بقلم: كوناي البياتي إنني في حَيرةٍ من أين أبدأ الحكاية؟ حكاية رجلٍ كبيرٍ في معانيه كثيرٍ في عطائه، مجيدٍ في صفاته، والأولِّ في المراحلِ الدراسيةِ كافة، ومَثَل أسمى لوحةِ شرفٍ في الحياة، فهو الأديبُ البارع والمعلمُ الفاضل، وبالرغم من كلِّ هذا إلا أنَّه لم يَذُقْ الدلالَ؛ لأنَّ حياتَه مبنيةٌ على التضحيةِ، يُضحي من أجلِ الأبِ والأمِّ والأخ والأخت، فقد كان أبًا لأبيه، حَمَلَ عنه معنى الأبوّة فأصبحَ أبًا قبل أنْ يبلُغَها، فأشعلَ هذا الثقلُ ذكاءه وفجرَ مواهبَه الباطنة، وحرصَ أنْ يُعطيَ ولا يأخذ، وهكذا اجتمعت خصالٌ وصفاتٌ كثيرةٌ في سمتِ هذه الشخصية. نعم، لقد اجتمعت في شخصٍ واحدٍ فكان حليمًا، راضيًا، متصالحًا مع نفسه ومع الآخرين، وصاحبَ رضا، ففي وجهه لونٌ من الرضا لا يتغيرُ لا في بؤسٍ ولا في نعيمٍ، ولا استبعدُ القولَ: إنَّه حوى في كنهِهِ تكهُناتٍ من الرضا الإلهي؛ لأنَّ اللهَ عزَّ وجل يهبُ صفاته لمن هو أهلٌ لها، فهو والرضا باتا صنوين، فرضاه رضا ثابتٌ، لا يتغيرُ مهما تغيرتِ الظروف، يُعطي للحياةِ معنى وللأشخاص هِمّة ويبثُّ في الضعفاءِ الأملَ، فعنده غيرُ الممكنِ يُصبِحُ ممكنًا بالهِمّةِ والمُثابرة، وعنده أيضًا يقينٌ أنَّ الحياةَ تُخلَّدُ بالعملِ الصالح، حتى باتَ الناسُ لا يرونَ في تركيبةِ طِباعِهِ إلا الإخلاصَ وإنْ كان حرمانًا، والسعادةَ وإنْ كانت بساطةً، والغنى وإن كان قناعةً، فعِندما ألتقي به يضحَكُ ضحكتَهُ المعروفةَ التي يبدأها فمُه وتُتمُّها عيناه ويشرحُها وجهُه كلُّه، فتجدُ كأنَّ في بسمتِه اشراقًا، وكأنَّه في روحِك ألقاها، وعندما يضحكُ تراهُ صاحبَ الضحكةِ المُطمئنةِ المتمكنةِ من معناها.. وإنّي لأكادُ كُلَّما تأملتُه أجدُهُ أسمى من هذا، فعندما تزورُهُ يُقدِّمُ لكَ مجلسين أحدهما قلبه، ثم يبدأ يصِفُ لكَ الحياةَ بصورةٍ هندسية برّاقة أُتقِنَتْ خطوطُ ورسومُ خريطتِها، قد تبلغُ الكمالَ في عينيك... أجدُ في ملامحِهِ وجهًا مُشرِقًـا، كأنَّهُ لم يعرفِ الحُزنَ يومًا، ولم يطرق الهمُّ بابَ خلواتِهِ يومًا، ومع أنَّ الدموعَ قد ملأتْ حنايا صدرِهِ إلا أنَّه لم يشتكِ ولم تَغِبْ بسمتُه عن شفاهِهِ، بلْ إنَّها تمدُّ أذرُعَها لتطغى على مُحيّا وجهِهِ الفالح.. أعتقدُ أنَّ هناك أوقاتاً ترسمُ الانكسارَ على وجهِهِ ويُخيَّل لي أنَّه يتساءلُ مع نفسه.. ليتَ أمّي كانت هُنا لتحمِلَ عني هذا الثقل، ثقل فقدِ الأهلِ والأحبابِ .. لماذا ليست أمّي هُنا؟ ... أظنُّ أنَّ الشعورَ بقيمةِ الدُنيا قد زالَ عن مُخيّلتِهِ، مُنذُ أنْ أصبحَ يُودِّعُ أحباءه واحدًا تلو الآخر... رجلٌ نَبَت في روحِهِ الصبرُ فأصبحَ يستمدُّ العونَ من الصبرِ كما يستمدُّ الليلُ النورَ من القمرِ، وإنَّ هذا النورَ يملأهُ وقارًا، فعليه من الوقارِ كظلِّ شجرةٍ كبيرةٍ خضراء في أرضٍ مشمسةٍ، وإنَّ أجملَ ما فيه أنَّه يُعامِلُ كُلَّ من يُحيطُ به كأنَّهم لم يرتكبوا خطأً واحدًا، فيجعلُك تشعرُ بالحياءِ من نفسك، وتعاودُ اخطاءَك.. أكثرُ ما أُغبِطُهُ فيه أنَّ الحديثَ الذي يتلقاهُ بحقِّ شخصٍ آخر يدخلُ من أذنِه ويخرجُ من قلبِه سالمًا، وهذا دليلٌ على أنْ لا مكان للوشايةِ عنده، فيرى الجميعَ بعينٍ واحدةٍ، فيخطرُ في بالي أنَّ قلبَ هذا الرجلِ قلبٌ متوضئٌ، قلبٌ يعلمُ العطاء، وأنَّ معنى الكبرياء عنده قد فقدَ روحه لتجدَ معنى التواضع، بالرغمِ من أنَّه كان آنذاك معلمَ وطبيبَ زمانِهِ لشحةِ أهلِ العلم في ذلك المكانِ والزمان فكان يعملُ طبيبًا ومُعلمًا وأبًا ومُربيًا، فصنعَ أجيالًا واجيالًا، حتى مضى مُتعبًا مُضحيًا ولم يرَ الراحةَ في قاموسِ حياتِهِ. إهداءٌ إلى خالي العزيز..
اخرىبقلم: كوناي البياتي عزيزتي اللغة العربية، هل لنا أن نتحاور؟ اللغة العربية: نعم وبكل رحابة. أنا: كيف حالك؟ اللغة العربية: إنني في حالة رفع. أنا: زادكم الله رفعة ونصب أعداءكم وجرّ الخير إليكم... عزيزتي، إنني مصابة بكِ فهل من دواءٍ؟ اللغة العربية: أجل ما هي علتُكِ؟ أنا: إنها الهمزة بين الوصل والقطع، إنها التاء بين الفتح والغلق... اللغة العربية: إنها بسيطة. أنا: ولكنني أخشى أن تغدو أحسن كتاباتي أقبحها، فاﻵراء متباينة، وأهل اللغة أدرى بنقاط ضعفها وقوتها. اللغة العربية: ثم ماذا؟ أنا: أخشى أن لا أؤدي اللغة حقها، أخشى وعورة الألفاظ والركاكة، أخشى غربة القرّاء... اللغة العربية: ماذا تقصدين بغربة القرّاء؟ أنا: شعور القرّاء بالغربة عندما يقرؤون أحرفي! وإن نيتي (أن تلامس أحرفي قلوبهم لا أعينهم)، وإنني لأخشى خمود الفكر وغياب الرونق... اللغة العربية: ماذا تقصدين بهذا؟ أنا: أما خمود الفكر: هو أن يخمد في أفكارهم سياق واحد ولون واحد يشير إلي، أي غياب التنوع في كتاباتي. وأما غياب الرونق: أي لا تضيف كتاباتي لذات القرّاء شيئاً، لأن الأدب بُنيَ على التأثير لا على السرد، وعلى الإحساس لا على الأشياء... فيتوقع القارئ حديث الروح لا حديث اللسان. اللغة العربية: ثم ماذا؟ أنا: وأخشى الإسراف وعدم ضبط المقادير. هنا ابتسمت اللغة العربية قائلة: اطمئني يا عزيزتي، إن الآداب واللغة قد خلصا لكِ بنيتهم، فلان الأدب بين يديك؛ كما يلين الذهب في يد الصائغ، وقد ابدعتِ في تركيبه ورسمه، وتمكنتِ من زخرفة فلسفته، ولكن حاولي أن تكوني من الذين أضافوا للّغة مادة، فزادوها حلاوة، واتسعت فيهم دائرة الخيال.
اخرىبقلم: كوناي البياتي أتعبتْني ذاتي، وأمسيتُ كالمغموم في أثقل أحواله، وازداد حتى وزن ثيابي، ويداي كأغصان وردة ذابلة... هاج الصداع في مقدمة رأسي، والأفكار التي في خاطرتي أثقل من المهام التي في حياتي… فأين لي بمشفى الكتاب؟ أين لي بدواوين الشعراء؟ أين لي الشفاء من داء القلم؟ إلهي، هل من سبيل؟ قد تراكمت التعابير، وتزاحمت الحروف، فلا طريق غير أن أتململ وأنال التعب حتى ينقلب التعب نومًا... حضرَ النوم! يا أهل الأفكار، أنّني استأذن، وأعلم أنني حتى لو نمت سأزداد أرقًا، لأن النوم يجيء بتعبٍ آخر... مَنْ قال إن النوم راحة وسكينة؟ النوم تخاطر، واختلاط الأفكار أكثر… النوم هو تزاحم الشعور، تلاطم الحروف نصبًا وجرًا، والضمير الغائب على أن أنتظره، والمستتر يجب أن اضيفه، فأين هي حقوق النوم؟ وأنني إذا قضيت ليلي في الكتابة فبِالنهار أعمل لأمي. وفجرًا... آهٍ، إِنّهُ الفجر ملاذي الأخير، لا شيء يزيل التعب المُرخى على كتفي سوى نداه، فهو الفجر ميعاد الصالحين، وبه يرفع أقوام و يهبط آخرون، 《إنّ قران الفجر كان مشهودا》. فهنيئاً لمن بلغ مقام المكاشفة والمشاهدة.
اخرىبقلم: گوناي البياتي وتمرُّ بكَ الحياةُ... وتمرُّ منك... وتظنُّ أنَّك لن تنجوَ من هذه الجحيم... اطمئنْ... ستنجو... ستنجو... وعندما تنجو، ستقول: الآن هدأتُ من ضغطِ وجودي، لأبلغَ درجةَ السعادةِ في عالم أحلامي... ستنصرفُ عن الإحساسِ بالحُزنِ، وعندها تتذكرُ عندما كنتَ تُردِّدُ... إلهي، هل مِن نظرةٍ منك... هل منْ التفاتةٍ تَلُمُّ هذا الشُتات؟ إلهي، انسدَّ عليَّ الطريق، طريق البقاءِ والوجود، وأشعرُ أنَّني وصلتُ إلى طريقٍ مسدود يسلبُ قدرتي في البقاءِ على قيدِ الحياة... *** في تلكَ الفترةِ... كان كلُّ شيءٍ مظلمًا بالنسبة لكَ... كان الأُفُقُ مُقطِّبًا عابسًا... وكانتِ الروحُ مُنكمشةً... والنفسُ مُنقبضةً... وكنتَ تظنُّ نفسَك حزنًا قديمًا لا يُصلِحُ لسعادةٍ حديثة، حزنًا ماكثًا وَجدَني مأوىً فاستقرَّ عندي، حزنًا مُجسَّمًا إلى درجةٍ كنتُ أشعرُ بوجودِه... كانَ عبارةً عن تمثالٍ بَشِعٍ ... وكنتُ أجدُ نفسي مُرتسمًا في هذا التمثال، وكنتُ أشعرُ بوحدة السمواتِ والأرض، ولا يوجدُ كائنٌ يسدُّ هذا الفراغ... وحُزني يُقلِقُ هدوءَ القريةِ بأكملِها، ويوقظُ النوم الهانئ بعد تعبٍ طويل، إلى أنْ حلَّقْتُ في سماءِ الرحمة، وتمسكْتُ بمُنتصفِ الليل، واتخذْتُ السجودَ متعةً والوترَ لقاءً، عِندَها فوجِئْتُ بصلاةِ الفجرِ وهي تستقرُّ في قلبي... أجيبوا ... هل يزورُ الحُزنُ قلبًا استقرت فيه صلاة الفجر؟
اخرىبقلم: گوناي البياتي لا أنوي إجراء أي بحث، عن أحاديث أو روايات أو مدائح سطرت بإجلال وتقدير بحق هذه المرأة الفاضلة، عادة عندما أكتب ابحث عن أحاديث تقوي أدلتي، أو روايات توافق قولي، ولكنني وددت أن يكون بحثي بحثًا تأمليًا، اتأمل فيه شموخ هذه المرأة، كلمات أفرغ فيها ما يكنِّهُ قلبي إزاء هذا الهرم الشامخ... أود أن اتكئ على أحاسيسي، فالكاتب يبدع عندما يتكئ على أحاسيسه الوجدانية، خاصة عندما يكون في حضرة شخصية عملاقة مثل شخصية أم البنين، فهي رمز التضحية المُستثناة عن أي تضحية أخرى، فلقد وقفت هذه الأم وقفة عزٍ وعطاء قل نظيرهما في التاريخ، وهي ثكلى بأولادها الأربعة في معركة المصير والوجود، تناشد نصرة الإمام الحسين (عليه السلام) وهي قابعة في المدينة تنتظر بصبر وآهات تحقيق هذا النصر... ولقد انتصرت أم البنين يوم كانت أمًا لأبناء الزهراء حينما احتضنتهم من أول يومٍ وطأت أقدامها بيت أذن الله أن يرفع ويذكر فيه اسمه، فكان مقدمها شرفًا وعزًا، وانتصرت أم البنين مرة أخرى يوم ذبحوا أولادها على منصة الشهادة... وانتصرت ثالثة يوم احتضنت جبل الصبر عند رجوعها من كربلاء... وما زالت أم البنين منتصرة إلى اليوم... وأم البنين ما هي إلا صورة من الوجود النسائي الجاد، لأنها بعطائها غالبت قوانين الأمومة، إذ فضلّت أولاد الزهراء (سلام الله عليها) على أولادها، فأي شموخ هذا وأيُّ عطاءٍ هذا، يبهر النفوس ويذهل الوجدان ويأخذُ بتلابيب العقول، فبينما كانت قلوب الأمهات تنبض بحب أولادهن، كان قلب أم البنين (عليها السلام) ينبض لأجل الحسين (عليه السلام) وقضيته حتى غلب ذلك عليها. سيدتي يا شريكة الألم مع عاشوراء، أقف اليوم إجلالًا وإكبارًا لمحيّاك الكريم، لأنكِ كنتِ أمًّا حنونة للحسين وكنتِ مصدر القوة للحسين (عليه السلام)، وما العباس وما عون وما عثمان وما جعفر إلّا صور حب وعطاء وتضحية قدمتِها للإمام الحسين (عليه السلام) بنفس راضية توّاقة لنصرة القضية، وهكذا انتصر الحسين بصبر أم البنين، بقلبها النابض، انتصر بأذرع ابنها العباس، انتصر بمواساتها أم المصائب زينب، انتصر بأم البنين لأنها أم البنين.
اخرىبقلم: گوناي البياتي كثيرًا ما تؤرقني أفكارٌ وصورٌ تتبادر إلى ذهني ليدعْنَني في مُنتصفِ كلِّ شيء... عديدٌ من التساؤلات، الرؤى، الأمل، الدين، الوجود ولازلتُ أدورُ في دوامةِ الزمن...لأغرقَ في متاهاتٍ ليس لها حدود متاهات لم تُصادفني من قبل وأعيشُ بطولاتٍ وإنْ كانت خيالية وأبحرُ في ملحمةٍ كلكامشية يا ترى هل سيُقدَّر لي اجتراح قصة؟ قصة تُروى باِسمي. كم أصلي أنْ لا يحدث ذلك ... لأنَّ الآداب لا تُغريها إلا دروب الآلام ولكنني أريدُ نهايةً سعيدة حُلُمي أنّه ... حُلُمي أراه من بعيدٍ، كنورٍ هادئ، وحوله حُلُم يصبو ويُنادي باِسمي ... ولكن... لا أناله؛ لأنّه ليس ملكي أصارعُ الأمواج المُتلاطمة... منْ كلِّ حَدَبٍ تأتي أكادُ أموتُ غرقًا... كأنّ البحرَ يستمتعُ بغرقي ... نعم، زاد هياجًا ونادى الأمواج؛ ليُصعصع حولي أيُّها البحر... لِمَ تفعلْ بي ذلك؟! سكتَ البحرُ ولكنَّه ... سيُغرِّدُ صمتًا أسودَ... موشحًا بلونٍ ليله الطويل وسيبقى هذه الليلة ساكنًا ... ليؤلِّف إجابةً لسؤالي ... ويتصرف بضميرٍ طاهر خجلَ البحرُ وكأنَّ ضميرَه أنَّبه فتوسلَ للعاصفة أنْ تهدأ... والأمواج أنْ تستقر أيُّها البحر، اهدأ ... ولا تخشَ تمرُّدي أنا كهلٌ...لا أحِبُّ الصراعات.. ولا الضوضاء ولا الصخب حتى إنني أكرهُ السابعة صباحًا؛ لأنّها تسلبُ سكوني.. هناك طاقةٌ غريبة مجهولة المصدر حتى إنّ عينيَّ تلألأت بضيائها ولكنّها مازالت بعيدةً عني وما من وسطٍ ينقلُ صوتي إلى مسامعها مهما بلغتِ الفيزياء والأرصاد من تقدُم لكننّي أحسستُ بها في قلبي وقلَّ أنْ يخطأ إحساسي فهي السكون الذي يسبق العاصفة فأيقنتُ في نفسي أنَّ في ظلمة الليل ضياءً وأملاً ... تتلاقى فيه أرواح المناضلين الذين ساروا بفؤادٍ مكلوم وابتسموا للجرح الغائر ليرسو في موانئ السعادة الأبدية وعندها أيقنتُ أنّه ليس بالضرورة أنْ يكون العشقُ ماديًا.. رُبّما يكون اتجاهًا ما كأنْ تعشقُ جهةَ الغرب أو الشمال لا ضير... ولأنني تجاوزتُ صدماتٍ كثيرة جعلتني أقدسُ لحظاتِ التأمل؛ لأنّها لطالما كانت تنتشلُني بعيدًا عن هذه الصراعات... الصراعات التي تعمل بأقصى جهدها؛ لتُحطِّم بقاياي؛ وتقطعُ الطريق أمامي ولأنَّ التأمل وحده الذي يوصلني إلى ما أصبو إليه منذ بعثتي ... فاتخذته طريقًا...أصلّي به صلاةً مُستحبة صلاة تأملية..
اخرىبقلم: كوناي البياتي أجل، فعندما تموت الحياة في عين طفلة لا يبقى للوجود معنى، كلما أشرقت شمس لا تنفذ بشعاعها إلى قلب تلك الصغيرة ما دام شجاها معتماً؛ قد كادت لا تميز بين قطع الليل وركام الهم الذي يراود قلبها الصغير، من عتمة الشمس تبدأ قصة (آية)، لتبدأ عتمتها العالمية، بفقد احبائها واحدًا تلو الآخر. ولدت (آية) ولم تمر بضعة شهور حتى فارقت أُمها الحياة، نعم، لم تر عينا أُمها، ولم تشعر بدفء نظراتها الحنونة، هي لم ترتوِ بعد من عطف أُمها، ولم تسمع أي قصة من القصص التي ترويها الأم لصغارها حتى يناموا في حجرها، فماذا تفعل هذه الطفلة اليتيمة؟! عليها أن تسلم للنوم الطويل اجفانها، وتمر السنوات و(آية) تفتقر إلى الأم، تتمنى أن تكون كأي طفلة تستنجد بأمها في كل شيء، فهي تفتقر إلى كينونة الأم إلى ماهيتها! هل هي الهواء؟! أم الماء؟! أم هي الحياة بأكملها؟! يا تُرى هل هي الجنة التي وصفها الدين أنها تحت أقدامها؟! فينتهي المصير بها إلى أن تحل بها عاصفة أُخرى، وجع من طراز آخر ليحل ضيفًا لديها.. نعم، هو احتلال داعش لتلعفر مدينتها الجميلة الآمنة، كان عمرها آنذاك خمس سنوات، ما إن حاولت أن تتغافل عن موت أُمها، حتى استيقظت بهجوم آتٍ بظلام غمامة حزينة تحل بمدينتها. نعم.. إنهم داعش الذين نسمع عنهم ممن يدعون الإسلام وهم للكفر أقرب، أتوا ليقتلوا الطفولة ليقتلوا الناس ويدمروا كل شيء جميل... وهكذا مر الهجوم لتندرج (آية) في قائمة المخطوفين مع أبها وأختها التي تكبرها بثلاث سنوات، مع جيرانهم والكثير من العوائل. داعش تذبح أباها أمام ناظريها، (آية) تشاهد ذبح والدها بعينيها السماويتين اللاتي امطرتا طول مسيرتها الحياتية.. الله تعالى وحده الذي يعلم ما حال تلك الطفلة في تلك اللحظات، نعم عادت عاشوراء لتتألم رقية الحسين من جديد، هي ستحتاج عمرًا آخر لتنسى ذلك المشهد. لم تنته معاناتها بتلك المأساة لا بل قاموا بخطف أختها وأخذها إلى مكان آخر لا تعلم إلى أين.. هي الوحيدة التي بقيت من عائلتها... ظلت تخاطب أوجاعها التي تأبه أن تفارقها منذ نعومة أظافرها، استوطنت في داخلها.. أيتها الأوجاع أليس هناك موطن غير هذا القلب الصغير لتُحرقيه؟ أليس هناك كائن غير هذه الطفلة المنكوبة؟ كقرية هجرها أهلها، وغيّر الحزن ملامح وجهها الطفولي، فبعثر اشلاءها، تكبكب في ثوبها كأنها جسم قطع وتفرقت أعضاؤه. فلو أبصرتها لقُلت أي عذاب تسكن هذه الطفلة؟ كيف لا وهي فقدت الأبوين، فقدت بوصلة حياتها، وكل اتجاهاتها؛ فمن أين تنطلق نحو الحياة من هذا الإعياء والضعف الذي يحيط بها، لو هبت عليها نسمة من الربيع لشطرتها إلى نصفين، نصف يحمل وجع الافتقار إلى الأم، ونصف يحمل وجع الأب. داعش لم يُبقِ شيئاً لهذه الطفلة حتى أحلامها تحولت إلى كوابيس؟ كوابيس لا تحترم المواعيد تزورها نهارًا وليلًا ومع كل جنودها، ولفرط ما صعقتها من الخوف و رعب الماضي كانت تتعارك مع الجماد، فلا تخرج غير أصوات مفككة. ولكن (آية) ستغلب هذه الجنود والأفكار وتجمع شتاتها وتقف على رجليها وستنطلق من فضاء تركلان هذه القرية التي تتمنى أن تكبر سريعًا حتى تقدم شيئاً بسيطًا لها.. والتي ملئت فراغ هذه الطفلة وسكنت قلبها بشمسها الدافئة؛ ويكون نجاحها رسالة شكر لهذه المرأة التي كان حضورها في حياتها كحضور الشمس بعد البرد القارص.. المرأة التي حولت كوابيسها احلامًا واقعية، هذه المرأة التي أصبحت لها وطن وابتسامة. ابتسامة أبدية التي ليس باستطاعة الملوك بكل ملكهم أن يشتروا هذه الابتسامة.
اخرىبقلم: گوناي البياتي منهِك هو الاشتياق للموتى، إذ ليست ثمة طريقة للوصول إليهم، ولكن أم محمد تقول: ولدي لم يمت، ولا زال يعيش معي، الشهداء لا يموتون... تقول: كانت امنيتي أن أرزق بولدٍ اسميه محمداً، أقدمه شهيدًا، كنت أود أن يكون ولدي مناصرًا للحسين (عليه السلام)، مرت الأيام وصادف في شهر رمضان أن أُرزق بولد واسميته محمداً. كَبُر محمد، صار عمره أربع سنين، قمت بتهيئته دينيًا وعقائديًا، سجلته في الحوزة، كنا آنذاك نسكن في النجف، بقي يدرس في الحوزة إلى الخامسة عشرة من عمره ثم عدنا إلى تلعفر، إلى مدينتنا؛ لم تمر سنة واحدة إلّا وقد هبط الظلام مدينتنا؛ واحتلها الانجاس داعش. فنزحنا وقد تجاوز محمد عمر السابعة عشرة، فكان يتوسل حتى أسمح له بالذهاب إلى القتال في مدينتنا، لم يكونوا يملكون سلاحاً كافٍ، أو مدداً عسكرياً. كنت أقول له: ولدي إنّ خوض هذا القتال إنما هو تعريض نفسك للهلاك. أنا واثقة أنكم لن تستطيعوا فعل شيء؛ لأنكم لا تملكون ما يكفي لمحاربة اعدائكَم. ثم نزحنا من سنجار إلى المحافظات الجنوبية. وما إن استقر بنا المقام، وإذا بفتوى الجهاد الكفائي قد صدرت، فأصر محمد أن يلتحق. التحق محمد وبعد أن أكمل تدريبه، تم إرساله إلى الفلوجة، الوضع هناك لم يكن مستقرًا، ومرت الأيام ومحمد يقاتل، نعم وبكامل رضاه ويتمنى الشهادة، وفي يوم من الأيام رجع محمد ووجهه مصفرٌ، فاستقبلته وسألته: ولدي ما بك؟ فأجاب: بالبكاء واحتضنني قائلًا: أمي قد استشهد ثلاثة من رفاقي؛ تعرضنا لهجوم فصددنا هجومهم ولكن مع خسائر، عندها احسست أن رفاق الحروب أسمى من جميع أنواع الرفاق وأنهم إخوة في الله تعالى ونيتهم الشهادة معًا، لربما حزن ولدي لم يكن لأنهم رحلوا فقط بل لأنه بقي ولم يرحل معهم؛ ولدي محمد كان متعلقًا برفاقه وكان يقطع إجازته عند تعرض رفاقه لهجوم وما شابه وكان يتقدم ويعينهَم، ونحن نتحدث جاءه خبر بأن يلتحق ولم تمض عليه دقائق منذ وصوله فاقترحت عليه أن لا يلتحق، لا خوفًا عليه؛ إنما قرأت الهزيمة وهبوط المعنويات في عينيه فخشيت عليه أن يستسلم للعدو؛ فموت أصدقائه سلب قواه، وحتى نتمم معاملات زواجه فوافق ولكنه اشترط أن لا يعمل أي فرح وأن يكون زواجه هادئاً. ومرت الأيام والشمس تشرق علينا وداعش في أرضنا. إلهي متى تغرب شمس داعش فيختفون كاختفاء الظلام. شارك محمد في تحرير عدة مناطق منها (عين حصان، تكريت، وأجزاء من مناطق موصل...) وفي إحدى الأيام جاءني اتصال منه أخبرني أنه تم نقلهم إلى الرطبة. هذه المنطقة التي لا يخلو فيها شبر من داعش، أول ما نطق بها محمد كلمة الرطبة، شعرت بوخزة في جميع انحاء جسدي وكنت أشعر أنّ هذه الأرض ستأخذ مني شيئاً ما لا أعلم، أهو محمد أم روحي؟، لا فرق بينهما، ولكن حاستي لا تخطأ أبدًا. وكأن كل هواجسي تمثلت على شكل كابوس... ولدي سيطلق أنفاسه الأخيرة في هذه البقاع، وعندما أنهوا تحرير تلعفر قال لي: أمي قد انتهت معركة تلعفر وولدك لا زال حيًّا، ولكن لا تخش سأُبيض وجهك عند أمنا الزهراء (سلام الله عليها)، ولكن الآن أنا في الرطبة وإذا لم استشهد هنا سأذهب إلى سوريا ولن أعود إلّا محمولّا. وهو يتحدث وأنا أبكي لا أعلم لماذا هل هذا بكاء الفرح؟ أو الحزن؟ سعيدة لأنني أملك ولدًا حسينياً، وحزينة لأنني لا أستطيع مفارقة ولدي، وفي آخر يوم له وقبل الالتحاق قال لي: أمي تعالي واجلسي بجانبي لدي الكثير لأقوله لكِ، وكأنه كان يودعني، فاستغرقنا بالحديث فحل منتصف الليل، قام ولدي ليجهز حقيبته حتى يلتحق، في هذه الأثناء قالت لي زوجته: عمتي قولي لمحمد أن لا يلتحق فهنالك وخزة في قلبي أشعر أنها وخزة الموت نعم الموت الذي سيحل بزوجي، قلت لها وأنا ابكي: لا يا بنتي إنني لا أجرؤ على فعل هذا ماذا لو منعته من الالتحاق ونام ولم يستيقظ؟ أو مات في حادث...؟ فالموت محتوم والقدر مكتوب ولا يوجد راد للقضاء والقدر وإنني لأستحيي من مولاتي الزهراء وأم البنين (عليهما السلام) لما قدمتاه من شهداء، ثم حمل حقيبته العسكرية، أراد أن يودعنا ولكنه لم يستطع، فركضت اجلب له القرآن وضعته على رأسه، ثم خرج من الباب، وخرجت روحي معه... يا إلهي، ثم التفت لنا ونظر نظرة طويلة ثم رحل، رحل ولم يعُد، مر أسبوع كامل لم يصلنا أي خبر عنه، لم نسمع عنه شيئاً، كنت آنذاك مختنقة كاختناق السجين أول ليلة من سجنه، وقلبي ينبض بشكل سريع، وشعور الخوف يلازمني أنا على يقين أنّ محمداً استشهد. مرت الساعات وإذا باتصال يخبرنا باستشهاده، استشهد في 24 لشهر رمضان، ولد وتزوج ورحل في شهر رمضان. الحمد لله الذي رزق ولدي الشهادة، نعم لا أنكر أنّ الدنيا أظلمت علي منذ تلك اللحظة، ولكن ماذا نفعل والموت محتوم.. رحل محمد ورحلت معه سعادتي وأنسي بالحياة.
اخرىبقلم: گوناي البياتي كُلّما كُنتُ أتهيأُ لسردِ قصةِ شهيدٍ من الشهداءِ، وما إنْ أكتبَ سطرين حتى أتوقّف عن الكتابةِ لأيامٍ، لا أدري ما العلة؟! وآخرُ ما توصلتُ إليه أنَّ المانعَ هو ذاك الحزن الذي يغزو كياني وروحي ويغلبُ عليَّ وأنا أكتبُ تلكَ الكلماتِ التي تنطقُ عن أرواحٍ طاهرةٍ، أخطُّ تلك الكلماتِ وأنا أعيشُ مأساةَ أمِّ الشهيد، أختِ الشهيد، أخِ الشهيد، فيأخذ هذا الحزنُ أيامًا من الشرودِ يشلُّ حركتي، ازدادُ نومًا للهروب منه، تنقطعُ رغبتي في الحياة، نحنُ مُجبرون على الحزنِ عليهم؛ فهُم جزءٌ منا لا يتجزّأ. الأرضُ وما عليها يُخيَّلُ لي أنّها تشعرُ بالحياءِ من الشهيدِ الذي استردَّها من العدوِّ ليُكافأ بالدفنِ فيها. محمدٌ الابن البكر لأمِّه، والمعروفُ أنَّ الابنَ البكرَ يكونُ صديقًا لأمِّه، ومُحمدٌ كان كذلك. هو من مواليد 1999، تقولُ والدتُه: إنّ الشهيدَ منذُ صغرِه ظهرتْ عليه بوادرُ الإيمان وحُبِّ الشهادة، فقد كان يصلي ويصوم، وأغلبُ أوقاتِه يلهجُ بالشهادةِ قائلًا: الشهادةُ رزقٌ من الله (تعالى)، فلا يبلغه أيٌّ كان.. مرّتِ الأيامُ وكبُرَ محمدٌ، وعمل سائقًا ليساعدَ والدَه في المعيشة، ومرّتِ السنون والشهور، حتى احتل داعشُ مدينتنا (تلعفر)، فتحرّكتِ الهِمّةُ لدى أبناءِ مدينتي الأبطال الذين لا يرضون العيشَ بالذل، فتركَ أغلبُ شبابِ تلعفر أعمالَهم وتوّجهوا نحو ساحاتِ الوغى، أغلقوا أبواب أرزاقهم نحو ما هو أوجبُ واتجهوا نحو الحرب غير المتكافئة؛ ليُنقِذوا مدينتَهم ويسترجعوا أراضيهم، هذه المدينةُ التي لا ذنب لها سوى أنّها سائرةٌ على دربِ الحسين (عليه السلام). وعلى الرغم من أنَّ الحربَ كانت غيرَ متكافئةٍ، إلا أنّهم كانوا قد توجهوا صوبَ الساحاتِ دون خوفٍ أو ترددٍ؛ فبينما كانوا يفتقرون إلى المُعدّات كانوا أغنياء بحُبِّ الوطن والولاء له، وقبلَ أنْ يتركوا أراضيهم حاربوا واستمرتِ المواجهةُ أيامًا وسقطَ الكثيرُ من الشهداء، ولكن حين أيقنوا أنَّ الحرب غير المتكافئة إنّما هي تعريضُ النفسِ للهلاك، ولم يكونوا يملكون من المُعدّاتِ ما يُساعدُهم على الاستمرار... انسحبوا.. وكما التحقَ رفاقُه التحقَ مُحمدٌ تاركًا عمله، تقولُ والدتُه: كم أصرّينا على أنْ يتراجعَ؛ إذ ليس لدينا من يُعينُ والدَه في العمل سواه، لكنّه أصرَّ أنْ يُشاركَ.. بل وشاركَ محمدٌ بلهفةٍ ليُرجعَ مدينتَه، وليزرعَ البسمةَ في وجوهِ الأطفال النازحين، وليُدفئ أرواحَهم الباردةَ بين الخِيَم.. كما شاركَ في تحريرِ الثرثارِ وصلاحِ الدين وغيرها من المناطق، كانَ يندفعُ كاندفاعِ مياهِ البحار، لعلَّ موجه يأخذ به إلى مدينته؛ ليشمَّ رائحةَ البساتينِ، وليشربَ من مائها العذب، وليتباهى بمدينته، لكنّه لم يُصِبْ هدفه، ولم يُحقِّقْ حلمه، إذ رحل في آخرِ خطوةٍ للوصول إلى تحرير مدينته.. كان كُلّما تتحررُ منطقة يبتهجُ ظانًا أنّه اقتربَ من تحرير مدينته، وعندما وصلَ التحريرُ لمدينةِ الموصل التي لا تبعدُ عن تلعفر سوى عدة كيلومترات، كانتِ السعادةُ والعزيمةُ تتجدّدُ في روحه، ولكن كان للواقع رأيٌ آخر، فقد استُشهدَ في الموصل القديمة وهو يؤدي الواجبَ المقدس.. وهكذا رحل مُحمدٌ وتركَ حلمَه يبحثُ عنه، ومثلما رحلَ محمدٌ رحلَ الكثيرون دون أنْ يضعوا قدمًا على أرضهم، دون أنْ يُكحِّلوا نواظرهم برؤيةِ مدينتهم، رحل محمدٌ وتركَ زوجتَه العروس ولم يمضِ على زواجهما إلا أيامٌ، فتحوّلَ محمدٌ من الشهيد إلى العريس؛ فكُلّما أرادوا الحديثَ عنه قالوا العريس، هكذا رحل محمدٌ وتركَ أثرًا كبيرًا.. تقولُ أُمُّ الشهيد: في تلك اللحظة، أي لحظة رحيله لمستُ خشونةَ الدنيا، فلم يَعُدْ فيها ما يروقني، والموتُ واقفٌ بحلقي، وملكُ الموت على أطرافي، يُحيطُ بي فأراه موتًا كثيرًا لا موتةً واحدةً.. وعندما حملوه كأنّي بهم يحملونني، كأنّي ميتٌ يحملُ نفسَه، وما دونه إلا المُشيعون، ثم رحلوا وبقيتُ وحدي في الدار أنظرُ يمينًا تارةً وأخرى شمالًا وكُلُّ شيءٍ تغيّرَ وكُلّ ما في الدار مات.. رحل محمدٌ وترك أمَّه تندبُ، هكذا هو حالُ أُمّهاتِ جميعِ الشهداء، كُلُّ يومٍ يمرُّ عليهن بمثابة سنة... يا رفاقُ كُلُّ فكرةٍ دونَ الموتِ أهون، ما إنْ يموتُ قريبٌ للإنسان حينها يعلمُ أنَّ كُلَّ شيءٍ كان قابلًا للتحمُّلِ، إلا الموت فلا علاجَ له ولا رجعة فيه، ولكن للشهداءِ فوزاً على خلافِ الموت العادي، حيثُ فضّلَهم اللهُ (تعالى) بالبقاء والحياة الأبدية، فهم أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ.
اخرى