بقلم: لبنى مجيد حسين أم البنين زوجة أب مؤمنة.. لم تغلبها الأمومة، لا في الوجد، ولا في الفقد، بل كانت فطرة الامتثال لأمر الله أقوى وأصلب.. بأي لهفة ودعته؟ بأي لهفة انتظرته؟ بل بأي لهفة استقبلت خبر ارتحاله؟ ولأن الحسين كان سيدًا على أولادها، لم تتردد في بذلهم فيه. أم البنين زوجة أب، سأكررها على مسامع كل انثى، كل زوجة، كل أم، علّ اريج وفائها يتخلل قلوبهن فيفتح لهن مصاريع الرحمة. إنّ من تتغلب على عصف الأمومة فتربي جيلًا يعرف طاعة إمامه، لهي أولى أن تتغلب على عصف الغيرة من زوجة أخرى أو زوجة أخ... أم البنين علم وفاء ارتفع فكان العباس درته الساطعة لتعلن أن بإمكان المرأة أن تكون مثالاً يقتدي به حتى الرجال في مختلف الأزمنة... ذلك أن عين أم البنين كانت على الله، لم تعبد زوجا فيأسرها عن التكامل، ولا ولدًا فيرقدها حيث الدنيا، تسامت حتى قبلها ربها بقبول حسن فأفلحت وبقينا ننتظر الامتحان.
اخرىبقلم: لبنى مجيد حسين ها أنا أخيرًا أكملُ أوراقي للسفر، يكادُ قلبي ينفجر من شوقه لزيارة أنيس النفوس، برفقة والدتي التي بذلت عمرها من أجلنا وأخي العطوف، تمت التهيئة لكلِّ شيءٍ حتى ليلة السفر المنتظر.. حيثُ اتصال مستعجل يشرح فيه أخي ممانعة دائرته لمنحه إجازة، ثم إصرار أُمي المريضة على الذهاب على كلِّ حالٍ، ثم لوعة قلبي الذي تجاهلت شوقه لأرفض بشدة السفر كوني لا أعرف اللغة هناك، وخوفي من السفر من دون رجل، فلربما مرضت والدتي، أو ضللنا الطريق، أو تضايقنا من أحد، أو... كان إصرار أمّي على السفر ولو لوحدها يرهقني أكثر، عدتُ استنجدُ بأخي الذي وقف عاجزًا أمام رغبة والدتي حتى استسلم آخر الأمر لذهابها بمفردها! يا رب ما أصنع؟ اسودت الدنيا بعاصفة ترابية وأنا تتقاذفني الهواجس بما هو أشد منها، فلم أعتد على السفر، ولا أملك ترك أمي، ولا أجازف بنفسي فما زلت شابة يافعة ولا أعرف كيف يجتازون الحدود؟ وكيف يتصرفون؟ ولابُد للأمر أنْ يُحسم في ساعات فقط، فموعد السفر صباحًا على كل حال.. خرجتُ من بيتي في ذلك الجو العاصف لا أعرفُ ما أريد! فقد ذبل قلبي من الخوف، فيما عقلي يوجب عليّ مرافقة الوالدة خوفًا عليها.. لم أشعر بالاتجاه الذي أسلكه حتى توقفت سيارة الأجرة أمام مرقد أبي الفضل (عليه السلام) حتى أنّي لم أزر الإمام الحسين (عليه السلام) حينها؛ لضيق الوقت وصعوبة الأجواء، كنتُ أبكي في داخلي لم أقرأ الزيارة ولا الاستئذان.. اعتذرت من سيدي يومها، وكلُّ ما فعلته أنّي تعلقت بشباكه وناديته بكلِّ وجودي، أما زلتَ كافلًا يا سيدي، فأنا بين أمرين كلاهما صعبٌ، ولم تخلقِ النساءُ لهذه الحيرة.. بكيتُ بعض الوقت ثم خرجتُ على عجالةٍ ولم يبل قلبي بالفرج حتى دخلت المنزل وأنا أرى أمي ترزم الحقائب وأخي يتحدث معها وكلاهما مسترخٍ، حتى بادرني سائلًا: أين كنتِ؟ وقبل أنْ أجيب قال لي: إنَّ له صديقًا عراقيًا يسكن قم وهو في زيارةٍ للعراق وسيعود غدًا في سيارة خاصة، وقد تعهد بخدمتنا وجهز بيته في قم لاستراحتنا، كنتُ أتجنب أن أرخي جفني لئلا تمطر دموعي أمامهما حتى إنّي وضعت كفي على صدري لاضطراب قلبي وهو يرددُ: ما زلتَ كافلًا يا أبا الفضل .. ما زلتَ كافلًا يا قرة عين زينب الحوراء ..
اخرىبقلم: لبنى مجيد حسين لمن حجَّ بيت الله تعالى، هل تذكر أول دخولك الحرم، وأنت ترتجف مأخوذًا بهيبة الموقف؟ رغم أنَّك واجهتَ البيت وليس ربه.. ماذا كُنت تُسمي ذلك الحال وقد ودّعت عيالك، لا بل نسيتهم في مراسيم الخشوع تلك، سائرًا بين تلك الملايين التي وفدت من كلِّ العالم بلغاتٍ شتى، قد سترتَ نفسك بقطعةِ قماشٍ غير مخيط، ونزعتَ عنك اللقب والشهرة والمال والسلاح والجاه والأتباع والزينة والولد وحتى الزوج فقد حُرِّمَ عليك، بل لا يحقُّ لك حتى قصّ ظفرك. قمةُ الافتقار وغايةُ التسليم وقد سير بك من مكانٍ إلى مكان في مشقةٍ مُجهدة، لشعائر قد تغيبُ عنك حكمتها ويلزمُك دِقتها. وحشةٌ عن الأهل والصاحب بل جلوس العبد في حضرة الصاحب الحقيقي.. هنالك اعتدلَ ميلان المقاييس وصحتِ الفطرة حتى تمنيت أنْ لا تعود إلى صخبِ المادة خوفًا من أنْ تُلوثك بتبعاتِ حُبِّ الدنيا.. لمن لم يذهبْ للحج: مع الفايروس الآن أنت تعيش ذات الافتقار والعجز عن نفعِ نفسك بمالٍ أو سلاحٍ أو أتباعٍ أو أهلٍ، فالوباءُ جعل الكُلَّ سواسيةً في محضرِ ربٍّ مُقتدر هو وحده يملكُ النفع والضر.. اختفتِ الحجب باختفاء قيمةِ المظاهر الدنيوية والمُتطلباتِ الاجتماعية، فلا تنتبه للبسٍ وكأنَّ البشر يرتدون ذات الزي، تقبعُ حبيسَ دارك، فحياتك مهمة لكنها ليست بيدك وآدميتك تحظى بفرصةٍ للتنفس، للدعاءِ، لعمل الخير، فرُبّما لا وقتَ عندك لو أجّلت ذلك وكأنّها مراسيم إنسانيتك الحقّة. فايروسٌ صغيرٌ يُخرس صخبَ العالم ويذلُّ جبروت المُتكبرين في مشهدٍ واحد، أمام ربٍّ واحد، يعترفون له بالعجز على مرأى ومسمع.. ولكن لا أحدَ يهتم لاعترافاتهم، كلُّ ما عليك أنْ تلتزم بخُطة طريقك، إجراءات الصحة وأحكام الشرع ثم لا تدعْ شيئًا يشغلك عن الظفر بخلوةٍ تعرجُ فيها روحُك إلى مدارج الكمال، معراجٌ يُصقل الفطرة من جديد لتعتدل المقاييس.
اخرىبقلم: لبنى مجيد حسين وقفَ يلتقط أنفاسه المُتعبة، يستند بكلِّ ثقله إلى جدار منزلٍ بسيطٍ، ثم وضع الكيس الذي أثقل ظهره على عتبة الدار وجلس ملتصقًا به، يمسحُ العرق الذي بات يزداد غزارةً، وهو يفكر ماذا سيقول؟ فلا توجد سابقةُ معرفةٍ، ولكنّه سمع أنَّ هذه العائلة مُعيلُها مقاتلٌ جريح، غير أنَّ حركة اتكائه على الباب أثارت صوتًا أشبه بالطرقِ، وجاء الصوت حادًا: ــ من بالباب؟ لم يشعر مرتضى إلا وهو يقف كتلميذٍ بين يدي أستاذٍ لا يدري ماذا يقول! فقد سمع عن حيدر الكثير الكثير، بطلٌ عركته الحروب، حاولت طيلةَ سنواتِ الجهاد الكفائي أنْ تنال منه ولم تُفلح. ما زال حيدر شامخًا رغم إصابةِ جسده، وتناثر لحمه، وفقد بصره! ما زال يتحسسُ بيدهِ صورة المرجع المُعلّقة على جدار غرفته ليشعر أنَّ الأمور بخير. تحدّث مرتضى خجِلًا، مُقدِّمًا اعتذاره قبل كيسه، فقد تقطّعتِ الطرق بسبب الحظر، ولم يكُن الوصول سيرًا بالسهل مع حمل كميةٍ أكبر من المواد الغذائية، فيما ظلَّ حيدر ينصتُ مستغربًا! مُتسائلًا بحرص: ــ كيف تخرجُ في هكذا ظروف؟ إذا كنت لا تخاف الوباء تذكّر أطفالك، عائلتك؛ فحفظُ النفس واجبٌ و... لم يسكت مرتضى طويلًا ليجيب بعبرةٍ مُتكسرة: ــ إي والله، إنَّ لي طفلًا لم يبلغ العامين ما زال يحاول لفظ اسمي فلا يفلح، وكنتُ أشمه فترتدُّ إلى روحي سكينتها، إلا أنّي بدأتُ أتحرّزُ من الاقتراب منه هذه الأيام؛ حرصًا على سلامته، فأنا أخرج كثيرًا مع المتطوعين لإيصال المؤونة لمن تقطّعت بهم السبل. يجلسُ حيدر أرضًا، يشعرُ ببعض الذنب، فيما يقتربُ مرتضى هامسًا في أذنه: ــ ولو كنتَ في الصين لذهبتُ إليك؛ فان الذي أخرجك بالأمس أخرجني اليوم. يحتار حيدر في أمره ثم يقول: ــ ماذا يحدث؟ فأنا كما تعرفُ أعمى، فهل فاتني الكثير؟ فيتكلم مرتضى: ـــ هل تذكر يا حيدر قبل خمس سنوات في أيامٍ كهذه كيف انطلقت الفتوى وكنتَ أنت ومئات الآلاف تتسابقون لتلبيتها وتعتلون الشاحنات، فيما بقيتُ أنا والطلاب أمثالي ننظرُ بعين الحسرةِ عن اللحاق بكم؟ إذا كنتَ قد نسيت، فأنا لا أنسى كيف انقلبت الأمور بسبب الفتوى واستجابتكم من الخوف والانكسار إلى ذلك المهرجان العقائدي وهو يزفكم إلى سواتر القتال، أما كان لكم أطفالٌ وعوائلُ حينذاك؟! اليومُ انطلقت فتوى التكافل تُهيب بالشباب والتجار والمواكب أنْ تبذل بعض ما بذلتموه. فتساءل حيدر: ــ المواكب؟! الشباب؟! هل هناك حملاتٌ لهذا الأمر؟! وأخذ يردد: بشّرك الله بالخير، بشّرك الله بالخير. مرتضى يقفُ حائرًا؛ لتفاعل حيدر، لكنه يفهم أخيرًا حين علا صوت حيدر فرحًا : الله أكبر، الله أكبر، مرجعيةٌ تحفظ الحرمات، وتنقذ الناس من الحاجة، وتستنهض من كلِّ جيل خيرته، ومن كلِّ نفسٍ ما يُنمّيها. ويستمرُ حيدر وصوته يعلو كأذان: أشهدُ أنّه لم يكن في بيتي خبز، أيُّها الناس هلِمّوا إلى ما يُحييكم، ولم أقصد بالخبز إلا الحياة. أيُّها الناس تنفسوا العزَّ، فقد مرَّ علينا ليلٌ طويل. أيُّها الناس، احفظوها فإنّها صلتكم بابن الزهراء (عليها السلام) و يستمر حيدر، وكأنَّ الحماس أفقده صوابه، لعلَّه ظنَّ أنَّه على أعتاب ساترٍ للقتال! وأما مرتضى فقد انسحب بكلِّ هدوءٍ مُبتعدًا، يسترقُ النظر بين فينةٍ وأخرى لحيدر، وقد فاضت عيناهما شكرًا لله.
اخرىبقلم: لبنى مجيد حسين الزلزلة هل سمعتم بأحدب نوتردام؟ كان قدرنا جميعًا هنا، لك أن تتنفس التدين، المواطنة أو حتى الشرف؛ ليكون مصيرك محدودبًا أو مجهول المصير في زمن الهدام.. لذلك فررت من المدن، تعبت من الموت والزنازين، حاولت أن ألوذ بما تبقى من قرى أو قصيبات نائية، فرغم موت الجلاد، لم يمت مُريدوه. ثم اعقب سقوطه المريع تنفذ قوات اجنبية، أباحت كل شيء وتركتنا للذئاب.. ألم أقل لكم إنّه قدرنا. احتفل العالم العلوي والسفلي بسقوط المسخ، إلّا أنّ ظهورنا ما زالت محدودبة لكثرة ما نحمل من ضحايا التفجيرات والارهاب والطائفية.. هل تصدقون: أنّ ابن عمي زيني كان عسكريًا في القوة الاتحادية؟ وكان يلتحق بمعسكره شمالًا بواسطة مطار بغداد.. لماذا؟ لأن الأرض مرتع ذئاب تتناوش من يغفل فتترك رأسه مقطوعًا على قارعة طريق الوطن.. اضحكوا لا بأس... أنا أيضًا كنت أضحك... أضحك... إلى أن أغصَّ بعبرتي وأنا أتأمل طفليه حتى يعود لهما في إجازة، يحالفنا الحظ أحيانًا فيتأخر اليتم نوعًا ما.. ما زال الوقت مبكرًا، لكني استمتع بأجواء القرية، اتنفس البادية، ازفر الماضي لأخرج دخان الموت من سني عمري. حينما سمعتهم يتكلمون بهمس.. ما الذي يجعل الرجال الأشداء يتهامسون؟ غاب الجميع بعض ساعات ثم حضروا جميعًا. أصوات كثيرة، آراء متضاربة، كلمات متداخلة، وجوه متحيرة، ضجة وهمهمة... سقطت الموصل.. ! الموصل أصلًا بيد عصابات القاعدة تجول فيها منذ أشهر؟ سقطت بيد داعش! من داعش؟ صوت أحدهم وهو يصفهم مرعوبًا خُيّل لي أنه يتحدث عن مخلوقات ممسوخة تبطش بلا رحمة.. آخر يُضيف لو رأيت تكبيرهم لجمد الدم في عروقك! آخر من صدر المجلس يقف غاضبًا لا أفهم هو يطرد المتحدثين أو يعنفهم مستنكرًا دخول الهارب للمضيف.. بعضهم يحدث نفسه: ما شأننا بالموصل؟ آخر يؤنب رفيقه لأنه باع سلاحه قبل فترة! عمي اقترح أن يلتزم كل بيته فلا بد من حماية العرض! أشعر بالخوف يزحف نحوي وعيون الجلاد تحدّق بي مرة أُخرى، أيّن أفر منه؟ هذه المرة اشعر بانكسار مضاعف اتكأت على جدار الغرفة صارت الأصوات بعيدة واقتربت السماء لم أشعر إلّا وأنا في غرفة النوم. البيت هادئ، قفزت من خوفي، أيّنَ الناس؟ تراءى لي جدي يصلي في باحة الدار، جلست أمامه أنتظر فراغه، فيما استمر هو غير آبه بي مستغرقًا في دعائه ووِرْدِه، أو ربما ليس لديه ما يقول.. حاولت أن استمد من جلوسي قربه بعض الأمان، لكنه فاجأني متحسرًا "لا سلاح في البيت"، أخذ عمي سلاحه وجدي يفكر في شحذ سكاكينه.. قلت له: نشتري، فأشار أنه لا مال ولا وقت لدينا. أتذكر أني حاولت نزع قلادتي فسحب يدي بحزم وقال: لا وقت لدينا، اسمعي.. جدي يوصيني بحماية نفسي... وامصيبتاه.. دخل ابن عمي فجأة يتطاير الشرر من عينه وهو يلوم جدي على حديثه ثم صاح بوجهي لأُعدّل حجابي، ثم قال: ادخلي البيت ولا تفكري.. كان يحدث جدي بعض رجالنا في النجف لمعرفة الوضع والأخرين يهيئون أسلحتهم، نصف يرحل ونصف يبقى... لأول مرة اجلس استمع لحديث الرجال من قريب، دخل بعض السادة فقفزت لداخل البيت اسمع صوت جدي مستبشرًا فتوى (فتوى مثل ثورة العشرين(! خُيّلَ لي أنّ الرجال يُهنئون بعضهم.. جارنا كان غاضبًا وقال: داعش ذبحوا الجيش والشرطة وهم الآن في بغداد ومواجهتهم انتحار.. آخر يقول: أنهم مدعومون من دول ولديهم كل أنواع الأسلحة حتى طائرات تنقل لهم.. ابن عمي وجهه مستبشر ينادي إخوته: فتوى، فتوى بلغوا الناس.. لم ينتصف ذلك النهار إلّا وشباب مسلح في كل مكان بعضهم يرتدي الزي العسكري، وبعضهم ما زال بلباسه العربي، عمي يقول: هناك (سيارات كبيرة) على الطريق الخارجي لنقلهم.. إلى أيّنَ؟ لا أحد يجيب.. إلى متى؟ لا أحد يدري.. انظر أطفال ابن عمي يلوذون به، إخوته حوله، بعض النساء خمشن وجوههن، كثرة الناس لم تسمح لي بتوديع أحد.. أمسى الليل والبيت يخلو من الرجال عدا جدي الذي اتخذ مكانًا في باحة الدار مقابل الباب فلا يتحرك عنه طيلة الليل والنهار كانت ليلة النصف لشعبان أشرفت علينا وقلوبنا منكسرة حتى شغل جدي جهاز التلفاز واجتمعنا ننظر التحاق الرجال وتهافتهم على المنشآت، ثم نقل مراسيم الزيارة وعهد الرجال للحسين (عليه السلام)، بعض الخطباء يرتدي البزة العسكرية، بعض الرواديد ألهبوا صدور الرجال بالحماسة كُنّا نتفرج.. شعرت في تلك الليلة أن ظهري بدأ بالاستقامة، لست أنا فقط، حتى جدي لم يعد ظهره منكسرًا بل جلس بكل فخر يتباهى بالتحاق كل أولاده.. سألت جدي: هل فعلًا الهارب لا يجلس في ديوان؟ قال: لم يحدث قبل عندنا ما حدث أمس.. هذا ما أثار حفيظة ابن عمك فشتمه حتى خجل، لا انكر إني ما زلت احسب لو بعت قلادتي وبعض مدخراتي هل بإمكاني الحصول على سلاح؟ اتذكر أني قدرت ما أملك بما يقرب من٦٠٠ الف دينار لكن سرعان ما شعرت بالخيبة فقد ارتفع سعر السلاح إلى الضعف.. اخبرت ابن عمي أريد شراء سلاحاً... فابتسم وأشار إلى عينه.. اشعر أنّ الدنيا بدأت تتغير.. أعرف أنّ احتمال موتنا وارد ولكننا حظينا بشرف التلبية للفتوى وشرف الدفاع عن النفس تحمست وأنا اسمع قول أحدهم: خذوا ثأركم إذا كان لا بد من الموت... فأهلًا به في سبيل الدفاع عن الحرمات.
اخرىبقلم: لبنى مجيد حسين لا أُبالغ إن قلت: بعثنا الله من جديد بفتوى المرجعية للجهاد الكفائي. كنت أُتابع الاخبار من السواتر مباشرة وأقوم بتسجيل خطب المرجعية وأعيد ارسالها للمقاتلين جملة جملة.. كانت مدادهم الروحي للصمود والاستبسال فيما حملوني الكثير من وصاياهم لأهلهم حتى صرت أنسى لمن ولمن.. لكني لم أنس المواقف العامة تلك التي نقلها كل من استطاع الالتحاق والرجوع سالمًا ولو لإيصال جثامين أعزائهم الشهداء إلى أهليهم. الموقف الأول: كان سقوط الموصل نتيجة لأشهر طويلة من الانفلات الأمني والتحشيد الاعلامي ضد الجيش والقوات الامنية بحيث كان التحاق أفراده من خلال المطار لأن من يقع بيد الدواعش وأعوانهم فإنه كان يحرق أو يُقطع رأسه، وحدثت جرائم بشعة وصورت وتم بثها علنًا وبحضور جماهيري بل تعدى الأمر إلى حالات انتهاك وحشي لجموع من الأبرياء لغرض بث الرعب لا غير.. الثاني: رافق ذلك تحشيد سياسي للمطالبة بحقوق الناس المزعومة وتعريض العملية السياسية برمتها للانهيار وفرض الشروط ووظفت قنوات فضائية علنًا لهدم العملية السياسية برمتها وتأجيج كل حالات الانقسام المجتمعي.. الثالث: بعد انتشار ممول لعناصر القاعدة ومجاميع متعدد من الحركات المسلحة ضد الدولة واعتياشهم على أتاوات تفرض على مواطني تلك المناطق تم ادخال داعش وفتح الحدود لكل الجنسيات في العالم والترويج بفتاوى وخطابات دينية للقتل ودخول الجنة والغداء مع الرسول و... من ناحية، ومبالغ مالية مجزية من ناحية أُخرى وإغراء الشهوات الحيوانية في تلك المسوخ بإباحة النساء والتغرير بالبعض الآخر وجبر بعض العوائل على تزويج بناتها للمقاتلين الأجانب بل الترويج لجهاد النكاح مما يستدر اهتمام كل كلب مسعور ويوفر مادة بقائهم للحرب. الرابع: تشغيل ماكنة اعلامية عالمية عبر كل وسائل الاعلام والتواصل لتضخيم أمر داعش واسقاط بعض المدن رعبًا وبدون أي قتال فضلًا عن التغرير بمواطنيها بأنهم الفاتحون الإسلاميون واعلان الدولة الإسلامية وتنصيب الخلفاء وسك النقود وتولية الولاة واقامة الحدود واستعباد الديانات الأُخرى وتكفير الشيعة رغم أنهم اغلبية هذا البلد وتحليل دمهم ومالهم ومطاردة العوائل هناك فهي بين نازح ومقتول ومفقود. الخامس: سقوط محافظات العراق الشمالية تباعًا بيد داعش ووصولهم لأطراف بغداد بشكل مفاجئ وسريع... ثم تنبثق فتوى تسفر عن منشآت نقل ركاب يتسابق على صعودها الآلاف بل عشرات الآلاف من المتطوعين للدفاع بسلاح وبلا سلاح بزي عسكري وبلا زي بمؤنة وبلا مؤنة دقائق تلك الظهيرة وتلك الصور كسبت نصف المعركة مقدمًا لاسيما بعد نشرها على نطاق واسع من قبل المدافعين عن وطنهم. السادس: اتصالات على كل الأصعدة من داخل وخارج العراق وقدوم استشاريين من البلدان الصديقة وصعود مجاهدين عراقيين قدامى وتصديهم للقيادة والتحاق الشباب والشيوخ ورجالات الدين للدفاع معًا وتبني خطة حائط الصد لتأمين سامراء وبلد والشارع العام الواصل لبغداد ومحاولة توفير اسلحة من كل مكان وصعود الرجال بأسلحتهم الشخصية أو بلا اسلحة إلى قلب المعركة.. السابع: عدم استيعاب معسكرات التطوع الحكومية وانخراط الشباب بكل حركات وتشكيلات المقاومة وبذل أي طريقة للصعود إلى السواتر بغض النظر عن أي فروقات أو تسميات، صعود يترك خلفه قبلة على جبين الأهل لا غير لئلا يكون ذهاب بلا عودة والملتقى عند الحسين (عليه السلام) كما كانوا يقولون.. الثامن: المرجعيات والمواكب والهيئات وحتى ربات البيوت الكل يحاول توفير احتياجات المقاتلين ونقلها مباشرة رغم استشهاد بعض عناصر الدعم وعودتهم شهداء استمر هذا الأمر من أول يوم بشكل دائم حتى بعد اعلان النصر فطيلة سنوات القتال كانت عصب الديمومة الشعبي الذي لم ينضب ببركة الله تعالى وولي عصرنا. التاسع: حث ودعوة المرجعيات لمساعدة النازحين من اماكن القتال وتوطين السنة والمسيح في قلب مدن الشيعة وفي حسينياتهم ومدن الزائرين واستقبال العوائل الهاربة من داعش وحتى المغرر به رغم تخوف تلك العوائل بفعل تأثير الاعلام الفاسد ومحاولة توفير كل سُبل أمانهم، رغم أنين عوائل الشهداء وايتامهم تم استقبال هؤلاء وانطوت صفحة الانقسام المجتمعي بكل لطف ليعود من كان صادقًا منهم بآلاف الصور عن الكرم وحقيقة الشيعة والجنوب. العاشر: تنتهي المعركة.. وتصعد الشهداء.. ويضمد الجرحى.. ويتنافس شخوص الظل لنيل المناصب وسرقة النصر فيتصدى لها المرجع فيحث كل ذي رسالة وقلم على توثيق الحقائق وحفظها للأجيال فتنبري المؤسسات الدينية والهيئات والمؤمنين لجرد ومتابعة سير المقاتلين ونشرها وتوثيقها رغم شتى المحاولات لطمس تلك الفضيلة التي أبى الله تعالى إلّا أن ينشرها على رؤوس الاشهاد.. تعبنا وما مل اعداؤنا من انتهاز كل فرصة لهدم هذا البلد.. وتعبوا وما الله بغافل عن ما يصنعون.. والعاقبة للمتقين
اخرىبقلم: لبنى مجيد حسين الكلمات صُنعة الكاتب، ولكنه قد يقع مأخوذًا بكلمات غيره في موقف ما، صدقها يهز وجدانه بعنف، يتركه اسيرها العاجز عن الرد والتعليق.. في ذكرى انتصار الفتوى تحضرني بعض الكلمات لأيام الحرب عجزت عن ترجمتها بالكتابة.. كلمة للمقاتل (الشهيد علي كاظم) عن سؤال: كيف التحقت بالحشد؟ رد بشكل عفوي: أبي استأجر سيارة وأصعدنا نحن أولاده الخمسة وقال: اذهبوا لتلبية الفتوى وتكفلت أمي بأمر نسائنا وأطفالنا.. اضطرار المقاتل (يعقوب) بسبب قيام شقيقته بغسل ثيابه العسكرية في موعد التحاقه وإخفائها "أنا مضطر لشراء بدلة جديدة كل التحاق".. ذكرى تؤلم المقاتل جميل وهو يروي إبان سقوط الموصل رؤيته لجندي يتحدث في ديوان أمام الرجال كيف أنه هرب بجلده بعد قتل رفاقه بيد داعش، معلقًا: هذا ما لم يحدث من قبل في تلك القبيلة.. قبيلة اعطت ألفًا من الشهداء في إجابة الفتوى لأنهم يأنفون خفض الرأس أمام الساتر أو استدبار عدو.. رسالة لأحد متابعي التوثيق اليومي لقصص المجاهدين على مواقع التواصل.. "اقسم عليك بأبي الفضل أن تتوقف عن الكتابة" ، ثم الاعتذار والتراجع في اليوم الآخر بعد أن تبين أنّ بعض المنشورات كانت قصص رفاق دربه الشهداء وأنه لم يعد يطيق صعودهم وبقاءه.. بث فديو مباشر على مواقع التواصل بعد حصار بالنار لمجموعة من الحشد على سطح منزل وتعليق المصور المقاتل مع ازيز رصاص رفاقه بكل هدوء واريحية بأنها "اجمل لحظات حياتهم" وأنهم سيصمدون حتى آخر نفس ثم استشهاد رفيقهم وإصابة المصور بقاذفة نجى منها لاحقًا موثقًا تلك اللحظات بكلمته المشهورة: سنبذل دونها الوسع. وصية أحد الشهداء يحملها في جيبه معاهدًا على المضي حتى الشهادة قدّمها لي ولده الصغير برفق لأنها كانت مدماة بدم والده لغرض تصويرها قال: خذوها لوكيل المرجع لقد صدق والدي عهده.. تزويج ابنة (الشهيد) المقاتل (ابي عبرة) لأحد رفاقه المجاهدين الأبطال بعد أن كان مهرها انقاذه لمجموعة متطوعين حوصروا في المتقدم بلا ماء، فرضيت بمهر عطر العباس (عليه السلام).. شاب لم يبلغ الثامنة عشرة يدعى (علاء الشاعر) يصعد من رحلة الدرس في البصرة إلى تل عبطة على مشارف الموصل لتحريرها مرورًا بكل المعارك في الطريق إليها... خبر استشهاد خمسين شابًا دفعة واحدة أول صعودهم في مطلع الفتوى، مهلًا.. ثم صعود خمسين آخرين مباشرة ليسدوا مكانهم.. يا الله، ألهمنا صبرًا من عندك وثبات.. ركض (الشهيد حمودي) بعد نفاذ عتاده ليس باتجاه رفاقه بل باتجاه داعش يقاتلهم حين الاشتباك.. تعب قلبي من استذكار كل تلك الصور واعجزني عن بوح المزيد...
اخرى