تشغيل الوضع الليلي
وخبا نورُ السراج..
منذ 3 سنوات عدد المشاهدات : 130
بقلم: نرجس مهدي
لا زلتُ قابعًا في مكاني، شاهدًا على قسوةِ زماني..
سراجٌ أنا مُلتصِقٌ في جداره، مُعلَّقًا بمسمارِ عمري، عبثًا كُنتُ أُحاولُ أنْ أُضيئَ أركانَ داره، والدارُ تتجلّى بفيوضاتِ أنواره.. وكُلُّ الكونِ يشعُّ من سنا وجوده...
جميلُ المُحيّا، حَسَنُ القامة، فريدٌ في نسيجه، وحيدُ عصرِه في تكوينه، رجُلٌ تزاحمتِ السجايا في شيَمِه جلالًا وهيبةً، صفاءَ سريرة..
اكتحلَ دينُ اللهِ تعالى بوجوده، بعدَ أنْ رَمدها بالهادي والده..
يا لبهاءِ طلعتِه، اقترنتْ بشمائلِ النبيين صفاتُه، فتعدَّدَتْ مواهبُه، تقطَّرَ بالندى يمينُه..
كثيرًا ماكُنتُ أسمعُ أنينَ صدرِه، يذكرُ بابًا... ضلعًا... مسمارًا... ينوحُ لعليلٍ... خيامٍ... نارٍ... مصابٍ وبلاء... يعيشُ أهوالَ كربلاء.. فأنوحُ لنوحِه، والحرفُ على شفتي يتحيّرُ، ودمعي بآهاتها يتعثر..
حبيسُ بيته، جليسُ داره، ممنوعٌ من لقاءِ شيعته، يُراقبونَ خطواتِه، يحسبونَ أنفاسَه..
غلّوا الحقَّ، وصفّدوا الكلمات، فزمجرتْ أعاصيرُ حقدِهم...
ليقتلوك...
وتحتَ مراجلِ غيّهم أوقدوا نار غِلَّهم، ولأنَّك سراجُ أهلِ الجنة؛ أبوا إلا أنْ يوتروك..
لم يمهلوه، ومن ذُعافِ سمِّهم سقوه، يلوكه الألم، تعتصرُ شغافَ قلبِه مخالبُ الفراق، يتنفّسُ ألمًا ويزفرُ حسرةً..
تأجَّجَتْ ناري ونزلتْ دمعةُ قلبي قبلَ جفني؛ أسفًا عليه، وتحنُنًا له..
ثاني شباب الأئمة بعدَ جدِّه الجواد (عليها السلام)..
إيهٍ يا أبا مُحمّد.. تُقرِّبُ صغيرَك إليك، تودِعُه أسرارَ الإمامة..
يسقيك ماءً ليرويك، ونظراتُ عينك تُناديه: ولدي يا مهدي، أنتَ البقيّةُ من أهلِ بيتي..
تصدَّعَ كبدي، وحبيبُ القلوبِ يتوسَّدُ الفراشَ وعيناه في عيني ولده على مَضضٍ يودِّعه..
فكان الفراقُ كالعلقمِ في طعمه، فذبُلَتْ تويجاتُ روحِه، ونحُلَتْ بتلاتُ عمره...
وكأنّي بمولاتي نرجس (عليها السلام) بلهفةٍ وتوجُّعٍ تحِنُّ إليه، تضمُّ مسبحتَه تُناجيها.. لا زالتْ تحتفظُ بدفءِ أناملِه...
تاجُ الإمامةِ يشكو حاله، يذرفُ حسرتَه...
محرابُه ظلَّ واجمًا لا يدري ما يقول...
كأنّه في خفاءٍ يُناديني، أواسيه ويواسيني..
والصدى صار له ضجيج..
فيا روحُ ما أجفاكِ..
كيف تستقرّين وأنتِ بعيدةٌ عن مولاكِ؟!
فقرَرتُ أنا السراجُ أنْ أُطفِئَ جذوتي؛
لِأُعلِنَ الحدادَ على مُصيبةِ مولاي الحسن العسكري (عليه السلام)..
اخترنا لكم

أيُّهما الأكثر تأثيرًا؟
بقلم: دعاء الربيعي قد يتساءل البعض: أيُّهما أكثر تأثيرًا في إقناع الفتاة المراهقة: الأم أم الأخت الكبرى؟ وللإجابة عن هذا التساؤل لابد من الحديث عن موضوع إقناع الفتاة في فترة المراهقة؛ إذ يُعدُّ هذا الأمر من المواضيع البالغة الأهمية؛ لأننا ندرك مدى صعوبة هذه الفترة في حياة الفرد، ومدى أهمية إقناعه بترك فعلٍ أو العكس، ولهذا يحتاج المراهقون في هذه الفترة الحساسة من حياتهم إلى التوجيه والإرشاد؛ كي نحافظ عليهم من الانسياق المتطرف وراء رغباتهم ونزواتهم، ولكن بعيدًا عن القسوة في التعامل الذي لا ينتج منه سوى المزيد من العناد والمزيد من الإصرار على الخطأ. وعلى هذا الأساس أجرينا استطلاعًا للرأي حول الموضوع، وطرحنا السؤال أعلاه، على بعض الأشخاص، وكانت الإجابات أكثرها على النحو التالي: إنَّ الأخت الكبرى تكون أكثر تأثيرًا على الفتاة المراهقة من أمها. وكانت نسبة الإجابات على أنَّ الأم هي الأكثر إقناعًا أقل من نسبة الأخت. ومال البعض إلى أنَّ قوة الإقناع تكون حسب علاقة المراهقة بإحداهما، حيث قالت إحدى الأخوات: تميل الفتاة المراهقة غالبًا إلى الصداقة، وتعدّها على رأس احتياجاتها؛ لذلك فعلى من يريد إقناع المراهقات أنْ يستثمر هذه النقطة فيكتسب صداقتها أولًا، ليُصبح إقناعها أمرًا ممكنًا وسهلًا، فإذا استطاعت الأمُّ أنْ تجعل من ابنتها صديقةً لها، فسوف تكون هي المؤثر الأول في حياتها؛ لأن الصلة بين البنت وأمها من أعظم الروابط، فإذا اتصلت هذه الرابطة بالصداقة ستكون فعّالة في الإقناع، أما إذا فقدت جسور الصداقة بين البنت وأمها ووجدت البنت في أختها صديقةً حقيقيةً لها، عند ذلك ستكون هي المؤثر الرئيسي عليها. بينما أكدت إحدى الأخوات على أنَّ الموضوع نسبيٌ ومختلفٌ من وضعٍ لأخر، فمثلًا هناك أسر تشتمل على الكثير من الأخوات وفي أعمارٍ متفاوتة، فتكون الأخت الكبرى هي الأقرب للمراهقة؛ وذلك لأنَّ الأم في هذه الحالة تكون غالبًا مشغولةً بأمور البيت، وهناك أسر أخرى تكون الأم هي الصديقة للفتاة والقريبة منها والحافظة لأسرارها؛ لاسيما إنْ لم يكن للفتاة أخوات. هذه كانت جملة من آراء بعض الأخوات، وتجدر الإشارة إلى مجموعةٍ من الأسباب التي من شأنها أنْ تجعل المراهق ــ بشكلٍ عام ــ يقتنع بما يُوجّه إليه من نصائح وإرشادات منها: *منح المراهق فرصةً للتعبير عن نفسه, فإنَّ غالبًا ما يتسرع الأشخاص الذين يتحدثون مع المراهق في نقلِ القواعد السلوكية للمراهقين دون منحهم مجالًا للتعبير عن أنفسهم، ويعدُّ هذا الأسلوب خاطئًا؛ لأنَّ المراهق سيجدُ أنَّه مجبرٌ على القيام أو عدم القيام بسلوكٍ معين من دون حوار. *كما أنَّ التحدث مع المراهق بمعزلٍ عن الآخرين جيدًا جدًا ويُسهم في إقناعه، بخلاف التحدث معه ونصحه أمام الجميع، فمن يرد أنْ ينصح مراهقًا أو يوجه إليه إرشاداتٍ أو ينبهه على خطأٍ ما، يجب عليه أنْ يُحدثه على انفرادٍ، وقد أجاد الشافعي في إيصال هذه الفكرة في قوله: تعمّدني بنصحك في انفرادي وجنِّبني النصيحةَ في الجماعة فإنَّ النُصحَ بين الناسِ نوعٌ من التوبيخِ لا أرضى استماعه وإنْ خالفتني وعصيتَ قولي فلا تجزعْ إذا لم تُعطَ طاعة إذن يتوجب التحدث مع الآخر ونُصحه بمعزلٍ عن الناس خصوصًا المراهق؛ لأنَّه يكون سريع التأثر وذا إحساسٍ مُرهفٍ في هذه الفترة، فلو تحدثتَ معه أمام الآخرين فذلك سوف يؤثر سلبًا على نفسيته؛ لأنّك تكون قد أسأت إليه وأحرجته أمام الآخرين، وبالتالي لا يقتنع بما تقول. *كما يتوجب على الآباء والمهتمين بموضوع المراهقة أنْ لا يحاولوا إقناع المراهق بأنَّه على خطأ ولا يعملوا على التحكم بإرادته وإجباره على فعلِ ما لا يرغب فيه بالقوة، ويُستحسن الابتعاد عن التقليل من قيمةِ أفكارهم، أو إخبارهم بشكلٍ مباشر أنَّ تفكيرهم سلبي، بل يتوجب تشجيعهم على التفكير وتطوير ذواتهم نحو الأحسن، وينبغي على الراشدين أن يكونوا متماسكين منطقيًا في شرح الأمور للمراهقين، وهذا يعني التمتع بحسٍ ثقافي وامتلاك قدرٍ كافٍ من المعلومات حول الموضوع الذي تودُ نقله للمراهق. ومع اتباع هذه الإرشادات وغيرها تكون كلٌّ من الأم والأخت الكبرى قادرةً على إقناع المراهق أو المراهقة والتأثير فيهما بشكلٍ إيجابي.
اخرى
أيقونة البسمةِ
بقلم: كوناي البياتي إنني في حَيرةٍ من أين أبدأ الحكاية؟ حكاية رجلٍ كبيرٍ في معانيه كثيرٍ في عطائه، مجيدٍ في صفاته، والأولِّ في المراحلِ الدراسيةِ كافة، ومَثَل أسمى لوحةِ شرفٍ في الحياة، فهو الأديبُ البارع والمعلمُ الفاضل، وبالرغم من كلِّ هذا إلا أنَّه لم يَذُقْ الدلالَ؛ لأنَّ حياتَه مبنيةٌ على التضحيةِ، يُضحي من أجلِ الأبِ والأمِّ والأخ والأخت، فقد كان أبًا لأبيه، حَمَلَ عنه معنى الأبوّة فأصبحَ أبًا قبل أنْ يبلُغَها، فأشعلَ هذا الثقلُ ذكاءه وفجرَ مواهبَه الباطنة، وحرصَ أنْ يُعطيَ ولا يأخذ، وهكذا اجتمعت خصالٌ وصفاتٌ كثيرةٌ في سمتِ هذه الشخصية. نعم، لقد اجتمعت في شخصٍ واحدٍ فكان حليمًا، راضيًا، متصالحًا مع نفسه ومع الآخرين، وصاحبَ رضا، ففي وجهه لونٌ من الرضا لا يتغيرُ لا في بؤسٍ ولا في نعيمٍ، ولا استبعدُ القولَ: إنَّه حوى في كنهِهِ تكهُناتٍ من الرضا الإلهي؛ لأنَّ اللهَ عزَّ وجل يهبُ صفاته لمن هو أهلٌ لها، فهو والرضا باتا صنوين، فرضاه رضا ثابتٌ، لا يتغيرُ مهما تغيرتِ الظروف، يُعطي للحياةِ معنى وللأشخاص هِمّة ويبثُّ في الضعفاءِ الأملَ، فعنده غيرُ الممكنِ يُصبِحُ ممكنًا بالهِمّةِ والمُثابرة، وعنده أيضًا يقينٌ أنَّ الحياةَ تُخلَّدُ بالعملِ الصالح، حتى باتَ الناسُ لا يرونَ في تركيبةِ طِباعِهِ إلا الإخلاصَ وإنْ كان حرمانًا، والسعادةَ وإنْ كانت بساطةً، والغنى وإن كان قناعةً، فعِندما ألتقي به يضحَكُ ضحكتَهُ المعروفةَ التي يبدأها فمُه وتُتمُّها عيناه ويشرحُها وجهُه كلُّه، فتجدُ كأنَّ في بسمتِه اشراقًا، وكأنَّه في روحِك ألقاها، وعندما يضحكُ تراهُ صاحبَ الضحكةِ المُطمئنةِ المتمكنةِ من معناها.. وإنّي لأكادُ كُلَّما تأملتُه أجدُهُ أسمى من هذا، فعندما تزورُهُ يُقدِّمُ لكَ مجلسين أحدهما قلبه، ثم يبدأ يصِفُ لكَ الحياةَ بصورةٍ هندسية برّاقة أُتقِنَتْ خطوطُ ورسومُ خريطتِها، قد تبلغُ الكمالَ في عينيك... أجدُ في ملامحِهِ وجهًا مُشرِقًـا، كأنَّهُ لم يعرفِ الحُزنَ يومًا، ولم يطرق الهمُّ بابَ خلواتِهِ يومًا، ومع أنَّ الدموعَ قد ملأتْ حنايا صدرِهِ إلا أنَّه لم يشتكِ ولم تَغِبْ بسمتُه عن شفاهِهِ، بلْ إنَّها تمدُّ أذرُعَها لتطغى على مُحيّا وجهِهِ الفالح.. أعتقدُ أنَّ هناك أوقاتاً ترسمُ الانكسارَ على وجهِهِ ويُخيَّل لي أنَّه يتساءلُ مع نفسه.. ليتَ أمّي كانت هُنا لتحمِلَ عني هذا الثقل، ثقل فقدِ الأهلِ والأحبابِ .. لماذا ليست أمّي هُنا؟ ... أظنُّ أنَّ الشعورَ بقيمةِ الدُنيا قد زالَ عن مُخيّلتِهِ، مُنذُ أنْ أصبحَ يُودِّعُ أحباءه واحدًا تلو الآخر... رجلٌ نَبَت في روحِهِ الصبرُ فأصبحَ يستمدُّ العونَ من الصبرِ كما يستمدُّ الليلُ النورَ من القمرِ، وإنَّ هذا النورَ يملأهُ وقارًا، فعليه من الوقارِ كظلِّ شجرةٍ كبيرةٍ خضراء في أرضٍ مشمسةٍ، وإنَّ أجملَ ما فيه أنَّه يُعامِلُ كُلَّ من يُحيطُ به كأنَّهم لم يرتكبوا خطأً واحدًا، فيجعلُك تشعرُ بالحياءِ من نفسك، وتعاودُ اخطاءَك.. أكثرُ ما أُغبِطُهُ فيه أنَّ الحديثَ الذي يتلقاهُ بحقِّ شخصٍ آخر يدخلُ من أذنِه ويخرجُ من قلبِه سالمًا، وهذا دليلٌ على أنْ لا مكان للوشايةِ عنده، فيرى الجميعَ بعينٍ واحدةٍ، فيخطرُ في بالي أنَّ قلبَ هذا الرجلِ قلبٌ متوضئٌ، قلبٌ يعلمُ العطاء، وأنَّ معنى الكبرياء عنده قد فقدَ روحه لتجدَ معنى التواضع، بالرغمِ من أنَّه كان آنذاك معلمَ وطبيبَ زمانِهِ لشحةِ أهلِ العلم في ذلك المكانِ والزمان فكان يعملُ طبيبًا ومُعلمًا وأبًا ومُربيًا، فصنعَ أجيالًا واجيالًا، حتى مضى مُتعبًا مُضحيًا ولم يرَ الراحةَ في قاموسِ حياتِهِ. إهداءٌ إلى خالي العزيز..
اخرى
دراسـةٌ في عهدِ الإمام علي (عليه السلام) لمالكِ الأشتر (رضوان الله عليه) ج١
بقلم: نجاة رزاق أولًا: الفضائل الأخلاقية للحاكم الحاكم هو إنسانٌ قبل أن يكونَ حاكمًا، ويجبُ عليه أنْ يسوسَ الناسَ بما تُملي عليه إنسانيته وعقيدته التي ينتمي إليها. وإذا كان مسلمًا وجبت عليه بعض الفضائل الأخلاقية التي تُميّزه عن باقي الحُكّام. وقد قُسِّمت هذه الفضائلُ الأخلاقية إلى قسمين، أحدهما يكونُ بين الإنسان وخالقه (الفضائل النفسية)، والأخرى بين الإنسان وأفراد جنسه (الفضائل الاجتماعية). وسوف نذكرُ أولًا الفضائلَ التي تربطُ العبدَ بخالقه وفقَ ما جاء في وصية الإمام علي (عليه السلام) إلى عامله، ومن أهمِّ تلك الفضائل:"أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللهِ، وَإِيثَارِ طَاعَتِهِ، وَاتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ فِي كِتَابِهِ: مِنْ فَرَائِضِهِ وَسُنَنِهِ، الَّتِي لاَ يَسْعَدُ أَحَدٌ إِلاَّ بِاتِّبَاعِهَا، وَلاَ يَشْقَى إِلاَّ مَعَ جُحُودِهَا وَإِضَاعَتِهَا، وَأَنْ يَنْصُرَ اللهَ سُبْحَانَهُ بَيَدِهِ وَقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ، فَإِنَّهُ، جَلَّ اسْمُهُ، قَدْ تَكَفَّلَ بِنَصْرِ مَنْ نَصَرَهُ، وَإِعْزَازِ مَنْ أَعَزَّهُ. وَأَمَرَهُ أَنْ يَكْسِرَ من نَفْسَهُ عِنْدَ الشَّهَوَاتِ، وَيَزَعَهَا عِنْدَ الْجَمَحَاتِ، فَإِنَّ النَّفْسَ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ، إِلاَّ مَا رَحِمَ ربي إنّ ربي غفورٌ رحيم" أولًا: تقوى الله وإيثار طاعته: التقوى: من الوقاية، وهي الصونُ والحمايةُ بأنْ يجعلَ الإنسانُ بينه وبين غضبِ الله (تعالى) وقاية. وقد ذُكِرت التقوى في آياتٍ عديدة من القرآن الكريم يقول (تعالى): "واتقوا يومًا لا تُجزى نفسٌ عن نفسٍ شيئًا"(١)، وقوله (تعالى): "ولو أنّهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير"(٢)، وقوله (تعالى): "واتقوا الله واعلموا أنّ اللهَ مع المتقين"(٣). فتقوى الله (تعالى) وإيثار طاعته من أهمِّ ما ينبغي أنْ يتميز به الحاكمُ؛ لأنّه إذا خاف اللهَ (تعالى) لن يجرؤ على معصيته، وسوف يعملُ وفقَ أوامره (تعالى). روي عن الإمام الصادق (عليه السلام): "التقوى ثلاثةُ أوجهٍ: تقوى الله في الله وهو تركُ الحلال فضلًا عن الشبهة وهي تقوى خاص الخاص، وتقوى من الله وهو تركُ الشبهاتِ فضلًا عن الحرام وهو تقوى الخاص، وتقوى من خوفِ النار والعقاب وهو تركُ الحرام وهو تقوى العام"(٤) ثانيًا: اتباعُ ما أمر به في كتابه: يقول (عزَّ من قائل) في مُحكمِ كتابه: "يا أيُّها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون"(٥)، ويقول (تعالى): "يا أيُّها الذين آمنوا كُتِبَ عليكم الصيام ...لعلكم تتقون"(٦)، وقوله (تعالى): "وأقمِ الصلاة إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر"(٧) العلاقةُ بين العبادةِ والتقوى علاقةٌ وثيقةٌ جدًا، فلا ينالُ الإنسانُ التقوى إلا بالعبادة؛ لأنّها أفضلُ وسيلةٍ لتحقيقِ الكمال، وبها تتضحُ عبوديةُ الإنسانِ وتواضعه لخالقه الكمال المطلق (تبارك وتعالى). والذي يُميّزُ العبدَ المؤمنَ عن الفاسق هو الالتزامُ بالفريضةِ؛ فمتى ما طبّقَ أوامرَ الله ونواهيه وأقام فرائضه فإنّه سوف يُسعدُ في الدنيا، وينالُ حُسن المثوبة في الأخرى، قال (تعالى): "الذين امنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب"(٨) ثالثًا: الأمرُ بالمعروفِ والنهي عن المنكر : يدعو أميرُ المؤمنين الحاكمَ إلى أن ينصرَ اللهَ (تعالى) بيده وقلبه ولسانه؛ فإنّه قد تكفّل بنصرِ من ينصره إنّه قويٌ عزيزٌ، ويقول (تعالى): "ولينصرنَّ الله من ينصره"(٩)، وكذلك قوله (تعالى): "إنْ تنصروا اللهَ ينصرُكم ويُثبِّتُ أقدامكم"(١٠) ويقولُ (صلى الله عليه وآله): "من رأى منكم منكرًا فليُغيّره بيده، فإنْ لم يستطعْ فبلسانه، فإنْ لم يستطعْ فبقلبه، وذلك أضعفُ الإيمان". فالأمرُ بالمعروف وإنكارُ المنكر من الفرائضِ الواجبة على كُلِّ مسلمٍ؛ لأنّه يُحيي الناس معنويًا "ومن أحياها فكأنّما أحيا الناس جميعًا"(١١) إنّ في تركِ الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر بوار الدين واندثاره، وعندها لن تبقى فريضةٌ حتى الجهاد في سبيل الله (تعالى). ولا يخفى ما لتركِ هذه الفريضة من عواقب على المجتمع بأسرِه من ضعفِ الإيمان، والوقوع في الذنوب، والتعرضُ لغضبِ الله (تعالى)، والبؤس، وبروز القحط، ونقص الأرزاق، وقد تكفّل الباري (تعالى) بنصرِ من ينصره ويَقيهِ شر الفجار "ومن يتوكلُ على الله فهو حسبُه"(١٢) رابعًا: الابتعاد عن الشهوة: الشهوةُ مفهومٌ عام يُطلق على كُلِّ أنواعِ الرغباتِ النفسانية والميل إلى التمتُّع واللذة، وأحيانًا يُطلقُ على العلاقةِ الشديدة بأمرٍ من أمورِ الدنيا، أما في المفهوم الخاص فتُطلقُ على الشهوة الجنسية. وقد وردت الآيةُ التي ذكرها (عليه السلام) مقرونةً بهذه الخِصلة في قصةِ زُليخا مع نبي الله يوسف (عليه السلام)؛ لذا فإنّ الأرجح في مقصوده من كسرِ الشهوات هو المعنى الخاص. يقول (عز وجل): "واللهُ يُريدُ أن يتوب عليكم ويُريدُ الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلًا عظيمًا"(١٣) والشهوات هُنَّ المُهلِكات، وكُلّما سارَ الإنسانُ في طريقِ الشهواتِ خرجَ عن إنسانيتِه إلى الحيوانية، قال (تعالى): "إنْ هم إلا كالأنعام بل هم أضلُّ سبيلًا"(١٤) والشهواتُ التي ينهى عنها أميرُ المؤمنين (عليه السلام) هي الشهوات المُحرّمة؛ فإنّ الشهوةَ المحللةَ لا ضير فيها، فالإنسانُ يشتهي الطعامَ والزوجةَ، لكن شريطةَ عدم الإسراف. وقد قسَّمَ العلماءُ النفسَ إلى ثلاثةِ أقسامٍ وفقَ آياتِ الكتابِ المجيد، فالنفسُ المُطمئنة وهي أرقاها، والنفسُ اللوامة، والنفسُ الأمّارةُ تلك التي تأمرُ صاحبَها بالسوء والشهوة وتدعوه إلى ارتكاب المعصية. يقول النبي (صلى الله عليه وآله): "طوبى لمن تركَ شهوةً حاضرةً لموعدٍ لم يره"(١٥) ـ___________________________ ١-سورة البقرة :٤٨ ٢- سورة البقرة : ١٠٣ ٣-سورة البقرة : ١٩٤ ٤-بحار الانوار ج ٦٧ :٢٩٥ ٥-سورة البقرة ٢١ ٦- سورة البقرة : ١٨٣ ٧- سورة العنكبوت :٤٥ ٨-سورة الرعد : ٢٨ ٩-سورة الحج : ٤٠ ١٠-سورة محمد :٧ ١١-سورة المائدة :٣٢ ١٢-سورة الطلاق :٣ ١٣-سورة النساء : ٢٧ ١٤-سورة الفرقان :٤٤ ١٥-تحف العقول عن آل رسول ،ابن شعبة الحراني : ٤١
اخرىالتعليقات
يتصدر الان
لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع
يستشهد الكثير من الناس ــ وحتى بعض المثقفين ــ بقول:" لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع فإن الخير فيها دخيل وعاشر نفساً جاعت بعد شبع فإن الخير فيها أصيل" على أنه من أقوال أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، كما يستشهدون أيضاً بقولٍ آخر ينسبونه إليه (عليه السلام) لا يبعد عن الأول من حيث المعنى:"اطلبوا الخير من بطون شبعت ثم جاعت لأن الخير فيها باق، ولا تطلبوا الخير من بطون جاعت ثم شبعت لأن الشح فيها باق"، مُسقطين المعنى على بعض المصاديق التي لم ترُق افعالها لهم، لاسيما أولئك الذين عاثوا بالأرض فساداً من الحكام والمسؤولين الفاسدين والمتسترين عل الفساد. ونحن في الوقت الذي نستنكر فيه نشر الفساد والتستر عليه ومداهنة الفاسدين نؤكد ونشدد على ضرورة تحرّي صدق الأقوال ومطابقتها للواقع وعدم مخالفتها للعقل والشرع من جهة، وضرورة التأكد من صدورها عن أمير المؤمنين أبي الأيتام والفقراء (عليه السلام) أو غيرها من المعصومين (عليهم السلام) قبل نسبتها إليهم من جهة أخرى، لذا ارتأينا مناقشة هذا القول وما شابه معناه من حيث الدلالة أولاً، ومن حيث السند ثانياً.. فأما من حيث الدلالة فإن هذين القولين يصنفان الناس الى صنفين: صنف قد سبق له أن شبع مادياً ولم يتألم جوعاً، أو يتأوه حاجةً ومن بعد شبعه جاع وافتقر، وصنف آخر قد تقلّب ليله هماً بالدين، وتضوّر نهاره ألماً من الجوع، ثم شبع واغتنى،. كما جعل القولان الخير متأصلاً في الصنف الأول دون الثاني، وبناءً على ذلك فإن معاشرة أفراد هذا الصنف هي المعاشرة المرغوبة والمحبوبة والتي تجرّ على صاحبها الخير والسعادة والسلام، بخلاف معاشرة أفراد الصنف الثاني التي لا تُحبَّذ ولا تُطلب؛ لأنها لا تجر إلى صاحبها سوى الحزن والندم والآلام... ولو تأملنا قليلاً في معنى هذين القولين لوجدناه مغايراً لمعايير القرآن الكريم بعيداً كل البعد عن روح الشريعة الاسلامية ، وعن المنطق القويم والعقل السليم ومخالفاً أيضاً لصريح التاريخ الصحيح، بل ومخالف حتى لما نسمعه من قصص من أرض الواقع أو ما نلمسه فيه من وقائع.. فأما مناقضته للقرآن الكريم فواضحة جداً، إذ إن الله (تعالى) قد أوضح فيه وبشكلٍ جلي ملاك التفاضل بين الناس، إذ قال (عز من قائل):" يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)"(1) جاعلاً التقوى مِلاكاً للتفاضل، فمن كان أتقى كان أفضل، ومن البديهي أن تكون معاشرته كذلك، والعكس صحيحٌ أيضاً. وعليه فإن من سبق حاجتُه وفقرُه شبعَه وغناه يكون هو الأفضل، وبالتالي تكون معاشرته هي الأفضل كذلك فيما لو كان تقياً بخلاف من شبع وكان غنياً ، ثم افتقر وجاع فإنه لن يكون الأفضل ومعاشرته لن تكون كذلك طالما كان بعيداً عن التقوى. وأما بُعده عن روح الشريعة الإسلامية فإن الشريعة لطالما أكدت على أن الله (سبحانه وتعالى) عادلٌ لا جور في ساحته ولا ظلمَ في سجيته، وبالتالي لا يمكن أن يُعقل إطلاقاً أن يجعل البعض فقيراً ويتسبب في دخالة الخير في نفوسهم، التي يترتب عليها نفور الناس من عشرتهم، فيما يُغني سواهم ويجعل الخير متأصلاً في نفوسهم بسبب إغنائه إياهم ليس إلا ومن ثم يتسبب في كون الخير متأصلاً في نفوسهم، وبالتالي حب الناس لعشرتهم. فإن ذلك مخالف لمقتضى العدل الإلهي لأنه ليس بعاجزٍ عن تركه ولا بمُكره على فعله، ولا محب لذلك لهواً وعبثاً (تعالى عن كل ذلك علواً كبيراً). كما إن تأصل الخير في نفوس بعض الناس ودخالته في نفوس البعض الآخر منهم بناءً على أمر خارج عن إرادتهم واختيارهم كـ(الغنى والشبع أو الجوع والفقر) إنما هو أمرٌ منافٍ لمنهج الشريعة المقدسة القائم على حرية الانسان في اختياره لسبيل الخير والرشاد أو سبيل الشر والفساد، قال (تعالى):" إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)"(2) بل إن الانسان أحياناً قد يكون فقيراً بسبب حب الله (تعالى) له، كما ورد في الحديث القدسي: "أن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى فلو أفقرته لأفسده ذلك و أن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر فلو أغنيته لأفسده ذلك"(3) وهل يمكن ان نتصور أن الخيرَ دخيلٌ فيمن يحبه الله (تعالى) أو إن معاشرته لا تجدي نفعا، أو تسبب الهم والألم؟! نعم، ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"اِحْذَرُوا صَوْلَةَ اَلْكَرِيمِ إِذَا جَاعَ وَ اَللَّئِيمِ إِذَا شَبِعَ"(4) ولا يقصد به الجوع والشبع المتعارف عليه لدى الناس، وإنما المراد منه: احذروا صولة الكريم إذا اُمتُهِن، واحذروا صولة اللئيم إذا أكرم، وفي هذا المعنى ورد عنه (عليه السلام) أيضاً: "احذروا سطوة الكريم إذا وضع و سورة اللئيم إذا رفع"(5) وأما العقل السليم والمنطق القويم فإنهما يقتضيان أن تتأصل صفة الخير في الإنسان لملكاتٍ حميدة يتسم بها وصفات فضيلة يتميز بها، لا أن تتأصل صفة الخير في نفسه لمجرد أنه ولد في أسرة تتمتع بالرفاهية الاقتصادية ووجد في بيئة تتنعم بالثروات المادية! وعند مراجعتنا للتاريخ الصحيح نجد أن قادة البشر وصفوة الناس إنما كان أغلبهم ينتمي الى الطبقات الفقيرة من المجتمع، فهؤلاء الأنبياء ورسل الله (صلوات الله عليهم) منهم من كان نجاراً أو خياطاً أو راعياً، ومع ذلك فقد كانوا من أطيب الناس خلقاً، وأعظمهم شرفاً، وأرفعهم منزلةً، قد تأصّل الخير في نفوسهم تأصّلاً حتى غدوا قطعة منه، فكانوا هم الخير للبشر، وهم الرحمة للعالمين. وبالنزول إلى أرض الواقع نجد أن الكثير من الفقراء والمساكين طيبي الروح، كريمي النفس، يتألمون لألم المحتاج ولربما يؤثرونه على أنفسهم رغم حاجتهم. ولا نقصد من كلامنا هذا أن الأغنياء هم على نقيض ذلك، وإنما تأكيداً على مسألة عدم ارتباط تأصل الخير في النفوس وعدمه بمستواهم الاقتصادي الذي نشأوا فيه ارتباط العلة والمعلول، فكما إن بعض الفقراء أخيار، فإن بعض الأغنياء كذلك، والعكس صحيح أيضاً. ومن هنا يُفهم من بعض الروايات ضرورة عدم طلب الخير والحاجات ممن هم أهل للخير بقطع النظر عن مستواهم المعاشي الحالي والسابق، منها ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"أشد من الموت طلب الحاجة من غير أهلها"(5)، وعنه (عليه السلام) أيضاً: "فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غير أهلها"(6) إذن فلا صحة لهاتين المقولتين من حيث الدلالة، حتى وإن تنزلنا وحملنا الجوع والشبع على المعنى المعنوي لا المادي؛ وذلك لأنه حتى من يفتقر الى الأخلاق المعنوية فإنه ما إن يتكامل بالفضائل ويقلع عن الرذائل حتى يتسم بالخير وتحسن عشرته وتطيب للناس صحبته، والعكس صحيحٌ أيضا.. ومن البديهي أن ما لا يوافق العقل والمنطق السليم، ويخالف صريح القرآن الكريم، لا يمكن أن يصدر من وصي الرسول الكريم (صلوات الله عليهما وآلهما)، وعليه لا تصح نسبة هذين القولين الى أمير المؤمنين (عليه السلام).. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الحجرات 13 (2) الانسان 3 (3) عوالي الآلي ج2 ص29 (4) غرر الحكم ج1 227 (5) المدر السابق ج1 ص246 (6) ميزان الحكمة ج4 ص 238 رضا الله غايتي
اخرىبين طيبة القلب وحماقة السلوك...
خلق الله الأشياء كلها في الحياة ضمن موازين وقياسات... فالزيادة أو النقيصة تسبب المشاكل فيها. وهكذا حياتنا وأفعالنا وعواطفنا لا بد أن تكون ضمن موازين دقيقة، وليست خالية منها، فالزيادة والنقيصة تسبب لنا المشاكل. ومحور كلامنا عن الطيبة فما هي؟ الطيبة: هي من الصفات والأخلاق الحميدة، التي يمتاز صاحبها بنقاء الصدر والسريرة، وحُبّ الآخرين، والبعد عن إضمار الشر، أو الأحقاد والخبث، كما أنّ الطيبة تدفع الإنسان إلى أرقى معاني الإنسانية، وأكثرها شفافية؛ كالتسامح، والإخلاص، لكن رغم رُقي هذه الكلمة، إلا أنها إذا خرجت عن حدودها المعقولة ووصلت حد المبالغة فإنها ستعطي نتائج سلبية على صاحبها، كل شيء في الحياة يجب أن يكون موزوناً ومعتدلاً، بما في ذلك المحبة التي هي ناتجة عن طيبة الإنسان، وحسن خلقه، فيجب أن تتعامل مع الآخرين في حدود المعقول، وعندما تبغضهم كذلك وفق حدود المعقول، ولا يجوز المبالغة في كلا الأمرين، فهناك شعرة بين الطيبة وحماقة السلوك... هذه الشعرة هي (منطق العقل). الإنسان الذي يتحكم بعاطفته قليلاً، ويحكّم عقله فهذا ليس دليلاً على عدم طيبته... بالعكس... هذا طيب عاقل... عكس الطيب الأحمق... الذي لا يفكر بعاقبة أو نتيجة سلوكه ويندفع بشكل عاطفي أو يمنح ثقة لطرف معين غريب أو قريب... والمبررات التي يحاول إقناع نفسه بها عندما تقع المشاكل أنه صاحب قلب طيب. الطيبة لا تلغي دور العقل... إنما العكس هو الصحيح، فهي تحكيم العقل بالوقت المناسب واتخاذ القرار الحكيم الذي يدل على اتزان العقل، ومهما كان القرار ظاهراً يحمل القسوة أحياناً لكنه تترتب عليه فوائد مستقبلية حتمية... وأطيب ما يكون الإنسان عندما يدفع الضرر عن نفسه وعن الآخرين قبل أن ينفعهم. هل الطيبة تصلح في جميع الأوقات أم في أوقات محددة؟ الطيبة كأنها غطاء أثناء الشتاء يكون مرغوباً فيه، لكنه اثناء الصيف لا رغبة فيه أبداً.. لهذا يجب أن تكون الطيبة بحسب الظروف الموضوعية... فالطيبة حالة تعكس التأثر بالواقع لهذا يجب أن تكون الطيبة متغيرة حسب الظروف والأشخاص، قد يحدث أن تعمي الطيبة الزائدة صاحبها عن رؤيته لحقيقة مجرى الأمور، أو عدم رؤيته الحقيقة بأكملها، من باب حسن ظنه بالآخرين، واعتقاده أن جميع الناس مثله، لا يمتلكون إلا الصفاء والصدق والمحبة، ماي دفعهم بالمقابل إلى استغلاله، وخداعه في كثير من الأحيان، فمساعدة المحتاج الحقيقي تعتبر طيبة، لكن لو كان المدّعي للحاجة كاذباً فهو مستغل. لهذا علينا قبل أن نستخدم الطيبة أن نقدم عقولنا قبل عواطفنا، فالعاطفة تعتمد على الإحساس لكن العقل أقوى منها، لأنه ميزان يزن الأشياء رغم أن للقلب ألماً أشد من ألم العقل، فالقلب يكشف عن نفسه من خلال دقاته لكن العقل لا يكشف عن نفسه لأنه يحكم بصمت، فالطيبة يمكن أن تكون مقياساً لمعرفة الأقوى: العاطفة أو العقل، فالطيّب يكون قلبه ضعيفاً ترهقه الضربات في أي حدث، ويكون المرء حينها عاطفياً وليس طيباً، لكن صاحب العقل القوي يكون طيباً أكثر من كونه عاطفياً. هل الطيبة تؤذي صاحبها وتسبب عدم الاحترام لمشاعره؟ إن الطيبة المتوازنة المتفقة مع العقل لا تؤذي صاحبها لأن مفهوم طيبة القلب هو حب الخير للغير وعدم الإضرار بالغير، وعدم العمل ضد مصلحة الغير، ومسامحة من أخطأ بحقه بقدر معقول ومساعدة المحتاج ... وغيرها كثير. أما الثقة العمياء بالآخرين وعدم حساب نية المقابل وغيرها فهذه ليست طيبة، بل قد تكون -مع كامل الاحترام للجميع- غباءً أو حماقة وسلوكاً غير عقلاني ولا يمت للعقل بصلة. إن المشكلة تقع عند الإنسان الطيب عندما يرى أن الناس كلهم طيبون، ثم إذا واجهه موقف منهم أو لحق به أذى من ظلم أو استغلال لطيبته، تُغلق الدنيا في وجهه، فيبدأ وهو يرى الناس الطيبين قد رحلوا من مجتمعه، وأن الخير انعدم، وتحصل له أزمة نفسية أو يتعرض للأمراض، لأن الطيّب يقدم الإحسان للناس بكل ما يستطيع فعله، ويقدّم ذلك بحسن نية وبراءة منه، فهو بالتالي ينتظر منهم الرد بالشكر أو المعاملة باللطف على الأقل... صحيح أن المعروف لوجه الله، ولكن من باب: من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق، لذلك يتأذى عندما يصدر فعل من الشخص الذي كان يعامله بكل طيب وصدق. هل الطيبة والصدق من علامات ضعف الشخصية؟ الكثير من الناس يصف طيب القلب بأنه ضعيف الشخصية، لأنه يتصف بعدم الانتقام ممن ظلمه، والصفح عنه عند رجوعه عن الخطأ، وأنه لا يحب إيقاع الآخرين بالمشاكل؛ لأنه مقتنع أن الله سيأخذ له حقه. والحقيقة هي أن الصدق والطيبة وحسن الظن بالآخرين ليست ضعف شخصية، بل هي من الأخلاق الراقية وهي تزيد صاحبها سمواً وجمالاً روحياً، وليس من المعيب أن يمتلك الإنسان الطيبة بل العيب في من لا يُقدّر هذه الطيبة ويعطيها حقها في التعامل بالمثل. فالمشكلة الأساسية ليست في الطيبة، إنما في استغلال الآخرين لهذه الطيبة، نتيجة لعدم عقلنة قراراتنا والاعتماد على عواطفنا بشكل كلي. فالصدق والطيبة حسب المنطق والعقل، ولها فوائد جمة للنفس ولعموم أفراد المجتمع، فهي تحصين للشخص عن المعاصي، وزيادة لصلة الإنسان بربه، وتهذيب للنفس والشعور بالراحة النفسية، فالصادق الطيب ينشر المحبة بين الناس، وهذا يعزّز التماسك الاجتماعي وتقويته من سوء الظنون والحقد، وهذا التعامل أكّدت عليه جميع الشرائع السماوية، ولو تأمّلنا تاريخ وأخلاق الأنبياء والأوصياء لوجدنا كل ما هو راقٍ من الأخلاق والتعامل بالطيبة والصدق... حنان الزيرجاوي
اخرىالطلاق ليس نهاية المطاف
رحلةٌ مثقلة بالألم في طريق يئن من وطأة الظلم! ينهي حياة زوجية فشلت في الوصول إلى شاطئ الأمان. ويبدد طموحات أطفال في العيش في هدوء نفسي واجتماعي تحت رعاية أبوين تجمعهم المودة والرحمة والحب. الطلاق شرعاً: هو حل رابطة الزواج لاستحالة المعاشرة بالمعروف بين الطرفين. قال تعالى: [ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)].(١). الطلاق لغوياً: من فعل طَلَق ويُقال طُلقت الزوجة "أي خرجت من عصمة الزوج وتـحررت"، يحدث الطلاق بسبب سوء تفاهم أو مشاكل متراكمة أو غياب الانسجام والحب. المرأة المطلقة ليست إنسانة فيها نقص أو خلل أخلاقي أو نفسي، بالتأكيد إنها خاضت حروباً وصرعات نفسية لا يعلم بها أحد، من أجل الحفاظ على حياتها الزوجية، ولكن لأنها طبقت شريعة الله وقررت مصير حياتها ورأت أن أساس الـحياة الزوجيـة القائم على المودة والرحـمة لا وجود له بينهما. فأصبحت موضع اتهام ومذنبة بنظر المجتمع، لذلك أصبح المـجتمع يُحكم أهواءه بدلاً من الإسلام. ترى، كم من امرأة في مجتمعنا تعاني جرّاء الحكم المطلق ذاته على أخلاقها ودينها، لا لسبب إنما لأنها قررت أن تعيش، وكم من فتاة أُجبرت قسراً على أن تتزوج من رجل لا يناسب تطلعاتها، لأن الكثير منهن يشعرن بالنقص وعدم الثقة بسبب نظرة المجتمع، وتقع المرأة المطلّقة أسيرة هذه الحالة بسبب رؤية المجتمع السلبيّة لها. وقد تلاحق بسيل من الاتهامات وتطارد بجملة من الافتراءات. وتعاني المطلقة غالباً من معاملة من حولها، وأقرب الناس لها، بالرغم من أن الطلاق هو الدواء المر الذي قد تلجأ إليه المرأة أحياناً للخلاص من الظلم الذي أصبح يؤرق حياتها الزوجية، ويهدد مستقبلها النفسي، والله تعالى لم يشرع أمراً لخلقه إلا إذا كان فيه خير عظيم لهم، والطلاق ما شرّع إلا ليكون دواء فيه شفاء وإن كان مرّاً، وإن كان أمره صعباً على النفوس، حيث قال عز وجل: "وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا"، روي عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) ((أبغض الحلال إلى الله الطلاق) (٢). ورغم أن الشريعة الإسلامية أباحت الطلاق بشروط تلاءم لبناء المجتمع، وأولت أهمية في الإحسان دائمًا للطرف الأضعف والأكثر خسارة في هذه المعادلة وهي "المرأة"، إلا أن المجتمع الذي يدّعي الإسلام لا يرحمها، ويحكم عليها بالإدانة طوال حياتها دون النظر في صحة موقفها في الطلاق من عدمه! قال( تعالى ): [الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] (٣). ولكن بعد كل هذا فالحياة لم ولن تتوقف بعد الطلاق! الطلاق ليس نهاية الحياة. - أخيتي. ليكن الطلاق بداية جديدة لحياة جديدة وللانطلاق. -قطار العطاء لن يتعطل. فإن كنت السبب في الطلاق فالحمد لله على كل حال وتلك أمة قد خلت وأيام ذهبت وانجلت فلست بالمعصومة من الخطأ. وعليك استدراك الأخطاء وتقوية مواطن الضعف في شخصيتك، واجعليها درساً مفيداً في الحياة لتطوير نفسك وتقويتها. وإذا كنتِ مظلومة فهناك جبار يُحصي الصغير والكبير وسيأتي يوم ينتصر لك فيه. -ومن الجميل أن تعطي نفسك الإحساس بالحب والاحترام، ولا تتأثري بأي نظرة سلبية من المجتمع وكون البعض يتعامل مع المطلقة على أنها حالة خاصة فعليكِ إثبات ذاتك حتى تفرضي على الكل شخصيتك. - نظرتك لنفسك اجعليها نظرة ايجابية مشرقة ولا تنزلقي في مستنقع نبذ الذات وظلم النفس. - ابحثي عن الصفات الجيدة فيك فإن ذلك سيشعرك بالثقة في ذاتك والتقدير لها. -حاولي مراجعة نفسك للخروج بإيجابيات حصلت لك من طلاقك. - خالطي الآخرين وإياك والعزلة بسبب وضعك الجديد فلست بأول من يبتلى بالطلاق. -استمتعي بالموجود ولا تتعلقي بالمفقود، حلقي بروح تعبق أملاً وتفاؤلاً، استمتعي بما وهبك الله من نعم (صحة وأولاد وأهل وصديقات وعمل وهوايات وغيرها من الأمور الجميلة) فما حصل لك حصل… ولابد أن تتقبليه برضا، وأعلمي أن ما أصابك لم يكن ليخطأك وما أخطأك لم يكن ليصيبك. وقال أصدق من قال: ( وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم). فالرضا سر السعادة الحقيقي. - اقتربي من صديقاتك الصالحات، واقضي معهن وقتاً طيباً تنسين به ألمك وحزنك. - احرصي على الصلوات وقراءة القرآن الكريم والذكر والاستغفار وأكثري من الطاعات قدر ما تستطيعين، ففيها السلوى والفرح والسعادة. ونعم سعادة القرب من الرحمن. - اشغلي نفسك بأعمال البر والإحسان بمساعدة محتاج. بكفالة يتيم. بتعلم الفقه والقرآن وتعليمه. - اجتهدي في عمل برنامج يومي لك يكون ممتلأ بكل ما هو مفيد لك. من قراءة وزيارة الأصدقاء وصلة الرحم. بحيث لا تكون هناك دقيقة أنت فارغة فيها. - وأسرعي بقاربك الجميل بمجذافين من إيمان بالله وثقة بالنفس وسوف تصلين بإذن الله نحو جزيرة السعادة والنجاح. لكي تتسلق جبال الإنجاز، وتصل لأعلى مراتب الاعجاز. وعندها جزماً سيكون للحياة معنى آخر. --------------------------------- (١)-سورة البقرة الآية (٢٢٦-٢٢٧). (٢)-الكافي (٢)-سورة البقرة الآية (٢٢٨) حنان ستار الزيرجاوي
اخرىأساليب في التربية
عالم الطفولة كأنه طاولة، لا تجد فيه غير طعام لذيذ، ومنظر لطيف وجديد، فعالمهم فاكهة الوجود، وخضار الأرواح، ومياه الحياة تسقي القلوب... عالم صفاء وأحلام جميلة بسيطة وتافهة ولكن بنظرهِ هو عظيمة وكبيرة، فهو العالم الذي ينطلق منه الإنسان في بداية عمره. فالطفل في بداية حياته ينظر إلى الحياة بتفكيره البريء، فالطفل يعيش بعالم خاص به مملوء بالمحبة البريئة. هذه هي الصورة الجميلة التي يحملها الطفل، وكم يتمنى كل إنسان أن يعود لطفولته البريئة ليتأمل في أرجاء عالمها الذي كان يصور له حياة مختلفة تشد الإنسان إليها بجمالها، هذا هو عالم الطفولة وهذه أحلام من يعيشها، فلا ينفذ إلى ملكوت ذلك العالم ولا يدرك كنهه إلا من عاشه وجال في ربوعه. حيث يتذوق الطفل مع أحلام طفولته هذه لذة الحياة ولذة العيش فيها، ومهما حاولنا أن نعبر عن هذه الحقيقة فلن نستطيع تصويرها بالكلمات. وبعد هذا، فإن الاهتمام بمستقبل الطفل هو في الواقع ضمان لمستقبل شعب بأسره. قال اللَّه تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا". التحريم/6 أعتنى الإسلام بتربية الأبناء عناية فائقة، وألقى على عاتق الأهل ما سيكون عليه الولد في مسلكه الدنيوي ومصيره الأخروي إن هم قصروا في تربيته وإعداده. وقد ذكر العلماء أن شخصية الولد تتأثر في نموها بعوامل ثلاثة وهي: الوراثة، والبيئة، والتربية. إذا خضنا في مضمار التربية السليمة للأبناء... فعلى الأبوين أن يكون لهما الوعي التربوي الذي يبنى على أسس صحيحة ويتوفر لديهم فهم لأساليب التربية والتوجيه والرعاية وهذه نقطة البداية. فمثلاً في أسلوب التعامل مع الطفل تبرز أمامنا ثلاثة اشكال لتعامل الآباء مع الأبناء: الشكل الأول: أسلوب الدلال المفرط وهذا الأسلوب له نتائجه السلبية الخطيرة، فإنه يخلق شخصية هشة متميعة وشخصية اتكالية تحب الكسل والخمول مجردة من الهدف والإقدام، انهزامية غير قادرة على مواجهة التحديات وبمعنى أدق شخصية لا تثق بنفسها. شخصية متسيبة في ظل غياب المراقبة والمحاسبة وهذا التسيب يقود إلى الانفلات والانحراف. الشكل الثاني: فهو أسلوب التربية القاسية والعنف. وهذا الأسلوب أيضاً له نتائجه الخطيرة والسلبية التي يعاني منها الأبناء طوال حياتهم فهو يخلق شخصية قلقة ومتأزمة ومعقدة وخائفة وتحمل عقدة الخوف، شخصية حاقدة وعدوانية وقد تتأزم الأمور لتصبح شخصية منافقة وكاذبة خوفاً من العقاب والتعنيف ضمن حدود الأسرة ولكن يوماً من الأيام سينطلق هذا الشخص ليواجه المجتمع ككل، فلنتصور كيف سيتعامل مع المحيطين ضمن مجالات الدراسة والعمل وهو شخصية هاربة من أجواء الأسرة وقد يعرضها للتسيب والانحراف لأنها شخصية متمردة مما يعرضها للعقوق. الأسلوب الثالث: التوازن. الأسلوب الصحيح يعتمد على التوازن فمن شروط نجاح التربية التوازن في المعاملة ما بين الأمور التي تحتاج إلى شدة وحزم ليتربى على أن هذه الأمور خطوط حمراء طبعاً هنا يمكن أن يعترض أحد ويقول: لا للعنف الأسري ولا لاستخدام القسوة. نعم فهناك طرق غير استخدام العنف. يكفي ان يبدي الآباء انزعاجهم مثلاً. وهنا النقطة مهمة جداً، وهي: أن نوضح لهم سبب المنع والرفض لا تعتقدوا أن أبناءكم لا يدركون ولن يفهموكم. تخصيص الوقت للنقاش مهم جداً. وما بين أسلوب المرونة والحنان والاحتواء. التوازن في المعاملة. إن الإمام زين العابدين (عليه السلام) يصرح بمسؤولية الأبوين بتربية الطفل، ويعتبر التنشئة الروحية والتنمية الخلقية لمواهب الأطفال واجباً دينياً يستوجب أجراً وثواباً من الله تعالى، وأن التقصير في ذلك يُعرّض الآباء إلى عقاب الله. فيقول (عليه السلام): (وأما حق ولدك عليك فأن تعلم أنه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره. وأنك مسؤول عما وليته به من حسن الأدب والدلالة على ربه عز وجل والمعونة له على طاعته. فأعمل في أمره عمل من يعلم أنه مثاب على الإحسان إليه معاقب على الإساءة إليه ) مكارم الأخلاق للطبرسي ص٢٣٢ حنان الزيرجاوي
اخرىالطفولة المقتولة بين الماضي والحاضر
رقية طفلة صغيرة هي الاصغر اذ سبقها ولدان محمد وعلي وبنت اسمها فاطمة. رقية هي المدلّلة عند أبيها يصحبها إلى محل عمله في دكانه الخاص الذي كان يعمل به. كانت كثيرا ما تشاكس الزبائن بخفة دمها وقد احب الكثيرون دلالها ومشاكستها. بل لعل البعض أخذ يشتاق لتلك اللمحات الجميلة التي تصدر منها فيأتي الى دكان أبيها ليرى رقية ويداعبها ويخرج. بل اصبحت واسطة جذب للزبائن وسط ضحكات أبيها وتقبيله لها . هكذا كانت حياتها جميلة حتى في البيت تكون الى جانب ابيها وتحاول ان تثير والدتها بان تعتنقه وتقول: هو لي وحدي! وسط ضحكات امها واخوتها، وعند سماعها الاذان تسرع لترتدي احرامها الجميل الصغير وتهيئ سجادة الصلاة لها ولأبيها. كثيرا ما حاول الاخرون اخذ مكانها ولكنها تغلبهم بخفة دمها وشقاوتها وعندما يقولون لها اتعبتِ اباك، تقول لهم: لا عليكم انا عزيزته انا حبيبته دعوني .... وفي يوم ربيعي جميل ومع نسمات الصباح الجميلة وهي مع ابيها في محل عمله دخل احد الزبائن الذي اعتاد على شقاوة رقية داعبها ثم قال لها: احضرت لكِ هدية جميلة. فقالت هل هي اجمل من ابي ؟ لا اعتقد هناك هدية اجمل منه. ضحكا بقهقهة وقال لها: نعم هو اجمل هدية . ولكن تعالي معي الى السيارة في الجانب الآخر من الشارع وسأريك مفاجأة . ذهبت معه بعد ان امسكت بيده بقوة خوف السيارات المارة وحين وصلت الى سيارة ذلك الرجل ودخلت بها لترى المفاجأة واذا بصوت انفجار يهز المكان وساد الظلام وهي ترتجف من الخوف والهلع... وبعد دقائق خرجت مسرعة نحو محل ابيها الذي اصبح ركاماً . فعثرت بشيء، دققت النظر، واذا برأس ابيها يشخب منه الدم! جلست وضعته في حجرها انحنت عليه تلثمه وتصرخ عالياً: بابا ...بابا .. بابا، حتى اغمي عليها. هرع إليها من كان قريب من المكان ليحملوها وهي بلا حراك. اوصلوها الى المستشفى وكان قلبها ينبض . اسعفوها، فتحت عينيها، ودارت بهما وسط الحاضرين وهي تتمتم بابا... بابا... وسط دموع الحاضرين وبهذه الاثناء حضرت امها لتعانقها وهي تبكي حبيبتي حبيبتي...اين ابوك؟ ووسط تلك الدموع وهي تردد بابا... لم تتمالك الطفلة مشاعرها وتنادي: أين أبي؟ أين أبي؟ وهي مذهولة مدهوشة لا تريد أن تصدق أن أباها رحل عنها وجسده تقطع اوصالا فأخذت تنادي: اريد ابي قبل قليل كان معي، أين أبي؟ اريد ابي، وسط دموع الحاضرين وآهاتهم، قالت لها امها: بنيتي ان اباك مات ورحل عنا! قالت رقيه: لا لا لا، قبل قليل كان معي، بكى كل من حضر عندها، وعلا الصراخ والبكاء في القاعة، جاء الطبيب والممرضون فشاهدوا ما يجري فاختنقوا بعبرتهم ونشيجهم، كتب لها الطبيب وصفة من العلاج المهدّئ واُخرجت من المستشفى ورجعت الى الدار ولكنها كانت ترفض أخذ العلاج المهدّئ وتقول: أين أبي؟ لقد كان وعدني بهدية أين هو؟ اين هو ابي؟ أبي، أبي، أين أنت؟ أخذت تركض الى غرفته علها تجده، أخذت تشم رائحته في ارجاء الغرفة، هذه ملابسه، هذا قميصه، وهذه حاجياته، وهي تدور مذهولة وتكلم اباها. واذا بجنازة ابيها جاؤوا بها استعداداً للتوديع الأخير، ليدفن في مثواه الاخير، شمت ريح والدها ركضت وهي تنادي: جاء ابي جاء ابي، تسمّرت قدماها وهي ترى اباها وسط التابوت وقد علا العويل والصراخ في أرجاء الدار، رمت بنفسها على الجنازة وهي تنادي أبي أبي الى أين أنت ذاهب؟ أتتركني وانا مدللتك؟ بابا من يلاعبني ويضاحكني؟ وصارت تنادي بابا بابا... ثم هدأت، والصراخ والعويل من اهلها والحاضرين يبكون لفقد عزيزهم ويبكون حال هذه الطفلة رقية، ولكنهم ذهلوا لأنها سكنت حملوها واذا بها قد التحقت بأبيها وفارقت روحها الطاهرة هذه الدنيا، لترفرف روحها مع أبيها الشهيد، لتكون قصة رقية الحاضرة بصمة تشابه ما جرى على السيدة رقية الماضي، فالقتلة هم نفس القتلة، والقلوب المتحجرة التي لا تعرف للرحمة معنى ولا للإنسانية معنى ولتكون مواساة رقية الحاضرة للسيدة الطاهرة رقية بنت الامام الحسين (عليه السلام)، لتشير الى مظلومية اهل البيت واتباعهم في الماضي والحاضر حنان الزيرجاوي
اخرىلا تقاس العقول بالأعمار!
(لا تقاس العقول بالأعمار، فكم من صغير عقله بارع، وكم من كبير عقله فارغ) قولٌ تناولته وسائل التواصل الاجتماعي بكل تقّبلٍ ورضا، ولعل ما زاد في تقبلها إياه هو نسبته الى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولكننا عند الرجوع إلى الكتب الحديثية لا نجد لهذا الحديث أثراً إطلاقاً، ولا غرابة في ذلك إذ إن أمير البلاغة والبيان (سلام الله وصلواته عليه) معروفٌ ببلاغته التي أخرست البلغاء، ومشهورٌ بفصاحته التي إعترف بها حتى الأعداء، ومعلومٌ كلامه إذ إنه فوق كلام المخلوقين قاطبةً خلا الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ودون كلام رب السماء. وأما من حيث دلالة هذه المقولة ومدى صحتها فلابد من تقديم مقدمات؛ وذلك لأن معنى العقل في المفهوم الإسلامي يختلف عما هو عليه في الثقافات الأخرى من جهةٍ، كما ينبغي التطرق الى النصوص الدينية الواردة في هذا المجال وعرضها ولو على نحو الإيجاز للتعرف إلى مدى موافقة هذه المقولة لها من عدمها من جهةٍ أخرى. معنى العقل: العقل لغة: المنع والحبس، وهو (مصدر عقلت البعير بالعقال أعقله عقلا، والعِقال: حبل يُثنَى به يد البعير إلى ركبتيه فيشد به)(1)، (وسُمِّي العَقْلُ عَقْلاً لأَنه يَعْقِل صاحبَه عن التَّوَرُّط في المَهالِك أَي يَحْبِسه)(2)؛ لذا روي عنه (صلى الله عليه وآله): "العقل عقال من الجهل"(3). وأما اصطلاحاً: فهو حسب التصور الأرضي: عبارة عن مهارات الذهن في سلامة جهازه (الوظيفي) فحسب، في حين أن التصوّر الإسلامي يتجاوز هذا المعنى الضيّق مُضيفاً إلى تلك المهارات مهارة أخرى وهي المهارة العبادية. وعليه فإن العقل يتقوّم في التصور الاسلامي من تظافر مهارتين معاً لا غنى لأحداهما عن الأخرى وهما (المهارة العقلية) و(المهارة العبادية). ولذا روي عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنه عندما سئل عن العقل قال :" العمل بطاعة الله وأن العمّال بطاعة الله هم العقلاء"(4)، كما روي عن الإمام الصادق(عليه السلام)أنه عندما سئل السؤال ذاته أجاب: "ما عُبد به الرحمن، واكتسب به الجنان. فسأله الراوي: فالذي كان في معاوية [أي ماهو؟] فقال(عليه السلام): تلك النكراء، تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل"(5) والعقل عقلان: عقل الطبع وعقل التجربة، فأما الأول أو ما يسمى بـ(الوجدان الأخلاقي) فهو مبدأ الادراك، وهو إن نَما وتطور سنح للإنسان فرصة الاستفادة من سائر المعارف التي يختزنها عن طريق الدراسة والتجربة وبالتالي يحقق الحياة الإنسانية الطيبة التي يصبو اليها، وأما إن وهن واندثر لإتباع صاحبه الأهواء النفسية والوساوس الشيطانية، فعندئذٍ لا ينتفع الانسان بعقل التجربة مهما زادت معلوماته وتضخمت بياناته، وبالتالي يُحرم من توفيق الوصول إلى الحياة المنشودة. وعقل التجربة هو ما يمكن للإنسان اكتساب العلوم والمعارف من خلاله، وما أروع تشبيه أمير البلغاء (عليه السلام) العلاقة التي تربط العقلين معاً إذ قال فيما نسب إليه: رأيت العقل عقلين فمطبوع ومسموع ولا ينفع مسموع إذ لم يك مطبــوع كما لا تنفع الشمس وضوء العين ممنوع(6) فقد شبّه (سلام الله عليه) عقل الطبع بالعين وعقل التجربة بالشمس، ومما لاشك فيه لكي تتحقق الرؤية لابد من أمرين: سلامة العين ووجود نور الشمس، وكما إن الثاني لا ينفع إن لم يتوفر الأول فكذلك عقل التجربة لا ينفع عند غياب عقل الطبع فضلاً عن موته. وبما إن عقل الطبع قد ينمو ويزدهر فينفع صاحبه من عقل التجربة، وقد يموت ويندثر عند الاستسلام لإضلال شبهةٍ أوبسبب إرتكاب معصية، فإنه ومن باب أولى أن يتعرض الى الزيادة والنقصان كما سيأتي... وقد ورد في النصوص الدينية أن للعقل زمناً ينمو فيه ويكتمل، فعن إمامنا أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه):"يثغر الصبي لسبع، ويؤمر بالصلاة لتسع، ويفرق بينهم في المضاجع لعشر، ويحتلم لأربع عشرة، وينتهى طوله لإحدى وعشرين سنة، وينتهي عقله لثمان وعشرين إلا التجارب"(7)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يربى الصبي سبعاً ويؤدب سبعاً، ويستخدم سبعاً، ومنتهى طوله في ثلاث وعشرين سنة، وعقله في خمس وثلاثين [سنة] وما كان بعد ذلك فبالتجارب"(8). إذن يتوقف النمو الطبيعي لعقل الانسان عند سن الثامنة والعشرين أو الخامسة والثلاثين كما ورد في الروايتين، وأية زيادة أخرى في طاقته بعد ذلك إنما تأتي عن طريق التجارب، وقد يُتوهم بأن ثمة تعارضاً ما بين الروايتين المتقدمتين في شأن تحديد سن النمو العقلي، إلا إنه لا تعارض ينهما إذا حملنا اختلافهما فيه على اختلاف الاشخاص وتباين استعدادات وقابليات كل منهم. وعلى الرغم من توقف نمو عقل الإنسان إلا إن له أنْ يزيده بالتجارب ومواصلة التعلم ــ كما تقدم في الروايات ــ وسواء أثبت العلم هذه الحقيقة الروائية أم لا، فنحن نريد الإشارة إلى ضرورة استمرار التجربة والتعلم لزيادة نمو العقل وهذا المقدار لا خلاف فيه وعلى الرغم من إن لعمر الانسان مدخلية في زيادة عقله كما تقدم وكما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يزيد عقل الرجل بعد الاربعين إلى خمسين وستين، ثم ينقص عقله بعد ذلك"(9)، إلا إن ذلك ليس على نحو العلة التامة، إذ يمكن للعقل أن يبقى شاباً وقوياً وإن شاب الإنسان وضعف جسمه، وتقدم في السن ووهن عظمه، فالعاقل لا يشيب عقله ولا تنتقص الشيخوخة من قوته بل وقد يزداد طاقةً وحيويةً لذا ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"رأي الشيخ أحب الي من جَلَد الغلام"(10)، وفي أخرى ".....من حيلة الشباب "(11) وأما من لم يوفر أسباب صقل عقله في مرحلة الشباب فإنه بلا شك يضمحل عقله في مرحلة الشيخوخة. وليس تقدم العمر هو العامل الوحيد في نقصان العقل بل إن النصوص الشرعية أشارت الى عوامل عديدة اخرى أهمها: أولاً: التعلم: فقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "من لم يصبر على ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبداً"(13). ثانياً: التوبة: وعنه (عليه السلام) ايضاً:"من لم يرتدع يجهل"(14) ثالثاً: التقوى: فقد كتب إمامنا الباقر (عليه السلام) إلى سعد الخير: "بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإني اوصيك بتقوى الله فإن فيها السلامة من التلف والغنيمة في المنقلب إن الله (عزوجل) يقي بالتقوى عن العبد ما عزب عنه عقله ويجلي بالتقوى عنه عماه وجهله"(15) إذن التوبة هي سبب للتوفيق الإلهي الذي يؤدي فيما يؤدي إليه من إكمال العقل. رابعاً: الوقوف عند الشبهة: وقال (عليه السلام ): "لا ورع كالوقوف عند الشبهة"(16). فإن الوقوف عند الشبهات سبب من أسباب التوفيق الإلهي بلا شك. خامساً: الاعتراف بالجهل: كما روي عن الإمام علي (عليه السلام): "غاية العقل الاعتراف بالجهل"(17) إذ الاعتراف بالجهل يدفع الإنسان دوماً إلى مزيد من بذل الجهد واكتساب المعارف. مما تقدم تتضح جلياً صحة هذه المقولة دلالةً، إذ إن العقول فعلاً لا تقاس بالأعمار لأن كلٍاً من زيادتها ونقيصتها منوطٌ بالعديد من العوامل الأخرى والتي تقدم ذكرها، بيد إن ذلك لا يبرر التساهل في نشرها والتهاون في الاستشهاد بها على إنها من أقوال أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) لعدم ثبوت ذلك سنداً من جهة ولضعف بلاغتها وركاكة تركيبها بالنسبة إلى سيد البلغاء والبلاغة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) تهذيب اللغة ج1 ص65 (2) لسان العرب ج11 ص458 (3) نهاية الحكمة ص305 (4) ميزان الحكمة ج3 ص333 (5) أصول الكافي ج1، ح3 / 11 (6) نهج السعادة ج9 ص163 (7) الكافي ج7 ص94 (8) الفقيه ج3 ص493 (9) الاختصاص ص245 (10) نهج البلاغة حكمة 86 (11) بحار الأنوار ج72 ص105 (12) المصدر السابق ج1 ص94 (13) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص118 (14) الكافي ج8 ص73 (15) وسائل الشيعة ج1 ص162 (16) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص1 بقلم الكاتبة: رضا الله غايتي
اخرى