بقلم: صفاء الندى إنَّ الشعورَ بالذِلّةِ والمهانة أمرٌ يتجنبه معظمنا، فلا أحدَ يحتملُ أنْ يُساءُ إليه من الآخرين، أو يوضعَ بمواقف تبدو مُهينة، فترى الكثير منا يحرصُ أنْ يسُدَّ كُلَّ بابٍ يشعرُ بإمكانيةِ ولوجِ أسبابِ ومقدمات الذلة منه. والتحلّي بصفةِ العزّةِ يبعثُ في النفسِ الثباتَ والقوةَ المعنوية والثقة بالنفس والغنى عن الناس، وعلى عكسِها صفةُ الذلِّ التي إنْ تلبّسَت بالإنسان جعلت منه شخصيةً ضعيفةً ومتقلِّبةً ومُفتقرةً إلى الخُلُق. وقد عرفنا أنَّ الإمامَ الحسين (عليه السلام) وأهلَ بيته قد تعرّضوا ﻷمورٍ وأحداثٍ في كربلاء يضعها بعضُنا مُشتبهًا في خانةِ المذلة التي يجبُ على المؤمنِ المُنتسبِ لله (تعالى) -سواء كان مؤمنًا بدرجاتٍ دنيا أم من أصحابِ الإيمانِ بدرجاتِه العُليا كالأنبياء والرسل والأئمة (عليهم السلام)- أنْ لا يُدرجَ تحتها، فكيف نُفسِّرُ بعض ما جرى في واقعة كربلاء؟! قبلَ الإجابةِ على هذا السؤال، وكإضافةٍ معرفيةٍ، فلنتعرف على معنى العزّةِ ومنشئها.. يقولُ الراغبُ الأصفهاني: "إنَّ العزةَ منزلةٌ شريفةٌ، وهي نتيجةُ معرفةِ اﻹنسانِ بقدرِ نفسه وإكرامها عن الضراعة للأغراض الدنيوية. وقيل: العزةُ تعني التأبي عن حملِ المذلةِ والترفع عما تلحقه غضاضة(1)، فهي حالةٌ مانعةٌ للإنسانِ من أنْ يطلب(2)، كما إنَّ العزةَ في كلامِ العرب لا تخرجُ عن معانٍ ثلاث: أحدها: الغلبة، والثاني: الشدة والقوة، والثالث: بمعنى نفاسة القدر(3) فعزةُ الإنسانِ العامة والمحدودة تنبعُ من محتواه الداخلي، وما يشتملُ عليه من قيمٍ وأخلاقٍ راقيةٍ ترفعُ شأنَ المتصفِ بها داخل نفسه، وتُشعِرُه بالتقدير العالي للذاتِ الذي سينعكسُ على الآخرين بشكلٍ إيجابي إنْ كانوا أخيارًا. أما إنْ كانوا غيرَ ذلك فسيولِّدُ في أنفسِهم الحقدَ والضغينة والغيرة ومحاولة التقليلِ من قيمةِ تلك الشخصية العزيزة، والسعي لإذلالها تعويضًا لنقصِ القيمة الظاهري والباطني الذي يُلازمهم. والعزةُ الخاصةُ والمطلقة لو صحَّ التعبير هي العزةُ الممنوحةُ من الله (تعالى)، فكُلُّ مؤمنٍ هو عزيزٌ عندَ الله (تعالى) بما ناله من قُربٍ إلهي نتيجةً لما قام به من طاعاتٍ خالصةٍ وأعمالٍ صالحة، كانتْ محلَ رضا وقبول من الخالق (جلَّ شأنه) فعنِ الرسولِ الأعظم محمد (صلى الله عليه وآله): "من أراد عِزًا بلا عشيرة، وغنى بلا مال، وهيبةً بلا سلطان، فليخرج من ذُلِّ معصيةِ اللهِ إلى عزِّ طاعته"(4). وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): "إذا طلبتَ العِزَّ فاطلبه بالطاعة"(5) ويريدُ اللهُ (تعالى) بقدرته اللامتناهية أنْ يكونَ هذا المؤمنُ عزيزًا شامخًا محترمًا بين الناس شاؤوا أم أبوا، ولن يخرمَ أحدٌ -مهما تجبّرَ واستكبرَ في الأرضِ- المشيئةَ الإلهية. وعلينا ملاحظةُ أنَّ كلا العزتين الخاصة والعامة يُمكِنُ أنْ تجتمعا في نفسِ الشخصِ ويُمكِنُ أنْ يفترقا، كما إنّهما يُمكِنُ أنْ لا تسنحا وتتوفرا كلتيهما للإنسان، فكلٌّ بحسبه. نعودُ لما حصلَ في الطفِّ وكيفَ يُمكِنُ تفسيره، وهل حصل للإمامِ الحسينِ (عليه السلام) وأهلِ بيتِه وأصحابِه الذلُّ والمهانةُ في واقعةِ كربلاء؟! وجوابه: "إنَّ القولَ بالذلةِ مخالفٌ للقرآن الكريم "ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين"[سورة المنافقين8]، والحسين (عليه السلام) كانَ في زمانِه وما زالَ إمامًا وأولى المؤمنينَ بصفاتِ الإيمان، ومن هُنا جاءَ قولُه في بعضِ خطبِه ذاكرًا طلبَ الحاكمِ الأموي للبيعة: "ألا إنَّ الدعيَ ابن الدعي قد ركز بين اثنين بين السلة والذلة، وهيهات منّا الذلة، يأبى اللهُ لنا ذلك، وحجورٌ طابت، وأرحامٌ طهرت على أنْ نؤثرَ طاعةَ اللئامِ على مصارعِ الكرام" وهو واضحٌ جدًا بالاعتزازِ بالإيمانِ والصمودِ في جانبِ الحق، وليسَ هذا من التكبُّرِ الباطلِ في شيء، وإنّما هو الاعتزازُ بالله (تعالى) ورسوله (صلى الله عليه وآله). فهو العزيزُ في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فلصمودِه وصبرِه، وأما في الآخرةِ فللمقاماتِ العُليا التي ينالها بالشهادة. نعم، لا شكَّ أنَّ المعسكرَ المُعادي وقادته أرادوا إذلاله وحاولوا إهانته، إلا أنَّ شيئًا من ذلك لم يحصلْ؛ ﻷنَّ الذلة الحقيقية إنّما تحصلُ لو حصلت المبايعة للحاكمِ الأموي، والخضوع له تلك هي الذلة التي تجنَّبها الحُسينُ (عليه السلام) بكُلِّ جهدِه وضحّى ضدها بنفسه، وأما الصمودُ في ساحةِ القتالِ فلن يكونَ ذلةً لا في نظرِ أصدقائه ولا في نظرِ ربِّه (جلَّ جلاله)"(6) إذن إنَّ العزةَ هي في نصرةِ الحقِّ وإنْ بدَتْ بالمنظورِ العُرفي بعضُ علائمها توحي بالذل، وأما لو تخلّى الإنسانُ عن نصرةِ الحقِّ فسيكونُ مصيرُه إلى الذُلِّ وإنْ تظاهرَ بالعظمةِ الظاهرية. قال الإمام العسكري (عليه السلام): "ما تركَ الحقّ عزيزٌ إلا ذلَّ، ولا أخذَ به ذليلٌ إلا عزَّ"(7) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1-معجم مقاليد العلوم للسيوطي ص203 2-تاج العروس للزبيدي 219-15 3-زاد التفسير في علم التفسير لابن الجوزي 4-بحار الأنوار ج 78 ص 1926 5-غرر الحكم 4056 6-أضواء على ثورة الحسين (عليه السلام) للسيد الشهيد محمد صادق الصدر (رض) ص130- 132 7-بحار الأنوار 78/ 374/ 24
اخرى