تشغيل الوضع الليلي
مئةُ عامٍ والمبدأ واحِد (2)
منذ 4 سنوات عدد المشاهدات : 380
بقلم: منار المهديّ
(مقارنةٌ بين فتوى ثورة العشرين وفتوى الجهاد الكِفائي)
بعد أن عرفنا الجزء الإيجابي المشرق والمبدأ الشريف لفرعَي أيكة المجد، ربيبَي غريّ علي بن أبي طالب (عليه السّلام) ، نستعرض مبدأ الطرف الآخر، الذي وإن اختلفت مسمّياته إلّا أنّه يسلك ذات المبدأ وذات السبيل.
١- تذرّع البريطانيّون بذريعة تحرير البلد من قبضة الدولة العثمانيّة وهذا ما صرّح به الجنرال مود بقوله: "ان جيوشنا لم تدخل مدنكم وأراضيكم بمنزلة قاهرين أو أعداء بل بمنزلة محررين".
والحال أنّ أيًّا مما وعدوا به الشعب لم يحصل بتاتًا ولم يأتِ منهم خير.
وهذا ما حصل عند احتلال الجيش الأمريكي للعراق بذات الحجّة والذريعة والحال أننا لم نجنِ منهم سوى الشوك والحنظل.
٢- أصدر السير (برسي كوكس) بيانًا ذكر فيه بأن الجيش البريطانيّ إنّما يحارب الحكومة التركيّة لا الأهالي الذين يضمر لهم كل خير وفلاح!
وكان القصد من هذا البيان الفتّ في عضد الوحدة الإسلاميّة وإثارة النفرة بين العراقيين والحكومة العثمانيّة جريًا على قاعدة "فرّق تسُد"
وتتجلّى هذه القاعدة واضحة أمام أعيننا اليوم بما نراه من محاولات لدسّ السُّم بالعسل والتفريق بين المسلمين في العراق وإخوانهم في البلدان الأخرى بشتّى الشائعات والتحريضات، وأنّهم لا علاقة لهم بأبناء الشعب إنما غايتهم هي قيادات الحشد، متغافلين أنّ القيادات هي جزء من أبناء هذا الشعب.
٣- صرّح الحاكم البريطانيّ في غير مرّةٍ أنّ "بعض الأشخاص الطائِشين قد أغراهم العدو على حمل السّلاح لمساعدته ضد الجيوش البريطانيّة"؛ لإيهام الناس أنّ من يحملون السّلاح لمقاتلة الاحتلال ما هم إلّا جُناة خارجون عن القانون لترهيب الأهالي وردعهم عن إرسال أبنائهم إلى جبهات القتال!
وهذا عين ما تشنّه الآن أميركا وأعوانها على ملبّي فتوى الجهاد المقاتلين من أنّهم طائشون وقتلة وميليشات.. وإلخ.
وفي كِلتي الثورتين، أهم ما يُنجَز هو الحِفاظ على المنجزات والشروع بالإصلاحات وسد أيّ ثغرة يتمكن من خلالها الأعداء من ضرب هذه المؤسّسات المباركة، وهذا ما حصل بعد انتصار ثورة العشرين حيث ضيّعت الحقوق بذهاب السلطة إلى من هو أقرب ما يكون إلى "دميّة" تحرّك خيوطها أصابع العم سام!
وقد أوصى السيّد السيستاني (مدّ ظلّه) بالحفاظ على منجزات الفتوى وإدامتها وأكّد أنّ معركة الإصلاح القادمة هي أهم وأشدّ ضراوةً.
اخترنا لكم
كيف نربي!
بقلم: قاسم المشرفاوي سؤال يطرحه الكثير من الآباء والأمهات لشعورهم بالعجز والإحباط في ظل كثرة الفتن والمثيرات، وفي ظل التجاذبات العديدة التي نعاني منها هذه الأيام، فعالم الإنترنت يغزو بيوتنا ويدخل بأوسع أبوابه وتأثيراته السلبية العديدة والكثيرة جداً، فماذا يستطيع الأهل فعله أمام هذه الصعوبات؟ ففي يومنا الحاضر أصبحت التربية من أصعب الأعمال الشاقة التي تدفع بالأهل للتفكير بجدية أكثر من أجل وضع المعالجات الناجعة والمناسبة قبل حدوث الكارثة والمصيبة. قلنا في مقالات سابقة: إنه يجب على الأهل الاستعداد التام والتخطيط المسبق قبل التفكير بالإنجاب، فوضع الخطط المسبقة لإدارة أمور التربية الأسرية من الأشياء التي تقلّل الأخطاء التي يقع فيها الأبناء، فلو كان الأبوان مطلعينِ على أساليب التربية الحديثة والتي ذكرها الله تعالى على لسان رسوله الكريم (محمد صلى الله عليه واله) لكانت لديهم حصانة ومعرفة في التعامل مع المراحل المختلفة التي يمر بها الأطفال، ولأعطوا كل مرحلة عمرية حقها، وبهذا فهم يقومون ببناء شخصية طفلهم بناءً صحيحًا وقويًا يناسب الظروف وحداثتها. ولم يغفل الشارع المقدس عن تقديم الأسلوب الأمثل في التعامل مع مختلف المراحل العمرية حيث قال النبي الكريم محمد (صلى الله عليه وآله): الولد سيد سبع سنين، وعبد سبع سنين، ووزير سبع سنين ،فان رضيت خلائقه لإحدى وعشرين سنة، وإلّا ضُرب على جنبيه فقد أعذرت إلى الله تعالى. فالحديث الشريف يعتبر قاعدة تربوية يجب علينا كآباء وأمهات أن نفهمها ونطبقها بشكل صحيح لتؤتي ثمارها، فالحديث تكلم عن ثلاث مراحل عمرية مختلفة يمر بها الطفل، وكل مرحلة أعطاها خصائصها المهمة والمناسبة… حيث وُصفت مرحلة السبع الأولى، بالملك والسيد في عبارة الولد سيد سبع سنين. ووصفت مرحلة السبع الثانية، بالعبد. ووصفت مرحلة السبع الثالثة، بالوزير . لقد أعطى الإسلام للطفل في مرحلة السبع سنوات الأولى حقه في ممارسة طفولته والاستمتاع بها، وأطلق عليه وصف السيد والملك، وهو الذي يأمر ويطلب ما يريد وما يرغب، فالطفل يرى أن والديه يرزقانه، فهو لا يفكر من أين يأتي والده بالمال، وإنما يريد أن يستمتع بوقته، فهو يحتاج إلى الألعاب ليلعب ويمرح، وينطلق في هذه المرحلة، فعلى والديه أن يوفرا له كل ما يريد قدر المستطاع لينمو بشكل متزن وتكون شخصية قوية ومنضبطة بسبب اشباع حاجاته الجسدية والنفسية، كالحب والأمان والتقدير والاحترام، ليكتمل نموه العاطفي والنفسي بالتدريج، مع باقي المراحل الأخرى. فالطفل في سنواته السبع الأولى يحتاج إلى الاحتضان واللعب وتخصيص وقت للاستماع إليه ليشعر بأنه السيد والملك كما وصفه الحديث الشريف وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يتعامل مع الأطفال بهذه الروحية العالية ويصرح بها: أولادنا أكبادنا، صغراؤهم أمراؤنا... وقد تبين من خلال الدراسات النفسية العديدة: أن الطفل في مرحلة السبع الأولى غير مهيأ سيكولوجياً لتلقّي التأديب والتعليم، وخصوصًا في سنواته الخمس الأولى، لأن مرحلة التأديب تحتاج إلى نفسية قوية تستقبل هذا التطور، وبدون أن يأخذ الطفل طفولته ويستمتع بها في مرحلة السبع الأولى فإنه سوف يبقى يحن إلى اللعب والنشاط إلى آخر أيام حياته. ومن الخطأ الإسراع بالطفل إلى الروضات التي تمارس الانضباط في الدرس والتعليم وهو في عمر الرابعة والخامسة، حيث إن شخصية الطفل تفقد التوازن مستقبلاً، فهي أما تكون جادة أو ميالة إلى الهزل واللعب وعدم الجدية، لأن الطفل إذا حُرم من اللعب والذي يُعد حاجة نفسية تساهم في توازنه النفسي والعاطفي في سنواته الأولى فإنه يكون أما شخصية مثالية غير اجتماعية، وأما شخصية لا أبالية وهزلية وتهتم باللعب وعدم المسؤولية بسبب شعوره بالنقص وعدم الإشباع من الطفولة. ويمكن تعليم الطفل في هذه المرحلة بالتدريج بعض الأشياء الضرورية والمهمة، كاحترام الكبير وتوقيره وبعض الأدبيات والذوقيات بشكل مبسط وجذاب ويا حبذا استخدام أسلوب القصة التربوي فهو أسلوب جذاب ومثير للأطفال. لو طبّقنا الشطر الأول من الحديث بأسلوب صحيح، فإننا سنحصل على عبودية الطفل وامتثاله للأوامر الأبوية ببساطة وبدون عناد، فهو سيد سبع سنين، وعبد سبع سنين فإذا اعطيناه السيادة والملوكية في سنواته السبع الأولى سيكون عبدًا مطيعًا لنا في سنواته السبع الثانية بما يخدم مصلحته، وبهذا استطعنا أن نسير وفق برنامج محصن ورصين منذ الأيام الأولى. فالمرحلة الثانية هي المخصصة للتربية الإيجابية والتي يجب على المربي الشاطر أن يستغلها بشكل إيجابي ليؤسس قواعد تربوية في ذهن الطفل، ففي هذه المرحلة: ١: يمتاز بالجدية والطاعة للأبوين إكمالاً للمرحلة الأولى التي أمتاز بها الطفل بالسيادة، فالطفل كان يأمر ويطلب، والآن يُطلب منه الطاعة، فهي عملية امتداد واستمرار من أجل غرس القيم الصحيحة.. ٢: يكون الطفل في هذه المرحلة تحت نظر وعناية والديه فيجب اعطاؤه الوقت الكافي بالمصاحبة والمراقبة التامة. ٣: أن نستخدم الحزم مع الطفل لتعليمه الأخلاق، فهو عبد سبع سنين، فالطفل يحتاج في هذه المرحلة إلى الشدة والضبط ليتعلم من والديه كل ما هو مفيد ونافع. وقد روي أن النبي الكريم (صلى الله عليه وآله) نظر إلى بعض الأطفال وقال: ويل لأولاد آخر الزمان من آبائهم، فقيل: يا رسول الله! من آبائهم المشركين؟ فقال: لا من آبائهم المؤمنين، لا يعلمونهم شيئًا من الفرائض وإذا تعلموا –يعني أولادهم- منعوهم ورضوا عنهم بعرض يسير من الدنيا فأنا منهم بريء وهم مني بُراء. والمرحلة الثالثة التي ذكرها الحديث وهي مرحلة تمتد من عمر (١٤_ ٢١) عامًا، وهي آخر مراحل التربية، حيث يمر الطفل بمرحلة البلوغ والتغيرات الجسمية، وحيث تختلف هذه المرحلة عن سابقتها، لدخول الطفل مرحلة الشباب والمراهقة وتتميز هذه المرحلة: ١: بروز علامات الرجولة بالنسبة للذكوز، وبروز مظاهر النساء بالنسبة للإناث، وهذا التغير الجسمي يؤثر في نظر الولد والبنت اتجاه نفسيهما حيث يعتبر نفسه بأنه انتقل الى مرحلة متقدمة. ٢: هذا البلوغ يؤثر في الحالة النفسية بسبب التغيرات الهرمونية التي تطرأ على هذه المرحلة. ٣: انتقال الولد إلى مرحلة التكليف الشرعي، ويجب هنا أن يكون مهيأً قبل سن بلوغه من الناحية النفسية والعاطفية من قبل أبويه، ويتم ذلك بشرح الواجبات الشرعية بشكل مبسط وتحبيب الدين إليه بأسلوب مثير يجعله ينجذب إليه ولا ينفر منه. وهنا يجب على الأب والأم أن يتعاملوا مع هذه المرحلة: -يجب التعامل باحترام شديد ليشعر الولد والبنت بأن لهم مكانة مرموقة لدى آبائهم وأمهاتهم، فقد ذكر الحديث (ووزير سبع سنين) وهنا يجب على الأهل الاستماع إلى ابنائهم ومشاركتهم في الرأي فالوزارة تقتضى ذلك.. -يجب أن يكون الولد إلى جنب أبيه، فهذه المرحلة يجب أن يتعلم فيها الابن كيف يساند أباه ويساعده ليشعر بالمسؤولية بشكل يشكل لديه تصور صحيح للمستقبل. - يجب أن يصادق الأب ابنه ويقربه إليه، وكذلك الأم يجب عليها مصاحبة ومصادقة ابنتها، فالعلاقة يجب أن تكون قوية ورصينة.. -وهذه المرحلة تقتضى على الأبوين اشعار أبنائهم بأنهم موضع ثقتهم ولهم أهمية ودور في الأسرة، وهذا يتم من خلال تحميلهم مسؤوليات مناسبة لمرحلتهم العمرية، فالولد يجب عليه أن يساعد والده في بعض الأعمال المناسبة، والفتاة يجب عليها مساعدة والدتها في أمور البيت؛ لتتعلم كيف تتعامل مع حياتها المستقبلية، فالأبوان هما المصدر الأول لتعليم الأولاد وتطويرهم..
اخرىتعلمتُ من زينب (عليها السلام)
بقلم: خادمة الزهراء تَعلمتُ مِن زينب أنَّ صوتَ الحقِ لا يُخمد مهما استبدّ الاستكبار في طغيانه، وعَلا صوته وجال وصال وعاثَ في الأرضِ الفساد.. وتَعلمتُ مِن زينب أنَّ الكلمة في بعض الأحيان تكون أحدَّ مِن صَليلِ السيوف.. كما عَلَمَتني أنَّ نُصرَةَ الدَّين وإمام الزمان لَيست حِكرًا على الرجالِ، فرُبَّ امرأةٍ تقودُ ثورةً خَيرٌ مِن ألفِ رَجُل.. وَعَلَمَتْني أنَّ كُلَّ غالٍ ونَفيسٍ يَرخُصُ لِأجلِ إِعلاءِ كَلِمَةِ اللهِ (تعالى) ونُصرَةِ الدِّين وإِمامِ الزَمان (عجّل الله فرجه).. وأنَّ النَّفس والمالَّ والجاهَ والأولاد هُم مِن اللهِ تعالى وإِلى الله تعالى وإِنَّها تَرخُصُ لِأجلِ المبادئ السامية.. وأنَّ الصَّبرَ جميلٌ إِذا كانَ لله (جلّ شأنه)، فَالمُؤمِنُ الرسالي مَهما اشتدَ عليهِ البلاء، وضاق صَدرُه لا يمنَعُه حزنه من إيصال رسالته، ولا تحول المآسي التي تمر عليه دون تحقيق أهدافه، فهو مَعَ اللهِ تعالى والله تعالى مَعه، كيف لا، وقد قال أصدق القائلين: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ))(البقرة آية٥٣).. وكانت السيدة (سلام الله عليها) خَير مِصداقٍ لِهذِهِ الآية؛ إذ استعانت بالصبر حتى عجز الوصف والكلام عن صبرها، وحَيَّر كُنهَ العقول صُمودُها، واستعانَت بِالصَلاةِ فلم تترك حتى صلاة الليل المُستحبة في أصعب ليلةٍ تمرُّ عليه مع كُلِّ ماحَلّت بِها من رزايا عَظيمة، من فَقدٍ لِلأهلِ مِنَ الإِخوَةِ وَالأولادِ وبالأخص رزية فقد إمام زمانها شَريكِ روحها ورفيق دَربِها سِبطِ رَسولِ الله (صلى الله عليه وآله) الإمامِ الحُسين (عليه السلام).. نعم، لَقَدِ استَعانَت بِالصَبرِ والصَلاةِ فكان الله تعالى معها؛ لأن الله مع الصابرين... وتَعَلَمتُ مِن الصديقة زَينَب (عليها السلام) أنَّ حِجابَ المرأةِ وسترها وعفافها قضيةٌ رَسَخ الإسلام مَفهومَها، فلا قيمة لإيمانِ امرأة بلا عفاف وحِجاب.. وقد رَسَمت العقيلة زَينَب(سلام الله عليها) خَطًا واضِحًا لِمَن أَرادَتِ الاقتداءَ بِها مِنَ النِساء لِمَن تُريدُ أنْ تَكُونَ امرأةً ناجِحَةً وَتُريدُ الفوز بسعادة الدارين، وتُريدُ أنْ تَكُونَ في المَحل الذي اختارهُ الله لَها.. فَالمرأةُ في الوقتِ الذي يَتَطلبُ مِنها أَن تَكونَ فيهِ في البيتِ؛ لتؤدي رِسالتَها داخِلَ اُسرَتَها، إذ إنّها هي البِنتُ وَالزوجةُ والأُختُ والأمُ الصالِحة، فإنَّها لابُدَّ أن تؤدي وظيفتها الدينية وتنصر إمام زمانها (عليه السلام) في الميدان الذي يناسبها أو الذي تقتضيه ظروفها، فللمرأة دورٌ مهم في نشر الرسالة الإسلامية وفي تصحيح مسارها وفي المساهمة في استمرارها، وقد صدق المثل المعروف (وراء كلّ رجلٍ عظيم امرأة)، فكان للسيدة خديجة (عليها السلام) دورٌ فاعل في مساندة الرسول (صلى الله عليه وآله)، ولسيدة النساء فاطمة الزهراء (عليها السلام) دورٌ فاعل في مساندة الإمام علي (عليه السلام) والدفاع عن إمامته، ولعقيلة الهاشميين زينب (عليها السلام) دورٌ فاعل في مساندة الإمام الحسين (عليه السلام) وفي إكمال مسيرته...
اخرىعليٌ والرواتبُ المزدوجة
بقلم: الدكتور عزيز سنبه يومُ الغدير ليسَ يومَ توزيعِ المناصب، إنّه يومٌ حدَّد فيه الرسولُ (صلى الله عليه وآله) معالمَ وأُسسَ الحضارة الجديدة التي تتخطى المكونات والقوميات والاختلافات البشرية. ولم يكنْ بيانُ وتوضيحُ معالم ونهجَ وأسس ومسلك هذه الحضارة ليتحقّقَ بغيرِ علي (عليه السلام)، المُجسِّم روحًا وفعلًا لهذه الحضارة. أهمُّ المناهجِ التي اتبعها عليٌ (عليه السلام) لتأسيسِ هذه الحضارة هو بناءُ مجتمعٍ تسودُه المساواة والعدالة الاجتماعية، وفقَ أسسٍ في مقدمتها التوزيعُ العادلُ لثروات الدولة. وتوضيحُ هذا الأمر يتطلب التطرُّقَ لبعضِ التفاصيل السياسية المتعلقة بالأحداث التي رافقتْ تطبيق هذا المنهج عند استلامه للخلافة وربطها بواقعنا الحالي، ومن خلالِها نفهمُ من هو عليٌ (عليه السلام)؟ ولماذا اختاره الرسولُ الأعظم (صلى الله عليه وآله)؟ الخطوةُ الأولى التي رسمها عليُ (عليه السلام) هي إلغاءُ جميعِ الامتيازات التي يتمتعُ بها السياسيون وغيرهم وفق قوانين العدالة الانتقالية؛ فقرارُه الأولُ كان إلغاءَ قانونٍ عمره ثلاثةٌ وعشرون عامًا (منذُ خلافةِ عمر) الذي ميّزَ "المجاهدين" المهاجرين الأوائل عن غيرهم، ومواطني الداخل عن مواطني الخارج، والذي كان يمنحُ الرواتبَ المُزدوجة وامتيازاتٍ لفئاتٍ دون أخرى. ومن المؤكد أنَّ الكثيرَ من البدريين والدُعاة والسُجناء السياسيين وأصحابِ الامتيازاتِ لم يَرُقْ لهم هذا الإلغاء؛ لأنّها -حسب تصورهم- حقوقُهم، ليسَ لأحدٍ الاقترابُ منها؛ لأنّها خطٌ أحمر! فاجتمعتِ الأحزابُ والكياناتُ السياسية المُعترضة، ووصل خبرُ اعتراضِهم لعليٍ (عليه السلام) الذي ارتقى المنبرَ وخطبَ؛ ليُبيّنَ لهم فسادَ القوانين التي كانت توزَّعُ الثرواتُ وفقًا لها، وقد أصرَّ على قرارِ الإلغاء، فقال: "ألا وأيُّما رجلٍ من المهاجرين والأنصار من أصحابِ رسولِ الله (صلى الله عليه وآله) يرى أنَّ الفضلَ له على من سواه لصحبتِه، فإن الفضلَ النيّرَ غدًا عند الله، وثوابه وأجره على الله. وأيُّما رجلٍ استجاب للهِ وللرسول، فصدَّق ملتَنا، ودخلَ في ديننا، واستقبلَ قبلتنا، فقد استوجبَ حقوقَ الإسلامِ وحدوده؛ فأنتم عبادُ الله، والمالُ مالُ الله، يُقسَّمُ بينكم بالسويّة، لا فضلَ فيه لأحدٍ على أحد، وللمُتقين عندَ الله غدًا أحسنُ الجزاء، وأفضلُ الثواب. لم يجعلِ اللهُ الدنيا للمتقين أجرًا ولا ثوابًا، وما عند الله خيرٌ للأبرار". ولاحظَ المُقربون من علي (عليه السلام) والمخلصون له أنّ المعترضين والمتضررين من هذا القرار يمثلون كياناتٍ سياسيةً لها نفوذُها وتأثيرها على الرأي العام والإعلام، فتحدّثوا إليه بطريقةٍ لمّحوا فيها إلى ضرورةِ التهدئةِ السياسيةِ وفقَ حوارٍ وطني، وطاولةٍ مُستديرة، وتوافقاتٍ سياسية؛ من أجلِ ألّا تسقطَ العمليةُ السياسيةُ، وإلّا انتقلوا إلى المعسكر الآخر، وانضموا إلى تنظيمِ القاعدة وحزبِ البعث المُنحل. كما لمّحوا لعليٍ (عليه السلام) أنَّ ذلك خسارةٌ كبيرةٌ مقابلَ الإبقاء على رواتبهم وامتيازاتهم السابقة. فما كان من ابن أبي طالب (عليه السلام) إلا أن ازدادَ غضبًا وهو يرى أنَّ أقربَ مُقربيه لم يستوعبوا قراره ولم يفهموه؛ فارتقى المنبرَ ثم صاحَ بأعلى صوتِه: "أطيعوا الله وأطيعوا الرسول، فإنْ توليتُم فإنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الكافرين" ثم قال: يا معشر المهاجرين والأنصار! أتمنّونَ على الله ورسوله بإسلامِكم، بل اللهُ يمنُّ عليكم أنْ هداكم للإيمان إنْ كنتم صادقين...حتى قال: وهذا كتابُ الله به أقررنا وله أسلمنا، وعهدُ نبينا بين أظهرنا، فمن لم يرضَ به فليتولَ كيف شاء؛ فإنَّ العاملَ بطاعةِ اللهِ والحاكمَ بحكمِ الله لا وحشةَ عليه". وبذلك أنهى جميعَ المساراتِ التي كان البعضُ يعتقدُ أنّها ستؤثرُ على عليه. ولأنَّ عليًا (عليه السلام) ديمقراطي النزعة، فقد قرّرَ الاستماعَ إلى هؤلاء المعارضين والمتضررين من إلغاء (قوانين العدالة الانتقالية)؛ لعلّهم يُقنعونه بوجهةِ نظرهم أو يُقنعهم، فبعث إليهم، واستمع. وكان حديثهم في موضوعين: الأول: طلبوا أنْ يكونوا شركاءَ في القراراتِ السياسية التي تخصُّ الدولة، لاسيما في الموازنةِ العامة للدولة، فقالوا: "أعطيناك بيعتنا على ألّا تقضى الأمور، لا تقطعها دوننا، وأنْ تستشيرَنا في كلِّ أمرٍ، ولا تستبد بذلك علينا، ولنا من الفضلِ على غيرنا ما قد علمت؛ فأنتَ تقسمُ القسم وتقطعُ الأمر، وتمضي الحكم بغير مشاورتنا ولا علمنا". وأما الطلبُ الثاني: فقد كانوا فيه أكثرَ وضوحًا وصراحةً، وهو الأساس، يتعلق بإنقاصِ رواتبهم، فقالوا: "إنّك جعلتَ حقنا في القسمِ كحقِّ غيرِنا، وسوَّيتَ بيننا وبين من لا يُماثلنا فيما أفاء اللهُ (تعالى) علينا بأسيافِنا ورماحِنا وأوجفنا عليه بخيلنا ورجلنا...". فهم يجدون أنفسَهم أصحابَ فضلٍ في سقوطِ النظام السابق، وأنه ليسَ من العدل مساواتُهم مع غيرهم في الرواتب والامتيازات. أجابهم عليٌ (عليه السلام) بخصوصِ الطلب الأول بأنَّ القراراتِ التي اتخذها كانتْ وفقًا لنصوصِ الدستور الموضوع الذي (قاتلتم) من أجله، وتداعون به، فقال: "...نظرتُ في كتابِ اللهِ وسُنةِ رسوله، فأمضيت ما دلّاني عليه واتبعته، ولم أحتج إلى آرائكما فيه، ولا رأي غيركما، ولو وقعَ حكمٌ ليس في كتابِ الله بيانُه ولا في السنةِ برهانُه، واحتيج إلى المشاورة فيه لشاورتكما فيه". أما المسألةُ الثانية المُتعلقة بالامتيازات والمُخصصات والرواتب المزدوجة فقد أكّدَ عليٌ (عليه السلام) أنّها عديمةُ السندِ الدستوري؛ فلا كتاب الله تعالى يؤيدُ هذه الامتيازات، ولا سنة الرسول (صلى الله عليه وآله)؛ إذ قال: "وأمّا القسم والأسوة، فإنَّ ذلك أمرٌ لم أحكمْ فيه بادئ بدءٍ، قد وجدتُ أنا وأنتما رسولَ الله (صلى الله عليه وآله) يحكمُ بذلك، وكتابُ الله ناطقٌ به، وهو الكتابُ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيلٌ من حكيمٍ حميدٍ" أمّا موضوعُ الخدمةِ الجهادية فأجابهم عليٌ (عليه السلام): إنَّ اللهَ هو من يوفيكم عنها، وليست الموازنة العامة للدولة. وإنَّ هناك من هو أسبقُ منكم في الإسلام وقتَ الرسول (صلى الله عليه وآله) ولم يُميّزهم (صلى الله عليه وآله) بشيء، فقال: "وأمّا قولُكما: جعلتَ فيئنا وما أفاءته سيوفنا ورماحنا، سواءً بيننا وبين غيرنا، فقديمًا سبقَ إلى الإسلام قومٌ ونصروه بسيوفهم ورماحهم، فلم يُفضِّلْهم رسولُ الله (صلى الله عليه وآله) في القسم، ولا آثرهم بالسبق، والله (سبحانه) موفِ السابق والمجاهد يوم القيامة أعمالهم، وليس لكما والله عندي ولا لغيركما إلا هذا، أخذ اللهُ بقلوبنا وقلوبكم إلى الحق..." هذا أحدُ المشاهد التاريخية التي يُفترضُ أنْ يُقرأ كدرسٍ من دروسِ علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فلم يُهادنْ؛ لأنّه لا يطلبُ نصرًا بالجورِ وببخسِ حقوقِ الآخر بحججِ الحفاظِ على العملية السياسية والوحدة الوطنية كذبًا وزيفًا. هذا الرجلُ الذي اختفتْ لديه المنطقةُ الرماديةُ؛ فلم يرَ سوى طريق الحق مسلكًا لا بديل له. ستبقى سيدي أسطورةً وأمثولةً، وستبقى مسعى البشرية أبدًا.
اخرىالتعليقات
يتصدر الان
لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع
يستشهد الكثير من الناس ــ وحتى بعض المثقفين ــ بقول:" لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع فإن الخير فيها دخيل وعاشر نفساً جاعت بعد شبع فإن الخير فيها أصيل" على أنه من أقوال أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، كما يستشهدون أيضاً بقولٍ آخر ينسبونه إليه (عليه السلام) لا يبعد عن الأول من حيث المعنى:"اطلبوا الخير من بطون شبعت ثم جاعت لأن الخير فيها باق، ولا تطلبوا الخير من بطون جاعت ثم شبعت لأن الشح فيها باق"، مُسقطين المعنى على بعض المصاديق التي لم ترُق افعالها لهم، لاسيما أولئك الذين عاثوا بالأرض فساداً من الحكام والمسؤولين الفاسدين والمتسترين عل الفساد. ونحن في الوقت الذي نستنكر فيه نشر الفساد والتستر عليه ومداهنة الفاسدين نؤكد ونشدد على ضرورة تحرّي صدق الأقوال ومطابقتها للواقع وعدم مخالفتها للعقل والشرع من جهة، وضرورة التأكد من صدورها عن أمير المؤمنين أبي الأيتام والفقراء (عليه السلام) أو غيرها من المعصومين (عليهم السلام) قبل نسبتها إليهم من جهة أخرى، لذا ارتأينا مناقشة هذا القول وما شابه معناه من حيث الدلالة أولاً، ومن حيث السند ثانياً.. فأما من حيث الدلالة فإن هذين القولين يصنفان الناس الى صنفين: صنف قد سبق له أن شبع مادياً ولم يتألم جوعاً، أو يتأوه حاجةً ومن بعد شبعه جاع وافتقر، وصنف آخر قد تقلّب ليله هماً بالدين، وتضوّر نهاره ألماً من الجوع، ثم شبع واغتنى،. كما جعل القولان الخير متأصلاً في الصنف الأول دون الثاني، وبناءً على ذلك فإن معاشرة أفراد هذا الصنف هي المعاشرة المرغوبة والمحبوبة والتي تجرّ على صاحبها الخير والسعادة والسلام، بخلاف معاشرة أفراد الصنف الثاني التي لا تُحبَّذ ولا تُطلب؛ لأنها لا تجر إلى صاحبها سوى الحزن والندم والآلام... ولو تأملنا قليلاً في معنى هذين القولين لوجدناه مغايراً لمعايير القرآن الكريم بعيداً كل البعد عن روح الشريعة الاسلامية ، وعن المنطق القويم والعقل السليم ومخالفاً أيضاً لصريح التاريخ الصحيح، بل ومخالف حتى لما نسمعه من قصص من أرض الواقع أو ما نلمسه فيه من وقائع.. فأما مناقضته للقرآن الكريم فواضحة جداً، إذ إن الله (تعالى) قد أوضح فيه وبشكلٍ جلي ملاك التفاضل بين الناس، إذ قال (عز من قائل):" يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)"(1) جاعلاً التقوى مِلاكاً للتفاضل، فمن كان أتقى كان أفضل، ومن البديهي أن تكون معاشرته كذلك، والعكس صحيحٌ أيضاً. وعليه فإن من سبق حاجتُه وفقرُه شبعَه وغناه يكون هو الأفضل، وبالتالي تكون معاشرته هي الأفضل كذلك فيما لو كان تقياً بخلاف من شبع وكان غنياً ، ثم افتقر وجاع فإنه لن يكون الأفضل ومعاشرته لن تكون كذلك طالما كان بعيداً عن التقوى. وأما بُعده عن روح الشريعة الإسلامية فإن الشريعة لطالما أكدت على أن الله (سبحانه وتعالى) عادلٌ لا جور في ساحته ولا ظلمَ في سجيته، وبالتالي لا يمكن أن يُعقل إطلاقاً أن يجعل البعض فقيراً ويتسبب في دخالة الخير في نفوسهم، التي يترتب عليها نفور الناس من عشرتهم، فيما يُغني سواهم ويجعل الخير متأصلاً في نفوسهم بسبب إغنائه إياهم ليس إلا ومن ثم يتسبب في كون الخير متأصلاً في نفوسهم، وبالتالي حب الناس لعشرتهم. فإن ذلك مخالف لمقتضى العدل الإلهي لأنه ليس بعاجزٍ عن تركه ولا بمُكره على فعله، ولا محب لذلك لهواً وعبثاً (تعالى عن كل ذلك علواً كبيراً). كما إن تأصل الخير في نفوس بعض الناس ودخالته في نفوس البعض الآخر منهم بناءً على أمر خارج عن إرادتهم واختيارهم كـ(الغنى والشبع أو الجوع والفقر) إنما هو أمرٌ منافٍ لمنهج الشريعة المقدسة القائم على حرية الانسان في اختياره لسبيل الخير والرشاد أو سبيل الشر والفساد، قال (تعالى):" إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)"(2) بل إن الانسان أحياناً قد يكون فقيراً بسبب حب الله (تعالى) له، كما ورد في الحديث القدسي: "أن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى فلو أفقرته لأفسده ذلك و أن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر فلو أغنيته لأفسده ذلك"(3) وهل يمكن ان نتصور أن الخيرَ دخيلٌ فيمن يحبه الله (تعالى) أو إن معاشرته لا تجدي نفعا، أو تسبب الهم والألم؟! نعم، ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"اِحْذَرُوا صَوْلَةَ اَلْكَرِيمِ إِذَا جَاعَ وَ اَللَّئِيمِ إِذَا شَبِعَ"(4) ولا يقصد به الجوع والشبع المتعارف عليه لدى الناس، وإنما المراد منه: احذروا صولة الكريم إذا اُمتُهِن، واحذروا صولة اللئيم إذا أكرم، وفي هذا المعنى ورد عنه (عليه السلام) أيضاً: "احذروا سطوة الكريم إذا وضع و سورة اللئيم إذا رفع"(5) وأما العقل السليم والمنطق القويم فإنهما يقتضيان أن تتأصل صفة الخير في الإنسان لملكاتٍ حميدة يتسم بها وصفات فضيلة يتميز بها، لا أن تتأصل صفة الخير في نفسه لمجرد أنه ولد في أسرة تتمتع بالرفاهية الاقتصادية ووجد في بيئة تتنعم بالثروات المادية! وعند مراجعتنا للتاريخ الصحيح نجد أن قادة البشر وصفوة الناس إنما كان أغلبهم ينتمي الى الطبقات الفقيرة من المجتمع، فهؤلاء الأنبياء ورسل الله (صلوات الله عليهم) منهم من كان نجاراً أو خياطاً أو راعياً، ومع ذلك فقد كانوا من أطيب الناس خلقاً، وأعظمهم شرفاً، وأرفعهم منزلةً، قد تأصّل الخير في نفوسهم تأصّلاً حتى غدوا قطعة منه، فكانوا هم الخير للبشر، وهم الرحمة للعالمين. وبالنزول إلى أرض الواقع نجد أن الكثير من الفقراء والمساكين طيبي الروح، كريمي النفس، يتألمون لألم المحتاج ولربما يؤثرونه على أنفسهم رغم حاجتهم. ولا نقصد من كلامنا هذا أن الأغنياء هم على نقيض ذلك، وإنما تأكيداً على مسألة عدم ارتباط تأصل الخير في النفوس وعدمه بمستواهم الاقتصادي الذي نشأوا فيه ارتباط العلة والمعلول، فكما إن بعض الفقراء أخيار، فإن بعض الأغنياء كذلك، والعكس صحيح أيضاً. ومن هنا يُفهم من بعض الروايات ضرورة عدم طلب الخير والحاجات ممن هم أهل للخير بقطع النظر عن مستواهم المعاشي الحالي والسابق، منها ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"أشد من الموت طلب الحاجة من غير أهلها"(5)، وعنه (عليه السلام) أيضاً: "فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غير أهلها"(6) إذن فلا صحة لهاتين المقولتين من حيث الدلالة، حتى وإن تنزلنا وحملنا الجوع والشبع على المعنى المعنوي لا المادي؛ وذلك لأنه حتى من يفتقر الى الأخلاق المعنوية فإنه ما إن يتكامل بالفضائل ويقلع عن الرذائل حتى يتسم بالخير وتحسن عشرته وتطيب للناس صحبته، والعكس صحيحٌ أيضا.. ومن البديهي أن ما لا يوافق العقل والمنطق السليم، ويخالف صريح القرآن الكريم، لا يمكن أن يصدر من وصي الرسول الكريم (صلوات الله عليهما وآلهما)، وعليه لا تصح نسبة هذين القولين الى أمير المؤمنين (عليه السلام).. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الحجرات 13 (2) الانسان 3 (3) عوالي الآلي ج2 ص29 (4) غرر الحكم ج1 227 (5) المدر السابق ج1 ص246 (6) ميزان الحكمة ج4 ص 238 رضا الله غايتي
اخرىبين طيبة القلب وحماقة السلوك...
خلق الله الأشياء كلها في الحياة ضمن موازين وقياسات... فالزيادة أو النقيصة تسبب المشاكل فيها. وهكذا حياتنا وأفعالنا وعواطفنا لا بد أن تكون ضمن موازين دقيقة، وليست خالية منها، فالزيادة والنقيصة تسبب لنا المشاكل. ومحور كلامنا عن الطيبة فما هي؟ الطيبة: هي من الصفات والأخلاق الحميدة، التي يمتاز صاحبها بنقاء الصدر والسريرة، وحُبّ الآخرين، والبعد عن إضمار الشر، أو الأحقاد والخبث، كما أنّ الطيبة تدفع الإنسان إلى أرقى معاني الإنسانية، وأكثرها شفافية؛ كالتسامح، والإخلاص، لكن رغم رُقي هذه الكلمة، إلا أنها إذا خرجت عن حدودها المعقولة ووصلت حد المبالغة فإنها ستعطي نتائج سلبية على صاحبها، كل شيء في الحياة يجب أن يكون موزوناً ومعتدلاً، بما في ذلك المحبة التي هي ناتجة عن طيبة الإنسان، وحسن خلقه، فيجب أن تتعامل مع الآخرين في حدود المعقول، وعندما تبغضهم كذلك وفق حدود المعقول، ولا يجوز المبالغة في كلا الأمرين، فهناك شعرة بين الطيبة وحماقة السلوك... هذه الشعرة هي (منطق العقل). الإنسان الذي يتحكم بعاطفته قليلاً، ويحكّم عقله فهذا ليس دليلاً على عدم طيبته... بالعكس... هذا طيب عاقل... عكس الطيب الأحمق... الذي لا يفكر بعاقبة أو نتيجة سلوكه ويندفع بشكل عاطفي أو يمنح ثقة لطرف معين غريب أو قريب... والمبررات التي يحاول إقناع نفسه بها عندما تقع المشاكل أنه صاحب قلب طيب. الطيبة لا تلغي دور العقل... إنما العكس هو الصحيح، فهي تحكيم العقل بالوقت المناسب واتخاذ القرار الحكيم الذي يدل على اتزان العقل، ومهما كان القرار ظاهراً يحمل القسوة أحياناً لكنه تترتب عليه فوائد مستقبلية حتمية... وأطيب ما يكون الإنسان عندما يدفع الضرر عن نفسه وعن الآخرين قبل أن ينفعهم. هل الطيبة تصلح في جميع الأوقات أم في أوقات محددة؟ الطيبة كأنها غطاء أثناء الشتاء يكون مرغوباً فيه، لكنه اثناء الصيف لا رغبة فيه أبداً.. لهذا يجب أن تكون الطيبة بحسب الظروف الموضوعية... فالطيبة حالة تعكس التأثر بالواقع لهذا يجب أن تكون الطيبة متغيرة حسب الظروف والأشخاص، قد يحدث أن تعمي الطيبة الزائدة صاحبها عن رؤيته لحقيقة مجرى الأمور، أو عدم رؤيته الحقيقة بأكملها، من باب حسن ظنه بالآخرين، واعتقاده أن جميع الناس مثله، لا يمتلكون إلا الصفاء والصدق والمحبة، ماي دفعهم بالمقابل إلى استغلاله، وخداعه في كثير من الأحيان، فمساعدة المحتاج الحقيقي تعتبر طيبة، لكن لو كان المدّعي للحاجة كاذباً فهو مستغل. لهذا علينا قبل أن نستخدم الطيبة أن نقدم عقولنا قبل عواطفنا، فالعاطفة تعتمد على الإحساس لكن العقل أقوى منها، لأنه ميزان يزن الأشياء رغم أن للقلب ألماً أشد من ألم العقل، فالقلب يكشف عن نفسه من خلال دقاته لكن العقل لا يكشف عن نفسه لأنه يحكم بصمت، فالطيبة يمكن أن تكون مقياساً لمعرفة الأقوى: العاطفة أو العقل، فالطيّب يكون قلبه ضعيفاً ترهقه الضربات في أي حدث، ويكون المرء حينها عاطفياً وليس طيباً، لكن صاحب العقل القوي يكون طيباً أكثر من كونه عاطفياً. هل الطيبة تؤذي صاحبها وتسبب عدم الاحترام لمشاعره؟ إن الطيبة المتوازنة المتفقة مع العقل لا تؤذي صاحبها لأن مفهوم طيبة القلب هو حب الخير للغير وعدم الإضرار بالغير، وعدم العمل ضد مصلحة الغير، ومسامحة من أخطأ بحقه بقدر معقول ومساعدة المحتاج ... وغيرها كثير. أما الثقة العمياء بالآخرين وعدم حساب نية المقابل وغيرها فهذه ليست طيبة، بل قد تكون -مع كامل الاحترام للجميع- غباءً أو حماقة وسلوكاً غير عقلاني ولا يمت للعقل بصلة. إن المشكلة تقع عند الإنسان الطيب عندما يرى أن الناس كلهم طيبون، ثم إذا واجهه موقف منهم أو لحق به أذى من ظلم أو استغلال لطيبته، تُغلق الدنيا في وجهه، فيبدأ وهو يرى الناس الطيبين قد رحلوا من مجتمعه، وأن الخير انعدم، وتحصل له أزمة نفسية أو يتعرض للأمراض، لأن الطيّب يقدم الإحسان للناس بكل ما يستطيع فعله، ويقدّم ذلك بحسن نية وبراءة منه، فهو بالتالي ينتظر منهم الرد بالشكر أو المعاملة باللطف على الأقل... صحيح أن المعروف لوجه الله، ولكن من باب: من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق، لذلك يتأذى عندما يصدر فعل من الشخص الذي كان يعامله بكل طيب وصدق. هل الطيبة والصدق من علامات ضعف الشخصية؟ الكثير من الناس يصف طيب القلب بأنه ضعيف الشخصية، لأنه يتصف بعدم الانتقام ممن ظلمه، والصفح عنه عند رجوعه عن الخطأ، وأنه لا يحب إيقاع الآخرين بالمشاكل؛ لأنه مقتنع أن الله سيأخذ له حقه. والحقيقة هي أن الصدق والطيبة وحسن الظن بالآخرين ليست ضعف شخصية، بل هي من الأخلاق الراقية وهي تزيد صاحبها سمواً وجمالاً روحياً، وليس من المعيب أن يمتلك الإنسان الطيبة بل العيب في من لا يُقدّر هذه الطيبة ويعطيها حقها في التعامل بالمثل. فالمشكلة الأساسية ليست في الطيبة، إنما في استغلال الآخرين لهذه الطيبة، نتيجة لعدم عقلنة قراراتنا والاعتماد على عواطفنا بشكل كلي. فالصدق والطيبة حسب المنطق والعقل، ولها فوائد جمة للنفس ولعموم أفراد المجتمع، فهي تحصين للشخص عن المعاصي، وزيادة لصلة الإنسان بربه، وتهذيب للنفس والشعور بالراحة النفسية، فالصادق الطيب ينشر المحبة بين الناس، وهذا يعزّز التماسك الاجتماعي وتقويته من سوء الظنون والحقد، وهذا التعامل أكّدت عليه جميع الشرائع السماوية، ولو تأمّلنا تاريخ وأخلاق الأنبياء والأوصياء لوجدنا كل ما هو راقٍ من الأخلاق والتعامل بالطيبة والصدق... حنان الزيرجاوي
اخرىالطلاق ليس نهاية المطاف
رحلةٌ مثقلة بالألم في طريق يئن من وطأة الظلم! ينهي حياة زوجية فشلت في الوصول إلى شاطئ الأمان. ويبدد طموحات أطفال في العيش في هدوء نفسي واجتماعي تحت رعاية أبوين تجمعهم المودة والرحمة والحب. الطلاق شرعاً: هو حل رابطة الزواج لاستحالة المعاشرة بالمعروف بين الطرفين. قال تعالى: [ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)].(١). الطلاق لغوياً: من فعل طَلَق ويُقال طُلقت الزوجة "أي خرجت من عصمة الزوج وتـحررت"، يحدث الطلاق بسبب سوء تفاهم أو مشاكل متراكمة أو غياب الانسجام والحب. المرأة المطلقة ليست إنسانة فيها نقص أو خلل أخلاقي أو نفسي، بالتأكيد إنها خاضت حروباً وصرعات نفسية لا يعلم بها أحد، من أجل الحفاظ على حياتها الزوجية، ولكن لأنها طبقت شريعة الله وقررت مصير حياتها ورأت أن أساس الـحياة الزوجيـة القائم على المودة والرحـمة لا وجود له بينهما. فأصبحت موضع اتهام ومذنبة بنظر المجتمع، لذلك أصبح المـجتمع يُحكم أهواءه بدلاً من الإسلام. ترى، كم من امرأة في مجتمعنا تعاني جرّاء الحكم المطلق ذاته على أخلاقها ودينها، لا لسبب إنما لأنها قررت أن تعيش، وكم من فتاة أُجبرت قسراً على أن تتزوج من رجل لا يناسب تطلعاتها، لأن الكثير منهن يشعرن بالنقص وعدم الثقة بسبب نظرة المجتمع، وتقع المرأة المطلّقة أسيرة هذه الحالة بسبب رؤية المجتمع السلبيّة لها. وقد تلاحق بسيل من الاتهامات وتطارد بجملة من الافتراءات. وتعاني المطلقة غالباً من معاملة من حولها، وأقرب الناس لها، بالرغم من أن الطلاق هو الدواء المر الذي قد تلجأ إليه المرأة أحياناً للخلاص من الظلم الذي أصبح يؤرق حياتها الزوجية، ويهدد مستقبلها النفسي، والله تعالى لم يشرع أمراً لخلقه إلا إذا كان فيه خير عظيم لهم، والطلاق ما شرّع إلا ليكون دواء فيه شفاء وإن كان مرّاً، وإن كان أمره صعباً على النفوس، حيث قال عز وجل: "وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا"، روي عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) ((أبغض الحلال إلى الله الطلاق) (٢). ورغم أن الشريعة الإسلامية أباحت الطلاق بشروط تلاءم لبناء المجتمع، وأولت أهمية في الإحسان دائمًا للطرف الأضعف والأكثر خسارة في هذه المعادلة وهي "المرأة"، إلا أن المجتمع الذي يدّعي الإسلام لا يرحمها، ويحكم عليها بالإدانة طوال حياتها دون النظر في صحة موقفها في الطلاق من عدمه! قال( تعالى ): [الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] (٣). ولكن بعد كل هذا فالحياة لم ولن تتوقف بعد الطلاق! الطلاق ليس نهاية الحياة. - أخيتي. ليكن الطلاق بداية جديدة لحياة جديدة وللانطلاق. -قطار العطاء لن يتعطل. فإن كنت السبب في الطلاق فالحمد لله على كل حال وتلك أمة قد خلت وأيام ذهبت وانجلت فلست بالمعصومة من الخطأ. وعليك استدراك الأخطاء وتقوية مواطن الضعف في شخصيتك، واجعليها درساً مفيداً في الحياة لتطوير نفسك وتقويتها. وإذا كنتِ مظلومة فهناك جبار يُحصي الصغير والكبير وسيأتي يوم ينتصر لك فيه. -ومن الجميل أن تعطي نفسك الإحساس بالحب والاحترام، ولا تتأثري بأي نظرة سلبية من المجتمع وكون البعض يتعامل مع المطلقة على أنها حالة خاصة فعليكِ إثبات ذاتك حتى تفرضي على الكل شخصيتك. - نظرتك لنفسك اجعليها نظرة ايجابية مشرقة ولا تنزلقي في مستنقع نبذ الذات وظلم النفس. - ابحثي عن الصفات الجيدة فيك فإن ذلك سيشعرك بالثقة في ذاتك والتقدير لها. -حاولي مراجعة نفسك للخروج بإيجابيات حصلت لك من طلاقك. - خالطي الآخرين وإياك والعزلة بسبب وضعك الجديد فلست بأول من يبتلى بالطلاق. -استمتعي بالموجود ولا تتعلقي بالمفقود، حلقي بروح تعبق أملاً وتفاؤلاً، استمتعي بما وهبك الله من نعم (صحة وأولاد وأهل وصديقات وعمل وهوايات وغيرها من الأمور الجميلة) فما حصل لك حصل… ولابد أن تتقبليه برضا، وأعلمي أن ما أصابك لم يكن ليخطأك وما أخطأك لم يكن ليصيبك. وقال أصدق من قال: ( وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم). فالرضا سر السعادة الحقيقي. - اقتربي من صديقاتك الصالحات، واقضي معهن وقتاً طيباً تنسين به ألمك وحزنك. - احرصي على الصلوات وقراءة القرآن الكريم والذكر والاستغفار وأكثري من الطاعات قدر ما تستطيعين، ففيها السلوى والفرح والسعادة. ونعم سعادة القرب من الرحمن. - اشغلي نفسك بأعمال البر والإحسان بمساعدة محتاج. بكفالة يتيم. بتعلم الفقه والقرآن وتعليمه. - اجتهدي في عمل برنامج يومي لك يكون ممتلأ بكل ما هو مفيد لك. من قراءة وزيارة الأصدقاء وصلة الرحم. بحيث لا تكون هناك دقيقة أنت فارغة فيها. - وأسرعي بقاربك الجميل بمجذافين من إيمان بالله وثقة بالنفس وسوف تصلين بإذن الله نحو جزيرة السعادة والنجاح. لكي تتسلق جبال الإنجاز، وتصل لأعلى مراتب الاعجاز. وعندها جزماً سيكون للحياة معنى آخر. --------------------------------- (١)-سورة البقرة الآية (٢٢٦-٢٢٧). (٢)-الكافي (٢)-سورة البقرة الآية (٢٢٨) حنان ستار الزيرجاوي
اخرىلا تقاس العقول بالأعمار!
(لا تقاس العقول بالأعمار، فكم من صغير عقله بارع، وكم من كبير عقله فارغ) قولٌ تناولته وسائل التواصل الاجتماعي بكل تقّبلٍ ورضا، ولعل ما زاد في تقبلها إياه هو نسبته الى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولكننا عند الرجوع إلى الكتب الحديثية لا نجد لهذا الحديث أثراً إطلاقاً، ولا غرابة في ذلك إذ إن أمير البلاغة والبيان (سلام الله وصلواته عليه) معروفٌ ببلاغته التي أخرست البلغاء، ومشهورٌ بفصاحته التي إعترف بها حتى الأعداء، ومعلومٌ كلامه إذ إنه فوق كلام المخلوقين قاطبةً خلا الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ودون كلام رب السماء. وأما من حيث دلالة هذه المقولة ومدى صحتها فلابد من تقديم مقدمات؛ وذلك لأن معنى العقل في المفهوم الإسلامي يختلف عما هو عليه في الثقافات الأخرى من جهةٍ، كما ينبغي التطرق الى النصوص الدينية الواردة في هذا المجال وعرضها ولو على نحو الإيجاز للتعرف إلى مدى موافقة هذه المقولة لها من عدمها من جهةٍ أخرى. معنى العقل: العقل لغة: المنع والحبس، وهو (مصدر عقلت البعير بالعقال أعقله عقلا، والعِقال: حبل يُثنَى به يد البعير إلى ركبتيه فيشد به)(1)، (وسُمِّي العَقْلُ عَقْلاً لأَنه يَعْقِل صاحبَه عن التَّوَرُّط في المَهالِك أَي يَحْبِسه)(2)؛ لذا روي عنه (صلى الله عليه وآله): "العقل عقال من الجهل"(3). وأما اصطلاحاً: فهو حسب التصور الأرضي: عبارة عن مهارات الذهن في سلامة جهازه (الوظيفي) فحسب، في حين أن التصوّر الإسلامي يتجاوز هذا المعنى الضيّق مُضيفاً إلى تلك المهارات مهارة أخرى وهي المهارة العبادية. وعليه فإن العقل يتقوّم في التصور الاسلامي من تظافر مهارتين معاً لا غنى لأحداهما عن الأخرى وهما (المهارة العقلية) و(المهارة العبادية). ولذا روي عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنه عندما سئل عن العقل قال :" العمل بطاعة الله وأن العمّال بطاعة الله هم العقلاء"(4)، كما روي عن الإمام الصادق(عليه السلام)أنه عندما سئل السؤال ذاته أجاب: "ما عُبد به الرحمن، واكتسب به الجنان. فسأله الراوي: فالذي كان في معاوية [أي ماهو؟] فقال(عليه السلام): تلك النكراء، تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل"(5) والعقل عقلان: عقل الطبع وعقل التجربة، فأما الأول أو ما يسمى بـ(الوجدان الأخلاقي) فهو مبدأ الادراك، وهو إن نَما وتطور سنح للإنسان فرصة الاستفادة من سائر المعارف التي يختزنها عن طريق الدراسة والتجربة وبالتالي يحقق الحياة الإنسانية الطيبة التي يصبو اليها، وأما إن وهن واندثر لإتباع صاحبه الأهواء النفسية والوساوس الشيطانية، فعندئذٍ لا ينتفع الانسان بعقل التجربة مهما زادت معلوماته وتضخمت بياناته، وبالتالي يُحرم من توفيق الوصول إلى الحياة المنشودة. وعقل التجربة هو ما يمكن للإنسان اكتساب العلوم والمعارف من خلاله، وما أروع تشبيه أمير البلغاء (عليه السلام) العلاقة التي تربط العقلين معاً إذ قال فيما نسب إليه: رأيت العقل عقلين فمطبوع ومسموع ولا ينفع مسموع إذ لم يك مطبــوع كما لا تنفع الشمس وضوء العين ممنوع(6) فقد شبّه (سلام الله عليه) عقل الطبع بالعين وعقل التجربة بالشمس، ومما لاشك فيه لكي تتحقق الرؤية لابد من أمرين: سلامة العين ووجود نور الشمس، وكما إن الثاني لا ينفع إن لم يتوفر الأول فكذلك عقل التجربة لا ينفع عند غياب عقل الطبع فضلاً عن موته. وبما إن عقل الطبع قد ينمو ويزدهر فينفع صاحبه من عقل التجربة، وقد يموت ويندثر عند الاستسلام لإضلال شبهةٍ أوبسبب إرتكاب معصية، فإنه ومن باب أولى أن يتعرض الى الزيادة والنقصان كما سيأتي... وقد ورد في النصوص الدينية أن للعقل زمناً ينمو فيه ويكتمل، فعن إمامنا أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه):"يثغر الصبي لسبع، ويؤمر بالصلاة لتسع، ويفرق بينهم في المضاجع لعشر، ويحتلم لأربع عشرة، وينتهى طوله لإحدى وعشرين سنة، وينتهي عقله لثمان وعشرين إلا التجارب"(7)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يربى الصبي سبعاً ويؤدب سبعاً، ويستخدم سبعاً، ومنتهى طوله في ثلاث وعشرين سنة، وعقله في خمس وثلاثين [سنة] وما كان بعد ذلك فبالتجارب"(8). إذن يتوقف النمو الطبيعي لعقل الانسان عند سن الثامنة والعشرين أو الخامسة والثلاثين كما ورد في الروايتين، وأية زيادة أخرى في طاقته بعد ذلك إنما تأتي عن طريق التجارب، وقد يُتوهم بأن ثمة تعارضاً ما بين الروايتين المتقدمتين في شأن تحديد سن النمو العقلي، إلا إنه لا تعارض ينهما إذا حملنا اختلافهما فيه على اختلاف الاشخاص وتباين استعدادات وقابليات كل منهم. وعلى الرغم من توقف نمو عقل الإنسان إلا إن له أنْ يزيده بالتجارب ومواصلة التعلم ــ كما تقدم في الروايات ــ وسواء أثبت العلم هذه الحقيقة الروائية أم لا، فنحن نريد الإشارة إلى ضرورة استمرار التجربة والتعلم لزيادة نمو العقل وهذا المقدار لا خلاف فيه وعلى الرغم من إن لعمر الانسان مدخلية في زيادة عقله كما تقدم وكما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يزيد عقل الرجل بعد الاربعين إلى خمسين وستين، ثم ينقص عقله بعد ذلك"(9)، إلا إن ذلك ليس على نحو العلة التامة، إذ يمكن للعقل أن يبقى شاباً وقوياً وإن شاب الإنسان وضعف جسمه، وتقدم في السن ووهن عظمه، فالعاقل لا يشيب عقله ولا تنتقص الشيخوخة من قوته بل وقد يزداد طاقةً وحيويةً لذا ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"رأي الشيخ أحب الي من جَلَد الغلام"(10)، وفي أخرى ".....من حيلة الشباب "(11) وأما من لم يوفر أسباب صقل عقله في مرحلة الشباب فإنه بلا شك يضمحل عقله في مرحلة الشيخوخة. وليس تقدم العمر هو العامل الوحيد في نقصان العقل بل إن النصوص الشرعية أشارت الى عوامل عديدة اخرى أهمها: أولاً: التعلم: فقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "من لم يصبر على ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبداً"(13). ثانياً: التوبة: وعنه (عليه السلام) ايضاً:"من لم يرتدع يجهل"(14) ثالثاً: التقوى: فقد كتب إمامنا الباقر (عليه السلام) إلى سعد الخير: "بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإني اوصيك بتقوى الله فإن فيها السلامة من التلف والغنيمة في المنقلب إن الله (عزوجل) يقي بالتقوى عن العبد ما عزب عنه عقله ويجلي بالتقوى عنه عماه وجهله"(15) إذن التوبة هي سبب للتوفيق الإلهي الذي يؤدي فيما يؤدي إليه من إكمال العقل. رابعاً: الوقوف عند الشبهة: وقال (عليه السلام ): "لا ورع كالوقوف عند الشبهة"(16). فإن الوقوف عند الشبهات سبب من أسباب التوفيق الإلهي بلا شك. خامساً: الاعتراف بالجهل: كما روي عن الإمام علي (عليه السلام): "غاية العقل الاعتراف بالجهل"(17) إذ الاعتراف بالجهل يدفع الإنسان دوماً إلى مزيد من بذل الجهد واكتساب المعارف. مما تقدم تتضح جلياً صحة هذه المقولة دلالةً، إذ إن العقول فعلاً لا تقاس بالأعمار لأن كلٍاً من زيادتها ونقيصتها منوطٌ بالعديد من العوامل الأخرى والتي تقدم ذكرها، بيد إن ذلك لا يبرر التساهل في نشرها والتهاون في الاستشهاد بها على إنها من أقوال أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) لعدم ثبوت ذلك سنداً من جهة ولضعف بلاغتها وركاكة تركيبها بالنسبة إلى سيد البلغاء والبلاغة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) تهذيب اللغة ج1 ص65 (2) لسان العرب ج11 ص458 (3) نهاية الحكمة ص305 (4) ميزان الحكمة ج3 ص333 (5) أصول الكافي ج1، ح3 / 11 (6) نهج السعادة ج9 ص163 (7) الكافي ج7 ص94 (8) الفقيه ج3 ص493 (9) الاختصاص ص245 (10) نهج البلاغة حكمة 86 (11) بحار الأنوار ج72 ص105 (12) المصدر السابق ج1 ص94 (13) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص118 (14) الكافي ج8 ص73 (15) وسائل الشيعة ج1 ص162 (16) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص1 بقلم الكاتبة: رضا الله غايتي
اخرىالمرأة في فكر الإمام علي (عليه السلام)
بقلم: أم نور الهدى كان لأمير المؤمنين (عليه السلام) اهتمام خاص بالمرأة، فنراه تارة ينظر إليها كآية من آيات الخلق الإلهي، وتجلٍ من تجليات الخالق (عز وجل) فيقول: (عقول النساء في جمالهن وجمال الرجال في عقولهم). وتارة ينظر إلى كل ما موجود هو آية ومظهر من مظاهر النساء فيقول: (لا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها فإن المرأة ريحانة وليس قهرمانة). أي إن المرأة ريحانة وزهرة تعطر المجتمع بعطر الرياحين والزهور. ولقد وردت كلمة الريحان في قوله تعالى: (فأمّا إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة النعيم) والريحان هنا كل نبات طيب الريح مفردته ريحانة، فروح وريحان تعني الرحمة. فالإمام هنا وصف المرأة بأروع الأوصاف حين جعلها ريحانة بكل ما تشتمل عليه كلمة الريحان من الصفات فهي جميلة وعطرة وطيبة، أما القهرمان فهو الذي يُكلّف بأمور الخدمة والاشتغال، وبما إن الإسلام لم يكلف المرأة بأمور الخدمة والاشتغال في البيت، فما يريده الإمام هو إعفاء النساء من المشقة وعدم الزامهن بتحمل المسؤوليات فوق قدرتهن لأن ما عليهن من واجبات تكوين الأسرة وتربية الجيل يستغرق جهدهن ووقتهن، لذا ليس من حق الرجل إجبار زوجته للقيام بأعمال خارجة عن نطاق واجباتها. فالفرق الجوهري بين اعتبار المرأة ريحانة وبين اعتبارها قهرمانة هو أن الريحانة تكون، محفوظة، مصانة، تعامل برقة وتخاطب برقة، لها منزلتها وحضورها. فلا يمكن للزوج التفريط بها. أما القهرمانة فهي المرأة التي تقوم بالخدمة في المنزل وتدير شؤونه دون أن يكون لها من الزوج تلك المكانة العاطفية والاحترام والرعاية لها. علماً أن خدمتها في بيت الزوجية مما ندب إليه الشره الحنيف واعتبره جهادًا لها أثابها عليه الشيء الكثير جدًا مما ذكرته النصوص الشريفة. فمعاملة الزوج لزوجته يجب أن تكون نابعة من اعتبارها ريحانة وليس من اعتبارها خادمة تقوم بأعمال المنزل لأن المرأة خلقت للرقة والحنان. وعلى الرغم من أن المرأة مظهر من مظاهر الجمال الإلهي فإنها تستطيع كالرجل أن تنال جميع الكمالات الأخرى، وهذا لا يعني أنها لا بد أن تخوض جميع ميادين الحياة كالحرب، والأعمال الشاقة، بل أن الله تعالى جعلها مكملة للرجل، أي الرجل والمرأة أحدهما مكمل للآخر. وأخيرًا إن كلام الإمام علي (عليه السلام) كان تكريمًا للمرأة ووضعها المكانة التي وضعها الله تعالى بها، حيث لم يحملها مشقة الخدمة والعمل في المنزل واعتبر أجر ما تقوم به من اعمال في رعاية بيتها كأجر الجهاد في سبيل الله.
اخرىأساليب في التربية
عالم الطفولة كأنه طاولة، لا تجد فيه غير طعام لذيذ، ومنظر لطيف وجديد، فعالمهم فاكهة الوجود، وخضار الأرواح، ومياه الحياة تسقي القلوب... عالم صفاء وأحلام جميلة بسيطة وتافهة ولكن بنظرهِ هو عظيمة وكبيرة، فهو العالم الذي ينطلق منه الإنسان في بداية عمره. فالطفل في بداية حياته ينظر إلى الحياة بتفكيره البريء، فالطفل يعيش بعالم خاص به مملوء بالمحبة البريئة. هذه هي الصورة الجميلة التي يحملها الطفل، وكم يتمنى كل إنسان أن يعود لطفولته البريئة ليتأمل في أرجاء عالمها الذي كان يصور له حياة مختلفة تشد الإنسان إليها بجمالها، هذا هو عالم الطفولة وهذه أحلام من يعيشها، فلا ينفذ إلى ملكوت ذلك العالم ولا يدرك كنهه إلا من عاشه وجال في ربوعه. حيث يتذوق الطفل مع أحلام طفولته هذه لذة الحياة ولذة العيش فيها، ومهما حاولنا أن نعبر عن هذه الحقيقة فلن نستطيع تصويرها بالكلمات. وبعد هذا، فإن الاهتمام بمستقبل الطفل هو في الواقع ضمان لمستقبل شعب بأسره. قال اللَّه تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا". التحريم/6 أعتنى الإسلام بتربية الأبناء عناية فائقة، وألقى على عاتق الأهل ما سيكون عليه الولد في مسلكه الدنيوي ومصيره الأخروي إن هم قصروا في تربيته وإعداده. وقد ذكر العلماء أن شخصية الولد تتأثر في نموها بعوامل ثلاثة وهي: الوراثة، والبيئة، والتربية. إذا خضنا في مضمار التربية السليمة للأبناء... فعلى الأبوين أن يكون لهما الوعي التربوي الذي يبنى على أسس صحيحة ويتوفر لديهم فهم لأساليب التربية والتوجيه والرعاية وهذه نقطة البداية. فمثلاً في أسلوب التعامل مع الطفل تبرز أمامنا ثلاثة اشكال لتعامل الآباء مع الأبناء: الشكل الأول: أسلوب الدلال المفرط وهذا الأسلوب له نتائجه السلبية الخطيرة، فإنه يخلق شخصية هشة متميعة وشخصية اتكالية تحب الكسل والخمول مجردة من الهدف والإقدام، انهزامية غير قادرة على مواجهة التحديات وبمعنى أدق شخصية لا تثق بنفسها. شخصية متسيبة في ظل غياب المراقبة والمحاسبة وهذا التسيب يقود إلى الانفلات والانحراف. الشكل الثاني: فهو أسلوب التربية القاسية والعنف. وهذا الأسلوب أيضاً له نتائجه الخطيرة والسلبية التي يعاني منها الأبناء طوال حياتهم فهو يخلق شخصية قلقة ومتأزمة ومعقدة وخائفة وتحمل عقدة الخوف، شخصية حاقدة وعدوانية وقد تتأزم الأمور لتصبح شخصية منافقة وكاذبة خوفاً من العقاب والتعنيف ضمن حدود الأسرة ولكن يوماً من الأيام سينطلق هذا الشخص ليواجه المجتمع ككل، فلنتصور كيف سيتعامل مع المحيطين ضمن مجالات الدراسة والعمل وهو شخصية هاربة من أجواء الأسرة وقد يعرضها للتسيب والانحراف لأنها شخصية متمردة مما يعرضها للعقوق. الأسلوب الثالث: التوازن. الأسلوب الصحيح يعتمد على التوازن فمن شروط نجاح التربية التوازن في المعاملة ما بين الأمور التي تحتاج إلى شدة وحزم ليتربى على أن هذه الأمور خطوط حمراء طبعاً هنا يمكن أن يعترض أحد ويقول: لا للعنف الأسري ولا لاستخدام القسوة. نعم فهناك طرق غير استخدام العنف. يكفي ان يبدي الآباء انزعاجهم مثلاً. وهنا النقطة مهمة جداً، وهي: أن نوضح لهم سبب المنع والرفض لا تعتقدوا أن أبناءكم لا يدركون ولن يفهموكم. تخصيص الوقت للنقاش مهم جداً. وما بين أسلوب المرونة والحنان والاحتواء. التوازن في المعاملة. إن الإمام زين العابدين (عليه السلام) يصرح بمسؤولية الأبوين بتربية الطفل، ويعتبر التنشئة الروحية والتنمية الخلقية لمواهب الأطفال واجباً دينياً يستوجب أجراً وثواباً من الله تعالى، وأن التقصير في ذلك يُعرّض الآباء إلى عقاب الله. فيقول (عليه السلام): (وأما حق ولدك عليك فأن تعلم أنه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره. وأنك مسؤول عما وليته به من حسن الأدب والدلالة على ربه عز وجل والمعونة له على طاعته. فأعمل في أمره عمل من يعلم أنه مثاب على الإحسان إليه معاقب على الإساءة إليه ) مكارم الأخلاق للطبرسي ص٢٣٢ حنان الزيرجاوي
اخرى