تشغيل الوضع الليلي

طمــوحٌ جامــحٌ (قصة قصيرة)

منذ 4 سنوات عدد المشاهدات : 2408

بقلم: حيدر عاشور
كانت يتيمةَ الأبوين، تعيش في كنف عمِّها وزوجته، صغيرةً تقترب من ربيعها الخامس عشر، قرّر أنْ يتقدم إلى خِطبتها وفي أعماقه تموجُ مشاعرُ إحسانٍ ورأفةٍ إزاءَ هذه الفتاة الصغيرة في عالمٍ لم يعد يتحمل أحدٌ أحدًا إذا ما غاب الأبوان، ومما شجّعه على اتخاذ هذا القرار بعد عزوبيةٍ اقتربت من الأربعين، معرفتُه بأبيها رشيد الموظف في عقارات الدولة.
في البدء جوبهت رغبة ستار بالزواج من تماضر برفضٍ شديدٍ؛ لفارق العمر، ولأنَّها ترغب في إكمالِ دراستها. وقد تلقى ستار الكثير من اللوم وعتب الأهل والمعارف والأصدقاء بسبب قراره المفاجئ؛ إذ لم يستطع أحدٌ أنْ يدرك المشاعر الحقيقية التي تحرِّكه إزاءها، فهو في الحقيقة يريدُ أنْ يكون لها المنقذ، لا سيما وهو مولعٌ بهذا الدور في حياته، ينطلقُ من روحٍ صافية وإيثارٍ قلَّ نظيره، ولقد تناهى إلى سمعه مكابدة هذه الفتاة الصغيرة لمشاق الحياة؛ لكره زوجة العمِّ لها ومعاملتها بقسوة وغلظة، تصلُ حدَّ إقدامها في إحدى فورات الغضب على تمزيق وإحراق كتب تماضر لكي تبقى في البيت كأيةِ جاريةٍ، تقوم بالغسلِ والكنسِ وشؤون المنزل الثقيلة الأخرى...
وبعد أسبوعٍ من رفض الطلب بدأت الأفكار تتداعى في الرؤوس: العمُّ وزوجته وتماضر.. الأول في تخليص تماضر من معاناتها مع زوجته التي عجز عن تغييرها؛ فهي مجبولةٌ على الإيذاء والخبث، لاسيما وهو غير موجودٍ في البيت بشكلٍ دائم، أمّا زوجة العمّ فترغبُ في التخلصِ من تماضر؛ فهي تفكر بتزويج ابنها من ابنةِ شقيقها، وبتزويجها تماضر من ستار، قطعٌ للطريق الذي قد يفكر به زوجها من إبقاءِ البنت في البيت بصفة زوجةٍ لابنها.
أما الضلع الثالث والأهم فهي تماضر التي راجعت الفكرة؛ فالحياةُ عسيرةٌ ولم يعد الزواج سهلًا، بل صار كالحلم في زمنٍ تناقصَ فيه الرجال، بعد أنْ أكلتهم الحروب أو أقعدتهم عن الإيفاء بالنفقات بسبب الظروف العصيبة من الحصارات وتدني مستوى العيش وانعدام فرص العمل، فأصبحت النسوة في وضعٍ حرج ولم تعد الشروط القديمة تتماشى مع الواقع العصيب.
كما أنَّه يُقال: إنَّ الرجل الكبير أكثر نضجًا من الشاب النزق، والزواج من هذا الرجل هو خلاصٌ من عذابِ زوجةِ العم، لا سيما وقد وافق على الشرط المهم وهو إكمال دراستها، فهي تجد حياتها كلها متوقفةً على الدراسة ونيلِ شهادةٍ عليا. هذا الطموح الجامح جعلها توافق في سرِّها على الارتباط بستار الذي يعمل سائقًا لسيارات الحمل الكبيرة لنقل البضائع بين المحافظات.
وفي مواجهةٍ بين العم وزوجته وتماضر، بدأت أطراف الحديث تسير باتجاه ستار وبدأت الكلمات أكثر تبريرًا، ونبرة القبول بدت هي المُحرِّك للحديث، وكلٌّ قد أدلى بدلوه.
وهجست تماضر بأنَّ عمَّها وزوجته ينطويان على قبولٍ دفين وشيئــًا فشيئـًا تكاشفَ الثلاثة وكلٌّ تدفعه رغبةٌ لا تشبه رغبةَ الآخر، وكلٌّ ينظر إلى القضية من منظارهِ الخاص.
أُبلِغَ ستار بهذه الأخبار السارة فلم ينم ليلته؛ لشدةِ فرحه، وكأنّه قد حقّق حلمًا طال انتظاره، وبسرعةٍ تامة بدأ يهيئ كلَّ شيءٍ وأقسم للجميع بأنَّه سيرعاها وسيوفرُ لها كلَّ صغيرةٍ وكبيرةٍ من أجل تلبيةِ رغبتها في إكمال دراستها ونيل الشهادة العليا لا سيما وهي ذكية وقد نذرت عمرها للدراسة والتفوق.
وحين أظلّ السقفُ الجسدين، قبّل ستار تماضر من جبينها وعاملها كطفلةٍ مدللة، وفي خضم الأحاديث التعاريفية والهواجس الاكتشافية همست تماضر له: بأنَّها تنهي كلَّ شيءٍ حين يمنعها من الاستمرار بدراستها. فضحك ستار وأفاض وجهه بالانفعال الطفولي وهو يقسمُ لها بأنَّه سيبقى مصممًا على هذا القسم وسيوفرُ لها كلَّ ما تحتاجه من أجلِ الدراسة وقرّر أنْ يحضرَ فتاةً فقيرةً لتساعدها في أعمالِ المنزل؛ لتتفرغ هي للدراسة فحسب.
ومثلما بدأت سيارة ستار الكبيرة تقطع عشرات ومئات الأميال بدأت الأعوام تترى وكلاهما غارقٌ في عالمه، ستار في عالم نقل أنواع البضائع وعشرات السفرات من أقصى المدن إلى أقصاها، وتماضر تستميت في الدراسة والحرص على نيل النجاح بتفوقٍ مدهش. وفي يومٍ من الأيام أقام ستار حفلةً للجيران والأقارب وصديقات تماضر بمناسبةٍ مذهلة وهي قبول تماضر في كليةِ الطب بعد جهدِ السنين والرعاية وتوفير كلّ ما تحتاجه من كتبٍ وملازم، وانتهاءً بتوفير خادمةٍ لها..
ومنذ تلك اللحظات السعيدة بدأ ستار ينادي زوجته بالدكتورة تماضر ولم يطُل الزمن حتى تحوّلت بالفعل تماضر إلى أخصّائيّة في طب وجراحة العيون، وبذل ستار كلَّ ما بوسعه للحصول على عيادةٍ لها في مكانٍ مرموق واستقر الحلمُ في حدقاتِ تماضر. وحين جلست خلف منضدة الفحص تطلّعت في أثاث العيادة التي اكتمل فيها كلُّ شيءٍ من أجهزةٍ وأدواتٍ نهضت وتطلّعت إلى الأفق البعيد عبر النافذة وشعرت بأنَّ شريطًا من الذكريات المرة بدأ يتوامض أمام ناظريها، وها هي تتوِّجُ كلَّ الأعوام الكالحة بهذه النتيجة الحلمية وتسيرُ بزهوٍ فوق أرضٍ صلبةٍ، لكنَّ طرقات الباب القوية سحبتها من عالمها كان وجه ستار أول طالعها حين فتحت الباب، دخل وعلى وجهه بشارةٌ متوهجةٌ وسعادةٌ لا توصف ولولا الخجل لاحتضنها ولكن الزيّ الطبي جعله يُفيق من رغبتِه المُلحة، طلبت منه الذهاب وتركها لتمارس عملها، لم يشعر إزاءها بأيّ شعور..
تركها وهو ينظرُ من بعيدٍ إلى لافتةٍ عُلِّقت على جدارٍ (الدكتورة تماضر حسن) شعرَ بزهوٍ وسعادةٍ، كمن انتهى من صنعِ تمثالٍ جميلٍ، فسار وفي عقله تتداعى كلّ تلك السنوات التي كابدها من أجلِ الوصول إلى مثل هذا اليوم البهيّ.
لم يمضِ شهران على هذا الحدثِ الكبير والفاصل حتى شعر بأنَّ تماضر لم تعد تماضر! لقد تغيّر فيها كلُّ شيءٍ، حتى طريقةِ كلامها ومشيتها وطلباتها وقسوتها على الخادمة التي فرّت من البيت دون رجعة.
لكن ستار لم يتغير إزاءها، بل ازداد تعلقًا بها وأيقن أنَّ ما حدث لها هو شعور ٌطبيعي بفرحةِ الشهادة وانتقالها من عالمٍ إلى عالمٍ آخر، كم كان بحاجةٍ أنْ تتذكر تماضر تعبه وجهده من أجلها؛ فهما الاثنان ساهما بالوصول إلى هذه الحال من الرقي، هي بدراستها، وهو بدعمه لها وماله وتضحيته، فهو لم يكن يعاملها كزوجةٍ قط بل كأستاذةٍ داخل البيت!
وفي إحدى الليالي عاد من سفره البعيد، فوجد البيت فارغًا والأنوار مطفأة، تلمَّس طريقه وسط الظلام وبدأ ينادي: تماضر... تماضر ولكن دون جدوى. اكتشف أنَّها منذُ أنْ سافر في سفرته الأخيرة انتقلت إلى بيت عمها! ولكنه اعتبر الأمر عاديّـًا؛ فلربما شعرت بالوحدة خصوصًا بعد طردها الخادمة.
لم يستطع البقاء في البيت وحده فأغلق الأبواب وتوجه إلى بيت العم وجلس لأكثر من ساعة مع العم وزوجته دون أنْ يظهر لها أثر!
استشاط غضبًا في أعماقه وبدأ يلحُّ بالسؤال عنها إزاء البرود واللامبالاة التي وجدها في الوجوه، حتى تُوّجَ هذا الموقف المؤذي له بأنْ حدثته تماضر من خلف شباكٍ داخل إحدى الغرف أنَّها قدّمت في المحكمة دعوة تفريق بعد أنْ قرّرت الانفصال عنه.
وقف أمام الشباك وهو يكيد نفسه، ويتماسك خجلًا من السقوط، وبدأ يطلبُ منها إبداء السبب، وهل فعلَ شيئـًا لا يُرضيها؟! وهمس بحنانٍ بأنّه سيحضر خادمةً جديدةً إذا تطلّب الأمر، ولم يكن دفاعه عن الخادمة إلا حرصًا على وجود خادمةٍ لها في البيت.
بدأت تماضر تحدث بحديثها، وخشي العم وزوجته من تعبير تماضر عن غضبها وكلماتِها الجارحة التي تفوّهت بها قبل مجيء ستار، وأخذت توغل في رفضها العودة إلى البيت، وأنَّها مصرّةٌ على الطلاق حتى لو دفعت كلَّ ما تملك؛ فهي لم تعد قادرةً على العيش معه. وقف ستار مندهشًا وشعر بالتخاذلِ وبنكرانِ الجميل، وأنَّ هذا الكائن الجميل قد انقلب إلى كائنٍ آخر لا يمتُّ إلى الجمال أو العاطفة بأيةِ صلة، لا سيما عندما اصطدمت كلمةٌ بأذنيه وكادتْ أنْ تُفقدهُ عقله وصبره وإيثاره حين قالت له: الناسُ بدأوا يعيّرونني بك. لقد أصبحتَ عارًا لي وعبئـًا يجبُ التخلص منه، كيف يمكن لطبيبةٍ أنْ تكون زوجةً لسائق سيارة حمل؟!
لقد تهاوى كلُّ شيءٍ وانهار الحلم وهو يواجه كابوسًا وامرأةً شرسةً بعيدةً عن تلك الفتاة الحالمة. اكتشف اللعبة الغبية التي كان هو بطلها. أمسك بهدوئه وخرج باتجاه الخارج مستعيدًا رجولته لكنّه تذكر شيئـًا فعاد إلى الشباك وقال بهدوءٍ تام:
ــ ورقةُ طلاقك ستصلك بأقربِ وقتٍ.
خطا خطواته في الليل المليء بالنجوم وشعر بأنَّه تحرّر من لعنةٍ مُؤذية.

اخترنا لكم

تجلياتٌ معرفية في الخطاب المهدوي (14)

بقلم: علوية الحسيني "واهدني صراطًا مستقيما" بعد أن طلب الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) من الله (تعالى) السلطان النصير, والفتح المبين, يطلب الهداية نحو الصراط المستقيم. وهذه الفقرة الدعائية -كسابقها- لها جذرٌ قرآني, وهو قول الله (تعالى): {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم} (1). ولمعرفة ظاهر مغزى الإمام من دعائه هذا لا بُدَّ من التطرق إلى نوع الهداية التي يطلبها الإمام, ثم بيان المراد من الصراط المستقيم. •فالهداية التي يدعو الإمام بها هي "(الهداية التكوينية), التي بها يكون هاديًا مرشدًا, يوصل العباد إلى المطلوب منهم كمالًا. وقد مَنّ الله (تعالى) عليه بها, نتيجة علمه الأزلي بأنّ هذا العبد سيمتثل للتشريع بدقة, فكانت الهداية التكوينية عناية خاصة بالإمام" (2). إذًا من وظائف الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) هي هداية العباد بإيصالهم إلى الكمال، لكن ما هو ذلك الكمال؟ سنعرفه من خلال بيان المراد الظاهري من (الصراط المستقيم). •أما الصراط المستقيم؛ ففسّر بعدّة تفاسير, مع تعددها اللفظي إلّا أنّها تصب في معنى واحد, وسنأخذ منها: 1- الصراط المستقيم هو عبادة الله (تعالى): حيث روي عن الإمام الصادق (عليه السلام): حينما سُئل عن معنى قوله تعالى, قال: "﴿اهدنا الصراط المستقيم﴾ يعني أرشدنا إلى لزوم الطريق المؤدي إلى محبتك، والمبلغ إلى جنتك" (3). إذًا قد يريد الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الرشيف) بدعائه هذا أن يعطيه الله (تعالى) طريق العبودية الخالصة, وأشرنا في حلقاتٍ سابقة إلى أنّ الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) يعكس صدق العبودية لله (تعالى) ربّه, فها هو ذا يطلب منه العبادة المخلصة, المتناسبة مع جلالة مقام ربّه. ولو تأملنا في أواخر سورة الحمد, لوجدنا "أنّ الصراط المستقيم هو للذين أنعم الله (تعالى) عليهم, والمنعم عليهم هم النبيون, والصدّيقون, والشهداء, والصالحون, بدليل قول الله (تعالى): {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِين}, وهم أعلى درجةً بالعلم والعمل من غيرهم" (4). فمن حيث العلم هم سادة التوحيد, أعرف الناس بربّهم, وبالأصول والفروع والأخلاق, ومن حيث العمل، فعصمتهم سيّدة مزاياهم, فلولا أنّهم لا علم بذلك لهم, ولا عمل, لـما طلبوا الوصول إلى الكمال, هم وأتباعهم. ومحل كلامنا ليس النبييّن (عليهم وعلى نبينا وآله السلام), بل في الصدّيقين, وهم الأئمة (عليهم السلام). نعم, إنّ هناك من الآيات الكريمة التي تفسّر بعضها بعضًا, فهناك استدلالٌ بالمباشر, يظهر منه أنّ الصراط يفيد (عبادة الله (تعالى)) كما يقول (تعالى): {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْـبُدُوهُ هَٰذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيم} (5). فقد يطلب الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) طريق سلفه, وهو العبودية الحقة -مع تحققها فيه لكنه يطلب الأكمل-. أو ممكن أن نقول الوصول بنفسه إلى أعلى الكمالات, ثم بأتباعه, وهو التــوحيد الــحق -وإن كان الإمام حائزًا على أعلى درجات العبودية الحقة مقارنةً بنا, وعلى أدنى درجةٍ مقارنةً مع كمال الله (تعالى) الذي له الكمال المطلق- لكنه بـــشر, وجميع البشر يعيشون في عالم الاستكمال؛ حيث روي أنّ النبي وآله (عليهم السلام) يزدادون علمًا في كلّ ليلة جمعة؛ روي عن الإمام الصادق (عليه السلام): " إِذَا كَانَ لَيْلَةُ الْجُمُعَةِ وَافَى رَسُولُ الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِه) الْعَرْشَ وَوَافَى الأئِمَّةُ (عَلَيْهم السَّلام) وَوَافَيْتُ مَعَهُمْ فَمَا أَرْجِعُ إِلا بِــعِلْمٍ مُسْتَفَادٍ وَلَوْ لا ذَلِكَ لَنَفِدَ مَا عِنْدِي" (6). وزيادة العلم تؤدي إلى زيادة العمل, فزيادة العلم بالله تعالى الذي هو أشرف العلوم وأكملها يؤدي إلى زيادة تجلي العبودية له. ومعه ممكن أن نقول: بالعلم المُزاد تتحقق الهداية, وبالعمل التابع له يتحقق الصراط. فلولا توحيد الإمام لربّه لما دعا بهذا الدعاء, مما يدل ظاهرًا على أنّ العلم (كالتوحيد) يسبق العمل (كالعبودية). وعليه, فقد يكون معنى دعاء الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) هو أعطني تلك العناية الإلهية العلمية لأصل إلى درجة العبودية المحضة, أنا وأتباعي. "ولا شك أنّ عصر الإمام سيمتاز بالوحدة الفكرية؛ حيث الجميع سيؤمن بالله الواحد الأحد, وبالتالي ستسود الوحدة التوحيدية, بنشر الإمام كمال التوحيد, المعطى له نتيجة دعائه الذي هو لبّ التوحيد, -وقلنا أعلاه لولا أنّ الإمام غير مُهدى تكوينيًا, لما حقق الصراط- وعليه, فالإمام يطلب العلم ليعبد الله (تعالى), وبالدعاء يتعبّد ويطلب العلم به؛ فبالدعاء يصل الإمام إلى الله الواحد الأحد" (7). *فإن قيلَ: إنّ طلب الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) الكمال يعارض عصمته, فيفترض أنّه واصل إلى أعلى الكمالات! *فممكن أن يُجاب: بأنّ التكامل لن يتنافى مع العصمة, فهو أكمل الخلق جميعًا, عدا النبي الأكرم محمد, وأمير المؤمنين, والزهراء (عليها السلام) والحسنين (عليهم السلام). لا يوجد تنافي بين العصمة وطلب الكمال طالما أنّ الكمال طريقه لا متناهي. بل أنّ طلب الكمال ملحوظ حتى في دعاء النبي الأكرم, وأهل بيته (عليهم السلام)؛ فالنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) أُمر أن يقول: (رَبِّ زِدْنِي عِلْما). وها نحن نصلي يوميًا على محمدٍ وآله (عليهم السلام), كما علّمنا القرآن الكريم على ذلك, والصلاة عليهم تعني طلب الرحمة والمقام الرفيع لهم, رغم أنّهم (عليهم السلام) قد حققوه. بل وصلّى على النبي وآله (عليهم السلام) قبلنا النبي وآله (عليهم السلام), وهنا هم يطلبون الكمال بفيض الرحمة عليهم, ونيل أعلى المنازل المادية والمعنوية" (8). وعليه, يكون دعاء الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) -بنيل الكمال بالهداية إلى صراطه- كمالاً من الكمالات. 2- الصراط المستقيم هو الإمام علي (عليه السلام): حيث روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "الصراط المستقيم أمير المؤمنين (عليه السلام)" (9). فلعلّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) حينما دعا أن يهديه الله (تعالى) صراطًا مستقيمًا, من باب كون الإمام علي (عليه السلام) هو ميزان الأعمال بالعلم والعمل, بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو لكون الإمام نفس النبي (عليهما السلام)؛ فللإمام علي من الكمال العلمي والعملي بالهداية والصراط ما للنبي (عليهما السلام). فقد يطلب الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) في دعائه أن يهديه الله (تعالى) صراطًا مستقيمًا كصراط الإمام علي (عليه السلام)؛ أي عبودية الإمام سيّد الموحدين, علي (عليه السلام), التي هي أعلى الكمالات العبادية, النابعة من أعلى الكمالات العلمية التوحيدية؛ كلّ ذلك لأنّ دولته عالمية كاملة, وسيّد الكمالات هو التوحيد الحق المتجلّي بصدق العبودية لله الواحد الأحد. __________________ (1) سورة الفاتحة: 6. (2) ظ: الميزان في تفسير القرآن: للعلاّمة الطباطبائي, ج1, ص34-35. (3) تفسير الإمام العسكري, ص44. (4) ظ: الميزان في تفسير القرآن: للعلاّمة الطباطبائي, ج1, ص30-31. (5) سورة مريم: 36. (6) الكافي: للشيخ الكليني, ج1, باب في أنّ الأئمة يزدادون في ليلة الجمعة, ح3. (7) ظ: الدعاء المهدوي وآثاره في بناء الفكر والعقيدة البناء التوحيدي أنموذجاً: للشيخ حميد عبد الجليل الوائلي, مجلة الموعود, العدد4/ذو الحجة/1438هـ. (8) ظ: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: للشيخ ناصر مكارم الشيرازي, ج1, ص55. (9) تفسير الميزان: للعلامة الطباطبائي, ج1,ص41, عن الفقيه, وتفسير العياشي. اللهم اهدِ وليّك واهدنا على يديه صراطًا مستقيما.

العقائد
منذ 4 سنوات
509

عمائم شرف-ح ٩ الشهيد السعيد الشيخ محمد حسين الراشد

بقلم: غدير خم حميد لكل ثرى عطره في الثرى *** وعطر العراق بدمٍ سرى فذي داعش دنست أرضنا *** فسالت دماء لكي يطهرا بفتوى اطاحت عروش الضلال *** وحشد يدافع ما قصرا ومن حوزة العلم قامت مئات *** لنصر البلاد إذ حوصرا عمائم شرف توازي الجبال *** بمجدٍ وخلق لن يحصرا من عمائم الشرف المباركة التي حمت ارض العراق وفدت المقدسات بدمائها الشهيد السعيد الشيخ محمد حسين عبد الله الراشد، ولد الشيخ الشهيد عام ١٩٨٧م، في قضاء شط العرب محافظة البصرة، انتقلت عائلته للسكن في مدينة النجف الأشرف بعد ولادته بعدة أشهر. عرف الشهيد بأخلاقه العالية، فهو طيب القلب محب للخير، هادئ قليل الكلام كثير الأفعال. دخل الحوزة العلمية المباركة منذ بداية بلوغه، وكان متميزًا في دراسته لعلوم آل البيت (عليهم السلام) والدين الحنيف، مجتازًا كل الاختبارات بجدارة، كما أنه منح شهادة تقديرية من إحدى حوزات النجف الأشرف لما وصل إليه من تفوق. درس المقدمات والسطوح، وكان أمله وغاية مبتغاه بلوغ مرحلة البحث الخارج، لكن صدور الفتوى المقدسة حال دون ذلك، فقد التحق بـ"لجنة الارشاد والتعبئة" التابعة للعتبة العلوية المقدسة، للدفاع عن عراق المقدسات، فكان أول التحاقه في منطقة البشير، وقد أظهر استبسالًا يليق برجل لا يخاف الموت ويعشق الشهادة، كان قلّما يرى أسرته وذويه، متعلقًا بجبهات القتال مفتشًا بين سواترها عن الشهادة، وكثيرًا ما كان يغبط طلبة الحوزة ممن التحقوا بقافلة الشهداء الأبرار السعداء، ويردد دائمًا: "اللهم ارزقنا اللحاق بهم عن طريق الشهادة". شارك في العديد من المعارك كانت آخرها في منطقة بادوش في قاطع عمليات الموصل، إذ أبلى بلاءً حسنًا متعاونًا مع بقية رفاقه المجاهدين الأبطال حتى تم تطهير المنطقة بالكامل، فقرر العودة الى أهله، لكنه في الطريق وتحديدًا في منطقة العوجة في محافظة صلاح الدين تعرض لحادث أودى بحياته، فنال شرف الشهادة بتاريخ ١-٣-٢٠١٧م. فالسلام عليك يوم سعيت لنيل علوم الدين، ويوم جاهدت في سبيل المقدسات والمسلمين، ويوم استشهدت بصدق العقيدة واليقين، فرسول الرحمة ونبي الامة صلى الله عليه وآله يقول: "من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه"، فكيف بك وأنت الذي سعيت الى ساحات الجهاد، وطلبت الشهادة في كل ميعاد، وجاءك الموت وأنت ما تزال بثياب الحشد المقدس وآثار المعارك والبطولات ما تزال مرتسمة عليها، فالسلام عليك يوم استشهدت، ويوم تبعث في قافلة الشهداء ضمن ثلة وكوكبة مباركة عظيمة من طلبة الحوزة الذين نالوا شرف الجهاد في سبيل الله والشهادة دون دينه ومقدساته، والسلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته.

اخرى
منذ 4 سنوات
1060

خاطرة

وهل الفتوى تُحقق نصراً لو لا امتثال المجاهدين الغيارى لها؟ هكذا هو الدين لا يصنع المتدين اذا لم يمتثل له. #فتوى_تحرير_وطن

اخرى
منذ 4 سنوات
420

التعليقات

يتصدر الان

لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع

يستشهد الكثير من الناس ــ وحتى بعض المثقفين ــ بقول:" لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع فإن الخير فيها دخيل وعاشر نفساً جاعت بعد شبع فإن الخير فيها أصيل" على أنه من أقوال أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، كما يستشهدون أيضاً بقولٍ آخر ينسبونه إليه (عليه السلام) لا يبعد عن الأول من حيث المعنى:"اطلبوا الخير من بطون شبعت ثم جاعت لأن الخير فيها باق، ولا تطلبوا الخير من بطون جاعت ثم شبعت لأن الشح فيها باق"، مُسقطين المعنى على بعض المصاديق التي لم ترُق افعالها لهم، لاسيما أولئك الذين عاثوا بالأرض فساداً من الحكام والمسؤولين الفاسدين والمتسترين عل الفساد. ونحن في الوقت الذي نستنكر فيه نشر الفساد والتستر عليه ومداهنة الفاسدين نؤكد ونشدد على ضرورة تحرّي صدق الأقوال ومطابقتها للواقع وعدم مخالفتها للعقل والشرع من جهة، وضرورة التأكد من صدورها عن أمير المؤمنين أبي الأيتام والفقراء (عليه السلام) أو غيرها من المعصومين (عليهم السلام) قبل نسبتها إليهم من جهة أخرى، لذا ارتأينا مناقشة هذا القول وما شابه معناه من حيث الدلالة أولاً، ومن حيث السند ثانياً.. فأما من حيث الدلالة فإن هذين القولين يصنفان الناس الى صنفين: صنف قد سبق له أن شبع مادياً ولم يتألم جوعاً، أو يتأوه حاجةً ومن بعد شبعه جاع وافتقر، وصنف آخر قد تقلّب ليله هماً بالدين، وتضوّر نهاره ألماً من الجوع، ثم شبع واغتنى،. كما جعل القولان الخير متأصلاً في الصنف الأول دون الثاني، وبناءً على ذلك فإن معاشرة أفراد هذا الصنف هي المعاشرة المرغوبة والمحبوبة والتي تجرّ على صاحبها الخير والسعادة والسلام، بخلاف معاشرة أفراد الصنف الثاني التي لا تُحبَّذ ولا تُطلب؛ لأنها لا تجر إلى صاحبها سوى الحزن والندم والآلام... ولو تأملنا قليلاً في معنى هذين القولين لوجدناه مغايراً لمعايير القرآن الكريم بعيداً كل البعد عن روح الشريعة الاسلامية ، وعن المنطق القويم والعقل السليم ومخالفاً أيضاً لصريح التاريخ الصحيح، بل ومخالف حتى لما نسمعه من قصص من أرض الواقع أو ما نلمسه فيه من وقائع.. فأما مناقضته للقرآن الكريم فواضحة جداً، إذ إن الله (تعالى) قد أوضح فيه وبشكلٍ جلي ملاك التفاضل بين الناس، إذ قال (عز من قائل):" يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)"(1) جاعلاً التقوى مِلاكاً للتفاضل، فمن كان أتقى كان أفضل، ومن البديهي أن تكون معاشرته كذلك، والعكس صحيحٌ أيضاً. وعليه فإن من سبق حاجتُه وفقرُه شبعَه وغناه يكون هو الأفضل، وبالتالي تكون معاشرته هي الأفضل كذلك فيما لو كان تقياً بخلاف من شبع وكان غنياً ، ثم افتقر وجاع فإنه لن يكون الأفضل ومعاشرته لن تكون كذلك طالما كان بعيداً عن التقوى. وأما بُعده عن روح الشريعة الإسلامية فإن الشريعة لطالما أكدت على أن الله (سبحانه وتعالى) عادلٌ لا جور في ساحته ولا ظلمَ في سجيته، وبالتالي لا يمكن أن يُعقل إطلاقاً أن يجعل البعض فقيراً ويتسبب في دخالة الخير في نفوسهم، التي يترتب عليها نفور الناس من عشرتهم، فيما يُغني سواهم ويجعل الخير متأصلاً في نفوسهم بسبب إغنائه إياهم ليس إلا ومن ثم يتسبب في كون الخير متأصلاً في نفوسهم، وبالتالي حب الناس لعشرتهم. فإن ذلك مخالف لمقتضى العدل الإلهي لأنه ليس بعاجزٍ عن تركه ولا بمُكره على فعله، ولا محب لذلك لهواً وعبثاً (تعالى عن كل ذلك علواً كبيراً). كما إن تأصل الخير في نفوس بعض الناس ودخالته في نفوس البعض الآخر منهم بناءً على أمر خارج عن إرادتهم واختيارهم كـ(الغنى والشبع أو الجوع والفقر) إنما هو أمرٌ منافٍ لمنهج الشريعة المقدسة القائم على حرية الانسان في اختياره لسبيل الخير والرشاد أو سبيل الشر والفساد، قال (تعالى):" إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)"(2) بل إن الانسان أحياناً قد يكون فقيراً بسبب حب الله (تعالى) له، كما ورد في الحديث القدسي: "أن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى فلو أفقرته لأفسده ذلك و أن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر فلو أغنيته لأفسده ذلك"(3) وهل يمكن ان نتصور أن الخيرَ دخيلٌ فيمن يحبه الله (تعالى) أو إن معاشرته لا تجدي نفعا، أو تسبب الهم والألم؟! نعم، ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"اِحْذَرُوا صَوْلَةَ اَلْكَرِيمِ إِذَا جَاعَ وَ اَللَّئِيمِ إِذَا شَبِعَ"(4) ولا يقصد به الجوع والشبع المتعارف عليه لدى الناس، وإنما المراد منه: احذروا صولة الكريم إذا اُمتُهِن، واحذروا صولة اللئيم إذا أكرم، وفي هذا المعنى ورد عنه (عليه السلام) أيضاً: "احذروا سطوة الكريم إذا وضع و سورة اللئيم إذا رفع"(5) وأما العقل السليم والمنطق القويم فإنهما يقتضيان أن تتأصل صفة الخير في الإنسان لملكاتٍ حميدة يتسم بها وصفات فضيلة يتميز بها، لا أن تتأصل صفة الخير في نفسه لمجرد أنه ولد في أسرة تتمتع بالرفاهية الاقتصادية ووجد في بيئة تتنعم بالثروات المادية! وعند مراجعتنا للتاريخ الصحيح نجد أن قادة البشر وصفوة الناس إنما كان أغلبهم ينتمي الى الطبقات الفقيرة من المجتمع، فهؤلاء الأنبياء ورسل الله (صلوات الله عليهم) منهم من كان نجاراً أو خياطاً أو راعياً، ومع ذلك فقد كانوا من أطيب الناس خلقاً، وأعظمهم شرفاً، وأرفعهم منزلةً، قد تأصّل الخير في نفوسهم تأصّلاً حتى غدوا قطعة منه، فكانوا هم الخير للبشر، وهم الرحمة للعالمين. وبالنزول إلى أرض الواقع نجد أن الكثير من الفقراء والمساكين طيبي الروح، كريمي النفس، يتألمون لألم المحتاج ولربما يؤثرونه على أنفسهم رغم حاجتهم. ولا نقصد من كلامنا هذا أن الأغنياء هم على نقيض ذلك، وإنما تأكيداً على مسألة عدم ارتباط تأصل الخير في النفوس وعدمه بمستواهم الاقتصادي الذي نشأوا فيه ارتباط العلة والمعلول، فكما إن بعض الفقراء أخيار، فإن بعض الأغنياء كذلك، والعكس صحيح أيضاً. ومن هنا يُفهم من بعض الروايات ضرورة عدم طلب الخير والحاجات ممن هم أهل للخير بقطع النظر عن مستواهم المعاشي الحالي والسابق، منها ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"أشد من الموت طلب الحاجة من غير أهلها"(5)، وعنه (عليه السلام) أيضاً: "فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غير أهلها"(6) إذن فلا صحة لهاتين المقولتين من حيث الدلالة، حتى وإن تنزلنا وحملنا الجوع والشبع على المعنى المعنوي لا المادي؛ وذلك لأنه حتى من يفتقر الى الأخلاق المعنوية فإنه ما إن يتكامل بالفضائل ويقلع عن الرذائل حتى يتسم بالخير وتحسن عشرته وتطيب للناس صحبته، والعكس صحيحٌ أيضا.. ومن البديهي أن ما لا يوافق العقل والمنطق السليم، ويخالف صريح القرآن الكريم، لا يمكن أن يصدر من وصي الرسول الكريم (صلوات الله عليهما وآلهما)، وعليه لا تصح نسبة هذين القولين الى أمير المؤمنين (عليه السلام).. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الحجرات 13 (2) الانسان 3 (3) عوالي الآلي ج2 ص29 (4) غرر الحكم ج1 227 (5) المدر السابق ج1 ص246 (6) ميزان الحكمة ج4 ص 238 رضا الله غايتي

اخرى
منذ 6 سنوات
76210

بين طيبة القلب وحماقة السلوك...

خلق الله الأشياء كلها في الحياة ضمن موازين وقياسات... فالزيادة أو النقيصة تسبب المشاكل فيها. وهكذا حياتنا وأفعالنا وعواطفنا لا بد أن تكون ضمن موازين دقيقة، وليست خالية منها، فالزيادة والنقيصة تسبب لنا المشاكل. ومحور كلامنا عن الطيبة فما هي؟ الطيبة: هي من الصفات والأخلاق الحميدة، التي يمتاز صاحبها بنقاء الصدر والسريرة، وحُبّ الآخرين، والبعد عن إضمار الشر، أو الأحقاد والخبث، كما أنّ الطيبة تدفع الإنسان إلى أرقى معاني الإنسانية، وأكثرها شفافية؛ كالتسامح، والإخلاص، لكن رغم رُقي هذه الكلمة، إلا أنها إذا خرجت عن حدودها المعقولة ووصلت حد المبالغة فإنها ستعطي نتائج سلبية على صاحبها، كل شيء في الحياة يجب أن يكون موزوناً ومعتدلاً، بما في ذلك المحبة التي هي ناتجة عن طيبة الإنسان، وحسن خلقه، فيجب أن تتعامل مع الآخرين في حدود المعقول، وعندما تبغضهم كذلك وفق حدود المعقول، ولا يجوز المبالغة في كلا الأمرين، فهناك شعرة بين الطيبة وحماقة السلوك... هذه الشعرة هي (منطق العقل). الإنسان الذي يتحكم بعاطفته قليلاً، ويحكّم عقله فهذا ليس دليلاً على عدم طيبته... بالعكس... هذا طيب عاقل... عكس الطيب الأحمق... الذي لا يفكر بعاقبة أو نتيجة سلوكه ويندفع بشكل عاطفي أو يمنح ثقة لطرف معين غريب أو قريب... والمبررات التي يحاول إقناع نفسه بها عندما تقع المشاكل أنه صاحب قلب طيب. الطيبة لا تلغي دور العقل... إنما العكس هو الصحيح، فهي تحكيم العقل بالوقت المناسب واتخاذ القرار الحكيم الذي يدل على اتزان العقل، ومهما كان القرار ظاهراً يحمل القسوة أحياناً لكنه تترتب عليه فوائد مستقبلية حتمية... وأطيب ما يكون الإنسان عندما يدفع الضرر عن نفسه وعن الآخرين قبل أن ينفعهم. هل الطيبة تصلح في جميع الأوقات أم في أوقات محددة؟ الطيبة كأنها غطاء أثناء الشتاء يكون مرغوباً فيه، لكنه اثناء الصيف لا رغبة فيه أبداً.. لهذا يجب أن تكون الطيبة بحسب الظروف الموضوعية... فالطيبة حالة تعكس التأثر بالواقع لهذا يجب أن تكون الطيبة متغيرة حسب الظروف والأشخاص، قد يحدث أن تعمي الطيبة الزائدة صاحبها عن رؤيته لحقيقة مجرى الأمور، أو عدم رؤيته الحقيقة بأكملها، من باب حسن ظنه بالآخرين، واعتقاده أن جميع الناس مثله، لا يمتلكون إلا الصفاء والصدق والمحبة، ماي دفعهم بالمقابل إلى استغلاله، وخداعه في كثير من الأحيان، فمساعدة المحتاج الحقيقي تعتبر طيبة، لكن لو كان المدّعي للحاجة كاذباً فهو مستغل. لهذا علينا قبل أن نستخدم الطيبة أن نقدم عقولنا قبل عواطفنا، فالعاطفة تعتمد على الإحساس لكن العقل أقوى منها، لأنه ميزان يزن الأشياء رغم أن للقلب ألماً أشد من ألم العقل، فالقلب يكشف عن نفسه من خلال دقاته لكن العقل لا يكشف عن نفسه لأنه يحكم بصمت، فالطيبة يمكن أن تكون مقياساً لمعرفة الأقوى: العاطفة أو العقل، فالطيّب يكون قلبه ضعيفاً ترهقه الضربات في أي حدث، ويكون المرء حينها عاطفياً وليس طيباً، لكن صاحب العقل القوي يكون طيباً أكثر من كونه عاطفياً. هل الطيبة تؤذي صاحبها وتسبب عدم الاحترام لمشاعره؟ إن الطيبة المتوازنة المتفقة مع العقل لا تؤذي صاحبها لأن مفهوم طيبة القلب هو حب الخير للغير وعدم الإضرار بالغير، وعدم العمل ضد مصلحة الغير، ومسامحة من أخطأ بحقه بقدر معقول ومساعدة المحتاج ... وغيرها كثير. أما الثقة العمياء بالآخرين وعدم حساب نية المقابل وغيرها فهذه ليست طيبة، بل قد تكون -مع كامل الاحترام للجميع- غباءً أو حماقة وسلوكاً غير عقلاني ولا يمت للعقل بصلة. إن المشكلة تقع عند الإنسان الطيب عندما يرى أن الناس كلهم طيبون، ثم إذا واجهه موقف منهم أو لحق به أذى من ظلم أو استغلال لطيبته، تُغلق الدنيا في وجهه، فيبدأ وهو يرى الناس الطيبين قد رحلوا من مجتمعه، وأن الخير انعدم، وتحصل له أزمة نفسية أو يتعرض للأمراض، لأن الطيّب يقدم الإحسان للناس بكل ما يستطيع فعله، ويقدّم ذلك بحسن نية وبراءة منه، فهو بالتالي ينتظر منهم الرد بالشكر أو المعاملة باللطف على الأقل... صحيح أن المعروف لوجه الله، ولكن من باب: من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق، لذلك يتأذى عندما يصدر فعل من الشخص الذي كان يعامله بكل طيب وصدق. هل الطيبة والصدق من علامات ضعف الشخصية؟ الكثير من الناس يصف طيب القلب بأنه ضعيف الشخصية، لأنه يتصف بعدم الانتقام ممن ظلمه، والصفح عنه عند رجوعه عن الخطأ، وأنه لا يحب إيقاع الآخرين بالمشاكل؛ لأنه مقتنع أن الله سيأخذ له حقه. والحقيقة هي أن الصدق والطيبة وحسن الظن بالآخرين ليست ضعف شخصية، بل هي من الأخلاق الراقية وهي تزيد صاحبها سمواً وجمالاً روحياً، وليس من المعيب أن يمتلك الإنسان الطيبة بل العيب في من لا يُقدّر هذه الطيبة ويعطيها حقها في التعامل بالمثل. فالمشكلة الأساسية ليست في الطيبة، إنما في استغلال الآخرين لهذه الطيبة، نتيجة لعدم عقلنة قراراتنا والاعتماد على عواطفنا بشكل كلي. فالصدق والطيبة حسب المنطق والعقل، ولها فوائد جمة للنفس ولعموم أفراد المجتمع، فهي تحصين للشخص عن المعاصي، وزيادة لصلة الإنسان بربه، وتهذيب للنفس والشعور بالراحة النفسية، فالصادق الطيب ينشر المحبة بين الناس، وهذا يعزّز التماسك الاجتماعي وتقويته من سوء الظنون والحقد، وهذا التعامل أكّدت عليه جميع الشرائع السماوية، ولو تأمّلنا تاريخ وأخلاق الأنبياء والأوصياء لوجدنا كل ما هو راقٍ من الأخلاق والتعامل بالطيبة والصدق... حنان الزيرجاوي

اخرى
منذ 5 سنوات
56132

الطلاق ليس نهاية المطاف

رحلةٌ مثقلة بالألم في طريق يئن من وطأة الظلم! ينهي حياة زوجية فشلت في الوصول إلى شاطئ الأمان. ويبدد طموحات أطفال في العيش في هدوء نفسي واجتماعي تحت رعاية أبوين تجمعهم المودة والرحمة والحب. الطلاق شرعاً: هو حل رابطة الزواج لاستحالة المعاشرة بالمعروف بين الطرفين. قال تعالى: [ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)].(١). الطلاق لغوياً: من فعل طَلَق ويُقال طُلقت الزوجة "أي خرجت من عصمة الزوج وتـحررت"، يحدث الطلاق بسبب سوء تفاهم أو مشاكل متراكمة أو غياب الانسجام والحب. المرأة المطلقة ليست إنسانة فيها نقص أو خلل أخلاقي أو نفسي، بالتأكيد إنها خاضت حروباً وصرعات نفسية لا يعلم بها أحد، من أجل الحفاظ على حياتها الزوجية، ولكن لأنها طبقت شريعة الله وقررت مصير حياتها ورأت أن أساس الـحياة الزوجيـة القائم على المودة والرحـمة لا وجود له بينهما. فأصبحت موضع اتهام ومذنبة بنظر المجتمع، لذلك أصبح المـجتمع يُحكم أهواءه بدلاً من الإسلام. ترى، كم من امرأة في مجتمعنا تعاني جرّاء الحكم المطلق ذاته على أخلاقها ودينها، لا لسبب إنما لأنها قررت أن تعيش، وكم من فتاة أُجبرت قسراً على أن تتزوج من رجل لا يناسب تطلعاتها، لأن الكثير منهن يشعرن بالنقص وعدم الثقة بسبب نظرة المجتمع، وتقع المرأة المطلّقة أسيرة هذه الحالة بسبب رؤية المجتمع السلبيّة لها. وقد تلاحق بسيل من الاتهامات وتطارد بجملة من الافتراءات. وتعاني المطلقة غالباً من معاملة من حولها، وأقرب الناس لها، بالرغم من أن الطلاق هو الدواء المر الذي قد تلجأ إليه المرأة أحياناً للخلاص من الظلم الذي أصبح يؤرق حياتها الزوجية، ويهدد مستقبلها النفسي، والله تعالى لم يشرع أمراً لخلقه إلا إذا كان فيه خير عظيم لهم، والطلاق ما شرّع إلا ليكون دواء فيه شفاء وإن كان مرّاً، وإن كان أمره صعباً على النفوس، حيث قال عز وجل: "وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا"، روي عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) ((أبغض الحلال إلى الله الطلاق) (٢). ورغم أن الشريعة الإسلامية أباحت الطلاق بشروط تلاءم لبناء المجتمع، وأولت أهمية في الإحسان دائمًا للطرف الأضعف والأكثر خسارة في هذه المعادلة وهي "المرأة"، إلا أن المجتمع الذي يدّعي الإسلام لا يرحمها، ويحكم عليها بالإدانة طوال حياتها دون النظر في صحة موقفها في الطلاق من عدمه! قال( تعالى ): [الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] (٣). ولكن بعد كل هذا فالحياة لم ولن تتوقف بعد الطلاق! الطلاق ليس نهاية الحياة. - أخيتي. ليكن الطلاق بداية جديدة لحياة جديدة وللانطلاق. -قطار العطاء لن يتعطل. فإن كنت السبب في الطلاق فالحمد لله على كل حال وتلك أمة قد خلت وأيام ذهبت وانجلت فلست بالمعصومة من الخطأ. وعليك استدراك الأخطاء وتقوية مواطن الضعف في شخصيتك، واجعليها درساً مفيداً في الحياة لتطوير نفسك وتقويتها. وإذا كنتِ مظلومة فهناك جبار يُحصي الصغير والكبير وسيأتي يوم ينتصر لك فيه. -ومن الجميل أن تعطي نفسك الإحساس بالحب والاحترام، ولا تتأثري بأي نظرة سلبية من المجتمع وكون البعض يتعامل مع المطلقة على أنها حالة خاصة فعليكِ إثبات ذاتك حتى تفرضي على الكل شخصيتك. - نظرتك لنفسك اجعليها نظرة ايجابية مشرقة ولا تنزلقي في مستنقع نبذ الذات وظلم النفس. - ابحثي عن الصفات الجيدة فيك فإن ذلك سيشعرك بالثقة في ذاتك والتقدير لها. -حاولي مراجعة نفسك للخروج بإيجابيات حصلت لك من طلاقك. - خالطي الآخرين وإياك والعزلة بسبب وضعك الجديد فلست بأول من يبتلى بالطلاق. -استمتعي بالموجود ولا تتعلقي بالمفقود، حلقي بروح تعبق أملاً وتفاؤلاً، استمتعي بما وهبك الله من نعم (صحة وأولاد وأهل وصديقات وعمل وهوايات وغيرها من الأمور الجميلة) فما حصل لك حصل… ولابد أن تتقبليه برضا، وأعلمي أن ما أصابك لم يكن ليخطأك وما أخطأك لم يكن ليصيبك. وقال أصدق من قال: ( وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم). فالرضا سر السعادة الحقيقي. - اقتربي من صديقاتك الصالحات، واقضي معهن وقتاً طيباً تنسين به ألمك وحزنك. - احرصي على الصلوات وقراءة القرآن الكريم والذكر والاستغفار وأكثري من الطاعات قدر ما تستطيعين، ففيها السلوى والفرح والسعادة. ونعم سعادة القرب من الرحمن. - اشغلي نفسك بأعمال البر والإحسان بمساعدة محتاج. بكفالة يتيم. بتعلم الفقه والقرآن وتعليمه. - اجتهدي في عمل برنامج يومي لك يكون ممتلأ بكل ما هو مفيد لك. من قراءة وزيارة الأصدقاء وصلة الرحم. بحيث لا تكون هناك دقيقة أنت فارغة فيها. - وأسرعي بقاربك الجميل بمجذافين من إيمان بالله وثقة بالنفس وسوف تصلين بإذن الله نحو جزيرة السعادة والنجاح. لكي تتسلق جبال الإنجاز، وتصل لأعلى مراتب الاعجاز. وعندها جزماً سيكون للحياة معنى آخر. --------------------------------- (١)-سورة البقرة الآية (٢٢٦-٢٢٧). (٢)-الكافي (٢)-سورة البقرة الآية (٢٢٨) حنان ستار الزيرجاوي

اخرى
منذ 6 سنوات
43336

لا تقاس العقول بالأعمار!

(لا تقاس العقول بالأعمار، فكم من صغير عقله بارع، وكم من كبير عقله فارغ) قولٌ تناولته وسائل التواصل الاجتماعي بكل تقّبلٍ ورضا، ولعل ما زاد في تقبلها إياه هو نسبته الى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولكننا عند الرجوع إلى الكتب الحديثية لا نجد لهذا الحديث أثراً إطلاقاً، ولا غرابة في ذلك إذ إن أمير البلاغة والبيان (سلام الله وصلواته عليه) معروفٌ ببلاغته التي أخرست البلغاء، ومشهورٌ بفصاحته التي إعترف بها حتى الأعداء، ومعلومٌ كلامه إذ إنه فوق كلام المخلوقين قاطبةً خلا الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ودون كلام رب السماء. وأما من حيث دلالة هذه المقولة ومدى صحتها فلابد من تقديم مقدمات؛ وذلك لأن معنى العقل في المفهوم الإسلامي يختلف عما هو عليه في الثقافات الأخرى من جهةٍ، كما ينبغي التطرق الى النصوص الدينية الواردة في هذا المجال وعرضها ولو على نحو الإيجاز للتعرف إلى مدى موافقة هذه المقولة لها من عدمها من جهةٍ أخرى. معنى العقل: العقل لغة: المنع والحبس، وهو (مصدر عقلت البعير بالعقال أعقله عقلا، والعِقال: حبل يُثنَى به يد البعير إلى ركبتيه فيشد به)(1)، (وسُمِّي العَقْلُ عَقْلاً لأَنه يَعْقِل صاحبَه عن التَّوَرُّط في المَهالِك أَي يَحْبِسه)(2)؛ لذا روي عنه (صلى الله عليه وآله): "العقل عقال من الجهل"(3). وأما اصطلاحاً: فهو حسب التصور الأرضي: عبارة عن مهارات الذهن في سلامة جهازه (الوظيفي) فحسب، في حين أن التصوّر الإسلامي يتجاوز هذا المعنى الضيّق مُضيفاً إلى تلك المهارات مهارة أخرى وهي المهارة العبادية. وعليه فإن العقل يتقوّم في التصور الاسلامي من تظافر مهارتين معاً لا غنى لأحداهما عن الأخرى وهما (المهارة العقلية) و(المهارة العبادية). ولذا روي عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنه عندما سئل عن العقل قال :" العمل بطاعة الله وأن العمّال بطاعة الله هم العقلاء"(4)، كما روي عن الإمام الصادق(عليه السلام)أنه عندما سئل السؤال ذاته أجاب: "ما عُبد به الرحمن، واكتسب به الجنان. فسأله الراوي: فالذي كان في معاوية [أي ماهو؟] فقال(عليه السلام): تلك النكراء، تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل"(5) والعقل عقلان: عقل الطبع وعقل التجربة، فأما الأول أو ما يسمى بـ(الوجدان الأخلاقي) فهو مبدأ الادراك، وهو إن نَما وتطور سنح للإنسان فرصة الاستفادة من سائر المعارف التي يختزنها عن طريق الدراسة والتجربة وبالتالي يحقق الحياة الإنسانية الطيبة التي يصبو اليها، وأما إن وهن واندثر لإتباع صاحبه الأهواء النفسية والوساوس الشيطانية، فعندئذٍ لا ينتفع الانسان بعقل التجربة مهما زادت معلوماته وتضخمت بياناته، وبالتالي يُحرم من توفيق الوصول إلى الحياة المنشودة. وعقل التجربة هو ما يمكن للإنسان اكتساب العلوم والمعارف من خلاله، وما أروع تشبيه أمير البلغاء (عليه السلام) العلاقة التي تربط العقلين معاً إذ قال فيما نسب إليه: رأيت العقل عقلين فمطبوع ومسموع ولا ينفع مسموع إذ لم يك مطبــوع كما لا تنفع الشمس وضوء العين ممنوع(6) فقد شبّه (سلام الله عليه) عقل الطبع بالعين وعقل التجربة بالشمس، ومما لاشك فيه لكي تتحقق الرؤية لابد من أمرين: سلامة العين ووجود نور الشمس، وكما إن الثاني لا ينفع إن لم يتوفر الأول فكذلك عقل التجربة لا ينفع عند غياب عقل الطبع فضلاً عن موته. وبما إن عقل الطبع قد ينمو ويزدهر فينفع صاحبه من عقل التجربة، وقد يموت ويندثر عند الاستسلام لإضلال شبهةٍ أوبسبب إرتكاب معصية، فإنه ومن باب أولى أن يتعرض الى الزيادة والنقصان كما سيأتي... وقد ورد في النصوص الدينية أن للعقل زمناً ينمو فيه ويكتمل، فعن إمامنا أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه):"يثغر الصبي لسبع، ويؤمر بالصلاة لتسع، ويفرق بينهم في المضاجع لعشر، ويحتلم لأربع عشرة، وينتهى طوله لإحدى وعشرين سنة، وينتهي عقله لثمان وعشرين إلا التجارب"(7)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يربى الصبي سبعاً ويؤدب سبعاً، ويستخدم سبعاً، ومنتهى طوله في ثلاث وعشرين سنة، وعقله في خمس وثلاثين [سنة] وما كان بعد ذلك فبالتجارب"(8). إذن يتوقف النمو الطبيعي لعقل الانسان عند سن الثامنة والعشرين أو الخامسة والثلاثين كما ورد في الروايتين، وأية زيادة أخرى في طاقته بعد ذلك إنما تأتي عن طريق التجارب، وقد يُتوهم بأن ثمة تعارضاً ما بين الروايتين المتقدمتين في شأن تحديد سن النمو العقلي، إلا إنه لا تعارض ينهما إذا حملنا اختلافهما فيه على اختلاف الاشخاص وتباين استعدادات وقابليات كل منهم. وعلى الرغم من توقف نمو عقل الإنسان إلا إن له أنْ يزيده بالتجارب ومواصلة التعلم ــ كما تقدم في الروايات ــ وسواء أثبت العلم هذه الحقيقة الروائية أم لا، فنحن نريد الإشارة إلى ضرورة استمرار التجربة والتعلم لزيادة نمو العقل وهذا المقدار لا خلاف فيه وعلى الرغم من إن لعمر الانسان مدخلية في زيادة عقله كما تقدم وكما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يزيد عقل الرجل بعد الاربعين إلى خمسين وستين، ثم ينقص عقله بعد ذلك"(9)، إلا إن ذلك ليس على نحو العلة التامة، إذ يمكن للعقل أن يبقى شاباً وقوياً وإن شاب الإنسان وضعف جسمه، وتقدم في السن ووهن عظمه، فالعاقل لا يشيب عقله ولا تنتقص الشيخوخة من قوته بل وقد يزداد طاقةً وحيويةً لذا ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"رأي الشيخ أحب الي من جَلَد الغلام"(10)، وفي أخرى ".....من حيلة الشباب "(11) وأما من لم يوفر أسباب صقل عقله في مرحلة الشباب فإنه بلا شك يضمحل عقله في مرحلة الشيخوخة. وليس تقدم العمر هو العامل الوحيد في نقصان العقل بل إن النصوص الشرعية أشارت الى عوامل عديدة اخرى أهمها: أولاً: التعلم: فقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "من لم يصبر على ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبداً"(13). ثانياً: التوبة: وعنه (عليه السلام) ايضاً:"من لم يرتدع يجهل"(14) ثالثاً: التقوى: فقد كتب إمامنا الباقر (عليه السلام) إلى سعد الخير: "بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإني اوصيك بتقوى الله فإن فيها السلامة من التلف والغنيمة في المنقلب إن الله (عزوجل) يقي بالتقوى عن العبد ما عزب عنه عقله ويجلي بالتقوى عنه عماه وجهله"(15) إذن التوبة هي سبب للتوفيق الإلهي الذي يؤدي فيما يؤدي إليه من إكمال العقل. رابعاً: الوقوف عند الشبهة: وقال (عليه السلام ): "لا ورع كالوقوف عند الشبهة"(16). فإن الوقوف عند الشبهات سبب من أسباب التوفيق الإلهي بلا شك. خامساً: الاعتراف بالجهل: كما روي عن الإمام علي (عليه السلام): "غاية العقل الاعتراف بالجهل"(17) إذ الاعتراف بالجهل يدفع الإنسان دوماً إلى مزيد من بذل الجهد واكتساب المعارف. مما تقدم تتضح جلياً صحة هذه المقولة دلالةً، إذ إن العقول فعلاً لا تقاس بالأعمار لأن كلٍاً من زيادتها ونقيصتها منوطٌ بالعديد من العوامل الأخرى والتي تقدم ذكرها، بيد إن ذلك لا يبرر التساهل في نشرها والتهاون في الاستشهاد بها على إنها من أقوال أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) لعدم ثبوت ذلك سنداً من جهة ولضعف بلاغتها وركاكة تركيبها بالنسبة إلى سيد البلغاء والبلاغة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) تهذيب اللغة ج1 ص65 (2) لسان العرب ج11 ص458 (3) نهاية الحكمة ص305 (4) ميزان الحكمة ج3 ص333 (5) أصول الكافي ج1، ح3 / 11 (6) نهج السعادة ج9 ص163 (7) الكافي ج7 ص94 (8) الفقيه ج3 ص493 (9) الاختصاص ص245 (10) نهج البلاغة حكمة 86 (11) بحار الأنوار ج72 ص105 (12) المصدر السابق ج1 ص94 (13) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص118 (14) الكافي ج8 ص73 (15) وسائل الشيعة ج1 ص162 (16) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص1 بقلم الكاتبة: رضا الله غايتي

اخرى
منذ 6 سنوات
42964

المرأة في فكر الإمام علي (عليه السلام)

بقلم: أم نور الهدى كان لأمير المؤمنين (عليه السلام) اهتمام خاص بالمرأة، فنراه تارة ينظر إليها كآية من آيات الخلق الإلهي، وتجلٍ من تجليات الخالق (عز وجل) فيقول: (عقول النساء في جمالهن وجمال الرجال في عقولهم). وتارة ينظر إلى كل ما موجود هو آية ومظهر من مظاهر النساء فيقول: (لا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها فإن المرأة ريحانة وليس قهرمانة). أي إن المرأة ريحانة وزهرة تعطر المجتمع بعطر الرياحين والزهور. ولقد وردت كلمة الريحان في قوله تعالى: (فأمّا إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة النعيم) والريحان هنا كل نبات طيب الريح مفردته ريحانة، فروح وريحان تعني الرحمة. فالإمام هنا وصف المرأة بأروع الأوصاف حين جعلها ريحانة بكل ما تشتمل عليه كلمة الريحان من الصفات فهي جميلة وعطرة وطيبة، أما القهرمان فهو الذي يُكلّف بأمور الخدمة والاشتغال، وبما إن الإسلام لم يكلف المرأة بأمور الخدمة والاشتغال في البيت، فما يريده الإمام هو إعفاء النساء من المشقة وعدم الزامهن بتحمل المسؤوليات فوق قدرتهن لأن ما عليهن من واجبات تكوين الأسرة وتربية الجيل يستغرق جهدهن ووقتهن، لذا ليس من حق الرجل إجبار زوجته للقيام بأعمال خارجة عن نطاق واجباتها. فالفرق الجوهري بين اعتبار المرأة ريحانة وبين اعتبارها قهرمانة هو أن الريحانة تكون، محفوظة، مصانة، تعامل برقة وتخاطب برقة، لها منزلتها وحضورها. فلا يمكن للزوج التفريط بها. أما القهرمانة فهي المرأة التي تقوم بالخدمة في المنزل وتدير شؤونه دون أن يكون لها من الزوج تلك المكانة العاطفية والاحترام والرعاية لها. علماً أن خدمتها في بيت الزوجية مما ندب إليه الشره الحنيف واعتبره جهادًا لها أثابها عليه الشيء الكثير جدًا مما ذكرته النصوص الشريفة. فمعاملة الزوج لزوجته يجب أن تكون نابعة من اعتبارها ريحانة وليس من اعتبارها خادمة تقوم بأعمال المنزل لأن المرأة خلقت للرقة والحنان. وعلى الرغم من أن المرأة مظهر من مظاهر الجمال الإلهي فإنها تستطيع كالرجل أن تنال جميع الكمالات الأخرى، وهذا لا يعني أنها لا بد أن تخوض جميع ميادين الحياة كالحرب، والأعمال الشاقة، بل أن الله تعالى جعلها مكملة للرجل، أي الرجل والمرأة أحدهما مكمل للآخر. وأخيرًا إن كلام الإمام علي (عليه السلام) كان تكريمًا للمرأة ووضعها المكانة التي وضعها الله تعالى بها، حيث لم يحملها مشقة الخدمة والعمل في المنزل واعتبر أجر ما تقوم به من اعمال في رعاية بيتها كأجر الجهاد في سبيل الله.

اخرى
منذ 5 سنوات
39683

أساليب في التربية

عالم الطفولة كأنه طاولة، لا تجد فيه غير طعام لذيذ، ومنظر لطيف وجديد، فعالمهم فاكهة الوجود، وخضار الأرواح، ومياه الحياة تسقي القلوب... عالم صفاء وأحلام جميلة بسيطة وتافهة ولكن بنظرهِ هو عظيمة وكبيرة، فهو العالم الذي ينطلق منه الإنسان في بداية عمره. فالطفل في بداية حياته ينظر إلى الحياة بتفكيره البريء، فالطفل يعيش بعالم خاص به مملوء بالمحبة البريئة. هذه هي الصورة الجميلة التي يحملها الطفل، وكم يتمنى كل إنسان أن يعود لطفولته البريئة ليتأمل في أرجاء عالمها الذي كان يصور له حياة مختلفة تشد الإنسان إليها بجمالها، هذا هو عالم الطفولة وهذه أحلام من يعيشها، فلا ينفذ إلى ملكوت ذلك العالم ولا يدرك كنهه إلا من عاشه وجال في ربوعه. حيث يتذوق الطفل مع أحلام طفولته هذه لذة الحياة ولذة العيش فيها، ومهما حاولنا أن نعبر عن هذه الحقيقة فلن نستطيع تصويرها بالكلمات. وبعد هذا، فإن الاهتمام بمستقبل الطفل هو في الواقع ضمان لمستقبل شعب بأسره. قال اللَّه تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا". التحريم/6 أعتنى الإسلام بتربية الأبناء عناية فائقة، وألقى على عاتق الأهل ما سيكون عليه الولد في مسلكه الدنيوي ومصيره الأخروي إن هم قصروا في تربيته وإعداده. وقد ذكر العلماء أن شخصية الولد تتأثر في نموها بعوامل ثلاثة وهي: الوراثة، والبيئة، والتربية. إذا خضنا في مضمار التربية السليمة للأبناء... فعلى الأبوين أن يكون لهما الوعي التربوي الذي يبنى على أسس صحيحة ويتوفر لديهم فهم لأساليب التربية والتوجيه والرعاية وهذه نقطة البداية. فمثلاً في أسلوب التعامل مع الطفل تبرز أمامنا ثلاثة اشكال لتعامل الآباء مع الأبناء: الشكل الأول: أسلوب الدلال المفرط وهذا الأسلوب له نتائجه السلبية الخطيرة، فإنه يخلق شخصية هشة متميعة وشخصية اتكالية تحب الكسل والخمول مجردة من الهدف والإقدام، انهزامية غير قادرة على مواجهة التحديات وبمعنى أدق شخصية لا تثق بنفسها. شخصية متسيبة في ظل غياب المراقبة والمحاسبة وهذا التسيب يقود إلى الانفلات والانحراف. الشكل الثاني: فهو أسلوب التربية القاسية والعنف. وهذا الأسلوب أيضاً له نتائجه الخطيرة والسلبية التي يعاني منها الأبناء طوال حياتهم فهو يخلق شخصية قلقة ومتأزمة ومعقدة وخائفة وتحمل عقدة الخوف، شخصية حاقدة وعدوانية وقد تتأزم الأمور لتصبح شخصية منافقة وكاذبة خوفاً من العقاب والتعنيف ضمن حدود الأسرة ولكن يوماً من الأيام سينطلق هذا الشخص ليواجه المجتمع ككل، فلنتصور كيف سيتعامل مع المحيطين ضمن مجالات الدراسة والعمل وهو شخصية هاربة من أجواء الأسرة وقد يعرضها للتسيب والانحراف لأنها شخصية متمردة مما يعرضها للعقوق. الأسلوب الثالث: التوازن. الأسلوب الصحيح يعتمد على التوازن فمن شروط نجاح التربية التوازن في المعاملة ما بين الأمور التي تحتاج إلى شدة وحزم ليتربى على أن هذه الأمور خطوط حمراء طبعاً هنا يمكن أن يعترض أحد ويقول: لا للعنف الأسري ولا لاستخدام القسوة. نعم فهناك طرق غير استخدام العنف. يكفي ان يبدي الآباء انزعاجهم مثلاً. وهنا النقطة مهمة جداً، وهي: أن نوضح لهم سبب المنع والرفض لا تعتقدوا أن أبناءكم لا يدركون ولن يفهموكم. تخصيص الوقت للنقاش مهم جداً. وما بين أسلوب المرونة والحنان والاحتواء. التوازن في المعاملة. إن الإمام زين العابدين (عليه السلام) يصرح بمسؤولية الأبوين بتربية الطفل، ويعتبر التنشئة الروحية والتنمية الخلقية لمواهب الأطفال واجباً دينياً يستوجب أجراً وثواباً من الله تعالى، وأن التقصير في ذلك يُعرّض الآباء إلى عقاب الله. فيقول (عليه السلام): (وأما حق ولدك عليك فأن تعلم أنه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره. وأنك مسؤول عما وليته به من حسن الأدب والدلالة على ربه عز وجل والمعونة له على طاعته. فأعمل في أمره عمل من يعلم أنه مثاب على الإحسان إليه معاقب على الإساءة إليه ) مكارم الأخلاق للطبرسي ص٢٣٢ حنان الزيرجاوي

اخرى
منذ 6 سنوات
33435