تشغيل الوضع الليلي
الورقة الأخيرة...
منذ شهر عدد المشاهدات : 5453
بقلم: يا مهدي أدركني
هذه آخرُ ورقةٍ سقطتْ من شهرِ صفر
لينتهيَ موسمٌ ذُرِفتْ فيه الدموع
واعتصرتْ فيه القلوبُ ألمًا وحزنًا
تقرُبًا وزُلفةً، تطهُرًا وولاءً لآلِ الرسول
ولكن!
هل سنرى ماذا جرى على تلك القلوب بعدَ أنْ حلَّ بها ذلك الحُزنُ؟
أم سنخلعُها كما نخلعُ السوادَ، ونضعُها جانبًا في تلك الخِزانةِ حتى تنتظرَنا إلى عامٍ آخر قد يُقبِلُ علينا وقد نكونُ تحتَ التراب!
عَبَقُ نسائمِ الأحزانِ حلّتْ فينا؛ لتُغيرنا، لا لتُبكينا...
فلنُلَملِمْ أوراقَ الحُزنِ تلك، ونستلهِمُ ما فيها من إيمانٍ صادق
عقيدةٍ وثباتٍ
توحيدٍ ونبوّةٍ
إمامةٍ ومَعادٍ
إيثارٍ بالنفس... وأيُّ نفسٍ تلك؟
وقفةٌ قصيرةٌ لنُراجِعَ فيها ماذا صنعَ الشوقُ والحنينُ والألمُ والحُزنُ العميق؟
هل سنُعاهِدُ على التغيير ونكون أهلًا لتلك التضحياتِ العظيمة؟
نواظبُ على الصلاة، ونُحييها، أم نُضيّعُها كما ضيّعها بنو أمية؟
ماذا عن الحجاب؟
هل سنتمسكُ بتلك العباءةِ التي تلقّتِ السياطَ والحرقَ والبُكاءَ والدماءَ، ولكنّها لم تمِلْ عن تلك الرؤوسِ الشامخاتِ، بل كانتْ تمنعُ نسماتِ الهواء من أنْ ترسمَ تفاصيلَ النساء؟
هل سنكونُ أحرارًا كالحُرِّ، ونُخيّرُ أنفسَنا بين الجنةِ والنار كُلّما وقفْنا على مُفترقِ الطريق، فنختار طريق الجنة؟
أم سترجعُ حواسُنا إلى سُباتِها العميق لتكونَ عبارةً عن آلاتٍ للشهوات والملذّات تقودُنا كالبهائمِ، نستمعُ لصوتِها وتخرسُ ألسنة الحقِّ مرةً أخرى!
هل سننفِضُ رمالَ كربلاء ورمادَ الخيام
وننسى طعمَ السمِّ والسهام؟
مهلًا يا أيتها النفس، هُنا رُفِعَتِ الرؤوس
قُطِّعَتِ الكفوف
وحُزَّ النحر
هنا جرى سمٌ زُعاف
مزّقَ أكبادَ الأئمةِ الأطهار
ومن قبلِها جرى في جسدِ الرسول (صلاةٌ من الله عليه وعلى الآل)
ليقتلوا شريعةَ السماء
فلا تكوني شوكةً تزيدُ من عُمقِ الجِراح
بل طيّبي جراحاتِ قائمٍ يبكي على جدِّه دمًا
احملي سلاحًا من أرضِ نينوى، وقاتلي بشجاعةٍ حتى وإنْ كان العدوُّ أنتِ
فقد قتل الأصحابُ أنفسَهم مرارًا لتكونَ جاهزةً للنزالِ الأخير... الذي فيه ارتفعتْ لتخلُدَ في سماءِ المجدِ والسؤددِ، وتنالَ الفلاحَ في جنةٍ يصبو لها كُلُّ مؤمنٍ..
جنةُ القُربِ حيثُ الأقمار تجتمعُ بالشموس
بلا كسوف ولا خسوف
اخترنا لكم

شبهاتٌ حـول التشيّع/ في القضية الحسينيّة(1) شعيرة اللطم
مقـدّمة يعدّ اللطم على الصدور تعبيراً عن الألم والحزن، الذي يعتلج قلوبنا، وتعبيراً عن مدى ما أصابنا من عظم المصيبة، فالحرقة التي تصيب النفس - والحزن يسيطر عليها - يمكن للإنسان أن ينفّس عنها، وعمّا أصابه بفعلٍ ما، يكون ترويحاً وتنفيساً ومجاراةً ومواساةً لمن حلّت به هذه الفاجعة، أو القضية المؤلمة. ويعدّ اللطم مصداقاً مهماً من مصاديق التفجّع على ريحانة الرسول وسبط البتول . وسوف نستعرض الموضوع ضمن المطالب التالية: المطلب الثاني: إثبات مشروعيّة اللطم من كتاب الله تعالى 1-من تفسير كتب السنّة 2-من تفسير كتب الشيعة المطلب الثالث: اثبات مشروعيّة اللطم من الفريقين السنة والشيعة المطلب الأول: مشروعيّة اللطم في كتاب الله تعالى. لـغةً: لطم : ل ط م : اللَّطْمُ الضرب على الوجه بباطن الراحة. قال تعالى: (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَــصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ)(1). معنى صكَّ لغةً: ص ك ك : صَكَّهُ ضـربه وبابه ردَّ ومنه قوله تعالى :{ فصكَّت وجهها }. 1-تفسير الآية في كتب أهل السنّة قال الطبـري في تفسيره : " حدثني ابن حُمَيد, قال: ثنا مهران, عن سفيان, عن العلاء بن عبد الكريم الياميّ, عن ابن سابط, قوله ( فَصَكَّتْ وَجْهَهَا ) قال: قالت هكذا; وضرب سفيان بيده على جبهته. قال: [حد]ثنا مهران; عن سفيان ( فَصَكَّتْ وَجْهَهَا ) وضعت يدها على جبهتها تعجبا, والصكّ عند العرب: هو الضرب. وقد قيل: إن صكها وجهها, أن جمعت أصابعها, فضــربت بها جبهتها"(2). قال البغوي في تفسيره: " قال ابن عباس : لطمت وجهها . وقال الآخرون : جمعت أصابعها فضربت جبينها تعجبا ، كعادة النساء إذا أنكرن شيئا ، وأصل الصك : ضرب الشيء بالشيء العريض". *ايــرادٌ وجوابـه: يقول المخالف: إنّ القصص المذكورة في القران الكريم العبرة فيها تخص أصحاب ذلك الزمان فلا يمكن لنا ان نقلد بالفعل زوجة النبي عندما لطمت وجهها. فماذا تقولون ؟ -قـلنا في مقام الإجابة متسائلين: ما هو المانع من الاعتبار منها ؟! إن قالوا: إنّ هذه القصص تخص العبرة منها اصحابها فقط, ثبت أنّ الله انزلها في القرآن الكريم ولأمة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) لــغواً منه وعبثاً, والتالي باطل فالمقدم مثله بالبطلان, فحاشاه سبحانه من العبثية واللغو فهو الحكيم. وحتماً هو تعالى أنزلها في القرآن لحكمةٍ هو قاصدها، متحققةٍ غايته منها. 2-تفسير الآية في كتب الشيعة قال العلاّمة الطباطبائي –قدس سره- في تفسيره المشهور بالميزان: "و الصك الـــضرب باعتماد شديد. انتهى. والمعنى: فأقبلت امرأة إبراهيم (عليه السلام) - لما سمعت البشارة - في ضجة و صياح فــلطمت وجهها و قالت: أنا عجوز عقيم فكيف ألد؟ أو المعنى هل عجوز عقيم تلد غلاما؟ و قيل: المراد بالصرة الجماعة و أنها جاءت إليهم في جماعة فصكت وجهها و قالت ما قالت، و المعنى الأول أوفق للسياق." اذاً صكّـت يعني ضربَت وجهها. المطلب الثالث: مشروعيّة اللطم من كتب الفريقين أولاً/ اللطم في كتب أهل السنّة 1- حدثنا : يعقوب ، قال : حدثنا : أبي ، عن ابن إسحاق ، قال : حدثني : يحيى بن عباد بن عبد الله ابن الزبير ،عن أبيه عباد ، قال:ســمعت عــائشة تقول : مـــات رسول الله (ص[صلى الله عليه وآله]) بين سحري ونحري، وفي دولتي لم أظلم فيه أحدا فمن سفهي وحداثة سني أن رسول الله قبض وهو في حجري، ثم وضعت رأسه على وسادة وقمت ألـــتدم مع النساء وأضــرب وجـهي(3). في حين أنّ امامهم البخاري ومسلم يقول: "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ[وآله] وَسَلَّمَ : (لَيــْسَ مِنَّا مَنْ لَطـــَمَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ)(4). وهنا نوجّه سـؤال إلى ابناء السنّة والوهّابيّة: هل عائــشة ليست منكم؟! لماذا لطمت وجهها عند وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ؟! فجدلاً نقول: نحن الشيعة موقفنا كــموقف عائشة, وما تحكمون به عليها احكموا به علينا. و " عن ابن إسحاق ، قال : حدثنا : يحيى بن عباد ، عن أبيه ، عــن عــائشة ، قالت : مات رسول الله (ص[صلى الله عليه وآله]) وهو بين سحري ونحري، في بيتي ، وفي يومي، لم أظلم فيه أحدا ، فمن سفاهة رأيي وحداثة سني أن رسول الله (ص[صلى الله عليه وآله]) : مات في حجري، فأخذت وسادة فوسدتها رأسه ، ووضعته من حجري ، ثم قمت مع النساء أبكي وألـــدم(5). ثانياً/ من كتب الشيعة ورد في كتبـنا أنّ كلّ الجزع والبكاء مكروه ما خــلا الجزع والبكاء لقتل الحسين(عليه السلام)، ومن مظاهر الجزع: هو اللــطم، سواء كان على الصدور، أو على الخدود، أو على الفخذين. وما ذكر في الرواية كمثال لمظهر من مظاهر الجزع, وهو اللطم على الخدود، ولــم تمنع الرواية من اللطم على مكان آخر, كاللطم على اليد أو على الفخذ أو على الرأس. إنّ اللطم على الإمام الحسين(عليه السلام) ليس هو لطماً لأجل مقتل شخص مسلم عادي؛ فالحسين(عليه السلام) هو إمام المسلمين وقدوتهم، وخليفة الله ورسوله (صلّى الله عليه وآله)، وحينئذٍ فإنّ ورود الاستثناء بشأن اللطم عليه له ما يبرّره. وورد النهي عن اللطم على الميّت العاديّ؛ لأنّه غالباً ما يكون مصاحباً للجزع وعدم التسليم والرضا بالقضاء, وهذا العنصر مـــفقود في حال اللطم على أبي عبد الله الحسين(عليه السلام)؛ لأنّ الجزع عليه ليس اعتراضاً على القضاء، بـل إشــفاقاً على الدين وإمام المسلمين والقرآن الناطق، ومن هو بمنزلة لحم ودم النبيّ(صلّى الله عليه وآله)، بل نفسه كما يدلّ عليه قوله (صلّى الله عليه وآله): (حسين منّي وأنا من حسين). ومن هذه الأدلّة على مشروعيّته: 1- روي عن الإمام الصادق(عليه السلام): "إنّ البكاء والجزع مكروه للعبد في كلّ ما جزع، ما خـــلا البكاء والجزع على الحسين بن عليّ عليهما السلام؛ فإنّه فيه مأجور"(6). 2- يعدّ اللطم جائــزاً وفقاً لأصالة الإباحة؛ فطالما لــم يكن في اللطم ضرر، فمقتضى أصل الإباحة هو عدم الإشكال في اللطم ما لم يرد نهي, ولم يرد نهيٌ بذلك, بل يعدّ نوعاً من اظهار السخط على قتلة الحسين (عليهم لعنة الله تعالى). 3- عن أبي عبد الله الصادق(عليه السلام): (وقد شققن الجيوب، ولطمن الخدود - الفاطميات - على الحسين بن عليّ، وعلى مثله تُلطَم الخدود، وتُشقّ الجيوب)(7). 4- ولمّا مرّوا بالسبايا على الإمام الحسين(عليه السلام) وأصحابه عليهم السلام، وهم صرعى، "صاحت النساء، ولطمن وجوههنّ، وصاحت السيّدة زينب: يا محمّداه..."(8). 5- حينما أنشد دعبل الخزاعي تائيته المشهورة، بحضرة الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، قال فيها: أفاطمُ لو خِلتِ الحسين مجدّلاً *** وقد مات عطشاناً بشطّ فراتِ إذاً لــلطمتِ الخدّ فاطمُ عنده *** وأجريت دمع العين في الوجناتِ(9). فَلَـــم يعترض الإمام الرضا (عليه السلام)، ولم يقل: إنّ أُمّنا فاطمة (عليها السلام) لم تفعل ذلك لأنّه حرام أو مكروه، بــل هو قد بكى وأعطى الشاعر جائزة، وأقرّه على ما قال. وكلّنا يعلم أنّ قول وفعل المعصوم حجّـة،, فكل ما أقرّه نقرّه اقتداءً به. 6-نقرأ في زيارة الناحية المقدّسة التي زارَ بها إمامنا المفدّى قائم آل محمّد (عجّل الله فرجه الشريف) انّه قال: "فلمّا رأين النساء جوادك مخزيّاً، إلى أن قال: على الخدود لاطــمات، الخ". فـنسوة آل محمّد لطمنَ ولــم يعترض على لطمهنّ إمام زمانهنّ الإمام السجّاد (عليه السلام) إذ لـــو كان اللطمُ حراماً لــنهاهنّ. فثبت بـسكوته اقراره. *ايــرادٌ وجوابه: إن قالوا: كيف نجمع بين الروايات التي تحثّ على اللطم وبين قول الإمام الحسين عندما نهى السيدة الحوراء (عليها السلام) بأن لا تخمش عليه وجهاً ؟ قـلنا في مقام الإجابة: ليس كلّ نهي يدلّ على الحرمة؛ فإنّه كما يوجد النهي التحريمي يوجد النهي التنزيهي، ويمكن أن يكون طلب الإمام الحسين(عليه السلام) لأُخته زينب (عليها السلام) عدم شقّ الجيب من باب الشفقة، أو من باب عدم الوقوع في شماتة الأعداء، ومع عدم وجود الدليل على تعيين أحد المحتملات، فلا مجال لإثبات الحرمة التكليفية من الحديث. _________________________ (1) الذاريات: 29. (2) تفسير الطبري, ص 521. (3) مسند ابن حنبل/ حديث عائشة (ر), ح 25816. (4) صحيح البخاري, ح1294,وصحيح مسلم, ح 103 . (5) دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة, ج 7, ص 213. (6) كامل الزيارات, ب32,ح 286. (7) تهذيب الأحكام 8: 325 ,ح 120, كتاب الإيمان والنذور والكفّارات. (8) مقتل الحسين للخوارزمي 2: 44, ح 10، مقتل الحسين لأبي مخنف: 203. (9) كشف الغمّة: 3, بحار الأنوار 45: 257, ب 44. والسلامُ على الحسين وآله ما بقيت وبقي الليل والنهار. علوية الحسيني
اخرى
أهمية نصرة الإمام الحسين (عليه السلام) وضرورة مشاركة المرأة فيها/ الجزء الثاني
بقلم: دعاء الربيعي أوجه نصرة الإمام الحسين (عليه السلام) من المعلوم أن الله (سبحانه وتعالى) أودع في البشرية سبل الهداية والرشاد بواسطة قاعدة بيانات داخلية فيهم منذ نشأتهم حتى يوم أجلهم، حيث أودع الفطرة عندهم كعامل قوة فهي الموجه الخفي الذي يوجه الإنسان نحو الصلاح، فمنهم من يوظف تلك الفطرة، ومنهم من يقضي عليها شيئًا فشيئًا. إن الخالق (سبحانه وتعالى) جعل الصفات الحميدة شيئًا حسنًا يُدركه الإنسان بالفطرة ولا يحتاج إلى برهان ليبرهنه ولا يحتاج إلى معلم ليثبته، مثال ذلك النصرة، فهي تولد مع الإنسان وتلازمه وهو المسؤول الأول عنها وعن وجهتها التي تتجه إليها، فإما أنْ تنصر الحق أو تنصر الباطل. وقد تتوسع مصاديق النصرة وتتنوع أشكالها فمرةً تكون النصرة والإعانة باللسان والكلمة الحقة، ومرةً تكون باليد والنفس، وأخرى بالأموال أو بإحياء القيم وإعلائها، وأشرف وأرفع وأجل صور النصرة هي تلك التي تكون بالنفس، فالنصرةُ بالنفس هي أفضل أشكال النصرة، إذ بها يتحقق معنى النصر الحقيقي، وهذا ما شهدناه جليًا في أصحاب الأئمة الخُلّص الذين نصروا أئمتهم بأنفسهم وأرواحهم. أولئك الذين اصطفاهم الله وحباهم واختارهم ليكونوا موالين محبين لمحمد وآله. وقد ذكر لنا مولى المتقين وسيد الوصيين علي (عليه السلام) صفات من اختارهم الله، فقد روي عنه (عليه السلام): (إنَّ الله (تبارك وتعالى) اطلع إلى الأرض فاختارنا واختار لنا شيعة، ينصروننا ويفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا ويبذلون أموالهم وأنفسهم فينا أولئك منا وإلينا)1. هنيئًا لمن اختاره الله (تعالى) وشرفه ليكون من شيعة محمدٍ وآله (صلوات الله عليهم أجمعين) ينصرهم ويفرح لفرحهم ويحزن لحزنهم. وفيما يلي بيان لأنواع النصرة وأمثلة لكلِ نوعٍ منها: أ / النصرة بالأموال: هي وجهٌ من أوجه النصرة، ولها بالتأكيد أهميةٌ بالغةٌ في نصرة الدين، فمن يصعب عليه النصرة بالنفس أو باللسان، فإنه يستطيع أنْ ينصر إمام زمانه بأمواله إذا كان صاحب قدرة مالية، وخيرُ مثالٍ على هذه النصرة هي نصرة مارية بنت منقذ العبدي، هذه السيدة الجليلة التي خطّت لنفسها مسارًا متوجها خالدًا بقي وسيبقى نموذجا مُلهِمًا للنساء المؤمنات، ماريةُ التي آثرت بأموالها وقدمتها في سبيل نصرةِ الحق وإعلاء كلمته، فهي من الشيعة المخلصين المحبين لمحمد وآله، وقد كان بيتها في البصرة مجمعًا للرجال يتحدثون ويتشاورن فيه في الكثير من الأمور المهمة التي تخص الدين والمذهب ولما بلغها أنَّ الحسين (عليه السلام) قد كاتبَ أشراف أهل البصرة ودعاهم إلى نصرته جاءت وجلست بباب بيتها وأخذت تبكي وتندب الإمام الحسين لتُعلن للبصريين أنَّ فلذة الرسول (صلى الله عليه وآله) قد خرج لنصرة الدين وقد وصل صوت بكائها ونحيبها إلى من حولها من البصريين ( فقام الناس في وجهها وقالوا لها: ما عندك ومن أغضبك؟ قالت: ويلكم، ما أغضبني أحد. ولكن أنا امرأة ما أصنع. ويلكم، سمعتُ أنّ الحسين ابن بنت نبيّكم استنصركم وأنتم لا تنصرونه. فأخذوا يعتذرون منها لعدم السلاح والراحلة. فقالت: أهذا الذي يمنعكم؟ قالوا: نعم، فالتفتت إلى جاريتها وقالت لها: انطلقي إلى الحجرة وآتيني بالكيس الفلاني، فانطلقت الجارية وأقبلت بالكيس إلى مولاتها. فأخذت مولاتها الكيس وصبته وإذا هو دنانير ودراهم. وقالت: فليأخذ كلُّ رجلٍ منكم ما يحتاجه وينطلق إلى نصرة سيدي ومولاي الحُسين. قال الراوي: فقام عبد الله الفقعسي وهو يبكي - وكان عنده أحد عشر ولدًا - فقاموا في وجهه وقالوا: إلى أين تريد؟ قال: إلى نصرة ابن بنت رسول الله. ثم التفت إلى من حضر وقال: ويلكم هذه امرأة أخذتها الحمية وأنتم جلوس؟ ما عذركم عند جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم القيامة؟ قال: ثم خرج من عندها وتبعه من ولده أربعة فأقبلوا يجدون السير. حتى استخبروا بأنَّ الحسين (عليه السلام) ورد كربلاء. فجاء الشيخ بأولاده إلى كربلاء ورزقوا الشهادة )2 فهذه السيدة الجلية لم تخفْ لومةَ لائم، وناصرت وجاهدت في سبيل الله بأموالها ولسانها وسجلت بذلك موقفًا مشرفًا لها عند الله (تعالى)، فهنيئًا لمن نصر الإمام الحسين وشارك في إعلاء راية لا اله الا الله. وفي قصة السيدة مارية الكثير من الدروس والعبر لنا نحن النساء لذا حريٌ بنا أنْ نأخذ العبر من مواقف هذه السيدة ونكون دعاةً للحق بأقوالنا وأفعالنا وأموالنا ولا نخاف ولا نخشى المعتدين الذين يريدون لشمعة الإسلام أنْ تنطفئ ويخمد نورها. ب/ النصرة باللسان: هي من أهم أنواع النصرة، فكما هو معروفٌ لدى الجميع أنَّ سلاح الكلمة يكون أحيانًا أمضى من السيف، ويحقق المطالب المرجوة التي يحققها السيف وخير ما نستشهد به هو موقف الحوراء زينب عقيلة بني هاشم (عليها السلام)، فحينما شاهدت الجموع الغفيرة التي ملأت الشوارع والأزقة وقد أحاطت بها، اندفعت إلى الخطابة لبلورة الرأي العام وتأجيج الأوضاع ضد الحاكم الظالم فقصدت بخطابها إظهار وإبراز المصيبة التي مرّت بها وبإمام زمانها (عليه السلام)، وتحميل الكوفيين مسؤولية هذه الجريمة البشعة النكراء، فهم الذين نقضوا ما عاهدوا الله تعالى عليه من نصرة الإمام الحسين (عليه السلام) والذبِّ عنه، ولكنهم خسروا ذلك وقتلوه ثم راحوا ينوحون ويبكون كأنّهم لم يقترفوا هذا الإثم العظيم، فخطبت فيهم قائلةً: (يا أهل الكوفة يا أهل الغدر والختل، أتبكون؟! فلا رقأت الدمعة، ولا هدأت الرنة، إنّما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها بعد قوة أنكاثًا، تتخذون إيمانكم دخلًا بينكم. ألا وهل فيكم إلا الصلف والنطفُ، والصدر الشنف، وملق الاماء، وغمر الأعداء؟ ...ألا ساءَ ما قدمتم لأنفسكم أنْ سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون)3 إلى آخر الخطبة المباركة التي ألقتها (عليها السلام) في الكوفة. وبهذا الخطاب الصادح فضحت السيدة (عليها السلام) الكوفيين، وبينت لهم زيف إسلامهم وكذب دموعهم، وأنّهم من أبشع المجرمين الذين ساهموا في خذلان الدين، فهم بفعلتهم الشنيعة هذه قتلوا إمام زمانهم الذي كان همه إصلاح أمر دينهم ودنياهم، فاحتشدوا عليه وقتلوه وسبوا عياله وساروا بهم أسرى في البلدان، فهل هذا جزاء من أراد بهم خيرًا؟! وختمت السيدة زينب (عليها السلام) خطابها المجلجل هذا بعبارةٍ رائعة أكدت فيها أنّ الله (تعالى) بالمرصاد، وأنّه (عز وجل) بصيرٌ بما جرى على آل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسوف يأتي اليوم الذي يثأر فيه هذا الإمام المظلوم. نسال الله (تعالى) أنْ يوفقنا -نحن الموالين- أنْ نكون من الناصرين للإمام الحسين (عليه السلام) مع ولي الأمر صاحب الزمان فهنيئًا لمن نصره إمام زمانه بلسانه أو بقلمه وها هي الفرصة اليوم متاحة للجميع وبإمكانهم أنْ ينصروا دينهم ومعتقدهم ويحاربوا الأفكار الهدّامة والشائعات المُغرضة التي تودُّ أنْ توقع بالدين وتهدَّ أركانه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1/ الخصال للشيخ الصدوق ج2 ص 635 2/ تاريخ الأمم والملوك ج2 ص 263 3/ السيدة زينب رائدة الجهاد في الاسلام / شيخ باقر القرشي /ص 287
اخرى
الأبعاد العقائدية في أدعية السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) دعاء طلب تفريج الهموم والغموم نموذجًا
بقلم: دينا فؤاد الحلقة الثالثة تكملة الأبعاد العقائدية في دعاء طلب تفريج الهموم والغموم 2- الترسيخ الروحي والعقدي لقضية أهل البيت (عليهم السلام): لقد أكدت الزهراء (عليها السلام) على قضية أهل البيت لأهميتها البالغة، فالتوجه إلى الرسول وأهل بيته (عليهم سلام الله أجمعين) ــ الذي هو وسيلة وشرط في التوجه لله عز وجل ــ إنما يكون بالتوجه الروحي والعقدي، ولا يتم هذا التوجه ما لم تكن هناك معرفة واعتقاد بصاحب التوجه، وهذا بدوره يستلزم معرفة ولو إجمالية لهؤلاء النخبة التي انتخبها الله لعباده، وقرن طاعته بطاعتهم، كما في قوله جل وعلا: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}. (47) لقد بيّنت الزهراء (عليها السلام) بأن قضية الرسول وأهل بيته ليست قضية عادية، ومجرد ألفاظ يذكرها المتكلم، بل هي قضية عقائدية بحتة تحتاج إلى نظر وتمحيص، حيث إن نفس التوجه للنبي وآله (صلوات الله عليهم أجمعين) هو شرط زائد على الإيمان بهم، وإن الإيمان مقرون بالمعرفة الحقة لهم، فهم خلفاء الله على أرضه، وبهم يصان الدين، وتقام الشرائع. وإن وجودهم (سلام الله عليهم) هو لطف إلهي على العباد، وهو ما يقربهم إلى الطاعة ويبعدهم عن المعصية، ورفع الظلم والفساد، وإحلال الأمن والأمان. (48) وقد أشارت السيدة فاطمة (عليها السلام) إلى هذه الأمور، في دعائها في عدة مواضع، منها: "أتوسل إليك بحقهم العظيم الذي لا يعلم كنهه سواك"، و"أسألك ...، وبحق محمد وآل محمد"، و"وتسمع محمداً وعلياً وفاطمة ... صوتي فيشفعوا لي إليك وتشفعهم فيِّ"، و"بحق محمد وآل محمد ...يا كريم". 3- التأكيد على السؤال بالأسماء الحسنى والاسم الأعظم: لقد كان هناك تكرار من قبل السيدة الزهراء (عليها السلام) في دعائها للأسماء الحسنى بصورة عامة والاسم الأعظم بصورة خاصة، فقد كررت (سلام الله عليها) لفظ الأسماء والاسم الأعظم (8) مرات، ولا شك في أن يكون هناك قصد من التكرار لأسماء الله تعالى. أن هذا التكرار جاء من أجل بيان أن لهذه الأسماء أسرارًا، فالأسماء الإلهية والاسم الأعظم خاصة لها تأثيرات كونية، ويعد السؤال بها من أهم الوسائط والأسباب التي تنزل الفيض من الذات المتعالية في هذا العالم المشهود (49)، وهذا له دلالة على أن الله سبحانه وتعالى هو الموجد والفاعل لكل شيء، وعلى هذا يجب أن يكون الدعاء والطلب منه وحده لا من غيره، قال تعالى: {أجيبُ دعوة الداعِ إذا دعانِ}. (50) وهناك التفاتة مهمة أرادت الزهراء (سلام الله عليها) بيانها، وهي أن الدعاء بالأسماء الإلهية يحتاج إلى معرفة، فهي ليست مجرد ألفاظ يرددها الداعي بلسانه، بل هي حقائق حاوية لمعان لا يعلمها إلّا أولي العلم، وهم اهل بيت النبوة، المعصومون الأربعة (عليهم الصلاة والسلام)، فقد ورد عن الإمام الباقر(عليه السلام) أنه قال: "ان اسم الله الأعظم على ثلاثة وسبعين حرفاً، وإنما كان عند آصف منها حرف واحد فتكلم به فخسف بالأرض ما بينه وبين سرير بلقيس، ثم تناول السرير يده ثم عادت الأرض كما كانت أسرع من طرفة عين، وعندنا نحن من الاسم اثنان وسبعون حرفاً وحرف عند الله استأثر به في علم الغيب عنده، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم" (52) 4- اعلان الولاية التامة والمطلقة لأهل البيت (عليهم السلام) والبراءة من أعدائهم: معنى الولاية هنا: أن يجعل الإنسان المؤمن أهل البيت (عليهم السلام) هم الذين يتولون جميع أموره، ويواليهم ويقتدي بهم في جميع شؤونه، لأنهم الأئمة المفترضون الطاعة من الخلق، وولايتهم تعني التمسك بالإمامة التي هي إحدى الأركان لأصول الدين. ومعنى البراءة من أعدائهم: أن يتبرأ المؤمن من جميع الذين نصبوا وأعلنوا العداء لهم. وهذان فرعان من فروع الدين، فهما من الضروريات اللازمة للمؤمن، والثابتة له بالأدلة القاطعة في الكتاب والسنة؛ لأنهما يعنيان الاعتقاد بإمامة أهل البيت (عليهم السلام)، والتولي للأئمة والتبري من أعدائهم هو كأي أمر اعتقادي لا يحتاج إلى حضوره أو حياته، بل يحتاج إلى الإيمان بهم بأنهم أئمة، والتولي والتبري وإن كانا من الفروع ولكن أصل معرفتهما من الأصول، فمحبة الأئمة وبغض أعدائهم هي من الأمور الركنية المتوقفة على معرفة نفس الأئمة والتي هي مصداق للولاية. (53) وهذا ما عبرت عنه الزهراء (عليها السلام) من خلال دعائها: "وأسألك أن تصلي على محمد وآل محمد، وأن تفرج عن محمد وآله، وتجعل فرجي مقروناً بفرجهم"، فقد دعت أن يكون فرج العبد مقترن بالفرج لأهل البيت (عليهم السلام)، وهذا يمثل الولاية الحقيقية للأئمة، والاقتداء بهم في جميع شؤونهم. 5- إيقاظ الفطرة السليمة في الناس: عندما خلق الله تعالى الإنسان أوجد في داخله الفطرة السليمة، وهي عبارة عن ذلك الشعور المغروس في النفس البشرية، وبشكل تكويني والذي أوجده في الإنسان هو الله سبحانه (54). وهذه الفطرة عبر عنها الله تعالى في محكم كتابة بالصبغة من خلال قوله: {صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون} 55 وقد بيّن الإمام الصادق (عليه السلام) معنى الفطرة بجوابه حينما سُئل عنها بأنها: التوحيد والإسلام ومعرفة الله سبحانه. (56) لقد أردت فاطمة الزهراء (عليها السلام) أن توقظ من خلال دعائها فطرة الناس التي اندثرت أو تهالكت بسبب غلبة الأهواء والغرائز، وتوجيه الناس نحو عظمة الله الخالق القادر على كل شيء، وأرادت أن تنبه الناس من الغفلة التي قد سكنوا إليها وهم غير منتبهين، بل هم سائرون في طاعة الدنيا، بعيدون عن الله سبحانه. وقد أكدت (عليها السلام) ذلك بقولها: "امسح ما بي يمينك الشافية، وانظر إليِّ بعينك الراحمة، وأدخلني في رحمتك الواسعة، واقبل إليِّ بوجهك الذي إذا أقبلت به على اسير فككته، وعلى ضال هديته، وعلى جائز أديته، وعلى فقير أغنيته، وعلى ضعيف قوّيته، وعلى خائف امنته، ...يا من سدَّ الهواء بالسماء، وكبس الأرض على الماء"، كل هذه الجمل في الحقيقة هي ألطاف لا يقدر على تحقيقها غير الله القادر، هو وحده وليس غيره، فإذا ما تمعن الإنسان بقدرته سبحانه حال عن غيره، والتجأ له، وعبده حق عبادته. الخاتمة وأهم النتائج 1. إن الدعاء هو من أهم العبادات وأشرفها والتي يجب على المؤمن أن يتخلق بها ليتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى. 2. للدعاء أهمية بالغة أقرها الله عز وجل على عباده وجعله الوسيلة لتحقيق مطالبهم. 3. تعتبر السيدة الزهراء (سلام الله عليها) النموذج الكامل والمتكامل ذاتيًا وتربويًا، فهي مجمع للكمالات البشرية، وهي بنة وزوجة وأم للمعصومين (عليهم السلام). 4. إن للزهراء (عليها السلام) دورًا كبيرًا في التبليغ والإرشاد والوعظ للأمة الإسلامية مارسته في بطرق عديدة وأحدها هو الدعاء. 5. تمثل أدعية السيدة الزهراء (عليها السلام) مورداً فكرياً للفرد المؤمن في تحصيل المعرفة الحقة. 6. إن دعاء السيدة فاطمة (سلام الله عليها) ضم في طياته نوعين من الأدعية التي ذكرها القرآن الكريم وهما دعاء الأنبياء ودعاء الصالحين. 7. اشتمال دعاء طلب تفريج الهموم والغموم على العديد من الأبعاد العقائدية التي أرادت الزهراء (عليها السلام) بيانها من خلال هذا الدعاء. 8. إن من النكت الدلالية في هذا الدعاء عقد العزم على التوكل بالله الواحد القادر في كل حاجة ومطلب. 9. افتتاح مستهل الدعاء بكلمة (اللهم) له دلالة على ابداء الخضوع والخشوع لله سبحانه القادر على قضاء الحاجة وتفريج الهموم والغموم. 10. توجيه النداء بدعاء الزهراء (عليها السلام) لله جل وعلا بـ اللهم وبالأسماء الحسنى وبالاسم الأعظم دلالة على تعظيم المدعو من قبل الداعي. 11. أكدت الزهراء (عليها السلام) أن حصول الدعاء والتوجه إلى الله تعالى لابد له من واسطة تتوسط في إجابة الدعاء بين العبد وربه، وهذه الواسطة هم الرسول وأهل بيته (عليهم أفضل الصلاة والسلام). 12. جاء التأكيد من قبل سيدة نساء العالمين بأن حصول التوجه الذي يكون سبباً للإجابة مقرون بمعرفتهم، فلابد من معرفة النخب التي انتخبها الله لعباده معرفة صحيحة ليحصل التوجه الصحيح المؤدي إلى الإجابة. 13. ان اختتام الدعاء بذكر صفة من الصفات الإلهية المهمة وهي الكريم يدل على تأكيد التوكل بالله عز وجل، والعزم على الدعاء الذي يقرب العبد إلى مولاه وتوكيد العلاقة بينهما. والحمد لله رب العالمين. _____________________ 47. سورة النساء، الآية: 59. 48. ينظر، السبحاني، جعفر، محاضرات في الإلهيات، ص347, 49. ينظر، الريشهري، محمد، موسوعة العقائد الإسلامية، ج3، ص467. 50. سورة البقرة، الآية: 186. 51. ينظر، الحيدري، كمال، التوحيد، ج2، ص372. 52. الصفار، محمد بن الحسن، بصائر الدرجات، ج1، ص228. 53. ينظر، بحر العلوم، محمد علي، الإمامة الإلهية، ج1، ص425. 54. ينظر، الخوئي، أبو القاسم، بحوث عقائدية، ص26. 55. سورة البقرة، الآية: 138. 56. ينظر، الكليني، الكافي، ج2، ص12، ح1ــ3.
اخرىالتعليقات
يتصدر الان
لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع
يستشهد الكثير من الناس ــ وحتى بعض المثقفين ــ بقول:" لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع فإن الخير فيها دخيل وعاشر نفساً جاعت بعد شبع فإن الخير فيها أصيل" على أنه من أقوال أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، كما يستشهدون أيضاً بقولٍ آخر ينسبونه إليه (عليه السلام) لا يبعد عن الأول من حيث المعنى:"اطلبوا الخير من بطون شبعت ثم جاعت لأن الخير فيها باق، ولا تطلبوا الخير من بطون جاعت ثم شبعت لأن الشح فيها باق"، مُسقطين المعنى على بعض المصاديق التي لم ترُق افعالها لهم، لاسيما أولئك الذين عاثوا بالأرض فساداً من الحكام والمسؤولين الفاسدين والمتسترين عل الفساد. ونحن في الوقت الذي نستنكر فيه نشر الفساد والتستر عليه ومداهنة الفاسدين نؤكد ونشدد على ضرورة تحرّي صدق الأقوال ومطابقتها للواقع وعدم مخالفتها للعقل والشرع من جهة، وضرورة التأكد من صدورها عن أمير المؤمنين أبي الأيتام والفقراء (عليه السلام) أو غيرها من المعصومين (عليهم السلام) قبل نسبتها إليهم من جهة أخرى، لذا ارتأينا مناقشة هذا القول وما شابه معناه من حيث الدلالة أولاً، ومن حيث السند ثانياً.. فأما من حيث الدلالة فإن هذين القولين يصنفان الناس الى صنفين: صنف قد سبق له أن شبع مادياً ولم يتألم جوعاً، أو يتأوه حاجةً ومن بعد شبعه جاع وافتقر، وصنف آخر قد تقلّب ليله هماً بالدين، وتضوّر نهاره ألماً من الجوع، ثم شبع واغتنى،. كما جعل القولان الخير متأصلاً في الصنف الأول دون الثاني، وبناءً على ذلك فإن معاشرة أفراد هذا الصنف هي المعاشرة المرغوبة والمحبوبة والتي تجرّ على صاحبها الخير والسعادة والسلام، بخلاف معاشرة أفراد الصنف الثاني التي لا تُحبَّذ ولا تُطلب؛ لأنها لا تجر إلى صاحبها سوى الحزن والندم والآلام... ولو تأملنا قليلاً في معنى هذين القولين لوجدناه مغايراً لمعايير القرآن الكريم بعيداً كل البعد عن روح الشريعة الاسلامية ، وعن المنطق القويم والعقل السليم ومخالفاً أيضاً لصريح التاريخ الصحيح، بل ومخالف حتى لما نسمعه من قصص من أرض الواقع أو ما نلمسه فيه من وقائع.. فأما مناقضته للقرآن الكريم فواضحة جداً، إذ إن الله (تعالى) قد أوضح فيه وبشكلٍ جلي ملاك التفاضل بين الناس، إذ قال (عز من قائل):" يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)"(1) جاعلاً التقوى مِلاكاً للتفاضل، فمن كان أتقى كان أفضل، ومن البديهي أن تكون معاشرته كذلك، والعكس صحيحٌ أيضاً. وعليه فإن من سبق حاجتُه وفقرُه شبعَه وغناه يكون هو الأفضل، وبالتالي تكون معاشرته هي الأفضل كذلك فيما لو كان تقياً بخلاف من شبع وكان غنياً ، ثم افتقر وجاع فإنه لن يكون الأفضل ومعاشرته لن تكون كذلك طالما كان بعيداً عن التقوى. وأما بُعده عن روح الشريعة الإسلامية فإن الشريعة لطالما أكدت على أن الله (سبحانه وتعالى) عادلٌ لا جور في ساحته ولا ظلمَ في سجيته، وبالتالي لا يمكن أن يُعقل إطلاقاً أن يجعل البعض فقيراً ويتسبب في دخالة الخير في نفوسهم، التي يترتب عليها نفور الناس من عشرتهم، فيما يُغني سواهم ويجعل الخير متأصلاً في نفوسهم بسبب إغنائه إياهم ليس إلا ومن ثم يتسبب في كون الخير متأصلاً في نفوسهم، وبالتالي حب الناس لعشرتهم. فإن ذلك مخالف لمقتضى العدل الإلهي لأنه ليس بعاجزٍ عن تركه ولا بمُكره على فعله، ولا محب لذلك لهواً وعبثاً (تعالى عن كل ذلك علواً كبيراً). كما إن تأصل الخير في نفوس بعض الناس ودخالته في نفوس البعض الآخر منهم بناءً على أمر خارج عن إرادتهم واختيارهم كـ(الغنى والشبع أو الجوع والفقر) إنما هو أمرٌ منافٍ لمنهج الشريعة المقدسة القائم على حرية الانسان في اختياره لسبيل الخير والرشاد أو سبيل الشر والفساد، قال (تعالى):" إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)"(2) بل إن الانسان أحياناً قد يكون فقيراً بسبب حب الله (تعالى) له، كما ورد في الحديث القدسي: "أن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى فلو أفقرته لأفسده ذلك و أن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر فلو أغنيته لأفسده ذلك"(3) وهل يمكن ان نتصور أن الخيرَ دخيلٌ فيمن يحبه الله (تعالى) أو إن معاشرته لا تجدي نفعا، أو تسبب الهم والألم؟! نعم، ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"اِحْذَرُوا صَوْلَةَ اَلْكَرِيمِ إِذَا جَاعَ وَ اَللَّئِيمِ إِذَا شَبِعَ"(4) ولا يقصد به الجوع والشبع المتعارف عليه لدى الناس، وإنما المراد منه: احذروا صولة الكريم إذا اُمتُهِن، واحذروا صولة اللئيم إذا أكرم، وفي هذا المعنى ورد عنه (عليه السلام) أيضاً: "احذروا سطوة الكريم إذا وضع و سورة اللئيم إذا رفع"(5) وأما العقل السليم والمنطق القويم فإنهما يقتضيان أن تتأصل صفة الخير في الإنسان لملكاتٍ حميدة يتسم بها وصفات فضيلة يتميز بها، لا أن تتأصل صفة الخير في نفسه لمجرد أنه ولد في أسرة تتمتع بالرفاهية الاقتصادية ووجد في بيئة تتنعم بالثروات المادية! وعند مراجعتنا للتاريخ الصحيح نجد أن قادة البشر وصفوة الناس إنما كان أغلبهم ينتمي الى الطبقات الفقيرة من المجتمع، فهؤلاء الأنبياء ورسل الله (صلوات الله عليهم) منهم من كان نجاراً أو خياطاً أو راعياً، ومع ذلك فقد كانوا من أطيب الناس خلقاً، وأعظمهم شرفاً، وأرفعهم منزلةً، قد تأصّل الخير في نفوسهم تأصّلاً حتى غدوا قطعة منه، فكانوا هم الخير للبشر، وهم الرحمة للعالمين. وبالنزول إلى أرض الواقع نجد أن الكثير من الفقراء والمساكين طيبي الروح، كريمي النفس، يتألمون لألم المحتاج ولربما يؤثرونه على أنفسهم رغم حاجتهم. ولا نقصد من كلامنا هذا أن الأغنياء هم على نقيض ذلك، وإنما تأكيداً على مسألة عدم ارتباط تأصل الخير في النفوس وعدمه بمستواهم الاقتصادي الذي نشأوا فيه ارتباط العلة والمعلول، فكما إن بعض الفقراء أخيار، فإن بعض الأغنياء كذلك، والعكس صحيح أيضاً. ومن هنا يُفهم من بعض الروايات ضرورة عدم طلب الخير والحاجات ممن هم أهل للخير بقطع النظر عن مستواهم المعاشي الحالي والسابق، منها ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"أشد من الموت طلب الحاجة من غير أهلها"(5)، وعنه (عليه السلام) أيضاً: "فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غير أهلها"(6) إذن فلا صحة لهاتين المقولتين من حيث الدلالة، حتى وإن تنزلنا وحملنا الجوع والشبع على المعنى المعنوي لا المادي؛ وذلك لأنه حتى من يفتقر الى الأخلاق المعنوية فإنه ما إن يتكامل بالفضائل ويقلع عن الرذائل حتى يتسم بالخير وتحسن عشرته وتطيب للناس صحبته، والعكس صحيحٌ أيضا.. ومن البديهي أن ما لا يوافق العقل والمنطق السليم، ويخالف صريح القرآن الكريم، لا يمكن أن يصدر من وصي الرسول الكريم (صلوات الله عليهما وآلهما)، وعليه لا تصح نسبة هذين القولين الى أمير المؤمنين (عليه السلام).. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الحجرات 13 (2) الانسان 3 (3) عوالي الآلي ج2 ص29 (4) غرر الحكم ج1 227 (5) المدر السابق ج1 ص246 (6) ميزان الحكمة ج4 ص 238 رضا الله غايتي
اخرىبين طيبة القلب وحماقة السلوك...
خلق الله الأشياء كلها في الحياة ضمن موازين وقياسات... فالزيادة أو النقيصة تسبب المشاكل فيها. وهكذا حياتنا وأفعالنا وعواطفنا لا بد أن تكون ضمن موازين دقيقة، وليست خالية منها، فالزيادة والنقيصة تسبب لنا المشاكل. ومحور كلامنا عن الطيبة فما هي؟ الطيبة: هي من الصفات والأخلاق الحميدة، التي يمتاز صاحبها بنقاء الصدر والسريرة، وحُبّ الآخرين، والبعد عن إضمار الشر، أو الأحقاد والخبث، كما أنّ الطيبة تدفع الإنسان إلى أرقى معاني الإنسانية، وأكثرها شفافية؛ كالتسامح، والإخلاص، لكن رغم رُقي هذه الكلمة، إلا أنها إذا خرجت عن حدودها المعقولة ووصلت حد المبالغة فإنها ستعطي نتائج سلبية على صاحبها، كل شيء في الحياة يجب أن يكون موزوناً ومعتدلاً، بما في ذلك المحبة التي هي ناتجة عن طيبة الإنسان، وحسن خلقه، فيجب أن تتعامل مع الآخرين في حدود المعقول، وعندما تبغضهم كذلك وفق حدود المعقول، ولا يجوز المبالغة في كلا الأمرين، فهناك شعرة بين الطيبة وحماقة السلوك... هذه الشعرة هي (منطق العقل). الإنسان الذي يتحكم بعاطفته قليلاً، ويحكّم عقله فهذا ليس دليلاً على عدم طيبته... بالعكس... هذا طيب عاقل... عكس الطيب الأحمق... الذي لا يفكر بعاقبة أو نتيجة سلوكه ويندفع بشكل عاطفي أو يمنح ثقة لطرف معين غريب أو قريب... والمبررات التي يحاول إقناع نفسه بها عندما تقع المشاكل أنه صاحب قلب طيب. الطيبة لا تلغي دور العقل... إنما العكس هو الصحيح، فهي تحكيم العقل بالوقت المناسب واتخاذ القرار الحكيم الذي يدل على اتزان العقل، ومهما كان القرار ظاهراً يحمل القسوة أحياناً لكنه تترتب عليه فوائد مستقبلية حتمية... وأطيب ما يكون الإنسان عندما يدفع الضرر عن نفسه وعن الآخرين قبل أن ينفعهم. هل الطيبة تصلح في جميع الأوقات أم في أوقات محددة؟ الطيبة كأنها غطاء أثناء الشتاء يكون مرغوباً فيه، لكنه اثناء الصيف لا رغبة فيه أبداً.. لهذا يجب أن تكون الطيبة بحسب الظروف الموضوعية... فالطيبة حالة تعكس التأثر بالواقع لهذا يجب أن تكون الطيبة متغيرة حسب الظروف والأشخاص، قد يحدث أن تعمي الطيبة الزائدة صاحبها عن رؤيته لحقيقة مجرى الأمور، أو عدم رؤيته الحقيقة بأكملها، من باب حسن ظنه بالآخرين، واعتقاده أن جميع الناس مثله، لا يمتلكون إلا الصفاء والصدق والمحبة، ماي دفعهم بالمقابل إلى استغلاله، وخداعه في كثير من الأحيان، فمساعدة المحتاج الحقيقي تعتبر طيبة، لكن لو كان المدّعي للحاجة كاذباً فهو مستغل. لهذا علينا قبل أن نستخدم الطيبة أن نقدم عقولنا قبل عواطفنا، فالعاطفة تعتمد على الإحساس لكن العقل أقوى منها، لأنه ميزان يزن الأشياء رغم أن للقلب ألماً أشد من ألم العقل، فالقلب يكشف عن نفسه من خلال دقاته لكن العقل لا يكشف عن نفسه لأنه يحكم بصمت، فالطيبة يمكن أن تكون مقياساً لمعرفة الأقوى: العاطفة أو العقل، فالطيّب يكون قلبه ضعيفاً ترهقه الضربات في أي حدث، ويكون المرء حينها عاطفياً وليس طيباً، لكن صاحب العقل القوي يكون طيباً أكثر من كونه عاطفياً. هل الطيبة تؤذي صاحبها وتسبب عدم الاحترام لمشاعره؟ إن الطيبة المتوازنة المتفقة مع العقل لا تؤذي صاحبها لأن مفهوم طيبة القلب هو حب الخير للغير وعدم الإضرار بالغير، وعدم العمل ضد مصلحة الغير، ومسامحة من أخطأ بحقه بقدر معقول ومساعدة المحتاج ... وغيرها كثير. أما الثقة العمياء بالآخرين وعدم حساب نية المقابل وغيرها فهذه ليست طيبة، بل قد تكون -مع كامل الاحترام للجميع- غباءً أو حماقة وسلوكاً غير عقلاني ولا يمت للعقل بصلة. إن المشكلة تقع عند الإنسان الطيب عندما يرى أن الناس كلهم طيبون، ثم إذا واجهه موقف منهم أو لحق به أذى من ظلم أو استغلال لطيبته، تُغلق الدنيا في وجهه، فيبدأ وهو يرى الناس الطيبين قد رحلوا من مجتمعه، وأن الخير انعدم، وتحصل له أزمة نفسية أو يتعرض للأمراض، لأن الطيّب يقدم الإحسان للناس بكل ما يستطيع فعله، ويقدّم ذلك بحسن نية وبراءة منه، فهو بالتالي ينتظر منهم الرد بالشكر أو المعاملة باللطف على الأقل... صحيح أن المعروف لوجه الله، ولكن من باب: من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق، لذلك يتأذى عندما يصدر فعل من الشخص الذي كان يعامله بكل طيب وصدق. هل الطيبة والصدق من علامات ضعف الشخصية؟ الكثير من الناس يصف طيب القلب بأنه ضعيف الشخصية، لأنه يتصف بعدم الانتقام ممن ظلمه، والصفح عنه عند رجوعه عن الخطأ، وأنه لا يحب إيقاع الآخرين بالمشاكل؛ لأنه مقتنع أن الله سيأخذ له حقه. والحقيقة هي أن الصدق والطيبة وحسن الظن بالآخرين ليست ضعف شخصية، بل هي من الأخلاق الراقية وهي تزيد صاحبها سمواً وجمالاً روحياً، وليس من المعيب أن يمتلك الإنسان الطيبة بل العيب في من لا يُقدّر هذه الطيبة ويعطيها حقها في التعامل بالمثل. فالمشكلة الأساسية ليست في الطيبة، إنما في استغلال الآخرين لهذه الطيبة، نتيجة لعدم عقلنة قراراتنا والاعتماد على عواطفنا بشكل كلي. فالصدق والطيبة حسب المنطق والعقل، ولها فوائد جمة للنفس ولعموم أفراد المجتمع، فهي تحصين للشخص عن المعاصي، وزيادة لصلة الإنسان بربه، وتهذيب للنفس والشعور بالراحة النفسية، فالصادق الطيب ينشر المحبة بين الناس، وهذا يعزّز التماسك الاجتماعي وتقويته من سوء الظنون والحقد، وهذا التعامل أكّدت عليه جميع الشرائع السماوية، ولو تأمّلنا تاريخ وأخلاق الأنبياء والأوصياء لوجدنا كل ما هو راقٍ من الأخلاق والتعامل بالطيبة والصدق... حنان الزيرجاوي
اخرىالطلاق ليس نهاية المطاف
رحلةٌ مثقلة بالألم في طريق يئن من وطأة الظلم! ينهي حياة زوجية فشلت في الوصول إلى شاطئ الأمان. ويبدد طموحات أطفال في العيش في هدوء نفسي واجتماعي تحت رعاية أبوين تجمعهم المودة والرحمة والحب. الطلاق شرعاً: هو حل رابطة الزواج لاستحالة المعاشرة بالمعروف بين الطرفين. قال تعالى: [ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)].(١). الطلاق لغوياً: من فعل طَلَق ويُقال طُلقت الزوجة "أي خرجت من عصمة الزوج وتـحررت"، يحدث الطلاق بسبب سوء تفاهم أو مشاكل متراكمة أو غياب الانسجام والحب. المرأة المطلقة ليست إنسانة فيها نقص أو خلل أخلاقي أو نفسي، بالتأكيد إنها خاضت حروباً وصرعات نفسية لا يعلم بها أحد، من أجل الحفاظ على حياتها الزوجية، ولكن لأنها طبقت شريعة الله وقررت مصير حياتها ورأت أن أساس الـحياة الزوجيـة القائم على المودة والرحـمة لا وجود له بينهما. فأصبحت موضع اتهام ومذنبة بنظر المجتمع، لذلك أصبح المـجتمع يُحكم أهواءه بدلاً من الإسلام. ترى، كم من امرأة في مجتمعنا تعاني جرّاء الحكم المطلق ذاته على أخلاقها ودينها، لا لسبب إنما لأنها قررت أن تعيش، وكم من فتاة أُجبرت قسراً على أن تتزوج من رجل لا يناسب تطلعاتها، لأن الكثير منهن يشعرن بالنقص وعدم الثقة بسبب نظرة المجتمع، وتقع المرأة المطلّقة أسيرة هذه الحالة بسبب رؤية المجتمع السلبيّة لها. وقد تلاحق بسيل من الاتهامات وتطارد بجملة من الافتراءات. وتعاني المطلقة غالباً من معاملة من حولها، وأقرب الناس لها، بالرغم من أن الطلاق هو الدواء المر الذي قد تلجأ إليه المرأة أحياناً للخلاص من الظلم الذي أصبح يؤرق حياتها الزوجية، ويهدد مستقبلها النفسي، والله تعالى لم يشرع أمراً لخلقه إلا إذا كان فيه خير عظيم لهم، والطلاق ما شرّع إلا ليكون دواء فيه شفاء وإن كان مرّاً، وإن كان أمره صعباً على النفوس، حيث قال عز وجل: "وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا"، روي عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) ((أبغض الحلال إلى الله الطلاق) (٢). ورغم أن الشريعة الإسلامية أباحت الطلاق بشروط تلاءم لبناء المجتمع، وأولت أهمية في الإحسان دائمًا للطرف الأضعف والأكثر خسارة في هذه المعادلة وهي "المرأة"، إلا أن المجتمع الذي يدّعي الإسلام لا يرحمها، ويحكم عليها بالإدانة طوال حياتها دون النظر في صحة موقفها في الطلاق من عدمه! قال( تعالى ): [الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] (٣). ولكن بعد كل هذا فالحياة لم ولن تتوقف بعد الطلاق! الطلاق ليس نهاية الحياة. - أخيتي. ليكن الطلاق بداية جديدة لحياة جديدة وللانطلاق. -قطار العطاء لن يتعطل. فإن كنت السبب في الطلاق فالحمد لله على كل حال وتلك أمة قد خلت وأيام ذهبت وانجلت فلست بالمعصومة من الخطأ. وعليك استدراك الأخطاء وتقوية مواطن الضعف في شخصيتك، واجعليها درساً مفيداً في الحياة لتطوير نفسك وتقويتها. وإذا كنتِ مظلومة فهناك جبار يُحصي الصغير والكبير وسيأتي يوم ينتصر لك فيه. -ومن الجميل أن تعطي نفسك الإحساس بالحب والاحترام، ولا تتأثري بأي نظرة سلبية من المجتمع وكون البعض يتعامل مع المطلقة على أنها حالة خاصة فعليكِ إثبات ذاتك حتى تفرضي على الكل شخصيتك. - نظرتك لنفسك اجعليها نظرة ايجابية مشرقة ولا تنزلقي في مستنقع نبذ الذات وظلم النفس. - ابحثي عن الصفات الجيدة فيك فإن ذلك سيشعرك بالثقة في ذاتك والتقدير لها. -حاولي مراجعة نفسك للخروج بإيجابيات حصلت لك من طلاقك. - خالطي الآخرين وإياك والعزلة بسبب وضعك الجديد فلست بأول من يبتلى بالطلاق. -استمتعي بالموجود ولا تتعلقي بالمفقود، حلقي بروح تعبق أملاً وتفاؤلاً، استمتعي بما وهبك الله من نعم (صحة وأولاد وأهل وصديقات وعمل وهوايات وغيرها من الأمور الجميلة) فما حصل لك حصل… ولابد أن تتقبليه برضا، وأعلمي أن ما أصابك لم يكن ليخطأك وما أخطأك لم يكن ليصيبك. وقال أصدق من قال: ( وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم). فالرضا سر السعادة الحقيقي. - اقتربي من صديقاتك الصالحات، واقضي معهن وقتاً طيباً تنسين به ألمك وحزنك. - احرصي على الصلوات وقراءة القرآن الكريم والذكر والاستغفار وأكثري من الطاعات قدر ما تستطيعين، ففيها السلوى والفرح والسعادة. ونعم سعادة القرب من الرحمن. - اشغلي نفسك بأعمال البر والإحسان بمساعدة محتاج. بكفالة يتيم. بتعلم الفقه والقرآن وتعليمه. - اجتهدي في عمل برنامج يومي لك يكون ممتلأ بكل ما هو مفيد لك. من قراءة وزيارة الأصدقاء وصلة الرحم. بحيث لا تكون هناك دقيقة أنت فارغة فيها. - وأسرعي بقاربك الجميل بمجذافين من إيمان بالله وثقة بالنفس وسوف تصلين بإذن الله نحو جزيرة السعادة والنجاح. لكي تتسلق جبال الإنجاز، وتصل لأعلى مراتب الاعجاز. وعندها جزماً سيكون للحياة معنى آخر. --------------------------------- (١)-سورة البقرة الآية (٢٢٦-٢٢٧). (٢)-الكافي (٢)-سورة البقرة الآية (٢٢٨) حنان ستار الزيرجاوي
اخرىأساليب في التربية
عالم الطفولة كأنه طاولة، لا تجد فيه غير طعام لذيذ، ومنظر لطيف وجديد، فعالمهم فاكهة الوجود، وخضار الأرواح، ومياه الحياة تسقي القلوب... عالم صفاء وأحلام جميلة بسيطة وتافهة ولكن بنظرهِ هو عظيمة وكبيرة، فهو العالم الذي ينطلق منه الإنسان في بداية عمره. فالطفل في بداية حياته ينظر إلى الحياة بتفكيره البريء، فالطفل يعيش بعالم خاص به مملوء بالمحبة البريئة. هذه هي الصورة الجميلة التي يحملها الطفل، وكم يتمنى كل إنسان أن يعود لطفولته البريئة ليتأمل في أرجاء عالمها الذي كان يصور له حياة مختلفة تشد الإنسان إليها بجمالها، هذا هو عالم الطفولة وهذه أحلام من يعيشها، فلا ينفذ إلى ملكوت ذلك العالم ولا يدرك كنهه إلا من عاشه وجال في ربوعه. حيث يتذوق الطفل مع أحلام طفولته هذه لذة الحياة ولذة العيش فيها، ومهما حاولنا أن نعبر عن هذه الحقيقة فلن نستطيع تصويرها بالكلمات. وبعد هذا، فإن الاهتمام بمستقبل الطفل هو في الواقع ضمان لمستقبل شعب بأسره. قال اللَّه تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا". التحريم/6 أعتنى الإسلام بتربية الأبناء عناية فائقة، وألقى على عاتق الأهل ما سيكون عليه الولد في مسلكه الدنيوي ومصيره الأخروي إن هم قصروا في تربيته وإعداده. وقد ذكر العلماء أن شخصية الولد تتأثر في نموها بعوامل ثلاثة وهي: الوراثة، والبيئة، والتربية. إذا خضنا في مضمار التربية السليمة للأبناء... فعلى الأبوين أن يكون لهما الوعي التربوي الذي يبنى على أسس صحيحة ويتوفر لديهم فهم لأساليب التربية والتوجيه والرعاية وهذه نقطة البداية. فمثلاً في أسلوب التعامل مع الطفل تبرز أمامنا ثلاثة اشكال لتعامل الآباء مع الأبناء: الشكل الأول: أسلوب الدلال المفرط وهذا الأسلوب له نتائجه السلبية الخطيرة، فإنه يخلق شخصية هشة متميعة وشخصية اتكالية تحب الكسل والخمول مجردة من الهدف والإقدام، انهزامية غير قادرة على مواجهة التحديات وبمعنى أدق شخصية لا تثق بنفسها. شخصية متسيبة في ظل غياب المراقبة والمحاسبة وهذا التسيب يقود إلى الانفلات والانحراف. الشكل الثاني: فهو أسلوب التربية القاسية والعنف. وهذا الأسلوب أيضاً له نتائجه الخطيرة والسلبية التي يعاني منها الأبناء طوال حياتهم فهو يخلق شخصية قلقة ومتأزمة ومعقدة وخائفة وتحمل عقدة الخوف، شخصية حاقدة وعدوانية وقد تتأزم الأمور لتصبح شخصية منافقة وكاذبة خوفاً من العقاب والتعنيف ضمن حدود الأسرة ولكن يوماً من الأيام سينطلق هذا الشخص ليواجه المجتمع ككل، فلنتصور كيف سيتعامل مع المحيطين ضمن مجالات الدراسة والعمل وهو شخصية هاربة من أجواء الأسرة وقد يعرضها للتسيب والانحراف لأنها شخصية متمردة مما يعرضها للعقوق. الأسلوب الثالث: التوازن. الأسلوب الصحيح يعتمد على التوازن فمن شروط نجاح التربية التوازن في المعاملة ما بين الأمور التي تحتاج إلى شدة وحزم ليتربى على أن هذه الأمور خطوط حمراء طبعاً هنا يمكن أن يعترض أحد ويقول: لا للعنف الأسري ولا لاستخدام القسوة. نعم فهناك طرق غير استخدام العنف. يكفي ان يبدي الآباء انزعاجهم مثلاً. وهنا النقطة مهمة جداً، وهي: أن نوضح لهم سبب المنع والرفض لا تعتقدوا أن أبناءكم لا يدركون ولن يفهموكم. تخصيص الوقت للنقاش مهم جداً. وما بين أسلوب المرونة والحنان والاحتواء. التوازن في المعاملة. إن الإمام زين العابدين (عليه السلام) يصرح بمسؤولية الأبوين بتربية الطفل، ويعتبر التنشئة الروحية والتنمية الخلقية لمواهب الأطفال واجباً دينياً يستوجب أجراً وثواباً من الله تعالى، وأن التقصير في ذلك يُعرّض الآباء إلى عقاب الله. فيقول (عليه السلام): (وأما حق ولدك عليك فأن تعلم أنه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره. وأنك مسؤول عما وليته به من حسن الأدب والدلالة على ربه عز وجل والمعونة له على طاعته. فأعمل في أمره عمل من يعلم أنه مثاب على الإحسان إليه معاقب على الإساءة إليه ) مكارم الأخلاق للطبرسي ص٢٣٢ حنان الزيرجاوي
اخرىالطفولة المقتولة بين الماضي والحاضر
رقية طفلة صغيرة هي الاصغر اذ سبقها ولدان محمد وعلي وبنت اسمها فاطمة. رقية هي المدلّلة عند أبيها يصحبها إلى محل عمله في دكانه الخاص الذي كان يعمل به. كانت كثيرا ما تشاكس الزبائن بخفة دمها وقد احب الكثيرون دلالها ومشاكستها. بل لعل البعض أخذ يشتاق لتلك اللمحات الجميلة التي تصدر منها فيأتي الى دكان أبيها ليرى رقية ويداعبها ويخرج. بل اصبحت واسطة جذب للزبائن وسط ضحكات أبيها وتقبيله لها . هكذا كانت حياتها جميلة حتى في البيت تكون الى جانب ابيها وتحاول ان تثير والدتها بان تعتنقه وتقول: هو لي وحدي! وسط ضحكات امها واخوتها، وعند سماعها الاذان تسرع لترتدي احرامها الجميل الصغير وتهيئ سجادة الصلاة لها ولأبيها. كثيرا ما حاول الاخرون اخذ مكانها ولكنها تغلبهم بخفة دمها وشقاوتها وعندما يقولون لها اتعبتِ اباك، تقول لهم: لا عليكم انا عزيزته انا حبيبته دعوني .... وفي يوم ربيعي جميل ومع نسمات الصباح الجميلة وهي مع ابيها في محل عمله دخل احد الزبائن الذي اعتاد على شقاوة رقية داعبها ثم قال لها: احضرت لكِ هدية جميلة. فقالت هل هي اجمل من ابي ؟ لا اعتقد هناك هدية اجمل منه. ضحكا بقهقهة وقال لها: نعم هو اجمل هدية . ولكن تعالي معي الى السيارة في الجانب الآخر من الشارع وسأريك مفاجأة . ذهبت معه بعد ان امسكت بيده بقوة خوف السيارات المارة وحين وصلت الى سيارة ذلك الرجل ودخلت بها لترى المفاجأة واذا بصوت انفجار يهز المكان وساد الظلام وهي ترتجف من الخوف والهلع... وبعد دقائق خرجت مسرعة نحو محل ابيها الذي اصبح ركاماً . فعثرت بشيء، دققت النظر، واذا برأس ابيها يشخب منه الدم! جلست وضعته في حجرها انحنت عليه تلثمه وتصرخ عالياً: بابا ...بابا .. بابا، حتى اغمي عليها. هرع إليها من كان قريب من المكان ليحملوها وهي بلا حراك. اوصلوها الى المستشفى وكان قلبها ينبض . اسعفوها، فتحت عينيها، ودارت بهما وسط الحاضرين وهي تتمتم بابا... بابا... وسط دموع الحاضرين وبهذه الاثناء حضرت امها لتعانقها وهي تبكي حبيبتي حبيبتي...اين ابوك؟ ووسط تلك الدموع وهي تردد بابا... لم تتمالك الطفلة مشاعرها وتنادي: أين أبي؟ أين أبي؟ وهي مذهولة مدهوشة لا تريد أن تصدق أن أباها رحل عنها وجسده تقطع اوصالا فأخذت تنادي: اريد ابي قبل قليل كان معي، أين أبي؟ اريد ابي، وسط دموع الحاضرين وآهاتهم، قالت لها امها: بنيتي ان اباك مات ورحل عنا! قالت رقيه: لا لا لا، قبل قليل كان معي، بكى كل من حضر عندها، وعلا الصراخ والبكاء في القاعة، جاء الطبيب والممرضون فشاهدوا ما يجري فاختنقوا بعبرتهم ونشيجهم، كتب لها الطبيب وصفة من العلاج المهدّئ واُخرجت من المستشفى ورجعت الى الدار ولكنها كانت ترفض أخذ العلاج المهدّئ وتقول: أين أبي؟ لقد كان وعدني بهدية أين هو؟ اين هو ابي؟ أبي، أبي، أين أنت؟ أخذت تركض الى غرفته علها تجده، أخذت تشم رائحته في ارجاء الغرفة، هذه ملابسه، هذا قميصه، وهذه حاجياته، وهي تدور مذهولة وتكلم اباها. واذا بجنازة ابيها جاؤوا بها استعداداً للتوديع الأخير، ليدفن في مثواه الاخير، شمت ريح والدها ركضت وهي تنادي: جاء ابي جاء ابي، تسمّرت قدماها وهي ترى اباها وسط التابوت وقد علا العويل والصراخ في أرجاء الدار، رمت بنفسها على الجنازة وهي تنادي أبي أبي الى أين أنت ذاهب؟ أتتركني وانا مدللتك؟ بابا من يلاعبني ويضاحكني؟ وصارت تنادي بابا بابا... ثم هدأت، والصراخ والعويل من اهلها والحاضرين يبكون لفقد عزيزهم ويبكون حال هذه الطفلة رقية، ولكنهم ذهلوا لأنها سكنت حملوها واذا بها قد التحقت بأبيها وفارقت روحها الطاهرة هذه الدنيا، لترفرف روحها مع أبيها الشهيد، لتكون قصة رقية الحاضرة بصمة تشابه ما جرى على السيدة رقية الماضي، فالقتلة هم نفس القتلة، والقلوب المتحجرة التي لا تعرف للرحمة معنى ولا للإنسانية معنى ولتكون مواساة رقية الحاضرة للسيدة الطاهرة رقية بنت الامام الحسين (عليه السلام)، لتشير الى مظلومية اهل البيت واتباعهم في الماضي والحاضر حنان الزيرجاوي
اخرىلا تقاس العقول بالأعمار!
(لا تقاس العقول بالأعمار، فكم من صغير عقله بارع، وكم من كبير عقله فارغ) قولٌ تناولته وسائل التواصل الاجتماعي بكل تقّبلٍ ورضا، ولعل ما زاد في تقبلها إياه هو نسبته الى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولكننا عند الرجوع إلى الكتب الحديثية لا نجد لهذا الحديث أثراً إطلاقاً، ولا غرابة في ذلك إذ إن أمير البلاغة والبيان (سلام الله وصلواته عليه) معروفٌ ببلاغته التي أخرست البلغاء، ومشهورٌ بفصاحته التي إعترف بها حتى الأعداء، ومعلومٌ كلامه إذ إنه فوق كلام المخلوقين قاطبةً خلا الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ودون كلام رب السماء. وأما من حيث دلالة هذه المقولة ومدى صحتها فلابد من تقديم مقدمات؛ وذلك لأن معنى العقل في المفهوم الإسلامي يختلف عما هو عليه في الثقافات الأخرى من جهةٍ، كما ينبغي التطرق الى النصوص الدينية الواردة في هذا المجال وعرضها ولو على نحو الإيجاز للتعرف إلى مدى موافقة هذه المقولة لها من عدمها من جهةٍ أخرى. معنى العقل: العقل لغة: المنع والحبس، وهو (مصدر عقلت البعير بالعقال أعقله عقلا، والعِقال: حبل يُثنَى به يد البعير إلى ركبتيه فيشد به)(1)، (وسُمِّي العَقْلُ عَقْلاً لأَنه يَعْقِل صاحبَه عن التَّوَرُّط في المَهالِك أَي يَحْبِسه)(2)؛ لذا روي عنه (صلى الله عليه وآله): "العقل عقال من الجهل"(3). وأما اصطلاحاً: فهو حسب التصور الأرضي: عبارة عن مهارات الذهن في سلامة جهازه (الوظيفي) فحسب، في حين أن التصوّر الإسلامي يتجاوز هذا المعنى الضيّق مُضيفاً إلى تلك المهارات مهارة أخرى وهي المهارة العبادية. وعليه فإن العقل يتقوّم في التصور الاسلامي من تظافر مهارتين معاً لا غنى لأحداهما عن الأخرى وهما (المهارة العقلية) و(المهارة العبادية). ولذا روي عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنه عندما سئل عن العقل قال :" العمل بطاعة الله وأن العمّال بطاعة الله هم العقلاء"(4)، كما روي عن الإمام الصادق(عليه السلام)أنه عندما سئل السؤال ذاته أجاب: "ما عُبد به الرحمن، واكتسب به الجنان. فسأله الراوي: فالذي كان في معاوية [أي ماهو؟] فقال(عليه السلام): تلك النكراء، تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل"(5) والعقل عقلان: عقل الطبع وعقل التجربة، فأما الأول أو ما يسمى بـ(الوجدان الأخلاقي) فهو مبدأ الادراك، وهو إن نَما وتطور سنح للإنسان فرصة الاستفادة من سائر المعارف التي يختزنها عن طريق الدراسة والتجربة وبالتالي يحقق الحياة الإنسانية الطيبة التي يصبو اليها، وأما إن وهن واندثر لإتباع صاحبه الأهواء النفسية والوساوس الشيطانية، فعندئذٍ لا ينتفع الانسان بعقل التجربة مهما زادت معلوماته وتضخمت بياناته، وبالتالي يُحرم من توفيق الوصول إلى الحياة المنشودة. وعقل التجربة هو ما يمكن للإنسان اكتساب العلوم والمعارف من خلاله، وما أروع تشبيه أمير البلغاء (عليه السلام) العلاقة التي تربط العقلين معاً إذ قال فيما نسب إليه: رأيت العقل عقلين فمطبوع ومسموع ولا ينفع مسموع إذ لم يك مطبــوع كما لا تنفع الشمس وضوء العين ممنوع(6) فقد شبّه (سلام الله عليه) عقل الطبع بالعين وعقل التجربة بالشمس، ومما لاشك فيه لكي تتحقق الرؤية لابد من أمرين: سلامة العين ووجود نور الشمس، وكما إن الثاني لا ينفع إن لم يتوفر الأول فكذلك عقل التجربة لا ينفع عند غياب عقل الطبع فضلاً عن موته. وبما إن عقل الطبع قد ينمو ويزدهر فينفع صاحبه من عقل التجربة، وقد يموت ويندثر عند الاستسلام لإضلال شبهةٍ أوبسبب إرتكاب معصية، فإنه ومن باب أولى أن يتعرض الى الزيادة والنقصان كما سيأتي... وقد ورد في النصوص الدينية أن للعقل زمناً ينمو فيه ويكتمل، فعن إمامنا أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه):"يثغر الصبي لسبع، ويؤمر بالصلاة لتسع، ويفرق بينهم في المضاجع لعشر، ويحتلم لأربع عشرة، وينتهى طوله لإحدى وعشرين سنة، وينتهي عقله لثمان وعشرين إلا التجارب"(7)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يربى الصبي سبعاً ويؤدب سبعاً، ويستخدم سبعاً، ومنتهى طوله في ثلاث وعشرين سنة، وعقله في خمس وثلاثين [سنة] وما كان بعد ذلك فبالتجارب"(8). إذن يتوقف النمو الطبيعي لعقل الانسان عند سن الثامنة والعشرين أو الخامسة والثلاثين كما ورد في الروايتين، وأية زيادة أخرى في طاقته بعد ذلك إنما تأتي عن طريق التجارب، وقد يُتوهم بأن ثمة تعارضاً ما بين الروايتين المتقدمتين في شأن تحديد سن النمو العقلي، إلا إنه لا تعارض ينهما إذا حملنا اختلافهما فيه على اختلاف الاشخاص وتباين استعدادات وقابليات كل منهم. وعلى الرغم من توقف نمو عقل الإنسان إلا إن له أنْ يزيده بالتجارب ومواصلة التعلم ــ كما تقدم في الروايات ــ وسواء أثبت العلم هذه الحقيقة الروائية أم لا، فنحن نريد الإشارة إلى ضرورة استمرار التجربة والتعلم لزيادة نمو العقل وهذا المقدار لا خلاف فيه وعلى الرغم من إن لعمر الانسان مدخلية في زيادة عقله كما تقدم وكما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يزيد عقل الرجل بعد الاربعين إلى خمسين وستين، ثم ينقص عقله بعد ذلك"(9)، إلا إن ذلك ليس على نحو العلة التامة، إذ يمكن للعقل أن يبقى شاباً وقوياً وإن شاب الإنسان وضعف جسمه، وتقدم في السن ووهن عظمه، فالعاقل لا يشيب عقله ولا تنتقص الشيخوخة من قوته بل وقد يزداد طاقةً وحيويةً لذا ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"رأي الشيخ أحب الي من جَلَد الغلام"(10)، وفي أخرى ".....من حيلة الشباب "(11) وأما من لم يوفر أسباب صقل عقله في مرحلة الشباب فإنه بلا شك يضمحل عقله في مرحلة الشيخوخة. وليس تقدم العمر هو العامل الوحيد في نقصان العقل بل إن النصوص الشرعية أشارت الى عوامل عديدة اخرى أهمها: أولاً: التعلم: فقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "من لم يصبر على ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبداً"(13). ثانياً: التوبة: وعنه (عليه السلام) ايضاً:"من لم يرتدع يجهل"(14) ثالثاً: التقوى: فقد كتب إمامنا الباقر (عليه السلام) إلى سعد الخير: "بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإني اوصيك بتقوى الله فإن فيها السلامة من التلف والغنيمة في المنقلب إن الله (عزوجل) يقي بالتقوى عن العبد ما عزب عنه عقله ويجلي بالتقوى عنه عماه وجهله"(15) إذن التوبة هي سبب للتوفيق الإلهي الذي يؤدي فيما يؤدي إليه من إكمال العقل. رابعاً: الوقوف عند الشبهة: وقال (عليه السلام ): "لا ورع كالوقوف عند الشبهة"(16). فإن الوقوف عند الشبهات سبب من أسباب التوفيق الإلهي بلا شك. خامساً: الاعتراف بالجهل: كما روي عن الإمام علي (عليه السلام): "غاية العقل الاعتراف بالجهل"(17) إذ الاعتراف بالجهل يدفع الإنسان دوماً إلى مزيد من بذل الجهد واكتساب المعارف. مما تقدم تتضح جلياً صحة هذه المقولة دلالةً، إذ إن العقول فعلاً لا تقاس بالأعمار لأن كلٍاً من زيادتها ونقيصتها منوطٌ بالعديد من العوامل الأخرى والتي تقدم ذكرها، بيد إن ذلك لا يبرر التساهل في نشرها والتهاون في الاستشهاد بها على إنها من أقوال أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) لعدم ثبوت ذلك سنداً من جهة ولضعف بلاغتها وركاكة تركيبها بالنسبة إلى سيد البلغاء والبلاغة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) تهذيب اللغة ج1 ص65 (2) لسان العرب ج11 ص458 (3) نهاية الحكمة ص305 (4) ميزان الحكمة ج3 ص333 (5) أصول الكافي ج1، ح3 / 11 (6) نهج السعادة ج9 ص163 (7) الكافي ج7 ص94 (8) الفقيه ج3 ص493 (9) الاختصاص ص245 (10) نهج البلاغة حكمة 86 (11) بحار الأنوار ج72 ص105 (12) المصدر السابق ج1 ص94 (13) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص118 (14) الكافي ج8 ص73 (15) وسائل الشيعة ج1 ص162 (16) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص1 بقلم الكاتبة: رضا الله غايتي
اخرى