بقلم: حيدر عاشور العبيدي ها قد مَضت ثلاثة أعوامٍ دون أنْ يأتيَ كما وعدها وأقسم لها... ثلاثةُ أعوامٍ كأنَّها دهورٌ ثقيلةٌ من الأوجاع والهموم والذلِّ اليومي، وهي تنوءُ بعبء الأبناء الأربعة... ولدان وبنتان كُبراهما في الدراسة الإعدادية، والثلاثةُ الباقون في المتوسطة والابتدائية... من أين لها أنْ تُلقِمَ هذه الأفواه الأربعة وتشتري لهم الملابس أيام الدراسةِ والأعياد...؟ ومُتطلبات المنزل التي لا تنتهي، وهي امرأة... كان بكاؤها الليلي هو العزاء الذي تلجأ إليه، ودمعُها الساخن تبتلُّ منه وسادتها البائسة.. امرأةٌ في أيامٍ عاصفةٍ وكأنَّ العيشَ سباق وحشيّ، لا أحد يلتفتُ فيه إلى الآخر، وهؤلاء الأولاد الأربعة لا يعلمون شيئًا، فهم يطلبون ويحتجون ويمرحون دون أنْ يلتفتوا إلى تلك الأمّ التي تتمزق في كلِّ يومٍ، بل في كلِّ ساعةٍ وهي تلتقط المال اليسير مرةً من أختها أو تستدين من الجيران، ولكن إلى متى تبقى تستنزف الآخرين...؟ سُهى الابنة الكبرى تُحاصِرُها دومًا بالسؤال عن الأب الغائب وحقيقة غيابه هل هو مسافرٌ أو ميت؟ كانت عيناها تغرورقان بالدمع وهي تجيبُها بأنَّ أباها قد مات بالأحداث في قتال الشوارع والموت المجاني الذي هيمنَ كريحٍ جهنميةٍ فوق هذه الأرض، وحين تتحدثُ لابنتها عن موت أبيها الوهمي تتذكرُ القصة الحقيقية حين عاد إليها في تلك الظهيرة المشؤومة وطالبها بالمال وما تمتلك من المصوغات الذهبية لأنه وجد عملًا تجاريًا كبيرًا خارج الحدود، وسيعودُ خلال ستةِ أشهرٍ لتُصبحَ العائلةُ من أغنى عوائل المنطقة، إنَّها فُرصةُ العُمرِ وبابُ الثراء وقد انفتح بوجهنا... كان يلهثُ بغضبٍ وهو يُمسِكُ بها ضاغطًا بأصابعه حول عنقها وكأنَّه قد فقدَ صوابَه وهو يصرخ: اعطيني ما عندكِ... ألا تُريدين منّي أنْ أعملَ وأوفرَ لُقمةَ العيشِ لهؤلاءِ الأربعة، لا عملَ هُنا سوى القتالِ والقنصِ والاختطاف... لا بُدَّ أنْ أُضحي بكل شيءٍ وأسافر لكي أوفرَ لكم ما تقتاتون عليه... سأُحوّلُ لكِ المالَ شهريًا وبما يجعلكِ لا تحتاجين إلى أختكِ زهرة وغيرها. لم تجدْ وسيلةً تتخلصُ منه وباتتْ وكأنَّها تريد أن تُصدِّقَهُ هذه المرة فلعلّه شعر بالهوان وذلِّ العيش ورُبَّما وجد الخلاصَ في السفرِ والعملِ في الخارج... لم تسألْه حينها عن العملِ وطبيعتِهِ، لكنّها اكتفتْ بإخراجِ تلك القِطَعِ الذهبية ومبلغٍ من المال قد احتفظتْ بهِ لأيامِ السوءِ المشؤومة التي تنتظرها كما أوصتْها أمُّها بألّا تفرطَ بهذه المخزونات إلّا للأيامِ العصيبة، لكنّه بعنفِهِ وعناده، جعلَها تضعُفُ وتمدُّ يدها بارتعاشٍ إلى ذلك الكنزِ الصغير لتُسلِّمَه له وهي تتطلعُ إلى السماء أنْ يكونَ هذا الأبُ صادقًا مع نفسه وفيًا لها ولأولاده الذين ينتظرونه، وهم لا يملكون في هذه الدنيا الصاخبة والدامية سواه، وأمّ ضعيفة عاجزة عن كلِّ عمل، وفي بيتٍ بائسٍ مُستأجر... لا تدري كيف غامرتْ تلك المغامرةَ وأعطتْه كل ما تملك؟! لعلّها قارنت موقفَه كأبٍ يريد فعلًا إنقاذ أولاده مثلما تفعل هي... لكنّه غدرَ بكلِّ شيءٍ وخيّب ظنَّها وأطاح بها إلى القاع مرةً واحدة دون أنْ يهتزَّ له شعورٌ وهو يُلقيها وأولادها إلى هذا المصير المجهول... ألم يُفكرْ بابنتِهِ الكبيرة من الانزلاق في أمورٍ أخرى؟ ألم يُفكرْ بأنْ ينحرفَ الأولادُ أو تَضعُفُ الأمُّ وتبحثُ عن المال دون التفكير بمصدرِهِ، وقد تبيعُ نفسَها من أجلِ أن يبقى الأولاد يأكلون ويلبسون وتدفع إيجار البيت الشهري؟ لم يعُدْ أمامها سوى الاقتناع بالطريقة التي أخبرتْها بها إحدى قريباتها بأن تتوجهَ لإخراج معاملةٍ تُثبتُ بها بأنَّ زوجها قد قُضيَ عليه بالأحداث وساعدها أحدُ العاملين في المستشفى باستحصال ورقةِ وفاةٍ مقابل مبلغٍ من المال، وكلُّ ذلك من أجل الحصولِ على راتبٍ شهري كونها تعيل أيتامًا... وقد خففَ عنها الراتب الذي بدأت تتسلمه شيئًا من المُعضلة المقيتة التي وجدت نفسَها فيها بعد أنْ غابَ الزوج هذا الغياب الغامض. هل يُعقلُ بأنَّه حيٌّ ولم يشعرْ بما يحدثُ لأولاده في هذا الجحيم اليومي الذي يعيشون بين نيرانه؟ ركنتْ إلى واقعها وبدأتْ تتناساه أو تُهملُ ذكراه، بل اعتبرتْه ميتًا بالفعل، فالذي يموتُ ضميرُه هو في الحقيقةِ جثةٌ تمشي على الأرض. وبعد مُضيِّ الأعوامِ الثلاثة وما فيها من كَمَدٍ وعَوَزٍ وذُلٍّ فوجئت في يومٍ ما وهي تسيرُ في السوق بأنَّ هناك من يتعقبُها التفتت فوجدتْه... إنه (الزوج الغادر)! فقدتْ صوابَها وهي تُمسِكُ به غير مُصدِّقةٍ، أمسكَها بقوةٍ ولاذَ بها في إحدى الزوايا ووضع يده الخشنة على فمها... قالت له صارخةً: لماذا جئتَ؟ وماذا تُريدُ منّا؟ فالأولادُ أيقنوا تمامًا بأنَّك قد متَّ يوم بِعتَهم وبِعتَني ولم تُفكرْ بنا كلّ هذه السنين، ما الذي فعلتَه برحلتكَ اللعينة... هزَّ رأسه وقال: لقد خسرتُ كل شيءٍ واستدنتُ حتى أجرة العودة... أرادتْ أن تصفعَه بكفها لكنها ترددت أنْ يتطورَ الموقف. - أرجوكَ ابقَ ميتًا ولا تعُدْ إلينا. - كيف... أنا أريدُ أولادي... وأريدُ الراتب الذي (تقبضينه) كلَّ شهرٍ أليس الراتب باسمي. - يا لوقاحتكَ لم أكنْ أتصورُ أنَّك بالدناءةِ والخسّةِ والضِعةِ التي أنتَ فيها. - إذا لم تمثُلي وتُعطيني المال الذي اطلبُه سأخبرُ الجهاتِ المختصة، وهذا تزويرٌ وانتحال، وضميري لا يقبلُ مثل هذه الأعمال الشائنة. كان يتحدثُ عن الضمير وقد أجّجه بها غضبًا بركانيًا، فهو آخرُ من يحقُّ له أنْ يتفوهَ بهذه الكلمات البرّاقة... إنَّه أبٌ جاحدٌ وغادرٌ... قالت له: -سأعطيكَ بعضَ المال شريطة ألّا تُرينا وجهَك الذي يُشبهُ وجه الغراب... إنني مستعدةٌ أنْ أدفعَ لكَ الراتبَ لكي تبقى ميتًا في نظرنا وللأبد. ضَحِكَ بتفاهةٍ وسار خلفها كالعبدِ الذليل...
اخرىبقلم: حيدرعاشور لم يبقَ لي في هذهِ الحياةِ الغارقة بالأحزان وطغيان الألم والأنين الذي رافقني منذ موت ابني الذي كادَ أنْ يلتحق بالجامعة بعد أنْ أنهى دراسته الإعدادية. كان مولعًا بالشعرِ منذُ صغره، ربما كان متأثرًا بأمي التي كانت تُنشدُ الأشعار الحزينة في المناسبات المؤلمة لاسيما في نهايات الليل، وفي خلوتها وعزلتها في غرفتها، فقد شعرتُ بأنّه يتلصصُ عليها ويكتبُ بعض ما تلتقطه أُذُناه من كلماتٍ وصورٍ مؤثرة، نسجتْها الذاكرةُ الشعبيةُ حين تُعاتبُ الزمنَ والأولاد والزوج والقدر، وظلم الآخرين، والغدر، والوحدة، والكبرياء الضائع وسط الزمن الرخيص، وهي تؤطرُ تلك الأشعار بصوتٍ حزينٍ يُثير الشجن والأسى. وظلّ ماهر يُذكرني بها وقد غادرتنا الى عالم الأبدية ... وبعدها بعامين التحق ماهر بجدته، فشعرتُ كأنّ خيطًا سريًا يربطهما معًا، فكانا هما الاثنين في الحضور والغياب مما زاد من طعنةِ الزمن لروحي وعقلي الذين لم يحتملا ما جرى لي بهذه السرعة، وبدا البيتُ فارغًا وساكنًا حدّ البلادة، وكنت أتجنبُ النظر في وجه زوجتي التي انهمكت في وظيفتها كمعلمةٍ نوعًا من السلوى، لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد بعد أنِ انهارت قدرتي على الاحتمال، ولم أعدْ أحفل بشيءٍ بهذه الحياة، وبدأت تنهش رأسي الهموم، وصورة كلٍّ من أمّي وابني لا تغادر ذاكرتي وعقلي وأحداقي المتعبة. ومع مرور الزمن بتُّ أكرهُ الرجوع إلى البيت؛ لأنه الباعث الخطير على إثارة شجوني.. فأهرب إلى أي مكانٍ آخر، ولأنني موظفٌ في دائرة الآثار، بدأتُ أقرأُ في المكتبة عن سيرة الممالك التي اندثرت والملوك الذين قضوا نحبهم لعلّي أجدُ فيما أقرأُ سلوى أو عزاءً مما أنا فيه؛ فمن يطلعُ على هموم وأحزان غيره ربما تهونُ عليه مصائبه.. أما زوجتي "رهف" فقد انهمكت في تصحيح أوراق امتحان التلاميذ وكتابة درجاتهم وتهيئة الدروس لهم.. وحين مللتُ من القراءة بدت لي عادة السير في الشوارع الخالية، وهي تبعثُ لي شعورًا بالراحة، وكدتُ اعتاد على غلقِ باب غرفتي والاستغراق في عزلةٍ وانطواءٍ غريبين، حتى بدأ الأمر يلحق أذى كبيرًا وفجوةً بيني وبين رهف، إذ لم نلتقِ ولم نتحدث كما في السابق. مرت شهورٌ عديدةٌ ونحن لم نتبادل سوى تحية الصباح أو نهايات الليل، وأنا أعود متعبًا من السير في الشوارع، شعرتُ حينها إنني في وادٍ ورهف في وادٍ آخر، انفصلنا تمامًا نفسيًا واجتماعيًا رغم أننا تحت سقفٍ واحد. ومع مرور الأيام والأشهر دبَّ السأم والضجر بيننا، وكأننا نتهمُ بعضنا بفقدان ابننا الوحيد، وبدأت "رهف" تُكثر الذهاب إلى أهلها وتطوّر الأمرُ حيث تظلُّ غائبةً أسبوعًا أو أسبوعين. وفي لحظةٍ غريبةٍ ومجهولة، لا أدري كيف تطوّر الأمر في تلك الليلة المشؤومة التي كنتُ فيها متعبًا، وأنا أشاهد في الشوارع من في عمره وهم يمرحون ويضحكون ... تشاجرتُ معها لسببٍ تافه، وربما مُفتعل، وكأننا تواطأْنا على الخلاف، وشعرنا أنّنا لا يمكن أن نحتمل الوحدة القاسية، ونظراتنا الحزينة المتبادلة مليئة بكلِّ أنواع التساؤلات والعتاب والحزن الدفين ... قلت لها صارخًا: إنني لم أعد أطيق وجودكِ في هذا البيت ... ساد الصمتُ لهذه الجملة الصادمة ... اقتربت مني تاركة أوراقها: ماذا تقصد؟ _أقصد ... إنني لم أعد أطيقكِ وأنت منشغلةٌ عني بالأوراق والامتحانات والدروس. _ وما الذي تريده مني؟ لم يعجبني ردها البارد وكأنها لا تُدرك بركان الأحزان الذي يعصفُ بعقلي ... صرختُ مرةً أخرى وكأني لا أحتمل الحوار الطويل والثرثرة الفائضة، وقد طوقني الغضب وسد عليّ كل منافذ التفكير.. _ أشعر أننا يجب أنْ نبتعدَ عن بعضنا بأيةِ طريقةٍ، ما حدث نسف ما بيننا.. أصابتها الدهشة مرةً أخرى: _ ماذا تقصد؟ _ اذهبي إلى أهلك واتركيني وحدي، ربما أجدُ حلًا لنفسي ... فأنا لم أعد أفهم نفسي. لم تطِق رهف صبرًا، فأخرجت ملابسها وحاجياتها واتصلت بأهلها وطلبت من شقيقها إسماعيل أنْ يأتي ويأخذها، حاول إسماعيل هاتفيًا أنْ يؤجل الأمر حتى الصباح، لكنها احتدت في طلبها وقالت له: _ إذا لم تأتِ إلي فإنني سأخرج هذه الساعة وحدي... وبعد ساعةٍ أو أقل خرجت دون أنْ تنبس بكلمةٍ، وأنا أغلق باب غرفتي تحسبًا لدخول إسماعيل وتجنبًا لثرثرته المعروفة. وها قد مضى على تلك الليلة أكثر من سنتين، وأصبح البيت وكأنه بيت أشباحٍ، واستغرقت في عزلتي وطلبتُ إجازةً طويلةً من وظيفتي، شعرتُ لأول مرة في حياتي بهذه الوحدة القاتلة ولم يكلف أحدٌ نفسه لزيارتي، أما أختي الوحيدة التي تسكنُ (بعقوبة) فقد انقطعت بها السبل وضاعت اخبارها بعد الأحداث الأخيرة من تفجيرات وانقطاع الطرق وأصبحت بعقوبة المدينة الوادعة عبارة عن مدينة مُخيفة وساخنة، وكأن أختي تبعث بأخبارها وتوصي بأنْ لا أفكر بزيارتها أبدًا. صار البيت يُخيفني وقررتُ في لحظةٍ غريبةٍ أنْ أسكن في مكانٍ آخر، فلربما أجد شيئًا من الراحة وبالفعل هجرتُ البيت، وخشيةَ أن يُنهب أو يُحرق قررت أنْ أؤجره وأقيم في أحد الفنادق... وبهذا دخلتُ إلى عالم الفنادق الغريب، والذي تتحول فيه إلى إنسانٍ منقطعٍ عن العالم وتصبحُ مجرد رقمٍ أصم في السجلات، وأنت تحملُ مفتاح غرفتك، تتلمسه كلّ لحظةٍ خوفًا من ضياعه، وأيقنت أنّ الناس ينظرون إلى من يسكن الفنادق على أنّه إنسانٌ من الدرجة الثانية؛ لأنه اختار الخروج من عوالم الناس إلى نوعٍ من الفردية الموحشة. وفي الأشهر الأخيرة أدمنتُ زيارة المقبرة، وفي كلِّ مرةٍ أشعرُ بالضياع والبحث عن ماهر لما ينتابني من شعورٍ غريبٍ وانفعالٍ محتدم ... وفي أحد الأيام وفي صباحٍ مبكر جدًا اتجهت إلى القبر وأنا أحمل بعض الزهور والماء، أصابتني الدهشة القاتلة وأنا اسمع صوتًا يشبه صوت ماهر وأرى ملامحَ تطابق وجهه ...رتلتُ بعض الآياتِ مع نفسي .. ما الذي يحدث؟! هل نهض ماهر من قبره؟! ... بدأت أتحسس عينيَّ المُتعبتين في هذا الغبش الصباحي وأسرعتُ من خطواتي .. وحين وصلتُ أدهشني الأمر أكثر وكشف لي عن حقيقةٍ أغفلتها كلّ هذه الأعوام .. فلقد وجدتُ رهفَ وهي تبكي بحرقةٍ مؤلمة وتنادي ماهر بكلماتٍ وتعاتبه لأنه تركها وحيدة... كمِ اجتاحني الشعور بالذنب وما زال رأسي يدور من تطابق وجهها مع وجه ماهر، وصوتها! يا إلهي ... لماذا لم انتبه إلى هذا التشابه، ثم عدتُ لأقول: ليس في الأمر غرابة، فهي أمه، لكني كنتُ مصابًا بعمى الأحزان التي أفقدتني الانتباه إلى ما حولي ... اقتربتُ منها فشعرت أنّها ارتبكت أو أنها لم تتوقع حضوري في هذه المصادفة الغريبة ... سألتها سؤالا عاديًا: _ هل جئتِ لوحدك؟ _ معي إسماعيل ذهب ليزور قبر أمي. وبعدها لم أستطع أنْ أنطق جملة أخرى، وقد استغرقنا في بكاءٍ غريب ... شعرتُ كم هي قريبةٌ مني وهي تشاركني هذا الحزن الذي أكل قلبي وعقلي ... لكن هاجسًا وُلِدَ على حين غرةٍ ودون توقعٍ أو تخطيط بأنّي لابُد أنْ أعيد "رهف" لأنها تحملُ كلّ هذا العبق الذي يُذكرني بماهر، وأدركتُ بأنّ الكائن الوحيد الذي يشبه ماهر على هذه الأرض هي "رهف" أوضحتُ لها شعوري بسرعةٍ وجرأةٍ وتحت تأثير الانفعال ... اندهشت وقالت: يجب أنْ تهدأ، فإسماعيل لا يحبُ أنْ يراك _ إنني سأعودُ إليكِ بأيةِ طريقةٍ وستعودين إلى بيتكِ. أجابت بحزن: _ ليس الأمر بهذه السهولة فنحن في مجتمعٍ تحكمه التقاليد وأنت تعرف أنّ الأمر معقد.. جنّ جنوني حين حضر إسماعيل بوجهه المقطب، تحدثت معه بقوةٍ وقلت له: حين نعود إلى بغداد سأتوجه إليك طالبًا عودة "رهف" وأنا حاضر لكلّ الاجراءات التي يفرضها الدين والتقاليد، لقد وجدتُ ابني في أعماق هذه المرأة وعسى أنْ يعوضنا الله بماهر آخر. أمسك بأخته وسارا بعيدًا بعد أنْ وجد أنّ حالتي لا تحتمل النقاش، ولاسيما نحنُ في مقبرة ... لكنني قرأتُ في عينيه وعينيها موافقةً خفيةً تحتاجُ مني أنْ أسرع في خطواتي فتوجهت مسرعًا خلفهما وكأني وجدتُ... ملاذي الأخير.
اخرىبقلم: حيدر عاشور صوتُ أمِّها أجملُ أرثٍ بقي لها يُحيط بها كالهواء. بقيت وحدها تصارع الحياة، بلا جرأة ولا خبرة، بعد أنْ غادرت أمُّها إلى مليكها المقتدر. البطولةُ الجميلةُ التي قدّمتها، قد تكون ساذجةً، لكنّها تشعر أنّها حققت رسالةً ستفتخر بها عند من لا يضيع عنده عمل عامل. فكيف إذا كانت خدمتها لمن كانت الجنة تحت أقدامها..؟! ببساطةٍ إنّه استسلامٌ لواقع حالها، بعد أنْ ضاق عليها البيت الذي كان يومًا يشبه النهر، أصبح صامتًا فارغًا من الحياة. الليلُ يهبط، وغرفُ البيت أبوابُها مغلقة. الصورُ على الحائط آخر بقايا الوجوه التي ملأت حياتها، أمست معتمةً يُضيئها ضوءٌ منعكسٌ من النوافذ يمنحها نوعًا من الاطمئنان والهدوء. الأمرُ قد تجاوز الحزن فالأمُّ الراحلة أخذت حنان أخواتِها الأربع، وما عاد جرس الباب يُدَقُّ كالسابق، إنّه هادئٌ كهدوئها ووحدتها. توقف عن الدقِّ كما توقفوا عن السؤال عنها، فالأخوات نسينَ وعودهن وتنكّرنَ لوصيةِ الأمِّ؛ لأن المال كان دائمًا ثمينًا، والنفوس يغلبها الطمع. لم يبقَ قربانًا أبيض تُقدمه كتضحيةٍ لحياتهن ونضوجهن. وهي من قبلت أنْ تكون مع الجنة رغمَ فُرصِها الذهبية في الزواج، فجمالُها كان يفوقُ جمال أخواتها، ويُثير الانتباه والحسد والرغبة لكلِّ من يراها، كانت ملامحُها بيضاء كالثلج، دقيقةَ الأوصاف، الجبهةُ ناصعةٌ وعريضة، والوجنتان متوردتان، والعينان اللامعتان، والأنف المميز بحجمه الصغير والمُثير باستقامته، ودمُها الخفيف، وابتسامتُها الودود، تجعلُ كلّ من ينظر إليها من الجيران وأهل المنطقة يُطلق عليها اسم (الملاك)، ويمازحنها العجائز بقولهن: "إنّكِ القديسة يوسفية". كانت حياتُها بعد أنْ تركت المدرسة بوقتٍ مبكر قد أضفت إلى شخصيتها الكثير، وهي تقود أسرتها بهذه المثالية العالية والتضحية التي قلَّ نظيرها في زمنِ خلط الأوراق والوصول بطبائع البشر إلى القمم في الكذب والنفاق والإلحاد والإيمان والمعرفة والعلم، كلُّها قممٌ، والكلُّ يرى نفسه أفضل من الآخر، لكن لم يفهمْ أحدٌ ما يختلجُ في صدرها سوى أمها، والآن قد رحلت. بدت "يوسفية" في حالةٍ صعبة جدًا، وشديدة الارتباك والإحباط، لا تعرفُ بماذا تُجيب على عروض وطمع أخواتها..؟. أحسّت أنَّ بلعومها يزداد جفافًا، وتنفسها يضيق، فكلُّ تضحياتها ذهبت أدراج الرياح، وأحلامها تلاشت. والبيت بكلِّ أركانه وذكرياته يبدو موحشًا، يسوده صمتٌ لا يقطعه إلا صوت طيور الحب الملونة التي تزقزق وكأنّها تكلمها، تلومها، توبخها. اتسعت عينا "يوسفية"، وبصوتٍ خجول منخفض تكرر متسائلة: - أنتِ أيتها الطيور تحدثيني، أتكون تلك التضحية خاطئة؟! هي حقيقة إنسانية، بماذا تأمرين الآن؟ ياااه، إنّ تضحياتي لم تحققْ نجاحًا إنسانيًا ولو بقدرٍ بسيط من رابطة الدم. أيتها الطيور الجميلة إنَّ تضحيتي، إنّما هي من العظمة بحيث لا يُمكنني التعبير عنها، فهي خالصة لله أولًا، وبرٌ بوالدتي ثانيةً. سحبت نفسًا عميقًا، وعيناها تلمعان شاخصةً صوب الطيور، ورجعت إلى صمتها المطبق كما لو كانت تشحذُ ذاكرتها. ثم انتفضت كمن مسّها شيءٌ خفي لحظتها، فرفعت رأسها ووضعته بين كفيها، وأخذت بالبكاء الممتلئ بالجزع، ونشيجه يعلو ويهتز له كلُّ جسدها الرطب والمحروم، قرارُها كان فيه نوع من التنازل، قرارٌ تجمعت فيه كلُّ مشاعر الخجل والغضب والرغبة في ردِّ اعتبارها أو الانتقام من أخواتها لما فعلن بها من التهجير الروحي والنفسي والمكاني، قرارُ الانتقام هو نتيجةٌ كتمتها في قلبها الطيب. قد انصهرت فجأةً على صوت زقزقة عصافير الحب، وانفجرت لتملأ البيت بالصراخ والدموع التي لم تتوقف إلا بدقِّ جرس الباب. فتحت الباب، كانت خائفةً فهي أمام الأمر الواقع، فنظرته الماكرة والمستذئبة كانت بمثابة ضياع خمسة وثلاثين عامًا من عمرها، فمالت لائذةً وراء الباب منتظرةً صاعقة الطرد من البيت، حالمة من هذا المالك الجديد لذكرياتها وأنفاس والديها، أنْ يمنحها وقتًا يسيرًا حتى تدبر أمرها. جرجر طلبها نفسه بتمنٍ هادئ، تاركًا خلفه خيط أملٍ رطب.. فجأةً ومن دون وعي، ظهرت أمامه وتدفقت كلماتها وأفكارها في موقفٍ لا يرحم، أحيانًا تأتي المفردات من تلقاء نفسها، تحمي الإنسان من مهالك القدر، رفعت رأسها لترى وجهه، نسيت نفسها لوهلةٍ وهي تنظر إلى عمقِ عينيه، وانتشرت على وجهها ابتسامة رقيقة خجولة، حنت رأسها وأخذت جانبًا وهي تُردد باستيحاء: ــ تفضل إلى بيتك، لديَّ ما أقوله لك، هداك الله على مسكينةٍ ويتيمة مثلي. فأجابها بلهجةٍ فيها اشمئزاز متعالٍ في قبول دعوتها للدخول إلى بيته، كان رجلًا بشرته شديدة البياض، وله عينان واسعتان ومدورتان، سوادهما ملفتٌ للنظر مثل شعره، وجبينه متميز بعلامةِ تعفيرٍ واضحة، وهي إحدى علامات الإيمان والتقوى. لم تكن "يوسفية" تعرف الشوارع التي يعتاش منها الناس، إلا ما عرفته من بيت والديها ومن أخواتها وأزواجهن الذين يأتون إليهم ويخرجون. وكان حبُّ أمها مقدسًا يحجب عنها رغباتها، كالقمر والشمس يحجبان عن أشياءٍ كما يحجبان عن الوجوه. فهي فتاةٌ خام في أطباعها وقعت فريسة خيانة أخواتها، فمن يدخل وجر الصبر والانتظار والتضحية لا يملك انْ يخرج حافيًا من الحياة. صوتُ زقزقة طيور الحب يقطع صمتها أمامه، ويبعث بصيصًا من النور يخترق البيت الهادئ، تنظر إلى سورة الكرسي تقرأها بقلبها: يا الله سنواتي العجاف مثقلةٌ بالذنوب، وأنت أعلم بها فكلُّ ذنوبي وهي كانت تصبُّ في رضا أمي وسعادة خواتي. ما الذي يريدونه مني، يلاحقونني حتى في وحدتي، وبما ضيعته في تيهِ فتاةٍ اختارت سعادة الآخرين، ولم تعي بما اختارت ليصبح عليها فجر الوحدة المصبوب بالكوارث. قطع توسلاتها الصامتة: ــ إلى ماذا تنظرين أيّتها السيدة؟ وماذا تريدين مني؟ كوني شجاعة وصارحيني برغباتك..؟ وضعت (يوسفية) يدها في حضنها متشابكة ورفعت بصرها، كان وجهها بين الهدوء والقلق والحذر، ثم أجابت : ــ لا أعلم، فذلك يعتمدُ على مدى قناعتك بما سأقوله لك بكلِّ صدقٍ وأمانة. فوجئ (المالك) بقولها بعض الشيء، وراقبها بالنظرات بضع لحظات، ثم قال بنوعٍ من التهكم: ــ حسنًا، أسمعكِ. غام وجه (يوسفية) وأجابت مغتاظة قليلًا: ــ أنت تريد البيت وهو الآن أصبح ملكًا لك رسميًا، لكن سأقصُّ عليك قصتي، ولكَ الأمر في تحديد مهلةٍ ليّ حتى أجد مأوى يحميني بعد خروجي من بيت أمي وأبي بهذه الطريقة البشعة التي خطط لها أعز الناس لروحي. قد يكون ذلك غير مقبول، ولكن لابد من أنْ تسمعني .. شرعت (يوسفية) تروي ما قدّمته من تضحيةٍ لأمها وأبيها وأخواتها البنات، وتوقفت عند منح أمها البيت لها؛ لأنها البنت الكبيرة المطيعة والخادمة لكلِّ عائلتها بقناعةٍ مطلقة وخاصة محبوبتها أمها. وكيف اعترضت وقتها لكون البيت حقَّ الجميع؟! وحينئذٍ تدبّرت أمها وسيلةً لحمايتها، فقد كتبت وصيةً أن لا يباع البيت حتى تتزوج (يوسفية) أو تموت، احتقن وجهها بالدماء وكان غامقًا من الخجل، وهي تضعُ أمامه ورقة الوصية، فأردفت أمامه قائلة: - عرسانٌ كُثُر عرضوا عليّ الزواج في حياة أمي، وإغراءات كبيرة كنت أتعرض لها من قبل نسوة المنطقة وغيرهن من النساء. لكن لم أفكر سوى بأمي المريضة التي تحتاجني بقربها وأخواتي الضعيفات يجب أنْ أؤمن لهن حياتهن بزيجاتٍ محترمة وقد نجحت.. والآن أقابلُ نجاحي بمصيرٍ لا أعلم كيف سيكون في المستقبل؟ الحقيقة يا سيدي، حين يقدم الإنسان حياته للآخرين لا يشعر حتى بنفسه أو بالإغواء، لو كنت قبلت بالإغواء لتزوجت بسرعة الرصاصة، ولكن لا يُغريني سوى ما يُمليه عليَّ ضميري اتجاه أمي المقدسة. كنت آمل أنْ لا يُقبل عليّ أحدٌ للزواج طالما أمي على قيد الحياة، هنا صكّت بأسنانها على شفتها السفلى، وأخفت وجهها على نحوٍ غريب تحت عباءتها. تبع ذلك ثمة فترة صمتٍ طويلة بين المالك و(يوسفية)، وكان منظرها يوحي بالثقة والقناعة، والتحفظ الذي يتباين منها، يشبه القديسات أو الملائكة في سلوكهن الاستثنائي، ذلك الألق المتوهج لشعلةٍ جوهرية نادرة، يُدركها كلُّ من ينظر إليها ولو لمرة واحدة.. عندها تصلّب وجهُ المالك، وتساءل بصوتٍ حزين وودود: ماذا تريدين مني؟ فكلُّ الذي ستطلبينه سيكون قيد التنفيذ وبلا تردد. بدت على وجهها نظرة انبهار وحيرة ممتلئة بالتعبيرات والتوسلات، وقالت: ــ شهران أو ثلاثة وأسلمك البيت، إذ لم أغالِ في تحديد المدة.. رمقها المالك بنظرةٍ كادت أنْ تكون مفتاح الفرج لـ(يوسفية)، وقال: ــ (تمامًا) مثلما ترغبين، أما رغبتي هي أنْ تبقي في البيت لستة أشهر، هل هذا يكفيك حتى تجدي مخرجًا لحياتك؟ غلّفتها شحنةٌ من الفرح، وهي تُعيد كلمات الشكر له، والتضرع لله تعالى أنْ يفتح له أبواب مقادير الرزق على مصاريعها، كانت تبدو أمامه وكأنّها طفلةٌ كبيرة مُنحت جائزةُ البقاء على الحياة، مندهشة حائرة قليلًا، كما لو لم تصدق ما قاله. مع ذلك كانت تؤمن بحدسها بما هو آت، وشعور عن شيءٍ ما قادم لم يجئ وقته بعد، أحسّت أنّها ارتفعت عن الأرض وبدأت تمشي في الهواء دون أي استقرار. ظلَّ سحرُ انتصارها المؤقت قائمًا في روحها بعد أنْ غادرها قلق التشرد في الشوارع. وشعرت أنّها تحررت من التوتر والضيق الناجمين عن لقاء المالك. لقد حسم أمرها بكلمةٍ وختم وبصم بعهدٍ أنْ لا يصلها إلا بعد ستة أشهر، بهذه البساطة كأنّه وضع بذرةً في قلبها فتكونت منها نوبة حادة التفكير والمراجعة لكلِّ نظرةٍ وكلمة، وبنشوةٍ كان قلبها يكشف لها اكتشافًا لا يُصدّق، لا يعرفه أحد سوى نفسها والنبض الذي يرتفع مع كلِّ خيال. بدأت تتحدث إلى نفسها: إنّ نظراته الماكرة والمستذئبة تنمُّ عن تجربةٍ حياتية غنية بالمعرفة، وقد لوّحته الشمس مما تزيد من جماله رغم هيأته الدالّة على الجمود والجد، والأخطر مزاجه المتخفي الذي لا يُعرف له قرار، أو يقهر أمزجة الآخرين. طوله يُشير إلى فحولةٍ مكبوتة، أنيقٌ له مظهر الأثرياء. لأول مرةٍ يغزوها مثل هذا الشعور! قد يكون الرجل الوحيد الذي رأته بهذه الطريقة فأثار فيها نشوةً غريبة وإحساسًا حقيقيًا، فهتفت مع نفسها: يا الله! ما هذا الشعور؟! وظلّت مستغرقةً في مُخيلتها، لا تعي ولا تصدق ما كان يجري حولها وقد انتهى بهذه السهولة. والغريب أنَّها شعرت بالشوق لرؤيته مرة ثانية، فثمة شيء من ضوء الحب قد تسلل إلى قلبها بعد كلِّ ذلك الخيال المُفرح، ولكنّها تضايقت؛ لأنَّ نفسها اللوامة غزتها على حين غرة، لتؤكد لها أنَّ كلَّ خيالها ومُخيلتها خطأ، وأنَّها تخدع نفسها بنفسها، وعليها أنْ تُفرغ دماغها وقلبها من هذا الهوس، وأنْ تجعل نفسها منيعة عن وسوسة الشيطان. لقد سعت طيلة حياتها أنْ تجعل روحها مقدسة وجسدها منيعاً لا يمكن مهاجمته خارج الخطوط الشرعية والأحكام النبوية والسنن الإلهية، رغم أنَّ روحها كانت معذبة، ولكن لم يكن في مقدور أحدٍ أنْ يذلها أو يسخر منها. والحقيقة أنَّ كلُّ من يعاديها كان أدنى منها في الإنسانية والصبر والإيمان، كما كانت تعلم أنَّ من يحاول أذيتها ويهرب منها ويسعى للانفصال عنها نهائيًا إنّما يفعل ذلك ليجردها من نقائها واحترامها لنفسها وإيمانها المطلق بالله تعالى. ولم يسعَ إلى ذلك سوى أخواتها! فهُنَّ اللواتي عرّضنها للتجريح والاستهزاء والكيد، وحاولن تركها وحيدة في الحياة، ومع كلِّ هذه الأحقاد كانت تمتلك القدرة على الاحتفاظ بهن، كما حاولت مرارًا وتكرارًا أنْ تنبههن إلى أنّها أختهن الكبرى، لكن بلا جدوى وصرختها مُجمجمة، لا تُسمع، ولا يرقُّ عليها قلبٌ، وهي تموت وتحيا بين شوقها وخوفها الدائم من ابتعاد أخواتها عنها إلى الأبد. وصلت إلى شعورٍ خارقٍ باليأس، وأعلنت في نفسها عن عجزها، والانزعاج ارتفعت مقاديره النفسية حدَّ اللعنة، إنَّها تفشل في الاحتفاظ بأخواتها رغم كلَّ ذلك الحب وتلك التضحية، عمرها قد تقدّم، ووجهها بدأ يشيخ، وشعرها الذي كانت تمشطه أمُّها لم يعد ينساب كالسنابل الصفراء الذي تتحسس نعومته مما يزيدها ألقًا وجمالًا. والآن هي وحدها تساوم على البقاء في ذكرياتها، بينما أخواتها قد أخذن حصصهن من الإرث، ويتنعمن بها مع أزواجهن، أما هي فلم يعد نصيبها من الإرث يعنيها، فهو في تناقصٍ مستمر حتى بات غير كافٍ لسكن جديد، رغم أنّها اختصرت الكثير من وجبات الغذاء، وأنهكت نفسها بالصيام، لا تأكل سوى وجبةٍ واحدة تُسكت بها صراخ بطنها من الجوع. وانقضت أيامها بسرعة البرق واشتغل قلقها نحو المالك وموعد تسليم البيت من جديد، ولعنةُ فكرة طردها من البيت من قبل ذلك الكائن الذي سكن روحها وبنفس الوقت هو من سيُمزِّق كلَّ أملٍ في البقاء، لم تعد تعي شيئًا مما حولها، تشاؤمها يرسمُ في عقلها شرورَ هذا العالم، وأنَّ الرحمة والإنسانية والأخوة صارت حلمًا في لهب الضياع، عيناها لم تذوقا طعم النوم، وعذابُ نفسها طنينٌ في الأذن يطحنُ روحها ويشلُّ صبرها، يُعطلُ حواسها بمرارةِ قسوة الوحدة، طنينٌ أشبه بالرنين يسحقها ويخذلها يخنقها، يميتها في آنٍ واحد، حتى بدأت تنهار، وهي تدمدم وتتنهد مع نفسها: - العمر سينطفئ بعد شروق الشمس، والعذاب والتشرد سيكونان عالمين جديدين من الضياع، سأنهي ذلك الأمر المعادي والظالم بطعنةِ سكينٍ حادة وأرتاح من هذه القسوة، وليقولوا إنّها انتحرت نتيجةَ خيانةِ العهد بين أمها وأخواتها... لا، أخواتي مسكينات لا يعرفن حقوق الله تعالى، أخاف أنْ يصيبهن مكروهٌ بسببي. وبين فكرة إنهاء حياتها وخوفها من الله تعالى أنْ يصبَّ عذابه على الناكثات للعهد، رنَّ جرس الباب، وانطفأت كلَّ الآمال ومات الخيال، وأصبحت كجثةٍ تتحركُ بصمتِ الموتى، تسعى بنفسها نحو المجهول، قلقةٌ، بانتظارِ رحمة الله تعالى تنقذها من الهيام في الطرقات لا سقف يحميها ولا أقرباء قريبين تلجأ إليهم، حتى أخواتها لا يرغبن بها بسبب أزواجهن، هكذا هي عندما تتراكم عليها الشدائد ويظهر الألم المروّع في قلبها وروحها، يجعلها مشلولةَ الإرادة والتفكير، لا أحد يعرف معنى ترك بيت لم تخطُ عتبته ثلاثين سنة، ولم تضرب الشمس وجهها، لقد ألحقوا بها الذل والأذى وهن يرفضن بوقاحة وصلافة إيواءها بحججٍ واهية، ويتعاملن معها كطيرة جميلةٍ أزف وقت ذبحها، تقتربُ إلى الباب وترسل إليها نظراتٍ مبهمة، كأنها تتوسل بها، وقعت عينيها على حرزٍ وضعته أمّها لوقتِ الشدائد، بدأت تقرأه على أصوات رنين الجرس المستمر: "يا مالك الرقاب وهازم الأحزاب، يا مُفتح الأبواب، يا مُسبب الأسباب، سبب لنا سببًا لا نستطيع له طلبا..."، سرت في أوصالها راحةٌ بمنتهى الدهشة، غير مصدقةٍ نفسها بالفكرة التي راودتها هي أنْ تسأله مدةً أخرى ريثما تجدُ بيتًا للإيجار، أو يأخذ مال إرثها بدلًا عن بقائها في البيت، أو مساعدتها في إيجاد بيتٍ في المنطقة نفسها. فتحت الباب، وقفت أمامه بلا خوفٍ أو تردد، وهي تسأله المساعدة قدر إمكاناته، كأنّها تتمرد وترسل باستمرار نداءات توسلية تتكسر على فمها وروحها، الفشل والانكسار واضحان على مُحيّاها من شدة البكاء الذي جعل وجنتيها ملتهبتين ومُبتلتين بالدموع، قطع كلامها بصوتٍ رقيق وهادئ وقد تجسّمت على وجهه معاني الإنسانية والرحمة: - لا عليكِ، اهدئي، الدنيا ما تزال بخير، وقد عرفتُ قصتك من زوجتي وهي رفيقة أمّكِ، ونُقدِّر لك مرارة فقدانها كأمٍّ عزيزة. شعرت (يوسفية) فجأةً بحزنٍ جارف وكآبةٍ عميقة؛ لتذكرها موت أمها الذي أصبح ذكرى، وأحسّت على حينِ غرةٍ برغبةٍ جامحة في أنْ يتقبلها على علتها ويحقق حلمها الذي عاشت على أطلاله ستة اشهر. التزمت الصمت ولم تعد تنطقُ بحرفٍ، وكان هو كذلك، يلتزمُ الصمت، محاولًا أنْ يحبس دموعه كي لا تراها. استمر الصمت بعض الوقت وهما لا يزالان عند الباب، وكأنَّ خيطًا من الحياة أخذ يظهر على وجهيهما، وتوهجًا خابيًا راح يتقدُّ في عينيهما. تقلصت شفتا المالك الجديد وابتلع ريقه بصعوبةٍ بالغة، فنطق: - يا يوسفية، ناقشت أمر البيت مع زوجتي، ولأنَّ عشرتنا كانت لسنواتٍ خاليةً من الأطفال.. قررت أنْ أعقد معك اتفاقاً، وهذا الاتفاق على محورين، كليهما في صالحكِ ولخدمتكِ، إنْ قبلتِ فالدار ملكٌ لكِ! وإنْ لم تقبلي أيضًا الدار ملكٌ لكِ، وهذا سندُ البيت قد سجّلته في عقارات الدولة باسمكِ، وهذه رغبتي ورغبة زوجتي والله تعالى المستعان، علمًا يا يوسفية أنا لم أساعدك؛ لأنك وحيدة ويتيمة، بل لأنكِ قد أوقدتِ في قلبي حب الإخلاص لله تعالى وللوالدين وبهذا الإخلاص قد كويتِ قلبي بحبٍ فيَّ لله تعالى من النظرة الأولى، والله تعالى وحده يعلم ماذا جرى بي نحوك! كان شيئًا لم أستطع إعطاء تفسير له، لكنَّ زوجتي وضعت الحروف على النقاط فوجدتُ السعادة تنسابُ إلى قلبي بقرارها. أراد أنْ يُعبر عن عشقه بكلماتٍ مختلفة، ولكنَّ الكلماتِ خانته، فاكتفى ينتظرُ الإجابة وهو مُطرقُ الرأس خوفًا عليها من الإحراج، كما لو أنَّه يحاول الحصول على شيءٍ فقده من زمنٍ بعيد. أما هي فحاولت أنْ تُخفي ارتباكها، فقد أبصرت صورةً طبق الأصل عمّا رسمته في مخيلتها، وقلبها يرتعشُ بالسعادة، ووجهها قد احمرَّ خجلًا، وكشفت له عن رضاها بإحساسها وقلبها، وهي تشعرُ بروحٍ خلّاقة جديدة تدبُّ فيها. هو الله تعالى القادر وحده أنْ يُسبب الأسباب، ويُحوِّل الأحوال، ولو انثنت ملايين الثنيات... تمّــت. 28 / 3 / 2020 الساعة الثانية عشرة وعشر دقائق ليلًا
اخرىبقلم: حيدر عاشور كانت يتيمةَ الأبوين، تعيش في كنف عمِّها وزوجته، صغيرةً تقترب من ربيعها الخامس عشر، قرّر أنْ يتقدم إلى خِطبتها وفي أعماقه تموجُ مشاعرُ إحسانٍ ورأفةٍ إزاءَ هذه الفتاة الصغيرة في عالمٍ لم يعد يتحمل أحدٌ أحدًا إذا ما غاب الأبوان، ومما شجّعه على اتخاذ هذا القرار بعد عزوبيةٍ اقتربت من الأربعين، معرفتُه بأبيها رشيد الموظف في عقارات الدولة. في البدء جوبهت رغبة ستار بالزواج من تماضر برفضٍ شديدٍ؛ لفارق العمر، ولأنَّها ترغب في إكمالِ دراستها. وقد تلقى ستار الكثير من اللوم وعتب الأهل والمعارف والأصدقاء بسبب قراره المفاجئ؛ إذ لم يستطع أحدٌ أنْ يدرك المشاعر الحقيقية التي تحرِّكه إزاءها، فهو في الحقيقة يريدُ أنْ يكون لها المنقذ، لا سيما وهو مولعٌ بهذا الدور في حياته، ينطلقُ من روحٍ صافية وإيثارٍ قلَّ نظيره، ولقد تناهى إلى سمعه مكابدة هذه الفتاة الصغيرة لمشاق الحياة؛ لكره زوجة العمِّ لها ومعاملتها بقسوة وغلظة، تصلُ حدَّ إقدامها في إحدى فورات الغضب على تمزيق وإحراق كتب تماضر لكي تبقى في البيت كأيةِ جاريةٍ، تقوم بالغسلِ والكنسِ وشؤون المنزل الثقيلة الأخرى... وبعد أسبوعٍ من رفض الطلب بدأت الأفكار تتداعى في الرؤوس: العمُّ وزوجته وتماضر.. الأول في تخليص تماضر من معاناتها مع زوجته التي عجز عن تغييرها؛ فهي مجبولةٌ على الإيذاء والخبث، لاسيما وهو غير موجودٍ في البيت بشكلٍ دائم، أمّا زوجة العمّ فترغبُ في التخلصِ من تماضر؛ فهي تفكر بتزويج ابنها من ابنةِ شقيقها، وبتزويجها تماضر من ستار، قطعٌ للطريق الذي قد يفكر به زوجها من إبقاءِ البنت في البيت بصفة زوجةٍ لابنها. أما الضلع الثالث والأهم فهي تماضر التي راجعت الفكرة؛ فالحياةُ عسيرةٌ ولم يعد الزواج سهلًا، بل صار كالحلم في زمنٍ تناقصَ فيه الرجال، بعد أنْ أكلتهم الحروب أو أقعدتهم عن الإيفاء بالنفقات بسبب الظروف العصيبة من الحصارات وتدني مستوى العيش وانعدام فرص العمل، فأصبحت النسوة في وضعٍ حرج ولم تعد الشروط القديمة تتماشى مع الواقع العصيب. كما أنَّه يُقال: إنَّ الرجل الكبير أكثر نضجًا من الشاب النزق، والزواج من هذا الرجل هو خلاصٌ من عذابِ زوجةِ العم، لا سيما وقد وافق على الشرط المهم وهو إكمال دراستها، فهي تجد حياتها كلها متوقفةً على الدراسة ونيلِ شهادةٍ عليا. هذا الطموح الجامح جعلها توافق في سرِّها على الارتباط بستار الذي يعمل سائقًا لسيارات الحمل الكبيرة لنقل البضائع بين المحافظات. وفي مواجهةٍ بين العم وزوجته وتماضر، بدأت أطراف الحديث تسير باتجاه ستار وبدأت الكلمات أكثر تبريرًا، ونبرة القبول بدت هي المُحرِّك للحديث، وكلٌّ قد أدلى بدلوه. وهجست تماضر بأنَّ عمَّها وزوجته ينطويان على قبولٍ دفين وشيئــًا فشيئـًا تكاشفَ الثلاثة وكلٌّ تدفعه رغبةٌ لا تشبه رغبةَ الآخر، وكلٌّ ينظر إلى القضية من منظارهِ الخاص. أُبلِغَ ستار بهذه الأخبار السارة فلم ينم ليلته؛ لشدةِ فرحه، وكأنّه قد حقّق حلمًا طال انتظاره، وبسرعةٍ تامة بدأ يهيئ كلَّ شيءٍ وأقسم للجميع بأنَّه سيرعاها وسيوفرُ لها كلَّ صغيرةٍ وكبيرةٍ من أجل تلبيةِ رغبتها في إكمال دراستها ونيل الشهادة العليا لا سيما وهي ذكية وقد نذرت عمرها للدراسة والتفوق. وحين أظلّ السقفُ الجسدين، قبّل ستار تماضر من جبينها وعاملها كطفلةٍ مدللة، وفي خضم الأحاديث التعاريفية والهواجس الاكتشافية همست تماضر له: بأنَّها تنهي كلَّ شيءٍ حين يمنعها من الاستمرار بدراستها. فضحك ستار وأفاض وجهه بالانفعال الطفولي وهو يقسمُ لها بأنَّه سيبقى مصممًا على هذا القسم وسيوفرُ لها كلَّ ما تحتاجه من أجلِ الدراسة وقرّر أنْ يحضرَ فتاةً فقيرةً لتساعدها في أعمالِ المنزل؛ لتتفرغ هي للدراسة فحسب. ومثلما بدأت سيارة ستار الكبيرة تقطع عشرات ومئات الأميال بدأت الأعوام تترى وكلاهما غارقٌ في عالمه، ستار في عالم نقل أنواع البضائع وعشرات السفرات من أقصى المدن إلى أقصاها، وتماضر تستميت في الدراسة والحرص على نيل النجاح بتفوقٍ مدهش. وفي يومٍ من الأيام أقام ستار حفلةً للجيران والأقارب وصديقات تماضر بمناسبةٍ مذهلة وهي قبول تماضر في كليةِ الطب بعد جهدِ السنين والرعاية وتوفير كلّ ما تحتاجه من كتبٍ وملازم، وانتهاءً بتوفير خادمةٍ لها.. ومنذ تلك اللحظات السعيدة بدأ ستار ينادي زوجته بالدكتورة تماضر ولم يطُل الزمن حتى تحوّلت بالفعل تماضر إلى أخصّائيّة في طب وجراحة العيون، وبذل ستار كلَّ ما بوسعه للحصول على عيادةٍ لها في مكانٍ مرموق واستقر الحلمُ في حدقاتِ تماضر. وحين جلست خلف منضدة الفحص تطلّعت في أثاث العيادة التي اكتمل فيها كلُّ شيءٍ من أجهزةٍ وأدواتٍ نهضت وتطلّعت إلى الأفق البعيد عبر النافذة وشعرت بأنَّ شريطًا من الذكريات المرة بدأ يتوامض أمام ناظريها، وها هي تتوِّجُ كلَّ الأعوام الكالحة بهذه النتيجة الحلمية وتسيرُ بزهوٍ فوق أرضٍ صلبةٍ، لكنَّ طرقات الباب القوية سحبتها من عالمها كان وجه ستار أول طالعها حين فتحت الباب، دخل وعلى وجهه بشارةٌ متوهجةٌ وسعادةٌ لا توصف ولولا الخجل لاحتضنها ولكن الزيّ الطبي جعله يُفيق من رغبتِه المُلحة، طلبت منه الذهاب وتركها لتمارس عملها، لم يشعر إزاءها بأيّ شعور.. تركها وهو ينظرُ من بعيدٍ إلى لافتةٍ عُلِّقت على جدارٍ (الدكتورة تماضر حسن) شعرَ بزهوٍ وسعادةٍ، كمن انتهى من صنعِ تمثالٍ جميلٍ، فسار وفي عقله تتداعى كلّ تلك السنوات التي كابدها من أجلِ الوصول إلى مثل هذا اليوم البهيّ. لم يمضِ شهران على هذا الحدثِ الكبير والفاصل حتى شعر بأنَّ تماضر لم تعد تماضر! لقد تغيّر فيها كلُّ شيءٍ، حتى طريقةِ كلامها ومشيتها وطلباتها وقسوتها على الخادمة التي فرّت من البيت دون رجعة. لكن ستار لم يتغير إزاءها، بل ازداد تعلقًا بها وأيقن أنَّ ما حدث لها هو شعور ٌطبيعي بفرحةِ الشهادة وانتقالها من عالمٍ إلى عالمٍ آخر، كم كان بحاجةٍ أنْ تتذكر تماضر تعبه وجهده من أجلها؛ فهما الاثنان ساهما بالوصول إلى هذه الحال من الرقي، هي بدراستها، وهو بدعمه لها وماله وتضحيته، فهو لم يكن يعاملها كزوجةٍ قط بل كأستاذةٍ داخل البيت! وفي إحدى الليالي عاد من سفره البعيد، فوجد البيت فارغًا والأنوار مطفأة، تلمَّس طريقه وسط الظلام وبدأ ينادي: تماضر... تماضر ولكن دون جدوى. اكتشف أنَّها منذُ أنْ سافر في سفرته الأخيرة انتقلت إلى بيت عمها! ولكنه اعتبر الأمر عاديّـًا؛ فلربما شعرت بالوحدة خصوصًا بعد طردها الخادمة. لم يستطع البقاء في البيت وحده فأغلق الأبواب وتوجه إلى بيت العم وجلس لأكثر من ساعة مع العم وزوجته دون أنْ يظهر لها أثر! استشاط غضبًا في أعماقه وبدأ يلحُّ بالسؤال عنها إزاء البرود واللامبالاة التي وجدها في الوجوه، حتى تُوّجَ هذا الموقف المؤذي له بأنْ حدثته تماضر من خلف شباكٍ داخل إحدى الغرف أنَّها قدّمت في المحكمة دعوة تفريق بعد أنْ قرّرت الانفصال عنه. وقف أمام الشباك وهو يكيد نفسه، ويتماسك خجلًا من السقوط، وبدأ يطلبُ منها إبداء السبب، وهل فعلَ شيئـًا لا يُرضيها؟! وهمس بحنانٍ بأنّه سيحضر خادمةً جديدةً إذا تطلّب الأمر، ولم يكن دفاعه عن الخادمة إلا حرصًا على وجود خادمةٍ لها في البيت. بدأت تماضر تحدث بحديثها، وخشي العم وزوجته من تعبير تماضر عن غضبها وكلماتِها الجارحة التي تفوّهت بها قبل مجيء ستار، وأخذت توغل في رفضها العودة إلى البيت، وأنَّها مصرّةٌ على الطلاق حتى لو دفعت كلَّ ما تملك؛ فهي لم تعد قادرةً على العيش معه. وقف ستار مندهشًا وشعر بالتخاذلِ وبنكرانِ الجميل، وأنَّ هذا الكائن الجميل قد انقلب إلى كائنٍ آخر لا يمتُّ إلى الجمال أو العاطفة بأيةِ صلة، لا سيما عندما اصطدمت كلمةٌ بأذنيه وكادتْ أنْ تُفقدهُ عقله وصبره وإيثاره حين قالت له: الناسُ بدأوا يعيّرونني بك. لقد أصبحتَ عارًا لي وعبئـًا يجبُ التخلص منه، كيف يمكن لطبيبةٍ أنْ تكون زوجةً لسائق سيارة حمل؟! لقد تهاوى كلُّ شيءٍ وانهار الحلم وهو يواجه كابوسًا وامرأةً شرسةً بعيدةً عن تلك الفتاة الحالمة. اكتشف اللعبة الغبية التي كان هو بطلها. أمسك بهدوئه وخرج باتجاه الخارج مستعيدًا رجولته لكنّه تذكر شيئـًا فعاد إلى الشباك وقال بهدوءٍ تام: ــ ورقةُ طلاقك ستصلك بأقربِ وقتٍ. خطا خطواته في الليل المليء بالنجوم وشعر بأنَّه تحرّر من لعنةٍ مُؤذية.
اخرىبقلم: حيدر عاشور تطلّعت صبرة عبرَ عينينِ مُثقلتينِ بالكرى إلى أسفلِ الشارع وما حولَ بيتِها ببطء، ورمقتْ هِمّةَ ناسها بهذا اليوم وما يستوجبُ عليهم فعله تخليدًا لصاحب الذكرى. ثمةَ خليطٌ من البقوليات على صفائحَ مُسطحةٍ، والقدورُ الكبيرةُ تجلس على عروشها الحديدية كأنّها صورٌ أثريةٌ أو ألواحٌ سماويةٌ تعيدُ جمالها كلَّ سنةٍ مرة. كان الشارعُ تغمره البيوتاتُ القديمةُ والوحيدةُ التي ترتفع من جهةٍ واحدة، تشبهُ سفينةً عملاقةً تطوّقُ مملكة "الفسحة"* تحتَ قوسٍ مفتوحٍ بأضواءٍ حزينةٍ راجفة، وطقوسٌ تقلد أعوامًا ضوئيةً من الظلمِ والبشرِ والتاريخ.. وعلى الجهةِ الأخرى مقهى (يوسف عرسان) كبرلمان لأهالي المنطقة، ومقر لهيئةِ شبابِ الفسحة تنطلقُ منه مواكبُ التعزية. يُجاوره (خان المخضر) الكبير، أكبر مجمعٍ لبيع الخضروات في كربلاء، ما منْ فلاحٍ وبائعٍ إلا وكان يتواجد فيه. أما سور الخان على طول الشارع فتبرز منه المحلات البارزة والمعروفة كربلائيًا، فعند بابه الكبير (نجارةُ مجيد النجار، وسيد صالح العطار، وهادي كبابي، وسوق السمك، ومقهى لفتة، ومحلات جواد زنكي لبيع الفواكه بالجملة). الشارعُ مهرجانٌ عشوائي دائم لبيع الخضروات، ينطلق مرتادوه من صلاةِ الفجر حتى شروق الشمس، يفترشُ البقالون والفلاحون بضاعتهم المكونة من مختلف أنواع الخضروات والفواكه في كلِّ ركنٍ وزاويةٍ من الشارع. وتبقى المملكةُ مزدحمةً طوالَ النهار بالغرباء والتجار والوسطاء، لا تنصاع لأية أنظمة. أهالي المملكة الأشقياء يظهرون بشكلٍ خاصٍ بمحرم الحرام، كسوارٍ مُتحركٍ متجدد في كلِّ لحظة، غير مسبوقٍ بمثال، عملٌ خالٍ من المصالح لا نظيرَ له، ومفعم ٌ بالتوفيقات الإلهية... لعلعت الصلوات والتكبيرات فجأة، وأحسّت كأنَّ روحها انقبضت وبصرها غيّم، وشعرت أنّ أصواتَهم تتصاعد إلى سطح البيت، نظرت مجددًا إلى الشارع وجدته قد تحوّل إلى عاصفةٍ من النار تُفرِّقُ الناس جميعًا، وداس بعضُهم على صفائحِ البقوليات، وأشباحٌ ترتدي ثيابًا زيتونيةً تركضُ مع أسلحتِها خلفَ الأهالي الهاربين من الضربِ أو القتل أو الاعتقال. فأبطالُ الفسحة قد اعتادوا على هجومِ الاشباح الزيتونية طيلةَ أيام عاشوراء، لا جديدَ في الأمرِ سوى التحدي في إتمام طقوسِ الحزن الحسيني، فقد توارثوه عن الآباء والأجداد. فمحرمُ يُعطي الشارع لونًا أحمر، ويمزجُ تلويناته الأسود والأخضر، وتتشابه فيه كلُّ البيوتات وهي تنحشرُ إلى جانب بعضها بعضًا، أبوابُها مفتوحةٌ على مصراعيها للزائرين وعلى مدارِ الساعة. ففتحُ الأبواب أصبح سُنةً لدى أمهات البيوت عند كلِّ حدثٍ يحدثُ في الفسحة، إشاراتٌ إلهيةٌ جعلت الأهالي يتماسكون بها في سرائهم وضرائهم، لم يعدْ بينهم أناسٌ فردانيون، الفردانية لا تعملُ في عاشوراء كربلاء.. سحبت صبرة على عجلٍ آخر رغيفٍ من تنورها الطيني، وحرّرت نفسَها من (ثوب العمل) ونزلت مُسرعةً لتقف عند باب البيت، وكان كلُّ همِّها هو إعاقةُ الأشباح الزيتونية وإخافتهم بصوتِها الذي بدأ يُلعلع عاليًا حتى انتبهت باقي البيوت وخرجت النسوة المعروفات بقوتهن، وامتزجت أصواتهن فأصبح الصوتُ كبركانٍ من نار تتطايرُ على رؤوس الأشباح. منهم من توقّف عن الملاحقة وآخر رجع ليقفَ بجانبِ القدور، ومجموعةٌ دخلت مسجد الإمام السجاد المجاور لبيت (صبرة) والمقابل لباب الخان الكبير، فتمكن الفسحاويون من الاختفاء دون أضرارٍ أو اعتقال. وأكبرُ إنجازٍ حققه الزيتونيون هو مصادرةُ مكبراتِ الصوت التي تنثرُ القصائد الحسينية طوال شهر محرم، وعند محاولة الأشباح رفعَ القدورِ السجادية من عروشها خرجت النسوة مُحزماتٍ (بعباءاتهن)، وفي مقدمتهن (صبرة) وهن يحملن شعلاتِ النار متجهاتٍ صوب القدور، مُزمجراتٍ بأصواتِهن مُهدداتٍ بحرقِ كلِّ من يمسُّ القدور، وساعدتهن حركة الحشود من زائري الإمام الذين فاضَ بهم الشارع، وكأنّ النسوةَ أصبحن غمائمَ سودًا. وبدأ الزوار يساعدون النسوة بإشعال النار تحت القدور دون أنْ ينتظروا من يدعوهم لذلك. وكلُّ شيءٍ من حولهن يوحي بنهارٍ قد يكون داميًا، وصبرة تقودهن بحذر، والقدور أصبحت مثل اللآلئ تضيءُ في السماء. كان الجريُ قائمًا وراء شباب الفسحة الخُلّص، واستحال للزيتونيين الإمساك بهم، رغم أنّ بعضهم أطلق عيارات نارية في الفضاء لإضفاءِ الرعب والتلويح بالتهديد بالموت. والحقيقةُ كان الجريُ وراء أبطالٍ متوارية في كلِّ بيوتاتِ الفسحة القصيّة على الأشباح، وكأنّها شُيّدت باتفاقٍ مسبق وسريّ للغاية لهذه الأيام لتجاوز ضغينة أعداءِ الطقوس-العاشورائية- بالتحديد، التي شهدت لسنين معاركَ داميةً وتربصًا مملًا. كانتِ الحكوماتُ تعجز عن إيقاف الشعائر الحسينية فتختلق الفتن بين منطقةٍ وأخرى. والفسحةُ ساحةُ قتالٍ دائمة مع حاملي السكاكين والهراوات من أبناء جلدتهم، لكن العقل كان دائمًا يُرجعهم إلى السكينة والوحدة. وكان الدورُ المثاليّ أيضا لتلك المرأة القويّة صبرة، حين اشتداد وطيس التنافس بين شباب الفسحة وشباب المنطقة الأخرى على انطلاق مواكب التعزية في التاسع من محرم، أيُّهما يدخلُ الحرمين الشريفين أولًا. كان الطرفان مندفعين لتدميرِ كلٍّ منهما الآخر بعراكٍ دامٍ كالغرباء، قد يبلغُ مداه للانتقام من لا شيء. تحت ضغط شهوة الانتقام والجميعُ ساكنٌ الرعبُ والحماسُ في قلبه، وهم يجهزون الخناجر والسيوف. وصبرة تخيّط رايةً بيضاءَ بحجمٍ مُخيفٍ كتبت عليها (السلامُ عليك يا أبا الفضل العباس) بلونِ الدم. وحين اقتربت ساعةُ التلاحمِ تعالى صراخُ الشباب (حيدر..حيدر) حتى اختلطت أصواتهم بصوتِ البوق والطبول، والنسوةُ يصرخنَ مُستغيثات، فالموتُ سيحدثُ لأولادهن أمامَ أعينهن، فالشباب مصممون على الاقتصاص من غرمائهم. والقادمون كأنَّهم بحرٌ شره يريد أنْ يُغرق في لُجّتِه كلَّ شيءٍ أمامه. وعند اللحظة الحاسمة كانت صبرة جاهزةً كأنّها حصانٌ جامحٌ وقف وسط الجموعِ، وهي تصرخُ بصوتٍ ملائكي، وبشعورٍ وحنانٍ حسيني مُفعم بالأخوة: (يا عباس) اطفئ شرارةَ الغضب بين الشباب؛ فهم لا يفقهون معنى الأخوة. ورفعت بساعدها وسواعد النسوة الراية البيضاء وهي لا تزالُ تقطرُ باللون الأحمر كأنّه دمٌ عبيطٌ لحظةَ بدءِ المعركة، ولكن ما أنْ شاهدوا الراية حتى وقفوا كالتماثيل قبالتها وتعانقوا كالأحبابِ بعد بكاءٍ حارٍ على صوتِ عبد الزهرة الكعبي وهو يُصوّرُ بصوته مشهد انكسار ظهر الحسين باستشهاد أخيه أبي الفضل .. لا أحدَ يسلمُ من الزيتونيين لهم ألفُ رأسٍ ورأسٍ، تبترُ رأسًا من هنا يبرز لك من هناك رأسٌ. قالت ذلك "صبرة" وهي تنتفضُ بتصلبٍ على إحدى النسوة الخائفات. حيث يكون هناك ولاءٌ وحبٌّ وثقةٌ، فبالعقيدةِ والمذهبِ فإن الموت يكون مثل الشهد. ارفعي القلق عن نفسكِ ودعينا نُكمل (شلة السجاد)*. الزائرون ينتظرونها كلَّ سنةٍ في هذا اليوم بالتحديد الخامس والعشرين من محرم يوم استشهاد السجاد (علي بن الحسين). كان كلام صبرة لنسوة الفسحة مثل نارٍ مُلتهبةٍ، وهي مستعدةٌ لأن تحرق كلَّ من يتجاسر على مسِّ أيِّ شيءٍ يخصُّ مراسيمَ طبخ التعزية السجادية. لقد تغيّرت وجوههن في غضون لحظة، وقفزن للعمل مُقطبات، وصوتُهن حادٌّ ممتلئٌ بالحماس والقوة، يشبه صوت جبلِ الصبر "زينب" حين حُرِمت فجأةً من عضيدها وحامي حماها. تجمهر الزيتونيون الأشرار حول القدور وبدأوا يفرقون بالعصي كبارَ السن من الزائرين ورجال الفسحة، ضربوهم ضربًا مبرحًا. وكانت صبرة والنساء يعملنَ بصمتٍ بلا توقف وبسرعةٍ هائلة. لم تُزعزعهن هذه التكوينات اللاأخلاقية في ممارسةِ المنع الإجباري. إنّ الواجبَ المنوط بهن هو إتمامُ الطبخِ بدلًا من الشباب وصونِهم من التأثيرات المؤذية. وضعنَ خليط البقوليات في جميعِ القدور تحتَ صوتِ قائد الزيتونيين: أنا أمنعكن من إتمام الطبخ..وا !، قال بانفعال وضرب بقدميه بنفادِ صبرٍ موجهًا كلامه إلى صبرة: إنّكِ لست أكثر طولًا من فردةِ حذائي، سأسحقُ رأسكِ به، إنْ لم تتوقفي عن العمل وتحريض الناس على عصيان الحزب والدولة. تفرّست صبرة في وجهه وهي مُفزعةٌ تمامًا، بعدها وللحظة صرخت بكلِّ المرارة التي تقدر عليها، ففزع أمامها وصيّرته غاضبًا وخائفًا، فبدأت قذارته تظهر حين همّ بضربها أمام الجميع وما كاد يفعل، فصبّت عليه الماء الحار من قدرٍ نُحاسي صغير فانزلق على الأرض وقد ضُرِبَ ضربًا قاسيًا بالأحذية و(النعل) والعصي، من قبلِ النسوة وسائر الزينبيات من الزائرين، مؤججات أصواتًا حسينية أرهبت كلَّ الزيتونيين، والأطفالُ شاركوهن فرموا بقايا الطماطم والخيار التالفة والتي اختلطت مع قاذوراتٍ أخرى. وبدا عليهم الانهيار الشخصي وخليط من الغيظ والحدّة والدم الحار مما أجّج فيهم حميةَ الغضب والكلبية النائمة في داخلهم لقد أدركوا أنّهم قد تمادوا كثيرًا؛ لذا لا يستطيعون التملُّص فقد يكون الأمرُ مكلفًا في معركةٍ لا تتوقف إلا بنهايتهم. صبرة، عندما تتمنطق وتتكلمُ بصوتٍ واثقٍ ولغةٍ حسينيةٍ قوية وثبات عجيب تبدو وكأنّها تسمو فوق الاحداث، في خضم الخطط والهجومات المباغتة والمشاحنات سمحت له بالنهوض بالرغمِ من أنّها كانت لا تزالُ تضربه ضرباتٍ متتالية وبقوة. بدت منه صرخةٌ عاليةٌ وغريبة يمكن تسميتها صرخة استسلامٍ وتهديدٍ فهو شخصٌ قاسٍ وخبيثٌ، يعرف أفانين غريبة ومتلونة، كالحرباء يظهر في كلِّ مكانٍ بشكلٍ مُغاير تمامًا عن سابقهِ. فتوقفت المعركة بسجالٍ وعراكٍ انتصرت به "الفسحاويات". وشباب الفسحة كانوا يراقبون الوضع من السطوح، فهم لا يزالون مع الحدث ليُثبتوا ويُراهنوا على القوة والشهامة والنبل للروح الجريحة حين يزدادُ نزفها، فصارت لهم مبعثَ حقٍ وقوةٍ وسحرهما كان على أشده هذا اليوم السجادي المهم.. نزلوا إلى الشارع حاملينَ السيوفَ والخناجرَ وكأنّهم على استعدادٍ أنْ يُنازلوا قوى الشر واختلطوا بأمهاتهم يعملون كخليةِ نحلٍ في توزيع بركات السجاد فامتلأ الشارع بالمهرعين للحصول على بركةِ هذا الزاد الذي اشتهر أنْ يكون دواءً لكلِّ عليلٍ على مدى سنين طوال. أما الزيتونيون وقائدهم فاصبحوا كخيالِ الأموات وروبوتات انقطع عنها التيار الكهربائي وانتهى شحنها عند حدود الضرب والإهانة. الجميع في الفسحة يعرفون أنّ صبرة امرأة زهرائية مُحصنة دينيًا، رغم ذلك خططوا أنْ يحموها من عنجهية الأشرار فالكلُّ يعلمُ غدرهم في أيِّ لحظةٍ يعود إليهم شحن صدورهم المشبعة بالغلِّ من أيامِ عاشوراء، فيما إذا جاءت قوةٌ إضافيةٌ تساعدهم على تحقيق ما فشلوا به. وأولويات هدفهم كانت صبرة بلا منازع. هكذا انتهى النهار الشاق المليء بالأحداث وبصورٍ مشرقةٍ من البطولة راحت تترجمُ الحزن بالانتصار من خلال الألم وقوة صبرة والنساء اللواتي أعلنّ عن ميلاد عقلٍ واعٍ وقلبٍ نابهٍ وفكرٍ مُتقد. نساءٌ استطعن بكلِّ حسمٍ صيانةَ مملكة الفسحة بالأوقات الحرجة. يومٌ غلب فيه البوح، وما زالت تجول في مشاكسته علاماتُ استفهامٍ لا توجد لها إجابة. فبين أفكارٍ متزاحمة وحمم متلاحقة من الحنق والكره الذي يملأ قلوب وعقول أهالي الفسحة من تدخل الغرباء، لكنّهم أبدوا خوفهم على صبرة التي عملت موقعًا مرعبًا. فكيف لامرأةٍ مثلها أنْ تفعلَ هذا الفعل الشجاع وتهم بفعل كلَّ تلك الأفاعيل؟! حيث انعقدت ألسنتهم عن مواجهة تلك النمرة السجادية، قلّما يُطالع الإنسانُ مثلها، فقد كانت أنوثتها تعرف كيف تخاطب الرجال؟ والمرأةُ البارعةُ والحازمة التي قد تصير أقسى من الرجال لو اقتضى الأمر ذلك. قضتْ صبرة ليلتها لم تذُقْ عيناها النوم، ولم تنعم بهدْأةِ الكَرى.. أحسّت أنّ رعبًا أخرس يتنامى في ذاتِها فقالت بينها وبين نفسها: جميل أنْ نحمل الزمن بين أيدينا، ولا نكون أسرى لهُ.. فالموتُ يتوشحُ لي قبة السماء، فحيثما أُولّي وجهي يُبصرني الموت. أنا شهيدةُ يوم استشهاد السجاد لا يُمكن أنْ أكون في حلم. فالحبُّ الحسيني الذي تكابد لأجله أرواحُنا لا يخرج منّا إلا بانتزاعها. مع طنين البائعين الرتيب في ليلٍ قاسي الملامح طُرِقتْ بشدةٍ بابُ بيت صبرة وبذات الوقت كانت حركةً قويةً فوقَ السطح، وأصواتٌ كانت أعمق أثرًا في نفسها وهي تعلمُ مصيرها.. استقامت من جلستها مُقبلةً على أثر الأصوات في غضبٍ تنظر إلى ما حولها من أبّهة المنظر كأنّهم جاؤوا إلى اعتقال محاربةٍ أو سياسيةٍ مُحنّكة في النضال. أخرجوا صبرة تلك الليلة بطولها الجسيم المهيب وضخامة جثتها، ولكن من دون صوتِها الجهوري، تنظرُ بعينيها الواسعتين الكبيرتين بلونِهما النرجسي إلى الجميع بأنَفَةٍ عجيبة جعلت المشتركين في اعتقالها يضعون عباءتها على وجهها؛ لأنّ الأبصار تتجمهر في المملكة. وزاغت حولها ولمعت عيونُ الغضب فيها، لكنّ القوة المُعتقِلة كانت من الكثرة ما تجعلُ الشُجعان يتصنمون كالرخام في أماكنهم. واختفت نمرةُ الفسحة "صبرة" مدةً من الزمن لا أثر لها ولا صوت، أفل شعاعُ تلك الإنسانةِ الملتزمة في الانسانية والشجاعة، وأصبحت ذكرى خالدةً على مدى السنين... .................................. • الفسحة: منطقة (الفسحة) في محلة باب الخان بمدينة كربلاء المقدسة إحدى محافظات العراق، شيّدها السيد (عماد الدين طاهر البحراني) سنة1381هـ (1961م) مؤسسة مدرسة الإمام الباقر(عليه السلام) الحوزوية آنذاك. • شِلّة السجاد: هي يطلق عليها شوربة أو آش، تتكون من سبعة أنواعٍ من البقوليات، اعتاد العراقيون بصورةٍ عامة والكربلائيون خاصة على إعدادها في ذكرى استشهاد الإمام علي بن الحسين السجاد (عليه السلام) في 25 محرم الحرام.
اخرىبقلم: حيدر عاشور صوتٌ يصرخُ من داخلي، سمعتُه مراتٍ عديدة، كأنّه يحتويني، يُحاصرني، يضربُ طوقًا من الأسلاكِ الشائكةِ حولَ قلبي اليافع، لم أعُدْ أسمعُ غيرَ صوتِه، يُناديني أينما أصوِّبُ نظراتي، وملامحُه تُطاردُني، تدورُ في رأسي، تُشبِعُه أنينًا، كنتُ أشعرُ بغموضٍ أنّه قريبٌ ويراني رغم بُعد المسافات. أبحرتُ في الخيالِ، ودفنتُ رأسي بين صفحاتِ الكتابِ، أبحثُ عمّن يوقِفُ هذا الضجيجَ المُختلِطَ من الأصوات، عن هدوءٍ يُهادِنُ ما في داخلي من احتدامٍ لا يتوقفُ ولا يهدأ. فالوحدةُ والذكرياتُ يربضانِ فوقَ قلبي، ويحتلانِ جسدي فيزيدانِ من جزعي وألمي. كنتُ أنزوي معهُ في باحةِ الكُليّةِ، نرسمُ المستقبلَ، نجترُّ خططَنا العملاقة بوهمٍ كبير، نُفرِغُ غيضَ اشتياقِنا بهمسِ الطيورِ المُلوّنة. أشعرُ أنّني بحاجةٍ إليه الآن بشدِّة، فحيطانُ الغُرفةِ تأكلُني، تُمزِّقُ جسدي، ليتني أعودُ طالبةً؛ حتى أرتوي منه بما يكفي، فالرغبةُ بهِ تفوقُ كلَّ احتمالاتي، وحرائقُ روحي العطشى تُلهِبُ دواخلي، لم أعُدْ أسيطرُ على أفعالي، فغرقتُ في طوفانِ المُخيّلة ألتقطُ ذكرياتي فازدادت حرائقي التهابًا. اه.. لماذا أندمُ أو أشعرُ أنّني ضحيةٌ؟ حين قابلني أولَ مرةٍ كنتُ أعرفُ أنا بنتُ منْ..! ورغبتُ به كفارسٍ يُنقذُني من سطوةِ الخوفِ من كلِّ شيء، أنْ أعيشَ حياةً غير حياتي المؤجرة المرهونةِ بالحلالِ والحرامِ، وأنَّها الفانيةُ وغير حقيقية. وحين توطدتْ علاقتي به وتحوّلَ من زميلٍ إلى صديقٍ، ومن ثم إلى حبيبٍ يومها سألته: - هل حُبّي لك حرام...؟ لم يردْ على سؤالي، بل بدأ يتغزّلُ بي، مُعلنًا إعجابه بوجهي الذي يشبهُ القمر ببياضه، وبشعري الذي لم يرَ منه حتى خصلة، وبعينيّ الدائريتين المُعتمتين بالسوادِ اللتين تفيضان نورًا، وبتنسيقِ ملابسي التي لا تُظهِرُ تقاسيمَ جسدي؛ فالتحفّظُ كان أساسَ تربيتي، فأنا من عائلةٍ عُرِفتْ بالتقوى والزهد، كلُّ فردٍ منها قرأ عشرات بل مئات الكتب الدينية، وأبي كان عالمًا مجتهدًا تقفُ الدنيا له احترامًا وإجلالًا. انتظرتُ منه جوابًا عن سؤالي بعد أن انتهى من توصيفي بالملكة، والأناقة، والإنسانة الخام، نظرَ إليّ نظرةً خارقةً مُجمرة أيقظت في داخلي هوسَ جنوني للحبِّ ولسعتِه، فقد كان بارعًا في السيطرةِ والسطوةِ على مشاعري، فشعرتُ بالدفءِ وتعانقنا بالأصابعِ المُرتجفةِ ونسيتُ للحظةٍ سؤالي. أحسستُ أنّ حياتي فارغةٌ، فهو لم يتركْ بعد هذا الفراق الذي طالَ شيئًا غير وعدٍ أنّه سيراني. تركني وحيدةً، يا لها من تعاسةٍ وأنا أخوضُ حياتي المؤجرة رغمًا عني تاركةً هذا الوجود المُدهش بصخبه وعنفوانه. كنتُ بهدفٍ وأمسيتُ بلا هدف، أصارعُ مُخيّلتي كالمسحورةِ دون تخطيطٍ أو سببٍ حقيقي لوجودي، فصوتُه يتعالى في صدغ راسي كالفؤوس النصلة بعد أنْ صمتت الأيامُ وتشابهتْ عندي.. وأفيقُ من خيالي كُلّما شممتُ عطره، وهو ورثي الوحيد من بقايا حُبِّه. يندلقُ الفرحُ في داخلي، ويُزيح الألمَ والجزعَ واللوعةَ وانتشي وأنا أتنفسُ ذكرياته وأسمعُ صوتَه المحفور في نياطِ القلب. عامٌ بعد آخر يرحلُ، وأنا أسبحُ بالحياةِ المؤجرة حتى كرهتُها، وتعلّمتُ منها التعايُّش مع الخوف من عدمِ الحصولِ على الحياةِ الدائمة، لكثرةِ ما يوبِّخُني به أبي: - لا تفتحي يا جوهرتي بابَ الظلامِ المُخيف! بهذهِ الكلماتِ الروحانيةِ اجتزتُ كلَّ أفكاري، وتوقفتْ مُخيّلتي وكلُّ تأملاتي، وصحوتُ على حُبٍّ أكبر يشغلُني، أكبرُ من كلِّ المديات، يتراكمُ في نفسي ويفيضُ من روحي، وتُعلِنُه ذاتي بشكلٍ عملي لكلِّ من حولي، حتى في أحلامي أبحثُ داخلَ حُلُمي عن نفسي وذاتي. لقد تغيرتُ وأنا أنتزعُ أفكارًا مُسطحة من رأسي، فعلمتُ أنّني قد سقطتُ من قمّةٍ عاليةٍ إلى هاويةٍ سحيقة، ومن ثم بدأتُ أرتفعُ من الهاويةِ إلى القمّةِ، ولستُ مستعدةً للرجوع رغم بُطءِ خطواتي، فحينَ نحترفُ اجتيازَ الحياةِ المؤجرة حتمًا سنقتلُ حبَّها المؤقت استعدادًا لحُبٍّ أكبر في الحياةِ الحقيقية.
اخرى