تشغيل الوضع الليلي
العيدُ في بيتِ الشهيد
منذ 5 سنوات عدد المشاهدات : 1173
بقلم: وفاء لدماء الشهداء
صباحُ العيدِ صباحٌ بهيُّ الجمالِ، تتعالى فيه أصواتُ الدعاءِ، ونلمحُ فيه سعادةَ الأطفال، وأما في بيتِ الشهيدِ فتعصفُ الذكرياتُ بالأيتام، فيتذكرون ما مضى من الأيامِ، حين كانتْ رائحةُ الكعكِ الذي تُعدُّه الأمُّ تمتزجُ بأنفاسِ الأبِ الحنون، الذي رحلَ كحمامةِ سلامٍ، ولم يعُد بينهم في هذا العيد، ولكن يبقى هديلُها على شبابيك حياتهم، يُعيدُ شريطَ ذكرياتٍ جميلة، حيثُ الأثواب المُلوّنة والألعاب اللطيفة والبسمات البريئة والفرحة الغامرة بقدومِ العيد وارتداءِ الجديد.
ولا ريبَ أنَّ هؤلاءِ الأطفالَ الذين فقدوا آباءهم في سني طفولتِهم هم بحاجةٍ إلى من يُبلسِمُ جراحهم، ويمدُّ يده ليمسحَ على رؤوسِهم، ويُخفف عنهم، ويسعى بكلِّ ما يستطيع ليرسمَ من جديدٍ البسمةَ على وجوههم، وهذا أقلُّ وفاءٍ منّا لدماءِ آبائهم؛ فهم بقيةُ الشهيدِ وكلُّ ما يُفعَلُ بحقِّهم سيبقى ضئيلًا قبال تضحياتهم.
فهنيئًا لمن يُفكِّرُ في زيارةِ بيتِ الشهيد قبل زيارةِ الأصدقاء، ومباركٌ لمن يحملُ همَّ أبناءِ الشهداء، وطوبى لمن كان همُّه أنْ يُدخِلَ السعادةَ والهناءَ إلى بيوتِ هؤلاء، فقد وردَ عن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: "إنَّ اليتيمَ إذا بكى اهتزَّ لبكائه عرشُ الرحمن، فيقول اللهُ لملائكته: يا ملائكتي من أبكى هذا اليتيم؟ فتقولُ الملائكة: أنتَ أعلمُ، فيقول الله (تعالى): فإنّي أشهِدُكم أنَّ لمن أسكته وأرضاه أنْ أرضيَه يومَ القيامة".
والمتأملُ في الآياتِ والرواياتِ يلحظُ مدى الاهتمام الذي كُرِّسَ لموضوعِ الإحسان إلى الأيتام، وكيفية إحاطتهم بسياجٍ من الحُبِّ والدفء والاحترام، فالقرآنُ الكريمُ يشدِّدُ على أنْ يحيا اليتيمُ وسَطَ المجتمعِ بشكلٍ سليم، ويحثُّ على عدمِ قهره ونهره فيقول: "وأما اليتيم فلا تقهرْ".
كما ويُبيّنُ الإسلامُ أنَّ رعايةَ الأيتامِ لا تقتصرُ على إطعامِهم وإيوائهم، بل تتعدى إلى الاهتمامِ بهم بحيثُ يسعى المرءُ إلى تعويضِهم عن حنانِ وعطفِ والدِهم. وعليهِ لا بُدَّ من رعايتهم اجتماعيًا ونفسيًا، والسعي لإدراجِهم في المجتمع، وفسحِ المجال أمامَهم للتعبيرِ عن أنفسِهم ورسمِ المسار الصحيح لهم ليكونوا أعضاءً نافعين.
ومن جهةٍ أخرى حثَّ الإسلامُ على رعايةِ الأيتامِ ماديًا بتوفيرِ احتياجاتِهم حتى يشتدّ عودُهم ويستطيعوا الاعتماد على أنفسِهم، فقد وردَ عن رسولِ الله (صلى الله عليه وآله): "من عالَ يتيمًا حتى يستغني أوجبَ اللهُ (عزّ وجل) له بذلك الجنة".
والأحاديثُ في هذا المجالِ كثيرةٌ، نلمسُ من خلالِها مبلغَ حرصِ الإسلام على رعاية الأيتام من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى الآثار العظيمة المترتبة على ذلك: كرفعِ الدرجاتِ وزيادةِ الحسنات، وبلوغ الجنان ورضوان الرحمن، فهذه كُلُّها محفزاتٌ للعنايةِ بهذهِ الشريحةِ المهمة التي كواها اليُتمُ وأضرَّ بها الألم.
فتعالوا لنجعلَ هذا العيدَ مختلفًا في بيتِ الشهيد، هيّا لنمُدَّ اليد فنمسحَ على رؤوسِ أيتامه، لنأخذَهم في نزهةٍ مع أطفالِنا، لنُدخلَ الفرحَ والسرورَ إلى قلوبِهم الرقيقةِ بشراءِ الملابسِ الجديدة، كما نشتري لأعزِّ أولادِنا. هيّا لنمدَّهم بالأملِ والتفاؤلِ ونوحي إليهم أنّهم سيتمكنون من صنعِ حياتِهم وتحدّي ظروفهم، ونذكرُ لهم قصصَ الأنبياءِ والعُظماءِ الذين تحدّوا يُتمَهم وواجهوا كلَّ عسيرٍ اعترضَ طريقهم، حتى لمعَ نجمُهم، وسطعَ في الآفاقِ ذكرُهم.
دعونا نشدُّ على أيديهم ونقول لهم: إنّنا سنبقى معكم، وإلى جنبِكم حتى تحقيق أهدافكم، والتمكن من حملِ لقبِ والدكم ووسام الشهادة الذي نالَه من أجلِ سعادتِكم وجمالِ مستقبلكم.
اخترنا لكم
إذا كان العمل صالحاً فلماذا العقيدة؟
إذا كان العمل صالحاً فلماذا العقيدة؟ للجواب على هذا التساؤل يحب علينا ان نعرف اولاً معنى العقيدة ولو على نحو الإجمال. العقيدة مأخوذة من العقد والشد، فهي مجموعة من الأفكار والقيم التي يرتبط بها القلب ارتباطاً وثيقاً على مستوى التصديق والتدين، وعليه يكون موقعها القلب، وقد صرحت الروايات الشريفة بأن الإيمان الحقيقي هو ما يستقر في القلب لا ما يتلفظ به اللسان فقط, فعن أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله عن الإيمان فقال: (تصديق بالقلب, وإقرار باللسان وعمل بالأركان)(1) لكن هل البحث عن العقيدة هو أمر واجب لازم على كل إنسان أم أنه أمر اختياري؟ إن البحث عن العقيدة هو أمر ضروري واجب، ووجوبه عقلي، بمعنى أن العقل هو من يحتم البحث, وذلك للإجابة عن الأسئلة الفطرية التي تولد مع الإنسان (من خالقنا؟ من أين أتينا؟ والى أين نذهب), فإن هذه الأسئلة يجب على العقل الإجابة عليها, ومن حيث كون هذا الوجوب هو وجوب عقلي فلا بد إذاً من تحصيل أجوبة لهذه الأسئلة. والدليل على كون وجوب البحث عن العقيدة هو عقلي هو (دليل دفع الضرر المحتمل) وهذا ما يذكر في علم الكلام ومفاده يتبين بالمثال التالي: قد يقدم إلى شخصٍ ما قدح ماء وهو يشعر بالعطش الشديد لكنه يحتمل نسبة احتمالية ضئيلة جداً, بأن هذا الماء مسموم،, فمن البديهي هنا أن العقل سيبحث عن حقيقة هذا الأمر ولا يجازف قطعاً بتعريض نفسه للهلاك حتى يتأكد بالدليل القطعي من حقيقة هذا الماء, ونظير هذا الأمر يسري في مسألة البحث عن العقيدة، إذ إن العقل يعلم بوجود رسل قد جاؤوا برسالات سماوية وأن هناك خالقاً لا بد أن يُعبد وله أوامر يجب أن يطاع فيها, وأنه سيثيب من أطاعه ويعاقب من عصاه, وكلٌ من الجزاء والعقاب سيكون أبدياً، لذا يحكم العقل بوجوب البحث عن هذه الحقيقة ليكون آمناً. وهنا لابد من الإشارة الى أن هذه الأجوبة يجب أن تكون أساساتها أساسات عقلية وأدلتها يقينية قطعية لا ينفع فيها الظن ولا التقليد أبداً. وهناك أدلة من القرآن الكريم يمكن أن يرجع إليها الفرد بعد أن يحصل الأدلة العقلية فتكون أدلة إمضائية لما حصله العقل فتسنده وتقويه, وهي آيات كثيرة يحث الله تعالى عباده فيها على التأمل في خلقه جل وعلا, ومنها قوله تعالى (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ) (2) بل إن الله عز وجل يؤكد على تقديم العقيدة على العمل في آيات عديدة, حيث قال عز من قائل (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَىٰ لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) (3) إن الله تعالى جهز الإنسان بآلات عديدة وكرمه بالعقل, وبه يستطيع أن يميز العمل الحسن من القبيح حتى وأن خُليَّ من الشريعة السماوية, حيث أعطى الله جل وعلا قابلية استحسان الصدق ونبذ الكذب, والركون الى الحب والسلم والنفور من البغض والعدوان, والرغبة الدائمة بالعدل ومقت الظلم, وما الى ذلك من أمور مشابهة لها, وعليه نستطيع أن نجزم ونقول بأن مسألة القبح والحسن هما أمران عقليان وجاء الشارع المقدس فأكّدهما وأمضاهما. فهنا هل من الممكن أن نعتمد على العقل باعتبار أن الحسن والقبح عقليان؟ في الحقيقة لا يمكن هذا عملياً وإن أمكن نظرياً، وذلك لأن العقل قد يتعرض للمؤثرات الخارجية من أفكار خاطئة وقضايا منحرفة أو لنقل نتيجة تلبس الحق بالباطل مما يؤدي الى عدم قدرة العقل حينئذٍ من التمييز بينهما, لذا لابد له ممن يسنده ويرشده ويقومه إذا ما مال وانحرف، وليس هذا إلا الشريعة, وحيث إن الله تعالى لطيف بعباده رؤوفٌ رحيم بهم, لذا أرسل الرسل ليقوموا العقل وليأخذوا بيده ليصل العبد الى ربه مطمئناً. وإذا تدبرنا آيات القرآن الكريم نجد أن الله تعالى أشار بأن من عمل عملاً وإن كان صالحاً فما لم يكن مصاحباً للعقيدة فإنه سيكون كالهباء المنثور في يوم عاصف لا أمل له ولا فائدة ترجى منه، كما في قوله تعالى (وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا ۗ لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَىٰ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا (22) وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا)(4) إذاً الأساس في العمل وإن كان صحيحاً أن يكون متكئاً الى عقيدة تسانده وتقومه حتى يكون هذا العمل مثمراً. ________________________________ (1) بحار الأنوار للعلامة المجلسي/ج66/ص68/ ح22 (2) سورة آل عمران: آية 190 (3) سورة الرعد: آية 29 (4) سورة الفرقان: الآيات 21,22,23 يا مهدي أدركني
اخرى
امرأةٌ من الماءِ
بقلم: حيدر عاشور صوتُ أمِّها أجملُ أرثٍ بقي لها يُحيط بها كالهواء. بقيت وحدها تصارع الحياة، بلا جرأة ولا خبرة، بعد أنْ غادرت أمُّها إلى مليكها المقتدر. البطولةُ الجميلةُ التي قدّمتها، قد تكون ساذجةً، لكنّها تشعر أنّها حققت رسالةً ستفتخر بها عند من لا يضيع عنده عمل عامل. فكيف إذا كانت خدمتها لمن كانت الجنة تحت أقدامها..؟! ببساطةٍ إنّه استسلامٌ لواقع حالها، بعد أنْ ضاق عليها البيت الذي كان يومًا يشبه النهر، أصبح صامتًا فارغًا من الحياة. الليلُ يهبط، وغرفُ البيت أبوابُها مغلقة. الصورُ على الحائط آخر بقايا الوجوه التي ملأت حياتها، أمست معتمةً يُضيئها ضوءٌ منعكسٌ من النوافذ يمنحها نوعًا من الاطمئنان والهدوء. الأمرُ قد تجاوز الحزن فالأمُّ الراحلة أخذت حنان أخواتِها الأربع، وما عاد جرس الباب يُدَقُّ كالسابق، إنّه هادئٌ كهدوئها ووحدتها. توقف عن الدقِّ كما توقفوا عن السؤال عنها، فالأخوات نسينَ وعودهن وتنكّرنَ لوصيةِ الأمِّ؛ لأن المال كان دائمًا ثمينًا، والنفوس يغلبها الطمع. لم يبقَ قربانًا أبيض تُقدمه كتضحيةٍ لحياتهن ونضوجهن. وهي من قبلت أنْ تكون مع الجنة رغمَ فُرصِها الذهبية في الزواج، فجمالُها كان يفوقُ جمال أخواتها، ويُثير الانتباه والحسد والرغبة لكلِّ من يراها، كانت ملامحُها بيضاء كالثلج، دقيقةَ الأوصاف، الجبهةُ ناصعةٌ وعريضة، والوجنتان متوردتان، والعينان اللامعتان، والأنف المميز بحجمه الصغير والمُثير باستقامته، ودمُها الخفيف، وابتسامتُها الودود، تجعلُ كلّ من ينظر إليها من الجيران وأهل المنطقة يُطلق عليها اسم (الملاك)، ويمازحنها العجائز بقولهن: "إنّكِ القديسة يوسفية". كانت حياتُها بعد أنْ تركت المدرسة بوقتٍ مبكر قد أضفت إلى شخصيتها الكثير، وهي تقود أسرتها بهذه المثالية العالية والتضحية التي قلَّ نظيرها في زمنِ خلط الأوراق والوصول بطبائع البشر إلى القمم في الكذب والنفاق والإلحاد والإيمان والمعرفة والعلم، كلُّها قممٌ، والكلُّ يرى نفسه أفضل من الآخر، لكن لم يفهمْ أحدٌ ما يختلجُ في صدرها سوى أمها، والآن قد رحلت. بدت "يوسفية" في حالةٍ صعبة جدًا، وشديدة الارتباك والإحباط، لا تعرفُ بماذا تُجيب على عروض وطمع أخواتها..؟. أحسّت أنَّ بلعومها يزداد جفافًا، وتنفسها يضيق، فكلُّ تضحياتها ذهبت أدراج الرياح، وأحلامها تلاشت. والبيت بكلِّ أركانه وذكرياته يبدو موحشًا، يسوده صمتٌ لا يقطعه إلا صوت طيور الحب الملونة التي تزقزق وكأنّها تكلمها، تلومها، توبخها. اتسعت عينا "يوسفية"، وبصوتٍ خجول منخفض تكرر متسائلة: - أنتِ أيتها الطيور تحدثيني، أتكون تلك التضحية خاطئة؟! هي حقيقة إنسانية، بماذا تأمرين الآن؟ ياااه، إنّ تضحياتي لم تحققْ نجاحًا إنسانيًا ولو بقدرٍ بسيط من رابطة الدم. أيتها الطيور الجميلة إنَّ تضحيتي، إنّما هي من العظمة بحيث لا يُمكنني التعبير عنها، فهي خالصة لله أولًا، وبرٌ بوالدتي ثانيةً. سحبت نفسًا عميقًا، وعيناها تلمعان شاخصةً صوب الطيور، ورجعت إلى صمتها المطبق كما لو كانت تشحذُ ذاكرتها. ثم انتفضت كمن مسّها شيءٌ خفي لحظتها، فرفعت رأسها ووضعته بين كفيها، وأخذت بالبكاء الممتلئ بالجزع، ونشيجه يعلو ويهتز له كلُّ جسدها الرطب والمحروم، قرارُها كان فيه نوع من التنازل، قرارٌ تجمعت فيه كلُّ مشاعر الخجل والغضب والرغبة في ردِّ اعتبارها أو الانتقام من أخواتها لما فعلن بها من التهجير الروحي والنفسي والمكاني، قرارُ الانتقام هو نتيجةٌ كتمتها في قلبها الطيب. قد انصهرت فجأةً على صوت زقزقة عصافير الحب، وانفجرت لتملأ البيت بالصراخ والدموع التي لم تتوقف إلا بدقِّ جرس الباب. فتحت الباب، كانت خائفةً فهي أمام الأمر الواقع، فنظرته الماكرة والمستذئبة كانت بمثابة ضياع خمسة وثلاثين عامًا من عمرها، فمالت لائذةً وراء الباب منتظرةً صاعقة الطرد من البيت، حالمة من هذا المالك الجديد لذكرياتها وأنفاس والديها، أنْ يمنحها وقتًا يسيرًا حتى تدبر أمرها. جرجر طلبها نفسه بتمنٍ هادئ، تاركًا خلفه خيط أملٍ رطب.. فجأةً ومن دون وعي، ظهرت أمامه وتدفقت كلماتها وأفكارها في موقفٍ لا يرحم، أحيانًا تأتي المفردات من تلقاء نفسها، تحمي الإنسان من مهالك القدر، رفعت رأسها لترى وجهه، نسيت نفسها لوهلةٍ وهي تنظر إلى عمقِ عينيه، وانتشرت على وجهها ابتسامة رقيقة خجولة، حنت رأسها وأخذت جانبًا وهي تُردد باستيحاء: ــ تفضل إلى بيتك، لديَّ ما أقوله لك، هداك الله على مسكينةٍ ويتيمة مثلي. فأجابها بلهجةٍ فيها اشمئزاز متعالٍ في قبول دعوتها للدخول إلى بيته، كان رجلًا بشرته شديدة البياض، وله عينان واسعتان ومدورتان، سوادهما ملفتٌ للنظر مثل شعره، وجبينه متميز بعلامةِ تعفيرٍ واضحة، وهي إحدى علامات الإيمان والتقوى. لم تكن "يوسفية" تعرف الشوارع التي يعتاش منها الناس، إلا ما عرفته من بيت والديها ومن أخواتها وأزواجهن الذين يأتون إليهم ويخرجون. وكان حبُّ أمها مقدسًا يحجب عنها رغباتها، كالقمر والشمس يحجبان عن أشياءٍ كما يحجبان عن الوجوه. فهي فتاةٌ خام في أطباعها وقعت فريسة خيانة أخواتها، فمن يدخل وجر الصبر والانتظار والتضحية لا يملك انْ يخرج حافيًا من الحياة. صوتُ زقزقة طيور الحب يقطع صمتها أمامه، ويبعث بصيصًا من النور يخترق البيت الهادئ، تنظر إلى سورة الكرسي تقرأها بقلبها: يا الله سنواتي العجاف مثقلةٌ بالذنوب، وأنت أعلم بها فكلُّ ذنوبي وهي كانت تصبُّ في رضا أمي وسعادة خواتي. ما الذي يريدونه مني، يلاحقونني حتى في وحدتي، وبما ضيعته في تيهِ فتاةٍ اختارت سعادة الآخرين، ولم تعي بما اختارت ليصبح عليها فجر الوحدة المصبوب بالكوارث. قطع توسلاتها الصامتة: ــ إلى ماذا تنظرين أيّتها السيدة؟ وماذا تريدين مني؟ كوني شجاعة وصارحيني برغباتك..؟ وضعت (يوسفية) يدها في حضنها متشابكة ورفعت بصرها، كان وجهها بين الهدوء والقلق والحذر، ثم أجابت : ــ لا أعلم، فذلك يعتمدُ على مدى قناعتك بما سأقوله لك بكلِّ صدقٍ وأمانة. فوجئ (المالك) بقولها بعض الشيء، وراقبها بالنظرات بضع لحظات، ثم قال بنوعٍ من التهكم: ــ حسنًا، أسمعكِ. غام وجه (يوسفية) وأجابت مغتاظة قليلًا: ــ أنت تريد البيت وهو الآن أصبح ملكًا لك رسميًا، لكن سأقصُّ عليك قصتي، ولكَ الأمر في تحديد مهلةٍ ليّ حتى أجد مأوى يحميني بعد خروجي من بيت أمي وأبي بهذه الطريقة البشعة التي خطط لها أعز الناس لروحي. قد يكون ذلك غير مقبول، ولكن لابد من أنْ تسمعني .. شرعت (يوسفية) تروي ما قدّمته من تضحيةٍ لأمها وأبيها وأخواتها البنات، وتوقفت عند منح أمها البيت لها؛ لأنها البنت الكبيرة المطيعة والخادمة لكلِّ عائلتها بقناعةٍ مطلقة وخاصة محبوبتها أمها. وكيف اعترضت وقتها لكون البيت حقَّ الجميع؟! وحينئذٍ تدبّرت أمها وسيلةً لحمايتها، فقد كتبت وصيةً أن لا يباع البيت حتى تتزوج (يوسفية) أو تموت، احتقن وجهها بالدماء وكان غامقًا من الخجل، وهي تضعُ أمامه ورقة الوصية، فأردفت أمامه قائلة: - عرسانٌ كُثُر عرضوا عليّ الزواج في حياة أمي، وإغراءات كبيرة كنت أتعرض لها من قبل نسوة المنطقة وغيرهن من النساء. لكن لم أفكر سوى بأمي المريضة التي تحتاجني بقربها وأخواتي الضعيفات يجب أنْ أؤمن لهن حياتهن بزيجاتٍ محترمة وقد نجحت.. والآن أقابلُ نجاحي بمصيرٍ لا أعلم كيف سيكون في المستقبل؟ الحقيقة يا سيدي، حين يقدم الإنسان حياته للآخرين لا يشعر حتى بنفسه أو بالإغواء، لو كنت قبلت بالإغواء لتزوجت بسرعة الرصاصة، ولكن لا يُغريني سوى ما يُمليه عليَّ ضميري اتجاه أمي المقدسة. كنت آمل أنْ لا يُقبل عليّ أحدٌ للزواج طالما أمي على قيد الحياة، هنا صكّت بأسنانها على شفتها السفلى، وأخفت وجهها على نحوٍ غريب تحت عباءتها. تبع ذلك ثمة فترة صمتٍ طويلة بين المالك و(يوسفية)، وكان منظرها يوحي بالثقة والقناعة، والتحفظ الذي يتباين منها، يشبه القديسات أو الملائكة في سلوكهن الاستثنائي، ذلك الألق المتوهج لشعلةٍ جوهرية نادرة، يُدركها كلُّ من ينظر إليها ولو لمرة واحدة.. عندها تصلّب وجهُ المالك، وتساءل بصوتٍ حزين وودود: ماذا تريدين مني؟ فكلُّ الذي ستطلبينه سيكون قيد التنفيذ وبلا تردد. بدت على وجهها نظرة انبهار وحيرة ممتلئة بالتعبيرات والتوسلات، وقالت: ــ شهران أو ثلاثة وأسلمك البيت، إذ لم أغالِ في تحديد المدة.. رمقها المالك بنظرةٍ كادت أنْ تكون مفتاح الفرج لـ(يوسفية)، وقال: ــ (تمامًا) مثلما ترغبين، أما رغبتي هي أنْ تبقي في البيت لستة أشهر، هل هذا يكفيك حتى تجدي مخرجًا لحياتك؟ غلّفتها شحنةٌ من الفرح، وهي تُعيد كلمات الشكر له، والتضرع لله تعالى أنْ يفتح له أبواب مقادير الرزق على مصاريعها، كانت تبدو أمامه وكأنّها طفلةٌ كبيرة مُنحت جائزةُ البقاء على الحياة، مندهشة حائرة قليلًا، كما لو لم تصدق ما قاله. مع ذلك كانت تؤمن بحدسها بما هو آت، وشعور عن شيءٍ ما قادم لم يجئ وقته بعد، أحسّت أنّها ارتفعت عن الأرض وبدأت تمشي في الهواء دون أي استقرار. ظلَّ سحرُ انتصارها المؤقت قائمًا في روحها بعد أنْ غادرها قلق التشرد في الشوارع. وشعرت أنّها تحررت من التوتر والضيق الناجمين عن لقاء المالك. لقد حسم أمرها بكلمةٍ وختم وبصم بعهدٍ أنْ لا يصلها إلا بعد ستة أشهر، بهذه البساطة كأنّه وضع بذرةً في قلبها فتكونت منها نوبة حادة التفكير والمراجعة لكلِّ نظرةٍ وكلمة، وبنشوةٍ كان قلبها يكشف لها اكتشافًا لا يُصدّق، لا يعرفه أحد سوى نفسها والنبض الذي يرتفع مع كلِّ خيال. بدأت تتحدث إلى نفسها: إنّ نظراته الماكرة والمستذئبة تنمُّ عن تجربةٍ حياتية غنية بالمعرفة، وقد لوّحته الشمس مما تزيد من جماله رغم هيأته الدالّة على الجمود والجد، والأخطر مزاجه المتخفي الذي لا يُعرف له قرار، أو يقهر أمزجة الآخرين. طوله يُشير إلى فحولةٍ مكبوتة، أنيقٌ له مظهر الأثرياء. لأول مرةٍ يغزوها مثل هذا الشعور! قد يكون الرجل الوحيد الذي رأته بهذه الطريقة فأثار فيها نشوةً غريبة وإحساسًا حقيقيًا، فهتفت مع نفسها: يا الله! ما هذا الشعور؟! وظلّت مستغرقةً في مُخيلتها، لا تعي ولا تصدق ما كان يجري حولها وقد انتهى بهذه السهولة. والغريب أنَّها شعرت بالشوق لرؤيته مرة ثانية، فثمة شيء من ضوء الحب قد تسلل إلى قلبها بعد كلِّ ذلك الخيال المُفرح، ولكنّها تضايقت؛ لأنَّ نفسها اللوامة غزتها على حين غرة، لتؤكد لها أنَّ كلَّ خيالها ومُخيلتها خطأ، وأنَّها تخدع نفسها بنفسها، وعليها أنْ تُفرغ دماغها وقلبها من هذا الهوس، وأنْ تجعل نفسها منيعة عن وسوسة الشيطان. لقد سعت طيلة حياتها أنْ تجعل روحها مقدسة وجسدها منيعاً لا يمكن مهاجمته خارج الخطوط الشرعية والأحكام النبوية والسنن الإلهية، رغم أنَّ روحها كانت معذبة، ولكن لم يكن في مقدور أحدٍ أنْ يذلها أو يسخر منها. والحقيقة أنَّ كلُّ من يعاديها كان أدنى منها في الإنسانية والصبر والإيمان، كما كانت تعلم أنَّ من يحاول أذيتها ويهرب منها ويسعى للانفصال عنها نهائيًا إنّما يفعل ذلك ليجردها من نقائها واحترامها لنفسها وإيمانها المطلق بالله تعالى. ولم يسعَ إلى ذلك سوى أخواتها! فهُنَّ اللواتي عرّضنها للتجريح والاستهزاء والكيد، وحاولن تركها وحيدة في الحياة، ومع كلِّ هذه الأحقاد كانت تمتلك القدرة على الاحتفاظ بهن، كما حاولت مرارًا وتكرارًا أنْ تنبههن إلى أنّها أختهن الكبرى، لكن بلا جدوى وصرختها مُجمجمة، لا تُسمع، ولا يرقُّ عليها قلبٌ، وهي تموت وتحيا بين شوقها وخوفها الدائم من ابتعاد أخواتها عنها إلى الأبد. وصلت إلى شعورٍ خارقٍ باليأس، وأعلنت في نفسها عن عجزها، والانزعاج ارتفعت مقاديره النفسية حدَّ اللعنة، إنَّها تفشل في الاحتفاظ بأخواتها رغم كلَّ ذلك الحب وتلك التضحية، عمرها قد تقدّم، ووجهها بدأ يشيخ، وشعرها الذي كانت تمشطه أمُّها لم يعد ينساب كالسنابل الصفراء الذي تتحسس نعومته مما يزيدها ألقًا وجمالًا. والآن هي وحدها تساوم على البقاء في ذكرياتها، بينما أخواتها قد أخذن حصصهن من الإرث، ويتنعمن بها مع أزواجهن، أما هي فلم يعد نصيبها من الإرث يعنيها، فهو في تناقصٍ مستمر حتى بات غير كافٍ لسكن جديد، رغم أنّها اختصرت الكثير من وجبات الغذاء، وأنهكت نفسها بالصيام، لا تأكل سوى وجبةٍ واحدة تُسكت بها صراخ بطنها من الجوع. وانقضت أيامها بسرعة البرق واشتغل قلقها نحو المالك وموعد تسليم البيت من جديد، ولعنةُ فكرة طردها من البيت من قبل ذلك الكائن الذي سكن روحها وبنفس الوقت هو من سيُمزِّق كلَّ أملٍ في البقاء، لم تعد تعي شيئًا مما حولها، تشاؤمها يرسمُ في عقلها شرورَ هذا العالم، وأنَّ الرحمة والإنسانية والأخوة صارت حلمًا في لهب الضياع، عيناها لم تذوقا طعم النوم، وعذابُ نفسها طنينٌ في الأذن يطحنُ روحها ويشلُّ صبرها، يُعطلُ حواسها بمرارةِ قسوة الوحدة، طنينٌ أشبه بالرنين يسحقها ويخذلها يخنقها، يميتها في آنٍ واحد، حتى بدأت تنهار، وهي تدمدم وتتنهد مع نفسها: - العمر سينطفئ بعد شروق الشمس، والعذاب والتشرد سيكونان عالمين جديدين من الضياع، سأنهي ذلك الأمر المعادي والظالم بطعنةِ سكينٍ حادة وأرتاح من هذه القسوة، وليقولوا إنّها انتحرت نتيجةَ خيانةِ العهد بين أمها وأخواتها... لا، أخواتي مسكينات لا يعرفن حقوق الله تعالى، أخاف أنْ يصيبهن مكروهٌ بسببي. وبين فكرة إنهاء حياتها وخوفها من الله تعالى أنْ يصبَّ عذابه على الناكثات للعهد، رنَّ جرس الباب، وانطفأت كلَّ الآمال ومات الخيال، وأصبحت كجثةٍ تتحركُ بصمتِ الموتى، تسعى بنفسها نحو المجهول، قلقةٌ، بانتظارِ رحمة الله تعالى تنقذها من الهيام في الطرقات لا سقف يحميها ولا أقرباء قريبين تلجأ إليهم، حتى أخواتها لا يرغبن بها بسبب أزواجهن، هكذا هي عندما تتراكم عليها الشدائد ويظهر الألم المروّع في قلبها وروحها، يجعلها مشلولةَ الإرادة والتفكير، لا أحد يعرف معنى ترك بيت لم تخطُ عتبته ثلاثين سنة، ولم تضرب الشمس وجهها، لقد ألحقوا بها الذل والأذى وهن يرفضن بوقاحة وصلافة إيواءها بحججٍ واهية، ويتعاملن معها كطيرة جميلةٍ أزف وقت ذبحها، تقتربُ إلى الباب وترسل إليها نظراتٍ مبهمة، كأنها تتوسل بها، وقعت عينيها على حرزٍ وضعته أمّها لوقتِ الشدائد، بدأت تقرأه على أصوات رنين الجرس المستمر: "يا مالك الرقاب وهازم الأحزاب، يا مُفتح الأبواب، يا مُسبب الأسباب، سبب لنا سببًا لا نستطيع له طلبا..."، سرت في أوصالها راحةٌ بمنتهى الدهشة، غير مصدقةٍ نفسها بالفكرة التي راودتها هي أنْ تسأله مدةً أخرى ريثما تجدُ بيتًا للإيجار، أو يأخذ مال إرثها بدلًا عن بقائها في البيت، أو مساعدتها في إيجاد بيتٍ في المنطقة نفسها. فتحت الباب، وقفت أمامه بلا خوفٍ أو تردد، وهي تسأله المساعدة قدر إمكاناته، كأنّها تتمرد وترسل باستمرار نداءات توسلية تتكسر على فمها وروحها، الفشل والانكسار واضحان على مُحيّاها من شدة البكاء الذي جعل وجنتيها ملتهبتين ومُبتلتين بالدموع، قطع كلامها بصوتٍ رقيق وهادئ وقد تجسّمت على وجهه معاني الإنسانية والرحمة: - لا عليكِ، اهدئي، الدنيا ما تزال بخير، وقد عرفتُ قصتك من زوجتي وهي رفيقة أمّكِ، ونُقدِّر لك مرارة فقدانها كأمٍّ عزيزة. شعرت (يوسفية) فجأةً بحزنٍ جارف وكآبةٍ عميقة؛ لتذكرها موت أمها الذي أصبح ذكرى، وأحسّت على حينِ غرةٍ برغبةٍ جامحة في أنْ يتقبلها على علتها ويحقق حلمها الذي عاشت على أطلاله ستة اشهر. التزمت الصمت ولم تعد تنطقُ بحرفٍ، وكان هو كذلك، يلتزمُ الصمت، محاولًا أنْ يحبس دموعه كي لا تراها. استمر الصمت بعض الوقت وهما لا يزالان عند الباب، وكأنَّ خيطًا من الحياة أخذ يظهر على وجهيهما، وتوهجًا خابيًا راح يتقدُّ في عينيهما. تقلصت شفتا المالك الجديد وابتلع ريقه بصعوبةٍ بالغة، فنطق: - يا يوسفية، ناقشت أمر البيت مع زوجتي، ولأنَّ عشرتنا كانت لسنواتٍ خاليةً من الأطفال.. قررت أنْ أعقد معك اتفاقاً، وهذا الاتفاق على محورين، كليهما في صالحكِ ولخدمتكِ، إنْ قبلتِ فالدار ملكٌ لكِ! وإنْ لم تقبلي أيضًا الدار ملكٌ لكِ، وهذا سندُ البيت قد سجّلته في عقارات الدولة باسمكِ، وهذه رغبتي ورغبة زوجتي والله تعالى المستعان، علمًا يا يوسفية أنا لم أساعدك؛ لأنك وحيدة ويتيمة، بل لأنكِ قد أوقدتِ في قلبي حب الإخلاص لله تعالى وللوالدين وبهذا الإخلاص قد كويتِ قلبي بحبٍ فيَّ لله تعالى من النظرة الأولى، والله تعالى وحده يعلم ماذا جرى بي نحوك! كان شيئًا لم أستطع إعطاء تفسير له، لكنَّ زوجتي وضعت الحروف على النقاط فوجدتُ السعادة تنسابُ إلى قلبي بقرارها. أراد أنْ يُعبر عن عشقه بكلماتٍ مختلفة، ولكنَّ الكلماتِ خانته، فاكتفى ينتظرُ الإجابة وهو مُطرقُ الرأس خوفًا عليها من الإحراج، كما لو أنَّه يحاول الحصول على شيءٍ فقده من زمنٍ بعيد. أما هي فحاولت أنْ تُخفي ارتباكها، فقد أبصرت صورةً طبق الأصل عمّا رسمته في مخيلتها، وقلبها يرتعشُ بالسعادة، ووجهها قد احمرَّ خجلًا، وكشفت له عن رضاها بإحساسها وقلبها، وهي تشعرُ بروحٍ خلّاقة جديدة تدبُّ فيها. هو الله تعالى القادر وحده أنْ يُسبب الأسباب، ويُحوِّل الأحوال، ولو انثنت ملايين الثنيات... تمّــت. 28 / 3 / 2020 الساعة الثانية عشرة وعشر دقائق ليلًا
اخرى
من دروس رحلة الحج... الابتلاءُ متاعبٌ محشوةٌ بكراماتٍ
مما لا شك فيه أن رحلة الحج باقةٌٌ من باقات اللطف الإلهي التي يمن الله (تعالى) بها على الحجيج المخلصين، باقة مضمخة بعبير الحب الإلهي الذي دعاهم فلبوا، ملونة بألوان الثواب العظيم الذي به رغبوا، وموصلة إلى قربه ورضاه الذي إليه سعوا وطلبوا، مُفعمة بالعبر والمواعظ والدروس والفوائد التي بها انتفعوا وبسببها في سلم التكامل ارتقوا... كيف لا وهي رحلة اختُصِرت فيها أصول الدين بأسرها، فهي قصدٌ لله الواحد الأحد وبذا يتأصل أصل التوحيد في نفوس الموحدين، ليترسخ بعد ذلك تحت القباب الطاهرة للمسجد النبوي أصل النبوة حيث قبر خاتم الأنبياء والمرسلين (صلى الله عليه وآله) وبلا ريب لا تكتمل هذه الرحلة المباركة إلا بالطواف حول البيت العتيق الذي تشرف بولادة أول الأئمة وسيد الوصيين (عليه السلام)، وبالبياض الذي يكسو الحجيج أجمعهم من سيدهم الى مسودهم يتجلى عدل إله العالمين، وبحشرهم على صعيد واحد تذكير لهم بحشر الناس قاطبة للحساب بين يدي أحكم الحاكمين. ومن بين أهم الدروس والعبر التي يمكن للحجيج الاستفادة منها والاتعاظ بها هي مرحلية الابتلاء وزوال مرارته الحتمي وفي المقابل خلود آثاره الطيبة إن نجح المؤمن في تجاوزه وحلاوته الأبدية، وهو درس عظيم حريٌ بالحاج والحاجة أن يتأملّا به وهما يشهدان تلك الأماكن التي شهدت على نفوس تجرعت الأسى والعذاب الأليم، بقلوب ملؤها الرضا والتسليم، حباً بربهم وخالقهم العظيم، وشوقاً إلى ما وعدهم به من ثوابه الكريم. فها هي ذي مكة المكرمة لم تكن إلا وادياً جافاً لا زرع فيها ولا ماء، ولا إناس فيها بل كانت مجرد أرض وسماء، وبالرغم من كل ذلك فقد سلَم بطل التوحيد نبينا إبراهيم (عليه السلام) لإرادة أحكم الحكماء، وأودع فيها زوجه الطاهرة وفلذة كبده الذي جاءه بعد طول انتظار وعناء، تركهما دونما تردد أو اعتراض وإنما ودعهما بقلب يملؤه الأمل بالله والرجاء، مردداً:"رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40)"(1) وأما هاجر تلك المرأة المؤمنة فلم تكن إلا راضية لأمر الله (تعالى)مسلمة لما نزل بها من قضاء، وقد ودّعت نبي الله (تعالى) حبيب قلبها الذي لا تُطيق أن تُودع أو تُفارَق مثله سائر النساء، ولمَا لم يزل ألم نوى الحبيب الذي أشعل في قلبها النيران، وإذا بفؤادها يتمزق لصوت ولدها العزيز صارخاً: أمّاه أنني ظمآن، فتحيرت تلك السيدة الطاهرة فلا ماء لديها فتُسقيه وقد جفَ لبنها فلا يمكنها أن ترويه إلى أين تذهب؟! ومن أين تأتي له بالماء؟! وحيثما مدت ناظريها لا ترى سوى أرضاً قاحلةً وسماء قد توسطتها شمسٌ حارقة... يا الله، ما أشد هذا البلاء؟؟!! وبينما صرخات طفلها الغالي تغرس في نفسها الألم بيدَ أن قلبها مفعمٌ بالأمل ويعلوه الرجاء، فيصور لها في الجانب المقابل صورة ماء، فتهرول مسرعةً لعلها تجد غايتها وما أن تصبح في مقصدها حتى يصور لها هذه المرة في الجانب الآخر صورة ماء، وبقيت على هذه الحالة حتى تعبت لكثرة السعي بين الصفا والمروة، ولكن الله (تعالى) لم يخيب رجاءها، إذ أنبع ماءً عذباً صافياً من تحت قدميّ ولدها، فيرتوي هو ماءً وترتوي هي سكينةً واطمئناناً بأن معها رباً كريماً لا يخيب رجاء من رجاه ولا يخذل عبداً سعى اليه ودعاه، فيزداد قلبها الطاهر حباً لله، وتزداد قوةً وثباتاً للنجاح في اختبارها الذي إليها اصطفاه.. ولم يمض وقت طويل حتّى تعلم قبيلة (جرهم) البدوية التي كانت قريبة من مكة المكرمة بتوفر الماء فيها، فيرحلوا إليها وشيئاً فشيئاً تأخذ مكّة بالتحضّر. ولم يكن نصيب النبي إبراهيم (عليه السلام) من الابتلاء في مكة المكرمة هو فراق الأهل والأحبة فقط، وإنما كان له فيها اختبار آخر هو أشد ابتلاءاته وأعظمها ابتلاء قال الله (تعالى) في وصفه: "إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106)" (2)، إذ إن الولد البار الذي انتظره لسنوات طوال أضحى غلاماً يستطيع السعي وبذل الجهد مع والده في مختلف اُمور الحياة وهي الثمرة التي ينتظرها كل أبٍ فكيف بالأب الذي طعن في السن؟! أُثلج صدر النبي إبراهيم (عليه السلام) بغلامه الصالح ولكن ذلك لم يدم طويلاً فقد رأى (عليه السلام) ذلك المنام العجيب الخطير، والذي يدلّ على بدء امتحان آخر ولكنه هذه المرة جداً عسير، إذ رأى في المنام أنّ الله (تعالى) يأمره بذبح ابنه الوحيد وقطع رأسه، فنهض من نومه مرعوباً؛ لأنّه يعلم أنّ ما يراه الأنبياء في نومهم هو أمر من الله (تعالى) مرغوباً، هو حقيقة وليس من وساوس الشياطين، ولما تكرّرت رؤيته هذه ليلتين اُخريين أيضاً، علم أن ذلك بمثابة التأكيد على ضرورة تنفيذ الرؤيا. فكّر النبي إبراهيم (عليه السلام) في إعداد ابنه لهذا الأمر، حيث قال: "يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)"(3). ولم يكن رد الولد البار إلا دليلاً على أنه ابن ذلك النبي ذي الشأن العظيم الذي خاض الابتلاءات الواحد تلو الآخر دون تردد أو تلكؤ بل بقلب كله تسليم، لذا كان النبي إسماعيل (عليه السلام) نسخة من أبيه فقد رحّب بالأمر الإلهي مجيباً والده بكل صبر وثبات: "يا أبت إفعل ما تؤمر" بالرغم من عمره الصغير! مشهدٌ حقاً تحار فيه العقول والألباب، فأيهما أصلب موقفاً؟ وأشد قوةً وصبراً؟ وأيهما أعظم كلماتٍ؟ حيث الأب لا يقصد أبداً خداع ولده، ودعاه إلى ساحة الامتحان العسير بكل وضوح كي يشركه في جهاد النفس الكبير، وليستشعر حلاوة لذّة التسليم لأمر الله (تعالى) كما استشعر هو من قبل. وأما ابنه (عليه السلام) فقد رسخ عزم وتصميم والده في تنفيذ الأمر الإلهي مخاطباً إياه بكلمة (يا أبت) ليوضّح أنّ هذه القضيّة لا تقلّل من عاطفة الابن تجاه أبيه ولو بمقدار ذرّة، وأنّ أمر الله (تعالى) هو فوق كلّ شيء، بل وذكر بعض المفسرين أنه ساعد أباه على تنفيذ هذا الأمر الإلهي فطلب من أبيه أن يُحكم من شدّ الحبل كي لا تتحرّك يداه ورجلاه أثناء الذبح، كما طلب منه أن يشحذ السكّين جيّداً، ويمررها بسرعة على رقبته كي يكون تحمّل ألم الذبح سهلاً على كليهما معاً، كما أوصاه بخلع ثوبين من على جسده كي لا يتلوّثا بالدم خشيةَ أن تلحظهما والدته وتفقد عنان صبرها، كما اقترح على أبيه أن يضع جبينه على الأرض عند ذبحه كي لا تلتقي عيناه بعيني ولده العزيز فتهيج عنده عاطفة الأبوة وتمنعه من تنفيذ الأمر الإلهي. اقتربت لحظات التنفيذ، وعندما رأى إبراهيم (عليه السلام) درجة استسلام ولده للأمر الإلهي احتضنه وقبّله، وفي هذه اللحظة بكى الاثنان بكاء عاطفةٍ إنسانيةٍ من جهة، وبكاء شوقٍ لتنفيذ أمر الله (تعالى) من جهةٍ أخرى. عمل النبي إبراهيم (عليه السلام) بكل وصايا ابنه الحبيب ومرّر السكّين بسرعة وقوّة على رقبته، وروحه تعيش حبّ الله (تعالى) الذي غمرها إلاّ أنّ السكّين الحادّة لم تترك أدنى أثر على رقبة إسماعيل اللطيفة، تحيّر النبي إبراهيم (عليه السلام) في أمرها وأعاد الكرة ولكنها كسابقتها لم تؤثر البتة، وأنّى للسكين أن يستجيب لأمر الخليل بالذبح والجليل ينهاها؟! غمرت النبي إبراهيم (عليه السلام) الحيرة التي لم يطل أمدها إذ قطّـّع أوصالها نداء الله (تعالى) إياه:" يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) "(4) فكان جزاء الله (تعالى) لتسليمهما وبكل وجودهما للأمر الإلهي وطاعتهما المطلقة له أن وفقهما للنجاح في الامتحان، وحفظ إسماعيل من أن يُمس بسوء، ورفع درجتيهما، وجعل إبراهيم (عليه السلام) إماماً، وكرَم إسماعيل (عليه السلام) وأمه هاجر فجعل قبريهما بمقربة من بيته الحرام لا يصح طواف الحجيج إلا بإدخالهما ضمنه! وقد ورد في بعض الروايات أنّ جبرئيل كان يهتف (الله أكبر، الله أكبر) اثناء عمليّة الذبح لتعجّبه، فيما هتف إسماعيل (لا إله إلاّ الله، والله أكبر)، ثمّ قال إبراهيم (الله أكبر ولله الحمد)، وهذه العبارات تشبه التكبيرات التي يردّدها الحجيج في يوم عيد الأضحى. وإكمالاً لبرنامج النبي إبراهيم(عليه السلام) وتحقيقاً لأُمنيته في تقديم القربان لله (تعالى)، بعث الله كبشاً كبيراً إلى إبراهيم ليذبحه عوضاً عن إبنه إسماعيل، وأصبحت فيما بعد سنّة وشعيرة من شعائر الله (تعالى) لا يصح الحج من دون النحر في أرض (منى). إنه لدرسٌ عظيمٌ في التسليم لإرادة الله (تعالى)، وفي المضي في مواجهة المصاعب والصبر على النوائب بقلب كله أملٌ به (سبحانه) ورجاء، وهو درسٌ يشجع الصابرين على التمسك بصبرهم عند الضراء ويحث المؤمنين الى عدم الجزع عند حلول البلاء، وينشر في صدورهم الأمل بالله مهما واجهوا من ألم وعناء، لما ختم به من ختام كله فرجٌ وسرورٌ وبهاء، بل وكرامةً ورضاً منه (سبحانه) إله الارض والسماء.. حقاً أن المحن مهما إشتدت، والبلايا مهما قست، تبقى محشوةً بكرامات وهدايا للعبد المبتلى كما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام)أنه قال:"أفضل الوصايا و ألزمها أن لا تنسى ربك و أن تذكره دائماً ولا تعصيه وتعبد قاعداً وقائماً ولا تغتر بنعمته واشكره أبداً ولا تخرج من تحت أستار رحمته وعظمته وجلاله فتضل وتقع في ميدان الهلاك وإن مسك البلاء والضراء وأحرقتك نيران المحن واعلم أن بلاياه محشوة بكراماته الأبدية و محنه مورثة رضاه وقربه ولو بعد حين"(5) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) إبراهيم 37ــ40 (2)الصافات 106 (3) الصافات 102 (4)الصافات 104و105 (5) مصباح الشريعة ج1 ص70
اخرىالتعليقات
يتصدر الان
لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع
يستشهد الكثير من الناس ــ وحتى بعض المثقفين ــ بقول:" لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع فإن الخير فيها دخيل وعاشر نفساً جاعت بعد شبع فإن الخير فيها أصيل" على أنه من أقوال أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، كما يستشهدون أيضاً بقولٍ آخر ينسبونه إليه (عليه السلام) لا يبعد عن الأول من حيث المعنى:"اطلبوا الخير من بطون شبعت ثم جاعت لأن الخير فيها باق، ولا تطلبوا الخير من بطون جاعت ثم شبعت لأن الشح فيها باق"، مُسقطين المعنى على بعض المصاديق التي لم ترُق افعالها لهم، لاسيما أولئك الذين عاثوا بالأرض فساداً من الحكام والمسؤولين الفاسدين والمتسترين عل الفساد. ونحن في الوقت الذي نستنكر فيه نشر الفساد والتستر عليه ومداهنة الفاسدين نؤكد ونشدد على ضرورة تحرّي صدق الأقوال ومطابقتها للواقع وعدم مخالفتها للعقل والشرع من جهة، وضرورة التأكد من صدورها عن أمير المؤمنين أبي الأيتام والفقراء (عليه السلام) أو غيرها من المعصومين (عليهم السلام) قبل نسبتها إليهم من جهة أخرى، لذا ارتأينا مناقشة هذا القول وما شابه معناه من حيث الدلالة أولاً، ومن حيث السند ثانياً.. فأما من حيث الدلالة فإن هذين القولين يصنفان الناس الى صنفين: صنف قد سبق له أن شبع مادياً ولم يتألم جوعاً، أو يتأوه حاجةً ومن بعد شبعه جاع وافتقر، وصنف آخر قد تقلّب ليله هماً بالدين، وتضوّر نهاره ألماً من الجوع، ثم شبع واغتنى،. كما جعل القولان الخير متأصلاً في الصنف الأول دون الثاني، وبناءً على ذلك فإن معاشرة أفراد هذا الصنف هي المعاشرة المرغوبة والمحبوبة والتي تجرّ على صاحبها الخير والسعادة والسلام، بخلاف معاشرة أفراد الصنف الثاني التي لا تُحبَّذ ولا تُطلب؛ لأنها لا تجر إلى صاحبها سوى الحزن والندم والآلام... ولو تأملنا قليلاً في معنى هذين القولين لوجدناه مغايراً لمعايير القرآن الكريم بعيداً كل البعد عن روح الشريعة الاسلامية ، وعن المنطق القويم والعقل السليم ومخالفاً أيضاً لصريح التاريخ الصحيح، بل ومخالف حتى لما نسمعه من قصص من أرض الواقع أو ما نلمسه فيه من وقائع.. فأما مناقضته للقرآن الكريم فواضحة جداً، إذ إن الله (تعالى) قد أوضح فيه وبشكلٍ جلي ملاك التفاضل بين الناس، إذ قال (عز من قائل):" يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)"(1) جاعلاً التقوى مِلاكاً للتفاضل، فمن كان أتقى كان أفضل، ومن البديهي أن تكون معاشرته كذلك، والعكس صحيحٌ أيضاً. وعليه فإن من سبق حاجتُه وفقرُه شبعَه وغناه يكون هو الأفضل، وبالتالي تكون معاشرته هي الأفضل كذلك فيما لو كان تقياً بخلاف من شبع وكان غنياً ، ثم افتقر وجاع فإنه لن يكون الأفضل ومعاشرته لن تكون كذلك طالما كان بعيداً عن التقوى. وأما بُعده عن روح الشريعة الإسلامية فإن الشريعة لطالما أكدت على أن الله (سبحانه وتعالى) عادلٌ لا جور في ساحته ولا ظلمَ في سجيته، وبالتالي لا يمكن أن يُعقل إطلاقاً أن يجعل البعض فقيراً ويتسبب في دخالة الخير في نفوسهم، التي يترتب عليها نفور الناس من عشرتهم، فيما يُغني سواهم ويجعل الخير متأصلاً في نفوسهم بسبب إغنائه إياهم ليس إلا ومن ثم يتسبب في كون الخير متأصلاً في نفوسهم، وبالتالي حب الناس لعشرتهم. فإن ذلك مخالف لمقتضى العدل الإلهي لأنه ليس بعاجزٍ عن تركه ولا بمُكره على فعله، ولا محب لذلك لهواً وعبثاً (تعالى عن كل ذلك علواً كبيراً). كما إن تأصل الخير في نفوس بعض الناس ودخالته في نفوس البعض الآخر منهم بناءً على أمر خارج عن إرادتهم واختيارهم كـ(الغنى والشبع أو الجوع والفقر) إنما هو أمرٌ منافٍ لمنهج الشريعة المقدسة القائم على حرية الانسان في اختياره لسبيل الخير والرشاد أو سبيل الشر والفساد، قال (تعالى):" إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)"(2) بل إن الانسان أحياناً قد يكون فقيراً بسبب حب الله (تعالى) له، كما ورد في الحديث القدسي: "أن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى فلو أفقرته لأفسده ذلك و أن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر فلو أغنيته لأفسده ذلك"(3) وهل يمكن ان نتصور أن الخيرَ دخيلٌ فيمن يحبه الله (تعالى) أو إن معاشرته لا تجدي نفعا، أو تسبب الهم والألم؟! نعم، ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"اِحْذَرُوا صَوْلَةَ اَلْكَرِيمِ إِذَا جَاعَ وَ اَللَّئِيمِ إِذَا شَبِعَ"(4) ولا يقصد به الجوع والشبع المتعارف عليه لدى الناس، وإنما المراد منه: احذروا صولة الكريم إذا اُمتُهِن، واحذروا صولة اللئيم إذا أكرم، وفي هذا المعنى ورد عنه (عليه السلام) أيضاً: "احذروا سطوة الكريم إذا وضع و سورة اللئيم إذا رفع"(5) وأما العقل السليم والمنطق القويم فإنهما يقتضيان أن تتأصل صفة الخير في الإنسان لملكاتٍ حميدة يتسم بها وصفات فضيلة يتميز بها، لا أن تتأصل صفة الخير في نفسه لمجرد أنه ولد في أسرة تتمتع بالرفاهية الاقتصادية ووجد في بيئة تتنعم بالثروات المادية! وعند مراجعتنا للتاريخ الصحيح نجد أن قادة البشر وصفوة الناس إنما كان أغلبهم ينتمي الى الطبقات الفقيرة من المجتمع، فهؤلاء الأنبياء ورسل الله (صلوات الله عليهم) منهم من كان نجاراً أو خياطاً أو راعياً، ومع ذلك فقد كانوا من أطيب الناس خلقاً، وأعظمهم شرفاً، وأرفعهم منزلةً، قد تأصّل الخير في نفوسهم تأصّلاً حتى غدوا قطعة منه، فكانوا هم الخير للبشر، وهم الرحمة للعالمين. وبالنزول إلى أرض الواقع نجد أن الكثير من الفقراء والمساكين طيبي الروح، كريمي النفس، يتألمون لألم المحتاج ولربما يؤثرونه على أنفسهم رغم حاجتهم. ولا نقصد من كلامنا هذا أن الأغنياء هم على نقيض ذلك، وإنما تأكيداً على مسألة عدم ارتباط تأصل الخير في النفوس وعدمه بمستواهم الاقتصادي الذي نشأوا فيه ارتباط العلة والمعلول، فكما إن بعض الفقراء أخيار، فإن بعض الأغنياء كذلك، والعكس صحيح أيضاً. ومن هنا يُفهم من بعض الروايات ضرورة عدم طلب الخير والحاجات ممن هم أهل للخير بقطع النظر عن مستواهم المعاشي الحالي والسابق، منها ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"أشد من الموت طلب الحاجة من غير أهلها"(5)، وعنه (عليه السلام) أيضاً: "فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غير أهلها"(6) إذن فلا صحة لهاتين المقولتين من حيث الدلالة، حتى وإن تنزلنا وحملنا الجوع والشبع على المعنى المعنوي لا المادي؛ وذلك لأنه حتى من يفتقر الى الأخلاق المعنوية فإنه ما إن يتكامل بالفضائل ويقلع عن الرذائل حتى يتسم بالخير وتحسن عشرته وتطيب للناس صحبته، والعكس صحيحٌ أيضا.. ومن البديهي أن ما لا يوافق العقل والمنطق السليم، ويخالف صريح القرآن الكريم، لا يمكن أن يصدر من وصي الرسول الكريم (صلوات الله عليهما وآلهما)، وعليه لا تصح نسبة هذين القولين الى أمير المؤمنين (عليه السلام).. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الحجرات 13 (2) الانسان 3 (3) عوالي الآلي ج2 ص29 (4) غرر الحكم ج1 227 (5) المدر السابق ج1 ص246 (6) ميزان الحكمة ج4 ص 238 رضا الله غايتي
اخرىبين طيبة القلب وحماقة السلوك...
خلق الله الأشياء كلها في الحياة ضمن موازين وقياسات... فالزيادة أو النقيصة تسبب المشاكل فيها. وهكذا حياتنا وأفعالنا وعواطفنا لا بد أن تكون ضمن موازين دقيقة، وليست خالية منها، فالزيادة والنقيصة تسبب لنا المشاكل. ومحور كلامنا عن الطيبة فما هي؟ الطيبة: هي من الصفات والأخلاق الحميدة، التي يمتاز صاحبها بنقاء الصدر والسريرة، وحُبّ الآخرين، والبعد عن إضمار الشر، أو الأحقاد والخبث، كما أنّ الطيبة تدفع الإنسان إلى أرقى معاني الإنسانية، وأكثرها شفافية؛ كالتسامح، والإخلاص، لكن رغم رُقي هذه الكلمة، إلا أنها إذا خرجت عن حدودها المعقولة ووصلت حد المبالغة فإنها ستعطي نتائج سلبية على صاحبها، كل شيء في الحياة يجب أن يكون موزوناً ومعتدلاً، بما في ذلك المحبة التي هي ناتجة عن طيبة الإنسان، وحسن خلقه، فيجب أن تتعامل مع الآخرين في حدود المعقول، وعندما تبغضهم كذلك وفق حدود المعقول، ولا يجوز المبالغة في كلا الأمرين، فهناك شعرة بين الطيبة وحماقة السلوك... هذه الشعرة هي (منطق العقل). الإنسان الذي يتحكم بعاطفته قليلاً، ويحكّم عقله فهذا ليس دليلاً على عدم طيبته... بالعكس... هذا طيب عاقل... عكس الطيب الأحمق... الذي لا يفكر بعاقبة أو نتيجة سلوكه ويندفع بشكل عاطفي أو يمنح ثقة لطرف معين غريب أو قريب... والمبررات التي يحاول إقناع نفسه بها عندما تقع المشاكل أنه صاحب قلب طيب. الطيبة لا تلغي دور العقل... إنما العكس هو الصحيح، فهي تحكيم العقل بالوقت المناسب واتخاذ القرار الحكيم الذي يدل على اتزان العقل، ومهما كان القرار ظاهراً يحمل القسوة أحياناً لكنه تترتب عليه فوائد مستقبلية حتمية... وأطيب ما يكون الإنسان عندما يدفع الضرر عن نفسه وعن الآخرين قبل أن ينفعهم. هل الطيبة تصلح في جميع الأوقات أم في أوقات محددة؟ الطيبة كأنها غطاء أثناء الشتاء يكون مرغوباً فيه، لكنه اثناء الصيف لا رغبة فيه أبداً.. لهذا يجب أن تكون الطيبة بحسب الظروف الموضوعية... فالطيبة حالة تعكس التأثر بالواقع لهذا يجب أن تكون الطيبة متغيرة حسب الظروف والأشخاص، قد يحدث أن تعمي الطيبة الزائدة صاحبها عن رؤيته لحقيقة مجرى الأمور، أو عدم رؤيته الحقيقة بأكملها، من باب حسن ظنه بالآخرين، واعتقاده أن جميع الناس مثله، لا يمتلكون إلا الصفاء والصدق والمحبة، ماي دفعهم بالمقابل إلى استغلاله، وخداعه في كثير من الأحيان، فمساعدة المحتاج الحقيقي تعتبر طيبة، لكن لو كان المدّعي للحاجة كاذباً فهو مستغل. لهذا علينا قبل أن نستخدم الطيبة أن نقدم عقولنا قبل عواطفنا، فالعاطفة تعتمد على الإحساس لكن العقل أقوى منها، لأنه ميزان يزن الأشياء رغم أن للقلب ألماً أشد من ألم العقل، فالقلب يكشف عن نفسه من خلال دقاته لكن العقل لا يكشف عن نفسه لأنه يحكم بصمت، فالطيبة يمكن أن تكون مقياساً لمعرفة الأقوى: العاطفة أو العقل، فالطيّب يكون قلبه ضعيفاً ترهقه الضربات في أي حدث، ويكون المرء حينها عاطفياً وليس طيباً، لكن صاحب العقل القوي يكون طيباً أكثر من كونه عاطفياً. هل الطيبة تؤذي صاحبها وتسبب عدم الاحترام لمشاعره؟ إن الطيبة المتوازنة المتفقة مع العقل لا تؤذي صاحبها لأن مفهوم طيبة القلب هو حب الخير للغير وعدم الإضرار بالغير، وعدم العمل ضد مصلحة الغير، ومسامحة من أخطأ بحقه بقدر معقول ومساعدة المحتاج ... وغيرها كثير. أما الثقة العمياء بالآخرين وعدم حساب نية المقابل وغيرها فهذه ليست طيبة، بل قد تكون -مع كامل الاحترام للجميع- غباءً أو حماقة وسلوكاً غير عقلاني ولا يمت للعقل بصلة. إن المشكلة تقع عند الإنسان الطيب عندما يرى أن الناس كلهم طيبون، ثم إذا واجهه موقف منهم أو لحق به أذى من ظلم أو استغلال لطيبته، تُغلق الدنيا في وجهه، فيبدأ وهو يرى الناس الطيبين قد رحلوا من مجتمعه، وأن الخير انعدم، وتحصل له أزمة نفسية أو يتعرض للأمراض، لأن الطيّب يقدم الإحسان للناس بكل ما يستطيع فعله، ويقدّم ذلك بحسن نية وبراءة منه، فهو بالتالي ينتظر منهم الرد بالشكر أو المعاملة باللطف على الأقل... صحيح أن المعروف لوجه الله، ولكن من باب: من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق، لذلك يتأذى عندما يصدر فعل من الشخص الذي كان يعامله بكل طيب وصدق. هل الطيبة والصدق من علامات ضعف الشخصية؟ الكثير من الناس يصف طيب القلب بأنه ضعيف الشخصية، لأنه يتصف بعدم الانتقام ممن ظلمه، والصفح عنه عند رجوعه عن الخطأ، وأنه لا يحب إيقاع الآخرين بالمشاكل؛ لأنه مقتنع أن الله سيأخذ له حقه. والحقيقة هي أن الصدق والطيبة وحسن الظن بالآخرين ليست ضعف شخصية، بل هي من الأخلاق الراقية وهي تزيد صاحبها سمواً وجمالاً روحياً، وليس من المعيب أن يمتلك الإنسان الطيبة بل العيب في من لا يُقدّر هذه الطيبة ويعطيها حقها في التعامل بالمثل. فالمشكلة الأساسية ليست في الطيبة، إنما في استغلال الآخرين لهذه الطيبة، نتيجة لعدم عقلنة قراراتنا والاعتماد على عواطفنا بشكل كلي. فالصدق والطيبة حسب المنطق والعقل، ولها فوائد جمة للنفس ولعموم أفراد المجتمع، فهي تحصين للشخص عن المعاصي، وزيادة لصلة الإنسان بربه، وتهذيب للنفس والشعور بالراحة النفسية، فالصادق الطيب ينشر المحبة بين الناس، وهذا يعزّز التماسك الاجتماعي وتقويته من سوء الظنون والحقد، وهذا التعامل أكّدت عليه جميع الشرائع السماوية، ولو تأمّلنا تاريخ وأخلاق الأنبياء والأوصياء لوجدنا كل ما هو راقٍ من الأخلاق والتعامل بالطيبة والصدق... حنان الزيرجاوي
اخرىلا تقاس العقول بالأعمار!
(لا تقاس العقول بالأعمار، فكم من صغير عقله بارع، وكم من كبير عقله فارغ) قولٌ تناولته وسائل التواصل الاجتماعي بكل تقّبلٍ ورضا، ولعل ما زاد في تقبلها إياه هو نسبته الى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولكننا عند الرجوع إلى الكتب الحديثية لا نجد لهذا الحديث أثراً إطلاقاً، ولا غرابة في ذلك إذ إن أمير البلاغة والبيان (سلام الله وصلواته عليه) معروفٌ ببلاغته التي أخرست البلغاء، ومشهورٌ بفصاحته التي إعترف بها حتى الأعداء، ومعلومٌ كلامه إذ إنه فوق كلام المخلوقين قاطبةً خلا الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ودون كلام رب السماء. وأما من حيث دلالة هذه المقولة ومدى صحتها فلابد من تقديم مقدمات؛ وذلك لأن معنى العقل في المفهوم الإسلامي يختلف عما هو عليه في الثقافات الأخرى من جهةٍ، كما ينبغي التطرق الى النصوص الدينية الواردة في هذا المجال وعرضها ولو على نحو الإيجاز للتعرف إلى مدى موافقة هذه المقولة لها من عدمها من جهةٍ أخرى. معنى العقل: العقل لغة: المنع والحبس، وهو (مصدر عقلت البعير بالعقال أعقله عقلا، والعِقال: حبل يُثنَى به يد البعير إلى ركبتيه فيشد به)(1)، (وسُمِّي العَقْلُ عَقْلاً لأَنه يَعْقِل صاحبَه عن التَّوَرُّط في المَهالِك أَي يَحْبِسه)(2)؛ لذا روي عنه (صلى الله عليه وآله): "العقل عقال من الجهل"(3). وأما اصطلاحاً: فهو حسب التصور الأرضي: عبارة عن مهارات الذهن في سلامة جهازه (الوظيفي) فحسب، في حين أن التصوّر الإسلامي يتجاوز هذا المعنى الضيّق مُضيفاً إلى تلك المهارات مهارة أخرى وهي المهارة العبادية. وعليه فإن العقل يتقوّم في التصور الاسلامي من تظافر مهارتين معاً لا غنى لأحداهما عن الأخرى وهما (المهارة العقلية) و(المهارة العبادية). ولذا روي عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنه عندما سئل عن العقل قال :" العمل بطاعة الله وأن العمّال بطاعة الله هم العقلاء"(4)، كما روي عن الإمام الصادق(عليه السلام)أنه عندما سئل السؤال ذاته أجاب: "ما عُبد به الرحمن، واكتسب به الجنان. فسأله الراوي: فالذي كان في معاوية [أي ماهو؟] فقال(عليه السلام): تلك النكراء، تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل"(5) والعقل عقلان: عقل الطبع وعقل التجربة، فأما الأول أو ما يسمى بـ(الوجدان الأخلاقي) فهو مبدأ الادراك، وهو إن نَما وتطور سنح للإنسان فرصة الاستفادة من سائر المعارف التي يختزنها عن طريق الدراسة والتجربة وبالتالي يحقق الحياة الإنسانية الطيبة التي يصبو اليها، وأما إن وهن واندثر لإتباع صاحبه الأهواء النفسية والوساوس الشيطانية، فعندئذٍ لا ينتفع الانسان بعقل التجربة مهما زادت معلوماته وتضخمت بياناته، وبالتالي يُحرم من توفيق الوصول إلى الحياة المنشودة. وعقل التجربة هو ما يمكن للإنسان اكتساب العلوم والمعارف من خلاله، وما أروع تشبيه أمير البلغاء (عليه السلام) العلاقة التي تربط العقلين معاً إذ قال فيما نسب إليه: رأيت العقل عقلين فمطبوع ومسموع ولا ينفع مسموع إذ لم يك مطبــوع كما لا تنفع الشمس وضوء العين ممنوع(6) فقد شبّه (سلام الله عليه) عقل الطبع بالعين وعقل التجربة بالشمس، ومما لاشك فيه لكي تتحقق الرؤية لابد من أمرين: سلامة العين ووجود نور الشمس، وكما إن الثاني لا ينفع إن لم يتوفر الأول فكذلك عقل التجربة لا ينفع عند غياب عقل الطبع فضلاً عن موته. وبما إن عقل الطبع قد ينمو ويزدهر فينفع صاحبه من عقل التجربة، وقد يموت ويندثر عند الاستسلام لإضلال شبهةٍ أوبسبب إرتكاب معصية، فإنه ومن باب أولى أن يتعرض الى الزيادة والنقصان كما سيأتي... وقد ورد في النصوص الدينية أن للعقل زمناً ينمو فيه ويكتمل، فعن إمامنا أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه):"يثغر الصبي لسبع، ويؤمر بالصلاة لتسع، ويفرق بينهم في المضاجع لعشر، ويحتلم لأربع عشرة، وينتهى طوله لإحدى وعشرين سنة، وينتهي عقله لثمان وعشرين إلا التجارب"(7)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يربى الصبي سبعاً ويؤدب سبعاً، ويستخدم سبعاً، ومنتهى طوله في ثلاث وعشرين سنة، وعقله في خمس وثلاثين [سنة] وما كان بعد ذلك فبالتجارب"(8). إذن يتوقف النمو الطبيعي لعقل الانسان عند سن الثامنة والعشرين أو الخامسة والثلاثين كما ورد في الروايتين، وأية زيادة أخرى في طاقته بعد ذلك إنما تأتي عن طريق التجارب، وقد يُتوهم بأن ثمة تعارضاً ما بين الروايتين المتقدمتين في شأن تحديد سن النمو العقلي، إلا إنه لا تعارض ينهما إذا حملنا اختلافهما فيه على اختلاف الاشخاص وتباين استعدادات وقابليات كل منهم. وعلى الرغم من توقف نمو عقل الإنسان إلا إن له أنْ يزيده بالتجارب ومواصلة التعلم ــ كما تقدم في الروايات ــ وسواء أثبت العلم هذه الحقيقة الروائية أم لا، فنحن نريد الإشارة إلى ضرورة استمرار التجربة والتعلم لزيادة نمو العقل وهذا المقدار لا خلاف فيه وعلى الرغم من إن لعمر الانسان مدخلية في زيادة عقله كما تقدم وكما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يزيد عقل الرجل بعد الاربعين إلى خمسين وستين، ثم ينقص عقله بعد ذلك"(9)، إلا إن ذلك ليس على نحو العلة التامة، إذ يمكن للعقل أن يبقى شاباً وقوياً وإن شاب الإنسان وضعف جسمه، وتقدم في السن ووهن عظمه، فالعاقل لا يشيب عقله ولا تنتقص الشيخوخة من قوته بل وقد يزداد طاقةً وحيويةً لذا ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"رأي الشيخ أحب الي من جَلَد الغلام"(10)، وفي أخرى ".....من حيلة الشباب "(11) وأما من لم يوفر أسباب صقل عقله في مرحلة الشباب فإنه بلا شك يضمحل عقله في مرحلة الشيخوخة. وليس تقدم العمر هو العامل الوحيد في نقصان العقل بل إن النصوص الشرعية أشارت الى عوامل عديدة اخرى أهمها: أولاً: التعلم: فقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "من لم يصبر على ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبداً"(13). ثانياً: التوبة: وعنه (عليه السلام) ايضاً:"من لم يرتدع يجهل"(14) ثالثاً: التقوى: فقد كتب إمامنا الباقر (عليه السلام) إلى سعد الخير: "بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإني اوصيك بتقوى الله فإن فيها السلامة من التلف والغنيمة في المنقلب إن الله (عزوجل) يقي بالتقوى عن العبد ما عزب عنه عقله ويجلي بالتقوى عنه عماه وجهله"(15) إذن التوبة هي سبب للتوفيق الإلهي الذي يؤدي فيما يؤدي إليه من إكمال العقل. رابعاً: الوقوف عند الشبهة: وقال (عليه السلام ): "لا ورع كالوقوف عند الشبهة"(16). فإن الوقوف عند الشبهات سبب من أسباب التوفيق الإلهي بلا شك. خامساً: الاعتراف بالجهل: كما روي عن الإمام علي (عليه السلام): "غاية العقل الاعتراف بالجهل"(17) إذ الاعتراف بالجهل يدفع الإنسان دوماً إلى مزيد من بذل الجهد واكتساب المعارف. مما تقدم تتضح جلياً صحة هذه المقولة دلالةً، إذ إن العقول فعلاً لا تقاس بالأعمار لأن كلٍاً من زيادتها ونقيصتها منوطٌ بالعديد من العوامل الأخرى والتي تقدم ذكرها، بيد إن ذلك لا يبرر التساهل في نشرها والتهاون في الاستشهاد بها على إنها من أقوال أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) لعدم ثبوت ذلك سنداً من جهة ولضعف بلاغتها وركاكة تركيبها بالنسبة إلى سيد البلغاء والبلاغة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) تهذيب اللغة ج1 ص65 (2) لسان العرب ج11 ص458 (3) نهاية الحكمة ص305 (4) ميزان الحكمة ج3 ص333 (5) أصول الكافي ج1، ح3 / 11 (6) نهج السعادة ج9 ص163 (7) الكافي ج7 ص94 (8) الفقيه ج3 ص493 (9) الاختصاص ص245 (10) نهج البلاغة حكمة 86 (11) بحار الأنوار ج72 ص105 (12) المصدر السابق ج1 ص94 (13) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص118 (14) الكافي ج8 ص73 (15) وسائل الشيعة ج1 ص162 (16) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص1 بقلم الكاتبة: رضا الله غايتي
اخرىالمرأة في فكر الإمام علي (عليه السلام)
بقلم: أم نور الهدى كان لأمير المؤمنين (عليه السلام) اهتمام خاص بالمرأة، فنراه تارة ينظر إليها كآية من آيات الخلق الإلهي، وتجلٍ من تجليات الخالق (عز وجل) فيقول: (عقول النساء في جمالهن وجمال الرجال في عقولهم). وتارة ينظر إلى كل ما موجود هو آية ومظهر من مظاهر النساء فيقول: (لا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها فإن المرأة ريحانة وليس قهرمانة). أي إن المرأة ريحانة وزهرة تعطر المجتمع بعطر الرياحين والزهور. ولقد وردت كلمة الريحان في قوله تعالى: (فأمّا إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة النعيم) والريحان هنا كل نبات طيب الريح مفردته ريحانة، فروح وريحان تعني الرحمة. فالإمام هنا وصف المرأة بأروع الأوصاف حين جعلها ريحانة بكل ما تشتمل عليه كلمة الريحان من الصفات فهي جميلة وعطرة وطيبة، أما القهرمان فهو الذي يُكلّف بأمور الخدمة والاشتغال، وبما إن الإسلام لم يكلف المرأة بأمور الخدمة والاشتغال في البيت، فما يريده الإمام هو إعفاء النساء من المشقة وعدم الزامهن بتحمل المسؤوليات فوق قدرتهن لأن ما عليهن من واجبات تكوين الأسرة وتربية الجيل يستغرق جهدهن ووقتهن، لذا ليس من حق الرجل إجبار زوجته للقيام بأعمال خارجة عن نطاق واجباتها. فالفرق الجوهري بين اعتبار المرأة ريحانة وبين اعتبارها قهرمانة هو أن الريحانة تكون، محفوظة، مصانة، تعامل برقة وتخاطب برقة، لها منزلتها وحضورها. فلا يمكن للزوج التفريط بها. أما القهرمانة فهي المرأة التي تقوم بالخدمة في المنزل وتدير شؤونه دون أن يكون لها من الزوج تلك المكانة العاطفية والاحترام والرعاية لها. علماً أن خدمتها في بيت الزوجية مما ندب إليه الشره الحنيف واعتبره جهادًا لها أثابها عليه الشيء الكثير جدًا مما ذكرته النصوص الشريفة. فمعاملة الزوج لزوجته يجب أن تكون نابعة من اعتبارها ريحانة وليس من اعتبارها خادمة تقوم بأعمال المنزل لأن المرأة خلقت للرقة والحنان. وعلى الرغم من أن المرأة مظهر من مظاهر الجمال الإلهي فإنها تستطيع كالرجل أن تنال جميع الكمالات الأخرى، وهذا لا يعني أنها لا بد أن تخوض جميع ميادين الحياة كالحرب، والأعمال الشاقة، بل أن الله تعالى جعلها مكملة للرجل، أي الرجل والمرأة أحدهما مكمل للآخر. وأخيرًا إن كلام الإمام علي (عليه السلام) كان تكريمًا للمرأة ووضعها المكانة التي وضعها الله تعالى بها، حيث لم يحملها مشقة الخدمة والعمل في المنزل واعتبر أجر ما تقوم به من اعمال في رعاية بيتها كأجر الجهاد في سبيل الله.
اخرىالطلاق ليس نهاية المطاف
رحلةٌ مثقلة بالألم في طريق يئن من وطأة الظلم! ينهي حياة زوجية فشلت في الوصول إلى شاطئ الأمان. ويبدد طموحات أطفال في العيش في هدوء نفسي واجتماعي تحت رعاية أبوين تجمعهم المودة والرحمة والحب. الطلاق شرعاً: هو حل رابطة الزواج لاستحالة المعاشرة بالمعروف بين الطرفين. قال تعالى: [ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)].(١). الطلاق لغوياً: من فعل طَلَق ويُقال طُلقت الزوجة "أي خرجت من عصمة الزوج وتـحررت"، يحدث الطلاق بسبب سوء تفاهم أو مشاكل متراكمة أو غياب الانسجام والحب. المرأة المطلقة ليست إنسانة فيها نقص أو خلل أخلاقي أو نفسي، بالتأكيد إنها خاضت حروباً وصرعات نفسية لا يعلم بها أحد، من أجل الحفاظ على حياتها الزوجية، ولكن لأنها طبقت شريعة الله وقررت مصير حياتها ورأت أن أساس الـحياة الزوجيـة القائم على المودة والرحـمة لا وجود له بينهما. فأصبحت موضع اتهام ومذنبة بنظر المجتمع، لذلك أصبح المـجتمع يُحكم أهواءه بدلاً من الإسلام. ترى، كم من امرأة في مجتمعنا تعاني جرّاء الحكم المطلق ذاته على أخلاقها ودينها، لا لسبب إنما لأنها قررت أن تعيش، وكم من فتاة أُجبرت قسراً على أن تتزوج من رجل لا يناسب تطلعاتها، لأن الكثير منهن يشعرن بالنقص وعدم الثقة بسبب نظرة المجتمع، وتقع المرأة المطلّقة أسيرة هذه الحالة بسبب رؤية المجتمع السلبيّة لها. وقد تلاحق بسيل من الاتهامات وتطارد بجملة من الافتراءات. وتعاني المطلقة غالباً من معاملة من حولها، وأقرب الناس لها، بالرغم من أن الطلاق هو الدواء المر الذي قد تلجأ إليه المرأة أحياناً للخلاص من الظلم الذي أصبح يؤرق حياتها الزوجية، ويهدد مستقبلها النفسي، والله تعالى لم يشرع أمراً لخلقه إلا إذا كان فيه خير عظيم لهم، والطلاق ما شرّع إلا ليكون دواء فيه شفاء وإن كان مرّاً، وإن كان أمره صعباً على النفوس، حيث قال عز وجل: "وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا"، روي عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) ((أبغض الحلال إلى الله الطلاق) (٢). ورغم أن الشريعة الإسلامية أباحت الطلاق بشروط تلاءم لبناء المجتمع، وأولت أهمية في الإحسان دائمًا للطرف الأضعف والأكثر خسارة في هذه المعادلة وهي "المرأة"، إلا أن المجتمع الذي يدّعي الإسلام لا يرحمها، ويحكم عليها بالإدانة طوال حياتها دون النظر في صحة موقفها في الطلاق من عدمه! قال( تعالى ): [الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] (٣). ولكن بعد كل هذا فالحياة لم ولن تتوقف بعد الطلاق! الطلاق ليس نهاية الحياة. - أخيتي. ليكن الطلاق بداية جديدة لحياة جديدة وللانطلاق. -قطار العطاء لن يتعطل. فإن كنت السبب في الطلاق فالحمد لله على كل حال وتلك أمة قد خلت وأيام ذهبت وانجلت فلست بالمعصومة من الخطأ. وعليك استدراك الأخطاء وتقوية مواطن الضعف في شخصيتك، واجعليها درساً مفيداً في الحياة لتطوير نفسك وتقويتها. وإذا كنتِ مظلومة فهناك جبار يُحصي الصغير والكبير وسيأتي يوم ينتصر لك فيه. -ومن الجميل أن تعطي نفسك الإحساس بالحب والاحترام، ولا تتأثري بأي نظرة سلبية من المجتمع وكون البعض يتعامل مع المطلقة على أنها حالة خاصة فعليكِ إثبات ذاتك حتى تفرضي على الكل شخصيتك. - نظرتك لنفسك اجعليها نظرة ايجابية مشرقة ولا تنزلقي في مستنقع نبذ الذات وظلم النفس. - ابحثي عن الصفات الجيدة فيك فإن ذلك سيشعرك بالثقة في ذاتك والتقدير لها. -حاولي مراجعة نفسك للخروج بإيجابيات حصلت لك من طلاقك. - خالطي الآخرين وإياك والعزلة بسبب وضعك الجديد فلست بأول من يبتلى بالطلاق. -استمتعي بالموجود ولا تتعلقي بالمفقود، حلقي بروح تعبق أملاً وتفاؤلاً، استمتعي بما وهبك الله من نعم (صحة وأولاد وأهل وصديقات وعمل وهوايات وغيرها من الأمور الجميلة) فما حصل لك حصل… ولابد أن تتقبليه برضا، وأعلمي أن ما أصابك لم يكن ليخطأك وما أخطأك لم يكن ليصيبك. وقال أصدق من قال: ( وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم). فالرضا سر السعادة الحقيقي. - اقتربي من صديقاتك الصالحات، واقضي معهن وقتاً طيباً تنسين به ألمك وحزنك. - احرصي على الصلوات وقراءة القرآن الكريم والذكر والاستغفار وأكثري من الطاعات قدر ما تستطيعين، ففيها السلوى والفرح والسعادة. ونعم سعادة القرب من الرحمن. - اشغلي نفسك بأعمال البر والإحسان بمساعدة محتاج. بكفالة يتيم. بتعلم الفقه والقرآن وتعليمه. - اجتهدي في عمل برنامج يومي لك يكون ممتلأ بكل ما هو مفيد لك. من قراءة وزيارة الأصدقاء وصلة الرحم. بحيث لا تكون هناك دقيقة أنت فارغة فيها. - وأسرعي بقاربك الجميل بمجذافين من إيمان بالله وثقة بالنفس وسوف تصلين بإذن الله نحو جزيرة السعادة والنجاح. لكي تتسلق جبال الإنجاز، وتصل لأعلى مراتب الاعجاز. وعندها جزماً سيكون للحياة معنى آخر. --------------------------------- (١)-سورة البقرة الآية (٢٢٦-٢٢٧). (٢)-الكافي (٢)-سورة البقرة الآية (٢٢٨) حنان ستار الزيرجاوي
اخرىأساليب في التربية
عالم الطفولة كأنه طاولة، لا تجد فيه غير طعام لذيذ، ومنظر لطيف وجديد، فعالمهم فاكهة الوجود، وخضار الأرواح، ومياه الحياة تسقي القلوب... عالم صفاء وأحلام جميلة بسيطة وتافهة ولكن بنظرهِ هو عظيمة وكبيرة، فهو العالم الذي ينطلق منه الإنسان في بداية عمره. فالطفل في بداية حياته ينظر إلى الحياة بتفكيره البريء، فالطفل يعيش بعالم خاص به مملوء بالمحبة البريئة. هذه هي الصورة الجميلة التي يحملها الطفل، وكم يتمنى كل إنسان أن يعود لطفولته البريئة ليتأمل في أرجاء عالمها الذي كان يصور له حياة مختلفة تشد الإنسان إليها بجمالها، هذا هو عالم الطفولة وهذه أحلام من يعيشها، فلا ينفذ إلى ملكوت ذلك العالم ولا يدرك كنهه إلا من عاشه وجال في ربوعه. حيث يتذوق الطفل مع أحلام طفولته هذه لذة الحياة ولذة العيش فيها، ومهما حاولنا أن نعبر عن هذه الحقيقة فلن نستطيع تصويرها بالكلمات. وبعد هذا، فإن الاهتمام بمستقبل الطفل هو في الواقع ضمان لمستقبل شعب بأسره. قال اللَّه تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا". التحريم/6 أعتنى الإسلام بتربية الأبناء عناية فائقة، وألقى على عاتق الأهل ما سيكون عليه الولد في مسلكه الدنيوي ومصيره الأخروي إن هم قصروا في تربيته وإعداده. وقد ذكر العلماء أن شخصية الولد تتأثر في نموها بعوامل ثلاثة وهي: الوراثة، والبيئة، والتربية. إذا خضنا في مضمار التربية السليمة للأبناء... فعلى الأبوين أن يكون لهما الوعي التربوي الذي يبنى على أسس صحيحة ويتوفر لديهم فهم لأساليب التربية والتوجيه والرعاية وهذه نقطة البداية. فمثلاً في أسلوب التعامل مع الطفل تبرز أمامنا ثلاثة اشكال لتعامل الآباء مع الأبناء: الشكل الأول: أسلوب الدلال المفرط وهذا الأسلوب له نتائجه السلبية الخطيرة، فإنه يخلق شخصية هشة متميعة وشخصية اتكالية تحب الكسل والخمول مجردة من الهدف والإقدام، انهزامية غير قادرة على مواجهة التحديات وبمعنى أدق شخصية لا تثق بنفسها. شخصية متسيبة في ظل غياب المراقبة والمحاسبة وهذا التسيب يقود إلى الانفلات والانحراف. الشكل الثاني: فهو أسلوب التربية القاسية والعنف. وهذا الأسلوب أيضاً له نتائجه الخطيرة والسلبية التي يعاني منها الأبناء طوال حياتهم فهو يخلق شخصية قلقة ومتأزمة ومعقدة وخائفة وتحمل عقدة الخوف، شخصية حاقدة وعدوانية وقد تتأزم الأمور لتصبح شخصية منافقة وكاذبة خوفاً من العقاب والتعنيف ضمن حدود الأسرة ولكن يوماً من الأيام سينطلق هذا الشخص ليواجه المجتمع ككل، فلنتصور كيف سيتعامل مع المحيطين ضمن مجالات الدراسة والعمل وهو شخصية هاربة من أجواء الأسرة وقد يعرضها للتسيب والانحراف لأنها شخصية متمردة مما يعرضها للعقوق. الأسلوب الثالث: التوازن. الأسلوب الصحيح يعتمد على التوازن فمن شروط نجاح التربية التوازن في المعاملة ما بين الأمور التي تحتاج إلى شدة وحزم ليتربى على أن هذه الأمور خطوط حمراء طبعاً هنا يمكن أن يعترض أحد ويقول: لا للعنف الأسري ولا لاستخدام القسوة. نعم فهناك طرق غير استخدام العنف. يكفي ان يبدي الآباء انزعاجهم مثلاً. وهنا النقطة مهمة جداً، وهي: أن نوضح لهم سبب المنع والرفض لا تعتقدوا أن أبناءكم لا يدركون ولن يفهموكم. تخصيص الوقت للنقاش مهم جداً. وما بين أسلوب المرونة والحنان والاحتواء. التوازن في المعاملة. إن الإمام زين العابدين (عليه السلام) يصرح بمسؤولية الأبوين بتربية الطفل، ويعتبر التنشئة الروحية والتنمية الخلقية لمواهب الأطفال واجباً دينياً يستوجب أجراً وثواباً من الله تعالى، وأن التقصير في ذلك يُعرّض الآباء إلى عقاب الله. فيقول (عليه السلام): (وأما حق ولدك عليك فأن تعلم أنه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره. وأنك مسؤول عما وليته به من حسن الأدب والدلالة على ربه عز وجل والمعونة له على طاعته. فأعمل في أمره عمل من يعلم أنه مثاب على الإحسان إليه معاقب على الإساءة إليه ) مكارم الأخلاق للطبرسي ص٢٣٢ حنان الزيرجاوي
اخرى