Profile Image

يا مهدي ادركني

لآلئ من نهج البلاغة/ الحكمة الثالثة/ الجزء الثالث

بقلم: يا مهدي ادركني آثار الجبن: إن للجبن آثاراً قد تتوارث، ومنها: ذل النفس والمهانة: فإن العرب كانوا يتفاخرون ببطولاتهم وصولاتهم ويستصغرون من كانوا يعيشون في الظل خوفًا من أن يتعرضوا لمواقف يجبرون من خلالها على مواجهة الصعاب، فيقبلون بالمهانة، وهذه المهانة هي صفة قد تكون ملاصقة لأولاده وعائلته وذويه. التكاسل: إن من اعتاد على الجبن وعدم الخوض في خضم الأمور تجده يتحول شيئًا فشيئًا إلى إنسان اتكالي متكاسل، وهذا يعني أنه قد يرضى بالعيش بأي مستوى اجتماعي واقتصادي، ومن المؤكد أن لهذا آثاراً وخيمة عليه وعلى عائلته. الرضوخ للظلم والظالم: فمما لا شك فيه أن من يكون من خصاله الجبن فهو لا يستطيع أن يواجه الظالم مهما كان نوع الظلم الذي يعاني منه، فقد يكون ظلم زميل له في العمل او الدراسة أو حتى يكون ظلم الأطفال بعضهم بعضًا، وهذا أيضًا يكون نوعاً من إعانة الظالم على الظلم لأنه سيوفر ويهيأ له أهم سبب من أسباب استمراره بالظلم، وهو الرضوخ وعدم المطالبة بالحقوق. التراجع والتقهقر: إن الله تعالى خلق الإنسان من أجل التكامل، ولهذا الهدف تسعى البشرية، ولكن هذا يحتاج الى عمل وسعي ومواجهة بعض التحديات والمخاطر في بعض الأحيان وعدم اليأس عند الفشل في الخطوات الأولى، بل يجب أن يتحلى الإنسان السائر الى الكمال بالإصرار على تحقيق الهدف ضمن الحدود المشروعة، فإن كان الشخص جبانًا فمن المؤكد أنه يخاف الوقوع في كل هذه التحديات فتجده يكتفي بما لديه بل قد يتراجع الى الوراء. القلق: وهو من الأمراض النفسية والآهات الفتاكة التي قد تحول الحياة الجميلة الى ليل مظلم، فإن من الطبيعي تكون هذه الآفة من الآثار الجانبية للجبن فإنه يكون في حالة صراع نفسي دائمًا نتيجة خوفه من حدوث أمر ما، هو لا يقوى على مواجهته، فتجده يفقد القدرة على النوم نتيجة القلق، وهذا مما يؤدي إلى سلسة من الآثار السلبية الكثيرة التي تكون هي تلك السفينة البالية التي ستوصله الى منتصف البحر الهائج ليبتلعه في وسط أوهامه التي لا يقوى حتى على إبعادها عن مخيلته. علاج الجبن إن كل مرض يريد الإنسان الشفاء منه لا بد له من أن يتبع خطوتين أساسيتين: الأولى: البحث عن الطبيب المناسب و الأفضل لذلك المرض. الثانية: أن يتم تشخيص المرض من خلال أعراضه. قد تكون الخطوة الأولى أسهل من الخطوة الثانية، حيث أن الخطوة الثانية هي خطوة مشتركة في الحقيقة بين المريض والطبيب، او لنقل أن للخطوة الثانية مرحلتين، مرحلة تشخيص الفرد لحالته وعلى ضوئها سيختار الطبيب المناسب ليعطيه العلاج الصحيح من خلال تشخيصه وهي المرحلة الثانية. وعليه فإن الإنسان قد يكون مصابًا بهذا المرض لكنه لا يعلم بذلك ويتوقع عكس هذا وهو من الجهل المركب، وبعبارة أخرى يحسب الجبان نفسه شجاعًا ويكابر وهذا من الصعب جدًا إقناعه. أما من استطاع أن يميز حاله فهو على بينة من أمره ويستطيع أن يشخص حاله وليس عليه إلا أن يحرك نفسه إن كانت له الرغبة في علاجها ليطبق بعض ما جاء به العلماء والحكماء، وحيث إن الطرق قد تختلف من شخص لآخر لاختلاف الأعمار والحالات الاجتماعية، ولكن من باب الاختصار لا الحصر، سنذكر طريقتين وهما: الأولى: وهي مستوحاة من قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (صلوات الله وسلامه عليه) "إذا هبت أمرًا فقع فيه فإن شدة توقيه أعظم مما تخاف منه" (1)، وهنا إشارة لطيفة منه (سلام الله عليه) حيث إن من أحد الأعراض الجانبية للجبن هو القلق، فبهذه الخطوة علاج لكل من القلق والجبن معًا، فإن طول الانتظار وعدم الإقدام على الأمر لن يغير شيئًا من الواقع، فالأمر سيقع لا محالة، فليس هناك ثمرة من التأخير سوى القلق والاضطراب، وهذا لا يعني الإقدام على الأمر من دون تريث وتفكر، وإنما هو أمر بين أمرين. الثانية: وهي طريقة تحريك الغضب النفسي ذلك الغضب الذي اعتاد على الركود في قاع تلك النفس مولدًا الجبن، فكل إنسان خلقه الله تعالى أودع فيه قوى عديدة، ومن هذه القوى هي قوة الغضب، ولكن يجب أن لا ينسى بأن تلك القوة يجب أن لا تخرج عن زمام العقل وسيطرته فيحركها بما فيه رضا لله تعالى، فإذا تحركت تلك القوة وهيجت بطريقة متواترة ستتراجع صفة الجبن وتقل شيئًا فشيئًا حتى تضمحل وتتحول الى صفة الشجاعة لتكون ملكة راسخة في النفس. المفردة الثانية معنى "منقصة" في اللغة: وهي مشتقة من المصدر (نقص) وهي مقابل الزيادة، وقالوا نقص الشيء أي قل، ويقال: أنقص الشعر بمعنى قصره، فهي كل شيء دل على النقصان. وهنا إشارة الى أن تلك النفس البشرية التي كرمها الله تعالى وأنعم عليها بالوجود كانت من أهم غاية لخلقها هي تحقيق السعادة التي تتم بارتقاء سلم التكامل للوصول اليها، لذا نجد أئمة أهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم) الذين يمثلون أعلى درجات التكامل الإنساني الذين وضعهم الله تعالى لنا قدوة لنسير على خطاهم وجعل طاعتهم واجبة وقرنها بطاعة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) فقد قال عز من قائل { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ} [سورة النساء: آية 59]، لذا كان على الأئمة (صلوات الله وسلامه عليهم) أن يأخذوا بيد الأمة ويبينوا لهم الأمور التي يجب العمل بها او الاجتناب عنها للوصول الى التكامل الإنساني، وكان الجبن من الأمور التي تؤدي الى النقص في النفس البشرية فهو كحجر صلد يضرب تلك الجوهرة ليحدث فيها ثلمًا ويشوه جمالها. __________ 1- نهج البلاغة/ قصار الحكم/ 175.

اخرى
منذ 4 سنوات
729

فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) العقد الفريد

بقلم: يا مهدي ادركني تزينتْ الدنيا بعقدِ لؤلؤٍ له ثمان عشرة حبةٍ، ولكل حبةٍ رونقها الخاص الذي يسحر الألباب ويأخذ القلوب وتذوب فيه الأرواح الموالية عشقًا. حبات لؤلؤٍ تموجتْ ألوانها واخترقت حجب السماء، وقطعت فيافي الأرض وبحارها لتحمل معها قصصًا ومواعظ ومواقف فيها دروس وعِبر، فتكثّرت حباتها بكوثرٍ وهبه الإله لها تكرمًا منه ورحمةً بعباده، وهذا غيض من فيض إلهٍ تعددت فيه الأوصاف وتكاملت. فمن أراد أن يحظى بحبةٍ من تلك الآلئ فليعلن ولاءه أولًا، ومن ثم ليجتهد بهمةٍ ونشاطٍ وليكشف عن ساقه في بحرٍ من حبر التاريخ، ويقلب أمواج الأوراق وليتوقف على بعض السطور ويرمي بشباكه ليتزود منها بكنوزٍ تنفعه في يوم المحشرِ، تكون له نجاةً من مساءلة الملكين، فبذلك البريق يقف متزينًا متحصنًا بعلم بنت سيد المرسلين زوجة أمير المؤمنين أم السبطين، تلك الحوراء البتول فاطمة (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين). وها قد وقف مركبي عند هذه الرواية: حضرت امرأة عند فاطمة الصديقة عليها السّلام فقالت: إنّ لي والدة ضعيفة، وقد لبس عليها في أمر صلاتها شيء، وقد بعثتني إليك أسألك؟ فأجابتها عن ذلك، فثنّت فأجابت، ثمّ ثلَّثت فأجابت إلى أن عشّرت فأجابت، ثمّ خجلت من الكثرة وقالت: لا أشقّ عليك يا بنت رسول الله، قالت فاطمة عليها السّلام: هاتي سلي عمّا بدا لك، أرأيت من اكترى يوما يصعد إلى سطح بحمل ثقيل وكراه مائة ألف دينار أيثقل عليه ذلك؟ فقالت: لا، فقالت: أكريت أنا لكلّ مسألة بأكثر من ملء ما بين الثرى إلى العرش لؤلؤا فأحرى ألّا يثقل عليّ، سمعت أبي (صلَّى اللَّه عليه وآله) يقول: "إنّ علماء شيعتنا يحشرون فيخلع عليهم من خلع الكرامات على قدر كثرة علومهم وجدّهم في إرشاد عباد اللَّه حتّى يخلع على الواحد منهم ألف ألف حلَّة من نور، ثمّ ينادي مناد في السماء من ربّنا عزّ وجلّ: أيّها الكافلون لأيتام آل محمّد الناعشون لهم عند انقطاعهم عن آبائهم الَّذين هم أئمّتهم هؤلاء تلامذتكم والأيتام الَّذين كفلتموهم ونعشتموهم فاخلعوا عليهم خلع العلوم في الدّنيا فيخلعون على كلّ واحد من أولئك الأيتام على قدر علمه ما أخذوا عنهم من العلوم حتّى أنّ فيهم - يعني في الأيتام - لمن يخلع عليه مائة ألف حلَّة وكذلك يخلع هؤلاء الأيتام على من تعلَّم منهم، ثمّ إنّ اللَّه تعالى يقول: أعيدوا على هؤلاء العلماء الكافلين للأيتام حتّى تتمّوا لهم خلعهم، وتضعّفوها، فيتمّ لهم ما كان لهم قبل أن يخلعوا عليهم ويضاعف لهم، وكذلك من بمرتبتهم ممّن خلع عليهم على مرتبتهم". وقالت فاطمة (سلام الله عليها): "يا أمة اللَّه إنّ سلكا من تلك الخلع لأفضل مما طلعت عليه الشمس ألف ألف مرّة وما فضل ما طلعت عليه الشمس فإنّه مشوب بالتنغيص والكدر" (١). ومن هذه الرواية امتلأت سلالنا لؤلؤاً فلنفرده ونقلبه وننتقي منه القليل، فالمقام لا يسع لكل تلك الحبات، فلكل حبة موعظة: الحبة الأولى: حبة الصبر: نرى من الواضح والجلي جدًا كيف كان جواب السيدة الزهراء (صلوات الله وسلامه عليها) مكللًا بالصبر والتحمّل، هي لم تمتعض من كثرة تكرار سؤال المرأة، وإنما كانت تتحلى بأسرار التحمل، لأنها كانت تعلم جيدًا أن الناس ليسوا سواسية، فلكلٍ قابليته في الاستيعاب ولكل قلبٍ وعاء ولكل عقل ميزان، لذا كانت (صلوات الله وسلامه عليها) هادئة مسترسلة لم تمل أو تكل من تكرار الإجابة وتنوع سبل الطرح... كم نفتقر لهذا الأسلوب مع أولادنا وأكبادنا بل وحتى مع من بلغوا من الكبر عتيا، هذا فضلًا عن أترابنا. الحبة الثانية: حبة التواضع: ما أجملها من حبة تُزين رداء الإيمان وتجمله، وما أجمل رداء الزهراء (صلوات الله وسلامه عليها) المطرز بهذه الحبات: حبات التواضع، فعندما توقفت تلك المرأة وامتنعت عن تكرار السؤال خشية منها من أن تثقل على مولاتها، نجد رد البتول الطاهرة (سلام الله عليها) كحبات مطر ناعمة ترطب قلب تلك المرأة لتقلب الصورة وتعكسها، فتكون تلك المرأة السائلة هي صاحبة الفضل وبسببها ستحصل على أجرٍ عظيم من ربٍ كريم. الحبة الثالثة: حبة طلب العلم: من أبرز ملامح هذه الرواية هي مسألة طلب العلم وكيف كانت السيدة الزهراء (صلوات الله وسلامه عليها) تخصص وقتًا تبذل به العلم لطالبيه، وهي رسالة أرسلتها مولاتنا (سلام الله عليها) إلى النساء كافة، فإن كانت متعلمة فعليها أن تعطي من علمها وتجعل من بيتها روضة تحل فيها الملائكة وترفرف عليهم بالرحمة، وإن كانت غير متعلمة فعليها أن تطلب العلم وتسأل لتكمل عبادتها وتصححها وتبني جيلًا ذا عقيدة رصينة، فالمرأة كل المجتمع لا نصفه. ونلاحظ كيف أنها (صلوات الله وسلامه عليها) حثّت على هذه المسألة وأشارت إلى ثواب من ينشر العلم ويأخذ بيد أخيه المسلم من ظلمات الجهل إلى نور العلم من جهة، ومن جهة أخرى كيف أن الساقي لعلم آل محمد (صلوات الله وسلامه عليهم) هو ككافل اليتيم. الحبة الرابعة: حبة التصدق: إن مفهوم الصدقة مفهوم واسع له مصاديق عديدة، ولا ينحصر في إنفاق المال فقط، وإنما كل شيءٍ له صدقته الخاصة به، فكما للمال زكاة، فللعلم زكاة أيضًا، وزكاته تعليمه لمن يطلبه، وكما إن صدقة الأموال يجب أن لا تُتبع بالمَن، كذلك الحال في زكاة العلم، لذا نرى كيف أن السيدة (سلام الله عليها) اتشحت برداء التواضع الذي زادها رفعةً وعلوا. الحبة الخامسة: حبة الولاية: وهي الحبة الأخيرة التي انتقيتُها من بين تلك الحبات العديدة، واستللتها من بين سطور الرواية؛ لأختم بها عقد هذه المقالة، ولم أجد أجمل من هذه الحبة... (حبة الولاية) المتمثلة بتلك الكلمة التي ترقّ لها القلوب وتخفق خلف الصدور، ألا وهي (أيتام آل محمد صلوات الله وسلامه عليهم).... ما أجمله من وسام يزين الصدور، وله تطأطئ الهامات، وترتفع المقامات، ولكن بشرط أن يكون هذا اليتيم حاملًا لمفتاح الولاية، فإن لم يكن مواليًا محبًا فكيف له أن يتفطّر قلبه عطشًا لعلمهم؟ وكيف له أن يبحث عن قطراتٍ تبل صداه من نميرهم؟ فإن كان كذلك فبمفتاح الولاية ستفتح له أبواب رحمة التوفيق الإلهي، وسيسلك طريق النجاة على ضوء الولاية، ويتبع خطوات أعلام هذا الطريق الذين سلكوه قبله ليكفلوه بعلمهم ويكون هو كذلك لمن تبعه. وما هذا كله إلا سلك رقيق من نور مولاتنا الزهراء (صلوات الله وسلامه عليها). __________ (1) منية المريد للشيح زين الدين العاملي (الشهيد الثاني)، ص15.

المناسبات الدينية
منذ 4 سنوات
1382

سلسلة فيءٌ من أروقة القرآن الكريم الآية الأولى (منزلة الروح)

بقلم: يا مهدي أدركني. قال تعالى: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) [سورة الحجر: آية 29] قد يشتبه البعض عند المرور على هذه الآية الكريمة ويظن بأن لله تعالى روحاً، ومن هذه الروح التي هي جزء من الذات المقدسة نفخ تعالى في جسد أبينا آدم (صلوات الله وسلامه عليه) وبث فيه الحياة، وغالبًا ما تقع هذه الإشكالات نتيجة الفهم الظاهر للآية الكريمة، مع الغفلة عن أن للقرآن الكريم ظاهراً وباطناً. ونلفت النظر أولاً إلى امرين: الأول: إن من أهم صفات واجب الوجود (الله جل وعلا) كونه بسيطًا غير مركب على خلاف جميع مخلوقاته التي تتصف بالتركيب، لأن التركيب يلازم الاحتياج وكونه تعالى غنياً بالغنى المطلق، فلا يمكن أن يكون مركبًا. الثاني: إن الله تعالى إذا أراد أن يكرّم شيئاً ويعظّمه فإنه ينسبه إلى نفسه، ومن هذه القبيل نجد تطبيقات كثيرة منها: بيت الله تعالى، بقية الله تعالى، روح الله تعالى، وما إلى ذلك من ألفاظ مشابهة. إذا تبين هذا نقول: إن الله تعالى أراد أن يكرم الإنسان، ذلك الموجود المادي ببدنه، فأفاض عليه موجودًا آخر له نوع من الاتحاد بالبدن، ولكن له استقلاله الخاص به، وهو موجود مجرد، لكنه أشرف من الموجود الأول، فهو لا يتفسخ بالموت كما يتفسخ البدن ويجيف، وفي حقيقة الأمر أن الموت هو عبارة عن انسلاخ ذلك الموجود المجرد (الروح) عن البدن، وبمجرد انفصالها عنها يؤدي إلى تفسخ البدن وتحوله إلى تراب. وهذا يعني: أن البدن نال شرفيته من تلك الروح التي لشرفها وعظمتها نسبها الله تعالى إلى نفسه، ولا يعرف أحد سرها أو حقيقتها (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [سورة الإسراء: آية 85]. ومنه يتبين: أن الروح التي نفخها الله تعالى في الإنسان ليست جزءاً منه جل وعلا، وإنما هي مخلوق من مخلوقاته، لكنه تعالى نسبها لنفسه ليُكسبها شرفاً ومقاماً لم يكن البدن قد حصل عليه، والفارق أن الروح مجردة، والبدن مادي، والمجرد أشرف من المادي.

اخرى
منذ 4 سنوات
623

سلسلة فيءٌ من أروقة القرآن الكريم (3) الآية الثالثة (عطر المجالس)

بقلم: يا مهدي ادركني قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [سورة الأحزاب: آية56]. عند سماع أو قراءة كلمة (الصلاة) سرعان ما يتبادر إلى الذهن فريضة الصلاة اليومية بركوعها وسجودها وبقية أركانها وأجزائها، لذا قد يتساءل البعض عند قراءة هذه الآية المباركة وأنه كيف يصلي الله تعالى على النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) وهو الرب الآمر بالصلاة الغني عن العبادة، المعبود الذي تفتقر إليه العباد؟ للإجابة عن هذا التساؤل يجب أولًا أن نتعرض لمعنى الصلاة اللغوي وإلى أي نوع من الألفاظ تنسب: أولًا: معنى الصلاة في اللغة هو الدعاء، والدعاء يصح إذا كان من الداني إلى العالي، كما في حال الدعاء الصادر من العبد إلى الرب. ثانيًا: إن لفظ الصلاة يندرج تحت قسم اللفظ المنقول، ومعنى هذا: أن هناك ألفاظًا في اللغة وضعت لمعنى معين ولكن بعد فترة تم استعمالها في معنى آخر لوجود مناسبة بين المعنيين وهُجر الاستعمال الأول، فقد كان المعنى الأول للصلاة هو الدعاء ولكن تم استعمالها في الفرائض اليومية لوجود مناسبة بين المعنيين، أي أمر مشترك بين المعنى الوضعي الأول وبين المعنى الاستعمالي الثاني وهو اشتمال هذه الفريضة على الدعاء. بعد أن تبين معنى الصلاة في اللغة نقول: الصلاة بمفهومها العام هي الدعاء بالرحمة، وهذا هو المعنى الكلي للصلاة، وفي اللغة يمكن إطلاق اللفظ على المعنى الكلي ويكون المراد منه الجزء لا الكل، فيراد من الصلاة الرحمة فقط لا الدعاء لأن الدعاء وكما تبين هو طلب من الداني إلى العالي، وحيث أن الله تعالى هو العلي الأعلى فلا يجوز توظيف المعنى الكلي فيه (جل وعلا). فبإسناد الصلاة إلى الله تعالى في هذه الآية الكريمة يراد منها الرحمة فإنّه (جل وعلا) وسعت رحمته كل شيء ومن أولويات ما تختص به رحمته تبارك وتعالى هو من خُلق الكون لأجله أشرف وأعظم مخلوقاته نبينا الأعظم (صلوات الله وسلامه عليه). قال صاحب الميزان فيما يخص هذه الآية الكريمة: (إن أصل الصلاة الانعطاف فصلاته تعالى انعطاف عليه بالرحمة انعطافًا مطلقًا لم يقيد في الآية بشيء دون شيء وكذلك صلاة الملائكة عليه انعطاف بالتزكية والاستغفار وهي من المؤمنين الدعاء بالرحمة)* ___________________ *الميزان في تفسير القران للعلامة الطباطبائي: ج16:ص 344.

اخرى
منذ 4 سنوات
479

سلسلة فيءٌ من أروقة القرآن الكريم/ الآية الثانية (أحسن الخالقين)

بقلم: يا مهدي أدركني قال تعالى: ( فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) [المؤمنون: آية 14] اتفقت كلمة الموحدين على التوحيد في الخالقية، فلا يوجد خالق في الكون إلّا الله تعالى، وقد أثبتوا ذلك بالأدلة العقلية (يبحث ذلك في علم الكلام)، فضلًا عن الأدلة النقلية التي جاءت لتمضي ما أثبته العقل وتُرشد إليه، فقد قال عز من قائل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ) [سورة فاطر: آية3]. وقد يتوهم البعض عدم انحصار الخالقية بالله تعالى لمكان صيغة التفضيل المستخدمة في الآية الكريمة، وهذه الصيغة إنما تستعمل عند وجود طرفين مشتركين بصفة أو فعل ما، ولكن يوجد ترجيح بالأفضلية لأحد الطرفين، والترجيح هنا لله تعالى أحسن الخالقين. فهل هناك خالق في الكون غير الله تعالى؟ في الجواب نقول: أولًا: إن الخالقية تنقسم إلى قسمين: أ- مستقلة (وهي منحصرة بالذات المقدسة). ب- غير مستقلة وإنما قائمة بالتسبيب أو التفويض من الله تعالى، وهي من أفعال الممكنات. ثانيًا: إنّ النظام الذي جعل الله تعالى العالم قائمًا عليه هو نظام الأسباب والمسببات أو نظام العلة والمعلول. ثالثًا: إن صفات الله تعالى بلحاظ إمكانية إطلاقها على غير الله تعالى تنقسم إلى قسمين: الأول وهو ما لا يمكن إطلاقه على غير الله تعالى كصفة واجب الوجود فهي من الصفات التي لا يصح إطلاقها على غير الله تعالى، وتسمى بالأسماء المستأثرة. والثاني وهو من الصفات التي يمكن أن تطلق على غير الله تعالى كصفة الحياة والقدرة والحكمة والخالقية. رابعًا: إن الصفات التي يمكن إطلاقها على غير الله تعالى هي ذات مفهوم مشكك أو لنقل هي من المشترك اللفظي، وهذا يعني إن صفة الحياة بالنسبة إلى الله تعالى هي في مرتبتها الكمالية غير المتناهية، أما بالنسبة للمكنات فلها درجات كمالية مختلفة حسب مرتبتها الوجودية فهي في النبات أقل كمالًا مما هي في الحيوان والثانية أقل كمالًا مما هي عليه في الإنسان وبمجموعها هي متناهية ومحدودة. ونتيجة لما تقدم نخلص إلى: أن صفة الخالق هي من المفاهيم المشككة التي يمكن إطلاقها على الممكنات بمراتبها المتناهية، وهي قد تكون صادرة من الممكن لا على نحو الاستقلال وإنما على نحو التسبب أو التفويض من الله تعالى فهي لا تخرج عن دائرة القدرة لله تعالى. ويبقى الخالق المستقل حصراً هو الله تبارك وتعالى.

اخرى
منذ 4 سنوات
577

سلسلة فيءٌ من أروقة القرآن الكريم (4) (ميل القلوب)

بقلم: يا مهدي ادركني قول تعالى: (وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ) [سورة النساء: 129] إن الله سبحانه وتعالى خالق الإنسان وهو عالم بأحواله وقدراته، وقد أودع فيه قوتين (الغريزة والعقل) ووضع له القوانين والتشريعات تحننًا ولطفًا منه (جل وعلا) لئلا تجذبه الغريزة إلى وادي المعاصي لتلسعه ألسن الشهوة. ومن تلك القوانين قانون تعدد الزوجات الذي جرت عليه سنن الأقوام السابقة على مر العصور، غاية ما في الأمر أن الإسلام قنّن هذه الظاهرة ووضع لها شروطًا وحدودًا حفاظًا على حقوق المرأة وتكريمًا لها. ويترتب على تعدد الزوجات وجوب العدالة، أي على الرجل أن يعدل بين زوجاته فإن لم يستطع أن يحقق هذا الشرط فعليه الاكتفاء بواحدة فقط، حتى لا يقع في الحرام. وقد يتوهم البعض بأن هذه العدالة من المستحيل تحققها لأن الله تعالى قد بين في الآية أعلاه استحالة تحققها ولو حرص الرجل على ذلك. فهل من الممكن أن يُكلف الله تعالى عباده بغير المقدور؟ للجواب على هذا التساؤل لا بد من المرور على بعض النقاط النافعة: أولًا: إن الله (جل وعلا) متصف بجميع الصفات الكمالية وبأعلى مراتبها، ومن هذه الصفات صفة الحكمة، والحكيم لا يمكن أن يضع القوانين عبثًا. ثانيًا: إن الله تعالى لا يكلف عباده بغير المقدور أو ما هو خارج عن حدود قدرة العبد لأنه سيكون ظلمًا والله تعالى عادل منزه عن جميع أنواع الظلم. ثالثًا: إن إمكانية تحقق هذه العدالة واقعة فعلًا فهي ليست منحصرة في حيز الإمكان وإنما لها وجود واقعي وهذا يمكن التحقق منه بمجرد الرجوع إلى سيرة النبي الأعظم والأئمة (صلوات الله وسلامه عليهم). رابعًا: إن حكم القسط والعدل الذي وضعه الله تعالى على الرجل بين النساء هو بخصوص إيتائهم حقوقهن الواجبة عليه من إنفاق وإظهار الاحترام والمعاملة بالحسنى. وأما العدالة المستصعب حصولها وتحققها في الآية الكريمة، فهي التي تتعلق بالأمور الوجدانية التي ليس للإنسان فيها سلطان، فهي أمور لا إرادية مثل ميل القلوب، فهو وإن استطاع أن يعدل بين نسائه ويساوي بينهن في الإنفاق والاحترام وتوفير جميع مستلزماتهن وقسمة الليالي بينهن، إلّا أنه لا يستطيع أن يتحكم بمشاعره وهوى قلبه، فهو قد يميل إلى إحداهن دون الأخرى. والخلاصة: إن الشرط الذي وضعه الله تعالى ليصح تعدد الزوجات هو العدل والقسط بين النساء في ما عليه من حقوق وواجبات ظاهرية تجاه الزوجة، فإن علم بعدم قدرته على أن يقسط بينهن أو حتى خاف من عدم تحقق ذلك فعليه الاكتفاء بواحدة، وأما المراد من الآية الكريمة في عدم إمكانية الرجل من أن يحقق العدالة وإن حرص فهو ما يخص الأمور الوجدانية مثل ميل القلوب والحب الداخلي، ولكونه أمرًا غير اختياري فمن لطف الله تعالى لم يكلف به الرجل بأن يعدل به بين النساء وإلّا كان تكليفًا بغير المقدور.

اخرى
منذ 4 سنوات
460

سلسلة فيءٌ من أروقة القرآن الكريم الآية الخامسة: ادعاء أم إلزام؟

بقلم: يا مهدي أدركني قال تعالى: (قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ) [ سورة الأنبياء: آية 63] حكى القرآن الكريم عن النبي إبراهيم (صلوات الله وسلامه عليه) قصة الأصنام التي حطمها (عليه السلام) بيده الشريفة وعلّق الفأس على كبيرهم... فقد قام النبي إبراهيم (عليه السلام) بتكسير الأصنام وترك كبيرهم، وعندما جاء أهل المدينة وأحضروا النبي (عليه السلام) قال: (قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ) وهنا تساؤل: هل من الممكن أن تكون المراوغة في الكلام من أخلاق الأنبياء (عليهم السلام) أو هل من المناسب أن يصدر منهم الكذب؟ هنا لا بد من أن نستضيء بشمعة العصمة ونجعل نورها دليلًا لنا في خطوات معرفة السبيل لهذه الآية المباركة. العصمة في اللغة هي الحفظ والوقاية، أما اصطلاحًا فهي عدم الوقوع في الخطأ عمدًا أو سهوًا فعلًا أو قولًا. والكذب هو من السلوكيات الخاطئة والأفعال القبيحة عقلًا ولا يختلف على ذلك اثنان، هذا أولًا. والنبي إبراهيم (صلوات الله وسلامه عليه) هو من أنبياء أولي العزم وهو خليل الله تعالى والعصمة ثابتة له وعلى مبنى الشيعة الإمامية فإن من يتصف بالعصمة يجب أن يكون معصومًا منذ يوم ولادته إلى آخر نفس في حياته وفي جميع أقواله وأفعاله (ويبحث ذلك في مبحث النبوة في علم الكلام). وعليه فإنّ العصمة أضاءت لنا نقطة مهمة ووضعت لنا علامة أساسية وهي عدم جواز حمل كلام النبي إبراهيم (عليه السلام) على الكذب في هذه الآية الكريمة. إذًا ما هو التفسير الصحيح لهذه الآية الكريمة وما هو المراد منها؟ الجواب: إنّ من أحد أساليب الحوار والمناظرة مع الطرف الآخر الذي يحمل أفكارًا مضادة هو إلزامه بما يدعيه بقصد إبطال مدعاه، وهو ما فعله النبي إبراهيم (عليه السلام). وهذا ما أشار إليه صاحب الميزان فقال: [ما أخبر (عليه السلام) به بقوله: (بل فعله كبيرهم هذا) دعوى بداعي إلزام الخصم وفرض وتقدير قصد به إبطال الوهيتها]*. بمعنى: أن النبي (عليه السلام) قال لهم: أنتم تعتقدون أن هذه الأصنام آلهة، إذن، أنا ادّعي أن الصنم الكبير هو من حطم الصغار، فاسألوا الأصنام لتجيبكم كما ادعيتم، وحيث إنهم لا يجيبونكم، فهذا معناه أن دعواكم ألوهيتهم لا معنى لها، فأبطل دعواهم بهذا الأسلوب. ____________________ *الميزان في تفسير القرآن للعلامة الطباطبائي/ ج14/ص302.

اخرى
منذ 4 سنوات
526

سلسلة فيءٌ من أروقة القرآن الكريم (6) الآية السادسة: حقيقة الكيد الإلهي

بقلم: يا مهدي أدركني قول تعالى: (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً. وَأَكِيدُ كَيْداً) [الطارق 15 – 16] أُمِرنا بقراءة القرآن الكريم والتدبر فيه، ولا يعني هذا أن أي إنسان هو قادرٌ على فهم معانيه بتمام معنى الكلمة من دون الرجوع إلى ذوي الاختصاص وإلى ينبوع العلم والمعرفة تراجمة القرآن الكريم أهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم) وبالتالي قد يقع من لا يرجع إلى مصدر التفسير الصحيح للقرآن الكريم في دوامة الشك والتساؤلات التي تبعده عن نور المعرفة نتيجة محاولته فهم القرآن من تلقاء نفسه. ومن هذه الأمور التي قد يقع فيها هو رمي ساحة الذات المقدسة بالصفات السلبية المذمومة التي تورث النقص تعالى الله عنها علوًا كبيرًا، ومنها صفة الكيد التي نعت الله تعالى نفسه بها في القرآن الكريم، فهل يمكن للعاقل أن ينكرها وقد نعت الله تعالى بها نفسه؟ وكيف يثبتها له وهي من صفات النقص؟ وللخروج من هذه الدوامة ولكي لا نقع في مصيدة الأفكار الخاطئة علينا أن نذكر المقدمات التالية لتوضيح الأمر: أولًا: إن القرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين، واللغة العربية غنية بمفرداتها ومعاني مفرداتها، فلا يمكن الحكم على كلمة من دون الرجوع إلى معناها اللغوي وأخذها من مصادرها النقية لعله نعرف المعنى منها المستعمل في زمن صدور القرآن الكريم أو الرواية الشريفة. هذا فضلًا عن كون اللغة العربية لها قوانينها الخاصة بها من بلاغة ومجاز والاعتماد على القرائن وما إلى ذلك. ثانيًا: إن الله سبحانه وتعالى متصف بكل الصفات الكمالية ومنزه عن جميع الصفات السلبية ولا يمكن نسبة أي صفة سلبية للذات المقدسة، أما إذا كانت مذكورة في القرآن الكريم فكن على يقين بأن لها معنى غير ما ربما يوهم النقص فيه جل جلاله. وعليه نقول: الكيد: في اللغة ضرب من الاحتيال، وقد يكون مذمومًا وقد يكون ممدوحًا، وإنْ كان يستعمل في المذموم أكثر، ويكون بعض ذلك محمودًا (مفردات الراغب الأصفهاني مادة كيد). فلهذه الكلمة استعمالان واستعمال أحد الوجوه أكثر من الآخر لا يعني اندثار المعنى الأول ووأده وعدم الالتفات إليه. وبعبارة أخرى: أن الكيد عمومًا هو التدبير والتخطيط، ولكن هذا التدبير إذا كان من الكفار والمنافقين فهو تدبير سيء والقصد منه إيذاء المؤمنين، أما إن كان من الله تعالى فهو تدبير حسن والغاية منه جزاء الكافرين ورد كيدهم وصدهم عن المؤمنين. إذًا هو كالمرآة يعكس حقيقة الوجوه فإن كان الشيء بأصل ذاته جميلًا فيكون الكيد هنا حسنًا جميلًا، وأما ما كان ذاته قبيحًا فيكون كيده مرآة لذاته. والخلاصة: أن المراد من الكيد في الآية الكريمة هو أن الله تعالى يجازي الكافرين الذي يكيدون بالمؤمنين ويريدون أن يطفئوا نور الله تعالى، ولكن الله تعالى أعلم بسرائرهم الخبيثة فيقي المؤمنين من شر أعمالهم بطرق لا يمكن لهم –أي الكافرين- أن يعلموها ويعذبهم عذابًا أليمًا.

اخرى
منذ 4 سنوات
618

سلسلة فيءٌ من أروقة القرآن الكريم/ الآية السابعة: (لطف الهداية)

بقلم: يا مهدي ادركني قال تعالى: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى) [سورة الضحى: آية7] إنّ هذه الآية جاءت ضمن سياق آيات تعرضت إلى ذكر حياة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) وعناية الله تعالى الفائقة به، وعند الوصول إلى هذه الآية الكريمة قد يرد تساؤل وهو: ما معنى الضلالة هنا؟ وهل من الممكن أن يكون النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) متصفًا بها؟ قبل الجواب على هذا التساؤل يجب أن نشير إلى نقطة مهمة وهي: إنّ النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) وكذا سائر الأئمة والأنبياء والرسل هم أنوار طاهرون مطهرون وهم في ظهور آبائهم، وقد أشارت إلى ذلك الآية الكريمة (وتقلبك في الساجدين) [الشعراء: 219]، وهذا يعني أنهم مطهرون من كل أنواع الشرك والضلال. ولتفسير هذه الآية عدة أوجه نذكر البعض منها لنزيح عنها الضبابية ونبصر حقيقة أراد البعض تشويهها: الوجه الأول: إنّ مادة (ضالًا) مأخوذة من الضلال وهو عدم الهداية، وقد جاء عن صاحب الميزان (المراد بكونه (صلى الله عليه وآله) ضالًا حاله في نفسه مع قطع النظر عن هدايته تعالى) (1) بيانه: إنّ النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) إنّما نال هذه الدرجة العظيمة نتيجة لعبوديته الخالصة لله تعالى، تلك العبودية المجردة من كل الشوائب التي قد تُعكر صفاء القلب وتضعف نوره، فهو كان بعبوديته تلك مصداقًا للافتقار إلى الله تعالى من كل الجهات لذا كان (صلوات الله وسلامه عليه) يردد دومًا (ربي لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدًا) ليرسم أجمل صور العبودية المحضة لله (جل وعلا). فإذا ما نظرنا إلى هذا الجانب من الافتقار إليه (جل وعلا) لوجدنا أنّ نور الهداية يتجلى في العبد برحمة منه (جل وعلا) ولولا ذلك لما اهتدى الخلق، ولكن هنا لا بد من أن نشير إلى أمر مهم وهو: إنّ هذا لا يعني أنه (صلوات الله وسلامه عليه) لم يكن موحدًا، وأنه كان وضالًا والعياذ بالله بالمعنى العرفي للضلال وإنما المراد منه أنّ تفاصيل الهداية والتشريعات لم تكن منكشفة له قبل أن ينزل عليه الوحي، وأما من ناحية توحيده لله تعالى فهو أمر ملازم له (صلوات الله وسلامه عليه) مُنذ أن كان نورًا تحت العرش. الوجه الثاني: من معاني الضلال هو عدم الوجدان، أي هو ما قد فُقد وضاع من المحسوسات أو المعقولات، فيقال: وجد ضالته، أي وجد ما قد فقد. وعليه يمكن القول بأن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) كان شيئاً عظيمًا ضالًا بين قومه لا يعرفون قيمته فهداهم الله تعالى إليه وهدى به (صلى الله عليه وآله) من أراد الهداية وسلوك طريق الحق والنجاة يوم الحساب. ___________________ 1- الميزان في تفسير القرآن للعلامة الطباطبائي/ ج20/ص354.

اخرى
منذ 4 سنوات
465

سلسلة فيءٌ من أروقة القرآن الكريم (8) حرية النجاة

بقلم: يا مهدي ادركني قال تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [سورة البقرة: آية 256] إنّ الله تعالى خلق الإنسان وجعله مجبولًا على الاختيار، ومن أهم الأمور التي يمارس فيها حق الانتقاء هي العقيدة والدين فليس لأحد أن يجبر أحدًا على أن يؤمن بدين ما أو عقيدة معينة، وهذا ما أكدت عليه هذه الآية الكريمة. وفي اليد الأخرى نجد روايةً عن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) يقول فيها: إني أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله تعالى (1). فكيف نوفق بين هذه الرواية وتلك الآية؟ بعض الأحيان قد ينحجب نور الشمس بالغيوم فيتوهم البعض بأن وقت الغروب قد حان وقد انتهى وقت النهار ليبدأ الليل يسدل أستاره، وما إن تتبدد الغيوم حتى يتبين له أنه كان مخطئًا فتنكشف له الحقيقة، وهكذا هي بعض الآيات الكريمة والروايات الشريفة فقد تتداخل فيما بينها حتى يشتبك الأمر على البعض فيقعوا في مصيدة التضارب ليحتار الفرد في أمره. ولمن أراد أن يتفكر في آيات الذكر الحكيم فعليه بالرجوع إلى المعاني اللغوية أولًا وإلى التفاسير المعتبرة ثانيًا، لتتضح له ألوان تلك اللوحة السماوية المقدسة، فإن ألوان القرآن الزاهية والروايات الشريفة قد تمتزج فيما بينها لتشكل لوحة جميلة. ومن تلك المعاني المهمة في آيتنا الكريمة هي: الإكراه: في اللغة يستعمل في معنيين،: أحدهما ما يقابل الرضا، ومنه قوله تعالى: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) [البقرة: آية 216]. وثانيهما ما يقابل الاختيار، ومنه قوله تعالى: (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا) [الأحقاف: 15] (2). ومما تقدم يظهر أنّ لكلمة (الكره) اشتراكاً لفظياً ، ولكي يبين المخاطِب مراده لا بد له من قرينة ينصرف الذهن لها حتى يُفهم المرام وتتحقق الغاية، والقرينة هنا كلمة (الدين) ببيان: الدين في اللغة مأخوذ من الفعل دانَ، بمعنى أطاع وخضع وانقاد. أما في الاصطلاح فهي مجموعة من المبادئ والأسس التي تتمثل بها أمة معينة، وفي الدين الإسلامي هو الإيمان بوحدانية الله تعالى، وبالرجوع إلى روايات أهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم) نجد أنه يبدأ من القلب، فعن النبي الأعظم (صلوات الله وسلامه عليه) أنه قال: (الإيمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان) (3)، فلما كان محل الإيمان ومستقره هو القلب والقلب من الأعضاء الجوانحية التي ليس لأحد سيطرة عليها، فلك أن ترغم احدهم على أن يأكل نوعًا معينًا من الطعام أو يرتدي لباسًا معينًا او تمنعه من الدخول إلى مكان ما، ولكن ليس لك أن ترغمه على حب أحدهم أو كرهه، فهذه من أفعال القلوب التي ليس لك عليها سلطان، ومن هذه الأفعال هو الاعتقاد والإيمان بالله تعالى، فلا يمكن أن يقع الإكراه (أو ما يسمى بالجبر التكويني) هنا وإنما تركت إرادة الإنسان حرة في اختيارها، وعلى هذا الأساس أرسل الله تعالى رسله بالحق ليبينوا الصراط المستقيم للعباد وزودهم (جل وعلا) بالعقل ليختاروا بكامل إرادتهم ما به صلاحهم ونجاتهم. وبالمقابل هناك جبر تشريعي وبه أعطى الله تعالى الصلاحية باتخاذ الإجراءات اللازمة عند الحاجة لحفظ الدولة الإسلامية من ناحية ولحقن الدماء من ناحية أخرى، ولتوضيح ذلك نقول: إن ما جاء في الرواية من أمر إلهي بقتل الكافرين إنما هو من ضمن بنود الدولة الإسلامية ودستورها، فمن يتعرض للمسلمين ويهدد استقرارهم فلا يلومنّ إلّا نفسه، ولكن هنا وضع النبي الأكرم (صلوات الله وسلامه عليه) قاعدة وهي: إنّ القتل متوقف على قول (لا إله إلا الله) وقد قيدها (صلوات الله وسلامه عليه) باللفظ فقط ولم يقل بالإيمان القلبي، فإنّ الكافر بمجرد أن يتلفظ بهذه الكلمة يحقن دمه ويصان عرضه، ولا يحق للمسلمين أن يتعرضوا بعد ذلك له وإن كان الإيمان لم يدخل قلبه، فإن الله تعالى لا يجبر أحدًا تكويناً على الإيمان به فهو غني عن عباده. وهنا نجد أيضًا كيف تجلت رحمة الله تعالى برسوله الأكرم (صلوات الله وسلامه عليه) إذ لم يؤاخذ العباد على ما يضمرون في قلوبهم فلعلّ السماح لهم بمعايشة المسلمين والاختلاط بهم يجعل قلوبهم تبصر النور وتميل إلى الحق. وبهذا نخلص إلى النقاط التالي: أولًا: أنّ من لطف الله تعالى أن يبين للناس الطريق الصحيح لنجاتهم ويترك الخيار لهم. ثانيًا: الإيمان بالله تعالى أمر اختياري. ثالثًا: ليس لأحد أن يقتل أحدًا لعدم إيمانه القلبي فهو أمر خارج عن الجبر التشريعي. رابعًا: إن الله تعالى هو الوحيد الذي يعلم بما في القلوب وهو فقط له أن يحاسب عباده ويقيم القسط عليهم. ____________________ 1- بحار الأنوار، ج37، ص115. 2- البيان في تفسير القرآن للسيد الخوئي، ص 307. 3- الصدوق : الخصال : 1 / 179 ح

اخرى
منذ 4 سنوات
588

سلسلة فيءٌ من أروقة القرآن الكريم (9) العلم الإلهي بعالم الأرحام

بقلم: يا مهدي ادركني قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [سورة لقمان: آية34] إن من صفات الله (جل وعلا) صفة (الهادي)، وللهداية مراتب وأول مرتبة من مراتب تلك الهداية هي تلك الهداية التكوينية المتمثلة بتزويد جميع الناس على حدٍ سواء بما يحتاجون إليه في حياتهم، وأهمها: بالعقل، فالعقل هبة من الله تعالى وهبها لعباده ليهتدوا به إلى ما به صلاحهم ونجاتهم. فنجد بالعقل استطاع الإنسان أن يطأ القمر وأن يرى بأجهزة دقيقة ما يكمن في أعماق البحار المظلمة، بل واستطاع أن يعلم ما في الأرحام من نوع الأجنّة وعددها. فإذا كان العلم قادرًا على أن يكشف عن تلك الأمور التي كانت تعتبر من الغيبيات في القرون الماضية، فهل يمكن أن نبطل إعجاز القرآن الكريم، ونعتبر أن بعض آياته أصبحت مجرد معلومات تاريخية قديمة، لكونها لا تتناسب مع التقدم العلمي الذي وصلت له البشرية اليوم؟ سؤال يتردد على لسان الكثير من المشككين اليوم وقد تصل ذبذباته إلى أسماع أولادنا بلحن معسول فتتخلل قلوبهم وتخدش عقيدتهم إذا لم نحصنها نحن بأجوبة شافية تبدد الضبابية عن ناظرهم. وفي المقام نقول: إن الآية الكريمة تعرضت لأمور هي من مختصات علمه (جل وعلا) وليس لأحد أن يتوصل إلى معرفتها لحكمة فيها نفع للإنسان، ولكن كيف نوفق ما هو موجود فعلًا اليوم من أجهزة حديثة استطاعوا من خلالها أن يعلموا ما في الأرحام، فلا أحد ينكر إمكانية تحديد جنس الجنين وحجمه وعدد الأجنة بعد أن يتجاوز عددًا من الأسابيع في رحم الأم، بل وحتى استطاعوا أن يقوموا ببعض العمليات الجراحية للأجنة وهم في عالم الأرحام. وبيان جواب ذلك يكون من خلال نقطتين: الأولى: إنّ علم الله تعالى غير متناهي فليس هناك حد له، فإن كان علم الإنسان الذي يحصله من خلال الأجهزة الدقيقة يمكنه من معرفة جنس الجنين بعد أن يتجاوز عدة أسابيع في رحم الأم، فإن علم الله تعالى أزلي وهو يعلم بنوع الجنين منذ لحظة انعقاد تلقيح البيضة في رحم الأم، وحسب ما استطاع أن يتوصل له العلم إن تحديد جنس الجنين يتوقف على الكروموسوم الذي يحمله الحيوان المنوي للرجل الذي يقوم بتلقيح البيضة، ولكن تلك الأجهزة الدقيقة لا تستطيع أن تعرف نوع تلك البيضة المخصبة في تلك المرحلة المبكرة. بل إن الله تعالى يعلم ما ستلج تلك الأرحام من (حيوانات منوية) وهي في عالم الأصلاب، بل وفي عالم الذر، بل وقبل أن تكون شيئاً مذكورا. الثانية: إنّ غاية ما يستطيع أن يصل له علم الإنسان هو علم بالأمور التي لها مقادير محددة ومتلبسة بلباس الظن فهي وإن كانت لها من الدقة التي توصلها مرحلة اليقين ولكن إمكانية الخطأ فيها واردة جدًا، ولكن علم الله تعالى لا يقع فيه الشك أو الخطأ أبدًا، هذا بالإضافة إلى أن علمه تعالى الذي أشار إليه في الآية الكريمة فيما يخص الأرحام هو ليس محدودًا بنوعية جنس الجنين وحجمه وما إلى ذلك من أمور، بل أنّ علمه تعالى أوسع من ذلك فهو يعلم بكل الأمور والمتعلقات بهذا الجنين وماذا سيكون في مستقبل أيامه: صالحاً أم طالحاً عالماً أم جاهلاً غنياً أم فقيراً باراً أم عائقاً؟ الخلاصة: أنّ الإنسان مهما توصل بعلمه إلى اكتشافات واختراعات وتطور فإنه يجب عليه أن لا ينسى بأنّ علمه هذا هو فيض من الله تعالى، ولولا لطفه (جل وعلا) لم يستطع الإنسان أن يتعلم حرفًا، فهو في حقيقة وجوده واستمرارية ذلك الوجود مفتقر إلى تلك الذات الغنية العالمة المقدسة، وهذا ما اشار له أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) قائلًا: فَيَعلَمُ الله سبحانَهُ ما في الأرحامِ مِن ذَكَرٍ أو أنثى ، وقَبيحٍ أو جَميلٍ ، وسَخيٍّ أو بَخيلٍ ، وشَقيٍّ أو سَعيدٍ ، ومَن يكونُ فِي النارِ حَطباً، أو فِي الجِنانِ للنَّبيِّينَ مُرافِقًا، فهذا عِلمُ الغَيبِ الذي لا يَعلَمُهُ أحَدٌ إلّا اللَهُ ، وما سِوى ذلكَ فَعِلمٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ نَبِيَّهُ فَعَلَّمَنيهِ، ودَعا لِي بأن يَعِيَهُ صَدرِي، وتَضطَمَّ (1) عليه جَوانِحي. (2) ________________ 1- تضطم: هو افتعال من الضم، أي وتنضم عليه جوانحي. والجوانح الأضلاع تحت الترائب مما يلي الصدر. وانضمامها عليه اشتمالها على قلب يعيها. 2- نهج البلاغة: الخطبة 128.

اخرى
منذ 4 سنوات
536

سلسلة فيءٌ من أروقة القرآن الكريم (10) لذة للشاربين

بقلم: يا مهدي ادركني قال تعالى: (مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى) [سورة محمد: آية 15]. خلق الله تعالى الجنة وجعلها جزاءً لعباده المؤمنين، لمن أطاعه وعبده ووقف عند ما حرّم عليه فوجده الله تعالى حيث يحب يتسابق بين عباده لغاية الفوز بالجنة أو خوفًا من النار وعذابها، وقد يحرر نفسه من قيود وسلاسل المادة؛ لتكون غايته هي رضا الله تعالى، وهي أسمى الغايات؛ ليكون عبدًا شاكرًا لله تعالى حرًا من شباك هوى النفس ومصائد الشيطان والدنيا، وهذا ما أشار له أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) فقال: إِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللهَ رَغْبَةً فَتِلْكَ عِبَادَةُ التُّجَّارِ، وَإِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللهَ رَهْبَةً فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْعَبِيدِ، وَإِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللهَ شُكْراً فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْأَحْرَارِ. (1) وللطبيعة جمال لا يكتمل إلا بأنهارها، فهي تضفي سحرًا ورونقًا عليها، ومن دونها تذبل وتبهت ألوانها، فإذا كانت جنان الدنيا لا تستغني عن الأنهار فكيف بجنان الخلد؟ لذا قد وصفها الله تعالى في كتابه الكريم، وكانت الأنهار من الصفات الملازمة لتلك الجنان، فهي لا تنفك عنها أبدًا. وقد جعل الله تعالى أنهارًا خاصة للمؤمنين جزاءً لهم على ما صبروا ليشربوا ويرتووا منها وتتكامل أرواحهم فتتجلى لهم رحمة الله تعالى. ومن تلك الأنهار التي وعد الله تعالى بها عباده المتقين هي أنهار الخمر، فهل الخمر من الشراب الذي يتوق له المؤمنون؟ وهل حرّم الله تعالى الخمر على عباده في الدنيا ليثيبهم به في الآخرة؟ وعندما كانت الجنة خالية من كل أنواع الرجس والأذى فكيف يكون الخمر من أحد أنهارها؟ وللجواب على هذه الأسئلة المتشعبة تفصيل في عدة نقاط: الأولى: معنى الخمر في اللغة: الخَمر: بفتح أوله هو ما وارى الشيء وغطاه، ومنه جاء خمار المرأة أي غطت رأسها، وجاء على خمر أي جاء في سر وخفية (2). وسمي المسكر بالخمر لأنه يواري العقل ويحجبه عن النور ويفقده القدرة على التمييز بين الخطأ والصواب. الثانية: حرّم الله تعالى الخمر في الدنيا لأن فيه مفاسد كثيرة وجعله الشارع المقدس من الأعيان النجسة، فقد قال عز من قائل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [سورة المائدة: آية 90]. الثالثة: إنّ اللغة العربية لها قوانينها الخاصة بها وجاء خطاب الله تعالى وفقًا لتلك القوانين، ومن قوانينها (قانون القرينة المنفصلة) ومعنى ذلك: إن المتكلم العاقل قد يُخبر عن أمرٍ ما لكنه لا يتم حديثه فيترك للحديث تتمة في وقت لاحق، فإذا ما جمع المُتلقي الكلام الأول بلاحقه فإنه سيحصل على صورة متكاملة يتم بها مراد المتكلم. وهكذا هي آيات القران الكريم وكلمات الحكيم العليم فقد جاءت وفق هذه القاعدة لنجد بعض الآيات. الرابعة: وهي في الحقيقة نتيجة للنقطة السابقة، فإذا بحثنا بين جواهر القرآن الكريم سنجد إنّ تلك الأنهار والعيون والكؤوس (3) تلحق دومًا بمفردات تدل على ما هو طيب وما فيه لذة منفي عنه كل ما فيه ألم وأذى، ومن تلك الآيات: 1- قوله تعالى (وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً. عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً) [سورة الإنسان: آية 18،17]. 2- قوله تعالى (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ . بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ . لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ) [سورة الواقعة: آية 17،18، 19]. 3- قوله تعالى (يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِن مَّعِينٍ . بَيْضَاء لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ . لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ) [سورة الصافات: آية 45، 46، 47]. وبمجموع الآيات المتقدمة نجد أنّ الله تعالى قد وصف شراب أهل الجنة بصفات خاصة وهي: أولًا: زنجبيلًا، والزنجبيل هو نبات ذو عطر طيب كان العرب يتلذذون به لأنه يعطي قوة خاصة (4). ثانيًا: (لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ) ومعنى الصدع وهو الألم الذي يصيب الرأس (وهو عادة ما يصيب الذين يحتسون الخمر) ومعنى ينزفون أي لا يسكرون أو لا ينفد شرابهم. ثالثًا: (لا فِيهَا غَوْلٌ) والغول هو الضرر والإفساد وما يهلك الشيء. أمّا في الآية المتقدمة من سورة (محمد صلى الله عليه وآله) فإنّ أنهار الخمر وصفت بأنّ فيها لذة للشاربين، ومعنى اللذة هو كل ما يوالم النفس ولا يؤلمها أو ينافي رغباتها. وبمجموع ما تقدم نخلص إلى: أنّ شراب أهل الجنة بمختلف أنواعه وأصنافه لا يصيب شاربه بالألم والصداع والهلاك والإفساد على خلاف ما حرّم الله تعالى من بعض شراب الدنيا (الخمر) الذي يؤدي إلى هلاك صاحبها لما فيه من سكر يأخذ العقل ويهوي به إلى الفساد والظلم للنفس أولًا وللآخرين ثانيًا، السبب الذي لأجله حرم الله تعالى الخمر ونهى عنه، هذا فضلًا عن طمعه الخبيث ورائحته الكريهة التي تنفر منها النفوس وتشمئز. وهنا قد يسأل سائل عن سبب تسمية شراب أهل الجنة بالخمر، إن لم يكن يستر العقل، ولماذا لم يسمِّه الله تعالى باسم آخر؟ إن أخذ العقول لا يكون دومًا له معنى سلبي غير ممدوح، فقد يكون له معنى محبب للنفس وموالم لطبعها كما في جمال الطبيعة، فيقال طبيعة خلابة، وامرأة سحرت العقول بجمالها وما إلى ذلك من معاني كثيرة، ومما لا شك فيه فإنّ ما في الآخرة من نعم وعطايا تأخذ الألباب وتحرر النفوس من قيود الماديات لتحلق في ملكوت التجليات الإلهية لما ستجد من رحمة وكرم وعطاء وسخاء فتحير العقول وتنبهر، فترتفع تلك العقول وتتكامل، وهذا ما ذكره المرحوم السيد محمد حسين الطهراني قائلًا: (وعلى ذلك فإنّ انهار الخمر هي ظهور أصناف وأنواع محبّة صفات وذات الله التي جعلها الله سبحانه للشاربين، وهم الكاملين الواصلين إلى درجة الشهود، والذين صار لديهم القابليّة لمشاهدة حسن تجليّات الصفات وشهود جمال الذات، وصاروا مولّهين بالجمال المطلق للحضرة الربوبيّة لا إدراك لهم بسببه، ووصلوا إلى مقام الروح واستغرقوا في الأنوار الإلهيّة، وستوجب لهم اللذة والبهجة والسرور والحبور) (5). ________________ 1- نهج البلاغة، الحكمة (234). 2- المعجم الوسيط. 3- القدح هو الإناء الفارغ وإذا ما سكب فيه شراب صار كأسًا. 4- راجع تفسير الأمثل ، ج19، ص267. 5- معرفة الإمام، ج1، ص 223. والحمد لله رب العالمين

اخرى
منذ 4 سنوات
1030