"أشدد حيــازيمك للموت فإن الموت لاقيكــا ولا تجــزع مـن المــوت إن حـلّ بــنــاديـكــا ولا تــغــتـــرَّ بالــدهــــر وإن كــان يـواتـيكـا كـمـا أضــحـكــك الدهــر كذاك الـدهر يبكيكا" ... وشدّ الإمام رداءه الذي تعلّق به باب الدار، ومضى بخطىً وئيدةٍ مستغفراً مسبّحاً مودّعاً تلك الأحجار. ولكن، ترى ... أنى لتلك الأحجار أن تودعَه، وهي تنظر إليه ولو نطقت لنادته مفجعَة، ولو تحركت لتشبّثت بردائه لترجعَه، عساها تثنيه عن الوصول إلى قدره المحتوم. إي والله، ... لا قدر أفجع وأوجع من ذلك القدر، وإني لأعجب كيف استطاعت ملائكة السماء أن تتحمل ما جرى، ولا أعجب للبشر، فالبشر ديدنهم نسيان الإحسان إلا فيما ندر. مولاي، يا قائد الغر المحجلين، كيف كان مسراك في تلك الليلة المظلمة المكفهر بدرها في السماء؟! ... كيف تحمّل الثرى المجبول بعرق جهادك وقع خطاك؟! ... بل هل تململت الحصباء تحت قدميك المطهّرتين كما يتململ تحت مركب العشاق الراحل الماء؟! أيها المركب المشرع قلوعَه في وجه الريح، ... أسمعت يوماً عن شراعٍ يملأ القلوع ويبث الريح في القلب المَنوع، فينتصب فوق الذرى الشامخات لواءً مرفرفاً في رحلة الذهاب بلا رجوع؟! أسمعت عن بحرٍ ينتظر ربّانه، وجزيرة غارقة بالوجد مزدانة، وعيون تبكي وتبكي وتذرف كل ذلك الزبد المالح بل الموج المقبل والرائح، عساها تستعيد لحظةً في ظل المركب السابح؟! ... مولاي، تنفس الفجر بآهات أذانك المتغلغل في أجواز الفضاء، يذكّر الغافلين بموعد التحاقك بركب السماء، ثم تهاوى منطرحاً عند محرابك لينزف من هامتك الشماء، ما يغذي وريده أبد الدهر، فإذا هو منك صادرٌ وإليك وارد، ودماء العشق تلوّن الشفق المتسلل من عِمّة الطهر، ويعمّ قدسك كل الوجود حالما ينطلق من شفتيك ذاك النداء: " فزتُ ورب الكعبة!" مولاي، وكيف لا تفوز والفوز موعدك والكعبة مولدك، والكوثر موردك، والجنة كل الجنة مرقدك؟! ولكن، واهاً للخسارة الكبرى، نحن الذين فقدناك وتيتّمنا برَداك، بعدما تعوّدنا أن يضمنا رِداك ويكرمنا نداك، نمشي على خطاك ونهتدي بِلِواك، فهل للحياة والهدى طعمٌ إلّاك؟! مولاي، لولا أننا علمنا أن كل شهيدٍ حيٌّ عند رب الأرباب، وأنك أنت أبو الشهداء، لا زلت فينا حيّاً رغم الغياب، لكان الموت لنا هو الأمنية الوحيدة التي تجمعنا بك، فطوبى لك حياتك وشهادتك، وطوبى لنا نحن كل ذاك!
اخرى