وحُبّ الآخرين، والبعد عن إضمار الشر، أو الأحقاد والخبث، كما أنّ الطيبة تدفع الإنسان إلى أرقى معاني الإنسانية، وأكثرها شفافية؛ كالتسامح، والإخلاص، لكن رغم رُقي هذه الكلمة، إلا أنها إذا خرجت عن حدودها المعقولة ووصلت حد المبالغة فإنها ستعطي نتائج سلبية على صاحبها، كل شيء في الحياة يجب أن يكون موزوناً ومعتدلاً، بما في ذلك المحبة التي هي ناتجة عن طيبة الإنسان، وحسن خلقه، فيجب أن تتعامل مع الآخرين في حدود المعقول، وعندما تبغضهم كذلك وفق حدود المعقول، ولا يجوز المبالغة في كلا الأمرين، فهناك شعرة بين الطيبة وحماقة السلوك... هذه الشعرة هي (منطق العقل). الإنسان الذي يتحكم بعاطفته قليلاً، ويحكّم عقله فهذا ليس دليلاً على عدم طيبته... بالعكس... هذا طيب عاقل... عكس الطيب الأحمق... الذي لا يفكر بعاقبة أو نتيجة سلوكه ويندفع بشكل عاطفي أو يمنح ثقة لطرف معين غريب أو قريب... والمبررات التي يحاول إقناع نفسه بها عندما تقع المشاكل أنه صاحب قلب طيب. الطيبة لا تلغي دور العقل... إنما العكس هو الصحيح، فهي تحكيم العقل بالوقت المناسب واتخاذ القرار الحكيم الذي يدل على اتزان العقل، ومهما كان القرار ظاهراً يحمل القسوة أحياناً لكنه تترتب عليه فوائد مستقبلية حتمية... وأطيب ما يكون الإنسان عندما يدفع الضرر عن نفسه وعن الآخرين قبل أن ينفعهم. هل الطيبة تصلح في جميع الأوقات أم في أوقات محددة؟ الطيبة كأنها غطاء أثناء الشتاء يكون مرغوباً فيه، لكنه اثناء الصيف لا رغبة فيه أبداً.. لهذا يجب أن تكون الطيبة بحسب الظروف الموضوعية... فالطيبة حالة تعكس التأثر بالواقع لهذا يجب أن تكون الطيبة متغيرة حسب الظروف والأشخاص، قد يحدث أن تعمي الطيبة الزائدة صاحبها عن رؤيته لحقيقة مجرى الأمور، أو عدم رؤيته الحقيقة بأكملها، من باب حسن ظنه بالآخرين، واعتقاده أن جميع الناس مثله، لا يمتلكون إلا الصفاء والصدق والمحبة، ماي دفعهم بالمقابل إلى استغلاله، وخداعه في كثير من الأحيان، فمساعدة المحتاج الحقيقي تعتبر طيبة، لكن لو كان المدّعي للحاجة كاذباً فهو مستغل. لهذا علينا قبل أن نستخدم الطيبة أن نقدم عقولنا قبل عواطفنا، فالعاطفة تعتمد على الإحساس لكن العقل أقوى منها، لأنه ميزان يزن الأشياء رغم أن للقلب ألماً أشد من ألم العقل، فالقلب يكشف عن نفسه من خلال دقاته لكن العقل لا يكشف عن نفسه لأنه يحكم بصمت، فالطيبة يمكن أن تكون مقياساً لمعرفة الأقوى: العاطفة أو العقل، فالطيّب يكون قلبه ضعيفاً ترهقه الضربات في أي حدث، ويكون المرء حينها عاطفياً وليس طيباً، لكن صاحب العقل القوي يكون طيباً أكثر من كونه عاطفياً. هل الطيبة تؤذي صاحبها وتسبب عدم الاحترام لمشاعره؟ إن الطيبة المتوازنة المتفقة مع العقل لا تؤذي صاحبها لأن مفهوم طيبة القلب هو حب الخير للغير وعدم الإضرار بالغير، وعدم العمل ضد مصلحة الغير، ومسامحة من أخطأ بحقه بقدر معقول ومساعدة المحتاج ... وغيرها كثير. أما الثقة العمياء بالآخرين وعدم حساب نية المقابل وغيرها فهذه ليست طيبة، بل قد تكون -مع كامل الاحترام للجميع- غباءً أو حماقة وسلوكاً غير عقلاني ولا يمت للعقل بصلة. إن المشكلة تقع عند الإنسان الطيب عندما يرى أن الناس كلهم طيبون، ثم إذا واجهه موقف منهم أو لحق به أذى من ظلم أو استغلال لطيبته، تُغلق الدنيا في وجهه، فيبدأ وهو يرى الناس الطيبين قد رحلوا من مجتمعه، وأن الخير انعدم، وتحصل له أزمة نفسية أو يتعرض للأمراض، لأن الطيّب يقدم الإحسان للناس بكل ما يستطيع فعله، ويقدّم ذلك بحسن نية وبراءة منه، فهو بالتالي ينتظر منهم الرد بالشكر أو المعاملة باللطف على الأقل... صحيح أن المعروف لوجه الله، ولكن من باب: من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق، لذلك يتأذى عندما يصدر فعل من الشخص الذي كان يعامله بكل طيب وصدق. هل الطيبة والصدق من علامات ضعف الشخصية؟ الكثير من الناس يصف طيب القلب بأنه ضعيف الشخصية، لأنه يتصف بعدم الانتقام ممن ظلمه، والصفح عنه عند رجوعه عن الخطأ، وأنه لا يحب إيقاع الآخرين بالمشاكل؛ لأنه مقتنع أن الله سيأخذ له حقه. والحقيقة هي أن الصدق والطيبة وحسن الظن بالآخرين ليست ضعف شخصية، بل هي من الأخلاق الراقية وهي تزيد صاحبها سمواً وجمالاً روحياً، وليس من المعيب أن يمتلك الإنسان الطيبة بل العيب في من لا يُقدّر هذه الطيبة ويعطيها حقها في التعامل بالمثل. فالمشكلة الأساسية ليست في الطيبة، إنما في استغلال الآخرين لهذه الطيبة، نتيجة لعدم عقلنة قراراتنا والاعتماد على عواطفنا بشكل كلي. فالصدق والطيبة حسب المنطق والعقل، ولها فوائد جمة للنفس ولعموم أفراد المجتمع، فهي تحصين للشخص عن المعاصي، وزيادة لصلة الإنسان بربه، وتهذيب للنفس والشعور بالراحة النفسية، فالصادق الطيب ينشر المحبة بين الناس، وهذا يعزّز التماسك الاجتماعي وتقويته من سوء الظنون والحقد، وهذا التعامل أكّدت عليه جميع الشرائع السماوية، ولو تأمّلنا تاريخ وأخلاق الأنبياء والأوصياء لوجدنا كل ما هو راقٍ من الأخلاق والتعامل بالطيبة والصدق... حنان الزيرجاوي
اخرىالطلاق ليس نهاية المطاف
رحلةٌ مثقلة بالألم في طريق يئن من وطأة الظلم! ينهي حياة زوجية فشلت في الوصول إلى شاطئ الأمان. ويبدد طموحات أطفال في العيش في هدوء نفسي واجتماعي تحت رعاية أبوين تجمعهم المودة والرحمة والحب. الطلاق شرعاً: هو حل رابطة الزواج لاستحالة المعاشرة بالمعروف بين الطرفين. قال تعالى: [ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)].(١). الطلاق لغوياً: من فعل طَلَق ويُقال طُلقت الزوجة "أي خرجت من عصمة الزوج وتـحررت"، يحدث الطلاق بسبب سوء تفاهم أو مشاكل متراكمة أو غياب الانسجام والحب. المرأة المطلقة ليست إنسانة فيها نقص أو خلل أخلاقي أو نفسي، بالتأكيد إنها خاضت حروباً وصرعات نفسية لا يعلم بها أحد، من أجل الحفاظ على حياتها الزوجية، ولكن لأنها طبقت شريعة الله وقررت مصير حياتها ورأت أن أساس الـحياة الزوجيـة القائم على المودة والرحـمة لا وجود له بينهما. فأصبحت موضع اتهام ومذنبة بنظر المجتمع، لذلك أصبح المـجتمع يُحكم أهواءه بدلاً من الإسلام. ترى، كم من امرأة في مجتمعنا تعاني جرّاء الحكم المطلق ذاته على أخلاقها ودينها، لا لسبب إنما لأنها قررت أن تعيش، وكم من فتاة أُجبرت قسراً على أن تتزوج من رجل لا يناسب تطلعاتها، لأن الكثير منهن يشعرن بالنقص وعدم الثقة بسبب نظرة المجتمع، وتقع المرأة المطلّقة أسيرة هذه الحالة بسبب رؤية المجتمع السلبيّة لها. وقد تلاحق بسيل من الاتهامات وتطارد بجملة من الافتراءات. وتعاني المطلقة غالباً من معاملة من حولها، وأقرب الناس لها، بالرغم من أن الطلاق هو الدواء المر الذي قد تلجأ إليه المرأة أحياناً للخلاص من الظلم الذي أصبح يؤرق حياتها الزوجية، ويهدد مستقبلها النفسي، والله تعالى لم يشرع أمراً لخلقه إلا إذا كان فيه خير عظيم لهم، والطلاق ما شرّع إلا ليكون دواء فيه شفاء وإن كان مرّاً، وإن كان أمره صعباً على النفوس، حيث قال عز وجل: "وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا"، روي عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) ((أبغض الحلال إلى الله الطلاق) (٢). ورغم أن الشريعة الإسلامية أباحت الطلاق بشروط تلاءم لبناء المجتمع، وأولت أهمية في الإحسان دائمًا للطرف الأضعف والأكثر خسارة في هذه المعادلة وهي "المرأة"، إلا أن المجتمع الذي يدّعي الإسلام لا يرحمها، ويحكم عليها بالإدانة طوال حياتها دون النظر في صحة موقفها في الطلاق من عدمه! قال( تعالى ): [الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] (٣). ولكن بعد كل هذا فالحياة لم ولن تتوقف بعد الطلاق! الطلاق ليس نهاية الحياة. - أخيتي. ليكن الطلاق بداية جديدة لحياة جديدة وللانطلاق. -قطار العطاء لن يتعطل. فإن كنت السبب في الطلاق فالحمد لله على كل حال وتلك أمة قد خلت وأيام ذهبت وانجلت فلست بالمعصومة من الخطأ. وعليك استدراك الأخطاء وتقوية مواطن الضعف في شخصيتك، واجعليها درساً مفيداً في الحياة لتطوير نفسك وتقويتها. وإذا كنتِ مظلومة فهناك جبار يُحصي الصغير والكبير وسيأتي يوم ينتصر لك فيه. -ومن الجميل أن تعطي نفسك الإحساس بالحب والاحترام، ولا تتأثري بأي نظرة سلبية من المجتمع وكون البعض يتعامل مع المطلقة على أنها حالة خاصة فعليكِ إثبات ذاتك حتى تفرضي على الكل شخصيتك. - نظرتك لنفسك اجعليها نظرة ايجابية مشرقة ولا تنزلقي في مستنقع نبذ الذات وظلم النفس. - ابحثي عن الصفات الجيدة فيك فإن ذلك سيشعرك بالثقة في ذاتك والتقدير لها. -حاولي مراجعة نفسك للخروج بإيجابيات حصلت لك من طلاقك. - خالطي الآخرين وإياك والعزلة بسبب وضعك الجديد فلست بأول من يبتلى بالطلاق. -استمتعي بالموجود ولا تتعلقي بالمفقود، حلقي بروح تعبق أملاً وتفاؤلاً، استمتعي بما وهبك الله من نعم (صحة وأولاد وأهل وصديقات وعمل وهوايات وغيرها من الأمور الجميلة) فما حصل لك حصل… ولابد أن تتقبليه برضا، وأعلمي أن ما أصابك لم يكن ليخطأك وما أخطأك لم يكن ليصيبك. وقال أصدق من قال: ( وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم). فالرضا سر السعادة الحقيقي. - اقتربي من صديقاتك الصالحات، واقضي معهن وقتاً طيباً تنسين به ألمك وحزنك. - احرصي على الصلوات وقراءة القرآن الكريم والذكر والاستغفار وأكثري من الطاعات قدر ما تستطيعين، ففيها السلوى والفرح والسعادة. ونعم سعادة القرب من الرحمن. - اشغلي نفسك بأعمال البر والإحسان بمساعدة محتاج. بكفالة يتيم. بتعلم الفقه والقرآن وتعليمه. - اجتهدي في عمل برنامج يومي لك يكون ممتلأ بكل ما هو مفيد لك. من قراءة وزيارة الأصدقاء وصلة الرحم. بحيث لا تكون هناك دقيقة أنت فارغة فيها. - وأسرعي بقاربك الجميل بمجذافين من إيمان بالله وثقة بالنفس وسوف تصلين بإذن الله نحو جزيرة السعادة والنجاح. لكي تتسلق جبال الإنجاز، وتصل لأعلى مراتب الاعجاز. وعندها جزماً سيكون للحياة معنى آخر. --------------------------------- (١)-سورة البقرة الآية (٢٢٦-٢٢٧). (٢)-الكافي (٢)-سورة البقرة الآية (٢٢٨) حنان ستار الزيرجاوي
اخرىلا تقاس العقول بالأعمار!
(لا تقاس العقول بالأعمار، فكم من صغير عقله بارع، وكم من كبير عقله فارغ) قولٌ تناولته وسائل التواصل الاجتماعي بكل تقّبلٍ ورضا، ولعل ما زاد في تقبلها إياه هو نسبته الى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولكننا عند الرجوع إلى الكتب الحديثية لا نجد لهذا الحديث أثراً إطلاقاً، ولا غرابة في ذلك إذ إن أمير البلاغة والبيان (سلام الله وصلواته عليه) معروفٌ ببلاغته التي أخرست البلغاء، ومشهورٌ بفصاحته التي إعترف بها حتى الأعداء، ومعلومٌ كلامه إذ إنه فوق كلام المخلوقين قاطبةً خلا الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ودون كلام رب السماء. وأما من حيث دلالة هذه المقولة ومدى صحتها فلابد من تقديم مقدمات؛ وذلك لأن معنى العقل في المفهوم الإسلامي يختلف عما هو عليه في الثقافات الأخرى من جهةٍ، كما ينبغي التطرق الى النصوص الدينية الواردة في هذا المجال وعرضها ولو على نحو الإيجاز للتعرف إلى مدى موافقة هذه المقولة لها من عدمها من جهةٍ أخرى. معنى العقل: العقل لغة: المنع والحبس، وهو (مصدر عقلت البعير بالعقال أعقله عقلا، والعِقال: حبل يُثنَى به يد البعير إلى ركبتيه فيشد به)(1)، (وسُمِّي العَقْلُ عَقْلاً لأَنه يَعْقِل صاحبَه عن التَّوَرُّط في المَهالِك أَي يَحْبِسه)(2)؛ لذا روي عنه (صلى الله عليه وآله): "العقل عقال من الجهل"(3). وأما اصطلاحاً: فهو حسب التصور الأرضي: عبارة عن مهارات الذهن في سلامة جهازه (الوظيفي) فحسب، في حين أن التصوّر الإسلامي يتجاوز هذا المعنى الضيّق مُضيفاً إلى تلك المهارات مهارة أخرى وهي المهارة العبادية. وعليه فإن العقل يتقوّم في التصور الاسلامي من تظافر مهارتين معاً لا غنى لأحداهما عن الأخرى وهما (المهارة العقلية) و(المهارة العبادية). ولذا روي عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنه عندما سئل عن العقل قال :" العمل بطاعة الله وأن العمّال بطاعة الله هم العقلاء"(4)، كما روي عن الإمام الصادق(عليه السلام)أنه عندما سئل السؤال ذاته أجاب: "ما عُبد به الرحمن، واكتسب به الجنان. فسأله الراوي: فالذي كان في معاوية [أي ماهو؟] فقال(عليه السلام): تلك النكراء، تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل"(5) والعقل عقلان: عقل الطبع وعقل التجربة، فأما الأول أو ما يسمى بـ(الوجدان الأخلاقي) فهو مبدأ الادراك، وهو إن نَما وتطور سنح للإنسان فرصة الاستفادة من سائر المعارف التي يختزنها عن طريق الدراسة والتجربة وبالتالي يحقق الحياة الإنسانية الطيبة التي يصبو اليها، وأما إن وهن واندثر لإتباع صاحبه الأهواء النفسية والوساوس الشيطانية، فعندئذٍ لا ينتفع الانسان بعقل التجربة مهما زادت معلوماته وتضخمت بياناته، وبالتالي يُحرم من توفيق الوصول إلى الحياة المنشودة. وعقل التجربة هو ما يمكن للإنسان اكتساب العلوم والمعارف من خلاله، وما أروع تشبيه أمير البلغاء (عليه السلام) العلاقة التي تربط العقلين معاً إذ قال فيما نسب إليه: رأيت العقل عقلين فمطبوع ومسموع ولا ينفع مسموع إذ لم يك مطبــوع كما لا تنفع الشمس وضوء العين ممنوع(6) فقد شبّه (سلام الله عليه) عقل الطبع بالعين وعقل التجربة بالشمس، ومما لاشك فيه لكي تتحقق الرؤية لابد من أمرين: سلامة العين ووجود نور الشمس، وكما إن الثاني لا ينفع إن لم يتوفر الأول فكذلك عقل التجربة لا ينفع عند غياب عقل الطبع فضلاً عن موته. وبما إن عقل الطبع قد ينمو ويزدهر فينفع صاحبه من عقل التجربة، وقد يموت ويندثر عند الاستسلام لإضلال شبهةٍ أوبسبب إرتكاب معصية، فإنه ومن باب أولى أن يتعرض الى الزيادة والنقصان كما سيأتي... وقد ورد في النصوص الدينية أن للعقل زمناً ينمو فيه ويكتمل، فعن إمامنا أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه):"يثغر الصبي لسبع، ويؤمر بالصلاة لتسع، ويفرق بينهم في المضاجع لعشر، ويحتلم لأربع عشرة، وينتهى طوله لإحدى وعشرين سنة، وينتهي عقله لثمان وعشرين إلا التجارب"(7)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يربى الصبي سبعاً ويؤدب سبعاً، ويستخدم سبعاً، ومنتهى طوله في ثلاث وعشرين سنة، وعقله في خمس وثلاثين [سنة] وما كان بعد ذلك فبالتجارب"(8). إذن يتوقف النمو الطبيعي لعقل الانسان عند سن الثامنة والعشرين أو الخامسة والثلاثين كما ورد في الروايتين، وأية زيادة أخرى في طاقته بعد ذلك إنما تأتي عن طريق التجارب، وقد يُتوهم بأن ثمة تعارضاً ما بين الروايتين المتقدمتين في شأن تحديد سن النمو العقلي، إلا إنه لا تعارض ينهما إذا حملنا اختلافهما فيه على اختلاف الاشخاص وتباين استعدادات وقابليات كل منهم. وعلى الرغم من توقف نمو عقل الإنسان إلا إن له أنْ يزيده بالتجارب ومواصلة التعلم ــ كما تقدم في الروايات ــ وسواء أثبت العلم هذه الحقيقة الروائية أم لا، فنحن نريد الإشارة إلى ضرورة استمرار التجربة والتعلم لزيادة نمو العقل وهذا المقدار لا خلاف فيه وعلى الرغم من إن لعمر الانسان مدخلية في زيادة عقله كما تقدم وكما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يزيد عقل الرجل بعد الاربعين إلى خمسين وستين، ثم ينقص عقله بعد ذلك"(9)، إلا إن ذلك ليس على نحو العلة التامة، إذ يمكن للعقل أن يبقى شاباً وقوياً وإن شاب الإنسان وضعف جسمه، وتقدم في السن ووهن عظمه، فالعاقل لا يشيب عقله ولا تنتقص الشيخوخة من قوته بل وقد يزداد طاقةً وحيويةً لذا ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"رأي الشيخ أحب الي من جَلَد الغلام"(10)، وفي أخرى ".....من حيلة الشباب "(11) وأما من لم يوفر أسباب صقل عقله في مرحلة الشباب فإنه بلا شك يضمحل عقله في مرحلة الشيخوخة. وليس تقدم العمر هو العامل الوحيد في نقصان العقل بل إن النصوص الشرعية أشارت الى عوامل عديدة اخرى أهمها: أولاً: التعلم: فقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "من لم يصبر على ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبداً"(13). ثانياً: التوبة: وعنه (عليه السلام) ايضاً:"من لم يرتدع يجهل"(14) ثالثاً: التقوى: فقد كتب إمامنا الباقر (عليه السلام) إلى سعد الخير: "بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإني اوصيك بتقوى الله فإن فيها السلامة من التلف والغنيمة في المنقلب إن الله (عزوجل) يقي بالتقوى عن العبد ما عزب عنه عقله ويجلي بالتقوى عنه عماه وجهله"(15) إذن التوبة هي سبب للتوفيق الإلهي الذي يؤدي فيما يؤدي إليه من إكمال العقل. رابعاً: الوقوف عند الشبهة: وقال (عليه السلام ): "لا ورع كالوقوف عند الشبهة"(16). فإن الوقوف عند الشبهات سبب من أسباب التوفيق الإلهي بلا شك. خامساً: الاعتراف بالجهل: كما روي عن الإمام علي (عليه السلام): "غاية العقل الاعتراف بالجهل"(17) إذ الاعتراف بالجهل يدفع الإنسان دوماً إلى مزيد من بذل الجهد واكتساب المعارف. مما تقدم تتضح جلياً صحة هذه المقولة دلالةً، إذ إن العقول فعلاً لا تقاس بالأعمار لأن كلٍاً من زيادتها ونقيصتها منوطٌ بالعديد من العوامل الأخرى والتي تقدم ذكرها، بيد إن ذلك لا يبرر التساهل في نشرها والتهاون في الاستشهاد بها على إنها من أقوال أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) لعدم ثبوت ذلك سنداً من جهة ولضعف بلاغتها وركاكة تركيبها بالنسبة إلى سيد البلغاء والبلاغة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) تهذيب اللغة ج1 ص65 (2) لسان العرب ج11 ص458 (3) نهاية الحكمة ص305 (4) ميزان الحكمة ج3 ص333 (5) أصول الكافي ج1، ح3 / 11 (6) نهج السعادة ج9 ص163 (7) الكافي ج7 ص94 (8) الفقيه ج3 ص493 (9) الاختصاص ص245 (10) نهج البلاغة حكمة 86 (11) بحار الأنوار ج72 ص105 (12) المصدر السابق ج1 ص94 (13) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص118 (14) الكافي ج8 ص73 (15) وسائل الشيعة ج1 ص162 (16) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص1 بقلم الكاتبة: رضا الله غايتي
اخرىالمرأة في فكر الإمام علي (عليه السلام)
بقلم: أم نور الهدى كان لأمير المؤمنين (عليه السلام) اهتمام خاص بالمرأة، فنراه تارة ينظر إليها كآية من آيات الخلق الإلهي، وتجلٍ من تجليات الخالق (عز وجل) فيقول: (عقول النساء في جمالهن وجمال الرجال في عقولهم). وتارة ينظر إلى كل ما موجود هو آية ومظهر من مظاهر النساء فيقول: (لا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها فإن المرأة ريحانة وليس قهرمانة). أي إن المرأة ريحانة وزهرة تعطر المجتمع بعطر الرياحين والزهور. ولقد وردت كلمة الريحان في قوله تعالى: (فأمّا إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة النعيم) والريحان هنا كل نبات طيب الريح مفردته ريحانة، فروح وريحان تعني الرحمة. فالإمام هنا وصف المرأة بأروع الأوصاف حين جعلها ريحانة بكل ما تشتمل عليه كلمة الريحان من الصفات فهي جميلة وعطرة وطيبة، أما القهرمان فهو الذي يُكلّف بأمور الخدمة والاشتغال، وبما إن الإسلام لم يكلف المرأة بأمور الخدمة والاشتغال في البيت، فما يريده الإمام هو إعفاء النساء من المشقة وعدم الزامهن بتحمل المسؤوليات فوق قدرتهن لأن ما عليهن من واجبات تكوين الأسرة وتربية الجيل يستغرق جهدهن ووقتهن، لذا ليس من حق الرجل إجبار زوجته للقيام بأعمال خارجة عن نطاق واجباتها. فالفرق الجوهري بين اعتبار المرأة ريحانة وبين اعتبارها قهرمانة هو أن الريحانة تكون، محفوظة، مصانة، تعامل برقة وتخاطب برقة، لها منزلتها وحضورها. فلا يمكن للزوج التفريط بها. أما القهرمانة فهي المرأة التي تقوم بالخدمة في المنزل وتدير شؤونه دون أن يكون لها من الزوج تلك المكانة العاطفية والاحترام والرعاية لها. علماً أن خدمتها في بيت الزوجية مما ندب إليه الشره الحنيف واعتبره جهادًا لها أثابها عليه الشيء الكثير جدًا مما ذكرته النصوص الشريفة. فمعاملة الزوج لزوجته يجب أن تكون نابعة من اعتبارها ريحانة وليس من اعتبارها خادمة تقوم بأعمال المنزل لأن المرأة خلقت للرقة والحنان. وعلى الرغم من أن المرأة مظهر من مظاهر الجمال الإلهي فإنها تستطيع كالرجل أن تنال جميع الكمالات الأخرى، وهذا لا يعني أنها لا بد أن تخوض جميع ميادين الحياة كالحرب، والأعمال الشاقة، بل أن الله تعالى جعلها مكملة للرجل، أي الرجل والمرأة أحدهما مكمل للآخر. وأخيرًا إن كلام الإمام علي (عليه السلام) كان تكريمًا للمرأة ووضعها المكانة التي وضعها الله تعالى بها، حيث لم يحملها مشقة الخدمة والعمل في المنزل واعتبر أجر ما تقوم به من اعمال في رعاية بيتها كأجر الجهاد في سبيل الله.
اخرىأساليب في التربية
عالم الطفولة كأنه طاولة، لا تجد فيه غير طعام لذيذ، ومنظر لطيف وجديد، فعالمهم فاكهة الوجود، وخضار الأرواح، ومياه الحياة تسقي القلوب... عالم صفاء وأحلام جميلة بسيطة وتافهة ولكن بنظرهِ هو عظيمة وكبيرة، فهو العالم الذي ينطلق منه الإنسان في بداية عمره. فالطفل في بداية حياته ينظر إلى الحياة بتفكيره البريء، فالطفل يعيش بعالم خاص به مملوء بالمحبة البريئة. هذه هي الصورة الجميلة التي يحملها الطفل، وكم يتمنى كل إنسان أن يعود لطفولته البريئة ليتأمل في أرجاء عالمها الذي كان يصور له حياة مختلفة تشد الإنسان إليها بجمالها، هذا هو عالم الطفولة وهذه أحلام من يعيشها، فلا ينفذ إلى ملكوت ذلك العالم ولا يدرك كنهه إلا من عاشه وجال في ربوعه. حيث يتذوق الطفل مع أحلام طفولته هذه لذة الحياة ولذة العيش فيها، ومهما حاولنا أن نعبر عن هذه الحقيقة فلن نستطيع تصويرها بالكلمات. وبعد هذا، فإن الاهتمام بمستقبل الطفل هو في الواقع ضمان لمستقبل شعب بأسره. قال اللَّه تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا". التحريم/6 أعتنى الإسلام بتربية الأبناء عناية فائقة، وألقى على عاتق الأهل ما سيكون عليه الولد في مسلكه الدنيوي ومصيره الأخروي إن هم قصروا في تربيته وإعداده. وقد ذكر العلماء أن شخصية الولد تتأثر في نموها بعوامل ثلاثة وهي: الوراثة، والبيئة، والتربية. إذا خضنا في مضمار التربية السليمة للأبناء... فعلى الأبوين أن يكون لهما الوعي التربوي الذي يبنى على أسس صحيحة ويتوفر لديهم فهم لأساليب التربية والتوجيه والرعاية وهذه نقطة البداية. فمثلاً في أسلوب التعامل مع الطفل تبرز أمامنا ثلاثة اشكال لتعامل الآباء مع الأبناء: الشكل الأول: أسلوب الدلال المفرط وهذا الأسلوب له نتائجه السلبية الخطيرة، فإنه يخلق شخصية هشة متميعة وشخصية اتكالية تحب الكسل والخمول مجردة من الهدف والإقدام، انهزامية غير قادرة على مواجهة التحديات وبمعنى أدق شخصية لا تثق بنفسها. شخصية متسيبة في ظل غياب المراقبة والمحاسبة وهذا التسيب يقود إلى الانفلات والانحراف. الشكل الثاني: فهو أسلوب التربية القاسية والعنف. وهذا الأسلوب أيضاً له نتائجه الخطيرة والسلبية التي يعاني منها الأبناء طوال حياتهم فهو يخلق شخصية قلقة ومتأزمة ومعقدة وخائفة وتحمل عقدة الخوف، شخصية حاقدة وعدوانية وقد تتأزم الأمور لتصبح شخصية منافقة وكاذبة خوفاً من العقاب والتعنيف ضمن حدود الأسرة ولكن يوماً من الأيام سينطلق هذا الشخص ليواجه المجتمع ككل، فلنتصور كيف سيتعامل مع المحيطين ضمن مجالات الدراسة والعمل وهو شخصية هاربة من أجواء الأسرة وقد يعرضها للتسيب والانحراف لأنها شخصية متمردة مما يعرضها للعقوق. الأسلوب الثالث: التوازن. الأسلوب الصحيح يعتمد على التوازن فمن شروط نجاح التربية التوازن في المعاملة ما بين الأمور التي تحتاج إلى شدة وحزم ليتربى على أن هذه الأمور خطوط حمراء طبعاً هنا يمكن أن يعترض أحد ويقول: لا للعنف الأسري ولا لاستخدام القسوة. نعم فهناك طرق غير استخدام العنف. يكفي ان يبدي الآباء انزعاجهم مثلاً. وهنا النقطة مهمة جداً، وهي: أن نوضح لهم سبب المنع والرفض لا تعتقدوا أن أبناءكم لا يدركون ولن يفهموكم. تخصيص الوقت للنقاش مهم جداً. وما بين أسلوب المرونة والحنان والاحتواء. التوازن في المعاملة. إن الإمام زين العابدين (عليه السلام) يصرح بمسؤولية الأبوين بتربية الطفل، ويعتبر التنشئة الروحية والتنمية الخلقية لمواهب الأطفال واجباً دينياً يستوجب أجراً وثواباً من الله تعالى، وأن التقصير في ذلك يُعرّض الآباء إلى عقاب الله. فيقول (عليه السلام): (وأما حق ولدك عليك فأن تعلم أنه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره. وأنك مسؤول عما وليته به من حسن الأدب والدلالة على ربه عز وجل والمعونة له على طاعته. فأعمل في أمره عمل من يعلم أنه مثاب على الإحسان إليه معاقب على الإساءة إليه ) مكارم الأخلاق للطبرسي ص٢٣٢ حنان الزيرجاوي
اخرى