Profile Image

عبير المنظور

غزوة بدر الكبرى، انتصار ومنهج حياة

بقلم: عبير المنظور معركة بدر الكبرى (أو الثانية) من المعارك المهمة في تاريخ الإسلام، لأنها أول معركة وقعت بين المسلمين ومشركي قريش، وذكرت المصادر التاريخية غزوتين أخريين باسم بدر وهي بدر الأولى وبدر الموعد أو الثالثة، ولكن الأكثر شهرة هي غزوة بدر الكبرى. وأتت شهرة هذه الغزوة من خلال انعكاسات نصر المسلمين الساحق على مشركي قريش وتأثيراته على الساحة الإسلامية والإقليمية -إن صح التعبير- في حينها، إضافة إلى الكثير من المفاهيم المهمة التي أسس لها الإسلام في تلك المعركة. وقعت هذه المعركة حسب أغلب المصادر التاريخية في صبيحة يوم الجمعة السابع عشر من شهر رمضان من عام ٢ هـ عند آبار بدر، (تقع بدر على بعد 153 كيلو مترًا جنوب غربي المدينة المنورة، كما وتقع في شمال مكة المكرمة وتبعد عنها 300 كيلو مترًا تقريبًا) (١) وهي من المعارك القصيرة في الإسلام حيث لم تتجاوز عدة ساعات. وردت غزوة بدر الكبرى في القران الكريم ووصفها بيوم الفرقان، وورد ذكرها في عدة سور وهي سورة ال عمران الآيات (١٢-١٣) وكذلك (١٢٣-١٢٧) ووردت أيضًا في سورة النساء الآيتان (٧٧-٧٨) وسورة الأنفال الآيات (١-١٩) و (٣٦-٥١) و (٦٧-٧١). أسس رسول الله (صلى الله عليه وآله) في هذه المعركة جملة من المفاهيم المهمة التي سنعمد إلى ذكر بعض منها: ١- استشارة الأنصار في مشاركتهم في الحرب ضد قريش (قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل. قال: فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا إنا لصبر في الحرب صدق في اللقاء. لعلّ الله يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله. فسر رسول الله (صلى الله عليه وآله سلم) بقول سعد ونشطه ذلك ثم قال: "سيروا وأبشروا فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم" (٢) ٢- وفي التأمل في أسباب هذه المعركة وخصوصًا قضية القافلة التجارية يتجلى بوضوح أهمية المجال الاقتصادي في دعم بناء الدولة وتأسيس جيش قوي يحافظ على مكانة وهيبة الدولة بين الدول الأخرى خاصة إذا ما عرفنا أن المسلمين الأوائل كانوا في ذلك الوقت لا يمتلكون من الموارد الاقتصادية الشيء الكثير بعد تعذيب قريش لهم وطردهم من مكة، حتى ورد في أغلب المصادر التاريخية أن قوام جيش المسلمين (٣١٣) رجلًا منهم فارسان فقط وهم الزبير بن العوام والمقداد بن عمرو الكندي وسبعون جملًا (٣)، وهو عدد قليل وعدة قليلة قياسا بعدة وعدد جيش المشركين. ٣- وعلى الرغم من قلة جيش المسلمين بالعدة والعدد إلّا أن روحهم القتالية الوثابة والمتقدة بنور الإيمان والعقيدة الحقة كانت السبب الرئيسي في انتصار المسلمين الساحق في هذه الغزوة وتأييد الله لهم بإمداد المسلمين بالملائكة ليوقعوا الرعب في قلوب الأعداء ويرهبوهم كما جاء في سورة ال عمران (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127))، وكذلك قوله تعالى في سورة الانفال (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13).) ٤- إضافة إلى اهمية دور القائد في احتواء المقاتلين ودعمهم ماديًا ومعنويًا بالتشجيع والدعاء، خاصة إذا كان هذا القائد هو خاتم الأنبياء والمرسلين حبيب رب العالمين محمدًا المصطفى الأمين (صلى الله عليه وعلى آبائه الطيبين الطاهرين) فقد (خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى الناس فحرضهم وقال: والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرًا محتسبًا مقبلًا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة. فقال عمير بن الحمام أخو بني سلمة وفي يده تمرات يأكلهن: بخ بخ أفما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء ثم قذف التمرات من يده وأخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل) (٤). ٥- كما أسس الرسول (صلى الله عليه وآله) للمبادئ والاخلاقيات السامية في الحرب من خلال عدم التمثيل بالعدو حيث ورد (أن عمر بن الخطاب قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله): يا رسول الله دعني أنزع ثنيتي سهيل بن عمرو ويدلع لسانه فلا يقوم عليك خطيبا في موطن أبدا قال: فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا أمثل به فيمثل الله بي وإن كنت نبيا) (٥). ٦- ومن جملة الأُسس الإسلامية النبيلة في هذه المعركة هي الرحمة بالأسرى حيث أوصى بهم رسول الله (صلى الله عليه وآله سلم) بقوله: (استوصوا بالأسارى خيرًا) (٦) ومفاداتهم بالمال لتقوية الصف الإسلامي أو اطلاق سراح بعضهم دون فداء أو اطلاق سراح بعضهم بعد تعليم المسلمين القراءة والكتابة. ٧- ولعل من أجمل ما أسس النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) في هذه المعركة هو أخوة المسلمين الحقيقية بالعقيدة والإيمان وجعلها أهم من الأخوة في الدم إن كان الأخ كافرًا بالله، وتجلى ذلك بوضوح في هذه المعركة بأن الأقارب والأرحام يتواجهون في هذه المعركة وكأنهم أعداء، لا تأخذ المسلمين فيهم لومة لائم مهما قربت اللحمة بينهم، فالأُخوة الحقيقية في الدين، وفي ذلك شواهد كثيرة جدًا يطول المقام بعرضها ولكن سأكتفي بموقف مصعب بن عمير (رضي الله عنه وارضاه) وأخيه (أبي عزيز بن عمير، أسره أبو اليسر ثم اقترع عليه فصار لمحرز بن نضلة، وأبو عزيز أخو مصعب بن عمير لأمه وأبيه. فقال مصعب لمحزر: اشدد يديك به، فإن له أمًا بمكة كثيرة المال. فقال له أبو عزيز: هذه وصاتك بي يا أخي؟ فقال مصعب: إنه أخي دونك! فبعثت أمه فيه بأربعة آلاف، وذلك بعد أن سألت أغلى ما تفادى به قريش، فقيل لها أربعة آلاف) (٧). ٨- وبالإضافة إلى ما تقدم فإن هذا النصر الساحق على قريش -القوة الضاربة في التجارة والسطوة بين القبائل في شبه الجزيرة العربية- له الأثر الكبير في رفع معنويات المسلمين وشعورهم بالعزة والقوة وشعور المشركين بالذلة والضعف أمام المسلمين الذين أصبحوا أصحاب قوة يشار لها بالبنان في المنطقة وأصبحت لهم هيبة وعزة مما أدى إلى انتشار دين الإسلام بصورة أوسع. وبلحاظ ما تقدم فإن غزوة بدر الكبرى ليست مجرد معركة مهمة انتصر بها الإسلام نصرًا مؤزرًا انعكس على الجانب السياسي والاقتصادي والاجتماعي للمسلمين بل إنها أسست إلى الكثير من العقائد والمفاهيم الإسلامية على مر العصور والأجيال كمنهج حياة يعتمد على الأسس والمبادئ التي ترتكز على الفطرة والعدالة والإنسانية. _______________________ (١) بدر الكبرى .. المدينة والغزوة، ص ١٨. (٢) تاريخ الطبري، ج٢، ص٢٧. (٣) موسوعة التاريخ الاسلامي،ج٤٢، ص١١. (٤) سيرة ابن هشام، ج٣، ص ١٧٥. (٥) المصدر نفسه، ج٣، ص ٢٠٠. (٦) السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل احداث، ج٣، ص٦١. (٧) مغازي الواقدي، ج١، ص٥٢.

اخرى
منذ 5 سنوات
4104

بين شوق المحراب ودموع العمامة

بقلم: عبير المنظور إيهٍ يبن أبي طالب... يا نفس الرسول! وزوج الطهر البتول! يا أملًا عانق الفقراء وعشعش في أرواحهم المنهكة… يا تنهيدة اليتامى الواقفة على باب دارك يا لهفة أقداح اللبن بأيديهم يا انحناءة الأفق الحزين ساعة السحر يا شجن المسجد وترنيمة المحراب الحزين الذي اعتاد صلاتك ودعواتك الصادقة فيه والذي كان شاهدًا على تهـّجدك وخضوعك لله كان المحراب يستلذ بلذيذ مناجاتك للخالق ويطيب لسماع صوتك المشرق وهو يترنم بالقرآن وكان يرى عن قرب دموع خشيتك من الله يا شوق المحراب لعودتك الروحانية إلى ساحته بعد أن تبرئ من ضربة ذلك اللعين يا شهقة حزن زينب ودموع الحسن واسترجاع الحسين هذه دموع المحراب تمتزج مع دموعهم وآهاته تتحرق مع آهاتهم وجرحه الذي يحاكي جرح هامتك يا نشيج عمامتك التي كانتْ تلتوي على رأسك الطاهر وتحتضنه بقوة لتحميه من سم سيف المرادي ولكن عبثًا ضاعت محاولاتها، فلقد تمزّقتْ أذرعها الحانية وانفلقتْ مع انفلاق رأسك إلى نصفين وتسمّمتْ لتغلغل السم فيه... بكتْ العمامة وناحت خيوطها وذرفت دموعها التي امتزجت مع دماء رأسك الشريف شوقًا لاحتضانه مجددًا وبين شوق المحراب ودموع العمامة قطع النداء السماوي: (تهدمت والله أركان الهدى، وانفصمت العروة الوثقى) تلك الآمال باللقاء مرة أخرى مع الولي إلى آلام لا تنتهي وستبقى نارًا مستعرة في النفوس حتى قيام القائم من آل محمد.

اخرى
منذ 5 سنوات
1480

الإمام الصادق (عليه السلام) وفكر الآخر (٢)

بقلم: عبير المنظور مفردات منهج الإمام الصادق (عليه السلام) في حوار الآخر لا زالت مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) ونهجها المتفرد هي الاولى في الرد على المسائل الكلامية التي أثارت جدلًا واسعًا بين الأوساط الإسلامية ووضع الحدود الفاصلة لتلك المسائل، وكذلك هي الأولى في التصدي للتيارات الفكرية المنحرفة من خوارج وأيضًا زنادقة وملحدين أو ما يسمون بالدهريين. ولأن عصر الإمام الصادق (عليه السلام) -كما ذكرنا في المقدمة التاريخية في الجزء الأول من هذه السلسلة- كان زاخرًا بالمتغيرات السياسية والاجتماعية والفكرية بسبب تكالب الحزبين الأموي والعباسي على الخلافة وسيطرة العباسيين على الحكم ومحاولتهم إشغال العوام عن ذلك الصراع الدموي وتثبيت دعائم حكمه، باستغلال بعض المسائل الكلامية التي اختلف فيها المعتزلة والأشاعرة، كمسألة الجبر والتفويض وخلق القرآن التي أخذت مساحة كبيرة في الساحة الإسلامية وسيّستها لصالحها، وإن كانت مسألة خلق القرآن في عهد الإمام الصادق (عليه السلام) لا تعدو كونها اختلافًا كلاميًا بين المدارس الكلامية، لكنها خلقت أزمة حقيقية في عهد المأمون العباسي القائل بخلق القرآن على رأي المعتزلة وفرض ذلك الرأي بقوة السلطان على الأمة. إضافة إلى الفتوحات الإسلامية التي ساهمت بشكل كبير في تداخل وامتزاج أفكار غير صحيحة مع الأفكار الإسلامية الصحيحة، مما شوه تلك الأفكار وأعطاها خطًا آخر مختلفًا عن الأصل الإسلامي، خاصة مع اهتمام العباسيين بحركة النشر والترجمة التي أدخلت الثقافات الدخيلة إلى المجتمع الإسلامي دون تحصين المجتمع الإسلامي وزرع الوعي فيه في ظل الفقر والعوز الذي عانت منه الأُمة، بسبب الحروب والتكالب على السلطة، إضافة إلى تدنّي مستوى الوعي لدى العوام من الرعية، مما يسهل انجرارهم نحو الاتجاهات الفكرية المنحرفة وترديد إشكالاتهم دون علم ومعرفة _وما أكثرهم حتى في وقتنا الراهن _. كما كان على مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) أن تواجه جميع هذه الاتجاهات وعلى أكثر من جبهة في نفس الوقت، مع الأخذ بنظر الاعتبار تحصين المجتمع من خطر تلك التيارات الفكرية الضالة، ورفع مستوى وعي العوام والخواص، وطبعًا كل حسب علمه وامكانياته واستعداده، وإنها لعمري من أصعب المهام وأكثرها تعقيدًا في ظل هذا الظرف الصعب. وحتى تكون مفردات نهج الإمام الصادق (عليه السلام) قادرة على مواجهة تلك التيارات والرد على شبهاتهم وتوضيحها على مستوى عال من تحجيم الفكر المخالف واتساع رقعة الفكر الصحيح وتمييزه عن السقيم، كان على الإمام أن يتخذ أكثر من أسلوب حسب الاختلافات المذكورة سابقًا، بأن تكون على مستوى واحد من الارتقاء أفقيًا وعموديًا بالمجتمع بخلق حالة من التوازن النسبي في مواجهة الفكر المنحرف وتقويمه وتصحيح السقيم منه وتقوية جانب الفكر السليم وتحصين أفراد المجتمع في الوقت ذاته. وبلحاظ ما تقدم فقد تعددت مفردات ذلك المنهج لضمان تأثيره في المجتمع من وقاية وعلاج، ومن هذه المفردات والخطوط الأساسية العريضة في التصدي والمواجهة: ١- احترام الجوانب الايجابية في فكر الآخر: إن رددنا على فكر معين في بعض المسائل الخلافية، فهذا لا يعني أننا نرفض ذلك الفكر جملة وتفصيلًا، مهما كانت هوية ذلك الفكر إسلامية أم غير إسلامية، عربية أم غربية، فمثلًا هناك العديد من ردود الإمام الصادق (عليه السلام) حول بعض المسائل الكلامية للمعتزلة، فهذا لا يعني أنه يرفض فكرهم جملة وتفصيلًا، وإنما هناك مشتركات كثيرة بين فكرهم وفكر أهل البيت (عليهم السلام)، وكذلك الحال في الفكر غير العربي كالفلسفة اليونانية أو الإغريقية مثلًا، وإن كان هناك اختلافات كثيرة إلّا أن هناك مشتركات أيضًا، وفي حال الرد على مسالة خاطئة، فهذا لا يعني نسف الفكر كله بسبب رفضنا فكرة واحدة مثلًا وهكذا. احترام الجوانب الايجابية لفكر الآخر هي النظرة الايجابية والانفتاحية للفكر الإسلامي بشكل عام. فالفكر الإسلامي منفتح على جميع الثقافات والايديولوجيات، ويحترمها طالما أنها ضمن حدود احترامها للمجتمع الإسلامي وخصوصيته فكرًا وسلوكًا، وهذا الأمر لا يعني أن الفكر الإسلامي منغلق على نفسه، بل بالعكس هو فكر منفتح في ظل ثقافة التعايش والحوار مع الآخر، ولكن -كما أسلفنا في الجزء الأول- ضمن أطر محددة حسب كل زمان ومكان للحفاظ على سلامة المجتمع الإسلامي من حيث الفكر والسلوك. ومن هذه الخاصية من مفردات منهج الإمام الصادق (عليه السلام) في الرد على الشبهات والفكر المخالف نتعلم -ونحن في عصر التقدم العلمي والمعلوماتية والذي كثرت فيه مع الأسف التيارات الفكرية المتأسلمة المنحرفة عن الإسلام الصحيح، إضافة إلى انتشار التيار العلماني والإلحادي بشكل كبير، بالإضافة إلى تقليد مجتمعاتنا الإسلامية للمجتمعات الغربية البعيدة كل البعد عن قيمنا ومبادئنا وثوابتنا الإسلامية- أنه علينا في بادئ الأمر أن نوضح أننا لسنا ضدهم وضد فكرهم عامة، وإنما نرفض ما يسيء إلى ثوابتنا وهويتنا الإسلامية وكل ما يؤثر على سلامة أفراد مجتمعنا، وهو من باب معالجة الخطأ المتفشي في المجتمع ووقاية أفراده من الانجرار خلف الشعارات البراقة لتلك التيارات المنحرفة، أما إذا كانت بعض الأفكار صحيحة وتعتمد على الأسس المنطقية والإنسانية والفطرية، فنحن نرحب بها في مجتمعاتنا كثيرًا ونشجع عليها، مثلًا: ليس كل ما يأتي من الفكر الغربي هو ضد ثوابتنا الإسلامية، فالمسالة ليست عدوانية بقدر ما هي مخالفة الفكر السقيم ومعالجته لتحصين المجتمع بالفكر السليم. ٢- اهمية التخصص في مواجهة فكر الآخر: وهو المنهج العلمي الصحيح المتبع حتى وقتنا الحاضر، فلكل علم متخصصون به وهم أولى الناس بالمحاجّة ودحض الشبهات في تخصصهم، فلا يصح مثلًا أن يتصدى الطبيب للمسائل الفلسفية كما لا يصح تصدي المهندسين لعلم الفقه وهكذا، لا يصح التصدي لإشكالات أي مجال ما لم يكن التخصص فيه هو الفيصل في الحكم النهائي. والإمام الصادق (عليه السلام) اعتمد على التخصص في كل المجالات في مدرسته المميزة، فوجدنا فيها علوم الفقه والحديث والسيرة والكلام والفلسفة والنظريات والطب والكيمياء والرياضيات وغيرها. كما خرّج العديد من الطلاب في شتى مجالات العلوم والآداب والمعارف، كما أنه (سلام الله عليه) كان قد خصّص النوابغ والمتميزين من طلابه -كل حسب تخصصه- في الرد على المسائل المتعلقة بعلم كل منهم وتصدرهم مجال علمهم (كهشام بن الحكم الذي تخصص في المباحث النظرية، وتخصص زرارة ومحمد بن مسلم واشباههم في المسائل الدينية، كما تخصص جابر بن حيان في الرياضيات وعلى هذا الترتيب). (١) فالتصدي لأي مجال من المجالات دون خلفية معرفية وتخصص قد يضر أكثر مما ينفع، وهو درس لنا نتعلمه من منهج الإمام الصادق (سلام الله عليه) في وقتنا الراهن، حيث كثرت شبهات التيار الإلحادي ولغطهم وإشكالاتهم الملتوية، فلا يصح أن يتصدى لهم من لم يكن متخصصًا في الرد على شبهاتهم العقائدية، وإلّا فسيكون ضرره على الخط الإسلامي أكثر من نفعه؛ لأنه سيتخبط في متاهات معرفية لا يضاهي آفاقها الواسعة. ٣-الالتزام بآدب النقاش والحوار والمناظرة: وهذا واضح جدًا من خلال ما عُرف عن تلامذة الإمام الصادق (عليه السلام)، حيث أدّبهم على الالتزام بأدب الحوار والمناظرة، وهذا ما لمسناه واضحًا في محاورة ابن أبي العوجاء مع المفضل بن عمر، وإشادة ابن أبي العوجاء -وهو من كبار الملحدين- بالتزام الإمام الصادق (سلام الله عليه) وتلامذته بأدب الحوار والنقاش بقوله للمفضل: (يا هذا، إن كنت من أهل الكلام كلمناك، فإن ثبتت لك حجة تبعناك، وإن لم تكن منهم فلا كلام لك، وإن كنت من أصحاب جعفر بن محمد الصادق فما هكذا تخاطبنا، ولا بمثل دليلك تجادل فينا، ولقد سمع من كلامنا أكثر مما سمعت، فما أفحش في خطابنا ولا تعدى في جوابنا، وأنه الحليم الرزين العاقل الرصين، لا يعتريه خرق ولا طيش ولا نزق، يسمع كلامنا ويصغي إلينا، ويتعرف حجتنا، حتى إذا استفرغنا ما عندنا وظننا إنا قطعناه، دحض حجتنا بكلام يسير وخطاب قصير، يُلزمنا به الحجة، ويقطع العذر، ولا نستطيع لجوابه ردًا، فإن كنت من أصحابه فخاطبنا مثل خطابه) (٢) ومن هنا يجب علينا الالتفات إلى هذه النقطة الجوهرية في الحوار والنقاش مع الفكر الآخر، بأنه مهما كان الشخص يبلغ من الدرجة العلمية في تخصّصه، فإنه لا ينفع للمناظرات والنقاش ما لم يتحلّ بآداب الحوار والمناظرة، لأنه قد يضر أكثر مما ينفع، خاصة عندما يستفزه الطرف الآخر، فلا يتحكم بأعصابه فينفعل، أو يهمش الطرف الآخر أو يلغيه أو يستهزئ به وبفكره، فإنه يقطع طريق الحوار وهداية الطرف الآخر ويعكس صورة سلبية لفكره الصحيح والهدف من المناظرة. ٤- تأليف الكتب والرسائل في الرد على الشبهات: ومن الواضح أهمية نشر الكتب والرسائل في رد شبهات واشكاليات تلك التيارات الفكرية المنحرفة وفي زرع الوعي في المجتمع وكشف ما يخلطون من الأوراق على العامة، وكشف ثغراتهم وخواء فكرهم القائم على الالتباس وخلط الأوراق مع بعضها، وهو بدوره يعمل على تحصين فكرنا الإسلامي الصحيح وأفراده، ولهذا كانت ردود الإمام القمة السامقة في الحجة والبرهان، وخاصة تأليفه لكتاب (توحيد المفضل) الذي كان من أسبابه الرئيسية محاورة ابن أبي العوجاء مع المفضل بن عمر -التي أشرنا إليها في النقطة السابقة- حيث يُعدّ من أرقى الكتب الاستدلالية في العقائد وعلم الكلام حتى وقتنا الحاضر، وكذلك كتابته للرسالة المسماة بـ (الاهليلجة) مع عظم قيمتها العلمية والطبية، إضافة الى العقائدية دليل على استخدام أدب الحوار والنقاش الذي ينظر إلى الخلفية العلمية للمشكلين وتخصصهم بحيث يلزمهم الحجة بما يتقنون ،وسنأتي في الأجزاء اللاحقة من هذه السلسلة –إن شاء الله تعالى- إلى بيان اهمية كتاب توحيد المفضل ورسالة الاهليلجة بشئ من التفصيل. وقراءتنا لأسلوب الإمام في التصدي بتأليف الكتب والرسائل توحي لنا بأهمية تكثيف النشر لتحصين المجتمع من سمومهم الفكرية، التي يبثونها في جميع وسائل الاعلام المقروءة والسمعية والمرئية، وتعرية فكرهم الضحل الذي صوره لنا الإعلام المضاد بمظاهر الحداثة والتطور كسلاح قوي في الحرب الناعمة، التي هي أخطر بكثير من الحرب العسكرية، للسيطرة على العقول التي لا تعي حجم المؤامرة التي تتعرض لها، وتردد بلا فهم عميق إشكاليات التيار الحداثوي، ولهذا علينا أن نعي بشكل حقيقي أهمية الإعلام وتكثيف النشر لعلوم أهل البيت (عليهم السلام) في الرد على تلك الشبهات، فأصل الشبهات واحدة على مر العصور، وحتى الطرف الآخر نفسه وإن تعددت مسمياته أو اختلفت حسب كل عصر. ٥- عقد المناظرات والمؤتمرات والندوات: التي من شأنها تشخيص الأدواء الفكرية ومعالجتها، إضافة إلى وقاية المجتمع من آفاتها والتقرب إلى أفراد المجتمع بشكل أقرب، والاستماع لطبيعة المغريات التي تستدرجهم للوقوع في فخاخ التيارات الفكرية، والعمل وفقها على تحصين مجتمعاتنا وشبابنا من الانجرار والتأثر بها. ____________________ (١) النبي واهل بيته قدوة واسوة، ج٢ ، ص٦٨. (٢) توحيد المفضل، ص ٢.

المناسبات الدينية
منذ 5 سنوات
4646

النبي وصناعة الإنسان

بقلم: عبير المنظور أولت الأديان السماوية وخاصة دين الإسلام الحنيف أهمية خاصة للإنسان، وأن جميع الشرائع والأديان نزلت لهدايته. الإنسان في الفكر النبوي هو الغاية وهو الوسيلة في الوقت ذاته، فالنبي (صلى الله عليه واله) كان يهدف بالدرجة الأولى إلى صناعة الإنسان بما هو إنسان، إنسان بإيمانه، بعقيدته بمبادئه، بوعيه، بفكره، بمشاعره، بوجوده ككل والهدف من وجوده. لصناعة هذه الغاية (الإنسان) استخدم رسول الله (صلى الله عليه واله) الإنسان نفسه كوسيلة لتحقيق تلك الغاية انطلاقًا من المبدأ القرآني (إن الله لا يغير ما يقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) [الرعد/١١] فالإنسان هو وحده قادر على صناعة الإنسان كإنسان إذا التزم بتعاليم النبي (صلوات الله وسلامه عليه وآله) وتمسك بدينه القائم على الفطرة الإنسانية والمبادئ الحقة. واستخدم رسول الله (عليه وعلى آله آلاف التحية والسلام) في تحقيق ذلك عدة أساليب مهمة منها: * رسم معالم طريق الحق. *ترسيخ تعاليم الشريعة الإسلامية في المجتمع. *إشاعة الثقافة القرآنية بين أوساط المسلمين. *التأكيد على أخذ العظة والعبرة من الأمم الأخرى، خاصة المذكورة قصصهم في القران كمحاولة منه (صلى الله عليه وآله) لترصين المجتمع الإسلامي أكثر من خلال التعلم من السنن الكونية والتاريخية في هذه الحياة. كل تلك الأساليب على المستوى النظري. أما على المستوى العملي فنرى أن رسول الله (صلى الله عليه وآله): *قد عمل على توحيد كلمة المسلمين ومؤاخاتهم مع بعض. *بالإضافة الى تعزيز الأواصر والروابط بين المسلمين. *وترسيخ تلك القيم النظرية على أرض الواقع لصنع جيل مسلم واعٍ ومدرك لمسؤولياته الكبيرة في الحفاظ على وحدة المجتمع واستقامة أفراده وتقويم الاعوجاج فيه بالحكمة والموعظة الحسنة. * نبذ التنافر والتناحر والنعرات القبلية والصفات الجاهلية وتذويب كل تلك الخلافات في بوتقة الإسلام الواحد الذي يجمع الجميع تحت سقف الجميع، فكان الإسلام دينًا سامٍ وحضارة وعلمًا وصل إشعاعه الى أوروبا وأنار عصورها المظلمة. وما أحوجنا اليوم لتطبيق فكر النبي (صلى الله عليه وآله) في أمتنا الآن في هذا المقطع الزمني بالذات من تاريخ العراق حيث نحتاج لتوحيد الكلمة ورص الصف من الداخل لننطلق بقوة مرة اخرى الى الخارج لنطبق مبادئ الرسول (صلوات الله وسلامه عليه وعلى اله الطاهرين) التي أرادها من صناعة الإنسان أولًا في داخل مجتمعه ثم النهوض بهذا المجتمع بصلاح أفراده ثم انطلاق المجتمع المسلم الى آفاق واسعة نضيئها بنور الإسلام وتعاليم نبي الرحمة.

المناسبات الدينية
منذ 5 سنوات
1867