بقلم: وفاء لدماء الشهداء ها هي رياح الإيمان قد هبّت، ومواسم الخيرات قد أقبلت، وازدانت الدنيا بشهر الله تعالى واشرقت. شهر تجاب فيه الدعوات، وتقال العثرات، وترفع الدرجات، وتُمحى السيئات، وتجزل فيه المنح والهبات، جعله الله تعالى لعباده الفقراء واحة غَنّاء، بل جنة خضراء؛ ليركنوا إلى ظلها، ويتمتعوا بخيرها، ويتزودوا من ثمارها زادًا للعام كله، إنه شهره الكريم الذي دعانا إلى اغتنامه واستقباله بالحمد والشكر، وإعمار أيامه ولياليه بالهدى والخير، إنه شهر رمضان شهر نزول القرآن، وهو هو الشهر الذي تلقينا فيه خبر رحيل والدي الحبيب إلى رحاب الله تعالى وفوزه بالجنان. كان أبي (رحمه الله) قد التحق قبل سنين بإخوته المجاهدين، تلبية لنداء المرجع الأعلى وإغاثة للملهوفين، حينما هجم الأعداء ودنسوا أرض الأولياء والصالحين، هناك هب أبي ملبيًا داعي الجهاد، مضحيًا بما عنده طالبًا التوفيق والسداد، أذكر يومها كيف وضع يده على كتفي ومسح على رأسي، وقال بحنو الوالد الرحيم وقلب القائد العظيم: أنا أثق بك يا علي، وسأترك البيت بعهدتك، كن رجلًا وبيّض وجه أبيك، اعتن بوالدتك وإخوتك، واطمئن فأنا سأدعو لك. كانت يده دافئة ناعمة، وعيونه تترقرق فيها دمعة حالمة، كأنه يخفي خلف تلك الحروف شوقًا لم أكن لأفهم معناه، واليوم وبعد ثلاث سنوات من رحيله أرجو أن أكون قد فهمت شيئاً مما أخفاه. كان أبي يستأنس كثيرًا بحلول الشهر الفضيل، ويوصينا بالتزود منه قبل أن يعتزم الرحيل، لا زلت أذكر كيف كان يُحيي لياليه، ويغتنم سويعات نهاره، بين حسينية ومسجد، وقضاء حوائج الناس وعمل وتهجد، وترتيل الآيات، ومساعدة أمي في بعض المسؤوليات، كان كحمامة سلام، أينما حل يزدهر المكان ويسود الوئام. لا زلت أذكر كيف كان مواظبًا على قراءة أدعية السحر، وتتناثر دموعه كأنها حبات مطر؛ لتغسل روحه الطاهرة فيقوم مشرقًا متألقًا كأنه قرص قمر. ودّعنا أبي في أواخر شهر رمضان؛ ليذهب مع مجموعة من رفاقه الشجعان، الذين آثروا البقاء على السواتر؛ كي ننعم نحن بالأمان، وفي ليلة إحدى وعشرين اتصلت به والدتي لتطمئن على حاله، فأجابها مبتهجًا بأنه بخير ثم أوصاها بنفسها وبنا ثم كلمنا واحدًا بعد الآخر، وكان يقول بيقين أنه سيكون ضيفًا عند مولانا أمير المؤمنين، وأنّ علينا أن نُكمل مسيرته، ونفخر بشهادته، وفي تلك الليلة سمعنا أنه استشهد عند أذان المغرب قبل الإفطار، والتحق بركب الشهداء الأبرار، ولا ريب أنه حظي كما تمنى بلقاء سيده الكرار.
اخرىبقلم: غدير خم حميد العارضي نسمات الحب الإلهي تنساب هادئة في جنبات الروح، وتتدفق الآمال كأريج عطر من حقل زهور يفوح، وتنسل الظلمات من قلوبنا ليرتسم الفجر الصبوح، فها هي الأسقام والآلام في أرواحنا تشفى، وها هي الذنوب والآثام تولّي من غير رجعة، وها هي الأنوار تملأ كل أفق ومكان، شعور بالرضا والاطمئنان، هو ما يسيطر على قلب الإنسان، بحلول أيام شهر رمضان. أيها الشهر الفضيل.. يا محراب الروح، وميقات الجسد، أيها الشهر الذي تنزّل فيك القران الكريم على نبينا العظيم محمد (صَلَّى الله عليه وآله)، أنت شهر لست كباقي الشهور، تفيض عطاء وخيرًا وتكتسي بالسرور، وما أدرانا ما أنت، وأنت فيك ليلة القدر التي تساوي الدهور، ما أجمل سويعات الثلث الأخير من الليل فيك، وأصوات الدعاء والمناجاة تنطلق عبر الأثير، من كل دار ومسجد، ويصدح بالذكر كل أمة وعبد، دعاء السحر وصلاة الفجر كبوابة لدخول نعيم الصيام، يطهران القلب قبل الدخول، فيغدو مستشعرًا آيات الله تعالى ونعمه، ذاكرًا جوع وعطش يوم القيامة بحق، متعاطفًا مع الفقراء والمساكين بصدق. وما اللحظات التي يُقرأ فيها دعاء الافتتاح بعد الإفطار إلّا لحظات من عوالم ملكوتية، تهب الروح البشرية، أعظم التحف السنية التي تزينه وتطهره، هكذا أيها الشهر الحبيب تتوالى كل الساعات فيك كأنها ثوانٍ معدودة، وترحل الأيام رحيل غيوم الصيف الموءودة، وتتناثر الأعمال الصالحات في كل الأناء والجنبات، فكيفما أدار المرء وجهه وجد للخير دليلًا، وللدعاء سبيلًا، وكأنك تهب لمن أراد قرب الله (عز وجل) ظلًا ظليلًا. فَدُمْ يا شهر الخيرات علينا ما دام العمل منا صالحًا ومقبولًا، وأنر لنا كل آمالنا وزدها خيرًا مأمولًا، وهب لنا في كل سكناتنا وحركاتنا خيرًا مفعولًا، واجعل لنا في ليلة القدر سراجًا منيرًا، ينير لنا دروب القرب من الله تعالى، واجعل ما بعدك خيرًا مما قبلك فكرًا وفعالًا، ولا تغب أيها الشهر الفضيل إلّا بغفران الذنوب، وستر العيوب، فنحن وجدناك ربيعًا لأرواحنا، وكنت أنت ربيع القرآن، فبات في تلاوته ربيع قلوبنا. أيها الشهر العظيم، يا شهر رمضان، طهر قلبي من كل شوائب الدنيا ودعه يحلق في الجنان، وأصلح ضلال نفسي وباركها بالإيمان، ولا تكن آخر شهر يمر عليّ بحق البارئ الرحمن.
اخرىبقلم: وفاء لدماء الشهداء اسمٌ تلألأ في تاريخ الإسلام، وشخصية فذة لمعت في سماء الرسالة، امرأة عظيمة سطع نجمها في دنيا الوجود، وبقي أثرها وإرثها نبعًا طيبًا ومنهلًا عذبًا تستقي منه الأجيال زاد الثبات والصمود رغم توالي السنين والعهود. هي رمز الوفاء، ودرة الصفاء، وعنوان التضحية والإيثار والفداء، هي أُمّنا أم المؤمنين، وجدة الأئمة المعصومين (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)، خديجة بنت خويلد (سلام الله عليها). لا يخفى على المتأمل في سيرتها العطرة، وما جاءنا من أخبارها النيرة، أنها امرأة كريمة طاهرة انحدرت من أصول طيبة عريقة، لها صيتها ومفاخرها وعراقة أصلها ونسبها. وقد جمعت مولاتنا السيدة الطاهرة خديجة (سلام الله عليها) بين المال والعفة والجمال، ورجاحة العقل والحكمة في إدارة الأعمال، حتى صارت رمزًا للكمال، ونموذجًا للمرأة المثال. وشاءت إرادة الله تعالى أن تكون قرينة خير الرجال، بل خير خلق الله (عز وجل)، فتزوجت بنبينا الأعظم (صلى الله عليه وآله)، فتشكلت أول أسرة مباركة من الصادق الأمين والسيدة الطاهرة فكانت أسرة مثالية، وواحة غنّاء طيبة في صحراء الجاهلية، أغنت بعطائها البشرية، إذ برزت فيها صورة الزوجة الوفية، والقرينة المضحية، والأم الرسالية، التي كرّست كل وجودها لخالقها ودينها ونبيها ورسالته الربانية. فمنذ أيامها الأولى ابتدأت رحلة كفاحها، فوقفت إلى جنب زوجها تمُده بالمال والحب والحنان، فكانت أولى المؤمنات برسالته، وأول المضحيات في سبيل نشر دعوته، وتبليغ رسالة ربه، فكلفها ذلك الكثير، إذ قوطعت من نساء قومها، وتنازلت عن رفاهية عيشها، وتبرعت بكل ثروتها، كل ذلك حُبًّا بالله تعالى وفداء لرسالته التي كلف بها أحب الخلق إلى قلبها. فعاشت حياة الجهاد والكفاح والتعب، وتحملت الصعاب بعد أن كانت يومًا ما أميرة جزيرة العرب، وتحمّلت معه آلام حصار الشعب، مع المسلمين يوم حوصروا في شعب أبي طالب، وفي كل تلك الأحوال المؤلمة، كانت لرسول الله (صلى الله عليه وآله) البلسم الشافي والبسمة، والسند الذي اتكأ عليه وهو ينهض بأعباء الرسالة السماوية وإدارة شؤون الأمة. ولا شك أن امرأة بهذه الأوصاف الفريدة والخصال الحميدة سيكون لها مكانة خاصة ومنزلة متميزة في قلب زوجها، وهذا بالضبط ما حدث لها، إذ حمل النبي (صلّى الله عليه وآله) في قلبه طيلة حياته حبها، ولم ينسها بعد رحيلها، بل وحتى بعد تقادم السنين وزواجه بأكثر من زوجة غيرها، إذ كان يديم ذكرها، ويشيد بفضلها أمام الملأ إكرامًا لها، وعرفانا منه لجميل وجليل ما قدمته في سبيل ربها، وإعزاز دينه ونصرة نبيها، فهو القائل بحقها: " ... آمنت بي إذ كفر الناسُ، وصدّقتني وكذّبني الناسُ، وواستني في مالها إذ حرمني الناسُ، ورزقني الله منها أولادًا إذ حرمني أولاد النساء». ولم تنحصر عطايا السيدة خديجة (عليها السلام) في حب وإكرام رسول الإسلام، بل لكمالها ومواقفها وما بدر منها في حياتها من تضحيات جسام، حظيت بتكريم الله تعالى فاختارها من بين نساء الأرض لتكون من سيدات الجنان، وكمل النساء اللواتي فزن برضوان المولى المنان. وفي مثل هذه الأيام ونحن نحيي ذكرى رحيلها (عليها السلام)، لا بد أن نتوقف قليلًا عندها، ونتأمل في مضامين سيرتها، ومواقف حياتها التي خلدتها، وحفظت اسمها في سجل الخالدين، الذين تبقى أسماؤهم عصية على النسيان رغم توالي السنين، واجتهاد أهل النفاق في محو آثار الصالحين، لابد أن نحيي ذكرى رحيلها بالشكل الذي يرضيها، فهيا لنتوقف عند أهم الدروس والعبر التي يمكننا استلهامها من سيرتها، والتي من أهمها: ١) الاختيار الموفق: فاختيارها الواعي لشخص النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) للزواج، رغم تقدم سادات قريش من أصحاب الثروات الطائلة لطلب يدها، إنما هو درس لكل نساء الأرض في ضرورة حسن الاختيار، الذي به تكون السعادة والهناء والاستقرار، والمتأمل في سيرة أم المؤمنين (سلام الله عليها) يعلم جيدا أن قرارها هذا كلفها قطيعة نساء قومها لها، وغضبهن منها، ولكنها لم تكن لتعبأ بذلك؛ لاطمئنانها بصحة اختيارها، وسلامة قرارها، وهنا درس بالغ الأهمية، ينبغي أن تلتفت إليه كل أسرنا المسلمة ولا سيما الشيعية الموالية، فما يبحث عنه في الزواج والارتباط الطويل، هو الدين والإيمان والخلق النبيل. ٢) حياة بلا مشكلات: إذ تذكر الاخبار أن حياتها الزوجية مع نبي الإنسانية دامت لأكثر من أربع وعشرين سنة هلالية، لم يكن فيها بينهما أي خلاف أو مشكلة، ولربما يعجب المرء حين يقرأ سيرتها من هذه المسألة! فقد عاشت مولاتنا خديجة (عليها السلام) حياتها كأروع ما تكون، فلم تكن زوجة وأم أطفال فحسب، بل كانت للنبي (صلى الله عليه وآله) أما وكهفا وحضنا دافئا يلجأ إليه حينما تشتبك عليه الخطوب، وتتوالى عليه الرزايا. عاشت مؤازرة ومساندة، مشاركة ومُؤْثِرَة ورائدة، فامتلأ بيتها التوحيدي، بأنوار المدد الإلهي، حتى صار مأنساً لفؤاد النبي (صلى الله عليه وآله)، وهنا درس عظيم لكل نساء الدنيا، فالحياة الزوجية متى ما انطلقت وفق أسس ربانية، وتنسم أفرادها عبير الرسالة الإلهية، وكان شعارها المودة والرحمة والتضحية، كانت النتيجة النهائية، حياة كريمة خالية من المشكلات والمنغصات؛ لذا حري بنا ونحن نمر على ذكرى رحيل أمنا، أن نعاهدها على بناء أسرنا، كما تحب وترضى رسالة السماء لنا. ٣) البصيرة النافذة: فمن يتأمل في سيرتها العطرة، يقف على سمو مقامها ونفاذ بصيرتها، في تقرير مصيرها ورسم آخرتها، فتلك المرأة التي كانت رحلاتها التجارية لا تقف، في الشتاء والصيف، حتى قدرت ثروتها آنذاك بثمانين ألف ناقة، عرفت كيف تجعل من المال جسرا نحو الجنان، حينما وضعته تحت تصرف النبي العدنان، وبذلته راضية في سبيل نشر رسالته واعزاز دينه، وهنا درس عظيم لكل من يمتلك مالًا يمكن أن يغويه أو يفعل به شيئا ينجيه، فالعبد الصالح لا يستهويه مال، ولا يمنعه عن تحصيل رضوان ربه ثراء، بل يوظف ما أعطاه الله تعالى في الخير، ويكون صاحب يد بيضاء، لا تنفك عن البذل والعطاء، وخدمة عباد الله الفقراء، أو نشر رسالة السماء، فيكون المال بذلك وسيلة لا غاية، يرسم به العبد لوحة حياته في البداية والنهاية. ٤) حبها لله تعالى: فمن يقف على حالها ويتأمل في سيرتها، يرَ تألق روحها وسمو اتصالها بربها، وعظم حبها لخالقها الذي ملأ كل كيانها، فلم تكن لترى ما قدمته في سبيله شيئا، وكأنها تترجم ما قاله الإمام زين العابدين (عليه السلام): " ... مِنْ أَيْنَ لِيَ الخَيْرُ يا رَبِّ وَلا يُوجَدُ إلاّ مِنْ عِنْدِكَ؟ وَمِنْ أَيْنَ لِيَ النَّجاةُ وَلا تُسْتَطاعُ إِلاّ بِكَ؟..."، لذلك كان جزاؤها على فنائها في ربها، قول نبيها في حقها: "يا خديجة إنّ الله عزّ وجلّ ليباهي بك كرام ملائكته كل يوم مرارا"، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: "لمّا توفّيت خديجة (عليها السلام) جعلت فاطمة (عليها السلام) تلوذ برسول الله (صلى الله عليه وآله) وتدور حوله وتقول: يا أبت أين اُمّي؟ قال: فنزل جبرئيل (عليه السلام) فقال له: ربّك يأمرك أن تقرأ فاطمة السلام وتقول لها: إنّ اُمّك في بيت من قصب، كعابه من ذهب، وعمده ياقوت أحمر، بين آسية ومريم بنت عمران، فقالت فاطمة (عليها السلام): "إنّ الله هو السلام ومنه السلام وإليه السلام". وهنا درس عظيم لنا جميعا، فلا ينبغي أن ننظر إلى أعمالنا نظرة المعجب بها، ومن يتوقع النجاة بناء عليها، بل يكون شعارنا في كل أعمالنا هو ما كانت عليه سيدتنا. فما نحن وما خطر أو ( قدر) أعمالنا؟ وكل ما نفعله مهما كان عظيما وكبيرا هو لطف وتوفيق من ربنا؛ لذا لا ينبغي أن نتكل إلا على سعة رحمته بأن تتقبلنا وتشملنا، وهذا الأمر متى ما استوطن قلوبنا، ووجد طريقه إلى التطبيق في حياتنا، حينها سيكون لكل فعل أو حركة أو عمل مهما كان صغيرا إطلالة بهية، وصبغة إلهية، فنراه يتحرك بهدوء ليأخذ طريقه إلى رحاب الله القدسية. والدروس والعبر من حياة مولاتنا الطاهرة (سلام الله عليها) كثيرة يجدر بنا أن نتأملها، ونعيش في رحابها؛ لنبني حياتنا بالاستضاءة بنهجها، فهيا لنعاهدها على اقتفاء أثرها، وتلمس هديها، وتمثل خطاها، حتى يختار الله (تبارك وتعالى) لنا بمنه وكرمه جنانه التي نأمل أن ننال فيها شفاعتها وشفاعة ابنتها الصديقة الزهراء (سلام الله عليها).
اخرى