بقلم: نورا گاصد العبودي لم أعتدْ قولها أو كتابتها حتى ... لكنّي اليوم أشعرُ بها ... بعد ما زارتني الخيبة أمس، جلست بكلِّ وقاحةٍ أمامي تحملُ مرآةً بيدها ... وتُريني قباحة أفعالِ سُكّان القلب... وأخذت تضحكُ بصوتٍ عالٍ، مُردّدةً عباراتِ الانتصار ... ثم سألتني: كيف تعامل معكِ آخر جنودي؟! -تقصد خُذلان الكلام- أشحتُ بناظري عنها، وقلت لها: أنا من صمتُّ؛ فالكلام لم يعُدْ يُجدي نفعًا مع الوحوش البشرية، الذين يصبّون جامَ غضبِهم بكلامٍ يحملُه الغبار فيرميه في مزبلةِ النسيان! أنا أتمسكُ بالشيءِ الخالد فقط! قلمي.. سينصُرُني، وهو ينزف أملًا، ويبثّه عشقًا... رغم أنف الخيبات..
اخرىبقلم: نورا كاصد العبودي هوِّنْ عليك؛ فالعالمُ قاسٍ جدًا ليس بيني وبينك سوى ستين عامًا من البعد... ومئات الجراح، وألف ميلٍ من الحزن! بعد أنْ هربتُ من العالمِ جئتُك بكاملِ جراحي الأنيقة! لا أزالُ طفلًا، وجراحي غائرةٌ كبيرة.. حزني سرمدٌ يقتلُ أحلامي الصغيرة أتلقّى الكلماتِ خناجرَ مدججة بصدري... فيما كنتُ أتصورُ أنَّ العالمَ يُشفِقُ على القلوبِ البريئة.. هربتُ، وأعتقدُ أنَّ النوم يهزمُ الألم... وأنَّ العُزلةَ ملجأُ الأرواحِ الكسيرة... فقصتي غريبة، اخترتُ غيمةً جميلة، ناصعةَ البياض كالأميرة... لكنّها بعد أيامٍ تبخّرت وتركتني في حيرة... عُدتُ يائسًا، جلستُ على صخرةٍ عظيمة... نظرتُ نحو السماءِ، وجدتُ نجمةً وحيدة... اتخذتُها خليلةً، لكنّ القمر اعترض وطردني.. وما تزالُ روحي لها أسيرة.. اصطحبتُ جراحي، وجئتُك أتكئ على جراحِك الهزيلة... كي أخلعَ معطفَ الحزنِ وأتمسك بقلبٍ طالما أشعرني بالسكينة... دعْ رأسيَ الصغيرَ المليءَ بالهمومِ يخلُدُ على كتفك المحني... فالزمانُ موحشٌ، والدنيا تدعوني لأنطفئ، وتُضيء هي، وتشمت بروحي الرهينة... أشعرُ أنّي مُتُّ منذُ زمن، وقلبي مُعلّقٌ بجدارِ الانتظار والحياة الرتيبة ... والذاكرةُ تتآكلُ داخل رأسي.. ما أعلمُه أنّي أشيخُ بسرعةٍ يا سندي العتيد... وجدتُك كموجِ البحرِ الغاضب، ورياحِ الخريف العاصف، تُبعثِّرُ وريقاتِ الربيع قربَ كلَّ بحيرة... وأنتَ ما زلتَ تحتضنُ قلبي الرقيق المتألم، وتلتقطُ أنفاسَك حسراتٍ أخيرة... بيني وبينك وفاءٌ، ووعدٌ، وعامٌ من الغربة...
الخواطربقلم: نورا كاصد العبودي بعدَ أنْ حطَّ الظلامُ في حُجَرِ بيوتِ أهلِ الكوفة، ومكثَ الشرُ داخلَ نفوسِ بعضِ أهلِها...وبالأخصِ عندما حدَّدَ ابن زياد الجائزةَ العُظمى: (من أتاني بمسلمٍ بن عقيل فلهُ عشرةَ آلافِ درهم، والمنزلةُ الرفيعة من يزيد بن معاوية، ولهُ في كلِّ يومٍ حاجةٌ مقضية) راحَ صدى هذه الكلماتِ يغزو أزقةِ المدينةِ ويعلو، فيتلاطمُ الناسُ فيما بينهم كأمواجِ بحرٍ لا قرارَ له! نقودٌ تكفي لغرسِ الجوعِ في عقولِ البعضِ، فتمرِّدَ الحقدُ والضلالُ في دواخلهم.. وبينَ حسراتِ الخوفِ والوجومِ والطمعِ والغضبِ والرضا، تبزغُ شمس منتظرة، سيّدة ملتحفة بالصمتِ، تلوكُ الصبرَ حنظلًا.. تنتظرُ عندَ بابِ بيتِها ذلك الذي يعملُ شرطيًا في جيشِ ابنِ زياد.. يقرعُ في قلبِها طبولَ معركةٍ عنوانُها (ولدٌ عاقّ)، هي الأشدُّ ضراوةً من تلك التي ستقع، وتُمطرُ سحابةُ أفكارِها بسيولٍ من الجمر، وهي ترى الكوفةَ غارقةً بالتفكير، كيف ستحصلُ على الجائزة، فيتعالى حزنُها على آلِ النبي (صلى الله عليه وآله)... وبعدَ أنْ ملّتْ انتظارَ ولدِها وكادتْ أنْ تدخلَ بيتها لمحتْ قمرًا شعَّ نورُه من ظلامِ الزقاق، يسيرُ ببطءٍ شديدٍ، قد أنهكَه التعبُ والعطشُ ... بشرٌ من نور... ألقى عليها السلام وطلب منها ماءً ليشرب ... أحضرت له الماءَ والدهشةُ تنثرُ بلؤلؤِها على ملامحَ السيّدةِ النبيلةِ .. سألتْه على استحياءٍ: من أنتَ سيّدي وهل لك حاجة؟ وقف (عليه السلام) متحيّرًا، لا تُطاوعه نفسُه أنْ يطلب منها الإذنَ بالدخول، ولا يعرفُ مكانًا آخر ينصرفُ إليه، فأزقةُ المدينةِ مليئةٌ بحرسِ السلطة، وأصحابُه المخلصون قد زُجَّ بهم في السجون، وعامةُ الناسِ قد تمكَّنَ منهم الخوفُ أو أغراهم المالُ فنقضوا بيعته، وقعدوا عن نصرةِ الحقّ .. وصمّوا آذانَهم عن سماعِ صوتِ الحقيقة .. إجاب: أنا مسلمٌ بن عقيل، وأريدُ مكانًا أبيتُ فيه حتى الفجر.. صكّتِ المرأةُ وجهها حسرةً وألمًا لحالهِ، واعتذرتْ منه، وتنحَّتْ ليدخل.. ليتباركَ البيتُ بدخولِ نسلِ الآل المطهرين. جاءتْ له بالعشاءِ فوجدته مستغرقًا في الصلاة، تركت العشاء وخرجتْ لتجد ابنها قد عاد. كانت هذه المرةُ الأولى التي كرِهَتْ فيها حضورَه إلى البيت، وودّتْ لو أنّه لم يحضرْ.. أو لا يحضرُ أبدًا. ومن شدِّةِ اضطرابِها وخوفِها على مسلم (عليه السلام) لاحظَ الابنُ أنَّ أمَّه تُخفي سرًا، أخذ يُراقبها ويستدرجها بالكلام حتى باحتْ له بالسرِّ بعد ما أخذتْ عليه موثقًا بأنّه لن يُفشيَ السرَّ لمخلوق، لم تعلمِ السيّدةُ الجليلةُ (طوعة)، أنّها كانتْ تأوي ثعبانًا في بيتِها طوال هذه السنين، ابنها الشرير الذي غرسَ سمّه في قلبِها وقتلَ فرحتَها بإيواءِ سفيرِ الحسين (عليهما السلام).. نامَ الابنُ على جمرٍ، ينتظرُ طلوعَ الصباحِ ليُفشيَ سرًا أقسمَ أنْ لا يُفشيه، وأما هي فأرادت أنْ تغفو على أملِ نجاةِ مسلمٍ (عليه السلام)، ذلك الضرغام الذي لم يغمضْ له جفنٌ وقضى ليلَه بالعبادةِ والتهجد ... لم يكتمِ الشيطانُ سرًا، فما أنْ لاحتْ تباشيرُ الفجرِ الأولى حتّى سمِعَ مسلمُ وطوعةُ جَلَبَةِ الخيلِ وصياحِ الفرسان عند الباب... كانوا سبعينَ رجلًا، طوّقوا بيت السيّدة؛ للقبص على مسلم (عليه السلام)، لكنّه واجههم وأستطاع أنْ يغلبَهم، هكذا رأتْ طوعةُ مسلمًا (عليه السلام)، وهي مذهولةٌ تنظرُ إليه... أ هو مسلمٌ حقًا أم علي (عليهما السلام)؟ أ هي معركةُ خبير، وبابُها وسيفُ ذو الفقارِ أم هو باب بيتها؟ كان رجلًا لا يأبهُ الموت، حتى أنهى مهمةَ الرجالِ السبعين الأشدّاء وحده بسيفٍ واحدٍ وضربةٍ قاضية.. كان طلبُ الإمداداتِ لخوضِ معركةٍ مع رجلٍ واحدٍ يدقُّ ناقوسَ الخطر في قلبِ ابن زياد الذي جُنَّ رعبًا وعنَّفَ قائدَ شرطته، ولكنّ ابن الأشعث لم يترك لابن زياد قوله: (رجل واحد) دونَ ردٍّ، فذكّره بأنّه لم يُرسلْه إلى رجلٍ عاديّ، بل أرسله إلى رجلٍ محمديٍ علويٍ باسل.. الأمانُ الغادرُ والنظرةُ الشيطانيةُ لم يقللا من عزمِه الهمام، وكانتْ طوعةُ ترى ملحمةً يرسُمُها هذا الفارسُ لتُطرِّزَ هي أحداثَها في مُخيّلتِها إلى الأبد.. كان ينتفضُ رغمَ كثرةِ الجراحِ التي أصيبَ بها جسدُه كما ينتفضُ الضيغمُ مدافعًا ومحاربًا.. وكانتْ طوعةُ تُذكّرُه بأمجادِ عمّه.. وبعد معركةٍ ضاريةٍ انجلتِ الغبرة كي تلمحَ طوعةُ ذلكَ الجبلَ الأشمّ وهو مُغطى بالدماء، دَنَتْ نحوه لتسمعَ وهو يوصي... أنِ ابعثوا لأخي الحسين (عليه السلام) بأنّ أهلَ الكوفة غدروا بنا .. انتهتْ وشايةُ الولدِ العاقِّ الغادرِ بمسلم (عليه السلام)، وهو فوقَ قصرِ الإمارة، وقد ضُرِبَ عنقُه الشريف، وألقيَ بجسدِه من سطحِ القصر.
اخرىبقلم/ نورا كاصد العبودي في بيوتٍ أذِنَ اللهُ (تعالى) أنْ تُرفَع ويُذكَر فيها اسمُه، بزغتْ زهرةٌ ذاتُ ثلاثة عشر عامًا، استقتِ العلمَ والمعرفةَ والشجاعةَ من بيتِ أبيها بيت العلم، وبيتِ أعمامِها بيت منزلِ الوحي والقرآن، حيثُ كان لها أبٌ تتوارى بقلبِه شجاعةُ آلِ طالبٍ كُلِّها، وأمٌّ سيّدةٌ جليلةٌ من صُلبِ عليٍ (عليه السلام)، كانتْ ترسمُ لها شكلَ الصراط، وتُرسِّخُ في ذهنِها الرضا بقضاءِ الله (تعالى) وقدره. أصبحتِ السيّدةُ حميدةُ (عليها السلام)، تقضي الليلَ كُلَّه بالعبادةِ وتصومُ النهار، زاهدةً، تقيةً، تتجمعُ حولها جميعُ فراشاتِ الكون تُسبِّحُ لله (عزَّ وجل)، بين يديها.. وفي موقفِ الطفِّ كانتْ لها وقفةٌ من بينِ سفوحِ ظلامِ المُخيّم، حيثُ كانت تطوِّقُ بصلاتِها رؤوسَ الفتياتِ تيجانًا مرصعةً بالتقوى، وتُرتِّلُ آياتِ القرآن لتُهدِّئ قلوبُ الأطفالِ وتُنسيهم لهيبَ الظمأ الذي أصابهم، وبنورِها كانتْ تُنيرُ طريقَ عمّاتِها الشائكَ بجُثثِ القتلى، بعدما كانت بين يدي عمّها الحُسين (عليه السلام)، في صحراءِ الطفِّ غصنٌ من وردِ الليلك، فوّاحةَ العِطرِ بالإيمان، والألم، والصبر.. تنتظرُ أباها مُسلمًا والقافلةُ تسيرُ بهم نحو كربلاء الطفوف، وقلبُها الصغيرُ كالجمرِ يلهبُ بل يحترقُ شوقًا، وينفثُ دخانَ الحزنِ أديمًا أبيضًا، تترجّاه أنْ يُخفِّفَ حدّةَ الحرارةِ عن الأطفالِ وجميع النساء، لكنّها صبورةٌ لا تُبدي حزنَها لأحدٍ حتى أمّها.. انقضى الشهرُ ولم يصلْ أيُّ خبرٍ عن أبيها، فما كان من العمِّ العطوف والإمام القائد إلا أنْ يُسلِّمَ أمرَه وأمرها لله (سبحانه وتعالى)، ناداها بصوتٍ يعلوه الأسى وأجلسها في حجره الطاهر، وأخذَ يمسحُ بيدِه الشريفةِ على رأسِها، مُستشعرًا خبرَ استشهادِ والدِها. علمتِ السيّدةُ الصغيرةُ أنّ أباها قد انتقلَ للرفيقِ الأعلى، رفعتْ رأسَها بعدَ أنِ التمستْ العطفَ والحنانَ، وقالت: عمّاه، هكذا يُمسَحُ على رأسِ اليتيم، إنْ كانَ مسلمٌ استشهد فهو فداءٌ لك ولعقيدةِ جدِّك الرسول (صلى الله عليه وآله)، أطال اللهُ لنا بعمرك. نهضت وقصدت خيمتَها، وصيحتُها ترنُّ بأسماعِ عمتِها: وا أبتاه.. وامسلماه.. سالتْ دموعُ الإمام (عليه السلام)، لكلام الصغيرة وإيمانها بالله (سبحانه). أصبحتِ الصغيرةُ في حالٍ ليسَ أفضلَ من حالِ الثُكالى، صوتٌ يرتجفُ من الألم، وقلبٌ فتته الغياب، وعظامُ كُلِّ الأعوادِ تحملُ وريقاتِ وردةٍ ذبلتْ قبلَ أوانِها؛ بسبب حقدِ آلِ أميّة على آلِ طالب، الذين ألقوا بأحلامها البريئة من فوقِ قصرِ الإمارة.
اخرىبقلم: نورا كاصد العبودي غاصتِ الأرضُ حتى اشتدَّت، وطوتِ الرمالَ بعضَها ببعض، ورمحتْ عينُ الشمسِ شاخصةً في مُنتصَفِ قلبِ السماءِ تكظمُ حزنًا... بينما يرتفعُ صهيلُ الخيلِ، وعويلُ النساءِ، والأطفالُ يطلبونَ الماءَ تجرّدتْ صحراءُ ذلك اليومِ من الرحمة! وتلوّنتْ بألوانِ الغضبِ فصارت حمراء.. عانَقَ فيها الحرُّ والظمأ بعضَهما، وأعلنا اتفاقًا حولَ عدّةِ أشياء، وغدتْ أمواجُ الفراتِ تقدحُ وتنثرُ لؤلؤًا، وتجري بسرعةِ نزفِ الدماء، دماء أنصارِ الحُسينِ (عليه السلام)، وزهقتْ أرواحُ الرُضَّعِ مثلما تزهقُ أرواحُ النُجباء.. اشتدَّ القتالُ، والظمأُ يأخذُ منّا مأخذًا، لكنَّ سيفَ الخجلِ ممن يجلبُ لنا الماءَ أمضى عليَّ من رماحِ الظمأ... سأقصدُ عمّي وأطلبُ منه أنْ يجلبَ لنا الماء، فهو لن يرفضَ طلبًا لعزيزتِه سكينة.. قصدتُ الضيغمَ وقد رسمَ في طريقِه أفقًا بعدَ نزفِ دماءِ الأعداءِ يُشبِهُ النهرَ الغائرَ بالذنوب... وجدتُ القمرَ يستعدُّ للخروجِ بعدما أنهى دعاءه، عجيبٌ سِرُّه مع اللهِ (سبحانه وتعالى)، فهو يطلبُ شيئًا ويلحُّ بطلبه، ما علِمتُه فيما بعد أنّه يُريدُ أنْ يُقطَّعَ جسدَه وتخرجَ روحُه المباركة بين يديّ أخيه الحُسينُ (عليه السلام)؛ فداءً لحفظِ العقيدةِ ونهجِ الرسول (صلى الله عليه وآله)... ألقيتُ السلامَ عليه، وكان لقاؤنا هذا مُختلفًا يلحفه الحزن، وتتلاطمُ فيه أمواج الوداع.. ثار الفارسُ ووصل العلقمي المليء بالغموضِ والأسرار، وكفَّه عن التدفق.. وقف النهرُ متعجبًا وكأنّه ارتطمَ بجبلٍ ليس لقمّتِه قرار... اغترفَ الإمامُ منه غرفةً ولا شيءَ في ذهنه سوى طلب سكينةَ (عليها السلام)، لامست يداه الكريمتان جُزيئاتِ الماءِ الباردة العذبة التي تدفعُ بالمرءِ إلى اعتناقها، لكنّ نفسَه أبتْ وشفاهه الذابلة أقسمتْ إلّا ترتوي قبلَ الحُسينِ وآله (عليهم السلام).. ورمى الماءَ من يديه.. ملأ قربته ونهض، لكنّ الأعداءَ تربّصوا به وغدروه، حتى قطعوا يمينَه وأعقبوها بقطعِ شمالِه، وأصابوا عينيه بسهمِ هزيمتِهم، بل أصابوا خيمةَ عمّتي وأطاحوا بأحدِ أعمدتِها! سقطت قربةُ العباسِ (عليه السلام)، فتفرقت كُلُّ جزيئاتِ الماء منها، وعادت مُهرولةً إلى النهرِ تشكو الظليمة.. قال الفراتُ: ليتني أضيقُ بنفسي وأتلاشى.. تحطّم قلبي وقلبُ الأطفالِ وقلبُ الفراتِ معًا.
اخرىبقلم: نورا كاصد العبودي يتسابقُ العالمُ لبذلِ الغالي والنفيس في سبيلِ إعلاءِ كلمةِ الحق، لكن لا يعلمون أنَّ هذا الحق ثمنُه غالٍ جدًا، والقائدُ الحقيقي هو من يُضحي بنفسه وإخوته وبنيه، وأما الكلام وحده فقط فلا يُظهر حقًا، ولا يبني صرحًا، ولا يُعلي اسمًا، ولا يُثبِتُ وتدًا للإسلام في أرضه. بين الرماحِ العالية، والرمال الحارقة، والسيوف، والسهام ذات الشُعَبِ المثلثة، وحرقِ الخيام، وسبي العيال، وعطشِ الأطفال، وهناك قضية لا تختلفُ عن قضايا الطفِّ بل منها وإليها، تُثير انتباهي دائمًا... وردةٌ ذبُلَتْ قبلَ أوانِها، بسببِ حقدِ آلِ أُميّة على آلِ طالب، تلك الطفلةُ اليتيمةُ التي استُشهِدَ والدُها عطشانًا مرميًا به من سطحِ الإمارةِ، وحيدًا غريبًا. فثار وجْدُ الحُسين (عليه السلام) واستعرتِ النارُ في قلبه، فابنُ عمِّهِ قضى نحبَه مغدورًا، وربما كان ألمُ الحسين (عليه السلام) عندما وصله خبرُ مقتلِ مسلمٍ بن عقيل أضعافَ ألمِه يومَ الطف؛ لتصوّرِه لمنظرِ ابنِ عمِّه ومقتلِه والعذاب الذي عاناه. كان لذلك الشهيدِ طفلةٌ كانت تجلسُ دومًا عندَ بابِ المخيم، لا تُشاركُ الأطفالَ الحديثَ أو اللعب، كان عمُّها الحسينُ (عليه السلام) يراها تجلسُ دائمًا وحيدةً، وكأنّها غريبة، فكان يُدنيها إليه دائمًا، ويُناديها كُلّما اشتاقتْ روحُه لمعرفةِ خبرٍ عن ابنِ عمه.. وفي يومٍ من أيامِ الطفِّ اقتربَ من تلكَ الطفلةِ حياها وحضنَها بحنان، كما يحضنُ غصنُ الوردِ أوراقَه، يحنُّ ويئنُّ لحالةِ اليأسِ من عودةِ أبيها، سألها: بُنيّة، إلى متى جلوسكِ عند بابِ المُخيم؟ شاركي الأطفالَ في اللعبِ والحديث. أجابت: يا مولاي، أنا أنتظرُ أبي؛ فعندما أرسلتَه يا سيّدي لأهل الكوفة أخبرني وهو يودعني بأنّه سيعود. فعند عودتِه من سفرِه سيراني بانتظاره، وسأروي له حالي بعده، وما فعله آلُ أمية بحُرَمِ رسول الله (صلى الله عليه و آله )، فهم شهروا سيوفَهم بوجوهِ آل بيت الرسول (عليهم السلام). سيّدي ألم يأتِك خبرٌ عن والدي؟ أجاب (عليه السلام): بُنيتي، عندما يصلُني خبرٌ عن أخي سأُخبِرُكِ بالحال.. لم يستطعِ الإمامُ (عليه السلام) إخبارَها أنَّ والدَها قضى شهيدًا، وتوجه إلى خيمةِ أختِه سيّدةِ المخدرات زينب (عليها السلام) وأخبرَها بنبأ استشهادِ ابن عمِّها، بكت (عليها السلام) لمُصيبتها به، فعلِمت نساءُ الحسين (عليه السلام) بالخبر.. ونادى الحسين (عليه السلام) حميدةَ يتيمةَ مسلم بن عقيل، وقفتْ أمامَه فما كانَ من العمِّ العطوف والإمام الرؤوف، إلا أنْ يمسحَ على رأسِها، فعلِمتِ السيدةُ الصغيرة بأنَّ والدَها قد اِستُشهِدَ وحيدًا، غريبًا، مغدورًا، رفعتِ الطفلةُ رأسَها وقالت: إنْ كان أبي قُتِلَ فهو ونحنُ فداك يا مولاي. وأطلقت صيحتها: وا أبتاه وا مسلماه. نستلهمُ معاني التضحية الفذة والقيادة الناجحة من سيّدةِ الطفِّ الصغيرة، تكتمُ آلامها وتداوي جراحها، وتشهق صرخاتها المدوية المنادية باليتم، وتستجمعُ قواها وتُفدي عمَّها بأبيها. هذه الطفلةُ عاشتِ الطف، بما حَدَثَ قبله وما بعده، وأظهرتْ قدرتَها الفائقة على الصبرِ مادام فيه انتصارٌ للدين وموالاةٌ لإمامِ زمانها، على أنَّ الفرقَ كبيرٌ جدًا، بين يتيمٍ منتصرٍ ويتيمٍ منكسر؛ فأيتامُ الطُغاة والفاسقين مصيرُهم للاندثار والزوال، أما أطفالُ معسكرِ الحقِّ الحسيني، فكانوا مصدرَ إشعاعٍ وإلهامٍ، وكانوا قدوةً للطفولة الشامخة.. فحميدةُ عنوانٌ للتضحيةِ ومدرسةٌ للوفاءِ والإباء؛ كيف لا، وهي غصنٌ نديٌ من بيتٍ زُقَّ العلمَ زقًا، وارتوتِ الصبر، وتعلّمته من عمتِها وجدتِها سيدةِ النساء فاطمة الزهراء (عليهما السلام).
اخرى