بقلم: صفاء الندى ... لبس محمود كمامةً وقفازاتٍ وتوجه إلى دورية الشرطة التي في الشارع، أخبرهم أنَّه بحاجةٍ إلى بعض المواد الغذائية، فطلبوا منه الانتظار قليلًا؛ لأنّه تقرّر أنْ يتوجه الناس لشراء حاجاتهم بالدَّور لئلا يزدحموا بمكانٍ واحد .. فرح لموافقتهم على خروجه، وذهب مبتهجًا، ولكنَّ قلبه متوجس خيفةَ أنْ ينتقل إليه الفيروس عن طريق رذاذ مريضٍ ما أو ملامسة الأسطح. مضى في سبيله محافظًا على مسافةِ التباعد الاجتماعي المطلوبة والمُقدَّرة بمترٍ ونصف تقريبًا. وعندما وصل إلى المكان المقصود وجد أناسًا قليلين مصطفين، ويقف مقابلهم رجلٌ عجوزٌ يبدو عليه الإرهاق، تفحّصَ وجهه وإذا به جاره، لم يذكر اسمه، فهو بالكاد تذكر شكله، فسأله: ــ يا حاج هل أنت بحاجةٍ إلى مساعدة؟ ــ أنا بخير ــ أتذكّر أنَّ لك ولدًا؟! ــ نعم، اسمه خليل، ولكنه الآن يدرس في دولةٍ أخرى ــ إذن أنت لوحدك في البيت؟ ــ نعم، يا ولدي ــ استأنس محمود بالحديث مع الرجل؛ فهو متلهفٌ لتبادلِ الأحاديث مع الآخرين.. ــ يا حاج، ما رأيك أنْ تعود إلى بيتك وأنا سآتي لك بحاجياتك؟ فقط قل لي ما ينقصك .. ــ أشكرك يا ولدي .. قد حان دوري... أستودعك الله ــ في أمان الله وفي طريق عودته رأى محمود جاره أبا خليل يمشي بخطواتٍ ثقيلة، وقد ملأ كيسه بالأغراض، اقترب منه، وحمل الكيس عنوةً، وقال له: ستجده أمام باب بيتك يا عم وأكمل طريقه. دعا له الحاج بالهداية ودوام العافية.. وعاد محمود إلى البيت، وقد شعر بالارتياح لخروجه اليوم من سجنه الانفرادي، ولكنه عاد إليه الآن... ذهب إلى المطبخ، رتّب أغراضه في الثلاجة، واكتفى بتناول تفاحة؛ فهو لا يرغب بالأكل كثيرًا هذه الأيام. بعد ذلك اتصل بوالدته ولكنها لم تجبه فانتابه القلق، وحدّث نفسه بصوتٍ عالٍ ــ ولم يعد يُحدّث نفسه إلا كذلك؛ ليكسر حاجز الصمت حوله ــ: يقولون إنَّ أقرب الأولاد إلى قلب الأم، المسافر حتى يعود، وأنا ماذا؟ أتصلُ ولا ترد عليّ! لعلَّ إخوتي منعوها من التواصل معي؛ فأنا أسأتُ إليهم كثيرًا، وهي تتحاشى إغضابهم .. بهذه الأثناء اتصلت به والدته واعتذرت منه؛ لأنّها كانت تصلي. وبينما محمود يحدّث أمَّه وهو واقفٌ على الشرفة، وإذا به يشاهد جاره العجوز خرج من منزله يمشي متأرجحًا وسقط في حديقة المنزل.. فاعتذر من أمِّه وأنهى المكالمة معها.. ونزل مسرعًا .. تذكّر أنْ يلبس كمامته وقفازاته؛ فالوضعُ خطيرٌ. وعندما وصل إليه ناداه من بُعد: يا عم، هل أنت بخير؟ فأشّر بيده .. فعلِم أنَّه ما زال حيًا، فأخذ يقتربُ منه تارةً ويبتعد أخرى؛ خشية العدوى .. ولكنَّه اتخذ قراره بعد أنْ خاطب نفسه: ما بالك يا محمود! الرجل يحتضر.. استمع لما يريد أنْ يوصي. عاد باحثًا عن سيارة الشرطة حوله ولكنه لم يجدها، فرجع إلى جاره وقال له: ــ سآتي بسيارتي لأنقلك إلى المشفى.. مسكه الحاج من ملابسه وقال: لا داعي، فقط اسمعني يا ولدي .. ــ قُل يا عم ــ أبلغ ولدي الحبيب عني السلام، وقل له: إنَّ أباك راضٍ عنك.. ولا تدعهم يا محمود يدفنوني بلا غسلٍ وبلا صلاةٍ أو أنْ يُحرقوني! أنا مسلمٌ وإنسانٌ، ولي كرامتي وديني له قوانينه قل لهم ذلك.. قل لهم ذلك .. ــ نعم يا عم، اطمئن لن أدعهم يفعلون ذلك بك.. جاء رجال الشرطة، فأخذوا يصرخون طالبين منه الابتعاد عن الرجل؛ فقد اتصلوا بالإسعاف، وهم على وشك القدوم... جاء المسعفون وأخذوا الجثة، وطلبوا من محمود أن يأتي معهم للتأكد من سلامته بسبب الملامسة... فرأى بأمِّ عينه الفوضى والإرباك الذي حلّ في مدينته - فالمشفى نموذج مصغّر-، وبالكاد تسيطر الدول على مواطنيها؛ فعندما يصل الإنسان إلى مرحلة الهلع والخوف على الذات تسقط بعض الاعتبارات والقيم والقوانين الصارمة.. وآمن محمود وتيقّن حقًا أنَّ الإنسان مهما تعاظم ماديًا، فهناك شيءٌ ما سيذله ويُظهر له عجزه ليعود به إلى حقيقة أنَّه ضعيفٌ ومحتاجٌ وليس بقويٍ ولا مُستغنٍ. طلب من إدارة المشفى أن يتكفل بغسل جثةِ جاره كونه مسلمًا، والصلاة عليها وترجّاهم أنْ يساعدوه بتأمين جميع الاحتياطات الصحية، ولكنهم لم يكترثوا بحديثه، وأعلنوا أنَّهم سيدفنون الجثث جميعها غدًا.. احتار محمود فيما عليه أنْ يفعل، فقد وعد الحاج أنَّه سينفذ وصيته، باتَ ليلته قلقًا مضطربًا، رغم أنَّهم أخبروه ليلتها أنَّ نتيجة الفحص لديه كانت سلبية وبإمكانه المغادرة. لم يكن مهتمًا كثيرًا بنتيجة الفحص، فرحَ قليلًا وحمد الله تعالى كثيرًا، فهو لن يهنأ له بال ويطيب له حال حتى يحقق لجاره المتوفي ما أوصاه به .. خرج من باب المشفى حزينًا؛ فهو لم يرغب بالخروج، فلاذ بنفسه بإحدى الشجيرات.. جثا على الأرض في حديقة المشفى، ونظر إلى السماء مخاطبًا الله (تعالى) في سرِّه... يا رب، أنا عبدك العاصي، أعترف لك بذلك .. وأنت سبحانك غنيٌّ عن طاعتي، رحيمٌ غفور، أستغفرك من ذنوبي.. أنا لا أستحق نظرةً منك .. ولكني أدعوك لا لنفسي بل لهذا العبد الذي كان مطيعًا لك، الفريد من غيرِ أهلٍ يلونَ أمره بعد موتِه، ساعدني أنْ أنفذ وصيته.. سجد على الأرض باكيًا، رفع رأسه من السجود وقرّر أنْ يبيت ليلته هنا؛ فالظلامُ دامسٌ لا ينير المكان سوى ضوءِ القمرِ الخافت، ولن يلتفت إلى وجوده أحدٌ. أسند ظهره على جذع شجرةٍ وغاص بنومٍ عميق؛ فإنَّها من أتعب الليالي التي عاشها وأعسرها .. يتبع...
اخرىبقلم: صفاء الندى وعند حلول الفجر لامستْ زقزقةُ العصافير سمعه بلطفٍ ولكنّه لم يستيقظ، اخترق صوت أبواق السيارات المارّة سمعه بشدّة وكأنّه صوتُ بوق يوم القيامة لشدةِ فزعه منها! نهض سريعًا، فوجد في نفسه رغبةً ملحةً للصلاة وما دامت الشمس لم تُشرق بعد فليصلِ الصبح بوقتها. أخرج من جيبه قنينة ماء فلطالما نصحه الأطباء بشربِ الماء، توضأ فهو لم ينسَ الوضوء مطلقًا؛ لأنّه راسخٌ في ذهنه، كما ويذكر كيفية أداء الصلاة؛ فقد كان في مقتبل عمره من المصلين. أنهى صلاته وعزم على العودة للمستشفى ومعاودةِ طرح الموضوع مرةً أخرى مع الإدارة هناك، رآهم يهيؤون الجثث التي سينقلونها بعد وقتٍ قصير للدفن بمدافن خاصة ومن بينهم جثة جاره أبي خليل، وقف محمود يراقب الإجراءات عن بعد.. ــ رُحماك يا رب، أحسن خواتيمنا، إنّهم يضعونهم في شاحناتٍ مبردة ..وبأعداد كبيرة! (تحسّر ..) ليتني أعرف رقم هاتف ابنه خليل لأرمي بحمل هذه المسؤولية الصعبة عليه .. وإن كان في كلِّ الأحوال حتى وإنْ كنتُ أعرف رقم هاتفه لا يمكنه المجيء .. سلّم عليه أحد الأطباء وسأله عن صحته، فأجاب: ــ صحتي بخير ولكنّي حزين. ــ كيف يمكن الجمع بين الحالتين؟! ــ دعك من هذا الكلام، أرجوك ساعدني، فلنحاول بقدر استطاعتنا أن يُدفن الرجل بحسب الشريعة الإسلامية نغسله ونصلي عليه سريعًا لن يكلفنا ذلك وقتًا طويلًا. وأنا أتكفل بالأمر وأتحمل أية خطورةٍ تُلحق بي، ولكن فلنحقق للرجل وصيته وهذا أبسط حقوقه. ــ كلامك صحيح، ولكن ما يمكنني أنْ أفعل؟! جاء طبيبٌ آخر سلَّم عليهما، وكان مُسلمًا، فتناقشوا معًا بالموضوع بجديةٍ ومسؤوليةٍ دينية واتفقوا على أنَّهم سيطلبون تحقيق هذا الأمر وبإلحاح، فانتقال الفيروس بعد موت المصاب أمرٌ غير مؤكد حاليًا، بل تتوارد معلومات أنَّ الفايروس يموت مع موتِ المصاب بعد ساعات. قال محمود: إذن يا إخوتي فلنذهب.. وفي طريقهم وجدوا زميلًا لهم فطلبوا منه الانضمام إليهم ..سألهم: إلى أين؟! قالوا: عمل خير.. لا وقت للتفاصيل ستعرف بعد قليل. توجهوا إلى مدير المشفى في مكتبه فأخبروهم أنّه يقوم بجولاتٍ تفقدية في الردهات، حثّوا الخُطى وإذا بهم يتقابلون مع المدير في إحدى الممرات فجأةً، سكت الجميع .. فأشار أحدهم لمحمود لكي يتحدث.. بدأ محمود حديثه بكلِّ أدبٍ وحزن، وشرح للمدير دواعي هذا المطلب الإنساني وأنَّه لا توجد به أيةِ مخالفةٍ قانونية مع التزامهم بمتطلبات الوقاية. أكمل أحد الأطباء: سنقوم بجميع الاحتياطات، وبحسب شريعتنا الإسلامية بما لا يخالف السلامة الصحية وإن لم نتمكن من غسل الميت سنستبدل الغسل بالتيمم حسب فتوى مرجعيتنا الدينية التي أعطت رأيًا بهذا الأمر.. فما قرارك مديري العزيز..؟ نظر إليهم بحيرةٍ وقال: كما قلتم هذا الفيروس لا نعرف الكثير عنه وقد شدّدنا الإجراءات لدواعي السلامة العامة، ولكن بدأت المعلومات الجديدة تصل أسماعنا وما ذكرتموه أقربُ إلى الحقيقة. قال محمود: إذن يا دكتور ..؟ ــ لا بأس، ووجّه كلامه للأطباء بالخصوص: وكونوا حذرين فأنا أعرفكم أطباء أكْفاء ومنضبطين، ولكن اعلموا أنكم عند أيِّ تهاونٍ ستُحاسبون وأنا معكم.. بكى محمود من شدةِ فرحه وقال مبتهجًا وبصوتٍ عالٍ: الشكر لك يا رب .. وتوجه مسرعًا وهم على إثره إلى السيارة التي تقل الجثث، طلب الطبيب إخراج الجثة رقم ٢١، حملوها ووضعوها على إحدى الأسرّة وقالوا لمحمود: ــ إنَّها مهمتك .. وسلموه نص فتوى المرجعية بهذا الصدد ليُباشر الأمر وفق الضوابط الشرعية.. تذكر محمود أنّه لا يعرف هذه الأمور جيدًا، فاستأذن منهم دقائق ودخل إلى الحمام، أخرج هاتفه سريعًا بحث عن كيفية أداء هذه الأعمال، وعاد إلى الغرفة وجدهم قد هيأوا له ملابس وقاية كاملة، كتلك التي يرتديها منتسبو المستشفى.. وعندما أنهى محمود مهمته ووظيفته الشرعية تجاه الميت، قاموا بتكفينه والصلاة عليه .. خاطب محمود جاره الراحل (أبا خليل): ــ هذا ما مكنني ربي يا حاج وسامحني، فهل أنت مطمئن الآن ..؟ قال الأطباء: هيا فلنعجل السيارة بالانتظار.. وقف محمود يرقب ذهاب السيارة التي ستوصل الجميع إلى مثواهم الأخير.. وعاد ليشكر الأطباء الذين ساعدوه على إنجاز هذا الأمر، وأبدى لهم محبته وامتنانه لوقفتهم المشرفة في ظلِّ هذه الظروف العصيبة التي تمرُّ بها الإنسانية. قال له أحدهم: لم يعد لك عذر للبقاء يا محمود، هيّا عُد إلى بيتك ولا تخرج منه إلا بعد القضاء على هذا الفيروس ــ سأفعل إنْ شاء الله (تعالى) مشى محمود خطواتٍ والتفت إليهم قائلًا: ــ ولكن عندي مقترح، لِمَ لا نقوم بتجهيز جميع الموتى المسلمين الذين يؤتى بهم إلى هنا!! ــ اذهب ولا تقلق لقد اتفقنا نحن على ذلك. ــ ألا تحتاجون إليَّ بشيءٍ ما؟ ــ لا إطلاقًا، هيا ارحل.. ــ سأترك رقم هاتفي لديكم وسأكون بخدمتكم في أيِّ وقت.. وعند وصوله إلى المنزل اتصلت به والدته تحثّه على العودة سريعًا إلى هناك.. إلى وطنه.. ـــ أمي حبيبتي اهدئي واسمعيني.. هُنا أم هُناك، هي التي جاءت بي إلى هنا، سأكفُّ عن المقارنات والتمنيات وسأظل ..هُنا.. لأعيش الواقع بخيره وشره صابرًا مُحتسبًا ولن أهرب مرةً أخرى..
اخرىبقلم: صفاء الندى يا صاحبي الحزين.. ترمقني من بعيدٍ، وتظنني بأحسن حال، وتصفني بأجمل الكلام، وأنا لستُ سوى كوكبٍ وحيد بين مَنْ –لكثرتهم- لا يُعدّون ولكنّهم لا يشعرون، تُغطّيني الكثبان وتُؤذي جنباتي الصخور والأحجار وجاذبيّتي شبه معدومة فمن سيلتفتُ إلي؟! بل من ستهفو نفسه للسُكنى على ظهري؟! يا صاحبي الساهر.. لا تُحمِّلني ما لا أطيق، من أين لي أنْ أُنير كلَّ ما ذَكرت، وأنا مُظلمٌ في داخلي وفي حقيقتي؟! إنْ هي إلا الشمس!! فاطلب منها؛ فهي مصدر النور واللطف، وافتح قلبك وليكن شفافًا ليستقبل أشعة ذلك النور فتُشرق في أرجاء نفسك المتعبة أحاسيس الرضا والسكينة. يا صاحبي الفاهم.. قد بدأت تفهمني وتصِفُني بما يناسبني، فاترك الإفراط بالمديح بلا استحقاق. أنا لم أكُ أريدُ البَوح والتسامر معك؛ لأنّي مُكتف بعُزلتي ولكن استفزّتْني شاعريتك الحالمة.. كلانا حزينٌ يا صديقي، وقد غرّك نوري المُقتبَس المُشِع كما اغتر من حولك بثغرِك الباسم. دَعِ الحزنَ مطويًا مخفيًا؛ فما يُجدي إبرازه وجعله مرئيًا، وناجِ الإله الرحيم، يكشفْ ما بِكَ من ضُرٍ فَيُسْره لاشَك لك آتٍ. يا صاحبي العاشق.. لن أكسر فؤادك وسأكون عليك مشفقًا، فمن تعنيه وتستخبرني عنه، لا بأس هو يذكرك، ولكن ذكرى شحيحة، تشغله عنك الشواغل وتبعده عنك النوازل، فأين قلبه الساهي واللاهي من قلبك الوجِد و الملتهب حبًا وشوقًا؟! ابكِ يا نديمي... فبالبكاءُ راحةٌ وتفريغٌ لتزاحم الخيبات المتتاليات بلا هوادة، وإنْ أحببت إنسيًا فاحْبِبه هونًا لا بكلِّ جوانحك، وهذه موعِظةٌ من الإمام عليٍّ الذي اتخذته وليًا. يا صاحبي الوفي.. سأرحل الآن؛ فأنا لا أملك في مقامي ورحيلي أيَّ رغبةٍ ومشيئة، ولكن لا تظنه فراقًا بيني وبينك، بل سنلتقي لا محالة على أنْ أراك على أفضل من هذه الحال. واحرص على أن تنتقي ممن حولك شخصًا يشْبهُك، تأنس بوجوده. ولا ترقب مَلاكًا تصحبه؛ فلن تجده مهما بحثت مجتهداً. ها قد طلع الفجر، فقم وصلِّ لربك ركعتين خفيفتين مخلصًا، ومبتهلًا لتفريج همك والأسى؛ فهو أقرب الأقربين إليك، بل يسمع همس قلبك وأنينه.. فَطِب نفســًا يا صديقي..
اخرىبقلم: صفاء الندى (أبشِر فإن الشهادة من ورائك) قالها الرسول (صلى الله عليه وآله) لأمير المؤمنين (عليه السلام) عندما رآه مغتمًا لأنه لم يلحق بركب شهداء أحد.. إنّ الأرواح الملكوتية تَضيق لطول مكوثها على الأرض، وتشعر بغربة المكان والزمان فتترقب يومًا يأتي مؤطرًا بوسام الشهادة لينتشلها من مادية الحياة والتصاغر الدنيوي. ظل أمير الأبطال (عليه السلام) يخوض المعركة تلو المعركة طارقًا أبواب السماء، لعل نبوءة الحبيب المصطفى بالشهادة له تتحقق وتطيب نفسه بها. ولكن (لكل أجل كتاب).. قولٌ حق فمن أصدق من الله تعالى حديثًا؟ وما زال للعمر وللألم بقية يا أمير المؤمنين.. وصارمك الذي قاتل بجنب الرسول (عليه الصلاة والسلام) قاصمًا عتاة الكافرين لن يرتاح بغمده بعد رحيله، وسيعود الناس لجاهليتهم تتناقلهم أيادي الفتن، وتتحكم الشجرة الملعونة بالمسلمين. لقد أطفأوا سُرج هدايتهم مختارين، فإنهم لا يروق لهم نوركم آل البيت، ويغيظهم سنا مجدكم المتقد وسترون كيف يصبح رأس إمام الأتقياء مهرًا لأرذل النساء، يقدمه أشقى الأشقياء. ليس اختلالًا بالموازين، ولا شبهة عابرة ضالة مضلة تُسيّرهم، إن هي إلا العداوة وبإصرار للحق وأهله حكمت مواقفهم. وما نقموا منك يا مولاي إلّا الجراءة ضد باطلهم، وزهدك الذي لا تزعزعه مغرياتهم.. يا أميرًا للعقول والأرواح.. في محراب العبادة مبتدؤها وختامها وما بينهما سوح الوغى شاخصة لك بجراحاتها.. وكفوف العطف ممتدة مِنك لليتامى كريمة بعطائها.. وبلاغة الكلام تنثرها دررًا لا تقاس بألفاظ المخلوقين فريدة في سمائها.. ابشر يا أبا الحسن فقد فزت فوزًا عظيمًا في ميدان الجهاد الأكبر.. وسال دمك مولاي ولكن لم يُهدر، بل سيظل موصولًا بشرايين شيعتك يُنبئهم حكايتك على مر الزمن وهي أن لا يكلوا من مرافقة الحق وإن كثر مبغضوه وإلى آخر قطرة ونفَس.
اخرىبقلم: صفاء الندى في زحمةِ التناقضات التي تُحيطُ بنا، حتى أنّنا لم نعدْ نفهم ما يُريد الآخر، والأحداثُ إلى مَ ستؤول؟! ولثقلِ القناع الذي يُغطي وجوهنا، ليس نفاقًا بل تكيّفا ومداراةً، واستمالةً للمخالفين من أيِّ طرفٍ كان.. ولسماكةِ الدرعِ الذي لبسناه حمايةً لقلوبِنا من الخدوش والانكسار، حتى أصبحت تلك القلوب جرداء لا تنفذ فيها قطراتُ النقاء التي تهطلُ بين فينةٍ وأخرى.. ولتوالي الخيباتِ المتبادلة التي نحصدها من بعضنا بلا حججٍ مقنعةٍ وأسبابٍ تصلحُ تبريرًا لما يحصل.. لكل ذلك... نحن بحاجةٍ إلى أنْ نجلسَ كجلسةِ المراقب عن بعد.. ونُحدِّقُ بالأشياءِ والأشخاصِ والأحداثِ من بعيد.. بشرطِ أنْ نُقررَ عدم الاكتراث واللامبالاة مهما حدث.. لكي تكون جلسةً مريحةً واقعًا وحقًا وليس ظاهرًا فقط.. ولكننا بهذه الحالة، سنكونُ كالنبي سليمان (عليه السلام).... بعد وفاته جسدًا بلا روحٍ، تُسنده عصا.. والكلُّ لا يعلمون، بل ومنه متوجّسون..
اخرىبقلم: صفاء الندى عندما كنتُ طفلًا عايشتُ أحد الكبار... كانت كلُّ سعادته إرعابنا وملاحقتنا.. وكان يُظهرُ كلَّ فروسيته وشجاعته بساحة لعبِنا، قسوةً وتوبيخًا.. عينه.. لا ترى جمال براءتنا.. تفكيره.. برغم صغرِ عمرنا كُنا نلحظُ ضحالته.. قلبه... عفوًا أخطأتُ، سأمسحُها، وهل كان له قلب؟! لِمَ كلُّ هذا الاستقواء على الأطفال؟! لِمَ التعامل معهم وكأنّهم كائناتٌ مُدمرة؟! لستُ ناقمًا ولا حاقدًا، ولكنّي أريدُ جوابًا.. كبرتُ أنا.. وتجاوزتُ تلك المرحلة المؤسفة.. ولكنّي أشاهد هذه الحالة مستمرة مع أطفالٍ يعانون ما عانيت وأكثر من قبل أحد كبار العائلة أيضًا.. قولوا لهم: إننا لسنا سوى أطفالٍ نعشقُ اللعب، لا نتحدى رجولتكم أو مكانتكم الاجتماعية.. قولوا لهم: إننا نرى الحياة بطريقةٍ بسيطة، ولا نهتمُّ ولا نعلمُ أحيانًا بتعقيداتِها وكوارثها.. قولوا لهم: إنّ الخوف الذي سكن دواخلنا بسبب عنترياتكم الفارغة، مَنْ يقتلعه ويُريحنا؟ قولوا لهم: إنّ الظلم والجور لا يقتصر على حكامِ وأمراءِ الدول، بل كلُّ ظالمٍ يؤاخذُ بذنبه بحسب المسؤولية التي تقع عليه، وبقدر المظلمة التي حلّت على الآخرين بسببه.. فكيف إنْ كان من طاله الأذى منكم، هم من لاحولَ لهم ولا قوة؟! كيف إنْ كانوا ممن رفع الله (تعالى) عنهم القلم؟ وأنتم مصممون أنْ تعاملوهم معاملةً لا تُناسب أعمارهم وعقلياتهم؟ هداكم الله (تعالى) وجعل وجودكم بركةً ونعمةً لمن حولكم ..
اخرىبقلم: صفاء الندى فلنقم من سباتنا.. ولنسر خطوات.. ولنفرك أعيننا لتنقشع عنها غمامة الخوف والحزن والتردد.. لنحاول البحث عن الأبواب المفتوحة أمامنا ولا نتعجل اليأس.. وان كان بعضها مغلقا لا بأس بطرق الباب بهدوء وعدم الالحاح فشغفنا للوصول لا يلغي حفاظنا على كرامتنا.. بعضُ الأبواب المغلقة لها مفاتيحُ يتداولها الناس ليس علينا إلا معرفةُ أرقامِها، وعدمُ معرفةِ الرقمِ المُناسبِ سيؤخِّرُنا قليلًا ولكننا مع الإصرار سنعرفُه لا محالة.. أبوابٌ كثيرةٌ ومتنوعة في هذه الحياة يختلفُ مع ما سنراه خلفَها.. وما ينتظرُنا بعد ولوجِنا فيما وراءها.. فليسَ كلُّ بابٍ يُفتحُ لنا هو خيراً.. وليسَ كلُّ بابٍ مُغلق يجبُ فتحَه.. فرُبّما بعضُها من الأفضلِ أنْ يظلَّ مغلقًا وبإحكام.. فلننتبهْ في كلِّ الأحوال.. ولنتفاءلْ في كلِّ الأحوال أيضًا..
اخرىبقلم: صفاء الندى عاد عمّار ذو العشرِ سنواتٍ متألمًا من المدرسة، وقد اهترأ قميصه، واتسخت ملابسه، واحمرّت عيناه، فمن الواضح أنّه بكى كثيرًا. حاول العبور من أمامِ أمّه مسرعًا لكي لا تراه على هذه الحالة، ولكنّها أمسكت به من يده وقالت له: - هل تظنُّ يا ولدي أنّي لم ألاحظ الأمر، فإنّه يتكررُ كلَّ يومٍ تقريبًا! حاول عمّار أنْ يُفلِتَ يده منها وقال: دعيني يا أمّي، إنّي مُتعبٌ من اللعب، والجو حارٌ لا أكثر. - أنت لست مُتعبًا فقط يا بُني، انظر إلى حالك. فأجابها محاولًا طمأنتها قائلًا: إنّي على ما يُرام يا أمّي، أنا متفوقٌ بدروسي، وكلُّ أساتذتي يحبونني، وأصدقائي يتسابقون للعبِ معي، ولا مشكلة لديّ. فقالت له مشفقة: نعم يا بُني، ومن يستطيع أنْ لا يُحِبُّك يا قرّةَ عيني، فأنت ولدٌ مؤدبٌ وطيّبُ القلب ومجتهدٌ وأنا وأبوك نفتخرُ بك. - اذهب وغيّر ثيابك واغسل يديك، وعُدْ لتناول الغداء، فأبوك سيكون بيننا بعد دقائق قليلة. ذهب عمار وظلّت أمّه في حسرتها وحيرتها؛ فكلما تسأله عمّا يجري معه ليكون بهذه الحال يغلق الحديث بطريقته المعهودة، وقد استنتجت أنّه ربما يتعرض للتنمر والاعتداء من قبل أحدِ أقرانه، ويخجل أنْ يبوح بالأمر؛ فهو يشعر أنَّ الحديث بالأمر سيخدشُ رجولتَه المُبكرة التي بات يستشعرها في هذه المرحلة من العمر؛ لذا قررت أنْ تُخبرَ أباه بما يجري لعلّه يجدُ حلًا مناسبًا. وما إنْ سمع أبو عمار بالخبر حتى بان عليه الأسى، لا سيما أنّها أخبرته أنّها ليست المرة الأولى التي يتعرض فيها ابنهم للإهانة والضرب في المدرسة مما جعل عماراً يجنح للصمت والعزلة ويبدو عليه الحزن الذي يُحاولُ أنْ يُخفيه جاهدًا عن الناس. ولكنه عجز عن إخفائه عن أمّه المتابِعة له في كلِّ حركاته وسكناته.. فقال أبو عمار متذمرًا: لمْ أكنْ أتوقعُ أنْ أُنجِبَ ولدًا ضعيفًا. - أرجوك لا تفكر بهذه الطريقة السلبية؛ فأنا لم أعهدك هكذا، بل كثيرًا ما رأيتُك تحلُّ الأمور المتعسرة برويةٍ وحكمه. - سأذهبُ إلى المدرسة ﻷرى ما الذي يحدث لاِبننا هناك، ولأتبيّن من الإدارة ما يحصل. طلبت منه أم عمار أنْ يُحدّث ابنه أولًا بالموضوع؛ لعله يجيبه.. وعند حلول المساء طلب ابو عمار من ابنه أنْ يرافقه إلى حديقة المنزل ليساعده ببعض الأعمال فيها.. وفي هذه الأثناء اتخذت أم عمار من نافذةِ المطبخ المقابل للحديقة مقرًا للرصد والمراقبة، لعلّهم يحتاجونها في أمرٍ ما، أو ربما تسمع حرفًا من هنا وكلمةً من هناك، بعد أنْ منعت إخوة عمار من الانضمام إليهما، وألزمتهم بالبقاء داخل المنزل لمشاهدة التلفاز أو اللعب فيما بينهم. وبينما هما منهمكين بعملهما بالحديقة قال أبو عمار لابنه: ولدي ما رأيك لو أدخلتك دورةً لتعلُّمِ أحد الفنون القتالية؟ تفاجأ عمار من طلبِ أبيه .. أنت تعرفني يا أبي، لا أرغب بهذهِ الأمور. - وما الضيرُ بها؟ فإنها لكي يهابك الآخرون وتدافع عن نفسك إذا وقعت في مشكلة. نظر عمار لوالده متعجبًا وحدّث نفسه: ماذا يقصد أبي من هذا الكلام؟ هل أخبره أحدٌ ما بما يجري في المدرسة؟ فتركه أبوه يفكر بالأمر .. وذهب ليحضر خرطوم المياه ليرُشّ الحديقة بالماء.. ظلّ عمار يراقب تحركات أبيه، وعند عودته طلب منه والده أنْ يقوم هو بسقي الحديقة لأنه مرهقٌ جدًا. وجلس على الكرسي وقال: "لقد لقينا من عملنا هذا نصبًا" .. - أتعرفُ يا ولدي من قائل هذه الآية؟ لم يفكر عمار كثيرًا وأجابه: إنّه النبي موسى (عليه السلام)، ولكنّها بالأصل: "لقد لقينا من سفرنا هذا نصبًا" وبينما هما يتحدثان إذ جاءت أم عمار وقد أحضرت لهما كأسين من العصير البارد ليُزيل عنهما عناء ما بذلاه من جهدٍ وأيضًا لتستطلع الأمر. قال أبو عمار: أحسنتَ يا ولدي، أعلمُ أنّك ذكيٌّ؛ فإجابتك صحيحةٌ ودقيقة. وعندما سمعت أم عمار هذه الجملة من زوجها امتعضت، وأسرّت في نفسها قائلةً: لقد أهدر وقتًا كثيرًا، أطلبُ منه أنْ يحلَّ مشكلةَ ابنه، وإذا بي أجده يُلاعبه (من سيربح المليون؟)! هل يظن نفسه (جورج قرداحي)؟! نظرت ام عمار لزوجها ولعمار وقالت: سلُمَتْ يداكما؛ فقد أصبحتِ الحديقةُ أجمل الآن، ولكنَّ الوقتَ تأخّر يا أبا عمار. فَهِم أبو عمار حديثها المشفّر وردّ سريعًا: لا عزيزتي مازال الوقتُ بأوله، لا تتعجلي، كما أنَّ عماراً لديه عطلة غدًا، أليس كذلك يا بُني؟ - نعم يا أبي، فغدًا عيدُ الجيش العراقي - إذًا على راحتكما.. وعادت إلى مقرها تترقب.. كرّر أبو عمار سؤاله لولده: لم تقل لي ما رأيك النهائي بما اقترحته عليك؟ هل أسجلك بإحدى الدورات؟ - ولماذا يا أبي؟ لا أريد.. - أنا لن أجبرك على هذا الأمر، ولكنّي أجده سينفعُك لتدافعَ عن نفسك - ومِن ماذا أدافعُ عن نفسي؟ أنا بخير.. - إذن لماذا تأتي من المدرسة بملابسَ مُمزَّقه ومُتسخة؟ - طبيعي يا أبي، أنا ألعب بساحة المدرسة فتتسخ ملابسي وتتمزق. - طبيعي أنْ تتمزق ملابسك؟! بُني، أنا بإمكاني الذهاب إلى المدرسة بعد العطلة إنْ شاء الله؛ لأسأل إدارة المدرسة، ولكني أريد أنْ أسمع منك .. - إنَّها أمّي أخبرتك.. أليس كذلك؟ - نعم.. وحسنًا فعلت، فأنا لا أكون موجودًا أثناء عودتك من المدرسة لأرى حالتك، إلا أنّي أحسست بتغيُّرٍ في نفسيتك، فقد أصبح مزاجك حادًا بالفترة الأخيرة. قال عمار -وبحسرة شديدة-: لم أكن أرغب بأن تعلما - اطمئن يا ولدي، فأمُّك لا تعرفُ بالموضوع وكلُّ ما ذكرته لي أنْ أنصحك بالاهتمام بنظافتك وملابسك المدرسية أثناء اللعب فقط. قال عمار والحزن باديًا على وجهه: أنا آسف يا أبي؛ لأنّي لم أكنْ عند حسن ظنك.. لقد خاب ظنك بي، أليس كذلك، وتراني ولدًا ضعيفًا؟! - اهدأ يا عمار من قال لك ذلك؟! - أنت دائمًا ما تتحدث لي عن شجاعتك في صغرك، وكيف كنت تغلبُ أقرانك وتطلب مني أنْ أكون صورةً مطابقةً عنك. بكى عمار وختم بقوله: إنني ولدٌ جبان يا أبي وأنت لا تُحِبُّ الجبناء ..وقام مسرعًا يريدُ مغادرة المكان، فأمسك والده به واحتضنه وقبّله، وأجلسه بقربه وقال له: ومن قال يا ولدي إنّ كلَّ مغلوبٍ هو جبانٌ وضعيفٌ؟! فهناك من الناس من يغلب الآخرين بغدره ومكره، ولا نستطيع نحن مقابلته بالمثل لأننا ملتزمون بديننا الذي ينهانا عن ذلك... ارتاح عمار لحديث والده فقد كان كلُّ ما يُحزنه ويُثقل قلبه أنْ يستاءَ أبوه منه وقال: - نعم يا لأبي، إنّه يغدرُ بي، ويضع قدمه أمامي فأسقط على الأرض. ويدفعني من الخلف دفعةً قويةً وأسقط أيضًا، وكُلّما حاولتُ الدفاع عن نفسي والتشابك بالأيدي معه يزدادُ الأمرُ سوءًا ويغلبني.. وهكذا كلّ يومٍ، ماذا أفعل يا أبي؟.. أم عمار تنظرُ إلى المشهد من بعيد، وقد اغرورقت عيناها بالدموع.. - اطمئن يا ولدي، سنجدُ حلًا، فالأمرُ ليس بالعسير كما تظن، كما أنني أريدُك أنْ تعلمَ وتثق أنّي أُحِبُك جدًا، ولم أشعر يومًا بالخيبةِ منك، بل أنت مثارٌ لفخري أمام الآخرين بأخلاقك وأدبك، وتفوقك بدروسك، سأذهب إلى المدرسة وأتفقُ مع المدير على معالجة الموضوع وبهدوء... ولكن أيضًا لديَّ طلبٌ منك. - بخدمتك يا أبي، تفضّل.. - ما زلتُ مُصرًا على مقترحي أنْ تتعلمَ القليلَ من الفنون القتالية للدفاع عن النفس، فهي لن تضرك بل ستنفعكَ كثيرًا، وتجعلك تثقُ بنفسِك اكثر، وتردعُ كلَّ من يفكر بالتعدي عليك من دون أنْ تُحرّك إصبعًا واحدًا، هل اقتنعت الآن؟ - نعم يا أبي كلامك صحيح.. ألا ترى أمّي أنّها تراقبنا منذ البداية؟ - نعم أراها ستُجنُّ لتعرفَ ما دار بيننا قال عمار لوالده خجلًا: - هل ستُخبِرُها؟ فأجابه والده: لا يا بني لمْ ولنْ أخبرها، لا تقلقْ سأجدُ منفذًا ما، فكما أنَّ للنساء أحاديثهن الخاصة فنحن الرجال أيضًا لدينا أحاديثنا الخاصة، أليس كذلك؟! ابتسم عمار وتبدّد همّه، وعادت الروح مجددًا لزهرة عمره الفتي التي كاد أنْ يُذبلها سره الخفي ..
اخرىبقلم: صفاء الندى قد فارقَتِ الشعورُ بالحياة منذُ زَمن.. ولكنّ الناسَ عادةً لا يَدفُنون منْ بهِ رَمق.. يعدّون الرّمقَ أُسَّ الحياةِ، بل ويَمَنّونَ به.. لِذا تَركوها بَيْنهُم.. لا تَملِكُ سوى قلبٍ يَنبضُ.. وعينٍ تُبصرُ.. ونَفْسٍ تَتمنّى.. وَعاشوا هُمْ دُنياهم متَلذّذينَ بكلِّ زخارِفها ومَظاهِرها.. لاهينَ عَنْها وناسينَ لوُجودِها.. خاطَبَت قَلبها مُعاتِبة: ليْتَكَ تتوقّف.. نعم، توقّفْ؛ فقد سئمتُكَ كما سَئِمتَ مني، فَبِسببِ استِمرارِك بالخَفَقان بلا مسوّغٍ يُقنعُني بجدوى الحياةِ ما زِلتُ بيْنهم مُهْمَلَةً ووحيدَة.. وجاء اليومُ الذي توقّف فيه قلبُها مُجبرًا كما كان يَنبُض مُجبرًا .. وحسنًا فَعَل.. فَقد حانَ موعدُ الموتِ الرسمي والموحّد الذي يشتركُ به الجميع.. فقَرّروا غير مُتردّدين دَفنها.. وفي عزائها.. أخذوا يَرْوونَ للمٌعزّين كم كانوا لَطيفينَ مَعَها.. وقد ضحّوا وبذلوا كلَّ ما بٍوسْعهِم لإسعادِها وراحَتِها.. لا يَهتمُّ أحدٌ الآن لِلحَديث إنْ كان صادقًا أمْ لا.. دعونا نُثرْثِر ونَسْتمتِع ويَكذُب بعضُنا على بعْض.. وأخَذوا يَتهامَسونَ بيْنهم فرِحين: وأخيرًا شَعرنا بقيمةٍ ما لِوُجودِها طُوال تلك السّنين .. فقدْ حصَدنا الكثيرَ منَ الهِبات والأموال في عَزائِها! نعم، قيمةُ كُلِّ شيءٍ في مقاييسهم مادّيٌّ، يكونُ إضافةً لما يملكون.. تُغادِرُهُم روحًا تلْوَ روحٍ، وهُم لا هَمَّ لَهُم سوى الاكتِناز.. لَمْ يعُد يُجدي الاستِرسالْ بالحَديثِ عَنْها شيئًا.. إِنّها رَحلتْ، وكأنّها لم تَحْيا يومًا.. وكفى..
اخرىبقلم: صفاء الندى أخذتُ ورقةً وقلمًا، وشرَعت أخطُّ حروفًا، وبدت كُلُّها مكسورةً، ولم يتبيّن لي ما سرّها! أكتبُها منتظمةً، وما تلبثُ أنْ تتبعثرَ وتلوذَ بزوايا الورقة وكأنّها شاردةٌ من أمرٍ ما! ما الذي يحدث لي؟! ما بال حروفي الوادعة تستفزني؟ سأستمر بالكتابةِ لعلَّ ما تراه عيني وهْم عارض بسبب التعب... عاودتُ الكتابةَ مرةً أخرى وبإصرارٍ؛ فأنا لم أعتدْ أنْ أتجشمَ كُلَّ هذا العناء بإقناع رفيقاتي -حروفي- أنْ يتفاعلن معي في أيّ موضوعٍ أتناوله.. بالكادِ كتبتُ جملةً يتيمةً، بحروفٍ متثاقلةٍ، فرأيتُ يدي ترتعشُ، وأخذتِ الحروفُ تذوبُ وتنصهرُ على مرأى مني ثم تتلاشى وتختفي وتعودُ الورقةُ بيضاءَ وكأنّ قلمي لم يخط عليها شيئا! هنا انتابتني لحظاتٌ من الفزع، نظرتُ حولي وتوجهتُ ﻷختي؛ ﻷحدّثها بالأمر، فخشيتُ أنْ أُتّهَم بسلامةِ عقلي، وهو أعزُّ ما أملك بل كلُّ ما أملك. لا لن أحدّث أحدًا بالأمر.. أخذتُ ورقتي المُتعبة والفارغة بيدي وجلستُ بفناءِ المنزل حزينةً وحائرةً؛ فقد كنتُ أشعر بالعجز المُذل؛ ﻷنّي لم أكتب حرفًا عن أمير المؤمنين مولاي علي (عليه السلام) رمقتُ السماءَ بطرفي وناجيتُ الله (عز وجل) بسؤالٍ كُلُّه خجلٌ وانكسارٌ: لِمَ يا ربي حروفي لا تطاوعني؟! التفتُ إلى الورقة بيدي وقد أصابتني الدهشة؛ إذ رأيتُ مكتوبًا عليها بخطٍ لم أشاهد أجمل منه، كان يشعُّ نورًا: (يا علي لا يعرفك إلا الله وأنا)... يا إلهي! فأنا ما زلتُ لم أعرف إمامي حقًا؛ لكي أكتب عنه كلماتٍ تلامسُ سماءه العالية وترقى لجلالةِ شأنِه، وإنْ كتبتُ يومًا ما فهو بقدري يا مولاي وليس بقدره أبدًا أبدًا
اخرىبقلم: صفاء الندى الصحابيُّ الجليلُ والمجاهدُ، ذو الشخصية المُلهِمة والثابتة، ميثمُ التمّار الكوفي (رضوان الله عليه)، كان عبدًا عند امرأةٍ من أهلِ الكوفة، اشتراه أميرُ المؤمنين (عليه السلام) ثم أعتقه.. امتهن بيعَ التمرِ في السوق؛ ليكفَّ نفسَه عن الحاجةِ للناس، ويعيش حرًا كريمًا.. وفي حكومةِ أمير المؤمنين (عليه السلام) عمل في شرطة الخميس، وهم جماعةٌ ممن شارطوا أمير المؤمنين (عليه السلام) على الجنةِ مقابلَ الوفاء والتضحية والإقدام. والخميس بمعنى الجيش؛ لأنّه خمسُ فرق: المقدمة والميمنة والميسرة والقلب والساق.. أصبح من حواريي أمير المؤمنين (عليه السلام)، وأحدَ خاصتِه الثقات، عالمًا بتفسيرِ القرآن ورواية الحديث، وهو من الذين أطلعهم أميرُ المؤمنين (عليه السلام) على خفايا المستقبل، وهو علم المنايا والبلايا.. والمنايا: جمع مَنِيَّة، وهي الموت ومفارقة الدنيا، فهو مُطّلعٌ على آجالِ الناس، ويعلمُ أين ومتى يموتون؟. والبلايا: جمع بَلِيَّة، وهي المصيبة والمحنة، ومن كان له حظٌّ من هذا العلم، فهو مُطّلعٌ علی الحوادثِ والوقائعِ التي تستدعي الاختبار، وتردُ فيها المصائب.. وكما أنّه يعلمُ بالناس متى يموتون وأين، فهو (رضي الله عنه) على علمٍ بالكيفية التي سيُقتلُ بها ومتى وبأمر من؛ فقد أخبره أميرُ المؤمنين (عليه السلام) بذلك إذ قال له ذات يوم: "إنّك تؤخذُ بعدي، فتصلبُ وتُطعنُ بحربة، فإذا جاء اليوم الثالث ابتدر منخراك وفوك دمًا، فتُخضّبُ لحيتك، وتُصلبُ على بابِ عمرو بن حريث عاشر عشرة، وأنت أقصرهم خشبة، وأقربهم من المطهرة. وامضِ حتى أريك النخلة التي تُصلبُ على جذعها" فأراهُ إيّاها.. وكانَ ميثمُ يأتيها فيصلّي عندها ويقول: "بوركتِ من نخلةٍ، لكِ خُلِقتُ، ولي غُذّيتِ" فلم يزل يتعاهدها حتى قُطِعت وبقيَ جذعُها. وقد قُتل (رضوان الله عليه) بأمر الحاكم ابن زياد سنة ٦٠هجرية قبل واقعةِ الطفِّ بأيامٍ قلائل؛ لأنّه رفض التبرؤ من الإمام علي (عليه السلام). نرى أنّ ميثمَ التمّار قد عشقَ النخلةَ التي أُنبئ أنّه سيُصلبُ عليها، فمن منا يعشقُ شيئًا يؤذيه حدّ الموت؟! من منا يستأنسُ برؤية شيءٍ كلما مدّ بصره إليه تتراءى له دماؤه وهي تسيلُ عليه من كُلِّ جانب؟! إنّها لم تكن نخلةً وحسب تلك التي عشقها ميثمُ التمّار، بل كانت.. عرينًا للولاء، وثيقةً للوفاء معراجًا للأتقياء، شجرةً تحملُ جسدًا أُبيدَ بحُبِّ علي، شجرةً تحملُ روحًا هامتْ بحُبِّ علي.. فجديرٌ أنْ يقدّسها كُلُّ ما في الكون حقيقةً ومعنى.. سلامٌ على جسدك المُعذَّب في ظُلمةِ السجون وأمامَ الملأ.. سلامٌ على لسانِك الناطق بالحقِّ تحديًا للطغاة، فقطعوه غيًا وضغينة.. سلامٌ عليك إذ بذلتَ كُلَّ ما لديك، وتحمّلتَ قسوةَ الظالمين فداءً للدين والإمامة الحقة.. سلامٌ على الذين إذا قرأنا عن سيرتِهم نشعرُ بالخجلِ والوجلِ من أنفسِنا التي لا تحتملُ وخزَ إبرةٍ في سبيلِ الله (تعالى).
اخرىبقلم: صفاء الندى كم يفخرُ الأحرارُ بمختلفِ أجناسِهم وانتماءاتهم عندما تمرُّ عليهم ذكرى عاشوراء؛ فعاشوراءُ أيامُ حُزنٍ وعزاءٍ كما أنّها أيامٌ تزخرُ بالتضحيةِ والإباءِ.. عاشوراءُ تُعيدُ تدفّقَ الحياةِ في أرواحٍ ربما اعتادت أنْ تظلَّ خاملة.. عاشوراءُ تُنعِشُ عقولًا ربما أوشكتْ أنْ تغيبَ وتضمحلَ بما ورِثَتْه من أفكارٍ ورؤى قسرية.. كما أنّها تُذكّرُ الذين استمرأوا قول "نعم" في كُلِّ الظروفِ أنّهم مُخطئون جدًا.. فالحسين (عليه السلام) قالها بلا تورية (لاءً) صادحةً بوجهِ من تمادى بالفسادِ والإفساد.. فكيفَ لا تكونُ عاشوراءُ ملاذًا معنويًا ومنهلًا فكريًا لكُلِّ المستضعفين، وقد أجادتْ وضعَ النقاطِ على الحروفِ المُبهمةِ وبكُلِّ جرأة؟! كيف لا تكونُ كذلك وهي مستندٌ أمهره الحُسين (عليه السلام) بدمِهِ المُقدّس؛ ليُخبرَنا بإمكانيةِ أنْ يُصبِحَ الدمُ المُراقُ ظلمًا أرسخَ أثرًا وأكثرَ فاعليةً من الفتوحاتِ والانتصارات العسكرية. كيف لا تكونُ كذلك وهي يدُ اللهِ الممدودة في أجواءِ الذُلِّ الخانقة حولنا، فأجلَتِ الخوفَ من أفئدةِ المحكومين وقصمت تجبُّرِ الحاكمين. هذه هي عاشوراءُ الحُسين (عليه السلام)، مفخرةُ الثوارِ الذين طالما قوبلوا بالرفضِ والاستهجانِ ليبكيهم الناسُ بعد رحيلهم نادمين.. هي مُلهِمةُ المجاهدين المُخلصين، وليست لافتةً يختبئُ خلفَها من ابتغى مغنمًا شخصيًا بضياعِ الغايات النبيلة. إنَّ معركةَ الطفِّ أرادَها الإمامُ الحُسين (عليه السلام) أنْ تكونَ ثورةً للعوامِ على ذواتِهم من جانبٍ وعلى يزيد زمانِهم من جانبٍ آخر؛ لتعقبها نهضة في ميادينِ واقعهم، كالأرضِ المُقفرةِ والهالكةِ التي لا تُنبتُ زرعًا ولا تُجني ثمرًا إلا بعدَ أنْ تهتزَّ وتُزلزَلَ من أعماقِها، قال (تعالى): "وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج"[الحج 5] -فلنا أن نقول: إن الماءُ الذي جعلَ اللهُ منه كُلَّ شيءٍ حي هو وجودُ الإمامِ الحُسين (عليه السلام). -والأرضُ الهامدةُ هي إرادةُ المُسلمين التي أماتها بنو أمية وحُكّامُ الجور. -والهزّةُ هي دمُ الحُسين (عليه السلام) المسفوح وصرخة زينب (عليها السلام). -والنباتُ المُبهجُ هو الوعيُ والإرادةُ المُستعادةُ ولو نسبيًا.
اخرى