بقلم: أم باقر الربيعي قال (تعالى):"وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ"(1). الإنسانُ في هذه الحياة الدنيا لا يعيشُ الدعة والرفاهية والراحة دائمًا، بل هو معرّضٌ للابتلاءات والاختبارات والمُنغِصات التي تُكدِّر صفو الحياة وتسلب راحة البال، كفقد الأحبة والأعزة بالحروب أو الوباء أو غير ذلك، أو فقد المال، والجاه، أو فقد الصحة والعافية؛ فدوامُ الحال من المُحال. وفي كلِّ ابتلاءٍ واختبارٍ يمرُّ على الإنسان يحتاجُ معه إلى الصبر من كلِّ جوانبه؛ حتى يتخطّاه وهو مأجورٌ مُثابٌ على صبره بلا جَزع يحبط أجره. وبين دفتي القرآن الكريم الكثير من العبر التي هي مدعاة للاعتبار؛ حيث يذكر فيه الباري (جلّ وعلا) قصةَ نبيٍ من الأنبياء وهو أيوب (عليه السلام) الذي أنعم عليه بخيرٍ كثيرٍ، أولاد، وأموال، وزروع وأغنام كثيرة وصحة في الجسم، لكن شاء الله (تعالى) أنْ يُبتليه بفقدها جميعًا؛ لحكمةٍ. فبات لا يملك شيئًا، سقيمَ البدن لفترةٍ طويلة، تذكر بعض الروايات أنّها بلغت سبع سنين، وفي بعضها الآخر ثمانِ عشرة سنة، ورغم كلِّ هذه الابتلاءات العظيمة كان حامدًا شاكرًا لله (تعالى)، لمْ يجزعْ ولو للحظةٍ واحدة، حتى مدحه (سبحانه وتعالى) قائلًا: "إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ"(2). تخلّى عنه كلُّ قريبٍ، ما خلا زوجته التي كانت وفيّةً له، صابرةً معه، محتسبةً ذلك عند الله (تبارك وتعالى)، وشمتَ به الأعداء؛ لاعتقادهم أنّ الله (جلّ وعلا) ابتلاه لذنبٍ من الذنوب، وعندما تعافى سألوه: يا نبي الله، أيّ الابتلاءات كانت أشد عليك؟ فقال(عليه السلام): "شماتة الأعداء"(3). وبالعودة إلى الآية المباركة، فإنَّ الابتلاءات التي تُبتلى بها الأمم أنواعٌ، هي: أولًا: الخوف: وخيرُ شاهدٍ على ذلك واقعُ حالنا اليوم؛ حيثُ يعيشُ العالم حالةَ الخوف والذعر من هذا الوباء الفتاك (كوفيد 19)، فيروس صغير لا يُرى بالعين المجردة، أصاب المختصين بالعجز وشلّ حركة الحياة الطبيعية، فانقطعت الأسباب من الأرض وتعلقت بالسماء، ففروا إلى الله (جلّ وعلا) ساجدين باكين متوسلين برفع هذا الوباء وإيجاد العلاج المناسب له. ثانيًا: الجوع : أغلبُ فقراء العالم يُعانون من قِلّةِ الزاد وما يسدُّ جوعهم وخصوصًا في الأزمةِ الحالية (جائحة كورونا)؛ حيثُ توقّفت الكثير من الأعمال بسبب الحظر، الذي عاد بنتائجَ سلبيةٍ على ذوي الدخل اليومي بالذات، حتى أنَّه في بعض العوائل صار الأبوان يؤثران أولادهما بما لديهما من طعام ، فيما قد يبيت البعض الآخر جائعين لا يملكون قوت يومهم. ثالثًا: النقص في الأموال: فبسبب الأزمات الاقتصادية التي تمرُّ بها البلدان بين الحين والآخر وخصوصًا في ظرفنا الحالي؛ حيثُ التراجع الاقتصادي في الصادرات شكَّل أزمةَ نقصٍ ماليةٍ أثرت على كلِّ الفئات الاجتماعية. رابعًا: النقص في الأنفس: فكثرةُ الحروب والنكبات والأوبئة تُزهِق أرواح الكثير، وهذا يؤدي إلى نقصٍ ملحوظ في الوجود الإنساني. خامسًا: النقص في الثمرات: إنّ كثرة الذنوب من الظلم والجور والعدوان تجعل الأرض تُنقِصُ من خيراتها، فلا تُعطي نتاجها السابق بل يُصاب بالقلة، وهذا ما نلاحظه في بلادنا؛ حيث تلاشت البساتين وأشجار النخيل وغيرها. وفي ذيلِ الآية المباركة بشارةٌ للصابرين الذين تسلّحوا بالصبر، فثبتوا وصمدوا ولم يجزعوا، رغم توالي الابتلاءات عليهم الواحد تلو الآخر. يقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام): "إنْ صبرتَ جرى عليكَ القدر وأنتَ مأجور، وإنْ جزعتَ جرى عليك القدر وأنت مأزور"(4). وفي كلِّ المحن والشدائد يكون آخر المطاف، الرجوع إلى الله (تعالى) واللجوء إليه، فهو مُسبِبُ الأسبابِ ودافعُ البلاء والوباء، لكن يحتاج إلى توجهٍ وإخلاصٍ بالدعاء. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- سورة البقرة: آية 155، الصفحة 24. 2- سورة ص: آية 44، الصفحة 456. 3- الامثل في تفسير كتاب الله المنزل - الشيخ ناصر مكارم الشيرازي - ج 14 - الصفحة 252. 4- نهج البلاغة.
اخرىبقلم: أم باقر الربيعي تزاحمتِ الابتلاءات عليّ؛ حتى لم أكدْ أنفكُّ من بلاءٍ حتى أُمتَحَن بآخر، وفي كُلِّ بلاءٍ يمرُّ عليّ أحمدُ اللهَ (تعالى) على حسن بلائه وصنيعه فيّ؛ فالابتلاءاتُ أيضًا نعمةٌ من الله (تعالى)، فهي إما تخفيفٌ للذنوب أو غربلةٌ وتمحيصٌ لأستحقَّ أن أكونَ في قِرى الله تعالى وتحتَ عينيه، أناجيه وأدعوه بمن خلقَ الأفلاكَ لأجلهم، فربي لا يُكلِّفُني بأكثر من وسعي وطاقتي حاشاه تعالى وهو القائل: "لَا يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا"(1). وفي إحدى الشدائد؛ التي مرّتْ عليّ وقد ضاقتْ عليّ الأرضُ برحبِها، أعددتُ زادَ سفري، ولملمتُ أطرافَ ثوبي، وتوجّهتُ إلى كربلاء، حيثُ محطة العشاق وإجابة الدعوات وقضاء الحاجات تحتَ قباب النور، وأنا مُعتقدةٌ أنّ اللهَ (تعالى) لا يردّني خاليةَ الوفاض، فقلبي مُطمئنٌ وكأنّ ماءً زلالًا نزلَ عليه، وقد سمعتُ من جدّتي أنّ أبا الفضل العباس (عليه السلام) هو بابُ الحسين (عليه السلام)، فمن أرادَ قضاءَ حوائجه وإجابةَ دعواتِه فليلج من بابِ الحسين (عليه السلام) الذي تميّزَ بأنّه بابٌ للحوائج... وصلتُ كربلاءَ، وشممْتُ عطر أريجها الفوّاح الذي يشرحُ النفوس ويُزيل تعبها، ترقرقتْ دمعةٌ في عيني، هي دمعةُ الاشتياقِ لمن تهفو لهم الأرواحُ قبلَ القلوب، وهاتيك الدمعة نفسها دمعةُ التوسل والإلحاح وإجابةِ الدعاء ببابِ الحسين (عليه السلام)، قصدتُ القبرَ الشريفَ ولم أنفضْ ترابَ السفرِ بعد، مُتوجهةً له وألتمسُ منه القبول في حضرته، قبّلتُ أعتابَ بابِه، تذكرتُ كربلاء وما جرى فيها من لوعةِ النساءِ وبكاء الأطفال، وحرق الخيام وفرارهم من خيمةٍ لخيمةٍ بعد مصارع الأبطال، انهمرتِ الدموعُ من عينيّ وأجهشت بالبكاء.. سيّدي يامن تكفّلتَ بزينب الحوراء والعيال والأطفال تكفّل بقضاء حاجتي، يا من كشفتَ الكربَ عن وجهِ أخيك الحسين اكشف عني الكربَ بحقِّ أخيك الحسين، طفتُ حولَ قبرهِ وكأنّي أطوفُ بحياض الجنة وارتوي من عذبِ مائها، أمسكتُ بكتاب الزيارة وزرتُ زيارته المعروفة، ولمّا وصلتُ إلى (فنعمَ الأخُ المواسي)، قلتُ في نفسي: وأيُّ مواساةٍ وفداءٍ عظيمٍ قدمتَه لدينِ الله تعالى ونصرةِ الحقِّ ومواساةً للإمام المعصوم؛ حتى تكونَ بابًا للحوائجِ؟! أكملت الزيارة ثم صليت ركعتين، وقد قدّمتُ حوائجي بين يدي بابِ الحسين (عليه السلام)، وبقيتُ أُخاطبُ من في القبر الشريف، وكُلّي أملٌ أن لا أرجعَ عن بابه مُنكسرةً خائبةً، وما هي إلا لحظاتٌ قليلةٌ ورنّ هاتفي المحمول، قد فرّجَ اللهُ عنكِ كربكِ وقُضيتِ الحاجة! أُصِبْتُ بالذهول والحيرة والفرح والسرور في آنٍ واحد، تلجلجَ لساني عن الكلام، وأطرقتُ رأسي خَجِلَةً والدموعُ قد ملأت عينيّ، أيُّ منزلةٍ عظيمةٍ هي لك عند الله تعالى حتى تُقضى الحاجة وتُجاب الدعوة بهذه السرعة؟! فأيقنتُ تمامَ اليقين وكُلَّ اليقين بأنّك بابُ الحسين (عليه السلام) وبابُ حوائجِ شيعته ومحبيه، وعلمتُ أنّ من يقصده بإخلاصٍ لم ولن يخيب أبدًا... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1-سورة البقرة: آية 286.
اخرىبقلم: أم باقر الربيعي أبى كلُّ حرٍ شريفٍ غيورٍ على دينه ومعتقده، أنْ يرى الحقَّ لا يُعمل به وتُنتهك حرمته، ويظلُّ صامتًا ينظرُ عن كثبٍ ماذا سيجري؟ ومَن سينتصر؟ ولِمَن تكونُ الكفةُ الراجحة؟ لم يُخلقِ الإنسانُ ليكونَ عبدًا لغيرِ الله (تعالى)، فقُيّدتِ العبوديةُ به لله (تعالى) فقط، وما دونه ليس بمعبودٍ مهما كانت مكانته ومنزلته وسلطته وجبروته وأمواله ووجاهته، بل خُلِقَ الإنسانُ حُرًا بفكرِه ودينِه ومعتقدِه، فلا يُجبَرُ على تغييرِ فكرِه ولا دينه ومعتقده ما لم يحصلْ له اليقينُ بصحةِ فكرِ الآخر، وأنّ دينَه هو الحقُّ ومعتقده هو الصواب، إلى غيرِها من مصاديق الحرية. لافتاتٌ تُرفع.. شعاراتٌ برّاقة.. تُنادي باسم الحريةِ ولا حرية! استرقاقٌ واستعبادٌ من الحكّام والأمراء الذين تسلّطوا على رقابِ الناس، واتبعوا سياسة الإجرام والقتل والتخويف والاعتداءات وانتهاكِ الحُرمات وبذلِ الأموال؛ لإثبات شرعيّةِ حكمِهم وإمرتِهم، كحُكّامِ بني أمية؛ الذين اغتصبوا الإمرة والخلافة من ولاتها الحقيقيين، فعطّلوا أحكام الدين وأماتوا سُنّةَ سيّدِ المرسلين، إرضاءً لأهوائهم ورغباتهم، فالحقُّ عندهم باطل والباطلُ حق؛ لكن هل الصمتُ والسكوتُ والإذعانُ واتخاذُ الموقف الحيادي لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء هو الحل لذلك؟ والجوابُ هو: إذا تعدّى الباطلُ على الحقِّ وأهلهِ وتمادى في غيِّه وضلاله، ولم يرعَ حرمةَ كتابِ الله (تعالى)، ولا سُنّةَ نبيه، ولا دماء الأبرياء، فلابُدَّ أنْ تُكسرَ قيودُ الصمت، ويُحَطّم السكوتُ بكلمةِ الحق، واتخاذ موقفٍ حازمٍ وقرارٍ صائبٍ يحسمُ الأمر، فأما مع الحقّ وأما مع الباطل ولا خيار ثالثٍ غيرهما. انتخبَ الإمام الحسينُ (عليه السلام) مسلمًا بن عقيل (رضوان الله (تعالى) عليه)؛ ليكونَ سفيرَه إلى الكوفة، لوثاقتِه العاليةِ وإخلاصهِ وتفانيه، وللإمام نظرةٌ ثاقبةٌ في هذا الاختيار.. مسلمٌ وما أدراك ما مسلمٌ؟ لسانُ صدقٍ ناصحٍ، أبى للحقِّ الا إعلاءً وللباطلِ إلا اندحارًا، ولو كلّف ذلك نفسه، من أجلِ تصحيحِ مسار الخطِ الإلهي، الذي عمِدتْ بنو أُمية على تحريفه. وما قيمةُ النفسِ إنْ لم تكُ للهِ (تعالى)، وفي سبيله، وفداءً لابن بنت رسوله (صلى الله عليه وآله)؟! فالقتل لهم عادة وكرامتهم من الله الشهادة.. قُتِل مسلمٌ (صلوات الله وسلامه عليه)، لكن بقتله افتُضِحَ الفاجرُ الفاسقُ وانتكست رايةُ الباطل، وانتصرَ الحقُّ ورجُحت كفتُه، فسقى شجرةَ الإسلامِ من دمِه الطاهر، وعطَّرَ طريقَ الأحرار من عبق الشهادة. قال العلامة السيد باقر الهندي (رحمه الله): بكتْكَ دمًـا يا ابنَ عمِّ الحُسين * مدامــعُ شيعتِـك السافحة ولا برحتْ هاطلاتٍ العيونُ * تُحييـكَ غاديــةً رائحــة لأنك لم تُروَ مـن شربــةٍ * ثناياكَ فيها غـدتْ طائحــة رموكَ من القصرِ إذ أوثقوك * فهلْ سَلُمَتْ فيك من جارحة وسحبًا تُجــرُّ بأسواقِهــم * ألـــسْـــتَ أميرَهــم البارحــة؟! أتقضي ولم تبكِكَ الباكيــاتُ * أما لكَ في المصرِ من نائحـة لئن تقضي نحبًا فكم في زرودٍ * عليك العشية من صائحــة
اخرىبقلم: أم باقر الربيعي مُفترقٌ واحدٌ لطرقٍ متعددةٍ، جمعَ أكثرَ من مائةِ ألفٍ من حجاجِ بيتِ الله الحرام، ذاك غديرُ خُم. ما الخبر؟ ولماذا الوقوف بهجيرِ الحر، وبهذا المكان تحديدًا؟ وهل هناك من الأهميةِ لأمرٍ يستدعي الوقوف رغم التعبِ ومشقةِ السفر؟ حجةٌ خاتمةٌ للنبي الخاتم (صلى الله عليه وآله)، كيفَ تكونُ والداعي فيها ربُّ العزةِ، والمُلبي فيها سيّدُ المرسلين؟! أجواءٌ روحيّةٌ اكتنفتِ الحجيج، هدوءٌ وسكينةٌ للنفوس، وسرورٌ باطني غريب بالصحبة الكريمةِ للرسولِ الأعظم (صلى الله عليه وآله)، لمن وعتْ قلوبُهم قولَ الحقِّ واستأنست به. حجةٌ فريدةٌ من نوعِها، لها مضامينُ عاليةٌ وأهدافٌ بعيدةٌ سامية، لولاها لذهبت سنوات تبليغِ الدعوة أدراج الرياح. حجةٌ عالميةٌ لإحياءِ الإنسانيةِ ختامُها غديرُ خُم، ذلك المكانُ الذي أُقيمتْ فيه الحُجةُ على الناس أجمع؛ حتى لا يُنكرَها بعد ذلك مُنكرٌ ويشكُّ فيها مُرتابٌ، إنّها الخلافةُ والإمامةُ؛ تنصيبٌ من اللهِ (تعالى) على لسانِ رسولِ الله (صلى الله عليه وآله)، إذ ليس من الحكمةِ أنْ تُتركَ الأمّةُ بعد الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) بلا راعٍ يُديرُ شؤونَها السياسية والدينية والاجتماعية، تجتمع فيه أعلى وأسمى صفاتِ القائد الشجاع والعاِلم الفقيه والمُربي الفاضل، فكانتْ وقفةً تاريخية تحسمُ مصيرَ أمّةٍ هي من خير الأمم. وقفةٌ تجمعُ آلاف الحجاج قبلَ قفولهم راجعين إلى أهاليهم؛ للإعلانِ بالتصريحِ عن خليفةِ الله (تعالى) ورسوله الشرعي (صلى الله عليه وآله). أمرٌ في غايةِ الأهمية؛ به يكتملُ الدينُ وتتمُّ النعمةُ، رغم مشقةِ السفر وعناءِ الطريقِ وهجير الحر، لابُدَّ من تبليغ الأمر الإلهي. وصدحَ صوتُ الحقِّ مُدويًا "من كنت مولاه فهذا عليٌ مولاه"، وماجَ الناسُ ما بينَ فرِحٍ مُسرور، وما بين مُستغربٍ مُتعجب، وخصوصًا البعض منهم ممن أظهرَ الإسلام وأبطن الحسد والبغض والنفاق، وكأنّهم يقولون في دواخلهم: أيضًا علي! لكن أمر الولاية حُسِمَ شاؤوا أم أبَوا... نعم، هو عليٌ أولُ القومِ إسلامًا، وأقدمهم إيمانًا، رايةُ الحقِّ ومنارُ الهدى والمحجةُ العظمى، أخُ الرسول وصنوه والمحامي عنه وحامل لوائه، بيده كسّرَ الأصنامَ، وبسيفه قامَ الإسلامُ، وثبتت قواعده، قاصمُ شوكةِ المُعتدين، ومُبيدُ فلولِ الظالمين، فهل لكم أميرٌ كأميرِنا؟! كلّا، وألفُ كلّا... هو عليٌّ، لمْ ولنْ يتكرر أبدًا.. عَلِيٌّ أَمِيرِي وَنِعْمَ الأمَير نَصِيرُ النَّبِي وَخَيرُ النَّصِير أبُو الحَسَنَيْنِ وَزَوْجُ البَتُول وَوَرِاثُ طَهَ وَأعْلَى وَزِيـــر عَلِيٌ أمِيرِي بأمْرِ الإله العَظِيم الذي لا إله سَــــوِاه لَقَدْ هَامَ قَلْبِي بعِطْرِ شَذَاه فَأَحْيَا فُؤَادِيَ ذَاكَ العَبيــــــر
اخرىبقلم: أم باقر الربيعي قفلَ الحجيجُ إلى أهلِهم راجعين، حاملين دعواتٍ صادقة رُفِعتْ لهم في محضرِ الكريم، لتُعانقَ أعنانِ العرشِ وتتعطّر بشذاه، فتتقاطر حبّاتُ عطرِه لتملأ السماء، وتغسل القلوبَ من الأدران بنداه الصافي؛ لتحيا به الأرواحُ وتسمو به النفوسُ، فتتسابقُ إلى الخيرات في دنيا الوجود، إلا قافلة انفردت بالتوديعِ وفراقِ الأهلِ والوطن، ودّعتِ الأهلَ والأحبابَ، وفارقتِ الأولادَ وقبورَ خيرِ البشر وأشرفها وأطهرها، باكيةً ناحبةً، تذرفُ الدموعَ، فوداعُها ليسَ له عودةٌ.. ضُمّني يا جدّاهُ في هذا الضريح .... علّني من بلوى زماني أستريح.. ودّعَ الجدَّ الرحيم، والأمَّ العطوف، والأخَ الشفيق، مُعاهدًا إيّاهم بالسيرِ على ما ساروا عليه حذوَ النعلِ بالنعل، داعيًا للهِ ومحييًا لسُنةِ رسولِ الله (صلى الله عليه وآله)، بعدَ أنْ شرّقت وغرّبت بنو أمية في الدين، وفعلتْ ما يحلو لها، مما كان مُخالفًا لشرعِ الله الحكيم.. سارتِ قافلةُ الحقِّ والعدالةِ والمنايا معهم تسير، تُرفرِفُ على رؤوسِهم ملائكةُ الجليلِ وتحفُّ بهم بأجنحتِها، تبتهلُ لهم بالدعاءِ، ربّاهُ لا تفجعْ قلبَ الزهراء؛ فرزيةُ النبي (صلى الله عليه وآله) وغصبُ خلافةِ الوصي، وكسرُ الضلعِ، وحرقُ الدارِ قد قرّحَ قلبها؛ لكنّ المحتومَ لا مفرَّ منه؛ فالدماءُ الطاهرةُ لابُدَّ أنْ تُسفكَ ليحيا الدينُ رغمًا على آلِ أميّة، الذين ابتدعوا في دينِ اللهِ (تعالى) ما ليس فيه.. اقتربت قافلةُ الحقِّ شامخةً حرةً أبيةً، يتقدمُها الإمامُ الحسين (عليه السلام) وأهلُ بيته النجباء، رافعةً شعار "الحُسينُ هو الحياة"؛ لتحطَّ الرحالَ في أرضِ كربلاء، مُعلنةً الثورةَ على كُلِّ مظاهرٍ التجبُّرِ والظلمِ والعبوديةِ والفساد، وإنْ كلّفَ ذلك بذلَ الأرواحِ وسفكَ الدماءِ وتقطُّعَ الأشلاء، مُتفانيةً في البذلِ والعطاء، مُطيعةً مُسَلِّمةً لربِّ السماء. تفجرتْ ثورةُ الحقِّ بمقتلِ الحُسين (عليه السلام) والثلةِ القليلةِ من أهله وأصحابه؛ لتحيا أمةُ جدِّه رسولِ الله (صلى الله عليه وآله)، بثورة هي أعظم ثورةٍ خلِّدُها التأريخ في عالمِ الوجود، هي ثورةُ الحسين (عليه السلام)، ثورةُ انتصارِ الدمِ على السيف.
اخرىبقلم: أم باقر الربيعي قربةٌ تمزّقت بسهامِ الأعداء؛ لكن تخلّدت بخلودِ الزمان، فأصبحت عنوانَ الوفاء. وجسدٌ هوى إلى الأرضِ ممزّقَ الأعضاء، فحوته أرضُ كربلاء باحتضانٍ وبكاء... لا، لا تقعْ، فقلبُ الحسين السبط تصدّعَ من جُرمِ الأعداء، واضطربتْ ملائكةُ السماء، بين نحيبٍ وبكاءٍ، وأكفٌّ تُرفَعُ بالدعاء: عباسُ! أنتَ الوفاءُ، ورمزُ الشموخِ والإباء، لا تتركْ حُسينَك وحيدًا بين شرذمةِ الأعداء، غريبًا منكسرَ الظهرِ محنيَ الأضلاع، يتجرَعُ الغُصّةَ بعد الغُصّةِ لفقدِ الأحِبّاء. آهٍ وألفُ آهٍ لتلكَ القلوبِ التي تفطّرت من الظمأ، وهي تنتظرُ عودةَ السقّاءِ حاملًا الماء؛ ليروي عطشهم ويطفئ لهيبَ قلوبِهم... لا، لا ترحلْ وتترك زينبَ حيرى وأنتَ خيرُ الكفلاء.. لا، لا ترحلْ وتترك خيامَ آلِ الحُسين تحترقُ بنارِ الطلقاء.. أفٍ لكِ يا دنيا، أ يهونُ عليكِ ما فعلتِ بآل الحسين النجباء؟ أ يضحكُ منكِ السنُّ وزينبُ تُسبى حاسرةً بين الأعداء؟ فالقضاءُ جرى، وسقطتْ رايةُ السقّاءِ لكنْ بعزٍ وإباء، مُعلنةً أنّ الدمَ سيُخلَّدُ ليرسمَ أروعَ صورِ الفداء، خُطَّتْ عليها من العباسِ، تُعلِّمُنا الوفاء، ونستلهمُ منها دروسَ الدفاعِ عن العقيدة بعزمٍ ثابتٍ وإيمانٍ راسخ؛ فالحقُّ يعلو ولا ويُعلى عليه.. وها هو قبرُكَ شامخٌ تهفو لهُ الأرواحُ، لتحطَّ رحلَها على أعتابِ بابِك قلوبُ العشاق، فتذوب وتمتزج بآهاتٍ ودموعٍ وبكاءٍ على ما جرى في كربلاء... تُلملِمُ الكلماتِ بعدَ أنْ تبعثرتْ في حضرةِ العباس.. فأيُّ وصفٍ يليقُ بمن ناحتْ عليه الأملاكُ في السماء، وجرت عليه دموع سيدة النساء؟! الكافلُ أمِ السقّاءُ أم المُواسي لأخيه الحُسين بأعظمِ الفداء أم الشموخُ والعزةُ والوفاءُ؟ تساقطتِ الكلماتُ؛ لتسجدَ على ترابِك خاشعةً مُقصرةً مُعتذرةً، فأنا لا أُجيدُ كلامَ العشقِ في ساحةِ الإباءِ... فيكفي أنّكَ العباسُ وكفى!
اخرىبقلم: أم باقر الربيعي قال (تعالى) في محكم كتابه الكريم: "وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ"(1). كُلُّ الموجوداتِ من الإنسانِ والحيوانِ والنباتِ تحيا به، ولا تستطيعُ الاستغناءَ عنه لفترةٍ طويلة، وتذبلُ وتموتُ إذا فقدتْه، فهو أوكسجين الحياة في كُلِّ الأوقات، وتشتدُّ الحاجة إليه وتزدادُ في أيامِ الهجيرِ الحار؛ حيث لا يروي عطش الظمآن إلا هو.. وقد فجّر اللهُ ( جلَّ وعلا) منه لخلقهِ عيونًا وينابيعَ وأنهارًا تجري في الأرض، وسخّرَها لبني البشر على وجهِ الخصوص، ليستعينوا به على حوائجهم، فتارةً يُستخدمُ للتطهير من النجاساتِ المادية والمعنوية، وتارةً يستعينون به في تهيئةِ بقعةٍ من الأرض للزراعة، ويبذلون قُصارى جهدهم في الحرثِ والتسميدِ ونثرِ البذور وتوفيرِ الماء الصالح للنبات؛ حتى يكبرَ ويعطي ثمارًا ناضجةً، وتارةً يُذلِّلُ اللهُ (جلَّ وعلا) البحرَ لهم ليستخرجوا منه لحمًا طريًا ولؤلؤًا من أعماقه لتُصاغ منه حليةٌ تُزيّنُ تيجانَ الملوك والأمراء وتتجمّلُ بها النساء.. ولعلَّ الخاصية الأهمُ للماء هي الإحياءُ ورفعُ العطش عن الموجودات، فنرى الإنسانَ في أيامِ الصيفِ الحار لا يُطفِئُ لهيبَ قلبهِ إلا الماء، وفي شهرِ رمضان رغم أنّ المائدةَ عامرةٌ بنعمِ اللهِ (جلَّ وعلا) نجدُ الصائمَ لا يهفو قلبُه إلا للماءِ ليسدَّ احتياجَه ويُبرِّدَ غليلَ قلبِه فينتعشَ وتسكنَ روحه، فالماءُ يُحيي الأرضَ ومن عليها وهذا هو الإحياءُ المادي. والإمامُ المهدي (صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه) هو سِرُّ الوجودِ وماءُ الحياةِ وسِرٌّ من أسرارِ اللهِ (جلَّ وعلا)، وهو الماءُ المعينُ في قول الله (تعالى): "قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاءٍ مَّعِينٍ"(2). فقد جاءَ في حديثٍ عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال: "نزلت في الإمامِ القائمِ (عليه السلام)، يقولُ: إنْ أصبحَ إمامُكم غائبًا عنكم، لا تدرون أينَ هو؟ فمن يأتيكم بإمامٍ ظاهرٍ يأتيكم بأخبارِ السماوات والأرض، وحلالِ اللهِ وحرامه؟ ثم قال: واللهِ ما جاءَ تأويلُ هذه الآية، ولابُدَّ أنْ يجئَ تأويلُها "(3). فالإمامُ المهدي (عليه السلام) وإنْ كان غائبًا فالعبادُ تنتفعُ به كانتفاعِهم بالشمس وإن غطّاها السحاب، لكن بحضوره المبارك يكونُ النفعُ أكثر والفائدةُ أعم؛ فهو (صلواتُ الله وسلامُه عليه) يُحيي البلادَ والعبادَ، وهذا هو الإحياءُ المعنوي الروحي، وهو أهمُّ بكثيرٍ من الإحياءِ المادي، فكم نُردِّدُ على ألسنتنا الدعاء له بالفرج، وكم نتمنى سُرورَ العيشِ في دولته الكريمة، وكم أنّنا مُحتاجون إليه، لكن هل دعونا له فعلًا بالفرج كاحتياجنا إلى الماء؟! وأنّه الرافعُ لظمأ أرواحنا المُتعبة بحنينِ الاشتياق إليه؛ التي ترجو وتأملُ ظهوره المبارك وتتوقُ للنظرِ إليه، وأنّه الرحمةُ المُهداةُ لقلوبِنا، واليدُ الماسحةُ لأوجاعِنا، والوجودُ الراعي لنا؟! فلنتوجهْ إلى الله (تعالى) بنيّاتٍ خالصةٍ وقلوبٍ صادقةٍ أنْ يُعجِّلَ في فرجه (عليه السلام). اللهم عجل لوليك الفرج، وفرِّجْ عنّا بفرجه يا كريم.. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- سورة الأنبياء : آية 30 : الصفحة 324. 2- سورة الملك : آية 30 : الصفحة 564. 3- الامثل في تفسير كتاب الله المنزل - الشيخ ناصر مكارم الشيرازي - ج 18 - الصفحة 513.
اخرىبقلم: أم باقر الربيعي "القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة؛ لكن هل السبي لذراري رسول الله عادة؟" شمسٌ وأقمارٌ أفلت في كربلاء، لكن نور أشعتِها لا يزال حريةً وكرامةً وشموخًا وإباءً، أحيت أمةً وتعلّمت منها أنْ لا عبوديةَ إلا لله (تعالى)، وأنّ كرامةَ الشعوبِ تتأتى من عدمِ الخنوعِ للظُلاّم والمُتسلّطين من حُكّام الجور، وأنّ الحقَّ شامخٌ مُنتصِرٌ لا تنتكسُ رايتُه أبدًا، وأنّ الإباءَ رفضُ كُلِّ مظاهر الفساد وإنْ كلّفَ بذلَ المالِ والأولادِ والأرواح، وأنَّ عودةَ العدلِ إلى أرض الواقع وإصلاحَ الفسادِ يتطلّبُ إشهارَ السيوفِ بوجهِ كُلِّ من غيّبَ الحقَّ وأعلنَ الفساد، وأنْ لا بُدّ من إراقةِ الدماءِ من أجل التغيير والإصلاح، لترتوي شجرةَ الحقِّ وتمتدّ أغصانُها لتشملَ العالمَ بأسره.. فشاء اللهُ (تعالى) لتلك الأجسادِ الطاهرةِ أنْ تُرمّلَ بالدماءِ وتُقطع الرؤوسُ وتُرفع على الرماح، وها هي زينبُ (عليها السلام) وبقيةُ النساءِ تُساق أسارى لأولاد الأدعياء، بعدَ أنْ كانت لا يُرى ظلها وكُنَّ محجوباتٍ مُخدرات... لقد كانت كربلاءُ مُنطلقاً للخطوةِ الأولى لربيبةِ بيت النبوّة والإمامة، بيت الستر والطهارة والعفاف، لتكونَ داعيةً للحجابِ، صائنةً له، حريصةً عليه، رغم الأسرِ وتكفُّلِ الأطفالِ وشماتة الأعداء، حتى كادتِ الشمسُ أنْ تُخفي نورَها ستراً للحوراء، باكيةً حزينةً كئيبةً، أنّى لزينبَ أن يُهتك سترها وهي ابنةُ خيرِ الأوصياء؟! كما كانتِ الإعلاميةَ الثائرةَ والناطقةَ الرسميةَ لثورةِ سيّدِ الشهداء (عليه السلام) بعد التعتيمِ الإعلامي لبني أُميّة (عليهم لعائن الله)، فكانتْ شامخةً مرفوعةَ الرأسِ رغمَ جرحِها العميق؛ حتى أخزتْ بمنطقِها الأعداءَ، وألبستهم ثوبَ العارِ والشنار، وكلّتْ ألسنتهم عن الكلام... أ امرأة تُعجِزُنا عن الكلام؟ نعم، هي امرأةٌ، لكن ليست كسائرِ النساء، بل كأبيها حيدرة الكرار، إنْ نطقتْ أخرستِ الألسُن، وحيّرتِ الأفهام، وكأنّ على رؤوسهم الطيرَ بعدَ الفضيحةِ النكراء أمامَ الملأ، فكانت كالصرحِ الأشمِّ لا يحرِّكهُ عتو الأعداء... إن سبي حُرَمِ رسولِ الله (صلى الله عليه وآله)، ومُخدّراتِ بيتِ الإمامة ليس أمرًا مُعتادًا؛ لكن شاءَ اللهُ (تعالى) أنْ يراهُنّ سبايا كما قالَ الإمامُ الحُسين (عليه السلام)، راضياتٍ صابراتٍ مُسلّماتٍ لأمرِ اللهِ (سبحانه)، وناصراتٍ لخليفته (جل وعلا) لتستمرَّ ثورةُ الحُسين بالعطاء..
اخرىبقلم: أم باقر الربيعي قال الإمام الرضا (عليه السلام): "أفضلُ العقلِ معرفةُ الإنسانِ نفسَه"(1). خلقَ اللهُ (تعالى) الإنسانَ وميّزه عن سائر الموجودات، من الحيواناتِ والنباتات بالعقل، ولولاه لم يتوصّلْ إلى حقيقةِ الخالقِ ولم يُدرِكْ عظمته وسعة علمه، ولم يتوصّلْ إلى أيِّ نظريةٍ علميةٍ أو حقيقةٍ فلكية، فبه كُرِّمَ بنو آدم وبه جعل الله (تعالى) الإنسانَ خليفةً في الأرض، وبه يتفكّرُ في آفاقِ الله (تعالى) الواسعة وآياته الظاهرة وبيّناته الواضحة، وبه يُعبَدُ اللهُ (سبحانه) فهو أولُ من خُلِق؛ حيثُ روي "أنّ الله (عز وجل) لمّا خلق العقل قال له: أقبل، فأقبل، ثم قال له: أدبر، فأدبر، فقال (تعالى): وعزّتي وجلالي ما خلقتُ خلقًا هو أكرمُ عليّ منك، بك أُثيبُ وبك أُعاقبُ، وبك آخذُ وبك أُعطي"(2). فبه عرف الإنسانُ ربَّه، وعرف أنّ لهذا الربِّ آثارًا دلّت عليه، وبه عرف أحكامَ الشريعة الغرّاء وتعبّد بها طاعة لله وتقربًا إليه، وأنّ هذه الطاعةَ تستحقُّ الثوابَ ومُخالفتها توجِبُ العقاب، فالمجنونُ الذي لا عقلَ له تسقطُ عنه التكاليف الشرعية فلا يُحاسب عليها، وإنّما الثواب والعقاب لمن يمتلك العقل، فهو جوهرةٌ ثمينةٌ لا يُدركُها إلا من يتصفُ بالوعي والثقافة، فيحمِد اللهَ (تعالى) على نعمةِ العقلِ الذي وهبَه إيّاه.. وقولُ الإمامِ الرضا (عليه السلام) يُبيّنُ بشكلٍ واضحٍ وجلي معنى الأفضلية؛ التي دارتْ مدارَ العقلِ وهي معرفة الإنسانِ نفسَه ووعي حقيقتها، والعلمُ واليقينُ هو فرعُ المعرفةِ، فمن تعقّلَ أدركَ حقيقةَ نفسِه وما تضمرُه من محاسنَ ومساوئ، ليعملَ على علاجها ومُحاربتِها فيكسرَ جبروتِها، ويستحضرَ صورَ من أردته في متاهاتِها وغيّبتْه في بحرِ لهواتِها، ويُشغّل زِرَّ التنبيه بأنّ أوله نُطفةٌ قذرةٌ وآخرَه جيفةٌ مذرةٌ؛ حتى لا يأخذَه الزهو والغرور والتكبر.. ومعرفةُ الإنسانِ لنفسِه تكمنُ أيضًا من خلالِ معرفةِ النظامِ الدقيق في داخله، فجسمُ الإنسانِ يحتوي على معاملَ ضخمةٍ تعملُ ليلَ نهار، لا يُصيبها الكللُ ولا التعب، ببرمجةٍ مُتناسقةٍ لا تتضاربُ فيما بينها بحساباتٍ غاية في الدقة، فإذا أُصيبَ أيّ جهازٍ بخللٍ ما شعرَ الإنسانُ بالعجزِ وعدمِ القدرة، وربما تعطّلَ الجهازُ فأودى بحياته إلى الموت والهلاك، وكُلُّ هذه آياتٌ أنفسيّةٌ، توصِلُ الإنسانُ إلى معرفةِ الصانعِ الحكيم المُنعمِ عليه بفيضِ الوجود، فإذا عرفَ نفسَه وأدركَ شرورها وضعفها وعجزها فقد عرفَ الله (تعالى) خالقَ هذه النفس والمُفيضَ عليها بألطافه ورحماته.. ونقرأ في الدعاء في زمن الغيبة: "اللهم عرِّفْني نفسك"؛ فمعرفةُ اللهِ (تعالى) هي كمالُ العقلِ والتعقُّلِ وهي الغايةُ المُستفادةُ من قولِ الإمامِ الرضا (عليه السلام)، فإذا عرفَ الإنسانُ نفسَه وقفَ على حقيقتِها وما تنطوي في جنباتِها من خصالِ الخير والشر... هذا وهجٌ وشُعاعٌ نقتبسُه من قولِ الإمام الرضا (عليه السلام)، وكُلُّ أقواله دُررٌ يُنتَفَعُ بها، والكيّسُ من انتفعَ. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- البحار: ج78، ص352 2- نفس المصدر، ج 1، ص97
اخرىبقلم: أم باقر الربيعي قال (تعالى): "وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ"(1). لم يبعثِ اللهُ (تعالى) الأنبياءَ اعتباطًا ولا عبثًا، بل بعثَهم من بابِ اللُطف والرحمة للعباد لغايةٍ عُظمى وهدفٍ أسمى، وهو بلوغُ الكمالِ الروحي المعنوي والمادي، وهذا لا يتأتّى إلا من خلالِ الوظيفةِ الإلهيةِ المُكلّف بها صفوةٌ مُختارةٌ من البشر، انتخبَهم الباري ليكونوا دُعاةً للناس، ويوظِّفوا طاقاتِهم ويرسموا طريقَ الهدايةِ لمن كرّمَهم اللهُ (تعالى) على سائر الموجودات، فبيّنوا لهم سُبلَ النجاة وسُبُلَ المهالك، من خلالِ القوانين الإلهية المُترتبة على كُلِّ فعلٍ من أفعالِ المُكلفين.. وكُلُّ نبي من الأنبياءِ له شِرعةٌ خاصةٌ ومنهاجٌ، وهذا لا يتنافى مع وحدةِ الكلمةِ في الدعوةِ إلى الله (تبارك وتعالى) وتوحيده، وكُلُّ شِرعةٍ من شرائعِ الأنبياءِ تُكمِّلُها شريعةُ النبي الآخر، وكُلُّها تسيرُ في مسارِ التكاملِ الإنساني، إلى أنِ انتهتْ بالشريعةِ الخاتمةِ والمنهاجِ الأكمل والأصلح لبني البشر، وكأنّها رسالةٌ مُمنهجةٌ ومُبرمجةٌ للحياةِ الفرديةِ والاجتماعية، بل وجميعُ الأصعدةِ الحياتيةِ على كافةِ مُستوياتها، لمن سار على الخطِّ الإلهي ليسلك طريقَ الهدايةِ والفلاح.. وقد وقعَ الاختيارُ على أشرفِ شخصيةٍ في عالمِ الوجود، بحسبِ درجته الكمالية ومؤهلاته الروحية، ليختصَّ بأعظمِ منهجٍ تربوي عقائدي شرعي أخلاقي، فمُنذُ بعثته (صلوات الله وسلامه عليه) وهو يدأبُ لإصلاحِ المفاسدِ التي كانتْ تطغى على المُجتمعِ المكّي آنذاك، كعبادةِ الأصنامِ وشربِ الخمرِ ووأدِ البناتِ واستعبادِ الناسِ وظُلمِ المرأةِ وتوهينها، واستبدلها بعبادةِ اللهِ (تعالى) وتحريمِ الخمر وتكريم البنات، وساوى بين الحر والعبد وشرّف المرأة ورفع من قدرها ومكانتها، فاستطاعَ تحقيق ما لم يُحقِّقْه أيُّ نبي من الأنبياء من التغيير في مُجتمعاتِهم، ولم يأتِ هذا التغيير بلا عناءٍ أو مشقةٍ، فقد تعرّضَ الرسولُ الأكرمُ (صلى الله عليه وآله) للأذى والضرب بالحجارة واتهموه بالكذب والسحر والتكهن وما إلى ذلك من الاتهامات الباطلة، وكان في كُلِّ أحواله صابرًا داعيًا لأمّته بالهداية والصلاح، وفرض حُبَّه على الناس رغمًا عنهم؛ فكلامُه يُلامِسُ شغافَ القلبِ ويبعثُ على الهدوءِ والطُمأنينة في النفس، وكانَ له من العَظَمةِ ما لم تكن لقيصر ملكِ الروم وكسرى ملك الفرس؛ حتى أنّ أصحابَه يبتدرون ماء وضوئه تيمنًّا وتبركًا به. وكان لابد من إكمالِ منهجِه بأمرٍ عظيمٍ به تتُمُّ دعوته، فبلّغَ بالإمامةِ وأعلنَ عن الإمامِ والخليفةِ من بعدِه، وكان يعلمُ ما سيؤولُ إليه أمرُ هذه الأمّة من بعدِه، فالعالمُ بأجمعِه مدينٌ لرسولِ الله (صلى الله عليه وآله)، عاجزٌ مُقصِّرٌ عن إيفاءِ فضله.. وفي أيامِه الأخيرة وقد اشتدَّ المرضُ عليه، فساعةُ الفراقِ قد دَنَتْ والرحيلُ لابُدَّ منه، وها هو رسولُ الإنسانيةِ وعنوانُ الرحمةِ ورمزُ الصدقِ والأمانة، وصاحبُ الخُلُقِ العظيم مسجى على فراش الموت، وعلي والزهراءُ والحسنان يتزوّدون منه، ويجرون مدامعَ العيون لفراقه؛ لا لأنّه أخُ علي وأبُ الزهراء وجدُّ الحسنين فحسب، بل ولأنّه رحمةُ الله للعباد، وأمانُه في البلاد لمن عرف حقه ولم يجهله، وملائكةُ الرحمن مُختلفةٌ في النزول والعروج تحفُّ ببيتِ الرسول... حتى في لحظاته الأخيرة لم يسلمْ رسولُ الله (صلى الله عليه وآله) من ألسُنِ القومِ السليطة حتى اتهمه أحدُهم أنّه يهجُر! معاذ الله وحاشاه من ذلك الوصف المُشين، وهو القائلُ فيه ربُّ العزّة والجلالة: "وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى"(2). وكأنّهم لم يقرؤوا القرآنَ ولم يتدبّروا آياته، وإذا برسولِ الله قد لفظ أنفاسه الأخيرة، وخرجت روحُه الطاهرةُ تحملُها الملائكةُ العظامُ لتكونَ في مقعدِ صدقٍ عندَ مليكٍ مُقتدِر، فارتفعَ البُكاءُ من أهلِ بيتِه وناحتْ ملائكةُ السماء، واظلمَّ الكونُ وماجتِ الأرضُ بأهلِها لهولِ الفاجعة... القومُ يتنازعون فيمن يكونُ الخليفةِ من بعدِه، ورسولُ الله لم يُغسَّل بعد! وكأنّهم لا يعرفونَ خليفته، وكأنّهم لم يسمعوا رسولَ الله (صلى الله عليه وآله) مرارًا وتكرارًا وهو يوصيهم بعلي وأهلِ بيتِه خيرًا، ومنذُ تلك اللحظة جهدوا لنصبِ العداء لعلي وآل علي (عليهم السلام) مُعلنين صراحةً مُخالفتهم لكتابِ اللهِ وسُنّةِ نبيه، وانقلبَ القومُ على أعقابِهم واشتعلتْ نارُ الفتنة من سقيفةِ بني ساعدة، وامتدَّتْ جذورُها لسلبِ خلافةِ الوصي وحرقِ بابِ الزهراء، وقتلِ الإمامِ علي في المِحرابِ حالَ الصلاة، وسم الإمامِ الحسن وقتلِ الإمامِ الحسين بكُلِّ وحشيةٍ وإجرامٍ، وطالَ شررها الإمامَ بعدَ الإمامِ؛ حتى ظهور الآخذ بالثأر الإمام المهدي (عجّل الله (تعالى) فرجه الشريف)، ولا حولَ ولا قوّةَ إلا باللهِ العلي العظيم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1-سورة آل عمران : آية 144. 2- سورة النجم : آية 3- 4.
اخرى