بقلم: نقاء كُنا صغارًا نتتبعُ خطواتِ والدينا، فتحلّ علينا أيامًا نرى حالهم يتغير، نظام حياتهم وروتينهم اليومي يختلفُ عن غيره في باقي أيام السنة! تبدأُ هذه الأيام بمراقبةِ رؤية الهلال باهتمامٍ بالغٍ، لا نرى لهُ مثيلًا في سائر الشهور! وانتظارِ خبرٍ من مرجعهم يُبشرهم بحلولِ هذهِ الأيامِ. حالما يأتيهم الخبر نراهم يحمدونَ الله تعالى على نعمةِ إدراكِ هذه الأيامِ المباركة، ويسألونهُ أنْ يوفقهم لإيفاءِ حقِّها والفوز ببركتها. هذه المشاهد زرعت في عقولنا الصغيرة تساؤلاتٍ عن سرِّ هذه الأيام! كبرنا ومرّت علينا العديد من الإجابات، منها ما روي عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله) أنَّه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله يَقُولُ: "إِنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ تُفَتَّحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ، وَتُغَلَّقُ فِيهِ أَبْوَابُ النَّارِ السَّبْعَةُ، وَيُصَفَّدُ فِيهِ كُلُّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ، وَيُنَادِي مُنَادٍ كُلَّ لَيْلَةٍ: يَا طَالِبَ الْخَيْرِ، هَلُمَّ؛ وَيَا طَالِبَ الشَّرِّ، أَمْسِكْ" فهِمنا منها أنَّ غايةَ هذهِ الأيام هي التهذيب، وكأنَّ الله تعالى يصفِّدُ الشياطين في هذا الشهر ليُريَنا أنَّ الخلل والسوء هو من أنفسنا، وأننا إذا روضناها فإنه يمكننا أن نتغلب على الشيطان في سائرِ أيام حياتنا. كذلكَ لِيُريَنا أنَّ فِطرةَ الإنسانِ نقيةٌ صافيةٌ؛ لأننا نرى كيفَ أنَّ الجميع يتسابقونَ إلى أنواعِ الخيرات، من تضامنٍ اجتماعي مع الفقراء، وتراحمٍ وتسامحٍ فيما بينهم، والالتزام ببرامج عبادية جماعية، حيث تزهو المساجد بالمصلين، وتتزاحمُ دعواتٌ خرجت من قلوبٍ مؤمنة فترتفعَ مع نسماتِ هذه الليالي المباركة، لِتصلَ إلى السماء، ليس بينها وبين الله تعالى حجاب.. فهم في ضيافتهِ، وما أدراكَ ما ضيافةُ الله تعالى! كنا نستشعر تميُّزَ هذهِ الأيام، حيث الطاقة الروحية في أعلى مستوياتها، وكأنَ بلادَ المسلمين تصبحُ بيتًا واحدًا يجمعهم؛ لشدة تماسكهم وتكاتفهم. كما كُنا نستنكر كيف أنَّ البعضَ يطاوعهُ لسانه أنْ يصفَ هكذا حالة من حالات الرُقي في المشاعر البشرية بـ(الرياء أو النفاق)! لكنهم يجهلون أثرها المترتب على روح الشخص طيلةَ أيامِ السنة، يجهلونَ أنَّ لله تعالى محطاتِ تَوقُفٍ، غايته منها أنْ يقفَ الشخص ويستكشف هذه الروح البشرية، التي هي أعظمُ خلقٍ لله تعالى، ويعلِّمه أنْ يبذلَ جهدًا ليؤدي حقَّ هذا الخلقِ العظيم من تأديبٍ وترويض؛ لكي ترتقي وتتكامل تدريجيًا. ومن حكمتهِ أَنْ جَعلَ محطاتِ التوقف هذهِ متكررة سنويًا وموزعةً طيلة أيام السنة،؛ لأنه (سبحانه) أعلم بعباده، وضعفهم أمام صعوبات الدنيا. فكانت هذه المحطات بمثابةِ التزود بالطاقةِ لأرواحهم؛ لينطلقوا بعدها إلى معتركِ الحياة بأنفسهم المرتوية بنفحاتِ الرحمة والحب الإلهي. أما الجزاء الأُخروي، فقد رويَ حديثٌ قُدسي عن رسول الله (صلّى اللهُ عليهِ وآلِه): "قالَ اللهُ (تباركَ وَتعالى): كُلُّ عَمَلِ ابنِ آدم هوَ لهُ غيرَ الصيامِ، هوَ لي وأنا أجزي بهِ" ومنهُ علِمنا أَنَّ عقولَنا القاصِرة لا تدركُ عظمته، لكنّا عرفناهُ في كلماتٍ تنطقُ عنه، كلمات أهلِ البيت (عليهم السلام)، كما روي عَنْ رَّسول الله (صلى اللّه عليه وآله): "مَن مَنَعَهُ الصِّيامُ مِن طَعامٍ يَشتَهيهِ كانَ حَقًّا عَلَى اللّه أن يُطعِمَهُ مِن طَعامِ الجَنَّةِ، ويَسقِيَهُ مِن شَرابها" كما روي عن أَبِي عَبْدِ الله (عليه السَّلام): "مَنْ صَامَ لله (عَزَّ وَ جَلَّ) يَوْمًا فِي شِدَّةِ الْحَرِّ فَأَصَابَهُ ظَمَأٌ، وَكَّلَ الله بِهِ أَلْفَ مَلَكٍ يَمْسَحُونَ وَجْهَهُ وَ يُبَشِّرُونَهُ، حَتَّى إِذَا أَفْطَرَ قَالَ اللهُ (عَزَّ وَجَلَّ) لَهُ: مَا أَطْيَبَ رِيحَكَ وَرَوْحَكَ، مَلَائِكَتِي اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُ" كلماتٌ من بحرِ علمِ أهلِ البيت (عليهم الصلاة والسلام) وأحاديثِهم عن عِظمِ جزاء الصائم المخلص، ترسمُ لنا تصورًا بسيطًا عن رحمة الله تعالى بنا في هذا الشهر؛ لتكونَ لنا دافِعًا لاستثمار نفحاتِ الحب والكرم الإلهي المتدفق فنسقي منهُ أرواحنا التي جفَّت من بُعدِها عن منبعِ الرحمة، وقسَت من انقيادِها لوساوس شيطانٍ ضعيفٍ يُقوّيهِ هوى النفس. والكلامُ كثيرٌ لا تسعُه حروفٌ، ولا مقالاتٌ طويلة! ولعلَّ من يُطالع خطبة النبي (صلى الله عليه وآله) في استقبال شهر رمضان يدركُ من فضائلِ هذا الشهر ما أنارنا بهِ رسول الله (صلى الله عليه وآله).. ختاماً أقول ما قاله صادق الآل (عليه السلام) في دعائه: "اللهم ارزقنا صيامَهُ، وأَعِنَّا على قيامِهِ".
اخرى