تشغيل الوضع الليلي

أثرُ كلامِ الإمامِ علي (عليه السلام) في كتاب الدُّرّة اليتيمة لابن المقفع

منذ 4 سنوات عدد المشاهدات : 884

بقلم: مهند الياسري
بدءًا من عنوانِ الكتابِ لا بُدَّ من الإشارةِ إلى أنّ هناك خُطبةً للإمام علي (عليه السلام) تُسمّى بـ(الدُّرّة اليتيمة), ومعناها في اللغة التي لا مَثيلَ لها, أيّ الكلام على غير نظير. ومن المُسلَّماتِ أنَّ الكلامَ لا يكونُ كذلك إلّا إذا كان عن نبيٍّ, أو وصيّ نبيّ وهم محمد وآله (صلوات الله عليهم أجمعين). ولعلّ شِدّةَ تأثّر ابن المقفع بالإمام وشعوره بالأثر الكبير الذي حلَّ به دعاه إلى أنْ يُسمّي كتابَه هذا باسمِ إحدى خُطَبِ الإمام (عليه السلام).
[دأب الخطباء والمتكلمون العرب منذ القرن الأوّل وما تلاه إلى مطالعة خطب أمير المؤمنين ( علیه السلام ) واستعمال بعض مقاطعها ليحسّنوا كلامهم ويجملوه ويهذبوه من كلّ ما يضرّ ببلاغتهم واستعمالاتهم الخاطئة ، وليكون ملكة فيما يتفوهون به أمام مخاطبيهم أو يكتبوه لقرائهم والمتمعن فيما كتب من خطب أو رسائل لأدباء عرب بل وشعراء بعد الإسلام لأدرك دون أدنى شك أثر خطب الإمام علي ( علیه السلام).]
ومما يُروى عن الأصمعي أنّه قال: قيلَ لابنِ المُقَفَّع، مَن أدَّبك؟ قال: أنا أدّبتُ نَفسي، كُنتُ إذا رأيتُ مِن الناسِ فِعلًا حسنًا عَمِلتُ بهِ، وإذا رأيتُ فعلًا قَبيحًا اجتَنَبتُه. وفي هذا الكلام يظهرُ أنّ ابنَ المقفع شديدُ التأثّر بكُلِّ منابعِ الخير؛ ولا أرى أنّ هنالك منبعًا أغزر علمًا وأوفى فضلًا من كلامِ الإمام.
ومما يؤكدُ رجاحةَ هذا الرأي ما ذهبَ إليه القلقشندي, إذ يرى أنّ ابنَ المقفع من فرسانِ الكلام الذين اقتفوا طريقةَ الإمامِ علي (عليه السلام) في الكتابة, بالإضافةِ إلى كثيرٍ من الدراساتِ الحديثة التي أشارت وقالت بوجودِ أثرٍ كبيرٍ لكلامِ الإمامِ في ابن المقفع.
وفي الواقع إنّ ابنَ المقفع لم يذكرِ الإمامَ علي (عليه السلام) في كُلِّ مؤلفاته، ولم يستشهدْ بكلامه, لكنَّ المتمعن يلمسُ أثرًا مُتنوعًا لكلامِ الإمامِ في كُتُبِ ابنِ المقفع، فكان يأخذُ من كلامِ الإمامِ بطُرُقٍ شتّى دون الإشارة إليه, وقد ورد في باب الصديق من الكتاب المذكور ما يُظهِرُ أثرَ الإمامِ جليًا في عدّةِ مواطن منها:
1 . يحاولُ ابنُ المقفع أنْ يرسمَ لنا صورةَ الصديقِ، وفي مفتتحِ الباب يقول: ((أبذِلْ لصديقِك دمَك ومالَك)), وهذا القولُ لا يبتعدُ عن قولِ الإمامِ (عليه السلام): ((أبذلْ مالَك وواسِ به الصديق؛ فإنّ السخايا بالحرِّ أخلق))، وقوله (عليه السلام): ((أبذلْ مالَك لمن بذلَ لكَ وجهَه, فإنّ بذلَ الوجهِ لا يُوازَى به شيء)). والأثرُ بادٍ وغيرُ مقتصرٍ على المعنى بل مُتضمن للفظِ أيضًا. وقد دأبَ الأدباء منذُ القرنِ الأولِ الهجري وما تلاه إلى مطالعةِ آثارِ الإمامِ، والتزوّد منها كي يكسبوا كلامهم طابعًا بلاغيًا, وقد أخذَ هذا المعنى الشاعر عبدالله بن الطاهر الخرساني بقوله:
أميلُ مع الذمام على بن عمي وآخذُ للصديقِ من الشفيق
وإنْ ألفيتني ملكًا مُطاعًا وأنّك واجدي عبدَ الصديق
وقد تأثّر ابنُ عبدِ ربّه بهذا المعنى وأفرد بابًا أسماه بـ"فضلُ الصداقةِ على القرابة" وفيه يقول:
قيل لبزر جمهر: من أحبُّ إليك: أخوك أم صديقك؟
فقال: ما أحِبُّ أخي إلا إذا كانَ لي صديقًا.
وقال أكثم بن صيفي: القرابةُ تحتاجُ إلى مودّة، والمودّةُ لا تحتاجُ إلى قرابة.
وقال عبد الله بن عباس: القرابةُ تُقطعُ والمعروف يُكفر، وما رأيتُ كتقاربِ القلوب.
وقالوا: إيّاكم ومن تكرهه قلوبكم، فإنّ القلوبَ تُحازي القلوب.
ويرد هذا المعنى كذلك وبنفس ما ورد في كتاب ابن المقفع عند أبي حيان التوحيدي ت(310هـ) ويذكر: ((قال بعض السلف: أبذلْ لصديقِك دمَك ومالَك، ولمعرفتِك رفدَك ومحضرَك، ولعدوِّك عدلَك وإنصافَك)), ويزيدُ عليه قول الشاعر:
إذا أنتَ لم تُنصِفْ أخاك وجدتَه ... على طرفِ الهجران إنْ كانَ يعقلُ
2 . ثم يُكمِلُ ابنُ المقفع قوله: ((ولمعرفتِك رفدَك, وللعامةِ بشـرَك وتحننَك, ولعدوِّك عدلَك)), ويبدو أنّه تلقّفَ هذا المعنى من قول الإمام (عليه السلام): ((أبذلْ لصديقِك نصحَك, ولمعارفِك معونتَك, ولكافةِ الناسِ بشرَك)), وقوله (عليه السلام): ((البشاشةُ فخُّ المودة)).
وليس من الصدفة, أو من باب تواردِ الخواطر أن تجتمعَ تلك المعاني بألفاظها في نصٍّ قصير, وهذا في عُرفِ النُقّادِ القُدامى يدخلُ في بابِ السرقة, وقوله (عليه السلام): (المؤمنُ بشره في وجهه))، وكذلك قوله(عليه السلام): ((أبذلْ لصديقِك كُلِّ المودة ... وأعطِهِ من نفسِك كُلَّ المواساة)), يظهرُ أنَّ الإمامَ حكيمٌ في تناولِ كُلِّ جوانبِ الحياة, وتُعَدُّ الصداقةُ من أجملِ العلاقات التي تمنحُك كما قيل "أخٌ لم تلِدْهُ لك أمُّك"، ولا بُدَّ من وجودِ نظامٍ يُقيّدُ هذه العلاقة.
3 . جاء في قول ابن المقفع: ((وأما الصمتُ فيُكسِبُكَ المحبةَ والوقار)), وهذا المعنى بلا شك قد ورد في أقوالِ الإمامِ وبنفس الألفاظ، يقول (عليه السلام): ((الصمتُ يُكسِبُكَ الوقار, ويكفيك مؤونةَ الاعتذار)), وكذلك قوله (عليه السلام): ((صمتٌ يُكسِبُكَ الوقار خيرٌ من كلامٍ يُكسِبُك العار)), وهذا الأثرُ جليٌّ لا يحتاجُ لأيِّ شرحٍ أو تأويلٍ؛ فهو أخذٌ باللفظِ والمعنى, وأخذ هذ المعنى أبو العتاهية وصاغه شعرًا بقوله:
إذا لم يَضِقْ قوْلٌ عَلَيكَ فقُلْ بهِ وإنْ ضاقَ عليكَ القولُ فالصمتُ أوسعُ
فَلا تَحتَقِرْ شَيئًا تَصاغَرْتَ قدرَه فإنّ حَقيـرًا قد يَضُــــــــــــرّ ويَنْفَعُ.

وفي الجوِّ نفسِه يقول الإمامُ الشافعي:
وَجَدتُ سُكوتي مَتجَرًا فَلَزِمــــتُهُ إِذا لَم أَجِدْ رِبحًا فَلَستُ بِخاسِرِ
وما الصمتُ إلا في الرجالِ متاجرُ وتاجـــرهُ يعلو على كُلِّ تاجرِ

ويتلقّفُ هذا المعنى شاعرٌ محدثٌ, إذ يقول غسان كنفاني:
إنّ الصمتَ هو صراخٌ من النوعِ نفسه أكثرُ عمقًا وأكثرُ لياقةً بكرامةِ الإنسانِ

4 . وفيما يخصُّ إنصافُ العدو يقول ابن المقفع: ((احفظْ قولَ الحكيمِ الذي قالَ: لتكنْ غايتُك فيما بينِك وبين عدوِّك العدلَ)), لم أعثر على الحكيم قائل النص السابق؛ لكن على ما يبدو هو له، بناهُ على وفقِ ما ابتنتْ عليه الرسالةُ التي كتبها الإمامُ علي (عليه السلام) إلى شُريحِ القاضي, إذ يوصيه بقوله: ((ثمّ واسِ بين المسلمين بوجهِك ومنطقِك ومجلسِك حتى لا يطمع قريبُك في حيفِك، ولا ييأس عدوّك من عدلِك)), ولنصمتْ ولندعِ النصينِ يتحاوران, والمُستعرض للتأريخ منذُ بدءِ الخليقةِ إلى يومِ القيامة لن يجدَ في تاريخ البشرية جمعاء مثل هذه الرواية التي تقول: لمّا ضُرب عليّ (عليه السلام) تلك الضربة قال: ((فما فعل ضاربي أطعموه من طعامي، وأسقوه من شرابي، فإنْ عِشتُ فأنا أولى بحقّي، وإنْ مِتّ فاضربوه ضربةً ولا تزيدوه عليها))
ماذا عساه أنْ يقول من يقرأ هذه الرواية, يوصي ذويه بعدم التعدّي وظلمِ عدوّه وقاتله!
ومما لا شك مثل هذه القضية تولِّدُ انفعالًا عند المتلقي وبحالةٍ شعورية, أو بلا شعور يتأثرُ بهذه الصورةِ العظيمةِ التي اهتزّتْ لها البشريةُ جمعاء, ليسَ هنالك عدالةٌ مع العدوِّ بهذا المستوى.
ومثالٌ آخر للعدلِ وإنصافِ العدو, فقد ضربَ الإمامُ أمير المؤمنين (عليه السلام) أروعَ الأمثلةِ في توفيرِ الحرّياتِ الشخصية، فحينما جاءه طلحةُ والزُّبير واستأذنا منه الذهاب إلى مكّةَ، فأذِنَ لهما، وهو يعلمُ أنّهما قد نويا شرًّا!
ولمّا خرجا يقولُ ابنُ عباس (رضوان الله عليه): قال أميرُ المؤمنين: ((إنّهما استأذنا في العمرة فأذنتُ لهما بعد أوثقتُ منهما بالأَيمانِ أنْ لا يغدرا ولا ينكثا ولا يُحدثا فسادًا))، ثم أطرقَ الإمامُ برأسه، بعد هنيئة واصلَ قائلًا: ((إنّي لأعلمُ أنّهما ما قصدا إلاّ الفتنة، فكأنّي بهما قد سارا إلى مكة ليسعيا إلى حربي)), فقال ابن عبّاس بأدبٍ بالغٍ، كاظمًا غيظه في قلبه: إنْ كان ذلك عندك يا أمير المؤمنين معلومًا فلِمَ أذنتَ لهما؟ هلّا حبستَهما وأوثقتَهما بالحديد، وكفيتَ المؤمنين شرّهما! فقالَ أميرُ المؤمنين (عليه السلام): ((يا ابن عبّاس، أتأمرني بالظُلم، أبدأُ بالسيئةِ قبلَ الحسنة؟ وأعاقبُ على الظنّة والتهمة؟ وأؤاخذُ بالفعلِ قبلَ كونهِ، كلّا _والله_ لا عدلتُ عمّا أخذَ اللهُ عليّ من الحُكمِ والعدلِ، ولا ابتدئ بالفصل))
وهذه الصورة تُمثّلُ المعنى الحقيقي لإنصافِ العدو, وكيف لا تجدُ صداها؟, وكيف لا يتأثرُ بمضمونِها ابنُ المقفع وغيره من الأدباء؟
وبهذا الموقف الخالد الذي دفعَ الإمامُ ضريبتَه غاليًا فيما بعد، أرسى دعائمَ حرّيةِ التنقّل حتى لأعدائه الذين يُشَمُّ منهم رائحة الفتنة، عملًا بكتابِ اللهِ وسنّةِ نبيه (صلى الله عليه وآله)؛ ولعلّ المادّة الثالثة عشرة من الإعلان العالميّ لحقوقِ الإنسانِ وضعت على وفقِ هذه الحادثة إذ تنصُّ على أن: ((لكلِّ فردٍ حرّية التنقّل واختيار محلِّ إقامتِه داخلَ حدود كلِّ دولة, ويحقُّ للفرد أنْ يُغادرَ أيةِ بلادٍ بما في ذلك بلده, كما يحقُّ له العودةَ إليه)), والمُتمعن في هذه الوثيقة يجدُها تحكي حالَ وواقعَ هذه القصة السالفة الذكر.
5 . قال ابنُ المقفع في الصبر: ((الصبرُ صبران: صبرُ الرجلِ على ما يكره, وصبرُه عمّا يُحبُّ)), وهذا المعنى تقمّصه ابنُ المقفع باللفظ والمعنى, فقد أخذه من قولِ الإمام (عليه السلام): ((الصبرُ صبران: صبرٌ على ما تكره, وصبرٌ عما تُحِب)). والنصُّ الأول جاء طبقًا للنصِّ الثاني كما مُبيّن. والنوع الأول أشق من النوع الثاني، لأن الأول صبر على مضرة نازلة، والثاني صبر على محبوب متوقع لم يحصل.
وكذلك قول الإمام (عليه السلام): ((الصبرُ صبران: صبرٌ في البلاء حسنٌ جميل, وأحسنُ منه الصبرُ على المحارم)), وقد أخذ هذا المعنى باللفظ نفسه الحسنُ البصري وقال: ((الصبرُ صبران: صبرٌ عندَ المصيبة، وصبرٌ على المعصية, فمن قدرَ على ذلك فقد نالَ أفضل الصبرين)), فكُلُّ من كانت البلاغة والحكمة مقصده وجبَ عليه أنْ يتتبع أخبارَ ما قالَ وما قيلَ عن سيّدِ البلاغةِ بعد رسول الله (صلوات الله عليهما وآلهما).
وقال أنو شروان: "جميعُ أمرِ الدنيا مُنقسمٌ إلى ضربين لا ثالث لهما: أما ما في دفعه حيلة فالاضطراب دواؤه، وأما ما لا حيلة فيه فالصبرُ شفاؤه".
وفي هذا يقول أبو العتاهية:
ما أكرمَ الصبرُ وما أحسنَ الصدقَ وما أزينهُ للفتى
الخرقُ شؤمٌ والتُّقى جنةٌ والرِّفْقُ يمنٌ والقنوعُ الغنى

وقال الفيلسوف أبو العلاء المعري:
أحسنُ بالواجدِ من وجــــــدِه صـــبرٌ يعيدُ النارَ في زندِهِ
الصبرُ يوجدُ، إِنْ باءٌ له كسْرت لكنه، بسُكونِ الباءِ مفقودُ
ويحمَدُ الصابرُ الموّفي على غرض لا عاجزٌ، بعرى التقصيرِ معقودُ

فالمعرّي جعلَ الصبرُ صبرين، الأولُ الصبِر وهو نباتٌ صحراوي مُر, والثاني صبْر وهو الذي نُسمّيه بالجميل المُتمثل بالرضا بقضاء الله تعالى وعدم الجزع، وهذا المعنى واضحٌ يدلُّ على أنّ الفيلسوفَ قد تأثّر بحكمةِ الإمامِ في هذا الصدد.
ومن الحديثين؛ قول إبراهيم اليازجي:
كم بينَ صبرٍ غدا للذلِّ مُجْتلبًا وبينَ صبْرٍ غدا للعزِّ يجتلبُ

6 . جاءَ في قولِ ابن المقفع: ((كان أعظمُ الناسِ في عيني, وكانَ رأسُ ما أعظِّمه عندي صغر الدنيا في عينِه، كانَ خارجًا من سلطانِ بطنه، فلا يشتهي ما لا يجد, ولا يكثر إذا وجد، وكان خارجًا من سلطان فرجه، فلا يدعو إليه مؤنة ولا يستخفُّ له رأيًا ولا بدنًا، وكان خارجًا من سلطانِ الجهالة)), إذ ليس هنالك فرقٌ بين هذا الكلام وبين خُطبةٍ للإمام علي (عليه السلام): ((كان لي فيما مضى أخٌ في الله، وكانَ يُعظِّمُه في عيني صغرَ الدنيا في عينه، وكان خارجًا من سلطان بطنه؛ فلا يشتهي ما لا يجد، ولا يُكثِرُ إذا وجد، وكان أكثرُ دهرِه صامتًا. فإن قال بدَّ القائلين، ونقعَ غليلَ السائلين، وكان ضعيفًا مُستصعفًا)).
وما فعله ابنُ المقفع هو تحويرٌ في الكلام فقط, إذ يقول: كانَ أعظمُ الناسِ في عيني هو نفسه الذي يقصده الإمام (عليه السلام)، الأخُ في الدين فهو أعظمُ أخ: "كان لي فيما مضى أخٌ في الله". والفقرةُ الأخرى من كلام ابن المقفع: "وكان رأس ما أُعظِّمهُ عندي صغرَ الدنيا في عينه" هو ما ذكره الإمام: "وكان يُعظِّمه في عيني صغر الدنيا في عينه" إلا أنّ كلامَ الإمامِ في الوقعِ أجمل من حيث ترتيب الكلمات، وعدم اللجوء إلى المباشرة باستخدام أسلوب التعجب الذي أدخله ابن المقفع في كلامه؛ فمن بلاغةِ الإمامِ أنّ كلامَه مدعاةٌ للتعجبِ بدون إقحام "ما" فضلًا عن الجانب الموسيقي في الجملتين فإنَّ كلامَ علي (عليه السلام) موسيقيًا سلس أكثر من كلام ابن المقفع.
بعد ذلك يأخذُ ابنُ المقفع خُطبةَ الإمامِ بالنص: ((وكان يعظمه في عيني صغر الدنيا في عينه، وكان خارجًا من سلطانِ بطنِه؛ فلا يشتهي ما لا يجد، ولا يُكثِرُ إذا وجد، وكان أكثرُ دهره صامتًا. فإنْ قالَ بَدَّ القائلين ونقعَ غليلَ السائلين، وكان ضعيفًا مستضعفًا)) , يظهرُ أنّ ابنَ المقفع ينقلُ كلامَ الإمام بالنص مع تغييرٍ طفيفٍ، وفي بعض الأحيانِ ينقلها دون أي تغيير, ويذكرُ ابنُ أبي الحديد أنّ الإمامَ كان يقصدُ في خُطبته المقداد بن الأسود وهو من شيعته, أما ابنُ المقفع فإنّه لا يُشيرُ إلى أخٍ معين، ولكنّه كلامٌ خرجَ مخرجَ المثل، وعادةُ العربِ جاريةٌ بمثلِ ذلك.
وفي هذا يقولُ الأعشى:
طاوي المصيرِ على العزاءِ مُنصلتٌ بالقومِ ليله لا ماء ولا شجر
تكفـــــــيهِ فلذةُ لحمٍ إنْ ألمَّ بها من الشواءِ ويروى شربه الغمر
ولا يبارى لما في القدر يرقــــبه ولا تراهُ أمامَ القــــــومِ يفتقرُ

*الخاتمة:
سعى ابنُ المقفع من خلالِ كتابه هذا إلى أنْ يرسمَ نظريةً أخلاقيةً, فالاتجاه الأخلاقي هو الغالب على هذا المصنف, وقد ظهر شيءٌ كبيرٌ من تأثِّرِه بكلامِ الإمام علي (عليه السلام)، وكان أخذه بالنصِّ أحيانًا، وحينًا أخرى بالمعنى مع تحويرِ بعضِ الألفاظ، وأحيانًا ثالثة بالمعنى، لكنِ الأعمّ الأغلب كان من بابِ الاقتباسِ دون أنْ يذكرَ الإمامَ، ولا يمكن إرجاعُ هذه الظاهرة لسببٍ معينٍ، فربما كانت من بابِ التقيّةِ ودفعِ شرِّ المنصور العباسي، وربما لأسبابٍ أخرى لا يُمكِنُ حصرُها.
تجدرُ الإشارةُ إلى أنّ مؤلفاته تدفعُ تهمةَ الزندقة التي أُلصِقت به, وأعتقدُ أنّ هذه التهمة كانت ثوبًا جاهزًا تُلبِسُهُ السلطةُ العباسيةُ لكُلِّ من يُشكِّلُ خطرًا على سلطانها.

اخترنا لكم

الإحسان إلى الأموات وعلاقة الأحياء بهم ح2

بقلم: حنان الزيرجاوي كما أنّ هذا المعلّم الكبير ينذر البشرية في مكانٍ آخر فيقول: "إنّكم لو عاينتم ما قد عاين من مات منكم لجزعتم ووهلتم وسمعتم وأطعتم ولكن محجوب عنكم ما قد عاينوا وقريب ما يطرح الحجاب"(1). ثمّ يضيف القرآن في ذيل الآية قائلًا: "ذلك ما كنت منه تحيد"(2) أجل إنّ الموت حقيقة يهرب منها أغلب الناس؛ لأنّهم يحسبونه فناءً لا نافذةً إلى عالم البقاء، أو أنّهم لعلائقهم وارتباطاتهم الشديدة بالدنيا والمواهب المادية التي لهم فيها لا يستطيعون أن يصرفوا قلوبهم عنها، أو لسواد صحيفة أعمالهم. أيّاً كان فهم منه يهربون .. ولكن لا ينفعهم ذلك، ومصيرهم المحتوم في انتظار الجميع ولا مفرّ لأحد منه، ولابدّ أن ينزلوا إلى حفرة الموت ويقال لهم هذا ما كنتم منه تفرّون! وقائل هذا الكلام ربّما هو الله تعالى أو الملائكة أو الضمائر اليقظة أو الجميع! والقرآن بيّن هذه الحقيقة في آياتٍ أُخر كما في الآية (78) من سورة النساء إذ يقول: "أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيّدة" ولكن قد ينسى الإنسان المغرور جميع الحقائق التي يراها بأُمّ عينيه على أثر حب الدنيا وحبّ الذات حتّى يبلغ درجةً يُقسم فيها أنّه خالدٌ كما يقول القرآن الكريم في هذا الصدد: "أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال". وسواء أقسم أم لم يقسم، وصدّق أم لم يصدّق فإنّ الموت حقيقة تحدِّق بالجميع وتحيق بهم ولا مفرّ لهم منها. وفي مواضع كثيرة من القرآن الكريم جاء ذكر الموت قبل الحياة, والعلة من ذلك ان الموت هو الحياة الأبدية. فيا أحباب الزهراء (عليها السلام) على كلِّ مؤمنٍ عاقل ومؤمنةٍ عاقلة إذا كان يريد السعادة أن يخطط للحياة الأبدية من خلال هذه الحياة الدنيا الفانية وقبل أنْ يغادرها بالموت لأن (الدنيا ساعة فاجعلها طاعة)، كما ورد في الحديث الشريف(4). ومن نعم الله (تعالى) على العبد أنّك تحصل على الخلود في الآخرة من خلال ساعاتٍ تعيشها في هذه الحياة، لكن بشرط أنْ تنسلخ تلك الساعات عنك وأنت تتحلى بالصبر والطاعة وتحمل الابتلاءات لأن (الدنيا خداعة صراعة مكارة غرارة سحارة أنهارها لامعة وثمراتها يانعة، ظاهرها سرور وباطنها غرور، تأكلكم بأضراس المنايا). فلا تغرنكم بزخرفها وزبرجها، ما هي إلا أيام قليلة تعقبها راحة طويلة. شئنا أم ابينا سنكون تحت التراب , وسوف تكون بيوتنا لغيرنا! ستكون أسماؤنا مجرد كلماتٍ في سجلات التاريخ إن لم يتم إتلاف تلك السجلات! ستمسي أشكالنا في ذاكرة النسيان, وكلُّ ذلك لم يعُد له أهمية ونفع بعد مئات السنين, فوجودنا ما هو إلا ومضةٌ في هذا الكون اللامتناهي ستنطفئ في لمح البصر, وسيأتي بعدنا العشرات من الأجيال, جيلٌ يودع الجيلَ الذي قبله وهو لم يدرك أحلامه بعد. سنترك كلَّ شيءٍ تسابقنا إليه وتقاتلنا عليه من فتات هذه الدنيا الدنيئة, فقد جاء عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: "الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا"، وهذا نوم الغفلة فإذا حان الموت ينتبه. فهذه الدنيا ما هي إلا قنطرة تعبر عليها إلى الضفة المقابلة ... سنتمنى لو أمضينا أعمارنا في جمع الحسنات وعمل الصالحات, فقد روي عن الإمام الحسين بن عليّ (عليه السلام) قال: "ما الموت إلاّ قنطرة تعبر بكم من البؤس والضّراء إلى الجنان الواسعة، والنعيم الدائم، فأيُّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر؟"(5) ---------------------------------- 1- نهج البلاغة ـ الكلمات القصار ـ الكلمة 147. 2- في المراد من الباء في كلمة بالحقّ هناك احتمالات عديدة، فمنهم قال معناه التعدية والحقّ معناه الموت، ويكون معنى الجملة إنّ سكرات الموت لها واقعية أي أنّ السكرات تصحب معها الموت، وقيل أنّ الباء للملابسة، أي أنّ سكرات الموت تأتي مع الحقّ .. 4- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٦٧ - الصفحة ٦٨ 5- بحار الأنوار، ج 6، ص 154.

اخرى
منذ 4 سنوات
590

غذاء الجسد وغذاء الروح

سبحان الله خالق الخلق، ومدبر الأمور، عجيب الصنعة، ورائع التدبير والخلق، الذي جعل في الإنسان نوعين من الغذاء، لعله يتبصر ويتفكر فيهتدي إلى عظمة الخالق سبحانه وتعالى وهما: -الغذاء الجسدي -الغذاء الروحي إن كُلّاً من الروح والجسد يحتاج في تأمين سعادته ووصوله إلى كماله اللائق به إلى الغذاء الكامل والجامع، وإن فقدان أي عنصر من الغذاء يهيىء تربة مساعدة للإنحراف أو الضعف في الروح والجسد. قال تعالى: ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ﴾ سورة عبس (الآية ٢٤) باعتبار أن الدين الإسلامي دين متكامل من جميع النواحي، بديهي أن الإنسان يجب أن يهتم بطعامه، فالجانب الصحي من ضمن الاهتمامات التي أمر بها الإسلام من أجل الحفاظ على الصحة، وهذا الاهتمام بالغذاء المادي الذي نأخذه عن طريق الطعام الذي نأكله، يعتبر من جهه مادية، وعلى الرغم من وجود الرقابة الجسدية على الطعام تجدنا نهتم بهذا الجانب دون أن نبدي اهتماماً بالغذاء الروحي. "عن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال: في قوله تعالى: (فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ) قال: علمه الذي يأخذه، عمن يأخذه فلينظر الإنسان إلى طعامه" (1). نجد الأئمة (عليهم السلام) يعبرون في موارد أخرى عن التعاليم الروحية بـ (الغذاء) أو (الطعام)، ويعتبرون التعلم غذاء الروح. لا شك أن العلم غذاء الروح كما أن الطعام غذاء الجسد، فكما يجب على الإنسان أنْ يعرف أنّ الطعام الصالح والغذاء النافع كافل لسلامة الجسد وصحة البدن، كذلك يجب عليه أنْ يعلم أنّ العلم النافع والغذاء الصالح لتنمية روحه وتزكية نفسه ليرتقي سلم الكمال والقرب إلى الله. قال تعالى : [فلينظر الإنسان مما خلق] سورة الطارق (الآية ٥) فلو عرف الإنسان ممَّ خلق ولِمَ خلق وإلى أين سيذهب لما أصّر على الانحرافات. لذلك على الإنسان أن يراعي الدقة في أخذه للعلوم المتصلة بأمور العقيدة حرصاً على أن لا تتلوث روحه بمعارف هي بعيدة عن مصادر العقيدة الحقة. أي إنه ينبغي له أن يأخذ علمه من مهابط الوحي ومنابع الحكمة أهل بيت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا نبالغ إنْ قلنا إن غذاء الروح أهم من غذاء الجسد في أكثر المراحل إلا الضرورة فلماذا يهتم الإنسان بجسده ويغفل عن روحه؟ إن المعدة إذا تسمّمت بالطعام الفاسد فهناك طبيب يقوم بالعلاج أما الفكر إذا تسمم بالفكر الهدّام فهل هناك من يغسله ويعالجه؟ إن الأفكار الهدامة تسمّم العقل وتؤدي بصاحبها إلى الإنحراف، والانصراف عن كل ماهو مفيد إلى ماهو ضار ومدمر. لذلك يجب أن نتخذ الطريق الصحيح المستقيم الذي ينبع بالأفكار الصحيحة، وهو الطريق الذي رسمه أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة آل بيت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لإن التراث الفكري والمعرفي الذي وصلنا عن طريق أهل بيت العصمة( عليهم السلام )يمثل ينابيع تتدفق بغزارة، ويمكن للشارب أن يشرب منها وهو مطمئن كل الاطمئنان. إن غير المتزن هو من إذا مرض بدنه يعالجه بكل العلاجات ولكن إذا مرضت روحه وتلوثت بلوث الذنوب يتركها بلا علاج مع أن بدنه سوف يأكله التراب وروحه سوف تبقى خالدة... إذن أيها الإنسان مَنْ أولى بالعلاج هل البدن أم الروح؟ إن غذاء الجسد لابد منه، (فلو لا الخبز ما عبد الله) كما ورد لكن لا يكون على حساب غذاء الروح بل يلزم الإكتفاء بغذاء الجسد بأدنى المراتب والاهتمام بغذاء الروح غاية الاهتمام لأن الجسد يبلى ويفنى والروح باقية، فما الجسد إلا مركبة للروح، واجب علينا أن نهتم به من أجل أن تقوم الروح بواجبها في عبادة الله وطاعته والاتصال به، أما ما حدث فإننا ارتقينا بالجسد حتى لا يبقى للروح أثر. اسأل الله أن يوفقنا لإصلاح أنفسنا وأن لا نكون من الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. ---------------------------------- (١)- شرح أصول الكافي -- ج ٢ - الصفحة ١٩٥

اخرى
منذ 6 سنوات
13155

آهات قربة السقاء

بقلم: صفية الجيزاني في تلك الرمضاء الحارقة والفيافي الموحشة والمفاوز المقفرة... لا تسمع غير صليل السيوف وصهيل الخيول... صيحات تعلو إلى أعنان السماء.. العطش.. العطش.. أطفال ونساء نشفت دموعها وجفت شفاهها.. يا إلهي ماذا أفعل؟ وجوفي خاوٍ ليس فيه قطرة ماء، كي يرتوي مني هؤلاء الأمراء، نعم إنهم حجج رب السماء.. آهٍ. آهٍ... إنه السقاء.. جاء تلبية للنداء.. نعم، إنه يتجه نحوي يا لفرحتي، سيحملني بكفيه الشريفتين، ويأخذني معه حيث الفرات، ويأتي لهؤلاء الأطفال بماء الحياة... علت الأصوات.. عماه.. عماه.. لقد أعيانا العطش، عندما سمع العباس (عليه السلام) صرخة العيال وضجة الاطفال .. حملني معدن الوفاء متجهًا إلى أخيه سيد الأمراء وهو يقول: أخي هل من رخصة؟ قد ضاق صدري وسئمت الحياة.. فأذن له أن يقصد المشرعة، فركب فرسه الأصيل وأنا على عاتقه أميل، انطلق يسبق الريح الهفيف ونسيجي يلامس كتفه الشريف، تعلوني نشوة الافتخار وحبالي تعانق جسد المغوار.. اتجه نحو الجيوش المرابطة حول الشرائع فأخذوا يمانعونه عن الماء فلم يزل يقارعهم وهو يتلو الأراجيز: أقاتل القوم بقلب مهتد *** اذب عن سبط النبي أحمد اني انا العباس ذو التودد *** نجل علي المرتضى المؤيد حمل الاسد الضرغام على القوم اللئام، وكشفهم عن المشرعة.. أخذني بين كفيه يقربني شيئاً فشيئاً إلى ماء الفرات، شعرت بالارتياح بعد امتلائي بماء القراح.. حيث سيحملني بطل الإباء والولاء كي يسقي بي عطاشى كربلاء.. مد يد العطاء، يغترف قليلًا من الماء ليطفئ بها نار الظماء، إلّا أن نفسه الأبية امتنعت من الارتواء: والله لا ذقت وسيدي الحسين عطشان! فرمى الماء من كفيه والعطش يفري فؤاده، يستعد لمعمعة الاجل، حملني ليأخذني إلى الخيام، صعد على المشرعة، أخذته النبال من كل مكان.. أمسك بي بقوة.. ضمني إلى صدره.. لابد من الوصول الى آل الرسول وأبناء البتول.. نادى فحل الفحول.. أحسست بنبضات قلبه وهي تقول: أخي يا حسين، أنا قادم ومعي الماء.. سكينة.. أنا قادم لأروي عطشك يا روح عمك.. ازدادت النبال والضربات على أسد الفلوات.. آهٍ يا سيدي، دعني أحمي ظهرك وصدرك من تلك السهام لنصل معًا الى الخيام ونسقي خير الانام.. لكن هؤلاء الملاعين حاولوا بكل الطرق منعَه من الوصول.. فحمل عليه ذلك اللعين، فضربه على يمينه، فقطعها.. وا ويلاه.. فأخذ السيف بشماله وهو يمسك بي بكل قوته وأنشأ يقول : والله إن قطعتمُ يميني *** إني احامي ابدا عن ديني وعن إمام صادق اليقين *** نجل النبي الطاهر الامين حمل على القوم الظُلّام فقتل منهم رجالًا كثيرًا. وأنا ما زلت على ظهره.. أحمل ماء المعرفة.. لكن ذاك اللعين عمر بن سعد لمحني من بعيد فعلم أني غاية العميد.. فقال: ويلكم ارشقوا القربة بالنبل، فو الله إنْ شرب الحسين الماء أفناكم عن آخركم.. فحملوا على أبي الفضل حملة نكراء.. وبعد جهاد وعناء، ضربوه على شماله فقطعوها هي الاخرى.. فأنكبّ معدن الفداء على السيف بأسنانه وحمل على القوم اللئام وهو يقول : يا نفس لا تخشي من الكفار *** وأبشري برحمة الجبار قد قطعوا ببغيهم يساري *** فأصلهم يا رب حر النار وفي تلك الاثناء وبعد رحلتي مع معدن التضحية والفداء تبددت آمالي فوقعت صريعة بعد إن ضُربت بسهام الغدر، أريق ما في داخلي من ماء فاختلط مع تلك الدماء الظماء.. آه يا سيدي بقطع كفيك قد قطعت كفي الحسين (عليه السلام)، بقتلك كسروا ظهره... وآخاه.. وا عباساه.. وا مهجة قلباه..

اخرى
منذ 5 سنوات
1376

التعليقات

يتصدر الان

لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع

يستشهد الكثير من الناس ــ وحتى بعض المثقفين ــ بقول:" لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع فإن الخير فيها دخيل وعاشر نفساً جاعت بعد شبع فإن الخير فيها أصيل" على أنه من أقوال أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، كما يستشهدون أيضاً بقولٍ آخر ينسبونه إليه (عليه السلام) لا يبعد عن الأول من حيث المعنى:"اطلبوا الخير من بطون شبعت ثم جاعت لأن الخير فيها باق، ولا تطلبوا الخير من بطون جاعت ثم شبعت لأن الشح فيها باق"، مُسقطين المعنى على بعض المصاديق التي لم ترُق افعالها لهم، لاسيما أولئك الذين عاثوا بالأرض فساداً من الحكام والمسؤولين الفاسدين والمتسترين عل الفساد. ونحن في الوقت الذي نستنكر فيه نشر الفساد والتستر عليه ومداهنة الفاسدين نؤكد ونشدد على ضرورة تحرّي صدق الأقوال ومطابقتها للواقع وعدم مخالفتها للعقل والشرع من جهة، وضرورة التأكد من صدورها عن أمير المؤمنين أبي الأيتام والفقراء (عليه السلام) أو غيرها من المعصومين (عليهم السلام) قبل نسبتها إليهم من جهة أخرى، لذا ارتأينا مناقشة هذا القول وما شابه معناه من حيث الدلالة أولاً، ومن حيث السند ثانياً.. فأما من حيث الدلالة فإن هذين القولين يصنفان الناس الى صنفين: صنف قد سبق له أن شبع مادياً ولم يتألم جوعاً، أو يتأوه حاجةً ومن بعد شبعه جاع وافتقر، وصنف آخر قد تقلّب ليله هماً بالدين، وتضوّر نهاره ألماً من الجوع، ثم شبع واغتنى،. كما جعل القولان الخير متأصلاً في الصنف الأول دون الثاني، وبناءً على ذلك فإن معاشرة أفراد هذا الصنف هي المعاشرة المرغوبة والمحبوبة والتي تجرّ على صاحبها الخير والسعادة والسلام، بخلاف معاشرة أفراد الصنف الثاني التي لا تُحبَّذ ولا تُطلب؛ لأنها لا تجر إلى صاحبها سوى الحزن والندم والآلام... ولو تأملنا قليلاً في معنى هذين القولين لوجدناه مغايراً لمعايير القرآن الكريم بعيداً كل البعد عن روح الشريعة الاسلامية ، وعن المنطق القويم والعقل السليم ومخالفاً أيضاً لصريح التاريخ الصحيح، بل ومخالف حتى لما نسمعه من قصص من أرض الواقع أو ما نلمسه فيه من وقائع.. فأما مناقضته للقرآن الكريم فواضحة جداً، إذ إن الله (تعالى) قد أوضح فيه وبشكلٍ جلي ملاك التفاضل بين الناس، إذ قال (عز من قائل):" يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)"(1) جاعلاً التقوى مِلاكاً للتفاضل، فمن كان أتقى كان أفضل، ومن البديهي أن تكون معاشرته كذلك، والعكس صحيحٌ أيضاً. وعليه فإن من سبق حاجتُه وفقرُه شبعَه وغناه يكون هو الأفضل، وبالتالي تكون معاشرته هي الأفضل كذلك فيما لو كان تقياً بخلاف من شبع وكان غنياً ، ثم افتقر وجاع فإنه لن يكون الأفضل ومعاشرته لن تكون كذلك طالما كان بعيداً عن التقوى. وأما بُعده عن روح الشريعة الإسلامية فإن الشريعة لطالما أكدت على أن الله (سبحانه وتعالى) عادلٌ لا جور في ساحته ولا ظلمَ في سجيته، وبالتالي لا يمكن أن يُعقل إطلاقاً أن يجعل البعض فقيراً ويتسبب في دخالة الخير في نفوسهم، التي يترتب عليها نفور الناس من عشرتهم، فيما يُغني سواهم ويجعل الخير متأصلاً في نفوسهم بسبب إغنائه إياهم ليس إلا ومن ثم يتسبب في كون الخير متأصلاً في نفوسهم، وبالتالي حب الناس لعشرتهم. فإن ذلك مخالف لمقتضى العدل الإلهي لأنه ليس بعاجزٍ عن تركه ولا بمُكره على فعله، ولا محب لذلك لهواً وعبثاً (تعالى عن كل ذلك علواً كبيراً). كما إن تأصل الخير في نفوس بعض الناس ودخالته في نفوس البعض الآخر منهم بناءً على أمر خارج عن إرادتهم واختيارهم كـ(الغنى والشبع أو الجوع والفقر) إنما هو أمرٌ منافٍ لمنهج الشريعة المقدسة القائم على حرية الانسان في اختياره لسبيل الخير والرشاد أو سبيل الشر والفساد، قال (تعالى):" إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)"(2) بل إن الانسان أحياناً قد يكون فقيراً بسبب حب الله (تعالى) له، كما ورد في الحديث القدسي: "أن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى فلو أفقرته لأفسده ذلك و أن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر فلو أغنيته لأفسده ذلك"(3) وهل يمكن ان نتصور أن الخيرَ دخيلٌ فيمن يحبه الله (تعالى) أو إن معاشرته لا تجدي نفعا، أو تسبب الهم والألم؟! نعم، ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"اِحْذَرُوا صَوْلَةَ اَلْكَرِيمِ إِذَا جَاعَ وَ اَللَّئِيمِ إِذَا شَبِعَ"(4) ولا يقصد به الجوع والشبع المتعارف عليه لدى الناس، وإنما المراد منه: احذروا صولة الكريم إذا اُمتُهِن، واحذروا صولة اللئيم إذا أكرم، وفي هذا المعنى ورد عنه (عليه السلام) أيضاً: "احذروا سطوة الكريم إذا وضع و سورة اللئيم إذا رفع"(5) وأما العقل السليم والمنطق القويم فإنهما يقتضيان أن تتأصل صفة الخير في الإنسان لملكاتٍ حميدة يتسم بها وصفات فضيلة يتميز بها، لا أن تتأصل صفة الخير في نفسه لمجرد أنه ولد في أسرة تتمتع بالرفاهية الاقتصادية ووجد في بيئة تتنعم بالثروات المادية! وعند مراجعتنا للتاريخ الصحيح نجد أن قادة البشر وصفوة الناس إنما كان أغلبهم ينتمي الى الطبقات الفقيرة من المجتمع، فهؤلاء الأنبياء ورسل الله (صلوات الله عليهم) منهم من كان نجاراً أو خياطاً أو راعياً، ومع ذلك فقد كانوا من أطيب الناس خلقاً، وأعظمهم شرفاً، وأرفعهم منزلةً، قد تأصّل الخير في نفوسهم تأصّلاً حتى غدوا قطعة منه، فكانوا هم الخير للبشر، وهم الرحمة للعالمين. وبالنزول إلى أرض الواقع نجد أن الكثير من الفقراء والمساكين طيبي الروح، كريمي النفس، يتألمون لألم المحتاج ولربما يؤثرونه على أنفسهم رغم حاجتهم. ولا نقصد من كلامنا هذا أن الأغنياء هم على نقيض ذلك، وإنما تأكيداً على مسألة عدم ارتباط تأصل الخير في النفوس وعدمه بمستواهم الاقتصادي الذي نشأوا فيه ارتباط العلة والمعلول، فكما إن بعض الفقراء أخيار، فإن بعض الأغنياء كذلك، والعكس صحيح أيضاً. ومن هنا يُفهم من بعض الروايات ضرورة عدم طلب الخير والحاجات ممن هم أهل للخير بقطع النظر عن مستواهم المعاشي الحالي والسابق، منها ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"أشد من الموت طلب الحاجة من غير أهلها"(5)، وعنه (عليه السلام) أيضاً: "فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غير أهلها"(6) إذن فلا صحة لهاتين المقولتين من حيث الدلالة، حتى وإن تنزلنا وحملنا الجوع والشبع على المعنى المعنوي لا المادي؛ وذلك لأنه حتى من يفتقر الى الأخلاق المعنوية فإنه ما إن يتكامل بالفضائل ويقلع عن الرذائل حتى يتسم بالخير وتحسن عشرته وتطيب للناس صحبته، والعكس صحيحٌ أيضا.. ومن البديهي أن ما لا يوافق العقل والمنطق السليم، ويخالف صريح القرآن الكريم، لا يمكن أن يصدر من وصي الرسول الكريم (صلوات الله عليهما وآلهما)، وعليه لا تصح نسبة هذين القولين الى أمير المؤمنين (عليه السلام).. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الحجرات 13 (2) الانسان 3 (3) عوالي الآلي ج2 ص29 (4) غرر الحكم ج1 227 (5) المدر السابق ج1 ص246 (6) ميزان الحكمة ج4 ص 238 رضا الله غايتي

اخرى
منذ 6 سنوات
76956

بين طيبة القلب وحماقة السلوك...

خلق الله الأشياء كلها في الحياة ضمن موازين وقياسات... فالزيادة أو النقيصة تسبب المشاكل فيها. وهكذا حياتنا وأفعالنا وعواطفنا لا بد أن تكون ضمن موازين دقيقة، وليست خالية منها، فالزيادة والنقيصة تسبب لنا المشاكل. ومحور كلامنا عن الطيبة فما هي؟ الطيبة: هي من الصفات والأخلاق الحميدة، التي يمتاز صاحبها بنقاء الصدر والسريرة، وحُبّ الآخرين، والبعد عن إضمار الشر، أو الأحقاد والخبث، كما أنّ الطيبة تدفع الإنسان إلى أرقى معاني الإنسانية، وأكثرها شفافية؛ كالتسامح، والإخلاص، لكن رغم رُقي هذه الكلمة، إلا أنها إذا خرجت عن حدودها المعقولة ووصلت حد المبالغة فإنها ستعطي نتائج سلبية على صاحبها، كل شيء في الحياة يجب أن يكون موزوناً ومعتدلاً، بما في ذلك المحبة التي هي ناتجة عن طيبة الإنسان، وحسن خلقه، فيجب أن تتعامل مع الآخرين في حدود المعقول، وعندما تبغضهم كذلك وفق حدود المعقول، ولا يجوز المبالغة في كلا الأمرين، فهناك شعرة بين الطيبة وحماقة السلوك... هذه الشعرة هي (منطق العقل). الإنسان الذي يتحكم بعاطفته قليلاً، ويحكّم عقله فهذا ليس دليلاً على عدم طيبته... بالعكس... هذا طيب عاقل... عكس الطيب الأحمق... الذي لا يفكر بعاقبة أو نتيجة سلوكه ويندفع بشكل عاطفي أو يمنح ثقة لطرف معين غريب أو قريب... والمبررات التي يحاول إقناع نفسه بها عندما تقع المشاكل أنه صاحب قلب طيب. الطيبة لا تلغي دور العقل... إنما العكس هو الصحيح، فهي تحكيم العقل بالوقت المناسب واتخاذ القرار الحكيم الذي يدل على اتزان العقل، ومهما كان القرار ظاهراً يحمل القسوة أحياناً لكنه تترتب عليه فوائد مستقبلية حتمية... وأطيب ما يكون الإنسان عندما يدفع الضرر عن نفسه وعن الآخرين قبل أن ينفعهم. هل الطيبة تصلح في جميع الأوقات أم في أوقات محددة؟ الطيبة كأنها غطاء أثناء الشتاء يكون مرغوباً فيه، لكنه اثناء الصيف لا رغبة فيه أبداً.. لهذا يجب أن تكون الطيبة بحسب الظروف الموضوعية... فالطيبة حالة تعكس التأثر بالواقع لهذا يجب أن تكون الطيبة متغيرة حسب الظروف والأشخاص، قد يحدث أن تعمي الطيبة الزائدة صاحبها عن رؤيته لحقيقة مجرى الأمور، أو عدم رؤيته الحقيقة بأكملها، من باب حسن ظنه بالآخرين، واعتقاده أن جميع الناس مثله، لا يمتلكون إلا الصفاء والصدق والمحبة، ماي دفعهم بالمقابل إلى استغلاله، وخداعه في كثير من الأحيان، فمساعدة المحتاج الحقيقي تعتبر طيبة، لكن لو كان المدّعي للحاجة كاذباً فهو مستغل. لهذا علينا قبل أن نستخدم الطيبة أن نقدم عقولنا قبل عواطفنا، فالعاطفة تعتمد على الإحساس لكن العقل أقوى منها، لأنه ميزان يزن الأشياء رغم أن للقلب ألماً أشد من ألم العقل، فالقلب يكشف عن نفسه من خلال دقاته لكن العقل لا يكشف عن نفسه لأنه يحكم بصمت، فالطيبة يمكن أن تكون مقياساً لمعرفة الأقوى: العاطفة أو العقل، فالطيّب يكون قلبه ضعيفاً ترهقه الضربات في أي حدث، ويكون المرء حينها عاطفياً وليس طيباً، لكن صاحب العقل القوي يكون طيباً أكثر من كونه عاطفياً. هل الطيبة تؤذي صاحبها وتسبب عدم الاحترام لمشاعره؟ إن الطيبة المتوازنة المتفقة مع العقل لا تؤذي صاحبها لأن مفهوم طيبة القلب هو حب الخير للغير وعدم الإضرار بالغير، وعدم العمل ضد مصلحة الغير، ومسامحة من أخطأ بحقه بقدر معقول ومساعدة المحتاج ... وغيرها كثير. أما الثقة العمياء بالآخرين وعدم حساب نية المقابل وغيرها فهذه ليست طيبة، بل قد تكون -مع كامل الاحترام للجميع- غباءً أو حماقة وسلوكاً غير عقلاني ولا يمت للعقل بصلة. إن المشكلة تقع عند الإنسان الطيب عندما يرى أن الناس كلهم طيبون، ثم إذا واجهه موقف منهم أو لحق به أذى من ظلم أو استغلال لطيبته، تُغلق الدنيا في وجهه، فيبدأ وهو يرى الناس الطيبين قد رحلوا من مجتمعه، وأن الخير انعدم، وتحصل له أزمة نفسية أو يتعرض للأمراض، لأن الطيّب يقدم الإحسان للناس بكل ما يستطيع فعله، ويقدّم ذلك بحسن نية وبراءة منه، فهو بالتالي ينتظر منهم الرد بالشكر أو المعاملة باللطف على الأقل... صحيح أن المعروف لوجه الله، ولكن من باب: من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق، لذلك يتأذى عندما يصدر فعل من الشخص الذي كان يعامله بكل طيب وصدق. هل الطيبة والصدق من علامات ضعف الشخصية؟ الكثير من الناس يصف طيب القلب بأنه ضعيف الشخصية، لأنه يتصف بعدم الانتقام ممن ظلمه، والصفح عنه عند رجوعه عن الخطأ، وأنه لا يحب إيقاع الآخرين بالمشاكل؛ لأنه مقتنع أن الله سيأخذ له حقه. والحقيقة هي أن الصدق والطيبة وحسن الظن بالآخرين ليست ضعف شخصية، بل هي من الأخلاق الراقية وهي تزيد صاحبها سمواً وجمالاً روحياً، وليس من المعيب أن يمتلك الإنسان الطيبة بل العيب في من لا يُقدّر هذه الطيبة ويعطيها حقها في التعامل بالمثل. فالمشكلة الأساسية ليست في الطيبة، إنما في استغلال الآخرين لهذه الطيبة، نتيجة لعدم عقلنة قراراتنا والاعتماد على عواطفنا بشكل كلي. فالصدق والطيبة حسب المنطق والعقل، ولها فوائد جمة للنفس ولعموم أفراد المجتمع، فهي تحصين للشخص عن المعاصي، وزيادة لصلة الإنسان بربه، وتهذيب للنفس والشعور بالراحة النفسية، فالصادق الطيب ينشر المحبة بين الناس، وهذا يعزّز التماسك الاجتماعي وتقويته من سوء الظنون والحقد، وهذا التعامل أكّدت عليه جميع الشرائع السماوية، ولو تأمّلنا تاريخ وأخلاق الأنبياء والأوصياء لوجدنا كل ما هو راقٍ من الأخلاق والتعامل بالطيبة والصدق... حنان الزيرجاوي

اخرى
منذ 6 سنوات
56710

لا تقاس العقول بالأعمار!

(لا تقاس العقول بالأعمار، فكم من صغير عقله بارع، وكم من كبير عقله فارغ) قولٌ تناولته وسائل التواصل الاجتماعي بكل تقّبلٍ ورضا، ولعل ما زاد في تقبلها إياه هو نسبته الى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولكننا عند الرجوع إلى الكتب الحديثية لا نجد لهذا الحديث أثراً إطلاقاً، ولا غرابة في ذلك إذ إن أمير البلاغة والبيان (سلام الله وصلواته عليه) معروفٌ ببلاغته التي أخرست البلغاء، ومشهورٌ بفصاحته التي إعترف بها حتى الأعداء، ومعلومٌ كلامه إذ إنه فوق كلام المخلوقين قاطبةً خلا الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ودون كلام رب السماء. وأما من حيث دلالة هذه المقولة ومدى صحتها فلابد من تقديم مقدمات؛ وذلك لأن معنى العقل في المفهوم الإسلامي يختلف عما هو عليه في الثقافات الأخرى من جهةٍ، كما ينبغي التطرق الى النصوص الدينية الواردة في هذا المجال وعرضها ولو على نحو الإيجاز للتعرف إلى مدى موافقة هذه المقولة لها من عدمها من جهةٍ أخرى. معنى العقل: العقل لغة: المنع والحبس، وهو (مصدر عقلت البعير بالعقال أعقله عقلا، والعِقال: حبل يُثنَى به يد البعير إلى ركبتيه فيشد به)(1)، (وسُمِّي العَقْلُ عَقْلاً لأَنه يَعْقِل صاحبَه عن التَّوَرُّط في المَهالِك أَي يَحْبِسه)(2)؛ لذا روي عنه (صلى الله عليه وآله): "العقل عقال من الجهل"(3). وأما اصطلاحاً: فهو حسب التصور الأرضي: عبارة عن مهارات الذهن في سلامة جهازه (الوظيفي) فحسب، في حين أن التصوّر الإسلامي يتجاوز هذا المعنى الضيّق مُضيفاً إلى تلك المهارات مهارة أخرى وهي المهارة العبادية. وعليه فإن العقل يتقوّم في التصور الاسلامي من تظافر مهارتين معاً لا غنى لأحداهما عن الأخرى وهما (المهارة العقلية) و(المهارة العبادية). ولذا روي عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنه عندما سئل عن العقل قال :" العمل بطاعة الله وأن العمّال بطاعة الله هم العقلاء"(4)، كما روي عن الإمام الصادق(عليه السلام)أنه عندما سئل السؤال ذاته أجاب: "ما عُبد به الرحمن، واكتسب به الجنان. فسأله الراوي: فالذي كان في معاوية [أي ماهو؟] فقال(عليه السلام): تلك النكراء، تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل"(5) والعقل عقلان: عقل الطبع وعقل التجربة، فأما الأول أو ما يسمى بـ(الوجدان الأخلاقي) فهو مبدأ الادراك، وهو إن نَما وتطور سنح للإنسان فرصة الاستفادة من سائر المعارف التي يختزنها عن طريق الدراسة والتجربة وبالتالي يحقق الحياة الإنسانية الطيبة التي يصبو اليها، وأما إن وهن واندثر لإتباع صاحبه الأهواء النفسية والوساوس الشيطانية، فعندئذٍ لا ينتفع الانسان بعقل التجربة مهما زادت معلوماته وتضخمت بياناته، وبالتالي يُحرم من توفيق الوصول إلى الحياة المنشودة. وعقل التجربة هو ما يمكن للإنسان اكتساب العلوم والمعارف من خلاله، وما أروع تشبيه أمير البلغاء (عليه السلام) العلاقة التي تربط العقلين معاً إذ قال فيما نسب إليه: رأيت العقل عقلين فمطبوع ومسموع ولا ينفع مسموع إذ لم يك مطبــوع كما لا تنفع الشمس وضوء العين ممنوع(6) فقد شبّه (سلام الله عليه) عقل الطبع بالعين وعقل التجربة بالشمس، ومما لاشك فيه لكي تتحقق الرؤية لابد من أمرين: سلامة العين ووجود نور الشمس، وكما إن الثاني لا ينفع إن لم يتوفر الأول فكذلك عقل التجربة لا ينفع عند غياب عقل الطبع فضلاً عن موته. وبما إن عقل الطبع قد ينمو ويزدهر فينفع صاحبه من عقل التجربة، وقد يموت ويندثر عند الاستسلام لإضلال شبهةٍ أوبسبب إرتكاب معصية، فإنه ومن باب أولى أن يتعرض الى الزيادة والنقصان كما سيأتي... وقد ورد في النصوص الدينية أن للعقل زمناً ينمو فيه ويكتمل، فعن إمامنا أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه):"يثغر الصبي لسبع، ويؤمر بالصلاة لتسع، ويفرق بينهم في المضاجع لعشر، ويحتلم لأربع عشرة، وينتهى طوله لإحدى وعشرين سنة، وينتهي عقله لثمان وعشرين إلا التجارب"(7)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يربى الصبي سبعاً ويؤدب سبعاً، ويستخدم سبعاً، ومنتهى طوله في ثلاث وعشرين سنة، وعقله في خمس وثلاثين [سنة] وما كان بعد ذلك فبالتجارب"(8). إذن يتوقف النمو الطبيعي لعقل الانسان عند سن الثامنة والعشرين أو الخامسة والثلاثين كما ورد في الروايتين، وأية زيادة أخرى في طاقته بعد ذلك إنما تأتي عن طريق التجارب، وقد يُتوهم بأن ثمة تعارضاً ما بين الروايتين المتقدمتين في شأن تحديد سن النمو العقلي، إلا إنه لا تعارض ينهما إذا حملنا اختلافهما فيه على اختلاف الاشخاص وتباين استعدادات وقابليات كل منهم. وعلى الرغم من توقف نمو عقل الإنسان إلا إن له أنْ يزيده بالتجارب ومواصلة التعلم ــ كما تقدم في الروايات ــ وسواء أثبت العلم هذه الحقيقة الروائية أم لا، فنحن نريد الإشارة إلى ضرورة استمرار التجربة والتعلم لزيادة نمو العقل وهذا المقدار لا خلاف فيه وعلى الرغم من إن لعمر الانسان مدخلية في زيادة عقله كما تقدم وكما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يزيد عقل الرجل بعد الاربعين إلى خمسين وستين، ثم ينقص عقله بعد ذلك"(9)، إلا إن ذلك ليس على نحو العلة التامة، إذ يمكن للعقل أن يبقى شاباً وقوياً وإن شاب الإنسان وضعف جسمه، وتقدم في السن ووهن عظمه، فالعاقل لا يشيب عقله ولا تنتقص الشيخوخة من قوته بل وقد يزداد طاقةً وحيويةً لذا ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"رأي الشيخ أحب الي من جَلَد الغلام"(10)، وفي أخرى ".....من حيلة الشباب "(11) وأما من لم يوفر أسباب صقل عقله في مرحلة الشباب فإنه بلا شك يضمحل عقله في مرحلة الشيخوخة. وليس تقدم العمر هو العامل الوحيد في نقصان العقل بل إن النصوص الشرعية أشارت الى عوامل عديدة اخرى أهمها: أولاً: التعلم: فقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "من لم يصبر على ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبداً"(13). ثانياً: التوبة: وعنه (عليه السلام) ايضاً:"من لم يرتدع يجهل"(14) ثالثاً: التقوى: فقد كتب إمامنا الباقر (عليه السلام) إلى سعد الخير: "بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإني اوصيك بتقوى الله فإن فيها السلامة من التلف والغنيمة في المنقلب إن الله (عزوجل) يقي بالتقوى عن العبد ما عزب عنه عقله ويجلي بالتقوى عنه عماه وجهله"(15) إذن التوبة هي سبب للتوفيق الإلهي الذي يؤدي فيما يؤدي إليه من إكمال العقل. رابعاً: الوقوف عند الشبهة: وقال (عليه السلام ): "لا ورع كالوقوف عند الشبهة"(16). فإن الوقوف عند الشبهات سبب من أسباب التوفيق الإلهي بلا شك. خامساً: الاعتراف بالجهل: كما روي عن الإمام علي (عليه السلام): "غاية العقل الاعتراف بالجهل"(17) إذ الاعتراف بالجهل يدفع الإنسان دوماً إلى مزيد من بذل الجهد واكتساب المعارف. مما تقدم تتضح جلياً صحة هذه المقولة دلالةً، إذ إن العقول فعلاً لا تقاس بالأعمار لأن كلٍاً من زيادتها ونقيصتها منوطٌ بالعديد من العوامل الأخرى والتي تقدم ذكرها، بيد إن ذلك لا يبرر التساهل في نشرها والتهاون في الاستشهاد بها على إنها من أقوال أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) لعدم ثبوت ذلك سنداً من جهة ولضعف بلاغتها وركاكة تركيبها بالنسبة إلى سيد البلغاء والبلاغة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) تهذيب اللغة ج1 ص65 (2) لسان العرب ج11 ص458 (3) نهاية الحكمة ص305 (4) ميزان الحكمة ج3 ص333 (5) أصول الكافي ج1، ح3 / 11 (6) نهج السعادة ج9 ص163 (7) الكافي ج7 ص94 (8) الفقيه ج3 ص493 (9) الاختصاص ص245 (10) نهج البلاغة حكمة 86 (11) بحار الأنوار ج72 ص105 (12) المصدر السابق ج1 ص94 (13) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص118 (14) الكافي ج8 ص73 (15) وسائل الشيعة ج1 ص162 (16) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص1 بقلم الكاتبة: رضا الله غايتي

اخرى
منذ 6 سنوات
44236

الطلاق ليس نهاية المطاف

رحلةٌ مثقلة بالألم في طريق يئن من وطأة الظلم! ينهي حياة زوجية فشلت في الوصول إلى شاطئ الأمان. ويبدد طموحات أطفال في العيش في هدوء نفسي واجتماعي تحت رعاية أبوين تجمعهم المودة والرحمة والحب. الطلاق شرعاً: هو حل رابطة الزواج لاستحالة المعاشرة بالمعروف بين الطرفين. قال تعالى: [ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)].(١). الطلاق لغوياً: من فعل طَلَق ويُقال طُلقت الزوجة "أي خرجت من عصمة الزوج وتـحررت"، يحدث الطلاق بسبب سوء تفاهم أو مشاكل متراكمة أو غياب الانسجام والحب. المرأة المطلقة ليست إنسانة فيها نقص أو خلل أخلاقي أو نفسي، بالتأكيد إنها خاضت حروباً وصرعات نفسية لا يعلم بها أحد، من أجل الحفاظ على حياتها الزوجية، ولكن لأنها طبقت شريعة الله وقررت مصير حياتها ورأت أن أساس الـحياة الزوجيـة القائم على المودة والرحـمة لا وجود له بينهما. فأصبحت موضع اتهام ومذنبة بنظر المجتمع، لذلك أصبح المـجتمع يُحكم أهواءه بدلاً من الإسلام. ترى، كم من امرأة في مجتمعنا تعاني جرّاء الحكم المطلق ذاته على أخلاقها ودينها، لا لسبب إنما لأنها قررت أن تعيش، وكم من فتاة أُجبرت قسراً على أن تتزوج من رجل لا يناسب تطلعاتها، لأن الكثير منهن يشعرن بالنقص وعدم الثقة بسبب نظرة المجتمع، وتقع المرأة المطلّقة أسيرة هذه الحالة بسبب رؤية المجتمع السلبيّة لها. وقد تلاحق بسيل من الاتهامات وتطارد بجملة من الافتراءات. وتعاني المطلقة غالباً من معاملة من حولها، وأقرب الناس لها، بالرغم من أن الطلاق هو الدواء المر الذي قد تلجأ إليه المرأة أحياناً للخلاص من الظلم الذي أصبح يؤرق حياتها الزوجية، ويهدد مستقبلها النفسي، والله تعالى لم يشرع أمراً لخلقه إلا إذا كان فيه خير عظيم لهم، والطلاق ما شرّع إلا ليكون دواء فيه شفاء وإن كان مرّاً، وإن كان أمره صعباً على النفوس، حيث قال عز وجل: "وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا"، روي عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) ((أبغض الحلال إلى الله الطلاق) (٢). ورغم أن الشريعة الإسلامية أباحت الطلاق بشروط تلاءم لبناء المجتمع، وأولت أهمية في الإحسان دائمًا للطرف الأضعف والأكثر خسارة في هذه المعادلة وهي "المرأة"، إلا أن المجتمع الذي يدّعي الإسلام لا يرحمها، ويحكم عليها بالإدانة طوال حياتها دون النظر في صحة موقفها في الطلاق من عدمه! قال( تعالى ): [الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] (٣). ولكن بعد كل هذا فالحياة لم ولن تتوقف بعد الطلاق! الطلاق ليس نهاية الحياة. - أخيتي. ليكن الطلاق بداية جديدة لحياة جديدة وللانطلاق. -قطار العطاء لن يتعطل. فإن كنت السبب في الطلاق فالحمد لله على كل حال وتلك أمة قد خلت وأيام ذهبت وانجلت فلست بالمعصومة من الخطأ. وعليك استدراك الأخطاء وتقوية مواطن الضعف في شخصيتك، واجعليها درساً مفيداً في الحياة لتطوير نفسك وتقويتها. وإذا كنتِ مظلومة فهناك جبار يُحصي الصغير والكبير وسيأتي يوم ينتصر لك فيه. -ومن الجميل أن تعطي نفسك الإحساس بالحب والاحترام، ولا تتأثري بأي نظرة سلبية من المجتمع وكون البعض يتعامل مع المطلقة على أنها حالة خاصة فعليكِ إثبات ذاتك حتى تفرضي على الكل شخصيتك. - نظرتك لنفسك اجعليها نظرة ايجابية مشرقة ولا تنزلقي في مستنقع نبذ الذات وظلم النفس. - ابحثي عن الصفات الجيدة فيك فإن ذلك سيشعرك بالثقة في ذاتك والتقدير لها. -حاولي مراجعة نفسك للخروج بإيجابيات حصلت لك من طلاقك. - خالطي الآخرين وإياك والعزلة بسبب وضعك الجديد فلست بأول من يبتلى بالطلاق. -استمتعي بالموجود ولا تتعلقي بالمفقود، حلقي بروح تعبق أملاً وتفاؤلاً، استمتعي بما وهبك الله من نعم (صحة وأولاد وأهل وصديقات وعمل وهوايات وغيرها من الأمور الجميلة) فما حصل لك حصل… ولابد أن تتقبليه برضا، وأعلمي أن ما أصابك لم يكن ليخطأك وما أخطأك لم يكن ليصيبك. وقال أصدق من قال: ( وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم). فالرضا سر السعادة الحقيقي. - اقتربي من صديقاتك الصالحات، واقضي معهن وقتاً طيباً تنسين به ألمك وحزنك. - احرصي على الصلوات وقراءة القرآن الكريم والذكر والاستغفار وأكثري من الطاعات قدر ما تستطيعين، ففيها السلوى والفرح والسعادة. ونعم سعادة القرب من الرحمن. - اشغلي نفسك بأعمال البر والإحسان بمساعدة محتاج. بكفالة يتيم. بتعلم الفقه والقرآن وتعليمه. - اجتهدي في عمل برنامج يومي لك يكون ممتلأ بكل ما هو مفيد لك. من قراءة وزيارة الأصدقاء وصلة الرحم. بحيث لا تكون هناك دقيقة أنت فارغة فيها. - وأسرعي بقاربك الجميل بمجذافين من إيمان بالله وثقة بالنفس وسوف تصلين بإذن الله نحو جزيرة السعادة والنجاح. لكي تتسلق جبال الإنجاز، وتصل لأعلى مراتب الاعجاز. وعندها جزماً سيكون للحياة معنى آخر. --------------------------------- (١)-سورة البقرة الآية (٢٢٦-٢٢٧). (٢)-الكافي (٢)-سورة البقرة الآية (٢٢٨) حنان ستار الزيرجاوي

اخرى
منذ 6 سنوات
43562

المرأة في فكر الإمام علي (عليه السلام)

بقلم: أم نور الهدى كان لأمير المؤمنين (عليه السلام) اهتمام خاص بالمرأة، فنراه تارة ينظر إليها كآية من آيات الخلق الإلهي، وتجلٍ من تجليات الخالق (عز وجل) فيقول: (عقول النساء في جمالهن وجمال الرجال في عقولهم). وتارة ينظر إلى كل ما موجود هو آية ومظهر من مظاهر النساء فيقول: (لا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها فإن المرأة ريحانة وليس قهرمانة). أي إن المرأة ريحانة وزهرة تعطر المجتمع بعطر الرياحين والزهور. ولقد وردت كلمة الريحان في قوله تعالى: (فأمّا إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة النعيم) والريحان هنا كل نبات طيب الريح مفردته ريحانة، فروح وريحان تعني الرحمة. فالإمام هنا وصف المرأة بأروع الأوصاف حين جعلها ريحانة بكل ما تشتمل عليه كلمة الريحان من الصفات فهي جميلة وعطرة وطيبة، أما القهرمان فهو الذي يُكلّف بأمور الخدمة والاشتغال، وبما إن الإسلام لم يكلف المرأة بأمور الخدمة والاشتغال في البيت، فما يريده الإمام هو إعفاء النساء من المشقة وعدم الزامهن بتحمل المسؤوليات فوق قدرتهن لأن ما عليهن من واجبات تكوين الأسرة وتربية الجيل يستغرق جهدهن ووقتهن، لذا ليس من حق الرجل إجبار زوجته للقيام بأعمال خارجة عن نطاق واجباتها. فالفرق الجوهري بين اعتبار المرأة ريحانة وبين اعتبارها قهرمانة هو أن الريحانة تكون، محفوظة، مصانة، تعامل برقة وتخاطب برقة، لها منزلتها وحضورها. فلا يمكن للزوج التفريط بها. أما القهرمانة فهي المرأة التي تقوم بالخدمة في المنزل وتدير شؤونه دون أن يكون لها من الزوج تلك المكانة العاطفية والاحترام والرعاية لها. علماً أن خدمتها في بيت الزوجية مما ندب إليه الشره الحنيف واعتبره جهادًا لها أثابها عليه الشيء الكثير جدًا مما ذكرته النصوص الشريفة. فمعاملة الزوج لزوجته يجب أن تكون نابعة من اعتبارها ريحانة وليس من اعتبارها خادمة تقوم بأعمال المنزل لأن المرأة خلقت للرقة والحنان. وعلى الرغم من أن المرأة مظهر من مظاهر الجمال الإلهي فإنها تستطيع كالرجل أن تنال جميع الكمالات الأخرى، وهذا لا يعني أنها لا بد أن تخوض جميع ميادين الحياة كالحرب، والأعمال الشاقة، بل أن الله تعالى جعلها مكملة للرجل، أي الرجل والمرأة أحدهما مكمل للآخر. وأخيرًا إن كلام الإمام علي (عليه السلام) كان تكريمًا للمرأة ووضعها المكانة التي وضعها الله تعالى بها، حيث لم يحملها مشقة الخدمة والعمل في المنزل واعتبر أجر ما تقوم به من اعمال في رعاية بيتها كأجر الجهاد في سبيل الله.

اخرى
منذ 5 سنوات
40452

أساليب في التربية

عالم الطفولة كأنه طاولة، لا تجد فيه غير طعام لذيذ، ومنظر لطيف وجديد، فعالمهم فاكهة الوجود، وخضار الأرواح، ومياه الحياة تسقي القلوب... عالم صفاء وأحلام جميلة بسيطة وتافهة ولكن بنظرهِ هو عظيمة وكبيرة، فهو العالم الذي ينطلق منه الإنسان في بداية عمره. فالطفل في بداية حياته ينظر إلى الحياة بتفكيره البريء، فالطفل يعيش بعالم خاص به مملوء بالمحبة البريئة. هذه هي الصورة الجميلة التي يحملها الطفل، وكم يتمنى كل إنسان أن يعود لطفولته البريئة ليتأمل في أرجاء عالمها الذي كان يصور له حياة مختلفة تشد الإنسان إليها بجمالها، هذا هو عالم الطفولة وهذه أحلام من يعيشها، فلا ينفذ إلى ملكوت ذلك العالم ولا يدرك كنهه إلا من عاشه وجال في ربوعه. حيث يتذوق الطفل مع أحلام طفولته هذه لذة الحياة ولذة العيش فيها، ومهما حاولنا أن نعبر عن هذه الحقيقة فلن نستطيع تصويرها بالكلمات. وبعد هذا، فإن الاهتمام بمستقبل الطفل هو في الواقع ضمان لمستقبل شعب بأسره. قال اللَّه تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا". التحريم/6 أعتنى الإسلام بتربية الأبناء عناية فائقة، وألقى على عاتق الأهل ما سيكون عليه الولد في مسلكه الدنيوي ومصيره الأخروي إن هم قصروا في تربيته وإعداده. وقد ذكر العلماء أن شخصية الولد تتأثر في نموها بعوامل ثلاثة وهي: الوراثة، والبيئة، والتربية. إذا خضنا في مضمار التربية السليمة للأبناء... فعلى الأبوين أن يكون لهما الوعي التربوي الذي يبنى على أسس صحيحة ويتوفر لديهم فهم لأساليب التربية والتوجيه والرعاية وهذه نقطة البداية. فمثلاً في أسلوب التعامل مع الطفل تبرز أمامنا ثلاثة اشكال لتعامل الآباء مع الأبناء: الشكل الأول: أسلوب الدلال المفرط وهذا الأسلوب له نتائجه السلبية الخطيرة، فإنه يخلق شخصية هشة متميعة وشخصية اتكالية تحب الكسل والخمول مجردة من الهدف والإقدام، انهزامية غير قادرة على مواجهة التحديات وبمعنى أدق شخصية لا تثق بنفسها. شخصية متسيبة في ظل غياب المراقبة والمحاسبة وهذا التسيب يقود إلى الانفلات والانحراف. الشكل الثاني: فهو أسلوب التربية القاسية والعنف. وهذا الأسلوب أيضاً له نتائجه الخطيرة والسلبية التي يعاني منها الأبناء طوال حياتهم فهو يخلق شخصية قلقة ومتأزمة ومعقدة وخائفة وتحمل عقدة الخوف، شخصية حاقدة وعدوانية وقد تتأزم الأمور لتصبح شخصية منافقة وكاذبة خوفاً من العقاب والتعنيف ضمن حدود الأسرة ولكن يوماً من الأيام سينطلق هذا الشخص ليواجه المجتمع ككل، فلنتصور كيف سيتعامل مع المحيطين ضمن مجالات الدراسة والعمل وهو شخصية هاربة من أجواء الأسرة وقد يعرضها للتسيب والانحراف لأنها شخصية متمردة مما يعرضها للعقوق. الأسلوب الثالث: التوازن. الأسلوب الصحيح يعتمد على التوازن فمن شروط نجاح التربية التوازن في المعاملة ما بين الأمور التي تحتاج إلى شدة وحزم ليتربى على أن هذه الأمور خطوط حمراء طبعاً هنا يمكن أن يعترض أحد ويقول: لا للعنف الأسري ولا لاستخدام القسوة. نعم فهناك طرق غير استخدام العنف. يكفي ان يبدي الآباء انزعاجهم مثلاً. وهنا النقطة مهمة جداً، وهي: أن نوضح لهم سبب المنع والرفض لا تعتقدوا أن أبناءكم لا يدركون ولن يفهموكم. تخصيص الوقت للنقاش مهم جداً. وما بين أسلوب المرونة والحنان والاحتواء. التوازن في المعاملة. إن الإمام زين العابدين (عليه السلام) يصرح بمسؤولية الأبوين بتربية الطفل، ويعتبر التنشئة الروحية والتنمية الخلقية لمواهب الأطفال واجباً دينياً يستوجب أجراً وثواباً من الله تعالى، وأن التقصير في ذلك يُعرّض الآباء إلى عقاب الله. فيقول (عليه السلام): (وأما حق ولدك عليك فأن تعلم أنه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره. وأنك مسؤول عما وليته به من حسن الأدب والدلالة على ربه عز وجل والمعونة له على طاعته. فأعمل في أمره عمل من يعلم أنه مثاب على الإحسان إليه معاقب على الإساءة إليه ) مكارم الأخلاق للطبرسي ص٢٣٢ حنان الزيرجاوي

اخرى
منذ 6 سنوات
33552