بقلم: يا مهدي أدركني خلع الإمام الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) إحرامه وقطع مراسيم الحج... مودعًا بيت الله الآمن... تاركًا لذة التعبد والمناجاة... راكبًا قافلة الإباء... متجهًا صوب أرض كربلاء... حفاظًا على دين جده (صلى الله عليه وآله) من العبث والتغيير. يبرز الإيمان الحقيقي بعد أن يختلج النفس صراعٌ بين إشباع رغبتها في لذة العبادة، وبين الصورة الحقيقية للتعبد، فالعبادة الحقيقية هي الطاعة المطلقة والخضوع مع الاعتقاد بربوبية المطاع، فإن كانت كذلك فستتحقق الخطوة الأولى من التعبد، ويليها التسليم المطلق، فإذا امتزج التعبد بالتسليم سيكون العبد جاهزًا لطاعة الله تعالى من حيث يحب هو تعالى ، لا من حيث العبد يحب، وعندها سترتفع الحجب عن قلبه ليميز أي الأعمال أحب الى الله تعالى. وستبدأ أيضًا خطط الشيطان اللعين، فيحوك حبائله ليتصيد بها المؤمنين حتى يقعوا في فخاخه، فيزين لهم الأعمال المستحبة من صلاة وتلاوة قرآن ومناجاة ودعاء في أوقات تزاحم فيها الواجب والمستحب أو الأهم. يجب أن يكون المؤمن حذرًا فطنًا، يؤدي أحب الأعمال الى الله تعالى، فضلًا عن تقديم الواجب على المستحب. فمثلًا، إن قضاء حاجة المؤمن أحب الى الله تعالى من صلاة مستحبة أو تلاوة القرآن، عن الإمام الصادق (عليه السلام: (الخلق عيال الله، وأحب الخلق إلى الله من نفع عياله، وأدخل السرور على أهل بيته. ومشيٌ مع أخ مسلم في حاجته، أحب إلى الله من اعتكاف شهرين في المسجد الحرام" (١) وربما يكون إعداد المرأة الطعام لصغارها وزوجها أفضل من مناجاتك. تعليم أطفالك قصص عاشوراء من تضحيات وإيثار هي من دون أدنى شك أفضل من تركك أطفالك أمام التلفاز أو الأجهزة اللوحية من دون مراقبة. وقضاء حوائج الوالدين هي أفضل من أداء زيارة مستحبة إذا كان نتيجة تركهم مشقة إليهم. وقيام الليل من امرأة تاركة الحقوق الزوجية هو تقديم المستحب على الواجب. هذا فضلًا عن هدر الوقت الثمين في محادثات وتصفح لا تغني ولا تسمن من جوع على مواقع التواصل الاجتماعي، تاركين وراءهم حقوقًا وواجبات مع العباد بل ومع رب العباد. فلنتعظ من موقف سيد الشهداء (صلوات الله وسلامه عليه) ونجعله منهجًا نسير على خطاه؛ كي لا نتعثر ولا نقع، وإن وقعنا نستند عليه ونقف مرة اخرى، لنقتبس من نوره نورًا نضيء به الدرب لمن يلينا... فنجعل مصلحة الدين والحفاظ عليه من اهم أولوياتنا، وذلك من خلال قضاء على الأقل نصف ساعة يوميًا في الاستقاء من نمير أهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم) من خلال الاستماع الى محاضرات تثقيفية أو قراءة كتاب أو مقال لرد الشبهات التي تطرح بهدف تشويه الدين. فكل من دخل تحت راية الإسلام عليه مسؤولية الحفاظ على هذه النعمة. ___________________ (1) دعائم الإسلام للقاضي المغربي ج2 ص 320
المناسبات الدينيةبقلم: يا مهدي أدركني في شهر محرم نجد في سمائه نجومًا لامعة، تنتشر لتضيء تلك القلوب التي تنبض حبًا وشوقًا للحسين (عليه السلام). مما لا شك فيه بل ومما أكدت الروايات الشريفة عليه هو: أن اجتماع المؤمنين لذكر مصاب سيد الشهداء (صلوات الله وسلامه عليه) والبكاء عليه له من الثواب العظيم، إذ لتلك الكلمات والدموع كل الأثر في جلي القلوب من الصدأ الذي تراكم عليها لما ارتكب صاحبها من الذنوب، فعن الإمام الرضا (عليه السلام): "فعلى مثل الحسين (عليه السلام) فليبك الباكون، فإنّ البكاء عليه يحط ُّالذنوب العظام" (1)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): "كلّ عين يَوم القيامة باكية، وكلّ عين يوم القيامة ساهرة، إلاّ عينُ من اختصّه الله بكرامته، وبكىَ على ما يُنتهك من الحسين (عليه السلام) وآل محمد (عليهم السلام) (2) وهنا وقفة: هل أن البكاء على الإمام (صلوات الله وسلامه عليه) رغم ما لَهُ من الثواب العظيم كافٍ يوم القيامة لنيل الدرجات الرفيعة والمنازل العظيمة؟! الجواب: أن أحد غايات التجمع وعقد المجالس وإحياء ذكر أهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم) هو البكاء عليهم، ولكن هناك أمورًا أُخرى هي لا تقل أهمية عن البكاء، فكما جاء عن أبي عبد الله الصادق (صلوات الله عليه) أنه قال للفضيل بن يسار: يا فضيل «أتجلسون وتتحدثون؟ قال: نعم جعلت فداك. قال الإمام الصادق : «إن تلك المجالس أحبها. فأحيوا أمرنا، فرحم الله من أحيا أمرنا» (3). وقد فسر لنا أهل البيت (صلوات الله عليهم) معنى إحياء الأمر، يقول الهروي: سمعت الإمام أبا الحسن علي بن موسى الرضا يقول: «أحيوا أمرنا، رحم الله من أحيا أمرنا، قلت: يا بن رسول الله وكيف يحيا أمركم؟ قال: أن يتعلم علومنا ويعلمها الناس؛ فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لتبعونا» (4). فإذا حلّقنا في سماء الطف، وجدنا من المواعظ والرسائل العقائدية والفقهية والأخلاقية التي كانت كالنجوم، ومنها ما سيأتي إن شاء الله _____________________ (1) أمالي الصدوق: 190 المجلس (27)، ح199 (2) مستدرك سفينة البحار للشيخ الشاهرودي، ج1، ص402 (3) بحار الأنوار، ج23، ص282، ح14 (4) بحار الأنوار، ج2، ص30، ح13
المناسبات الدينيةبقلم: يا مهدي أدركني مواقف عديدة حدثت بين الإمام الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) وبين أهله وأصحابه (عليهم السلام)... ما هي إلّا رسائل منهم إلينا، فإن تمسكنا بها أضاءت قلوبنا وأنارت دروبنا... في الطريق إلى كربلاء وأثناء المسير، كان علي الأكبر (صلوات الله وسلامه عليه) على جواده بالقرب من أبيه الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) فسمعه يقول: (إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (البقرة/ 156)، فجرى الحوار التالي بينهما: قال علي الأكبر (عليه السلام): يا أبتاه، لِم استرجعت؟ قال الحسين (عليه السلام): عنّ لي فارس، وأنا في المنام، يقول: القوم يسيرن والمنايا تسير خلفهم. فعلمت أن نفوسنا نُعِيت إلينا. قال علي الأكبر(عليه السلام) : يا أبتاه، ألسنا مع الحقّ؟! قال الحسين (عليه السلام): بلى، والذي نفسي بيده. فقال عليّ الأكبر (عليه السلام) : والله لا نبالي أوقعنا على الموت أم وقع الموت علينا. فلو تأملنا في هذا الموقف قليلًا نجد عدة جوانب، ومنها: الأول: جانب عقائدي: ذلك الجانب الذي سلط (صلوات الله وسلامه عليه) الضوء بقوله: (إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)، ففي هذه الآية بشارة لمن نزلت وحلت بهم المصيبة (ولا يستعمل لفظ المصيبة إلا في النازلة المكروهة)(1)، وقد اجتمعت البشارة مع المصيبة في قوله تعالى (وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون) (2)، وللوهلة الأولى قد يرد تساؤل هنا: كيف تجتمع البشارة مع المصيبة؟! الجواب: أن هناك درجاتٍ عظيمةً في الجنة لا ينالها المؤمن إلا بعد أن يُمحَّص بالبلاء تمحيصًا ويكون صابرًا على ما ينزل عليه من الله تعالى من دون جزع، فهو ليس مجرد تلفظ بالقول وإنما هو تسليم قلبي لله تعالى ورضا بقضائه وقدره، فإن البشارة هي للصابرين المسترجعين. وما هو معنى الاسترجاع؟ هو إقرار من العبد بأنه كائنٌ، منبعُ وجوده وتحققه في عالم الوجود هو من الله تعالى وإنه غير قادر على الاستمرار والبقاء في هذا العالم من دون الله (عز وجل)، فهو ليس له وجود مستقل من دون الذات المقدسة وأن مرده إليه (جل وعلا). إن من أول نِعَم الله تعالى على العبد هو إيجاده من العدم، فإن المُلك الحقيقي هو لله تعالى وما ملكنا لأنفسنا وأفعالنا إلا ملك اعتباري ظاهري، ولولا إذن الله تعالى عز وجل لما كان لهذا التصرف (تصرفنا نحن الموجودات) من تحقق في الخارج، وإن مرَّد الإنسان هو إلى الله تعالى فهو القادر على إيجاده وفنائه وهو المالك الحقيقي له، وإن كلًا من الجسد والروح ما هما إلا أمانة لدينا يجب الحفاظ عليهما وعدم تلويثهما بالذنوب. فإن علِم الإنسان حقيقته ونسب نفسه الى بارئه، علِمَ حينها أنه ليس هنالك مجالٌ للحزن على ما فقده، فإنه في الحقيقة لا يملك شيئاً (وأما إذا أذعن واعتقد أنه لا يملك شيئًا لم يتأثر ولم يحزن، وكيف يتأثر من يؤمن بأن الله له الملك وحده يتصرف في ملكه كيف يشاء؟) (3). فنحن من الله وإليه، وقد أشار الى هذا الجانب الإمام الحسين (عليه السلام) في دعائه المعروف في يوم عرفة (إليك مردّي، ابتدأتني بنعمتك قل أن شيئًا مذكورًا) (4). الثاني: القوة المستمدة من عمق الإيمان: وهو المتمثل بردّ علي الأكبر (صلوات الله وسلامه عليه) بأنه لا يبالي من الموت، فكيف لا يبالي والموت هو من أشد الأمور التي يكرهها الإنسان؟ إن علي الأكبر (صلوات الله وسلامه عليه) كان أشبه الناس خَلْقًا برسول الله (صلى الله عليه وآله) وكانوا كلما اشتاقوا إلى الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) نظروا إلى علي الأكبر (عليه السلام)، ولكن الشبه لا يقتصر على هذا الأمر فقط، وإنما تعدى الى الشبه في الأخلاق أيضًا، فإن أخلاق الرسول (صلى الله عليه وآله) تجسدت في علي الأكبر (عليه السلام) تلك الأخلاق التي أشار لها الله تعالى في كتابه الكريم بقوله تعالى: (وإنَّكً لًعلى خُلُقٍ عَظِيْم) (5)، فهناك تشابه بين شخصية علي الأكبر وجده الرسول الأكرم (صلوات الله وسلامه عليهما) ذلك التشابه الذي استقاه علي الأكبر (عليه السلام) من أبيه الإمام الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) ومن قبله من جده (صلى الله عليه وآله)، فكان في شجاعته كالليث لا يهاب شيئاً، فمن أين أتت هذه القوة؟ إن الإنسان كلما دخل في دائرة الإيمان وتوغل حب الله في قلبه وبات قريبًا منه مستشعرًا وجوده في كل حركاته وسكناته، ازداد قوةً وبأسًا، فهنالك علاقة طردية بين الإيمان والقوة. هذا فضلًا عن كون الإنسان إذا كان على حق فإنه يزداد قوة، والعكس صحيح، لذا نجد في ذلك رسالةً إلينا وهي (أن الإنسان إن كان على حق، فيجب أن لا يخاف شيئاً) وهذا يعني أنه يجب أن نكون دومًا مع الحق مهما كانت الظروف التي يمر بها الفرد صعبة وعسيرة، وفي أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) أسوة لنا، فقد كان هو المثال الواقعي للحق، حتى قال عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله): (عليٌ مع الحق والحق مع علي يدور معه كيفما دار)، فمتى ما كان الإنسان مع الحق فهو لن يضعف أبدًا، فيكون الحق النابع من الإيمان مصدرًا للقوة لا ينفذ أبدًا. وهذا هو سبب عدم خوف الأكبر (عليه السلام) من الموت. _________________________ (1) الميزان في تفسير القرآن للعلامة الطباطبائي, ج1, ص350. (2) سورة البقرة: آية {156}. (3) الميزان في تفسير القرآن للعلامة الطباطبائي، ج1، ص351. (4) المنتخب الحسني للأدعية والزيارات، دعاء الإمام الحسين عليه السلام يوم عرفة, ص910. (5) سورة القلم: آية {4}.
المناسبات الدينيةبقلم: يا مهدي أدركني هيهات منا الذلة. هو أحد الشعارات التي أطلقها الإمام الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) يوم الطف والذي نسمع صداه إلى اليوم، فإنه وكما روي عنه (عليه السلام): موت في عز خير من حياة في ذل.(1) لقد أراد الإمام الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) أن ينهض بأمة جده (صلى الله عليه وآله) ولكن بقيم أخلاقية عالية وبكرامة ورفض للظلم والجور، وهذه من خصال الأحرار، فإن الإسلام لا يرضى بالذل للمؤمن، فقد خلق الله تعالى الإنسان وكرمه على بقية المخلوقات بالعقل، وليس من حق المؤمن أن يهين نفسه ويذلها. فما المراد من الذلة؟ وما هو معناها؟ وهل لها مصداق واحد أم مصاديق عدة؟ إن معنى الذلة في اللغة هو الخضوع والإهانة وتصغير الشيء والإقلال من شأنه. وهذا المعنى له تطبيقات عديدة في حياتنا، وفي رسالة الإمام الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء المعنى واضح جدًا وهو عدم القبول والخضوع والرضوخ لبني أمية والتنازل عن الدين بالتسليم لهم مما يؤدي الى ضياع الأمة وانكسارها. وهذا يعني أن كل فرد فيما إذا تعرض إلى موقف كان عليه أن يتنازل عن عقيدته ودينه أو يخسر أمرًا آخرًا مهما كان لذلك الأمر من أهمية، فعليه أن لا يقدم شيئًا على العقيدة والدين، ولا يكون الدين والعقيدة من ابخس الأمور التي تباع وتقدم تحت عناوين متعددة كالمصالحة أو المقاربة بين الأديان والمذاهب والتعايش معهم، نعم إن ديننا يأمرنا بالتعايش مع مختلف الطوائف والأديان وأن لا نعادي أحدًا منهم، ولكن بشرط عدم التنازل عن المبادئ الأساسية لديننا وتذويبها تحت هذه العناوين الزائفة، حيث أن تمييع هذه المبادئ والمعتقدات من موجبات تضعيف الدين، ولا يكون لها مؤدّى إلا الذلة لأفرادها. هذا هو الجانب الأول. أما الجانب الثاني فهو المدخل لضرب دعائم الدين ومعتقداته من خلال وسائل عديدة تستغل كل المنافذ لضرب كافة الأجيال والعناصر من نساء ورجال، وشباب وشيوخ، وذلك من خلال ترويج الأفكار الفاسدة التي تكون مرفوضة في بادئ الأمر من المجتمع ولكنها تدخل من خلال المنحلّين دينيًا وأخلاقيًا، ومن ثم تقبُّلها من قبل المتهاونين في دينهم وعقيدتهم؛ حتى تنتشر هذه الأوبئة ليصاب بها الجميع وتكون أمرًا طبيعيًا تعود على رؤية المجتمع كتبرج النساء وارتداء الملابس الضيقة وتغيير مظاهر الشباب من حيث الملبس وتسريحات الشعر التي تم استيراد أفكارها من بلاد الغرب، حتى يكون كل هم الشاب والشابة -اللذين هما الثروة الحقيقية للمجتمع- هو الجري وراء الموضة والألعاب الإليكترونية والذهاب الى المقاهي المخصصة بما يعرف بالتدخين الإلكتروني، فيتراجع بذلك النمو الفكري والتطور العلمي مما يسبب الابتعاد التام عن مدرسة أهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم) فتتحول الأمة من أمة قوية عزيزة الى أمة خاضعة ضعيفة –كما هو حاصل مأسوفًا عليه- فإلى كل من يهتف ويردد في هذا الشهر وهذه الأيام الحزينة بهتاف الإمام الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) –هيهات منا الذلة- عليه أن ينظر الى أعماق نفسه والى ملبسه ومظهره، وهل أنه حر أم ذليل؟! _____________________ (1) وسائل الشيعة، ج21، ص557.
المناسبات الدينيةبقلم: يا مهدي أدركني قال تعالى في محكم كتابه الكريم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (1) إن الإسلام جاء ليزيل الطبقية ويجعل المدار في التمايز هو التقوى، ووفق هذا المقياس جاءت نهضة الإمام الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) لتكمل الطريق الذي انتهجه جده المصطفى (صلى الله عليه واله) انطلاقًا من قوله (صلى الله عليه وآله): "حسين مني وأنا من حسين" وكما قال البعض "الإسلام محمدي الوجود حسيني البقاء" لتتجسد في يوم الطف صور تطبيقية، فنجد رمضاء كربلاء سُقيت بدماء شهدائها فامتزجت دماء العربي بالأعجمي، السيد بالعبد... فما هو السر وراء هؤلاء الثلة من الأصحاب الذين قال عنهم سيد الشهداء (صلوات الله وسلامه عليه) "فإني لا أعلم أصحابًا أوفى ولا خيرًا من أصحابي" لو تأملنا قليلًا في كلام الإمام الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) لوجدنا جنبتين: الأولى: في قوله صلوات الله عليه (لا أعلم). نقول: هل إن علم الإمام الحسين (عليه السلام) محدود بزمان ومكان وهل ممكن ان يقع فيه الخطأ أم لا؟! وللإجابة على هذا السؤال نعود إلى الحديث الذي ذكرناه آنفًا المذكور عن الرسول (صلى الله عليه واله) "حسين مني وانا من حسين" لنجد أن هذه ال (من) المذكورة في الحديث الشريف هي للتبعيض والنسب وهذا يعني أن الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) هو جزء لا يتجزأ منه (صلى الله عليه وآله)، وهذا الجزء يشمل الجانب البيولوجي فهو امتداد له، والجانب العقائدي، وبهذا يكون كل ما يخص النبي (صلى الله عليه وآله) من خواص العلم اللدنّي والعصمة والولاية التكوينية، تكون أيضًا من خصوصيات الإمام الحسين (عليه السلام)، فإذا كان للإمام العلم اللدنّي وهو معصوم فهذا يعني أنه لا مجال للخطأ في علمه (صلوات الله وسلامه عليه)، وحيث ثبتت له الولاية التكوينية فهذا يعني أن علمه يتصف بالشمولية فهو لا يختص بزمان معين. فما هي مواصفات هؤلاء الأصحاب الذين خصهم الإمام (صلوات الله وسلامه عليه) بهذا الوصف! وهكذا ننتقل الى الجنبة الثانية من هذا الحديث الشريف. الجنبة الثانية: صفات أصحاب الإمام الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) في الحديث قد أشار الإمام (عليه السلام) الى صفتين وأعطاهما أعلى مراتب التكامل الإنساني، فنفى أن يكون هناك من يتصف بهاتين الصفتين بدرجة كمالية أعلى مما هي موجودة لدى أصحابه (عليهم السلام). فالصفة الأولى تتمثل بأنهم خير الأصحاب وهذه الكلمة تشتمل على معاني عديدة منها الكرم والسخاء والجود والشرف والأصل، وعندما تطلق على فئة من الناس يقال (خيار الناس) أي من أفاضلهم. فالإمام الحسين (عيله السلام) استخدم بلاغة اللغة العربية باختيار هذه الكلمة المشتملة على معاني عديدة. أما الصفة الثانية فهي صفة الوفاء، والوفاء في اللغة هو المحافظة على الوعد والالتزام به. فقد وفى أصحاب الإمام الحسين (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) له بالطاعة والتسليم وبذلوا الأنفس ولم يرتضوا العيش بعده ولو للحظة، وتسابقوا في تقديم الأرواح وأرخصوا دماءهم لإمامهم، وهم في حالة اضطراب ما بين شوقهم للشهادة وبين حزنهم لتركهم الإمام الحسين (عليه السلام) من بعدهم وحيدًا غريبًا. فمن أين أتت هذه الصفات الكمالية المتمثلة بالشجاعة والقوة والوفاء والإيثار؟ إن أساس هذه الصفات تنبع من قلوب تنعم بالحياة يملأها الإيمان وتترسخ فيها العقيدة الصالحة لتكون منبعًا للقوة، فلا يهابون شيئاً، فهمُّهم الوحيد هو نصرة الحق، فذلك الإيمان القلبي هو مصدر القوة الذي يوجههم نحو العبودية الحقيقية المطلقة لله تعالى، فامتثلوا أوامره وذابوا عشقًا في مناجاته، لذا تجدهم في ليلة العاشر من محرم كما تصفهم الروايات (لهم دوي كدوي النحل ما بين قائم يصلي وجالس يقرأ القرآن) متأهبين لساعة الصفر للدفاع عن إمام زمانهم. إذًا الذي كان يوحدهم هو حب الحسين (عليه السلام) النابع من التقوى، فإن الحب وحده لا يستطيع أن يقف أمام الفتن، فلا بد له من تقوى تقوّمه، ووفق هذه المعايير نجد أن الإمام الحسين (عليه السلام) جعل أصحابه كلهم بكفة واحدة، ولم يميز بينهم من حيث اللون أو العرق وإنما كانوا متساوين، فنجده (صلوات الله وسلامه عليه) يضع تارة خده على خد ولده علي الأكبر (صلوات الله وسلامه عليه) وتارة على خد أسلم التركي وهو مولى مملوك للإمام الحسين (عليه السلام). إن كل موقف من مواقف عاشوراء هي رسالة موجهة إلينا فيها من الدروس والعبر، فلتكن القاعدة في اسلوب التعامل مع البشر هي وفق (إن أكرمكم عن اهل أتقاكم) فيجب أن لا يكون المعيار هو المناصب والحالة المادية والأعراق وما الى ذلك من تمايز طبقي، فعن أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: (أن الله تبارك وتعالى أخفى أربعة في أربعة:..... وأخفى وليّه في عباده، فلا تستصغرنّ عبداً من عبيد الله، فربّما يكون وليّه وأنت لا تعلم)(2). _____________________ (1) سورة الحجرات: آية (13). (2) قال أمير المؤمنين (ع) : إنّ الله تبارك وتعالى أخفى أربعة في أربعة: أخفى رضاه في طاعته، فلا تستصغرنّ شيئاً من طاعته، فربّما وافق رضاه وأنت لا تعلم، وأخفى سخطه في معصيته، فلا تستصغرنّ شيئاً من معصيته، فربما وافق سخطه وأنت لا تعلم، وأخفى إجابته في دعوته، فلا تستصغرنّ شيئاً من دعائه، فربّما وافق إجابته وأنت لا تعلم، وأخفى وليّه في عباده، فلا تستصغرنّ عبداً من عبيد الله، فربّما يكون وليّه وأنت لا تعلم. معاني الاخبار، ص113.
المناسبات الدينيةبقلم: يا مهدي أدركني السلام عليك أيها العبد الصالح هذه العبارة مذكورة في زيارة أبي الفضل العباس (صلوات الله وسلامه عليه) المروية عن الإمام الصادق (صلوات الله وسلامه عليه)، وهذا يعني أن الإمام الصادق (عليه السلام) أطلق هذا اللقب على عمه العباس (عليه السلام). فما هي مميزات هذا اللقب؟ ولماذا الإمام الصادق (عليه السلام) وهو الإمام المعصوم اختار هذا اللقب، فما هو وجه المناسبة والترابط بين هذا اللقب وشخصية أبي الفضل (سلام الله عليه)؟ إنّ معنى العبودية في اللغة هو التذلل والخضوع مع التسليم المطلق والانقياد. أما معنى العبودية اصطلاحًا وفي الإسلام فهو الخضوع والتذلل والتسليم المطلق مع الاعتقاد بأن المخضوع له هو الرب الخالق الرازق. وكل من يتحقق منه هذان الجانبان: العملي وهو الخضوع والتسليم، والقلبي وهو الاعتقاد، يطلق عليه بأنه عبد لله تعالى. ولهذه العبودية درجات متفاوتة، فهي مفهوم مشكك كما يقال في لغة المنطق، فنحن البشر شئنا أم أبينا عباد لله تعالى، ولكن فينا العبد الآبق والعياذ بالله، والعبد الصالح المعصوم، وما بينهما درجات، فكلما تقرب العبد من خالقه وانقاد الى أوامره مطيعًا له مع التسليم القلبي المطلق كلما ارتفع في درجات هذه العبودية، حتى يصل الى أعلى درجاتها؛ لتمتزج هذه الصفة بصفة الصلاح فيطلق على العبد حينئذٍ بالعبد الصالح. وقد أشار الله تعالى في كتابه الكريم إلى هؤلاء العباد بنسبتهم الى نفسه وبصفة الرحمة فقال {وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} (الفرقان 63). وإذا تأملنا آيات القرآن الكريم لوجدنا بأنه تعالى قد وصف أنبياءه بهذه الصفة مع اقترانها بصفة أخرى وهي (المُخلَص) [بالفتح] فقال (انه من عبادنا المخلَصين) والتي تعني الذي استخلصه الله لنفسه بعد أن وجده هو أهلًا لهذا. وهذا يعني علينا أن نقدم النية والعزيمة على الإخلاص في العبودية له تعالى، فما إن نتقرب منه (جل وعلا) بخطوة صغيرة حتى نجده برحمته التي سبقت ووسعت كل شيء يمد لنا كل سبل التوفيق للقدرة على اختيار الصراط المستقيم والسير عليه. ولهذا نجد في عبارة التشهد التي نذكرها يوميًا في الصلاة، أمرنا الله تعالى بتقديم الشهادة للرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) بالعبودية على الرسالة بقولنا (وأشهد أنك عبده ورسوله)، أي إن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) تحققت منه أعلى درجات العبودية فاصطفاه الله تعالى حبيبًا ونبيًا وخاتمًا للرسل. هذا هو معنى العبودية. وأما ما هي مميزات العبد الصالح؟ فلننتقل الى حامل اللواء في يوم عاشوراء والذي اختصه الإمام الصادق (صلوات الله وسلامه عليه) بلقب (العبد الصالح) مسلمًا عليه في الزيارة المخصوصة به (عليه السلام)، لنجد كيف خطت أبيات ارتجلها أبو الفضل (سلام الله عليه) على صفحة الماء التي لم يستطع أحد قبله ولا بعده أن يخط حرفًا واحدًا عليه، تلك الأبيات التي امتزجت في قلوب المحبين وترددت على مر السنين: يا نفس من بعد الحسين هوني *** وبعده لا كنت أو تكوني هذا الحسين وارد المنون **** وتشربين بارد المعين هيهات ما هذا فعال ديني *** ولا فعال صادق اليقين فهنا تجسدت القوة الحقيقية قوة الإيمان و الإرادة، لا بحمل السيف ومجابهة الأعداء بل هي ما رمته تلك الكفوف من الماء مع شدة عطشه بل وتفتّت قلبه، وهذا أمر لا شك فيه فبعد أن قطع صفوف الجيش ووصل الى الماء في ظهيرة يوم العاشر، فإن حالة العطش هي أمر طبيعي جدًا، هذا فضلًا عن كونه لم يشرب الماء منذ يومين، فإن مسألة العطش هي أمر متحقق لا ريب فيه، ولكن لماذا رمى أبو الفضل (سلام الله عليه) الماء ولم يشربه؟ إن عاشوراء مدرسة عقائدية وأخلاقية تجسدت في أبطالها الذين استشهدوا على أرضها، إذ إنهم كانوا على يقين بأنهم ملاقوا الموت لا محالة، فإن الإمام الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) أخبرهم بذلك، فكانوا يطلبون الفوز بالآخرة لا الحياة، وأن شربة الماء هذه لن يكون لها ذلك الأثر العظيم في تغيير مجريات ذلك اليوم لو وقعت، بل على العكس من ذلك فإن عدم شربه للماء أوصل رسالة أخلاقية ومنهجية عبر القرون لتصل ألينا هي رسالة إيثار وولاء. إن العباس (عليه أفضل الصلاة والسلام) لم يكن يتعامل مع هذه القضية بمنظار الأخوة فحسب، وإنما بمنظار الإمامة... إن ابو الفضل (سلام الله عليه) استطاع ان يبلغ تلك المرتبة العالية من العبودية المتصفة بالصلاح لما حققه في أرض الواقع من جهاد للنفس، تلك النفس التي أبت أن تلتذ بشربة الماء وإمام زمانها يتفتت فؤاده من العطش، بل أبى أن يضع رأسه في حجر أخيه الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) مواساةً له وكان يتمنى لو أنه يستطيع أن يحظى بحياة أخرى كي يفدي إمامه ويحمي عياله، محققًا بفعاله الطاعة المطلقة لله تعالى ولرسوله الكريم (صلى الله عليه وآله). فالسلام عليك أيها العبد الصالح المطيع لله ولرسوله ولأمير المؤمنين.
المناسبات الدينيةبقلم: يا مهدي ادركني دور الأم في عاشوراء مما لا شك فيه أن للأم دورًا مهمًا في المجتمع وفي حياة الفرد، وإن لهذا الدور التأثير الأكبر في بناء شخصية الفرد سواء بالنحو الإيجابي أم السلبي، وهذا لا ينفي دور الأب مطلقًا، ولكن الوقت الأكبر الذي يقضيه الولد يكون مع أمه أكثر بكثير مما يقضيه مع أبيه. وعلى هذا الأساس تترتب سلسة من الأمور المهمة التي يجب أن يراعيها كلٌّ من الوالدين لإنتاج شخصيات لها تأثير إيجابي في المجتمع، ومنها: الأول: الاختيار المناسب أي اختيار الزوجة الصالحة والزوج الصالح، وهو من أهم الأمور التي يبتني عليها الزواج الناجح، وقد وضع لنا التراث الإسلامي من خلال الأحاديث الشريفة أسسًا للاختيار الذي يكون بداية مثمرة للزواج، روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: "إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ خُلُقَهُ وَ دِينَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ" (1) فالقاعدة التي وضعها لنا الرسول (صلى الله عليه واله) هي الأخلاق والدين، وهذه القاعدة ليست مختصة بالرجل دون المرأة، فعلى المرأة أيضًا أن تبحث عن الرجل ذي الأخلاق والدين فهو الذي سيكون أبُا لأولادها وسيستقون أخلاقهم ودينهم منه. الثانية: العوامل الوراثية نجد في التاريخ أن الرجل فيما إذا أقدم على الزواج فإنه يختار زوجة من قبيلة اتسم رجالها بصفة القوة والشجاعة إذا أراد أن يكون ولده ذا قوة وبأس، وخير مثال على ذلك عندما أقدم أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) على الزواج بعد استشهاد الصديقة الطاهرة (صلوات الله وسلامه عليها)، حيث ذهب الى أخيه عقيل وطلب منه أن يختار له امرأة من قبيلة معروفة بالقوة والشجاعة لتلد منه أبطالًا يدخرهم لنصرة الإمام الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء، فوقع الاختيار على أم البنين (سلام الله عليها). الثالثة: الوقت المناسب للزواج والمواقعة: فقد وضعت لنا السنة الشريفة آدابًا خاصة بالزواج، فهناك أزمنة يكره أن يتم عقد القران فيها وفي المقابل هناك أيام يستحسن ويستحب إيقاع العقد فيها، وكذلك بالنسبة للمقاربة بين الزوج والزوجة فهناك آداب خاصة لها. الرابعة: فترة الحمل. إن لهذه الفترة تأثيرًا كبيرًا على سلوك الطفل، فهو يتأثر بكلام الأم والبيئة التي تعيش فيها بل وحتى الأفكار التي تعتريها إن كانت إيجابية او سلبية، إذ إنها تحفز بعض الخلايا لإفراز هرمونات معينة ولتلك الهرمونات التأثير الواضح في نمو الطفل، يقول الباحث دانيال جولمان، في كتاب الذكاء الاجتماعي: (مُحال من الناحية البيولوجية على أي جنين من أن يعمل بمعزل عن بيئته، فالجنين يتأثر بعمقٍ بتفاعلاتنا الاجتماعي). وحتى نوع الغذاء الذي تتناوله الأم له تأثير على جنينها، ومما لا شك فيه أن لكون الأم على وضوء مستمر وقراءة القرآن وسماعها لمجالس ذكر الله تعالى وأهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم) أثرًا كبيرًا على سلوك الطفل، فلقد أثبتت الدراسات الحديثة أن الطفل في شهره السادس يسمع ويتحرك وفقًا لصوت أمه وما تستمع إليه. الخامسة: فترة الحضانة والرضاع: وهي من الفترات المهمة جدًا في حياة الطفل، وهناك روايات عديدة عن أهمية الرضاع وكراهة استرضاع الحمقاء لأن الولد يشب أي ينبت لحمه ويشتد عوده على هذا الحليب، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): أنظروا من يرضع أولادكم فإن الولد يشب عليه.(2) وفي حديث آخر عنه (عليه السلام): لا تسترضعوا الحمقاء فإن اللبن يغلب الطباع، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا تسترضعوا الحمقاء فإن اللبن يشب عليه(3). وعنه أيضًا (عليه السلام) كان يقول: تخيروا للرضاع كما تخيرون للنكاح، فإن الرضاع يغير الطباع. (4) ويستحسن أن تكون الأم على طهارة أثناء الرضاع وخلال حملها لولدها، فإن هناك آثارًا معنوية في سلوك الطفل. السادسة: التربية وهي من الأمور الجلية التي لها التأثير الكبير في حياة الأولاد، وقد اهتمت السيرة النبوية بهذا الجانب كثيرًا، وهناك العديد من الكتب التي بينت الأساليب الصحيحة في التربية، ونحن لسنا في صدد الخوض فيها حيث إن الكلام طويل والمقام لا يسع لذلك، ولكن ننقل أمرًا مهمًا وهو في مجال بحثنا وهو تربية الأولاد على حب أهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم) فقد روي عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (أدبوا أولادكم على ثلاث خصال: حب نبيكم، وحب أهل بيته، وقراءة القرآن) (5). وقد اختزل النبي الأعظم (صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله) في هذا الحديث أهمية التربية على حب أهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم) وأهمية التربية العقائدية. السابعة: المجتمع إن للمجتمع دورًا مهمًا في التأثير على شخصية الولد، فعلى الوالدين أن يكونوا واعين في اختيار البيئة المناسبة لأولادهم والتي تبدأ من المدرسة واختيار الصديق المناسب والعلاقات الاجتماعية الأخرى الخاصة بالوالدين، تلك العلاقات التي قد تكون سببًا في انحراف الولد أو ثباته على الطريق الصحيح. وبعد أن بيّنا بعض النقاط المهمة نقول: إن الأم إذا استطاعت أن تلتزم بهذه النقاط الأساسية ستكون قد هيأت الظروف المناسبة لتنمو تلك النبتة وتثمر، ويجب أن لا تتغافل عن العوامل المساعدة من الدعاء والتوسل بأهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم) فإن الدعاء للولد من الأمور المهمة التي تغير مسار حياته، لذا نجد أن الإمام السجاد (عليه السلام) وضع في الصحيفة السجادية دعاءً خاصًا بذلك تحت عنوان (الدعاء للأولاد) وهو دعاء رقم (25). إن توفر كل هذه الأمور أنتج أبطالًا لا يهابون الموت في يوم عاشوراء، ولم يتمسكوا بالدنيا بل لبوا نداء إمامهم، وهذا يكشف عن وجود أمهات كانت لديهم عقيدة راسخة استطعْن أن يزرعنها في قلوب صغارهن منذ نعومة أظفارهم، لتكون ذات جذور قوية لا يمكن قلعها، فقدمن أولادهن نصرة للإمام الحسين (صلوات الله وسلامه عليه)، وفي الحقيقة إن هذا السلوك يكشف عن الإيمان القلبي وعن حب هؤلاء الأمهات لأولادهم، فإن الأم وجدانًا تدفع ولدها الى ما هو فيه نفع له حتى وإن كان على حساب راحتها، فإذا كانت الأم ذات عقيدة صحيحة تستطيع أن تميز الحق؛ لذا فإنهنّ علمن بأن الاستشهاد بين يدي إمام زمانهم هو الفوز العظيم لهم، لذا نجد تلك النساء يتسابقن في تقديم أولادهن ليصرعوا بين يدي إمامهم، ومن هؤلاء النساء: زوجة جنادة الأنصاري، تلك المرأة التي قدمت ولدها (عمرو) بعد استشهاد والده في الحملة الأولى، فرده الإمام الحسين (عليه السلام) حفاظًا على مشاعر أمه، ولكنها قصرت حمائله وأرسلته مرةً أخرى ليستشهد بين يدي إمامه عن عقيدة راسخة. أم وهب بن عبد الله الكلبي، وهو شاب كان نصرانيًا واعتنق الإسلام عندما التقى بالإمام الحسين (عليه السلام) أثناء مسيره الى كربلاء وكان حديث عهد بالزواج فطلبت منه أن يقاتل دون ابن فاطمة (صلوات الله وسلامه عليها) فقاتل حتى قتل هو وزوجته. رملة تلك المرأة الجليلة زوجة الإمام الحسن (صلوات الله وسلامه عليه) التي قدمت ولدها القاسم، ذلك الولد الذي كان يرى أن الموت من أجل عمه أحلى من العسل، وذلك لأنه على اعتقاد تام بأن الحياة بعده ستكون حياة الأخسرين، فقاتل قتالًا شديدًا حتى قتل سلام الله عليه. ليلى وهي امرأة عظيمة القدر زوجة الإمام الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) تلك المرأة التي ربت ولدها عليًا الأكبر (عليهما السلام) وهو أشبه الناس خَلقًا وخُلقًا برسول الله (صلى الله عليه واله) ليكون الدرع الواقي لأبيه الحسين (عليه السلام) وأول شهداء بني هاشم. فمن تلك النساء تتوجه رسالة الى كل امرأة محبة لأهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم) لتسير على نهجهنّ لتكون أمًا مهدوية تهيأ أولادها لنصرة إمام زمانهم، فتقوي أواصر الحب بين صغارها وبين إمامهم من خلال المعرفة العامة، فإن الحب يتولد بعد أن يتعرف الولد على شخص إمامه وكيف أن لتلك الشخصية أثرًا في حياتهم رغم غيبته، وكيف يطلع على أعمالهم وأن أي عمل حسن يدخل السرور على قلبه، هذا بالإضافة الى أهمية تبيين الطاعة المطلقة للإمام (سلام الله عليه) والتسليم له وذلك لأنه ممن اختاره الله تعالى ليكون قائدًا معصومًا لا يخطأ في قراراته فلا مجال للتردد في تنفيذ أوامره. وبهذا تستطيع الأم المهدوية أن تمهد لظهور الإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف) من خلال تهيئة جيش مهدوي ذي عقيدة راسخة. _______________ (1) وسائل الشيعة، ج20، ص76. (2) الكافي6: 44،10 (3) الكافي6: 43،9 (4) قرب الإسناد: 45 (5) كتاب التربية مفهومها وخطواتها العملية، ج1، ص74.
المناسبات الدينيةبقلم: يا مهدي ادركني أما من ناصرٍ ينصرنا؟ أما من معينٍ يعيننا؟ كلمة قالها الإمام الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) قبل 1400 سنة، وإلى الآن نجد صداها يرن في قلوب محبيه، تلك الكلمة التي تسيل الدموع بحرقة عند سماعها، وكيف لا وهي تنقلنا إلى ظهيرة ذلك اليوم المشؤوم الذي وقف فيه سبط الرسول (صلى الله عليهما وآلهما) غريبًا عطشانًا مكثورًا لا ناصر له ولا معين. فهل خسرنا الفوز العظيم بتلبية النداء له (صلوات الله وسلامه عليه)؟ وهل النصرة تتحقق بحمل السيف فقط؟ وهل كلمة الإمام (سلام الله عليه) كانت على نحو القضية الحقيقية أو الخارجية؟ وهناك أسئلة كثيرة أخرى ترد حول هذه الكلمة التي خرجت من تلك الحنجرة الطاهرة، وأوقعت الحسرة والندامة في قلوب محبيه. لنأخذ الأسطر بحثًا عن إجابات تلك التساؤلات. الناصر: اسم فاعل مشتق من الفعل (نَصَرَ) وجمعها أنصار، ويقال: نصر مظلومًا أي أعانه وأيده، قال تعالى في كتابه الكريم (وما لهم من ناصرين) (1) يتبين أن من يطلب الناصر هو شخص وقع عليه الظلم ويطلب النصرة ممن يستطيع أن يمد يد العون له، ومن يلبِّ هذا النداء يكن ناصرًا له، فإن كان على حق فإنه يفوز الفوز العظيم حتى وإن قُتل، فإن الفوز هو من عند الله تعالى، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): ما من مؤمن يعين مؤمنا مظلوما إلا كان أفضل من صيام شهر واعتكافه في المسجد الحرام، وما من مؤمن ينصر أخاه وهو يقدر على نصرته إلا نصره الله في الدنيا والآخرة، وما من مؤمن يخذل أخاه وهو يقدر على نصرته إلا خذله في الدنيا والآخرة.(2) فكيف إذا كان المظلوم هو سيد شباب أهل الجنة! ومعه فنقول: إن نداء الإمام الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) لم يكن بنحو القضية الخارجية وإنما بنحو القضية الحقيقية. وبعبارة أخرى: اعتقد أن خطاب الإمام الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) لم يكن خاصًا بمن طرق سمع أذنه تلك الكلمة في تلك الواقعة خارجًا، وإنما المراد منه هو كل من وصله ذلك النداء سواء كان في زمن النداء أم لم يكن، ففي قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا أقيموا الصلاة) أمر إلهي بإقامة الصلاة، وهو ليس مختصًا فقط بمن كان في زمن نزول تلك الآية الشريفة، وإنما هو أمر تكليفي لكل من آمن بالله تعالى الى يوم الدين. والإمام الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) عندما نادى بهذا النداء، كان يريد أن ينصره كل من سمع به حتى وإن مرت الدهور عليه، فكل من وقع صدى هذه الكلمة في نفسه، يجب أن تهزه من أعماقه ليفر من بحر الذنوب إلى نبع التوبة ليغتسل ويتطهر بدماء الحسين (عليه السلام). فهناك من يقول ويعترض من شدة لوعته وحبه لإمامه، لماذا لم أُخلق في ذلك الزمن فأنصره ببدني ودمي؟ أيها المحب، إن واحدة من صفات الله تعالى أنه مريد، ومن معاني الإرادة هو (العلم بما فيه الفعل من مصلحة)، ولتوضيح وبيان ذلك نقول: غن الله جل وعلا لديه العلم المطلق والإرادة، وحيث إنه علم أن من المصلحة لك أيها المحب أن لا تكون في ذلك الزمن بل من المصلحة أن تكون في هذه الحقبة الزمنية وفي هذه البقعة المعينة التي منها تستطيع أن تلبي نداء الإمام (صلوات الله وسلامه عليه) فليهدأ قلبك فإن فرصة الفوز لا زالت متاحة، ولكن لا تغفل عنها. إن نصرة الإمام (سلام الله عليه) لها مصاديق عديدة فهي لا تنحصر بالسيف فقط، ولا بزمن دون آخر، ولا بالرجال دون النساء، فإن مولاتنا زينب (صلوات الله وسلامه عليها) نصرت أخاها الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) رغم كونها امرأة (حيث لا جهاد على المرأة) ولكنها نصرته بلسانها ومنطقها ومواقفها، لم تمل عن الحق ولم تترك ثغرة مظلمة حتى أضاءتها وسلطت نور الحقيقة عليها. إن ثورة الإمام الحسين في الحقيقة هي ثورة مستمرة لا تنتهي ولا تنقطع باستشهاده (سلام الله عليه) وذلك لأن لها أهدافًا لم تتحقق بعد، فإن شعار الإمام (عليه السلام) كان هو الإصلاح في أمة جده (صلى الله عليه وآله) وذلك لما انتاب تلك الأمة التعيسة من ذل أصابها نتيجة خذلانها لأئمة الحق والهدى، لذا فإنه (صلوات الله وسلامه عليه) أراد أن يوقظ تلك الأمة من غفلتها، ولكن هذا الإصلاح لم يتحقق بعد، لا لكون الإمام (صلوات الله وسلامه عليه) غير قادر على ذلك، أو ليس أهلًا لذلك، حاشا وكلا، بل إن العجز في المتلقي لا في المقتضي، لذا فإن ثورة الإصلاح هي ثورة حسينية الابتداء مهدوية التحقق. فكل من يتوق إلى تلبية نداء الإمام الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) نقول له: إن الوقت لم يفت بعد، فلك أن تلبي النداء لولده المهدي (عجل الله تعالى فرجه)، وذلك من خلال التمهيد لظهوره المبارك، فاسع إلى إزالة الشوك والعقبات عن ذلك الطريق من خلال التزامك بتعاليم الدين وإقامة حدود الله، بفعل الواجب وترك المحرم ونهي النفس عن الهوى. قوِّ ذلك القلب النابض بحبهم (صلوات الله وسلامه عليهم)، ولتكن مستعدًا للظهور، وهيأ البلاط لمن سيأتي بعدك، مسلّمًا له راية الإصلاح. إن للنصرة أوجهًا عديدة، قد تكون بكلمة أو موقف حق تتمسك به، لكي لا يختلط الحق بالباطل، أو باختيار زوجة صالحة لتكون أمًا ممهدة بتربيتها لأنصار يحملون راية الإصلاح تحت راية إمامهم. فالسلام على من لم يكن له ناصرٌ... لَبَّيْكَ دَاعِيَ اللَّهِ إِنْ كَانَ لَمْ يُجِبْكَ بَدَنِي عِنْدَ اسْتِغَاثَتِكَ وَ لِسَانِي عِنْدَ اسْتِنْصَارِكَ فَقَدْ أَجَابَكَ قَلْبِي وَ سَمْعِي وَ بَصَرِي(3). ______________ (1) سورة آل عمران: آية (22). (2) البحار، ج75،20،17. (3) زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) المخصوصة بالنصف من رجب
المناسبات الدينيةبقلم: يا مهدي أدركني أسرار الدعاء يوم عاشوراء لما نظر الإمام الحسين (عليه السلام) إلى جيش يزيد يوم العاشر من محرم، رفع يده الى السماء وقال: اللهمّ، أنت ثقتي في كلّ كرب، ورجائي في كلّ شدّة، وأنت لي في كلّ أمر نزل بي ثقة وعدّة، كم من همٍّ يضعف فيه الفؤاد وتقلّ فيه الحيلة ويخذل فيه الصديق ويشمت فيه العدوّ، أنزلته بك وشكوته إليك، رغبةً منّي إليك عمَّن سواك فكشفته وفرّجته، فأنت ولي كلّ نعمة ومنتهى كلّ رغبة. لو وقفنا نتأمل قليلًا في كلمات الإمام الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) لطال الوقوف عليها، ففي كل كلمة بحر من المواعظ والدروس والعبر، هكذا هو خط الرسالة، رضا وتسليم وعشق لذات الله المقدسة، فما هو سر تمسك الأنبياء والأولياء بالدعاء؟ ابتداءً علينا أن نفتش في كتب اللغة عن معنى الدعاء. الدعاء مصدر من مادة (دعو) فيقال: دعوتُ الرجلَ، وهو الميل له بصوت وكلام. أما الدعاء في الدين، فهو بمعنى بالميل والرغبة الى الله تعالى، ويكون أما لنزول الخير أو لكشف الضُر. وقد أمر الله تعالى عباده بالدعاء في كتابه الكريم فقال (عز من قائل) (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (1)، وقال (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ، أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ، فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (2) ونهى عباده عن الدعاء والطلب من غيره (جل وعلا) فقال (وَلَا تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ، فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ) (3). نخلص الى أن الدعاء هو من الأمور المحمودة إذا كان العبد يميل ويتذلل ويرغب الى خالقه، وفي الطرف المقابل نجد أنه من الأمور المَعيبة التي نهى الله تعالى عنها عباده فيما إذا كانت لغيره (جل وعلا)، وفي هذا الأمر فائدتان -أخلاقية وعقائدية- في آن واحد. أما الأخلاقية: فإن الله تعالى أودع في داخل الإنسان قوى متعددة، فإن أحسن استعمالها ارتفع في سلم الكمالات، وإلّا فإنه يقع في شراك إبليس، ومن أخطر هذه الأمور هو (الكبر) الذي هو في قبال الذل، فإن دعاء الرجل لغير الله (عز وجل) مذلة له، حيث إن من يدعوه إن كان صالحًا فقد كان عليه أن لا ينتظر من أخيه المسلم أن يريق ماء وجهه وعندها فلا حاجة للدعاء والتوسل بل يبادر فورًا في قضاء حجاته قبل أن يسأله، وأما إن كان غير ذلك فعندها سيذل ذلك الرجل، وهو سلوك غير أخلاقي، فإن الله تعالى كرم النفس الإنسانية بصورة عامة والمؤمنين بصورة خاصة. أما العقائدية: فهي التأكيد على أنه ليس هناك موجود قادر على تلبية أو تحقيق مطلبك غير الله تعالى، فمهما بلغ ذلك الشخص الذي تدعوه من القوة والسلطة إلّا أنه في ذاته محتاج الى الله تعالى بل هو غير قادر على دفع المرض عن نفسه فكيف يدفع عنك، ففرعون -الذي ادعى الربوبية- لم يستطع أن يشفيَ ابنته الوحيدة التي كانت تعاني من مرض عضال، فنحن محتاجون في أصل وجودنا واستمراره الى الله (جل وعلا)، أما ما نقوم به من قضاء حوائج الناس فما نحن فيها إلا أسباب وضعها الله تعالى، وقد أمر الله تبارك وتعالى أن نتمسك بالأسباب، فنحن مجرد أسباب تسخر لقضاء حوائج الآخرين ولا يمكن أن نستغني عن هذه الأسباب ولكن يجب أن نثبّت بأن هذا السبب هو بتسخير منه (جل وعلا). فالدعاء هو أمر متعلق بالذات المقدسة فقط ومنحصر بها، وهو أمر قد أكد عليه القرآن الكريم من خلال سرد قصص الأنبياء والصالحين وكيف أن الإنسان بعد أن تُغلق عليه الأبواب جميعها لن يجد أمامه سوى هذا الباب الذي لا يغلق أبدًا، وهو باب الرحمة الإلهية والرجاء به (جل وعلا)، وأعتبر أن القنوط من رحمته إثمًا عظيمًا، وذلك لما ينطوي تحته من اعتقاد ملوث بكون الله تعالى غير قادر على تحقيق مراد هذا الفرد وحاشا الله تعالى، فإنه (جل وعلا) هو القادر على كل شيء، ولكن قد يمسك الله تعالى الدعاء ويؤخر الإجابة وذلك لمصلحة وحكمة لا يعلمها العبد، فعن الإمام زين العابدين (صلوات الله وسلامه عليه) قال: المؤمن من دعائه على ثلاث: إما أن يدخر له، وإما أن يعجل له، وإما أن يدفع عنه بلاء يريد أن يصيبه. (4) فقد يمنع الله تعالى الإجابة لعدة أسباب منها: الأول: حيث إن الدعاء هو خطاب موجه من العبد الى ربه فلا بد له من آداب على من يريد أن يحصل على الإجابة أن يلتزم بها، وقد ذكرتها روايات أهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم) ونذكر البعض منها على نحو العجالة: 1- البسملة أي أن يبتدأ المؤمن بقول (بسم الله الرحمن الرحيم). 2- الصلاة على النبي محمد وعلى آله الطاهرين والختم بها أيضًا، فإنها مجابة، وإن الله سبحانه وتعالى يستجيب ما بينهما كما ذكر في الروايات الشريفة. 3- الحمد والثناء على الله تعالى، وهذا ما نجده في أغلب أدعية المعصومين (صلوات الله وسلامه عليهم). 4- التوسل بالصالحين. 5- الإقرار بالذنب، والتضرع والتذلل له (جل وعلا). 6- اختيار الأزمنة والأمكنة التي هي من مظان إجابة الدعاء. 7- تقديم الدعاء للآخرين على الدعاء للنفس. 8- وحسن الظن بأن الله تعالى سيستجيب الدعاء. وهناك أمور أخرى كثيرة يطول المقام فيها، فإن التزم العبد بهذه الأمور فقد حقق بعضًا من شروط إجابة الدعاء. (5) الثاني: هناك بعض الأمور التي تحجب الدعاء وتمنع الإجابة فتكون عائقًا من إيصال الدعاء ومنها: أولًا: الذنوب، فإن أذنب العبد بعد أن دعا الله تعالى أمسك الله عنه لذنبه فعن أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) أنه قال: "لا تستبطئ إجابة دعائك وقد سددت طريقه بالذنوب" (6) وفي دعاء كميل المروي عن أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) يقول: (اللهم اغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء) فهنا إشارة منه (صلوات الله وسلامه عليه) على أن هناك ذنوبًا معينة تكون كالأغلال التي تقعد بالدعاء وتمنع من ارتفاعه واستجابته، وقد سُئل الإمام الصادق (صلوات الله وسلامه عليه) عن تلك الذنوب فقال: "سوء النية والسريرة، وترك التصديق بالإجابة والنفاق مع الإخوان وتأخير الصلاة عن وقتها". وهنا لا بد أن نشير إلى أن المؤمن يجب أن لا يستصغر الذنوب وإنما عليه أن ينظر إلى من يعصي وإلى عظمته، فمهما كان الذنب صغيرًا إلّا أنه قد يتحول إلى ذنب عظيم لعظمة الخالق، وعلى المؤمن أن يجنب نفسه من الصغائر لأنها مع الإصرار والتكرار ستكون كبيرة كما هو مشار إليه في روايات أهل البيت (عليهم السلام). ثانيًا: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: إن الدين الإسلامي متكون من ثلاثة محاور أساسية وهي: أصول وفروع وأخلاق، وإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروع الدين ولكن للأسف نجد الكثير ممن يتهاون ويستخف بهما، على الرغم من أن لهما ذات الأهمية التي لبقية الفروع الأخرى، ومن يتركهما وهو قادر على الإتيان بهما فإن له عقوبة معجلة في الدنيا قبل الآخرة، فقد روي عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) أنه قال: "إذا لم يأمروا بمعروف ولم ينهوا عن منكر ولم يتبعوا الأخيار من أهل بيتي، سلط الله عليهم شرارهم، فيدعوا عند ذلك خيارهم فلا يستجاب لهم" (7) لذلك فإن الإمام الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) وقف بوجه المنكر وأمر بالمعروف وبذل في ذلك نفسه وأولاده وأصحابه حفاظًا منه على الدين من الاندثار. فالدعاء إذن هو الصلة الرابطة بينه وبين خالقه، وإن له أثرًا في نفس العبد حتى وإن لم يستجب منه، إذ سيستشعر وجود الرب قريبًا منه، فهو ليس بحاجة إلى رفع صوته بل تكفي المناجاة في عتمة الليل لينسج من تلك الهمسات المختلطة بدموع الاستغفار كلمات يستنير بها قلبه وتقوّيه على الثبات في طريق الحق، كما قال الإمام الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) في دعائه يوم عرفه (ما ذا وجد من فقدك؟ وما الذي فقد من وجدك؟ لقد خاب من رضي دونك بدلًا)، فبتأمل بسيط لهذا المقطع من دعاء الإمام (عليه السلام) نجد السبب المهم الذي كان وراء وقوفه (عليه السلام) بقوةٍ وإباء لم يخشَ ضخامة الجيش أمامه لأنه على يقين من أنه مع الله (جل وعلا)، وأنه على الحق، فمهما اشتدت الظروف وكثر الظلم والجور عليه، إلا أنه كان يعلم بأن كل ذلك بعين الله تعالى، لذا نجده في كل حركاته وسكناته، ابتداءً من انطلاقه من المدينة وحتى عند لفظ أنفاسه الأخيرة ظهيرة عاشوراء كان لسانه يلهج بالدعاء، هائمًا بذكر الله تعالى منشغلًا عن آلامه شوقًا لملاقاته. إن قوة العبد المؤمن تكمن في قربه الدائم من ربه وخالقه، فلو كان للإنسان شخص يحبه ويمتلك من القوة الجسدية والاجتماعية التي تجعل الناس تهابه وتخشاه، تجد ذلك الإنسان يستمد القوة منه فيما إذا تعرض لموقف ما، كما هو الحال عندما يتوجه الطفل الصغير الى حضن والديه عند تعرضه لأمر ما، فكيف إذا كان المؤمن على علاقة متينة مستمرة بالقوي العزيز، لذا نجد هناك تأكيدًا على الدعاء وأنه سلاح الأنبياء والصالحين، وأن الله تعالى ليحب صوت عبده المؤمن حين يناجيه، وملائكة السماء تستأنس بصوته وتألفه لأنه يدعو الله تعالى في الشدة والرخاء، فإن الحاجة الى الدعاء ليست فقط لقضاء حاجة أو رفع بلاء، بل إن الحاجة إليه أعظم من ذلك فإن أردت -أيها المؤمن- أن تدوم النعم عليك فلا تنقطع عن مناجاة ربك. في الختام نقول: ليس هناك إلزام بأن يكون الدعاء بصيغة معينة خاصة، بل لك أيها المؤمن أن تدعو بما شئت، وكلما اقترب العبد من ربه وعرفه حق معرفته دعاه بلسان أجمل، إلا أن الدعاء حيث إنه مفتاح الإجابة، فينبغي أن يكون من حيث مصدره المعصوم، وليس هناك من يعرف الله تعالى أفضل من أهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم)، لذا فمن أراد أن يتقن الدعاء ويضمن الإجابة ويستلذ بتلك المناجاة فليغرف من ينابيعهم وينهل منها، فإن كلامهم نور يضيء القلوب حتى وهم في أحلك الظروف وفي أصعبها، فما أجملها من كلمات ختم بها سيد الشهداء (صلوات الله وسلامه عليه) حياته: اللهم متعال المكان عظيم الجبروت شديد المحال غني عن الخلائق عريض الكبرياء قادر على ما تشاء، قريب الرحمة، صادق الوعد، سابغ النعمة، حسن البلاء، قريب اذا دُعيت، محيط بما خلقت، قابل التوبة لمن تاب إليك، قادر على ما أردت، تدرك ما طلبت شكور إذا شُكرت، ذكور إذا ذُكرت، أدعوك محتاجًا وأرغب إليك فقيرًا، وأفزع إليك خائفًا وأبكي مكروبًا، وأستعين بك ضعيفًا وأتوكل عليك كافيًا، اللهم أحكم بيننا وبين قومنا فإنهم غرونا وخذلونا وغدروا بنا وقتلونا ونحن عترة نبيك وولد حبيبك محمد بن عبد الله الذي اصطفيته بالرسالة وائتمنته على الوحي، فاجعل لنا من أمرنا فرجًا ومخرجًا يا أرحم الراحمين. _______________ 1- سورة غافر، آية (60). 2- سورة البقرة، آية (186). 3- سورة يونس، (106). 4- تحف العقول-ابن شعبة الحراني- ص280. 5- منقول من شرح الشيخ حسين الأسدي لدرس عقائد الإمامية، (عقيدتنا في الدعاء). 6- غرر الحكم. 7- آمالي الصدوق، 254/2.
المناسبات الدينيةبقلم: يا مهدي أدركني هذه الكلمة أمست ملازمة لبلدي فإن جراحه لا تلتئم كلما هبت نسائم السلم لتحنو عليه وتضمد جراحه أوقفها لهيب الحقد ليفتح جراحه مرة أخرى وينثر عليها ذرات ملح من بحر الآلام بلدي رغم جراحه وتهشم أضلاعه المحنية، إلا أنه يضم قلب أيتامه الصغار بلدي الذي حاولوا أن يقطعوا ذراعيه إلا أنه بقي محيطًا بأرامله وكلما تشققت أرضه عطشًا يبقى هو بلد الرافدين ذلك العطش الذي أصبح سمة له منذ أن قتل سبط الرسول عطشانًا هب أولاده ليسقوه من دمائهم كما سُقيت ارض كربلاء من دماء سيد الشهداء والآن إذا ما رفعت رأسك لتنظر إلى سمائه تجد فيها رسمًا من ألوان الحزن المختلطة بدموع الأمهات ومحاطة بدخان من لهيب قلوب الآباء. حتى تهب الرياح لتحمل معها شذى تلك الدماء الزاكيات آه يا وطني متى أراك تقف بدون عكازات وعلى وجهك دموع الفرح وأسمعُ ضحكات الصغار والأمهات!
اخرىبقلم: يا مهدي ادركني قال أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه): البُخْلُ عَارٌ، وَالجُبْنُ مَنْقَصَةٌ، وَالفَقْرُ يُخْرِسُ الْفَطِنَ عَنْ حُجَّتِهِ، وَالْمُقِلُّ غَريبٌ فِي بَلْدَتِهِ. إن حسن الأخلاق هو أمر متفق عليه لدى جميع الديانات والمذاهب، بل ويُقِر به حتى من لا دين له، فهو أمر عقلائي يستحسنه العقل وأمضته الشرائع السماوية وغيرها. ولكن قد يتعرض هذا الأمر إلى بعض العوامل الخارجية التي قد تصيبه وتشوه حقيقته كما يصيب الماس الغبار فيبهت وتذهب إشراقته، ولكي يستعيد لمعانه يحتاج إلى ما يزيل ذلك الغبار عنه ليعود مشرقًا. وهكذا هي الأخلاق، فهي تتعرض بعض الأحيان إلى عوامل خارجية تؤدي إلى تشويهها، ومن أجل الحفاظ عليها لتكون ذات طابع إيجابي مؤثر، فعلينا الاقتداء بأهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم) وذلك من خلال متابعة سيرتهم وأقوالهم التي هي كحديقة غناء ينتشر شذاها ليصل إلى من يرغب بالتزود منها. هذا فضلًا عن كون بعض تلك الأخلاق قد تنزل منزلة الوجوب أو الاستحباب المؤكد في الشريعة الإسلامية وقد تكون ذات خطوط حمراء يلزم عدم تجاوزها، لذا نجد أن أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) أكد عليها في كلماته القصيرة ذات المعاني العظيمة، ولم تخفَ هذه الحقيقة عن الشريف الرضي (رضوان الله تعالى عليه) الذي قطف تلك الحكمة وجعلهما من ضمن باقة الحكم القصار في نهج البلاغة. وبالتفاتة سريعة إلى هذه الحكمة نجد أنها مؤلفة من ثلاثة فصول: الأول: في البخل. الثاني: في الجبن. والثالث: في الفقر. الفصل الأول: البخل معنى البخل: قيل في معناه اللغوي بضم الباء هو منع الفضل والإمساك حيث ينبغي البذل (1)، وهو ما يقابل الجود والكرم. أما في الشريعة فهو منع الواجب من الحقوق (2). وهنا إشارة: أن جميع الصفات التي يصح أن نصف بها الإنسان يجب أن يكون قابلًا لها، وهذا يعني: أن الإنسان إذا لم يكن لديه ما يبذله فلن تصدق عليه صفة البخل، وذلك لأن سبب عدم بذله ليس بخلًا وإنما هو قلة ذات اليد، وإلا فلربما لو كان لديه ما يبذله لأنفق وأعطى. أسباب البخل: إن لكل مرض -ماديًا كان أو معنويًا- عوامل وأسبابًا تؤدي إلى الإصابة به، وإن من أهم أسباب البخل هو حب الدنيا والتعلق فيها، وأن حب المال من أبرز مصاديق الدنيا، ولكن هذا لا يعني أن البخل منحصر في عدم إنفاق المال وحسب، بل قد يكون له أوجه أخرى، فكل رزق من الله تعالى لعبده من قوة وجاه وعلم وما إلى ذلك من النعم التي لا تعد ولا تحصى تعتبر مورد من موارد السخاء أو البخل، فقد قال الله تعالى في كتابه الكريم { لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم 7] وشكر النعم ببذلها وإنفاقها. وقد يكون من أحد أسباب البخل هو عدم الإيمان الفعلي بكون الله تعالى هو الحي الرازق، فتجد البخيل يتجنب الإنفاق خوفًا من نفاذ ما لديه ناسيًا بأن من رزقه الدرهم الأول هو نفسه الذي سيرزقه الثاني والثالث، أو قد يكون شاكًا في قدرة الله عز وجل على أن يرزقه مجددًا فتراه ممسكًا بقبضة من حديد، لأنه يخاف الفقر. وللبخل أنواع (3) الأول: وهو البخل بأداء الواجبات. كما هو معلوم فإن في الشريعة الإسلامية أحكامًا إلزامية، ولازم على المكلف أن يأتي بما هو واجب منها والاجتناب عن المحرم منها، وإلا يكون آثمًا مستحقًا للعقاب، ومن ضمن هذه الواجبات: النفقة الواجبة –كنفقة الزوجة والأولاد وما شابه ذلك- فإن أمسك عنها المكلف كان آثمًا، ومنها الخمس أيضًا وله باب خاص في الفقه، وقد جاء في روايات أهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم) أنه من أمسك حق الخمس كان ظالمًا غاصبًا لهم، و أن من أكل علينا درهمًا واحدًا فهو ظالم غاصب لنا. (4)، وكل من يمسك عن نفقة واجبة من زكاة أو ما أوجبه الفرد على نفسه من نذر واجب يعتبر آثمًا، أما من أمسك عنها لأنه ينكر وجوبها فهو خارج عن ربقة الإيمان. الثاني: البخل في المستحبات. وهو أقل درجة من النوع الأول فإن البخيل من هذا النوع هو من يبخل عن التوسعة على أهله وعياله او على نفسه، وقد يبخل عن الصدقات المستحبة بكل أنواعها، وهذا النوع لا يكون به آثمًا، ولكنه مستقبح عرفًا، فإن العرب بصورة خاصة عرفوا بالكرم والجود والسخاء وكانوا يطلقون على السخي (كثير الرماد) كناية عن كثرة ضيوفه، وإذا أرادوا أن يمدحوا شخصًا فإن صفة الكرم تتصدر المدح، وأما العكس فيكون بذم الشخص بالصفات الرذيلة ومن أرذلها صفة البخل. الثالث: البخل على النفس بالحسنات. وهو نوع ثالث من المحتمل أن يكون مصداقًا للبخل، فإن بخل المرء على نفسه بالحسنات التي ستكون هي زاده في الآخرة من أشد أنواع البخل ومما يورث الحسرة والندامة، فقد تجد البخيل يمسك حتى عن الابتسامة والتي هي من أهون أنواع الصدقة ولكنك تجده ذا وجه عابس حتى على أقرب الناس اليه. آثار البخل على الفرد والمجتمع: مما لا ريب فيه أن لكل فعل ردة فعل، ولكل وقع قدم أثرًا، وللنور شعاعًا، ولكل زهرة عطرًا، وهكذا نجد لكل أثر مؤثرًا، وهكذا الحال حتى مع الرذائل فهي تترك اثارًا ايضًا وان كانت غير مرغوب فيها. اما الاثر الفردي فله جانبان: الأول: وهو ما يكون نتيجته في الدنيا فيكون البخيل عادةً وحيدًا لا يرغب بمعاشرة الاخرين خوفًا من الحقوق التي يجب أن يؤديها لهم، فإن على من يعيش ضمن عادات واعراف المجتمع عليه ان يؤدي بعض الواجبات كتبادل للهدايا في المناسبات العامة والخاصة، فكيف بمن يشح على الاخرين بالابتسامة! هذا فضلًا عن كون البخيل يعيش عيشة الفقراء ويحاسب حساب الأغنياء فهو يحرم نفسه من ملذات الحياة التي قد أحلها الله تعالى له، فعن أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) أنه قال: "عجبت للبخيل يستعجل الفقر الذي منه هرب، ويفوته الغنى الذي إياه طلب، فيعيش في الدنيا عيش الفقراء، ويحاسب في الآخرة حساب الأغنياء"(5). الثاني: وهو اثر أخروي حيث ان الشريعة الاسلامية ذمت البخل فنجد الكثير من الروايات الشريفة والآيات الكريمة التي مقتت الكفر وبشدة فبعضها جاءت بالتحذير والاخرى بالوعيد، فقد اشارت بعض الروايات إلى ان قلب المؤمن لا يكون مرتعًا للبخل ابدًا، فعن أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه): "لا يجتمع شح وإيمان في قلب مؤمنٍ أبدًا" (6). واخرى نزَّلت البخل منزلة الكفر فقد قال عز من قائل {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا} [النساء:37] وفي هذه الآية الكريمة إشارة إلى البخل المركب وهو البخيل الذي يأمر الناس بالبخل فإن الله تعالى يخاطبهم بصفة الكافرين وينذرهم بأنه أعد لهم عذابًا أليمًا ، وفي بعض الروايات نجد تحذير بأن البخيل لا يشم رائحة الجنة فعن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) قال "لا يدخل الجنة بخيل ولا خائن ولا منان) (7). وقد يبدو للوهلة الأولى أن هذا الوعيد مبالغ فيه ولكن اذا ما رجعنا إلى جذور البخل وانواعه لوجدنا البخيل يكون تاركًا لأحكام إلزامية عنادًا او لعدم اعتقاده بصدق الشريعة كما تقدم. اما الأثر الاجتماعي: وهو من الاثار ذات الأمد الطويل، أي قد تكون نتائجها بعيدة زمانيًا ولكنها قد تحدث وتسبب أضرارًا اجتماعية جسيمة، فإن البخيل عندما يمسك عن احتياجات اولاده فليكن في حسبانه أن نتاج ذلك هو أن يكون اولاده عدائيين، لأنهم سيجدون أقرانهم متنعمين بالملذات وفي المقابل هم محرومون من أبسط الحقوق نتيجة بخل أبيهم، وقد تطور هذه العداوة من الكراهية والمقت إلى الانتقام لتتولد نفس شريرة ترغب بالحصول على كل ما في يدي أقرانها حتى ولو بالسرقة. علاج مرض البخل: قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم {الم (1) ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(3)} [سورة البقرة] قالوا: إن الوقاية خير من العلاج، وإن الله تعالى في كتابه الكريم بيَّن صفات المؤمنين ومنها صفة الإنفاق، تلك الصفة التي أمر الله تعالى عباده لتكون زكاة لهم وتطهرهم وتحصن قلوبهم من الأمراض المعنوية، وإلا فمن غرته الدنيا بمالها وجمالها وصد عن أحكام الله تعالى فقد وقع في فخ هذه الدنيا، ولأجل أن يخرج من هذا الفخ ويقف على قدميه مجددًا عليه أن يخرج حب الدنيا من قلبه وذلك من خلال تأمله لأحوال البخلاء الذين سبقوه وكل من جمع ماله وتركه لأهله يرثوه ولم يأخذ من هذه الدنيا سوى كفنه وتلك الصدقات التي كان شحيحًا على نفسه بها، فإن طال تأمله فسخ عقد البخل مع الشيطان ورجع إلى صوابه ليملأ قلبه الإيمان ويتلذذ بالعيش الرغيد هو ومن حوله. فإن استقر الإيمان في قلبه صار متيقنًا بأن الله تعالى هو الحي الرزاق فلن يخاف الإنفاق بعد ذلك، فعن أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) يقول "ومن أيقن بالخلف جاد بالعطية" (8). ولكن لابد من أن نشير إلى أن الإنفاق يجب أن يكون عن طيب قلب وأن لا يلحقه بمنة او أذى وإلا كان هباءً منثورًا. فقد كان أمير المتقين (صلوات الله وسلامه عليه) دقيقًا في وصفه، حيث ألحق البخل بالعار لأن البخيل يركبه العار في الدنيا لكونه متصفًا بأقبح الرذائل وفي الآخرة لأن مؤداه دخول النار التي كانت عارًا لمن كان واردها. ___________________ (1) جامع السعادات للشيخ النراقي/ الجزء الثاني/ ص110. (2) أنوار الحكم ومحاسن الكلم للعلامة الشهيد السيد حسن القبانجي/ الجزء الأول/ ص59. (3) المصدر السابق/ ص66. (4) نفس المصدر/ ص67. (5) نهج البلاغة:4/34/ منقول من نفس المصدر السابق. (6) الغدير/2:174/ منقول من المصدر السابق. (7) مستدرك الوسائل:7/233/ منقول من نفس المصدر. (8) نهج البلاغة: الحكمة 135.
اخرىبقلم: يا مهدي ادركني الفصل الثاني قوله (عليه السلام): (والجبن منقصة) المفردة الأولى الجبن لغةً: ضد الشجاعة، والجبان من الرجال هو ضعيف القلب الذي يهاب التقدم على الأشياء، وقيل: هو الخوف مما لا ينبغي. والخوف إلى قسمين: الخوف الحسن: وهو الخوف مما ينبغي منه الخوف، وهو أمر عقلائي ونعمة من نعم الله تعالى، فإن كان الإنسان لا يشعر بالخوف فقد يرمي نفسه في التهلكة، ولذا قال العقلاء (أن المعرفة واجبة لدفع الضرر المحتمل وقوعه)، وهذا الشعور هو أحد أسباب وجوب المعرفة، وإن من أفضل الفضائل هو الخوف من الله تعالى. الخوف القبيح: وهو الجبن بعينه وهو من الرذائل، فهو الخوف مما لا ينبغي وهي صفة مذمومة للرجل والمرأة بصورة عامة وللرجل بصورة خاصة. ويظهر أن للجبن معنيين في اللغة: ما هو ضد الشجاعة وما هو ضد الغضب (الخوف)، وقد يكون أحدهما مؤدياً للآخر، وفي الأغلب يكون الخوف نتيجة الجبن، حيث أن الجبن كما جاء في تعريفه عن صاحب جامع السعادات للشيخ النراقي (قدس سره) [هو سكون النفس عن الحركة الى الانتقام أو غيره، مع كونها أولى] (1). أما الخوف فهو اضطراب للنفس والشعور بالألم ، وهو توقع أمر مريب فتتخوف النفس من الوقوع فيه، وغالبًا ما يكون أمرًا مجهولًا للنفس، وعادةً السكون يسبق الاضطراب، فالهدوء يسبق العاصفة، وعليه قد يكون للجبن مراحل ودرجات. أسباب الجبن: إن للجبن أسباباً كما هو الحال في بقية الآفات التي تصيب الأنسان، وإذا عرف السبب قد يتمكن الإنسان من معالجة نفسه أو تفادي هذه الأسباب في المستقبل. ممكن أن تكون الأسباب المؤدية الى الجبن على ثلاثة أقسام، وذلك بحسب الجانب الذي ترتبط به، فقد تكون اجتماعية تربوية، وقد تكون دينية، وقد تكون معرفية، ولتوضيح الأمر: المنشأ الأول: الاجتماعية التربوية: لا شك إن للمجتمع والتربية تأثيرًا واضحًا على مسار الفرد وسلوكه بل وحتى على تركيب شخصيته، فإن من يولد في مجتمع يشتهر بالعلم والحكمة تجد ميوله –عادة- منذ نعومة أظافره تتجه الى طلب العلم والارتواء منه، والعكس صحيح، هذا فضلًا عن المؤثر المباشر في شخصية الطفل: (الأم والأب) إذ لهما الدور الأكبر في رسم ملامح تلك الشخصية وترسيخ المبادئ الجيدة او غير الجيدة تبعًا للشخصية الأساسية (شخصية الأبوين)، فإن الطفل كقطعة من الإسفنج فإن وضعت في ماء نقي امتصته وإن وضعت في ماء متسخ امتصته أيضًا فتتسخ هي بالنتيجة. وهنا يكون التأثير في بناء تلك الشخصية وفق محورين على كلا المستويين: الاجتماعي او الأسري، وهما: المحور الأول: إذا كانت البيئة المحيطة لهذا الولد تستخدم أساليب العنف والترهيب مع الطفل وعدم السماح له بالحوار باعتباره مازال صغيرًا ولا حق له في إبداء رأيه، ينتج عن ذلك شخصية ضعيفة هزيلة لا تملك القوة على المواجهة. وقد تكون ثقافة تلك البيئة هي ثقافة (المعلبات) والمقصود بهذا هو حد الإفراط في تدليل الطفل فمن شدة حب الأبوين له لا يتركانه يخوض أي تجربة خوفًا عليه من الانكسار النفسي، ولكن في الحقيقة الذي ينتج من هذه الثقافة هو طفل معاق نفسيًا لأنه يكون غير قادر على مواجهة الحياة، لأنه كان دومًا داخل تلك الزجاجة التي وُضع فيها، فما إن تنكسر تلك الزجاجة لفقدانه الأبوين او نتيجة استقلاله، إلا وتجد أبرز ملامح تلك الشخصية هي الجبن. المحور الثاني: وهو من الممكن أن يندرج تحت تسمية (العدوى) ومعنى ذلك أن يكون الفرد او المجتمع الذي يعتني بتربية ذلك الطفل مصاباً بتلك الصفة (الجبن) وحيث أن الطفل كالمرآة ينعكس في شخصيته كل ما يقابله ويصادفه، لذا تجد أن تلك الصفة تترسخ فيه. المنشأ الثاني: وهو الذي عبرنا عنه بالمصطلح (الديني). وهنا لابد أن نشير الى العلاقة التي تربط الدين بالجبن، ونقول: إن المراد من الدين هو الإيمان وحيث أن مفهوم الإيمان هو مفهوم ذو مراتب (مشكك) لذا كلما ازداد الإيمان قل الجبن حتى يصل الى الاضمحلال، فهي علاقة عكسية في الواقع، وذلك لأن الإنسان المؤمن هو الإنسان الغارق في التسليم والرضا لله تعالى فهو لا يهاب ما قد يحدث ويعلم جيدًا بأن الله تعالى هو الذي بيده الأمور وإن شاء أن يغير الأحوال لفعل بكن فيكون، فليس هناك قوة تستحق أن يهابها الإنسان ويرتعد منها غير قوة الله عز وجل. وهذا لا يعني أن يتجرد الإنسان من صفة الخوف ولا يُحكّم عقله ويرمي نفسه في التهلكة، وإنما يجب عليه أن يواجه المخاطر، وذلك بعد أن يحصن نفسه ويهيئها لذلك، ويستمد بهذا القوة من القوي العزيز الذي لا يخيب من رجاه، وعندها سيمده الله بقوة الإيمان، لذا نجد من صفات المؤمنين القوة والشجاعة، فقد قيل في شجاعة مالك الأشتر(لو دخل مالك الى غابة ظلماء ووضع قدمه في بطن لبوة لما اهتزت شعرة من رأسه)، وإن السبب في شجاعة مالك الأشتر (رضوان الله عليه) هو شدة إيمانه. في رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) تصف أصحاب الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) بأن قلوبهم كزبر الحديد فيقول: "كأني أنظر الى القائم (عليه السلام) وأصحابه في نجف الكوفة كأن على رؤوسهم الطير، قد فنيت أزوادهم وخلقت ثيابهم، قد أثر السجود بجباههم، ليوث بالنهار رهبان بالليل، كأن قلوبهم زبر الحديد، يعطى الرجل منهم قوة أربعين رجلًا...) فنجد في هذه الرواية تأكيداً على صفة القوة والشجاعة فقد وصفهم (عليه السلام) بأنهم (ليوث) والذي يراد منه هنا القوة التي تجعلهم لا يهابون شيئاً بل ويهابهم كل شيء. وأما اللفظة الثانية (زبر الحديد) فهو تشبيه لتلك القلوب بقطعة الحديد والمراد من هذا التشبيه هو قوة الإيمان الراسخة في تلك القلوب وهي قوة معنوية تبث في الروح لتجعل الجسد ثابتًا لا يرتعد مهما كان الموقف الذي يواجهه. وأخيرًا جاء التأكيد بلفظ (القوة) ظاهرًا والمراد هنا هو القوة البدنية كما هو واضح. (2) المنشأ الثالث: الجهل. وهو عدو الإنسان دائمًا، فإن الإنسان يخاف مما يجهله لأنه لا يعلم ما هي عواقبه فتجده يخاف ان يدخل نفقاً مظلماً أو يسلم نفسه لطبيب غير معروف، ولكن ما إن تحصل لديه المعرفة بأن ذلك النفق هو آمن وذلك الطبيب من الأطباء المعروفين الناجحين عندها فقط يحصل لديه الاطمئنان ويخوض تلك التجارب، لذا، فللعلم قوة ترفع عنه القلق وتبدد سحب الخوف وتمده بالشجاعة، فكلما ازداد علمًا كلما ازداد شجاعةً. الرؤية القرآنية للجبن: في الحقيقة لم يرد الجبن بلفظه المباشر في القرآن الكريم، وإنما جاء بإشارات ذم واضحة ومنها: 1- قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا72وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} سورة النساء: آية [72،73]. 2- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ.وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} سورة الأنفال: آية [15،16]. 3- قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} سورة التوبة: آية [49]. إن ذم التقاعس نتيجة الجبن والخوف واضح جدًا فإنه تعالى ينعتهم بالكفر والتوعد لهم بنار جهنم وبئس المصير. الرؤية الروائية للجبن: إن أهل بيت العصمة (صلوات الله وسلامه عليهم) كان لهم من ضمن وصاياهم النهي عن هذه الرذيلة أيضًا باعتبارها من الصفات التي تقعد بالإنسان عن الاستمرار في سلم التكامل الذي خلق لأجله، ونذكر البعض منها: 1- عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) أنه قال: "لا ينبغي للمؤمن أن يكون بخيلًا ولا جبانًا"(3). 2- وعنه أيضًا (صلى الله عليه وآله) أنه قال: "اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك أن أرد الى أرذل العمر" (4). 3- عن الإمام الصادق (صلوات الله وسلامه عليه) أنه قال: "لا يؤمن رجل فيه الشح والحسد والجبن، ولا يكون المؤمن جبانًا ولا حريصًا ولا شحيحًا" (5). ________________ 1- كتاب جامع السعادات للشيخ النراقي/ الجزء الأول/ ص241. 2- بحار الأنوار للعلامة المجلسي/ج52/ص386. 3- أنوار الحكم ومحاسن الكلم/ الجزء الأول/ ص85. 4- نفس المصدر السابق. 5- المصدر السابق/ص86.
اخرى