بقلم: مرتضى علي الحلّي لقد بيّنا في مقال سابق مفهوم ظاهرة البيوتكنولوجيا -وهي استعمال التطبيقات الرقميّة الحديثة- وآثارها الخطيرة على الفرد والمجتمع والدولة ومؤسساتها وآليّات حراكها في التوظيف الفكري والثقافي سلبًا وتطبيقًا، وهنا نضع بعض ما هو الأهم في جانب الوقاية والدفاع وتجنّب الأضرار المُحتَمَلة من ذلك. 1- العمل على تجذير الانتماء الاعتقادي ومعياريّته الربانيّة وأهميّته في وعي وتلقي شبابنا وفق وجوب الإيمان بوجود الله تبارك وتعالى وتوحيده وعبادته وطاعته في دينه الحقّ. لأنّ تجذير مفهوم الانتماء العقائدي والاجتماعي والأخلاقي والثقافي والفكري في نفوس الأفراد بصورة فعليّة هو الأساس الأقوى والآمن في حفظ النفس وعدم تأثّرها بما يستهدفها قيميّاً وثقافيّاً وعقائديّاً وسلوكيّا، وهذا عين ما أسسَ له الإسلام العزيز فكريّاً وثقافيّاً، قال الله تعالى مُفصِحًا عن هذا المفهوم: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوىٰ عَلَىٰ الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (يونس 3) (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات 13) (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ) (الروم 22). فلنلحظ وندرك أهميّة جَعلِ الله تعالى الشعور الاعتقادي بأصالة الخالق وجوداً، وضرورة الانتماء إلى الحاضنة الاجتماعيّة والأخلاقيّة السليمة سلوكاً، والقائم على أساس التقوى طريقاً وتعارفاً وأغراضا، وفق حقيقة التنوع الانساني والاجتماعي ، وأنّ لكلّ أمّةٍ قيمها وأعرافها وأصولها وإن تشاركت مع الأمم الأخرى في بعضها، ولكن يبقى من الضروري تعزيز مفهوم الانتماء فرداً وأمةً ومنهجًا وسلوكًا. هذ هي المنطلقات الواقعيّة حياتيًّا، والتي يجب أن يكون معيارها التقوى في التفاضل والتعامل المُتبادل والتواصل الثقافي المُقارن انثروبولوجيًّا وأثنولوجيّا مع غيرنا . فينبغي غرس هذا المفهوم الانتمائي التربوي القيّمي في نفوس الأفراد حتى نتمكّن من أن نبني جيلاً واعيًا وحضاريًّا ناضجًا في فكره وسلوكياته وخياراته وقادرًا على حفظ نفسه ومعتقده وثقافته وعرفه المقبول والمعقول، في قبال ما تستهدفه الإيديولوجيات المعاصرة بواسطة تقنيّة البيوتكنولوجيا وأدواتها في الغزو الثقافي وضرب المنظومات الاعتقادية والأخلاقيّة وهدمها بمعول التواصل السلبي والتلقي غير المعياري والانفعالي والارتدادي وتذويب الانتماء المستقيم تحت مظلة العولمة ومبانيها المضادة للإسلام الحكيم وقيمه القويمة. 2- اعتماد مبدأ التَنميَّة الذاتيّة للإنسان نفسًا وسلوكًا وتدبيرًا وموقفًا وارشادًا، والتركيز على إشعاره بالتقدير الشأني والتكريم الشخصي، وهذا المبدأ من أبرز ما تحددَ به منهاج القرآن الكريم في تربية الأفراد على أساس أهميّة بناء الذات الإنسانيّة وعدم توهينها اتّباعًا. وتقوية هذا الشعور النفسي عندهم بأنّ لشخصيّاتهم حقيقة وجوديّة وفكريّة وأخلاقيّة واجتماعيّة مستقلة يجب أن تُحترَم كما يجب احترام الآخرين، وبمراعاة هذا المبدأ الوقائي يمكن مواجهة ظاهرة الاختطاف الفكري والثقافي والسلوكي التي تتبناها غرف عمليات تقنيّة البيوتكنولوجيا في العصر الراهن وفي إطار الحرب الناعمة والباردة . 3- ضرورة توعية الأفراد توعيةً كيفيةً وكميَّةً، وإنَّ من جملة ما أكّدَ عليه منهاجُ القرآن الكريم هو ضرورة تعاطي الأفراد في حياتهم مع الآخرين ثقافةً وتلقيًا وتفاعلًا تعاطيًا عقلانيًّا وشرعيًّا معتدلًا والابتعاد عن السلوكيات الانفعاليّة في الأخذ والقبول أو التنميط والتأثّر. وهذا الوعي إنّما يتأتى من إشعارهم بأنّ العقلانيّة والشرعيّة والاعتدال هي السُبل الوحيدة لحل الاشكاليات أيّاً كانت، وإلى ذلك أشار القرآن الكريم في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ } (الزمر 18) ويتحقق ذلك الوعي الكيفي والكمي بتربية الأفراد على ممارسة التفكير السليم والحكيم نظريًّا وعمليًّا برصد المقدمات و النتائج والعواقب، لذا روي عن الرسول الأكرم مُحمّد (صلّى اللهُ عليه وآله وسلّم) أنّه قال: (إذا هممتَ بأمرٍ فتدبر عاقبته) (١) وعن الإمام جعفر الصادق ، عليه السلام ، أنّه قال ( تفكر ساعة خير من عبادة سنة - وقرأ بعد هذا الحديث قوله تعالى (إنما يتذكر أولوا الألباب)) (٢). وتتجلى ممارسة التفكير هذه في صورة مراجعة الفرد نفسه بشكل دائم واخضاع سلوكياته للتقييم المعياري السليم وفق قيم التقوى والفضيلة والدين الحقّ والعقل القويم . وهذه المراجعة التقييميّة والتقويميّة تتطلّب في حراكها الهادف والناجح والصالح تنظيم الوقت وتوزيعه بحسب نظام الواجبات والضروريّات والأولويّات والأهميّات وعدم هدره في الخوض الفوضوي وغير الضروري، وأيضًا في إطار ذلك ينبغي تصنيف استعمال هذه التقنيات الرقميّة الحديثة وفق ملاك الأهم عقلًا وشرعًا وحاجةً ومنهجًا. 4- هناك ما يُسمّى عقلاً بضرورة التبيّن والفحص قبل التلقي والقبول لكلّ ما يُلقى علينا من نشر أو فكر أو ثقافة أن مبادئ أو شُبهات وإشكالات -ينبغي إعمالها ثقافةً وسلوكًا في نمطيّة التعاطي مع وسائل التكنولوجيا الحديثة واخضاع كلّ وافد ثقافي أو فكري أو سلوكي لمناط الوثوق والصدق والحقانيّة والشرعيّة والأخلاقيّة- لا أن يكون المُتلقي وعاءً فارغًا تتمكن من حشوه أي وسيلة إعلاميّة معاصرة وتقوده حيث تشاء وتهدف. ____________________ ١- بحار الأنوار، المجلسي، ج71 ، ص339. ٢- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج11، ص183.
اخرىبقلم: مرتضى علي الحلي - إنَّ ظاهرة البيوتكنولوجيّا -ونعني بها استعمال التطبيقات الرقميّة الحديثة وتوظيفها في الإطار الإيديولوجي السلبي- هي الظاهرة الأقوى فتكًا وخرقاً للمنظومات الاعتقاديّة والفكريّة والثقافيّة والسلوكيّة والقيميّة والتربويّة والأخلاقيّة والأمنيّة في المُجتمع، أفرادًا وأسرًا ومجموعاتٍ ومؤسساتٍ. ومن خلالها تُدار الحرب الناعمة والكلاميّة والباردة التي تستهدف الشباب والعقول وعمليات اختطاف الوعي من المُتلقّين، وسوقهم وفق إيديولوجيا رقميّة خطيرة جدًّا تشتمل على كل ما يخالف المُرتكزات الفطرية والاجتماعية القويمة والدينيّة المستقيمة أفرادًا وجماعاتٍ. ولقد تمكّنت هذه الظاهرة الجديدة مؤخّرًا من نشر أفكارها وإعادة إنتاج المقولات القديمة في جدلها وأغراضها كمقولة الإلحاد والعلمانيّة والوجوديّة والإباحيّة والفوضى الخلاّقة ومحوريّة الإنسان في الوجود أصالةً وقبل كلّ شيء واتّخاذه منطلقاً لكلّ فكرة. والاعتقاد بأنّ الإِنسان أقدم شيء في الوجود وما قبله كان عدمًا. واعتبار أنّ الأديان والنظريات الفلسفيّة التي سادت خلال القرون الوسطى والحديثة لم تحل مُشكلة الإِنسان، ممّا يتطّلب ذلك إلغاء الدين وتهميشه في واقع الحياة. وعليه تعمل هذه المنظومة الفكريّة من خلال أدواتها البيوتكنولوجيّة على إعادة الاعتبار الكلي للإنسان ومُراعاة تفكيره الشخصي وحريته وغرائزه ومشاعره دون أي اهتمام بمعايير الدين والأخلاق والعرف المقبول. - وهي تسعى لترسيخ حرية الإِنسان المُطلقة والمُنفلتة، وأن له أن يثبت وجوده كما يشاء، وبأي وجه يريد دون أن يُقيّده شيء. - وتوجّه هذه الظاهرة المُنظّمَة الإِنسانَ بأن يطرح الماضي وينكر كلّ القيود، دينيّةً كانت أم اجتماعيّةً أم فلسفيّة أم منطقيّةً. - فلا إيمان بوجود قيم ثابتة توجه سلوك الناس وتضبطه، وإنّما كلّ إنسانٍ يفعل ما يريد - وليس لأحد أن يفرض قيماً أو أخلاقاً مُعيّنة على الآخرين. - وهنا بيت القصيد - فإذن بمَ يتقيّد الإنسان؟ - وقد رُصدت آثار هذه الظاهرة في وجهها السلبي بأرقام كبيرة ومُخيفة في واقع المجتمع العراقي من حيث انتشار تلقي مقولة الإلحاد وفق دوافع نفسيّة ارتداديّة غير صحيحة وغير مقبولة عقلًا وشرعًا. وتزايد حالات التسقيط الاعتباري والاجتماعي والمعنوي للشخصيات والجهات والأفكار والاعتقادات وجملة من القيم والاعتبارات الدينية والعرفية. وكذلك تفشي أسرار مؤسسات الدولة الأمنيّة والإداريّة والاقتصاديّة والعسكريّة وغيرها. فضلًا عن إسهامها في تغيير طبيعة الشخصيّة الفردية سلوكًا وقرارًا وأخلاقًا -ممّا أنتج تصاعداً بنسبة كبيرة جدًا في حالات الطلاق وتفكك الأسر وتشرّد الأطفال وعقوق الآباء والأمهات- وتأنّث بعض الشباب. وتضييع الاوقات وهدر الطاقات وبروز التلهي بالألعاب لحد الإدمان، بحيث انخفض مستوى نسب النجاح والتعليم في العراق وبكافة المراحل الدراسيّة، وأصبحت منظومة الأخلاق والسلوك في معرض الخطر الوشيك والتصدّع الكبير.
اخرىبقلم: مرتضى علي الحلّي تربيةُ الأُمّ الرساليّة للأولادِ تبدأ من مرحلة الحَمل والبطن والرضاعة في نظر القرآن الكريم. إذ إنّ القرآن الكريم قد عرض صورًا تربويّةً وقيميّةً واقعيّةً تحكي عن عظيم دور الأُمّ في صناعة الأولاد ذكورًا وإناثًا في ما يخصّ مرحلة التكوّن الجنيني والحَمل والوضع والرضاعة، والتي هي مراحل البناء الأولى في مختلف لُبناتها الاعتقاديّة والسلوكيّة والأسريّة والاجتماعيّة والأخلاقيّة. قال الله تبارك وتعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلىٰ وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) [لقمان 14] (إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [آل عمران 35] (وَأَوْحَيْنا إِلىٰ أُمِّ مُوسىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) [القصص 7] وللتوضيح نقول: 1/من المعلوم واقعًا وتجربةً أنّ هذه العملية التربويّة والمسؤوليّة الشرعيّة والأخلاقيّة التي تتبناها الأمُّ لها ارتباطها الوثيق بشخصيّة الأم نفسها من حيث التزامها بالعقائد الواجبة عقلاً كالإيمان بوجود الله سبحانه وطاعته وعبادته ومعرفة دينه الحقّ وامتثالها تكاليفها الواجبة شرعًا، فبقدر ما تكون عليه من صلاح وتقوى ومعرفة واستقامة في هذه الأمور الضرورية ينعكس بقدر ذلك عطاء تربيتها للأولاد 2/في هذه الآيات الشريفة دلالات قيميّة تربويّة عظيمة جدًّا تعطي للأمّ دورًا أساسيًّا في صياغة شخصيّة المولود وشاكلته إن راعت معايير التربية وطرقها بصدقٍ وإخلاص وتطبيق وتُبيّن هذه الآيات الكريمة أنّ التربية تبدأ من المعاناة الأولى لتكوّن الجنين وحمله لمدة معيّنة، تُغذيه فيه الأمّ مما تتغذّى منه مطلقًا طعامًا وشرابًا وعاطفةً وحنانًا حتى تلده وترضعه وتشبعه. 3/وهنا أيضًا في هذه الآيات ثمة إشارة إلى أنّ على الأمّ الواعية والعارفة والصالحة أن تضع لها رؤى سديدة وتصوّرات مُستقبليّة في كيفيّة تربية الأولاد تربيةً عباديّة حقّة ومُستقيمةً يقوم على أسسها بُنيان الوليد قياما صالحاً وقويما كما في قصة امرأت عمران وتحرير ما في بطنها لله تعالى خالصًا وظهور ذلك الالتفات منها في شخصيّة الصدّيقة السيّدة مريم (عليها السلام) وأمرها التربوي والرسالي معروف. 4/ الأمر المهم المُلفت للنظر في هذه الآيات الشريفة أنّ على الأمّ الاهتمام برضاعة وليدها بنفسها أوّلاً، وهذا ما يُشير إلى مدى ترسيخ الزخم الروحي والعاطفي والنفسي والفسلجي في بُنية الرضيع من أوّل رضعة يتلقاها من أمّه، لذا ورد في الأثر ضرورة الاهتمام بطهارة اللبن والمُرضعة ودينها وأخلاقها لما لذلك من أثر كبير في صياغة شخصيّة الطفل إيجابًا وسلبًا. 5/ إنّ هذه الآيات الكريمة تقدّم للمُتلقي أسسًا تربويّةً مكينةً ترتبط بالأمّ ودورها في ذلك ارتباطًا خطيرًا، ومن الجدير بمن يهتم بالأمر التربوي من أوّل الامر الاهتمام بتوعية المرأة في تمثلاتها الأسريّة والاجتماعيّة ووظائفها في كلّ تمثّل يتجلّى فيها، فالأم التي تمكنت من تربية الأنبياء والرسل والنساء الصالحات لهي أقدر على تربية الجيل المُستقيم والفاضل. 6/لقد قدّمت هذه الآيات انطباعًا عاليًا وصادقًا وموثوقًا عن قدرة الأم على تربية الأولاد ذكوراً وإناثاً وفي مختلف الأحوال والظروف ولو بالاعتماد على نفسها والصمود أمام التحديات والصعاب التي قد تواجهها من المجتمع ومن السلطة اعتقادًا وفكرًا وطريقًا. 7/إنّ تركيز القرآن الكريم على أهميّة دور الأم في تربية الأولاد لا يعفي دور الأب في الأهميّة والأثر، ولكنه يُريد أن يُعزّز الثقةَ والإيمان بهذا الدور المهم الذي أنُيط بالأم من أوّل الأمر حملاً وبطنًا ورضاعةً. فالأم ليست وعاءً جسمانيًّا يحملُ ما فيه لمدّة ما وحسب، لا، بل هو وعاء رحمة وعطف وحنان وشفقة ينتهل منه وليدها ويشبّ عليه ويبقى لذلك أثره فيه أكثر من غيره.
اخرىبقلم: مرتضى علي الحلّي - إنَّ مقتضيات حياتنا المُعاصرة ومُشكلاتها عامةً تتطلّب منّا -في أسلوب التعاطي مع واقعة الطّف الخالدة ومشروعها الإحيائي المَكين الرائد والقائد- تقديم فَهمٍ أصيل ومنهج قويم يرفدُ حياتنا تقويمًا وإصلاحًا، حاضرًا ومُستقبلًا. - وما مِن شكّ في أنَّ الإمام الحُسَين (عليه السلام) هو أكبر وأعمق -مَفهومًا وقيمةً ودلالةً وهدفًا- من الشعائر الجزئيّة، والتي تُمثِّل في تطبيقها تعبيرًا مشروعًا عن سِمة الولاءِ الصادق والاعتقاد الحقّ في أيامٍ معدودات، ينفكُّ عنها مَن يُمارسها تطبيقًا بمجرد انتهاء أمدها الوقتي. - ولكن مَن يدرك تلك المفاهيم والقيم والدلالات والأهداف -التي كان الإمام الحُسَين (عليه السلام) يسعى من أجل تحقيقها اعتقادًا ومنهجًا وسلوكًا، وآمنَ بها- لا ينبغي به أن ينفكَّ عنها أخذًا في حَرَاكه الحياتي فردًا ومُجتمعًا. - وذلك باعتبار أنَّ الإمام الحُسَين (عليه السلام) قد أضاف إلى الحياة عامةً إضافاتٍ معنويّةً وقيميَّةً وأخلاقيّةً وحتى سياسية، يمكن لكلّ مَن يقبلها طوعاً أن يتفاعل معها في مُجمل مناحي الحياة المُعاصرة. - وهذا الإمكان إنّما يتأتى من الاستجابة الإرادية الواعية لكلّ ما نبّه عليه في وقائع نهضته الشريفة. - وينبغي أن تكون الاستجابة الإرادية هذه بعد انتهاء ممارسة الشعائر تُمثِّل انطلاقة إلى الحياة إصلاحًا وتغييرا، وهي تلبيّة إيمانية يجب أن تأخذ طريقا سَلكًا إلى آخر الصراط. - والقرآن الكريم قد ندبنا -إرشاداً منه إلى قيمة وأثر الاستجابة الطوعيّة في الواقع- لدعوة الله تعالى ولدعوة المعصوم نبيًّا كان أو إمامًا. قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا استَجِيبُوا لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)) (الأنفال: 24). والحياة هنا أعم من كل ما نحسّه ونعيشه عياناً وذهناً، إذ إنّها تتجلى عند المعصوم بصورة قد لا تشبه في ملامحها ما ندركه نحن خاصة. لذا قال الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) قولته الشهيرة: (الموتُ في حياتكم مقهورين والحياةُ في موتكم قاهرين) [نهج البلاغة، ت، د، صبحي الصالح: خطبة51] - إنّ الحياة الحقيقيّة التي أرادها اللهُ تعالى لنا والمعصوم من بعده هي حياة تقوم على أساس العزّة والتكريم وجهاد النفس الأكبر، جهاد النفس الأمّارة بالسوء إلى مواجهة العدو، والذي قد يتمثّل اليوم بسلوك أو فكر أو ثقافة أو طاغوت وفاسد منحرف.
اخرىبقلم: مرتضى علي الحلّي - غيّر ما بنفسِكَ وأصلحها يتغيّر كلّ شيءٍ حولكْ وفق سُنّةِ الله سبحانه. قال اللهُ تبارك وتعالى: (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ) [سورة الرعد 11] (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [سورة الأنفال 53] - إنّ المَسيرَ المُقدّس في زيارة الأربعين الشريفة يُمثّلُ مرتبةً من مراتب التغيير والإعداد الصالح للفرد والمجتمع معًا، المنظور عقائديًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا وسلوكيًّا وأخلاقيًّا بنحو الحراك العام التلقائي والفطري والمُنظّم. - فينبغي اغتنام هذه الأيّام المُباركة والتي هي مَحال نظر الله تبارك وتعالى ومَظان نزول رحمته وهدايته وتسديده وحفظه ونصره وعنايته - اغتنامها في تزكية النفس وتهذيب السلوك وترك مَذام الصفات والأفعال القبيحة عقلاً وعقلاءً والمُحرّمة شرعاً ، وذلك أصلح لنا ولمجتمعنا. - فالإصلاح المنشود في كافة المجالات لن يتحقّق ما لم نتغيّر ونُغيِّر في أنفسنا خاصةً، لأنّ محتوى الإنسان ومضمونة هو المنطلق الأوّل الأكثر تأثيرًا في صناعة الحياة وتوجيهها سلبًا او إيجابًا. - ولنقدّم أنفسنا أشخاصًا فاضلين صادقين في حراكنا الفردي والاجتماعي… في نوايانا وخياراتنا ومواقفنا… في أعمالنا ووظائفنا وتكاليفنا. - هذه هي الحقيقة الواقعيّة والتي ينتظرها كلّ أصحاب الدعوات الإصلاحية الإلهيّة منها والوضعيّة في تحقيق الإصلاح العقائدي والفكري والسياسي والتربوي والسلوكي والاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي وغير ذلك. - المشكلة الجذريّة تكمن في شخص الإنسان نفسه، فما لم يُصلح حاله فلن يصلح شيئاً، ومن عجز عن إصلاح نفسه فهو عن غيرها أعجز -الميدان الأول والأكبر هو النفس وجهادها بالعفة والورع والتقوى والعمل الصالح.
اخرىبقلم: مرتضى علي الحلي ١- إنّ المتتبّع لسيرة الإمام العسكري دراسةً وبحثا يجده قد اعتمد في منهجيّته الخاصة آنذاك على تأصيل نظرية بناء القادة الفاضلين في مختلف مجالات الحياة الاجتماعيّة والإدارية والفقهية والسياسيّة والرساليّة كتأمين ذاتي وغيري لحفظ مستقبل الإنسان نفسه او ما يعنيه بصورة عامةٍ. وحاول (عليه السلام) ترسيخ هذه النظرية في أذهان أتباعه المُخلصين وفي نفوس الناس عامة. وفي الروايات الواردة عنه ما يثبت ذلك، كما في قوله لبعض بني أسباط (الناس طبقات والمُستبصر على سبيل نجاة ومتمسّك بالحقّ متعلّق بفرع أصيل ، غير شاك ولا مرتاب لا يجد عنه ملجأ… وكذلك في قوله أيضًا: أحسن رعايةَ مَن استرعيتَ وإيّاك والإذاعة وطلب الرئاسة فإنّهما يدعوان إلى الهلكة) (١) ٢- كان (عليه السلام) يركّز على ضرورة تحقيق البعد الروحي والعبودي المخلص في شخصيّة الإنسان المؤمن القائد الفاضل واستشعار رقابة الله تبارك وتعالى في حراكه الشخصي والأسري والاجتماعي والتدبيري علانيةً وسرّا - وفي رواية مشهورة عن أحد أصحابه، وهو أبو هاشم أنّ بعض مواليه يسأله أن يعلّمه دعاءً، فكتب (عليه السلام) إليه هذا الدعاء، والذي يركز على بعد استشعار رقابة الله سبحانه لعباده ومحاسبته بدقة (يا أسمع السامعين، ويا أبصر المبصرين، ويا أعزّ الناظرين، ويا أسرع المحاسبين، يا أرحم الراحمين، (صلّ على محمّدٍ وآلِ محمّدٍ) وأوسع لي في رزقي ومدّ لي في عمري، وأمنن علي برحمتك واجعلني ممن تنتصر به لدينك ولا تستبدل بي غيري) - ثم قال أبو هاشم: فقلتُ في نفسي اللّهمّ اجعلني في حزبك وفي زمرتك - فأقبل عليّ أبو محمد الإمام العسكري (عليه السلام) فقال: (أنتَ في حزبه وفي زمرته إذا كنتَ بالله مؤمنًا ولرسوله مصدّقا ولأوليائه عارفا ولهم تابعا فأبشر ثُمّ أبشر) (٢) وهذه المقاطع الروائيّة القيّمة تقدّم لنا معالمَ بناء الإنسان الرسالي الفاضل بناءً عقائديّاً مكيناً يبتني على سلامة المعرفة الدّينية الصحيحة بأصول الدّين الحقّة ، والتي تتطلّب معرفة المعصومين (عليهم السلام) واتّباعهم صدقاً وطريقًا. ٣- أهمّية الوثوق اليقيني بمعرفة الأئمة الأطهار والأخذ منهم منهجاً وسلوكا هادياً ومُنجيا -ثمة رؤى قويمة يُقدّمها (عليه السلام) لاتباعه المخلصين العاملين الفاعلين في حراكهم الرسالي والإصلاحي - تظهر في كلمات قصيرة عميقة المضمون ودقيقة المعنى، حيث قال: (ونحن كهفُ من التجأ إلينا، ونورٌ لمن استبصر بنا وعصمةٌ لمن اعتصم بنا، مَن أحبّنا كان معنا في السنام الأعلى ومن انحرف عنّا فإلى النار )(٣) وهذه الرؤى السديدة تُمثّل مدى اهتمام الإمام العسكري (عليه السلام) ببلورة نظرية بناء الإنسان الفاضل القائد في شتّى حراكه وخصوصاً ثقافته ووعيه وسلوكه . ٤- تأمين سلامة الفكر والثقافة في الانتماء والمواجهة - ففي وقته (عليه السلام) انفتحت جبهات فكرية وجدليّة استهدفت منظومة الدين الإسلامي عقيدةً وشريعةً وتنظيرا، فعمل الإمام العسكري (عليه السلام) جاهداً لتقوية وصمود أتباعه في خندق الفكر والحوار والدفاع حفاظاً على رسالة الله تعالى في كتابه القرآن الكريم والذي كان المُستهدف الأوّل في هذه الجبهة كما في ما أثاره الفيلسوف الشهير المعروف بالكندي في عصره في كتابه متناقضات القرآن - حيث تمكّن الإمام العسكري من تفنيد مزاعم الكندي (٤). ٥- التمهيد لغيبة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) والذي كان حراك بناء الإنسان القائد الفاضل يصبّ فيه فكراً وتطبيقا سواءٌ على مستوى إيجاد العلماء الفقهاء الثقات القادرين على تحمل المسؤوليّات الاعتقادية والفقهية والاجتماعية والفكرية والثقافية أو على مستوى غيرهم من عامة المؤمنين الرساليين العاملين. وقد وجّه (عليه السلام) فعلاً أنظار أتباعه إلى الاعتماد على الثقات من الفقهاء في وقته والأخذ منهم وعيّنهم اسماً ووصفًا، كما في قوله: (عليه السلام) (العَمْريّ وابنه ثقتان، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان) (٥). والروايات في هذا المجال كثيرة أعرضنا عن ذكرها اختصارًا. وهذا التمهيد الجزئي للغيبة جاء بهدف تقبّل الغيبة الكبرى بعد ولادة الإمام المهدي (عليه السلام) وحجبه تمامًا عن الانظار حفاظًا على شخصه من القتل، وقد أظهره (عليه السلام) لخلّص خواصه تعزيزًا ليقينيّة ولادته المباركة وإفهاماً لأتباعه بضرورة وعي خطورة المرحلة والمشروع وتحفيزًا لهم بالإيمان بالغيبة والتي هي خيار إلهي وحكمة ربّانية يجب التسليم بها - من أجل إدامة الدين وشريعته بوجود إمام معصوم حيّ باقٍ إلى آخر الزمان وحتى الظهور والقيام بالحق لبسط العدل والقضاء على الظلم والفساد. ___________________ ١- بحار الأنوار ،المجلسي ، ج٥٠ ، ص ٢٩٦- ٢٩٧. ٢- بحار الأنوار ، المجلسي ،ج٥٠ ، ص ٢٩٨. ٣- المناقب ، ابن شهر آشوب ، ج٤ ، ص ٤٣٥. ٤- انظر - الاحتجاج ، الطبرسي ، ج٢ ، ص ٥٠. ٥- الكافي، الكليني ،ج١، ص ٧٧.
اخرىبقلم: مرتضى علي الحلّي قال اللهُ تبارك وتعالى: (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ ) [سورة التحريم 12] - تُقدّمُ هذه الآيةُ الشريفةُ معاييرَ قيَميّةً مَكينةً لها دورها الكبير في تربية البنت تربيةً حسنةً منذ الصغر، ومنها: 1- ضرورة اعتماد الأساس الأخلاقيّ والّذي يكفلُ بناءَ شخصيّةِ الأُنثى بناءً قويماً يقوم على مبدأ العِفة وحفظ النفس من الفواحش والرذائل ، والذي عبّرت عنه هذه الآية المُباركة ب (أحصنت فرجها) وهو تعبير كنائي عن ضرورة حَرَاك الأُنثى فِعلاً في حفظ نفسها وسمعتها عن مُقاربة ما ينافي العفة والطهارة الشخصيّة. ويقينًا أنّ للعفة أثرها الفردي والاجتماعي والمصيري قيميّاً في شأن الأنثى نفسها وما يعنيها من العلاقة مع أسرتها والمُجتمع وربّها سبحانه وتعالى ونظره إليها ومُباركته إيّاها باللطف والتكفّل والرزق والإحسان. 2- التركيز على الجانب العقائدي وذلك بتعليم الأنثى أصول الاعتقاد الحقّ من وجوب الإيمان بوجود الله سبحانه وأنبيائه وكتبه وأوصيائه والمعاد ولزوم التصديق بذلك كلّه (وصدّقَت بكلماتِ ربّها) من رسالات الله تعالى للإنسان منهجاً وطريقاً وعملا. 3- ضرورة التزام الأنثى بالعبادة والخضوع لأوامر الله سبحانه وتعاليمه الشرعيّة الخاصّة بها تكليفاً وارشاداً وتسليما (وكانت من القانتين) بطاعة تكليفها الدّيني والأخلاقي والأسري والاجتماعي والوظيفي. 4- من المعلوم أنّ هذه الآيةَ الشريفة جاءت وفق المنظور المَثَلي في الآية التي سبقتها (وضربَ اللهُ مَثَلا) لا المنظور الشخصي الذي تمثّل بالسيّدة الصدّيقة المعصومة مريم (عليها السلام) اسمًا ووصفًا وشهادةً حتى يقول القائل هذا مورد خاص لا يمكن تعميمه أو الاستفادة منه في مجال تربية الأنثى نفسيّاً وسلوكيّا واعتقاديّاً وعباديّا، فالآية هذه هي وجهة مأمونة وقيّمة تصلح تماماً لاعتمادها في بناء شخصيّة البنت طفلةً وصبيّةً وبلوغًا. 5- في هذه الآية الشريفة إشارات واضحة إلى ضرورة ترسيخ التربية الإقناعيّة والاختياريّة للبنت وفق إرادتها وامتثالها بنفسها لحفظ عفتها إحصاناً والإذعان بدينها تصديقاً وإطاعة تكاليفها تعبّداً وإقرارا.
اخرىبقلم: مرتضى علي الحلّي أهم مبادئ إدارة الوقت وتفريغ الطاقة في نظر الإمام علي عليه السلام والمُعطيات من المعلوم أنّ الإنسان محكوم بقوانين وجودية لها آثارها الإيجابيّة والسلبيّة عليه ، وينبغي به الالتفات إليها في حياته وتنظيم شؤونه وفقها بحسب القدرة الشخصيّة والشرعيّة والعقليّة، ومن هذه القوانين الحسّاسة هو: قانون الوقت وقانون النيّة وقانون معرفة الغاية تصورًا وتحقيقًا وقانون التدّين الفطري والامتثال الواجب والخالص. ووفق حقيقة هذه القوانين الحاكمة على الإنسان في مساراتها، فلقد قدّم أمير المؤمنين علي (عليه السلام) مجموعة مبادئ تصوريّة وتصديقيّة تدخل في صميم إدارة الإنسان لنفسه في وقته المُتاح إلهيًّا في محطّة الحياة الدنيا ، وذلك من أجل اغتنام الكم الأكبر الموفور من الوقت قبل فواته وتصرّمه تدريجيًّا بحيث يجد الإنسان حاله وقد مضى عليه عامل الوقت من غير رجعة ونفد خزينه من القدرة والجهد والطاقة والقوّة ممّا يعرّضه للخسران والحساب والندامة. ويمكن تصوير فن وثقافة إدارة الوقت والطاقة بحسب ما ورد عن الإمام علي (عليه السلام) في عهده لمالك الأشتر حينما ولّاه مصرًا بما يلي. ١- (وامضِ لكلّ يومٍ عمله، فإنّ لكلّ يومٍ ما فيه ): يضع الإمام علي (عليه السلام) منتظماً ذكيًا ورياضيًا لصرف القدرة في الوقت المتاح تكوينًا وقضاءً وقدرًا، فعلى الإنسان أن ينجز مهامه وأعماله بمناطات الأهمّ والمهمّ والضروري وتقديمها على غيرها، ويلتزم بتكاليفه في يومه دون تأخير أو تأجيل غير مضمونين بقاءً، ولعلّه يموت من غده فيفوته ما أخرّه وأجله. ولذا علّل (عليه السلام) بأنّ لكلّ يوم ما فيه، إشارةً إلى واقعيّة الوقت وأهمّيته ومسؤوليّة الإنسان عنه عقلًا وشرعًا. ٢- (واجعل لنفسكَ فيما بينك وبين الله تعالى أفضل تلك المواقيت وأجزَلَ تلك الأقسام): وفي هذا المبدأ التدبيري الثاني في فن إدارة الوقت والطاقة يضع الإمام معياراً توازنيًّا في صرف الوقت والقدرة فيه وذلك بضرورة التوجه لله تعالى وامتثال تكاليفه وإطاعته في أفضل أوقات اليوم التي أشار إليها القرآن الكريم من الليل والفجر والغروب وغيرها من المخصوصات ، تجنّباً لهدر الوقت في أمورٍ أخرى على حساب ما هو أهمّ منها عقلًا وشرعًا. - فترويح النفس باستحضار وجود الله سبحانه في مساحة وجودها أمرٌ لازم وضروري ، لا أن يكون الوقت كلّه والطاقة جلّها للجسم وحاجاته وإن كانت ضروريّة… فالتوازن مطلوب ومرغوب يقينًا. ٣- (وإن كانت كلّها لله إذا صَلحَت فيها النيّةُ وسلمت منها الرعيّةُ): إنّ هذه المقولة القيّمة توفرّ للإنسان الواعي في يومه كمًّا كبيرًا من القبول والرضا الإلهي بخلوص النيّة لله تعالى في كلّ شيء نحياه ونعيشه ، إذ إنّ النيّة الخالصة والسليمة صمام أمانٍ للإنسان نفسه وينتفع بها يوم الجزاء والمصير، فضلًا عن انتفاع العباد منه بصلوحها قصدًا وتوجهًا. فخيريّة الإنسان في نفسه ومأموليّتها لغيره هي بحدّ ذاتها تمنح الأمان منه للآخرين وتمنعهم من شرّه. ٤- (وليكن في خاصةِ ما تخلصُ لله به دينَكَ :إقامة فرائضه التي هي له خاصة): من أهمّ ما يجب أن يلتفتَ إليه الإنسان في إدارة وقته وجهده وطاقته هو امتثال ما وجب عليه في دينه الحقّ من تكاليف عقلية وشرعيّة وأخلاقيّة، فرديّةً واجتماعيّةً . ولله سبحانه علينا حقوق ملزمة وواجبات خاصة يجب الإتيان بها على أتمّ وأكمل وجه ، وهنا يتراءى أنّ للدّين وتعاليمه الأولويّةَ النافذة من غيره من متعلقات الدنيا وشؤونها غير الضرورية . ٥-( فأعطِ اللهَ من بدنكَ في ليلك ونهارك ، ووفِّ ما تقرّبتَ به إلى الله من ذلك غير مثلوم ولا منقوص، بالغاً من بدنك ما بلغَ): إنِّ يوم الإنسان مقسوم ما بين ليل ونهار، ولكلّ قسم شؤونه ومتطلباته، وقد يطغى إشباع ذلك على حساب حقوق الله تعالى في عبادته وطاعته ومراعاة واجباته. فالمطلوب توظيف شطر من الليل والنهار لله سبحانه في تحقيق ذلك، وبصورة تامة وخالصة من الرياء والنقصان والغفلة والنسيان مهما كان الحال، لطالما القدرة عند الإنسان موفورة والوقت متاح والطاقة موجودة. ______________________ ينظر - بخصوص المقاطع أعلاه عهد أمير المؤمنين لمالك الأشتر في نهج البلاغة، ت، د، صبحي الصالح، ص ٤٢٧:
اخرى