بقلم: أريج الانتظار "وَجَلَّتْ وَعَظُمَتْ مُصِيبَتُكَ فِي السَّماواتِ، عَلَىٰ جَمِيعِ أَهْلِ السَّماواتِ" ١ اختلَّ نظامُ الكون و دارت المجرات بعنف، اهتزت طبقات الكوكب وعصفت الرياح، قد كُسفت الشمس وخُسف القمر، وانشقَّت السماء وبكت دماً عبيطاً، واختفت النجوم بين الغيوم. حدثٌ رهيب وقع وزلزلَ كل شيء "وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا"*، قد قُتل القران وفُصلَّت آياته على الثرى ولم يبق أحد من أصحاب الكساء. قد قُتل الحسين بن علي (عليه السلام) وبقي صريعًا على رمضاء كربلاء، تصهر جسده ألسنة الصحراء الحارقة، قضى عطشانًا بقرب الفرات مذبوحًا من القفا غريبًا وحيدًا، كان للأرض موقفًا مختلفًا جدًا، كانت مشتاقة له لدرجة أنها تريد أن تضمّه إلى صدرها لتصبح بذلك طاهرة وتبني له من ترابها ضريحًا، وطابت بذلك وتحقق مرادها حين قال من خلف والده فيها إمام: "طبتم وطابت الارض التي فيها دفنتم"، وناحت عليه بصراخ وعويل وبكاء، ولم يبق مؤمن ولا جن ولا شجر ولا جماد ولا حيوان ولا وحوش في الفلوات ولا كائن في المحيطات وبواطن الارض ولا ذرة في الهواء أو في التراب إلّا وبكت وناحت على مصاب أبي عبد الله (عليه السلام)، ليس هذا فقط، فقد ناحت عليه قبلهم سيوف أعدائه وجياد الخيالّة التي رضَّت صدره الشريف، لم تبق صخرة ولا حجر إلّا وسالت من تحتها الدماء، قد لا نتصور الفاجعة بكاملها بيومها وبأدق تفاصيلها كيف وقعت، لأننا سمعناها من المنابر وتصورناها ببصيرتنا لا ببصرنا، قد رُسمت في أذهاننا منذ عالم الذر، وجنّت عقول البشر عند سماعها، وشابت رؤوسهم، ولهذا ترى الجزع والحزن الشديد بفطرتنا في عاشوراء، ليس لنا سبيل سوى أن نعبّر عن ذلك بشتى أنواع الحزن والعزاء. مِنّا مَن يلطم صدره ودموعه رسمت أنهارًا على خديه، ومِنّا مَن يمشي على الجمر ويقطع مسافات ليصل كربلاء في طريق العشق يواسي السبايا، ومِنّا صاحب موكب بناه بما عنده لخدمة زوار الحسين (عليه السلام)، ومِنّا من جعل صوته خدمةً للقضية الحسينية فأخذ يصدح به على المنابر... لذلك أتساءل كيف يكون عزاء السماء وسكانها؟! كيف استقبلت دمه الزاكي ودم رضيعه الذي أرسله ليخبرها بمقتله؟! رماه وقال (عليه السلام): "هوّن ما نزل بي أنه بعين الله" إنهم يحيون عاشوراء فقد بكاه جميع الأنبياء والمرسلين، منهم آدم ونوح وإبراهيم وإسماعيل وموسى وسليمان وعيسى(عليهم السلام) قبل يوم عاشوراء ٢، وأقاموا عليه العزاء لأنه وارث النبوة، وجميع الملائكة شاركتهم. لكن بأيّ صورة وبأيّ هيئة وهم من رأوا الفاجعة وحضروها؟ تُرى، أيقيمون المأتم هناك عند سدرة المنتهى؟ من هو ناعيهم وكيف هو موكبهم؟ كيف ينعون الحسين (عليه السلام) وأهل بيته الأطهار في العاشر من المحرم وقد عظمت لديهم المصيبة؟! هل أن جبرئيل (عليه السلام) هو ناعي المأتم؟! أم أن منصور هو صاحب الموكب؟! فقد استأذن أن ينزل الى كربلاء ليلبّي نداء (ألا هل من ناصر ينصرنا) هو وجيشه من الملائكة فنزلوا ولم يدركوا الحسين (عليه السلام)، فماذا يكون قد فعل عندما رأى فعل ذي الجوشن بسبط الرسول (صلى الله عليه وآله)؟ هل يركض مع المعزين بركضة طويريج بين الحرمين؟! فقد بقي هو وجيشه عند قبره شعث غبر يبكون على مصابه ٣. كيف يا ترى حور العين أقمن مجالس العزاء ليواسين سيدة النساء (عليها السلام) صاحبة العزاء؟! ماذا يقدّم الولدان المخلدون ثواباً في نهاية المجلس؟! أين رفعوا الرايات السوداء؟ أعلقّها رضوان (عليه السلام) على أبواب الجنة؟ هل استمر نهر الكوثر يجري بعد سقوط قمر بني هاشم (عليه السلام) بجانب العلقمي؟ وأتساءل: كيف تقدّم جهنم عزاءها؟! هل شاركتهم؟ هل أشعل مالك (عليه السلام) المشاعل كما يعزي أهل النجف أمير المؤمنين (عليه السلام) بمشاعل النار؟! أم أُطفئَت نيرانها حزناً على الخيام التي أُحرقت باللهيب؟ لا يخطر على مخيلتي المحدودة طريقة عزائهم، لكن جزماً إنهم يبكون معنا كل محرم وينشرون السواد، ويغيرون الراية الحمراء إلى السوداء إيذاناً للحداد، ويمشون معنا كل صفر نحو الوادي المقدس وينادون معنا كلما سمعونا ننادي: يا حسين. _______________ *سورة الزلزلة ١- مفاتيح الجنان ـ زيارة عاشوراء. ٢- بحار الانوار. ٣- امالي الصدوق.
اخرىبقلم: أريج الانتظار على أرضٍ حباها الله (عز وجل) تربةً لكلِّ المصلين مكان تألفه القلوب ما إنْ تطأُ قدميك حدوده هي جنةُ الله على أرضه وقطعةٌ من سمائه عندما تدخلها تُحلِّق بين أزقتها وتخطفُ نظرك تلك القبة الذهبية حتى تهيمَ بعشقها، تفصلك عن الواقع لتُفهمكَ المستقبل وآخر الزمان هي كربلاء.. تهيأت الأقدار أنْ نتوفق لزيارة كربلاء المقدسة ما إنْ سمعتُ بذلك حتى طار قلبي فرحًا ولهفةً؛ فقد اشتقت لكربلاء وبعد عامٍ دراسي متعبٌ آن للنفس أنْ تهدأ بقربِ سيدها أبي عبد الله (عليه السلام) حالما وصلنا حدودها حمل النسيمُ عطرَ الحضرةِ المقدسة لاستقبال الضيوف فقمر بني هاشم (عليه السلام) يستقبلهم في بداية دخولهم ولاحت رايته ونحن على جسر كربلاء تحيي الزوار وترحب بهم لحظاتٌ من الجنان، هكذا شعرتُ بها حتى وصلنا .. وتزداد نبضات القلب كلّما قَصُرتِ المسافة التي تفصلنا عن الحرمين.. من آداب الزيارة أنْ تزور الحسين (سلام الله عليه) على حالِ تعبك وأنت قادمٌ إليه من بلاد بعيدة؛ ليكون دخولك متذللًا وكأنك تقول له: لا راحة لي إلا بالقرب منكم لحظاتُ دخول الحضرة الشريفة لا تصفها كلماتٌ، تضيعُ الأحرف في حضرته لا ترى أمامك سوى تدفق الماء كالسيل عند أعتابه المطهرة .. ويتوقف كلُّ شيءٍ، فلا يصبح للوقت أهمية، هذه اللحظات سماوية ليس لها تفسير لحظاتُ اللقاء، لقاءُ العاشق بمعشوقة.. استنشقت أريج الجنان .. يا لهذه الرائحة .. هذا عطرُ الفجر الذي يشبه التفاح في هذه الحالة لا تطلب شيئًا من الحياة بعد .. تكتفي بكلِّ شيءٍ، عدا شيءٍ واحدٍ هو أنْ لا تفارق هذه البقعة أبدًا وأنْ تعود كُلّما حنَّ لها القلب واشتاقت الروح تقفُ بين الحرمين لتتأمل أخًا لا يفارق أخاه، يقف أمامه يطلُّ عليه كلَّ حينٍ، مدَّ يداه وتكوّنت أمتارٌ بين الحرمين .. صاحبُ اللواء كفيلُ العقيلة (عليهما السلام)، وفي استضافته كرمٌ لا مثيلَ له .. فبمجرد أنْ تطلب شيئًا لا ترد خائبًا كانت بضع أيامٍ، لكنها كلَّ سني العمر وبقيَ مكانٌ آخر، لابد من زيارته على بعد أمتار قليلة من روضة الحسين (عليه السلام) لاح ذلك المقامُ البهي الذي يُذكِّرُ العالم بأنَّ صاحب الثأر له موعدٌ قريبٌ، ووعد الله حقٌ، ذلك مقامُ الحجة (عجَل الله فرجه) علاقتي بهذا المقام تختلف جدًا، فهنا لا يوجد مستحيل، هنا كلُّ شيءٍ ممكن .. كُتِبَ على الباب "اللهم أرنا الطلعة الرشيدة"، طالما رددتها في أسطر دعائي وكان نداء (يا مهدي أدركنا) شعار قلبي في حالكاتِ الردى، وكان لي النور في كلِّ الظلمات التي مررتُ بها فهل لك أنْ تتصدق علينا سيدي بنظرةٍ؟ فانت كريمٌ من أبناء الكرماء، وأنا خادمكم ببابكم أتوسل مع كلمات دعاء الفرج التي تلهجُ به شفتاي حتى خرجت ... لم أعرف إلى أين يؤدي هذا الزقاق؟ تذكرتُ بعدها أنَّه مقامٌ للإمام الصادق (عليه السلام)، لم أزره سابقًا لكن سمعتُ به وشوقي لإمامي (عليه السلام) الساكن في البقيع قادَ قدميَّ إليه، فمشينا بشارعٍ طويلٍ في آخره كان هناك مقامٌ أخضرُ مميزٌ ذو هيبة تختلف فقد ارتسمت علية هيبة العلماء وتواضعهم وما إنْ أكملنا الزيارة لم أجد أحدًا في المقام، وجاء الخادم لترتيب المكان لقد تأخر الوقت ليلًا ولم أشعر به فهذه الأماكن لا تشعر فيها بالوقت .. استعجلتُ الخروج للعودة وتفاجأت أنَّ الناس قد تفرّقوا من المكان، فكيف لي المسير بهذا الظلام وأنا بمفردي؟ انتابني خوفٌ وقلقٌ ربطتُ على خوفي، فأنا في أرض الحسين (عليه السلام)، كيف أخاف من شيءٍ وتقدمت بخطواتي الحذرة لطريق العودة أخذ قلبي بالخفقان بشدة كاد أنْ يخرج من مكانه وجفَّ لساني في حلقي وأسرعت في خطواتي ولم يكنِ الطريق هكذا طويلًا، الآن أصبح أميالًا لا تنتهي... وإذا بإصحاب المحلات قد أغلقوا أبواب محلاتهم وينظرون إليّ فشعرت بالقلق أكثر! وفي نفس اللحظة، جاء رجل لم أشعر بأنَّه يمشي معي في نفس الطريق، كان الرجل طويلًا يرتدي زيًا عسكريًا مع سلاحه ورتبته مشى أمامي كأنَّه حارس لي! تفاجأت أنْ يكون أحدٌ لديه واجبٌ عسكري في هذه الساعة! كانت خطواته معتدلة، سرتُ خلفه كأنّه والدي وأنا ابنته، هكذا ربما يقول من يراني، لم أرَ وجهه؛ فقد كان الظلام يحجب الرؤيا عني .. اطمئن قلبي وسرعان ما انقضت المسافة وعدت إلى الشارع الرئيسي الذي يؤدي الى مكان إقامتنا، لم أشح بنظري عن ذلك الرجل لماذا شرطي في هذا الوقت هنا?! وإلى أين هو ذاهبٌ?! راقبتُه حتى صار بين الناس وذهب لم يقف عند السيطرة فقد تجاوزها ولم يُلتفت إليه، كأنَّه لا يراه أحد فقط هو من يراهم وأنا أراه! تفاجأتُ بالموقف عندما زال القلق وأخذتُ أسألُ نفسي بعد عودتي، كان كلُّ شيءٍ مخيفًا حتى ظهر هذا الحارس الذي احتميت بظله وأوصلني إلى وجهتي فهذه ليست معجزات هم يشعرون بحاجتنا لهم ويرسلون من يساعدنا، فلولاهم لما استمرت حياتنا. "إنا غير مهملين لمراعاتكم" هكذا قال صاحب الأمر (عجل الله فرجه).. فإنَّهم معنا
اخرىبقلم: أريج الانتظار كان يمشي وحيدًا، والحزنُ يعتصرُ قلبَهُ، لا يشعر ببهجةٍ تُفرِحُهُ، فقدَ كلَّ طعمٍ لملذّات الدنيا، قادته قدماه بالقرب من شاطئ البحرِ ليلًا، كان كلُّ شيءٍ هادئًا هناك، لا صوتَ سوى صوتِ الموج، ونسيمُ الهواء يأتي بتردداتٍ متواليةٍ حاملًا معه نغماتِ الطيور المهاجرة.. هو محتاجٌ للحديثِ أكثر من أيِّ شيءٍ آخر، لا يستطيعُ البوحَ ولا الصبرَ على كلِّ هذا الصخب في عقله وهذه الكلمات في جوفه، فقرّر أنْ يتكلم بكلِّ ما بخاطرَه لعلّه يستريح من حملِ هذه الأحرف أو لعلّه يجدُ جوابًا مقنعًا أو حلًا لمشكلته. لم يجدْ أحدًا غير النسيم الذي يملأ صداه ما حوله، فتأمل لبرهةٍ تقلُّباتِ الأمواجِ والأضواء البعيدة على شاطئ الضفةِ الأخرى، أخذ شهيقًا فزفيرًا وقال بصوتٍ منخفض: هل تستطيع أنْ تُجيبني? لم يردْ عليه أحدٌ، كرّرَ السؤالَ بصوتٍ أعلى بقليل: هل من أحدٍ يستطيع أنْ يرد عليّ سؤالي? لا صوتَ، ولا جوابَ، وبعد لحظات ... سمعَ صوتًا: أنا أسمعُك... قال للصوت مستغربًا: من أنت? أجاب الصوت: تحدّث، أنا هنا، أستمعُ لكلِّ من يأتي للحديث. قال في نفسه: أحقًا يسمعُني النسيم! وقال للصوت: هل تفهم لغتي? أجاب: نعم. قال: قُل لي من أنت? أجاب: أنا نسيمُ البحر. قال له مندهشًا: أحقًا تسمعني?! أجاب: أسمعُك جيّدًا. قال له: هل تستطيعُ أنْ تُجيب على كلِّ من يأتي هنا، وتعطي إجاباتٍ مقنعةٍ لمن يسألك? النسيم: في بعض الأحيان أُفلِحُ في ذلك. قال له: لأجرب أنا أيضًا، لعلك تسعفني بإجاباتٍ ناجعة. النسيم: تفضلْ على الرحب. قال: قد مللتُ من كلِّ شيءٍ في هذا العالم، لا أستطيعُ أنْ أتقبله هكذا، ومن دونه الحياةُ صعبةٌ جدًا لا طعم لها. النسيم: من تقصد؟ من دون من?! قال: سيّدي، سيّدُ هذا الزمان. لم يُجِب النسيم، وبقيَ صامتًا . قال له: ألم تعرفه? النسيم: ومن لا يعرفُ سيّده وإمامه ؟! قال له: أنتَ لستَ من بني آدم، فهل رأيتَه يومًا? هل مرَّ من هنا? هل مررتَ بالقرب منه يومًا? هل لامستْ نفحاتُك طرفَ ثوبه? هل امتزجَ عطرة مع نفحاتك? أرجوك أجبني.. النسيم: في أيامٍ مضت كان لديَّ شعورُك هذا تمامًا، ولم أستطعْ صبرًا على حالي وشوقي له وللقياه والتبرك بعطره الطاهر ونسيمه المقدس الذي يحمل عبير الجنان، وتساءلتُ كثيرًا: هل ألتقي به يومًا ولو من بعيد؟! لذا قرّرت السفر لأماكنَ شتى، يكثرُ وجوده فيها، بحثتُ، وانتظرتُ، وسألت الكثير، ولم يُجِبني أحدٌ، فرجعتُ إلى هنا والحزنُ رفيقي.. حتى جاء شخصٌ يومًا على ضفافِ هذا البحر الذي أنت واقفٌ أمامه الآن... قال له: تسارعتْ دقاتُ قلبي، هل كان هو? ? أجبني. النسيم: لم أكن أعرفه، كان حزينًا، وكان وجهُه يشعُّ نورًا. جاءني هنا فجرًا وبيده كتابٌ، أخذ يقرأ كلماتٍ أو طلاسمَ أو دعاءً لم أفهمها جيدًا، وعيناه تمطران دمعًا كأنّه لؤلؤ البحر يتساقطُ على وجنتيه. خطر لي أنْ أكلّمَه فترددتُ، وبعدها قررتُ أنْ أسأل النسيم الذي كان حوله .. فقلت له بعد السلام: من أين أنتم? ومن هذا السيد؟ هل لك أنْ تُعرّفني به أجابني: أخي نحنُ غرباء هنا، هذه ليست بلادنا، نسكنُ بلادًا بعيدةً، وقد جئنا هنا للعمل، أنا تعلقت بهذا الرجل وأصبحت ألازمه أينما ذهب؛ لأنّه رجلٌ تقيٌ من علماءِ الدين. قلت له: وما هذا الذي بيده? قال: كتابٌ لتجديد العهد لسيّده. قلت له: ومن هو سيّده? قال: صاحبُ هذا الزمان، أمير الأكوان، ابن سيّد الأنام، الحجة القائم (عجل الله فرجه) عندما سمعت منه هذه الكلمات كِدتُ أنْ أضمحل مع ذرات الهواء لفرط الشوق الذي غمرني حين سمعت اسمه المقدس ... قلت له: هل سيّدك قد حظيَ بلقاء سيّده يومًا يا تُرى؟! قال: لا أدري، لكنّه يتردد على مكانٍ مشهورٍ في بلادنا باسم سيدي الحجة (عجل الله فرجه). قلت له: هل لك أنْ تدلّني عليه? قال: إنّه مسجدٌ يُسمى "جمكران" بعد ذلك نهض السيّد وودّعني النسيم وذهبا... فعزمتُ على الذهاب إلى المسجد الذي ذكره... وبعد أيامٍ وصلتُ إلى حيث يوجد "جمكران" محط شوقِ القلبِ، ومملكة أمير القلوب وسلطانها... لا أستطيعُ أنْ أصِفَ لك هيبة ذلك المكان وشموخ أركانه وجمال الأريج الذي يأتي منه ليمتزج بكلِّ النسيم الذي يطوف حوله... مكثتُ هناك أيامًا، انتظرُ حول بابه الأمامي، لعلي أحظى خلالها بلقائه، كنتُ أستمع لتراتيل القرآن الكريم ولأذكار السحر والفجر العذبة، كنتُ أرجو نظرةً واحدةً ولمرةٍ واحدةٍ فقط وكان نسيمُ الفجرِ هناك مختلفًا جدًا؛ لأنّه نسيمٌ من الجنة ... تعرّفتُ بعدها على نسيمِ المسجد العبق... ولم أفصح له عن غاية وجودي، كتمتُ هذا الأمر لحين وصولي لمبتغاي ... وذات يومٍ قد تزيّن المسجد بحلةٍ أنيقةٍ جدًا، وبأنواع الزهور ذات الألوان الزاهية، كأنّه يتجهّز لحفلٍ بهيٍ، أو للقاء أحدٍ جليل، كان الكلُّ مبتهجًا, والسرور يغلب على الجميع وقد كُتِب على أعلى الباب (ولادة الأقمار). أذكر كان شهر شعبان قد أقبل، وولادة أنوار بيت فاطم (عليها السلام) سيسطع ضياؤها للأكوان، ومضت ليالي شعبان الخمسة الأولى مكللةً بمحافلَ ملكوتيةٍ في رياض المسجد، وفي الليلة الخامسة عشرة منه كان نسيمُ المسجدِ العبقُ مشغولًا جدًا ولم أرَه منذُ أيامٍ، صادفته يدخل الباب، فتوقف حين لمحني وراح يقتربُ منّي .. وقال: هل لك أنْ تدخل معي؟ قلت له: لِمَ لا أدخل؟ هل لديك ما تفعله في الداخل؟ قال: نعم، تعالَ معي. دخلنا إلى المصلى في داخل المسجد، كان واسعًا جدًا.. قلت له: إنّي لم أرَ أكبر من هذا المسجد، فهو ذو مساحةٍ كبيرة. قال لي: لكي يصلي خلفَ الإمام (عجل الله فرجه) كلُّ أصحابه، فصُمِّم لكي يسعَ عددهم جميعًا... تجوّلنا في كلِّ أنحاءِ المسجد، وارتفعنا إلى خارجه فوق التلال التي تحيطه، حتى وصلنا إلى مكانٍ فيه صندوقٌ قديمٌ جدًا، قد مُلِئ أوراقًا، دخل إليه النسيم العبق وخرج مسرعًا.. قلت له: ما هذه الأوراق؟ أجاب: إنّ هذه رسائلُ يكتبها الزوار إلى الإمام الحجة (عجل الله فرجه) قلت له: وهل تصلُ إليه؟ أجاب: بكلِّ تأكيدٍ نعم. قلت له: ومن يُوصلها? أجاب: هذا من وظيفةِ المسؤول عنها ... وانصرفنا إلى طريق العودة، و قبل أنْ نصل وجّهتُ نظري إلى الصندوق، فلم أرَ أيّةَ ورقةٍ في داخله! حينها علِمتُ أنّها وظيفته ولم يشأ أنْ يبوح بذلك... وكان حينئذٍ قد سبقني ولم أستطع اللحاق به... فقلتُ في نفسي: هذه الليلة حتمًا سيأتي سيّدي إلى هنا، فهي ليلةُ شروق الشمس من خلف السحاب، لعلّي أراه وأطفئ نار الشوق التي تكاد أن تفنيني بدأ الحفل مبكرًا وتم إشعال الشمع في كلِّ مكانٍ، بدا المكان كأنّه سماءٌ مُلأت نجومًا تنتظرُ بدرها أنْ يطلَّ عليها مكتملًا لتقتبس من نوره الدُرّيّ... وفي لحظةٍ مرَّ نسيمٌ فاح عطره الأخّاذ في كلِّ الأرجاء، لم يمرْ عليّ في وجودي عطرٌ يُشبهه أبدًا، و نظرتُ إلى المكان القريب من المنبر وإذا بنورٍ يسطعُ اخترق المسجد نحو السماء، بدا كشمسٍ أشرقت وسط ظلام الليل الحالك وعمّت الصلوات المحمدية المكان وحجب النور الرؤية عنّي، ولم أتذكر شيئًا بعدها .. وعندما أفقتُ أدركتُ أنّه هو لا غيره، كان النسيم الذي يحملُ عطره، كان مع سيّدي الحجة (عجل الله فرجه) في المسجد عند المنبر يستقبلُ تهاني مواليه ومحبيه، ويدعو لهم ويستقبل هداياهم بقضاءِ حوائجهم.. في تلك الليلة وذلك اليوم، كانت ولادتي للحياة، لقد رأيتُ النور الذي جعلني أبصر قلت له: هنيئًا لك، ادعُ لي لأرى النور وتُبصر عيناي اللتان اجتاحهما العمى بسبب ما اقترفته من ذنوبٍ تحجب حبيبي عني وتبعدني عنه، لا تنسني عندما تذهبُ إلى هناك مرةً أخرى... وفجأةّ أحدٌ ما يكلمني: لماذا أنت هنا؟ هيّا انهض... فتحتُ عيني، وإذا أنا مُلقى على الشاطئ، والشمسُ تكادُ أنْ تُشرق، وشخصٌ ما يُكلِّمني: لقد تأخرتَ على موعدك... هيّا قُم ... نهضتُ مسرعًا ألملمُ حالي ودعكتُ عينَي لأرى بوضوحٍ فلم أرَ أحداً حولي ... فقط وجدتُ ورقةً كُتِب عليها ثلاثًا ... العجل العجل يا مولاي يا صاحب الزمان.
القصص