بقلم: علوية الحسيني/ ودعاء الربيعي "صابرةً على نزول بلائك" الصبر على نزول البلاء. روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: "الصبر ثلاثة: الصبر على المصيبة، والصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية". ونطرح هنا عدة اسئلة: ■السؤال الأول: ما المراد من الصبر بشكل عام، ولماذا قرن الله تعالى الصبر مع الصلاة في الآية الكريمة {واستعينوا بالصبر والصلاة}؟ وما هو فضل الصبر؟ وكيف أنّ الصبر ذا أهمية بالغة فيقع من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد كما قال مولانا الصادق عليه السلام حديثه، (الصبر من الايمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا ذهب الرأس ذهب الجسد، وكذلك إذا ذهب الصبر ذهب الايمان)؟ ج/قبل بيان مفردة الصبر لابد من معرفة لماذا قال الإمام زين العابدين(عليه السلام) "نزول بلائك"؟ ولم يقل صابرة على بلائك؟ هنا سؤال يثار عقائديًا، وإن كان المطلب أخلاقيًا؛ إلّا أنّ الأخلاق لا تستقيم بلا عقيدة، وجوابه: إنّ النزول يدل على أن يكون هناك علو ودنو، والسماء علو، والأرض دنو، وظاهر العبارة أنّ بلاء الله تعالى نازل من السماء على العبد المبتلى، وهذا يوحي للمؤمن أنّ الله تعالى على السماء وشاءت مشيئته بأن ينزل على عبدٍ من عبيده البلاء! والحال ليس كذلك؛ فبلاء الله تعالى وإن كان نازلاً من السماء إلاّ أنّه نازل من ملائكة الله تعالى وبأمره سبحانه، فتعالى أن تحدّه سماواته. فالملائكة مكانها السماء، لا الله تعالى. بيان الصبر: "هو ثبات النفس وعدم اضطرابها في الشدائد والمصائب، بأن تقاوم معها، بحيث لا تخرجها عن سعة الصدر وما كانت عليه قبل ذلك من السرور والطمأنينة، فيحبس لسانه عن الشكوى، وأعضائه عن الحركات الغير متعارفة" (1). والآية قرنت بين الصلاة والصبر؛ إذ إنّ معنى الصبر توطين النفس على احتمال المكاره، ويحتاج هذا إلى الثقة باللَّه تعالى، والإيمان بأنه « مع الصابرين »... وليس من شك أن الصلاة تؤكد هذه الثقة، وتثبت هذا الإيمان... بالإضافة إلى ان مناجاة اللَّه سبحانه تخفف من وطأة المصاب" (2). وأمــــا فضيلة الصبر، فنستوحيها من الآيات الكريمة والروايات الشريفة: 1- الصابرون يصلي الله تعالى عليهم وينزل عليهم رحمته، ويصفهم بأنّهم أهل هدى؛ بدلالة الآية الكريمة: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ* أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُون} (3). 2- جهد الصابرين لا يضيعه الله تعالى، وهو صبرهم على ما صبروا؛ بدلالة قوله تعالى: {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِين} (4). 3- للصابرين عقبى الدار؛ بدلالة قوله تعالى: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّار} (5). 4- الصابرون في عين الله تعالى -رعاية الله-؛ بدلالة الآية الكريمة {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} (6). 5- الصابرون يغفر الله تعالى ذنوبهم؛ بدلالة ما روي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ما من عبد يصاب بمصيبة فيسترجع عند ذكره المصيبة ويصبر حين تفجأه إلا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وكلما ذكر مصيبته فاسترجع عند ذكر المصيبة غفر الله له كل ذنب اكتسب فيما بينهما" (7). 6- الخلود في الجنة، والنظر إلى كرامات الله تعالى له؛ بدلالة ما روي "أن الله تعالى قال لجبرائيل: ما جزاء من سلبت كريمته؟ فقال: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا. قال: جزاؤه الخلود في داري، والنظر إلى وجهي" (8). 7- الصابرون لا ينصب لهم ميزان يوم القيامة؛ بدلالة ما روي عن النبي محمد (صلى الله عليه وآله): "... فإذا كان يوم القيامة جيء بأهل الأعمال فوزنوا أعمالهم بالميزان، أهل الصلاة والصيام والصدقة والحج، ثم يؤتى بأهل البلاء، فلا ينصب لهم ميزان، ولا ينشر لهم ديوان، يصب عليهم الأجر صبا كما كان يصب عليهم البلاء صبا، فيود أهل العافية في الدنيا لو أنهم كانت تقرض أجسادهم بالمقاريض لم يرون ما يذهب به أهل البلاء من الثواب، فذلك قوله تعالى: إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب" (9). ■السؤال الثاني: ماهي مراتب الصبر وفضائلها؟ ج/ للصبر مراتب أو درجات، تطرقت إليها كتب الأخلاق تفصيلًا، إلاّ أنّها اختلفت في اللحاظ الذي كان أساس التقسيم. *فهناك من قسَّم مراتب الصبر بلحاظ ارتباطه وعدم ارتباطه بأفعال الإنسان، فكان على ثلاثة أقسام، اعتمادًا على حديثٍ مرويٍ عن رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله) جاء فيه: "الصبر ثلاثة: صبر عند المصيبة، وصبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، فمن صبر على المصيبة حتّى يردّها بحسن عزائها كتب اللّه له ثلاثمائة درجة ما بين الدّرجة إلى الدّرجة كما بين السّماء و الأرض، و من صبر على الطاعة كتب اللّه له ستّمائة درجة ما بين الدّرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى العرش، و من صبر عن المعصية كتب اللّه له تسعمائة درجة ما بين الدّرجة إلى الدّرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش" (10). فالرواية قسّمت الصبر على ثلاث مراتب، وبيّنت فضيلتها، وللتفصيل أكثر حول تلك المراتب نتطرق إلى ما ذكرته بعض كتب الأخلاق عنها: "[القــــسم] الاول ما يرتبط باختياره وهو سائر أفعاله التي توصف بكونها طاعة أو معصية. أما الطاعة فالصبر عليها شديد؛ لأن النفس بطبعها تنفر عن العبودية وتشتهي الرّبوبيّة...، ثمّ من العبادات ما يُكره بسبب الكسل كالصّلاة؛ و منها ما يُكره بسبب البخل كالزّكاة ، ومنها ما يُكره بسببهما جميعا كالحج و الجهاد... . فأما الصبر على المعاصي فاشدّ أنواع الصّبر عما كان مألوفًا بالعادة، فإن العادة طبيعة ثانية فاذا انضافت إلى الشّهوة تظاهر جندين من جنود الشيطان على جند اللّه، فلا يقوى باعث الدين على قمعها... القسم الثاني: ما لا يرتبط هجومه باختياره وله اختيار في دفعه: كما لو اوذي بفعل أو قول أو جُني عليه في نفسه أو ماله فالصّبر على ذلك بترك المكافأة، قال اللّه تعالى: {وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم : 12]، و قال تعالى : {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} [المزمل : 10]، و قال: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران : 186]. القسم الثالث: ما لا يدخل تحت الاختيار أوّله و آخره كالمصائب، مثل موت الأعزّة و هلاك الأموال و زوال الصّحة بالمرض ونحو ذلك وهذا صبر مستنده اليقين" (11). وهناك من قسّم الصبر إلى عدة مراتب بلحاظ أصناف الناس، فكان على ثلاثة أقسام: "الأوّل: صبر العوام: وهو حبس النفس على وجه التجلُّد وإظهار الثّبات في التحمُّل لتكون حاله عند العقلاء وعامّة الناس مرضيّةً "يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُون". والثاني: صبر الزهّاد والعبّاد وأهل التقوى وأرباب الحلم، لتوقُّع ثواب الآخرة "إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَاب} سورة الزمر: الآية 10. والثالث: صبر العارفين فإنّ لبعضهم التذاذاً بالمكروه لتصوّرهم أنّ معبودهم خصّهم به من دون الناس، وصاروا ملحوظين بشريف نظره "وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ *أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} سورة البقرة: الآية 155" (12). وهناك من قسّم الصبر بلحاظ الشيء الذي وقع الصبر عليه: " كالصبر في الحروب، وهو من أنواع الشجاعة، وضده الجبن والصبر في كظم الغيظ، وهو الحلم، وضده الغضب. والصبر على المشاق، كالعبادة، وضده الفسق، أي الخروج عن العبادات الشرعية. والصبر على شهوة البطن والفرج من قبائح اللذات، وهي العفة وإليه أشير في قوله سبحانه: (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، فإن الجنة هي المأوى)، وضده الشره. والصبر عن فضول العيش، وهو الزهد، وضده الحرص. والصبر في كتمان السر، وضده الإذاعة، والأولان، كالصبر على المكروه من فضائل قوة الغضب. والرابع، من نتائج المحبة والخشية". وهناك من قسّم الصبر على أسمى تقسيم، وهو تقسيم بلحاظ الله تعالى، فكان على أربعة أقسام: - "صبر لله تعالى: وهو الصبر لأجل ثواب الله وغفرانه. - وصبر بالله تعالى : وهو القائم على تأييد الله وقوته. - وصبر على الله تعالى: وهو الصبر على حكمة الله تعالى مع مكابدة الألم. - وصبر عن الله تعالى: وهو الصبر على فراقه، وهو أشد من عذاب النار عند أهل المحبة" (13). ■السؤال الثالث: هناك ملازمة واقتران بين صبر العبد وبين حب الله تعالى له ونرى هذا المفهوم في الكثير من الآيات منها قوله تعالى (واللّه يحب الصابرين) وقوله تعالى (واصبر إنّ اللّه يحب الصابرين) فما هو السر في ذلك؟ ج/ عقيدتنا بالله تعالى أنّه حكيم، لا يفعل ولا يقول عبثًا، وكل متكلم حكيم يوضح كلامه، فكل قيد يذكره في كلامه إذًا هو يريده، فحينما ذكر كلمة "يحب" مع الصابرين حتمًا هو سبحانه قاصدها، ولو لم بقصدها لم يقلها. وهذه الملازمة نجدها عند أمير المؤمنين (عليه السلام) في دعائه الذي علّمه لكميل بن زياد، قائلًا: فَلَئِنْ صَيَّرْتَنِي لِلْعُقُوباتِ مَعَ أَعْدائِكَ، وَجَمَعْتَ بَيْنِي وَبَيْنَ أَهْلِ بَلائِكَ، وَفَرَّقْتَ بَيْنِي وَبَيْنَ أَحِـــبّائِكَ وَأَوْلِيائِكَ؛ فَهَبْنِي يا إِلهِي وَسَيِّدِي وَمَوْلايَ وَرَبِّي، صَـــبَرْتُ عَلَى عَذابِكَ فَكَيْفَ أَصْبِرُ عَلَى فِراقِكَ؟ وَهَبْنِي صَبَرْتُ عَلى حَرِّ نارِكَ فَكَيْفَ أَصْبِرُ عَنِ النَّظَرِ إِلى كَرامَتِكَ؟ أَمْ كَيْفَ أَسْكُنُ فِي النّارِ وَرَجَائِي عَفْوُكَ؟ فَبِعِزَّتِكَ يا سَيِّدِي وَمَوْلايَ أُقْسِمُ صادِقاً، لَئِنْ تَرَكْتَنِي نَاطِقاً لَأَضِجَّنَّ إِلَيْكَ بَيْنَ أَهْلِها ضَجِيجَ الآمِلِينَ، وَلَأَصْرُخَنَّ إِلَيْكَ صُراخَ المُسْتَصْرِخِينَ، وَلَأَبْكِيَنَّ عَلَيْكَ بُكاءَ الفاقِدِينَ، وَلَأُنادِيَنَّكَ أَيْنَ أَنْتَ يا وَلِيَّ المُؤْمِنِينَ، يا غايَةَ آمالِ العارِفِينَ، يا غِياثَ المُسْتَغِيثِينَ، يا حَبِيبَ قُلوُبِ الصّادِقِينَ، وَيا إِلهَ العالَمين...". بل وللأمام زين العابدين (عليه السلام) ربط كذلك بين المحبة والصبر؛ فحينما قدّم فقرة "مولعة بذكرك" على "صابرةً على نزول بلائك"، فمن لا يولع أو يحب الله تعالى كيف له أن يصبر على بلائه؟! وبالتالي المحبة تسبقها معرفة الله تعالى، وهذا هو كمال الدّين، "كمال الدّين معرفته" وهذا هو قول أمير المؤمنين (عليه السلام)، فالارتباط واضح ووثيق. ■السؤال الرابع: كيف يمكن للعبد المؤمن أن يصل إلى أعلى درجات الصبر؟ ج/ طريق تحصيل مرتبة الصبر، يكون بمراعاة الأمور التالية: الأوّل: التأمل والتفكّر في الأحاديث التي تتحدّث عن فضيلة الابتلاء في الدُّنيا، وأنه في مقابل أية مصيبة يرتفع الصابر درجةً أو تُمحى عنه سيئة، وأن يستيقن أنه لا خير في مَن لا يُبتلى. الثاني: أن يتذكّر أنّ زمان المصيبة قصير وقليل، وأنّه سيرفع عنه عما قريب. الثالث: أن ينظر الى الجزوع الذي لا صبر له، ويرى هل استفاد شيئاً من جزعه، أو أنّه بلغه ما كان مقدراً له؛ صبر عليه أم جزع؟ وما كان مقدرًا له لا يتغيّر بالجزع والاضطراب وشق الثياب، بل إنّ الجزع يُذهب ثوابه ويضيعه، ويسقط وقاره. الرابع: أن يتأمّل حال من ابتُلِي ببلاء أعظم من بلائه. الخامس: أن يعلم أنّ الابتلاء والمصائب هي دليل الفضل والسعادة، فإن الإنسان كلما كان مقرّبًا من الله أكثر كلما كان ابتلاؤه أكثر... السادس: أنّ الآدمي يتكامل برياضة المصائب. السابع: أن يتذكّر أن هذه المصيبة إنما أتته من الله -تعالى- الذي هو أحب الموجودات إليه، ذلك الذي لا يريد سوى خيره وصلاحه. الثامن: أن يتتبّع ويتفحّص في أحوال المقربين، وبلائهم وصبرهم عليه، الى أن تحصل عنده رغبة الصبر واستعداد النفس" (14). ■السؤال الخامس: ما هي أبرز الشواهد على من صبر؟ ج/ أبرز الشواهد: 1- على صعيد الصفوة: روي انّه (صلى الله عليه وآله) قال: "ما أوذي نبي بمثل ما اوذيت"، فمنذ عصر التبليغ تعرّض إلى ما لم يتعرّض له أحد، حيث كان الكفار يلقون عليه القمامة لأنّه كان يدعو إلى توحيد الله تعالى؛ فصبر وصبر. وكذلك اوذي في أهل بيته (عليهم السلام)، وظلاماتهم تشهد بصبرهم، لا يليق بفجائعها حصرها بأسطر. 2- على صعيد عامة الناس: المنتظرون للإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) الذين يعيشون وسط شبهاتٍ تحاول النيل من عقيدتهم بالإمام أو بغيره، أو تريد زلزلتهم وتشكيكهم، ذلك الوسط الذي كثر فيه أهل الباطل، وقلّ فيه أهل الحق، لكن اولئك المنتظرين ثبتوا على عقيدتهم، حتى فاق فضلهم فضل من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله)؛ حيث روي "عَنْ أبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيَّ، عَنْ أبِي خَالِدٍ الْكَابُلِيَّ، عَنْ عَلِيَّ بْن الْحُسَيْن (عليهما السلام) قَالَ: تَمْتَدُّ الْغَيْبَةُ بِوَلِيَّ اللهِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ أوْصِيَاءِ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) وَالأئِمَّةِ بَعْدَهُ، يَا أبَا خَالِدٍ إِنَّ أهْلَ زَمَان غَيْبَتِهِ، الْقَائِلُونَ بِإمَامَتِهِ، الْمُنْتَظِرُونَ لِظُهُورهِ، أفْضَلُ أهْل كُلّ زَمَانٍ، لأنَّ اللهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أعْطَاهُمْ مِنَ الْعُقُول وَالأفْهَام وَالْمَعْرفَةِ مَا صَارَتْ بِهِ الْغَيْبَةُ عِنْدَهُمْ بِمَنْزلَةِ الْمُشَاهَدَةِ، وَجَعَلَهُمْ فِي ذَلِكَ الزَّمَان بِمَنْزلَةِ الْمُجَاهِدِينَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) بِالسَّيْفِ، اُولَئِكَ الْمُخْلَصُونَ حَقّاً، وَشِيعَتُنَا صِدْقاً، وَالدُّعَاةُ إِلَى دِين اللهِ سِرّاً وَجَهْرا"(15). ______________________ (1) جامع السعادات: للمحقق النراقي، ج3، ص225. (2) تفسير الكاشف: لمحمد جواد مغنية، ج1، ص240-244. (3) البقرة: 155-157. (4) هود: 115. (5) الرعد:22. (6) الطور: 48. (7) الكافي: للشيخ الكليني، ج3،ح5. (8) جامع السعادات: للمحقق النراقي، ج3، ص231-232. (9) المصدر نفسه،ص 232. (10) تنبيه الخواطر : ج 1 ، ص 40، و جامع الأخبار: ص 111، و الكافي : ج 2 ، ص 91. (11) الحقائق في محاسن الأخلاق: للمحدّث الفيض الكاشاني، ص144-146. (12) أوصاف الأشراف: للشيخ نصير الدّين الطوسي، ص59. (13) مقامات السالكين: للسيد عباس نور الدين، ص108. (14) خمسون درس في الأخلاق: للشيخ عباس القمي، ص106-110. (15) الاحتجاج: للشيخ الطبرسي، ص122. ربّنا أفرغ علينا صبرًا وتوفنا مسلمين، بحق محمدٍ وآله الطاهرين.
البيان والبلاغة في كلمات أهل البيت عليهم السلامبقلم: علوية الحسيني/ ودعاء الربيعي "راضيةً بقضائك" الحديث هنا حول الرضا بقضاء الله تعالى. نبدأ حديثنا بسؤال وهو: ما هو المراد من القضاء والقدر؟ وهل هناك فرق بينهما ام انهما مفردتان لمعنى واحد ؟ ج/ الرضا يأتي بدرجة بعد الاطمئنان، إذ إنّ الامام زين العابدين (عليه السلام) لم يتكلم عبثًا حينما لهج بهذه الزيارة، فحينما قدّم القدر على القضاء؛ فانه استند على أساسٍ علمـي، وحتمًا الاطمئنان يناسب القدر، فقال: (مطمئنة بقدرك)، والرضا يناسب القضاء، فقال: (راضية بقضائك). كيف لا يكون هذا الترتيب الكلامي، والإمام المعصوم من يتكلم؟! وما تسليمنا إلاّ عبارة عن يقيننا باعتقادنا في الإمام المعصوم أنّه لا يقول عبثًا؛ لعصمته. والقضاء قضاءان -كما القدر-: "القضاء العلمي: وهو عبارة عن علم اللّه (عزّ وجلّ) بوجود الأشياء وإبرامها، ومعرفته بتحقّقها أو عدم تحقّقها. القضاء العيني: وهو عبارة عن ضرورة وجود الشيء في الخارج عند وجود علّته التامّة" (1). والفـــرق بين القدر والقضاء هو ما بينه لنا أهل البيت (عليهم السلام) مما روي عنهم؛ إذ روي عن يونس بن عبد الرحمن قال: قال لي أبو الحسن الرضا عليه السلام: "... [أخذ يونس يسأل الامام إلى أن قال له الامام] فتعلم ما القدر؟ قلت: لا، قال: هي الهندسة ووضع الحدود من البقاء والفناء، قال: ثم قال: والقضاء هو الابرام وإقامة العين"(2). فالفارق هو في الأسبقية، فالقدر يسبق القدر، وهناك ما يؤيد ذلك مما روي عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام): "إنّ اللّه إذا أراد شيئاً قدّره، فإذا قدّره قضاه، فإذا قضاه أمضاه" (3). وهنا أمر مهم لابد من الانتباه إليه، وهو انّنا حينما نقول: هذا أمر من قدر الله تعالى وقضائه فهذا لا يعني أنّه سبحانه يجبرنا على أن نكون محل تلك الظروف والابتلاءات؛ فعقيدتنا أن لا جبر ولا تفويض وإنّما أمرٌ بين أمرين، فليس الله تعالى مجبرنا، وليس مفوض امورنا إلينا استقلالاً، بل أمر بين أمرين، ولهذا يبحث مبحث القضاء والقدر ضمن مباحث العدل الإلهي. جاء في كلام الإمام علي (عليه السلام) للشامي لما سأله: أكان مسيره إلى الشام بقضاء من الله وقدره؟ ويحك لعلك ظننت قضاءً لازمًا وقدرًا حتمًا، ولو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب، وسقط الوعد والوعيد، إن الله سبحانه أمر عباده تخييرًا، ونهاهم تحذيرًا، وكلف يسيرًا، ولم يكلف عسيرًا، وأعطى على القليل. كذلك روي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) قالا: "إن الله أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثم يعذبهم عليها، والله أعز من أن يريد أمرا فلا يكون، قال: فسئلا (عليهما السلام) هل بين الجبر والقدر منزلة ثالثة؟ قالا: نعم أوسع مما بين السماء والأرض" (4). القضاء قرآنيًا: *القضاء على أربعة أضرب: "أحدها: الخلق، والثاني: الأمر، والثالث: الإعلام، والرابع: القضاء في الفصل بالحكم. وعلى كلٍ شاهد قرآني. فـــأما شاهد القضاء بمعنى الخلق فقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ -إلى قوله- فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} يعني خلق الله تعالى سبع سموات في يومين. وشاهد القضاء بمعنى الأمر فقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ} أي أمر الله تعالى بعدم عبادة غيره. وأما شاهد القضاء بمعنى الإعلام فقوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي أعلمهم الله تعالى وأخبرناهم بالأمر قبل كونه. وأما شاهد القضاء بمعنى الفصل بالحكم بين الخلق فقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ} أي يفصل الله تعالى بالحكم بالحق بين الخلق، وقوله: {وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ} أي حكم تعالى بينهم بالحق، وفصل بينهم بالحق"(5). إشارة: قال الإمام الصادق (عليه السلام): "اعلم الناس بالله أرضاهم بقضاء الله" من هذا الحديث الشريف يتضح أن هناك علاقة بين معرفة الله تعالى وبين الرضا بقضائه. معالم تلك العلاقة واسسها التي تقوم عليها: تقدم في الحلقة السابقة اجمالًا أنّ أولَ استعداد يؤهل العباد إلى الاطمئنان بقدر الله تعالى هي معرفة الله سبحانه وتعالى، فمن عرف الله أحبه، ثم اعتقد به، ثم امتثل أوامره واجتنب نواهيه، ثم اطمأن بما قدر تعالى له، ثم رضى بقضائه. هذا وقد جاء في الدعاء "اللهم عرفني نفسك، فإنك إن لم تعرفني نفسك لم أعرف نبيك، اللهم عرفني رسولك فإنك إن لم تعرفني رسولك لم أعرف حجتك. اللهم عرفني حجتك فإنك إن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني" فالضلال عن الدّين هو نتيجة الشك إما بوجود الله تعالى، أو بقدره، أو بقضائه، فيجزع العبد شيئاً فشيئاً إلى أن يصل إلى درجة الشك، والشك غير اليقين مصداقًا ونتيجةً؛ لأنّ المعرفة تولّد يقينًا بوجوده، وبقضائه وقدره. س/ما هي الآثار السلبية المترتبة على عدم الرضا بقضاء الله تعالى؟ ج/ من الآثار السلبية: ١- الكسل عن اللهج بالدعاء؛ بدعوى ان قضاء الله تعالى قد تم، فيستسلم العبد للظرف المبتلى به. ٢-اللجوء الى أهل الكهانة والشعوذة ليضعفوا عنهم قضاء الله تعالى. ٣-الاكتئاب الذي يصيب البعض ما إن يفقد له عزيز، أو يسلب له مال، أو تنتكس له صحة، وعدم الايمان بقول/ إِنَّا لله وإنّا اليه راجعون، فمن منا يملك نفسه حتى يملك عوارضها من صحة وسرور وراحة ابدية؟! التفاتة: هناك من يقول: إني راض بقضاء الله وقدرة وما سوف يجري علي ولا داعي للدعاء والتوسل بالله لدفع البلاء، وكأن الدعاء مناقض للرضا، وفي الحقيقة أن هذا تصرفٌ مغلوط، نتيجة البعد عن التأمل في آيات القرآن الكريم، كما يتبين من التدبر في قوله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَاب} (8)؟ فظاهر الآية يدل على وجود امور يمحوها الله تعالى، واخرى يثبتها، وأنّ هناك شيئًا يسمى بأم الكتاب، وهنا على العبد التفكر، وحفر تراب الجهل ليكتشف كنز المعرفة، فبالعقل كرّم الله تعالى بني آدم على سائر مخلوقاته، أ ليس حريًا بنا توظيف عقولنا في ولو في معارف التأملات القرآنية؟! جاء في تفسير هذه الآية: " محو الشيء هو اذهاب رسمه واثره يقال محوت الكتاب إذا أذهبت ما فيه من الخطوط والرسوم قال تعالى: (ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته) أي يذهب بآثار الباطل كما قال: (فأما الزبد فيذهب جفاء) وقال: (وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة). وقد قوبل المحو في الآية بالإثبات وهو اقرار الشيء في مستقره بحيث لا يتحرك ولا يضطرب. فالكتاب الذي أثبته الله في الأجل الأول إن شاء محاه في الاجل الثاني وأثبت كتابا آخر فلا يزال يمحو كتابًا ويثبت كتابًا آخر... وأن القضاء ينقسم إلى قضاء متغير وغير متغير" (9). كما وجاء في الروايات أنّ هناك أمورًا يمكن محوها، وأخرى يستحيل؛ لأنّها تستلزم تكذيب الله تعالى نفسه وأنبيائه و رسله. عن الفضيل بن يسار قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول من الأمور أمور محتومة كائنة لا محالة ومن الأمور أمور موقوفة عند الله يقدم فيها ما يشاء ويمحو ما يشاء ويثبت منها ما يشاء لم يطلع على ذلك أحدا يعنى الموقوفة فأما ما جاءت به الرسل فهى كائنة لا يكذب نفسه ولا نبيه ولا ملائكته" (10). فمن الامور الموقوفة التي لا يغيرها الله تعالى: أن يمحو الله تعالى أمر الصلاة مثلًا أو الصوم، أو وجوب الإيمان بالله الواحد الاحد، أو وجوب الإيمان بعصمة نبيه او غير ذلك من الأمور. أما أمور الرزق والاحياء والممات فممكن أن يمحوها الله تعالى ويبدلها، كما لو كان مقدرًا في قضاء شخص أنه يعيش عشرين سنة، لكنه ما إن تصدّق بصدقة غيرت قضاءه ومحته، وأطالت عمره سنوات اخرى. وهكذا بالنسبة لموجبات تغيير القضاء الاخرى. ومن هنا نعلم أنّ القضاء غير المحتوم ممكن أن يبدّل ويمحى، ويتعلق به البداء. _________________ (1) الإلهيات: للشيخ جعفر السبحاني، ج2، ص515. (2) الكافي: للشيخ الكليني، ج1، ص158، ح4. (3) بحار الأنوار: للعلاّمة المجلسي، ج5، كتاب العدل والمعاد، ب3: القضاء والقدر، ح64. (4) شرح أصول الكافي: للمولى محمد صالح المازندراني، ج5، ص27. (8) الرعد: 39. (9) تفسير الميزان: للسيد الطباطبائي، ج11، ص375. (10) بحار الأنوار: للعلامة المجلسي، ج4، نقلاً عن تفسير العياشي. اللّهم صلِ على الأشرف المكين، والعلم المبين، والناصر المعين، وليّ الدّين، عليٍّ أمير المؤمنين (عليه السلام).
البيان والبلاغة في كلمات أهل البيت عليهم السلامبقلم: علوية الحسيني/ ودعاء الربيعي "مُحبّةً لصفوة أوليائكَ" ورد عن مولانا الباقر (عليه السلام) أنه قال: إذا أردت أن تعلم أنّ فيك خيرًا، فانظر الى قلبك، فإن كان يحب أهل طاعة الله ويبغض أهل معصيته، ففيك خير والله يحبك، وإن كان يبغض اهل طاعة الله ويحب اهل معصيته فليس فيك خير والله يبغضك، والمرء مع من أحب. وفي حديث عن الامام الصادق (عليه السلام) أنه قال (وهل الدين الا الحب). توضيح: إنّهُ ليــس بمقدور كلّ أحدٍ أن يُحبَّ العبادة ويُحبَّ المعبود مالم يجتز بعض المراحل حتى تتعلق روحه في نور الملكوت، فالله سبحانه أمــلُ المشتاقين، والشـوق هو الذي يجذب الإنسان نــحو الله سبحانه وليس إلى الجنة، فهو أمل المشتاقين، والأمل غير الرجاء. الأمل هو الذي يجعل من الإنسان -الذي لا يتحمل- إنسانًا صبورًا، هادئاً، يأمل الإنسان شيئاً، وآخر يتمناه وهو دائمًا يسعى لأن يحقق ما يتمناه. فالذي لا يشتاق إلى الله لا يصلح أو لا يصح أن نصفه بالشوق؛ فالشوق الصادق وهو الذي لا يرى فيه الإنسان غـير الله سبحانه. في البداية يكون الشوق، ثم يكون العشق. والمشتاق هو الذي لا يملك الشوق بل يطلبه، أمّـا العاشق فهو الذي يملك العشق. هذا هو الفارق بين الشوق والعشق، إذ يقال للعطشان الذي يسعى للوصول إلى عين الماء: أنّه مشتاق للماء، وعندما يصل إلى الماء ويأخذ منه ويحتفظ به يقال له: عاشق الماء، فالشوق قبل الوصول والعشق بعد الوصول. وهذا مثيل حبّ العابد لمعبوده. ويكأنّ الإمام السجاد (عليه السلام) يريد أن يربط الفقرة السابقة من الزيارة (مولـعةً بذكرك) بهذه الفقرة (محبةً لصفوة أوليائك)؛ إذ إنّه (عليه السلام) راعى التدرّج في المحبة، فأوّل درجةٍ كانت لله تعالى ولذكره، وقد عرفنا ذلك في الحلقة السابقة، وثاني درجة هي لصفوة أولياء الله تعالى. إشارة: ما لمراد بصفوة الأولياء في هذه الزيارة المباركة حيث سأل الإمام السجاد الله تعالى ليكون محبًّا لهم؟ ج/ صفوة أولياء الله تعالى هم محمد وآل محمد (صلوات الله وسلامه عليهم). والدليل على ذلك هو أنّ الاصطفاء: "...أخذ صفوة الشيء وتخليصه مما يكدره فهو قريب من معنى الاختيار، وينطبق من مقامات الولاية على مقام الإسلام، وهو جري العبد في مجرى التسليم المحض لأمر ربه فيما يرتضيه له" (1). مع ملاحظة يبقى مقام الأفضلية للنبي محمدٍ (صلى الله عليه وآله) على سائر المصطفين الذين أشار إليهم القرآن الكريم في هذه الآية {إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ وغيرها؛ بلحاظ اختلاف درجات الاصطفاء. وقد أشار العلاّمة الطباطبائي (قدس سره) إلى اختلاف درجات الاصطفاء بقوله: "من الدليل على ما ذكرناه من اختلاف الاصطفاء قوله تعالى: ﴿وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين﴾ (آل عمران: 42)، حيث فرق بين الاصطفاءين فالاصطفاء غير الاصطفاء. وقد ذكر سبحانه في هؤلاء المصطفين آدم ونوحًا، فأما آدم فقد اصطُفى على العالمين بأنه أول خليفة من هذا النوع الإنساني جعله الله في الأرض، قال تعالى: ﴿وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة﴾ (البقرة: 30)، وأول من فتح به باب التوبة... فأمّا آل إبراهيم فظاهر لفظه أنهم الطيبون من ذريته كإسحاق وإسرائيل والأنبياء من بني إسرائيل وإسماعيل والطاهرون من ذريته، وسيدهم محمد (صلى الله عليه وآله)" (2). وبدليلٍ آخر: وهو كلام أهل البيت (عليهم السلام)؛ فكما أنّ القرآن الكريم -الثقل لأكبر- يفسّر بعضه بعضًا، كذا كلامهم (عليهم السلام) -الثقل الأصغر-؛ حيث قالت السيّدة الزهراء (عليها السلام) في خطبتها الفدكية: "وأشـهد أنّ أبي محمدًا عبده ورسوله... اصطفاه قبل أن ابتعثه"، فكان دليلاً على ثبوت الصفوة للنبي محمد (صلى الله عليه وآله)، ثم أنّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) يقول في خطبته حين ظهوره: "أنا مصطفى من ابراهيم وصفوة من محمد [عليهم السلام]"، وهذا دليل على تسرية وصف الصفوة من أنبياء الله تعالى ابراهيم ومحمد (عليهما السلام وعلى آلهما) إلى الإمام الخاتم المهدي (عجّل الله فرجه الشريف)، وبالملازمة يكون الأئمة ما بين النبي محمد والإمام المهدي (عليهما السلام) هم صفوة الله تعالى. ولكن هل تكفي محبة الصفوة (عليهم السلام) لدخول الجنة؟ ج/ قال تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُم} (3). وفي حديث روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "وهل الدِّين إلاّ الحب". فكما أن الحب الإلهي غير كافٍ لنيل رضا الله تعالى، كذا حب أوليائه، فلابد من الإيمان. والإيمان هو اقرارٌ باللسان وعملٌ بالأركان، وبالتالي فإنّ من يحبّ الله تعالى قد أقرن معه إيمانًا، وهذا هو الفلاح بعينه؛ بدلالة قوله تعالى {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُون} (4) وسياق الآيات فيما بعدها أعطى سمات المؤمنين، فمن شاء فليراجع. إذًا فالمحبة والإيمان ركنان لا ينفصلان أبدًا، وعليهما الحث مستجمعًا. وعلى هذا كثيرًا ما كان يؤكد الإمام الصادق (عليه السلام)؛ فروي أنّه غالبًا ما يستشهد بقول الشاعر: تعصي الإله وأنت تظهر حبّه.. هذا محالٌ في الفعال بديعُ لو كان حبّك صادقــاً لأطعته.. إنّ المحبّ لمن يحبّ مطيعُ. أي انّ الطاعة شعبة من شعب الإيمان، ويتفرع عن المحبة الإيمان بكافة شعبه. ولهذا ضلت الكثير من المذاهب بل والفرق التي لم تنتهج منهج صادق أهل البيت (عليه وعليهم السلام)؛ وخير مثالٍ على انحراف من قال بكفاية الحب الإلهي هم الصوفية، تلك الضالة المضلة التي تسوّف لأتباعها منذ ابتداعها وحتى يومها هذا. نعم، إنّ الأحاديث الواردة في فضل حب الصفوة (عليهم السلام) كثيرة وعظيمة؛ منها: ما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: "ألا ومن أحب آل محمد أمن من الحساب والميزان والصراط" (5). الرواية مطلقة لم تقرن شيئًا مع المحبة. بل وهناك روايات جعلت حب الصفوة استكمالًا للدّين، أي إنّ الدّين بلا محبتهم دينٌ ناقص؛ حيث روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: "حبّ أهل بيتي وذريتي استكمال الدين" (6). كيف لا وحبّهم وحب سيّدهم (صلوات الله وسلامه عليهم) هو طريق لحبّ الله تعالى؛ قال تعالى: كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُم} (7)، فاتباع النبي وآله (صلوات الله وسلامه عليهم) طريقٌ لمحبة الله تعالى، ونتيجةٌ لحبّه تعالى لهم. ولو تأملنا في سياق هذه الآية لوجدنا أنّها دليلٌ خاص قيّد الروايات المطلقة في حبّ الصفوة، فالآية جاءت مقيّدة بالإتباع، وهو عينه الإيمان الذي هو اقرار باللسان وعملٌ بالأركان. فكل قيد يذكره الله تعالى في كتابه فهو قاصدٌ من ورائه افهام مخاطبيه، وهو مريدٌ له؛ لتنزهه عن اللغو، فكل ما يقوله يريده، إذًا هو سبحانه يريد منّا ثنائية الولاء بالمحبة والإيمان. لكن هناك الكثير من المغالطات التي وقع فيها البعض، ومنها التسويف بالمعاصي، وتراكم الذنوب دون توبة، اتكاءً على مبرر أنّ حبّ محمد وآل محمد (صلوات الله عليهم جميعًا) كافٍ لهم، وأنّهم ستنالهم الشفاعة يوم القيامة! غاب عنهم أنّ الشفاعة بإذن الله تعالى، وإن لم يشأ لعبدٍ من عباده دخول الجنة لشاء مهما كان مقام الشفيع؛ فإرادته هي الحاكمة؛ بدليل قوله تعالى: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِه} (8). ومن المغالطات أنّ هناك من يدّعون أنّهم مرحومون مهما فعلوا؛ لأنهم فقط يحبون الصفوة (صلوات الله وسلامه عليهم)! وقد غاب عنهم أنّ هذا المنطق مذموم، كما أخبرنا القرآن الكريم حكايةً عن اليهود والنصارى؛ بقوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاء} (9)، فلا إرادة مع إرادته تعالى. بل والتاريخ يشهد بانحراف الغلاة الذين من اتكائهم على حبهم لأهل البيت (عليهم السلام) نسبوا الألوهية لهم، وقد برئ منهم أمير المؤمنين (عليه السلام) في زمنه آنذاك. ومن تلك المغالطات أيضًا الاكتفاء بمحبة الصفوة (صلوات الله وسلامه عليهم) اعتمادًا منهم على وصية رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله) بالمودة بقربته؛ قال تعالى حكايةً: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} (10). غاب عنهم أنّ المودة لابد أن تقرن بالطاعة، فمودة آل محمد (عليهم السلام) لا تكفي من دون طاعة أوامرهم، وطاعتهم هي طاعة الرسول (صلى الله عليه وآله)، وطاعة الرسول (صلى الله عليه وآله) هي طاعة الله تعالى؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) (11). بل وقد صرّح الصفوة (صلوات الله وسلامه عليهم) بالبراءة ممن أحبهم دون طاعة الله تعالى؛ حيث روي عن جابر بن يزيد الجعفي قال: "خدمت سيدنا الإمام أبا جعفر محمد بن علي عليه السلام ثمانية عشر سنة فلما أردت الخروج ودعته وقلت له: أفدني. فقال: بعد ثمانية عشر سنة يا جابر! قلت: نعم إنكم بحر لا ينزف ولا يبلغ قعره. قال: يا جابر بلّغ شيعتي عني السلام وأعلمهم أنه لا قرابة بيننا وبين الله (عز وجل) ولا يتقرب إليه إلا بالطاعة له، يا جابر من أطاع الله وأحبنا فهو ولينا ومن عصى الله لم ينفعه حبنا..." (12). والخلاصة: أنّ منهج صادق العترة (عليه السلام) هو قولٌ كان دائمًا يردده، ناصحًا به أتباعه: "يا معشر الشيعة إنكم قد نُسبتم إلينا، كونوا لنا زينًا، ولا تكونوا علينا شينًا"، فالكمال هو اقران المحبة مع الإيمان، عندئذٍ يسمى المرء شيعيًّا، ولهذا ابتدأ خطابه بالنداء لمعشر الشيعة، ولم يقل: يا معشر المحبين؛ فالشيعة يعني الإتباع، والإتباع لازمه العمل، وهو الإيمان بشرطه وشروطه. وهنا سؤال: كيف تتجلى مظاهر الذوبان في حب الله وحب اولياء الله عند الفرد المؤمن وكيف ينعكس ذلك على سلوكه الديني والاجتماعي الاخلاقي؟ ج/ تتجلى بالاتباع، وذلك يحصل: بخلوص الإيمان. معرفة الله تعالى واوليائه. دوام الذكر. التوبة. طاعة أهل الطاعة. مكارم الأخلاق. محاسن الأعمال. اخلاص المحبة. ______________ (1) الميزان في تفسير القرآن: للسيد الطباطبائي. (2) المصدر نفسه. (3) آل عمران: ٣١. (4) المؤمنون: ١. (5) فضائل الشيعة: للشيخ الصدوق، ١/٤٧. (6) أمالي الصدوق: للشيخ الصدوق، ١/١٦١. (7) آل عمران: ٣١. (8) البقرة: ٢٥٥. (9) المائدة: ١٨. (10) الشورى: ٢٣. (11) النساء: ٥٩. (١٢) الأمالي: للشيخ الطوسي، ص ٢٩٦. والحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين.
البيان والبلاغة في كلمات أهل البيت عليهم السلامبقلم: علوية الحسيني/ ودعاء الربيعي "مولعةً بذِكركَ" روي عن الإمام علي (عليه السلام) أنه قال: الذكر لذة المحبين، وقال ايضًا: من اشتغل بذكر الناس قطعه الله سبحانه عن ذكره . وكأنّ هناك سرًا مقدسًا من وراء استعمال مفردة (الولع)، ويكأنّ الله جلّ جلاله يريد بنا أن نصل إلى أوج درجات محبته، ولا غلو في ذلك بتاتًا. ولا بأس بالتعريج على مفردة الولع، وبيان أنّها من درجات الحب، وما هو موقف تراثنا الإسلامي من الحب الإلهي بصورةٍ عامة. الولِع لغةً: "الشديدُ التعلُّق"(1)، وهو الشخص الشديد التعلّق بالشيء. والولَع (بفتح اللام): صفة يتصف بها الولِع (بكسر اللام)، وهي درجة من درجات الحب، فللحب مصاديق، منها الانس، الولع، الهيمان، الشوق، العشق، الهوى، الشغف، الوجد، النجوى، الود، الوله. وشواهد الكتاب والسنة ناطقة بأنّ الله سبحانه يحب العبد، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه} (2). وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوص} (3). وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِين} (4). وما ورد في أخبار داود: "إن الله عز وجل أوحى إليه: يا داود! أبلغ أهل أرضي: إني حبيب لمن أحبني، وجليس لمن جالسني، ومؤنس لمن أنس بذكري. وصاحب لمن صاحبني، ومختار لمن اختارني، ومطيع لمن أطاعني، ما أحبني عبد أعلم ذلك يقينا من قلبه إلا قبلته لنفسي، وأحببته حبا لا يتقدمه أحد من خلقي، من طلبني بالحق وجدني، ومن طلب غيري لم يجدني، فارفضوا يا أهل الأرض ما أنتم عليه من غرورها، وهلموا إلى كرامتي ومصاحبتي ومجالستي، وآنسوا بي أوانسكم، وأسارع إلى محبتكم" (5). والأُنس: "استبشار القلب بما يلاحظه في المحبوب، فيسمى استبشاره أنسا" (6). ونجد في ما روي عن أهل البيت (عليهم السلام) امتزاج الأنس بالحب؛ كما روي عن الإمام عليّ (عليه السّلام): "إذا رَأَيتَ اللهَ سُبحانَهُ يُؤنِسُكَ بِذِكرِهِ فَقَد أحَبَّك" (7). والإمام الحسين (عليه السّلام) في دُعائِهِ يَومَ عَرَفَةَ يبين لنا أنّ درجة الحب أولاً ثم تليها درجة الأنس بالله سبحانه؛ حيث يقول: "يا مَن أذاقَ أحِبّاءَهُ حَلاوَةَ المُؤانَسَة" (8). أمّا الإمام زين العابدين (عليه السّلام) فيعلمنا أنّ هناك درجات طولية، وهي الذ كر، ثم الأُنس، ثم القرب، ثم الطاعة؛ ففِي مناجاته مُناجاةِ الذّاكِرين يقول: "إلهي. . . أستَغفِرُكَ مِن كُلِّ لَذَّةٍ بِغَيرِ ذِكرِكَ، ومِن كُلِّ راحَةٍ بِغَيرِ اُنسِكَ، ومِن كُلِّ سُرورٍ بِغَيرِ قُربِكَ ومِن كُلِّ شُغلٍ بِغَيرِ طاعَتِكَ" (9). أمّا الإمام الصادق (عليه السّلام) فقد بيّن لنا ضريبة الأُنس – الولع- بذكر الله تعالى، حيث روي عنه أنّه قال: "إنَّ اللهَ إذا أحَبَّ عَبداً بَعَثَ إلَيهِ مَلَكاً، فَيَقولُ : أسقِمهُ، وشَدِّدِ البَلاءَ عَلَيهِ، فَإِذا بَرَأَ مِن شَيء فَابتَلِهِ لِما هُوَ أشَدُّ مِنهُ وقَوِّ عَلَيهِ حَتّى يَذكُرَني؛ فَإِنّي أشتَهي أن أسمَعَ دُعاءَه" (10). إشارة: ماهي الاثار الايجابية المترتبة على العبد المُولع بذكر ربه ومناجاته في كل الاحوال والاوقات؟ وكيف جسد لنا أئمة آل البيت (عليهم السلام) هذا المفهوم وبالأخص سيدي ومولاي الامام السجاد كونه سيد الذاكرين وزين العابدين؟ ج/ الآثار الإيجابية الواضحة على العبد المولع بربّه وبذكر ربّه ناشئة من أفعال، زكّى نفسه وهذّبها وأدّبها حتى تطبّع بطباعٍ ميّزته عن سائر بني جنسه، ومن تلك الأفعال كما ذكرها المحقق النراقي (قدس سره): "الأولى: أن يحب لقاءه [الله تعالى] في دار السلام، أي يتعرض للرحمة الإلهية. الثانية، أن يؤثر مراد الله - سبحانه - على مراده، بتغليب أرادة ربّه على ارادته. الثالثة: ألا يغفل عن ذكر الله سبحانه؛ حيث أنّ الذكر اطمئنان للقلوب التي هي محل الحب والولع. الرابعة: ألا يحزن ولا يتألم عن فقد شيء؛ لئلا يتعلّق قلبه بذلك الشيء، ويغفل عن ذكر ربّه محبوبه. الخامسة: أن يكون مشفقًا رؤوفًا على عباد الله، رحيمًا على أوليائه وشديدًا على أعداء الله، كارهًا لمن يخالفه ويعصيه، فذلك من أوامر المولى. السادسة: أن يكون في حبه خائفًا متذللًا تحت سلطان العظمة والجلال، وليس الخوف مضادًا للحب، كما ظن البعض"(11). ونضيف عليها ونقول: من آثار الولع بذكر الله تعالى: 1- احياء القلب. 2- التقرّب من رضا الرّب. 3- الدنو من ملائكة الرحمن. 4- الابتعاد عن وساوس الشيطان. 5- النجاة والرحمة. 6- الأمن من الهلكة. ثم إنه ورد في حديث للإمام زين العابدين (عليه السلام) قال فيه: إن قسوة البطنة وفترة الميلة وسكر الشبع وغرة الملك مما يثبط ويبطئ عن العمل وينسي الذكر. ويتضح من هذا الحديث ان هناك أمورًا من شأنها ان تثبط عزيمة الفرد عن ذكر الله وقد ذكرها مولانا السجاد اجمالًا في حديثه الشريف، ببيان: أنّ جميع الخلق مشتركون في أصل المحبة لله تعالى، إلاّ أنّ درجات حبّهم له سبحانه متفاوتة، وسبب التفاوت أشار إليه الإمام زين العابدين (عليه السلام) بالحديث المتقدم، وقبل بيان مفرداته لابد من معرفة منشأ تلك الأسباب: ومنشؤها أمران: أولاً: المعرفة الروتينية الوراثية عن الله تعالى فمن يعرف أنّ الله تعالى خالقنا، ورازقنا، يميتنا، ويحيينا، ويثيبنا، ويعاقبنا، فمعرفته هذه توارثها أبًا عن جد، والحال أنه لا يصح التقليد في اصول الدّين، ومعرفة الله تعالى تدخل ضمن أول وأشرف أصلٍ من اصول الدّين وهو التوحيد، فكما يقول أمير المؤمنين: "أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُهُ، وَكَمَالُ مَعْرِفَتِهِ التَّصْدِيقُ بِهِ، وَ كَمَالُ التَّصْدِيقِ بِهِ تَوْحِيدُه"(12). أمّا من يمحص ويبحث عن الدلائل، ويغور في أعماق المعارف التوحيدية، ويكتشف الأسرار واللطائف الربانية، فإنّ معرفته ستكون عن وعيٍ وإدراكٍ وإقبالٍ ومحبة، وذكره لمولاه سيكون عن ولعٍ تباعًا. ومن مصاديق هذا الأمر: 1- الجهل بالمعارف الإلهية. 2- العلم السطحي بتلك المعارف. 3- الاعتقاد بالله تعالى تقليدًا للآباء والأجداد. 4- الاندكاك في العالم المادي ومتعلقاته، والغفلة عن عالم الملكوت وأنواره. ثانيًا: النظرة الجزئية لله تعالى فمن ينظر لله تعالى على أنّه الرازق فقط؛ لأنّه مرزوق في عمله فمحبته لربّه تختلف عمّن ينظر إلى ربّه بأنّه الرازق والمانع، الواجب حمده في السراء والضراء. ومن مصاديقه: 1- التعلّق الشديد بعالم الدنيا ومتعلقاتها. 2- عدم استشعار عظمة الله تعالى سلوكًا وعلمًا. 3-عدم التأمل في ظواهر الآيات الكريمة والروايات الشريفة لاستشعار ماذا يعني له الله سبحانه. 4- عدم الإحاطة بالأسماء الحسنى لله تعالى ومعانيها، فمن يقرأ اسم (النافع) يقرأ اسم (الضار)، ومن يقرأ اسم (الرحمن) يقرأ اسم (الجبار)، وهكذا. وبالتالي من يتمسك باسمٍ دون اسم لا يكون مولعًا بذكر الله تعالى كليًّا، بل إنْ أَنِس بذكر مولاه فيأنس بالاسم الذي يختاره هو! ولهذا نجد أنّ العبد وهو على قيد الحياة يلهج ويأنس باسم الله (الحي)، لكن ما إن فقد له قريبًا أو صديقًا جزع، وتزلزل انسه بذلك الاسم؛ ونسي أن (المحيي) هو (المميت)، وهذا نتيجة النظرة الجزئية لله تعالى، وهو من موجبات سلب الولع بذكر الله تعالى على نحو الدوام. وإن سألت: ما هي آثار الإعراض عن الذكر الله تعالى؟ إن في الآية المباركة اشارة الى تلك الاثار، قوله تعالى (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا)، وهي حتمًا آثار وخيمة، بعضها مستندة إلى دليل نقلي بالمباشر، واخرى باللازم، وبعضها مستندة إلى دليلٍ عقلي، نذكر منها: 1- المعيشة الضيقة؛ بدليل قوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكا} (12)، وحالة الضيق والاكتئاب والاختناق لا تجتمع مع حالة الطمأنينة نتيجة ذكر الله تعالى المشار إليها في قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوب} (13). 2- يحشر أعمى يوم القيامة؛ بدليل قوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (14)، والعمى مطلق هنا، فقد يريد به الله تعالى عمى القلب لأنّه لم يتبع طريق الحق، وقد يريد به تعالى عمى البصر؛ فيُمنع من النظر إلى الجنان وملائكة الرحمن. 3- نقص الايمان بالله تعالى. 4- الفناء في عالم الدنيا. 5- التكبر على الله تعالى. 6- قسوة القلب. 7- إفراح الشيطان. ولابد من الإشارة أخيرًا إلى أنّ الولع بذكر الله تعالى هو نفسه الولع به تعالى؛ فإنه لم يلهج العبد بذكر فلان إلاّ إذا كان يحبه وولع به، وبالتالي فانّ الكلام أولاً وآخرًا حول الولع بالله تعالى، الذي ناله الامام المعصوم زين العابدين (عليه السلام) الذي وردت الزيارة عنه، حيث يرتجى أن نناله بتوفيق منه تعالى. على أنه جاء في بعض النسخ لا توجد مفردة (مولعة بذكرك)، بل (متعلقة بذكرك)، فيثبت ما سردناه من التعلق بالذات المقدسة الإلهية ثم التعلق بذكرها. __________________ (1) لسان العرب. (2) المائدة: 54. (3) الصف: 4. (4) البقرة: 222. (5) الجواهر السنية: للحر العاملي: ص94. (6) جامع السعادات: للنراقي: ص152. (7) غرر الحكم : 4040. (8) إقبال الأعمال : 349. (9) بحار الأنوار: للعلامة المجلسي، 94 / 151. (10) المؤمن: للشيخ حسين بن سعيد الأهوازي، 26/44 ، وراجع التمحيص: 55/111 ، بحار الأنوار: 93/371/13. (11) مصدر سابق. (12) طه: 124. (13) الرعد: 28. (14) طه: 124. اللهم اجعل لساني بذكرك لهجا، وقلبي بحبِّك متيّما، بحق محمد وآله أهل الحجى.
البيان والبلاغة في كلمات أهل البيت عليهم السلامبقلم: علوية الحسيني "يا مَنْ لا يَعْلَمُ كَيْفَ هُوَ اِلاّ هُوَ، يا مَنْ لا يَعْلَمُ ما هُوَ اِلاّ هُوَ" في العبارتين أدواتٌ بلاغية، منها النداء، والحصر، والاستفهام، وحريٌ بالموحِّد التأمل فيها، واكتناه مغزاها. فأما النداء الذي هو طلب الإقبال بحرفٍ نائبٍ مناب كلمة (أدعو) لفظًا أو تقديرًا، فقد استخدم الإمام (عليه السلام) حرف النداء (يا) الذي يستعمل لمناداة البعيد، وليس ذلك شعورًا منه بابتعاده عمّن أقرب إليه من حبل الوريد، وإنّما إشارةً منه (عليه السلام) إلى علو المكانة الإلهية. وأردف النداء باسمٍ موصول يدل على العاقل (مَن)، الذي استعمله الله تعالى في كتابه الحكيم بقوله: {مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُون} (1). وأمّا القصر (الحصر) فتمثل بقصر الإمام الحسين (عليه السلام) ذلك العلم بالله الواحد الأحد الذي أشار إليه بالضمير (هو)، بطريقة استعمال أداة الاستثناء المسبوقة بالنفي لتدل على الحصر، نظير قوله تعالى {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّه} (2). وأمّا الاستفهام فكان عبارة عن السؤالين التاليين: 1/ كيف هو الله تعالى؟ 2/ ما هو الله تعالى؟ وأجاب الإمام (عليه السلام) عن تلك الأسئلة في دعائه العظيم (دعاء عرفة) بأنّ الله تعالى فقط يعلم جواب السؤالين، ودونكم التفصيل. 1/ "يا مَنْ لا يَعْلَمُ كَيْفَ هُوَ اِلاّ هُوَ" الكيف: "هو أحد الأعراض التي تتصف بها الذات الجوهرية، وله أقسام، فسواءٌ أ كان كيفًا نفسانيًا، أو كميًّا، أو استعداديًا، أو محسوسًا فهو منفيٌ عن الله سبحانه" (3)؛ نأخذ مثالًا بسيطًا قد يفي في المقام في بيان الكيف الثابت للممكنات دون الواجب، يقال مثلاً للإنسان السقيم: كيف أصبحتَ؟ فهو بالأصل كان سليمًا إلاّ أنّ السقم عرض عليه، فسألنا عن صحته بكيف، لأنّه جسمٌ جوهري تطرأ عليه الأعراض. بينما الله تعالى ليس بجسمٍ جوهري حتى تطرأ عليه الأعراض، بل هو خالقها، فكيف تجري مخلوقاته عليه؟! يقول سيّد الموحدين علي (عليه السلام): " و بتجهيره الجواهر عرف أن لا جوهر له"، فمن لا جوهر له لا عرض يطرأ عليه. وعليه، ليس معنى الفقرة إثبات الكيف لله تعالى، بل نفيه عنه سبحانه، والإجابة بالعجز عن إدراك كنه ذات الله تعالى حتى يُسأل عنها، فلعل التقدير بعد حذف أداتي النفي والاستثناء هو: (كيف هو الله؟ يجاب: هو الله)، وهذا تحليلٌ يؤيده العقل والنقل. •فالعقل ينفي أن يكون لله تعالى كيفٌ لأنّ الكيف يثبت للأشياء المرئية المحاطة، فكما يحكم العقل بأنّ الظرف (الكتاب مثلاً) لا يدخل في المظروف (القلم مثلاً)، فكذا الله تعالى (المحيط) لا تحيط به المخلوقات (المحاط). •والنقل ينفي أيضًا الكيف عن الله تعالى؛ لأنّ إثباته يؤدي إلى هلاك العبد؛ بدليل ما روي "عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْمَيَّاحِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عَلَيْهِ السَّلام) يَقُولُ مَنْ نَظَرَ فِي الله كَيْفَ هُوَ هَلَك" (4)، وسبب نفي الكيف نقلاً هو لأنه مخلوق، ولا تجري على الله الخالق لها قوانين مخلوقاته؛ روي "عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عَلَيْهِ السَّلام) قَالَ إِنَّ يَهُودِيّاً يُقَالُ لَهُ سِبَخْتُ جَاءَ إِلَى رَسُولِ الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِه) فَقَالَ يَا رَسُولَ الله جِئْتُ أَسْأَلُكَ عَنْ رَبِّكَ فَإِنْ أَنْتَ أَجَبْتَنِي عَمَّا أَسْأَلُكَ عَنْهُ وَإِلا رَجَعْتُ قَالَ سَلْ عَمَّا شِئْتَ... قَالَ وَكَيْفَ هُوَ؟ قَالَ وَكَيْفَ أَصِفُ رَبِّي بِالْكَيْفِ وَالْكَيْفُ مَخْلُوقٌ وَالله لا يُوصَفُ بِخَلْقِه" (5). 2/ "يا مَنْ لا يَعْلَمُ ما هُوَ اِلاّ هُوَ" حينما نسأل ما هو الشيء الفلاني، فلابد أن تكون له مائية أو ماهية، حتى تدرك ماهيته، والماهية قسمان: ماهية بالمعنى الأعم، وماهية بالمعنى الأخص، فأمّا الثانية فمنتفية عن الله تعالى؛ لأّنّها توجب كونه تعالى محدوداً لأنها حد الوجود، والله تعالى لا محدود،، لذا فهي ثابتة للممكنات فقط، فنقول مثلاً: ما هو الإنسان؟ يجاب: حيوانٌ ناطق. وأمّا الأولى فهي بمعنى إنية الشيء ووجوده الخاص، فهي ثابتة لله تعالى؛ لأنّه شيء؛ بدليل ما روي "عن الحسين بن سعيد، قال: سئل أبو جعفر الثاني عليه السلام: يجوز أن يقال لله: إنه شيء؟ قال: نعم، يخرجه من الحدين: حد التعطيل وحد التشبيه -حد التعطيل هو عدم اثبات الوجود أو الصفات الكمالية والفعلية والإضافية له، وحد التشبيه الحكم بالاشتراك مع الممكنات في حقيقة الصفات وعوارض الممكنات-" (6). ولا شيء بدون تلك الماهية؛ بدليل ما روي "عن هشام بن الحكم في حديث الزنديق الذي أتى أبا عبد الله عليه السلام فكان من قول أبي عبد الله عليه السلام له: ...قال السائل: فله إنية ومائية؟ قال: نعم، لا يثبت الشيء إلاّ بإنية ومائية" (7). والعقل والنقل ينفي الماهية بالمعنى الأخص عنه تعالى. •فأمّا العقل، فينفي اكتناه الذات المقدسة بنفي الماهية المركبة عن الله سبحانه –المركبة تركيبًا عقليًّا (مِن قبيل النوع والجنس والفصل)، وهذا التركيب محالٌ على الله تعالى، فلو كانَ الله تعالى له ماهيةً مركبة لكانت له اجزاءً عقليّة، والتالي باطلٌ، فالمقدّم مثلهُ في البطلان. أو مقداريًّا (مِن قبيل الخط والجسم والسطح)، فلو كانت ذات الله مركبة تركيبًا مقداريًا لكانت متحيّزة، والتالي باطل؛ لاحتياج المتحيّز إلى مكان، والاحتياج ينافي الغنى المُطلق، فالمقدّم مثله في البطلان. أو خارجيًا (مِن قبيل الصورة والمادة)، لأن المادة خارجاً هي الجنس ذهناً، والمادة خارجاً هي الفصل ذهناً، فإذا تم نفي الجنس والفصل فقد انتفت المادة والصورة. لأن كل هذه المعاني خاصة بالممكنات لا الواجب. وإذا سقطَ فرضُ كون ماهية الله تعالى مركبة –بجميع أقسامها- ثــبَتَ فرضُ كونـها بسيـطة. فلا يكون لله تعالى إلا ماهية بالمعنى الأعم وهي بمعنى الوجود والإنية. وبالتالي، لا يعلم إنيّة الله تعالى أو بساطة ذاته إلاّ هو سبحانه. •والنقل أيضًا ينفي أن يكون لله تعالى ماهية تكتنه ذاته المقدسة؛ بدليل ما روي "عن هشام بن الحكم عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال للزنديق حين سأله: ما هو؟ قال: هو شيء بخلاف الأشياء ارجع بقولي إلى إثبات معنى وأنه شيء بحقيقة الشيئية غير أنه لا جسم ولا صورة ولا يحس ولا يجس ولا يدرك بالحواس الخمس لا تدركه الأوهام ولا تنقصه الدهور ولا تغيره الأزمان... قال له السائل: فما هو؟ قال أبو عبد الله عليه السلام: هو الرب وهو المعبود وهو الله" (8). فالإمام (عليه السلام) أجاب على سؤال ما هو الله؟ هو الله. وهذا العجز عن اكتناه ذات الله تعالى يشمل جميع خلق الله تعالى، فلا ملكٌ مقرّب، ولا نبيٌ مرسل، ولا إمامٌ معصوم، ومن دونهم من بابٍ أولى، وهو ما لهج به أهل البيت (عليهم السلام) في أدعيتهم؛ حيث يقول الإمام علي بن الحسين (عليهما السلام) في مناجاة العارفين: " وَعَجَزَتِ الْعُقُولُ عَنْ اِدْراكِ كُنْهِ جَمالِك" (9). وبما أنّ أول الدّين معرفته تعالى، وكمال معرفته توحيده، فيكون من يعرف الله سبحانه هو الموحِّد الأكمل. فإنّهم (عليهم السلام) بأنفسهم يعرفون بالعجز، ليس انتقاصًا منهم، بل تنزيهًا لمعبودهم، وقد برقت بارقة توحيد أحدهم، الحسين (عليه السلام). ________________ (1) القصص: 71. (2) هود: 88. (3) ظ: بداية الحكمة: للعلامة الطباطبائي، م6، ف10، ص102. (4) الكافي: للشيخ الكليني، ج1، ب30، ح4. (5) المصدر نفسه، ج1، ب30، ح9. (6) المصدر نفسه، ج1، ب23، ح2. (7) التوحيد: للشيخ الصدوق، ب36، ح1. (8) مصدر سابق، ج1، ب24، ح6. (9) الصحيفة السجادية: للإمام زين العابدين (عليه السلام)، ص211. سبحان من هو هكذا ولا هكذا غيره.
البيان والبلاغة في كلمات أهل البيت عليهم السلامبقلم: علوية الحسيني/ ودعاء الربيعي "اللّهم اجعل نفسي مطمئنة بقدرك" في هذا المقطع من الزيارة الشريفة يتمحور حديثنا حول الاطمئنان بقدر الله تعالى وأهمية ذلك بالنسبة للفرد المؤمن في مسيرته الدنيوية والأخروية. الفقرة هذه جملة طلبية دعائية، يطلب فيها العبد من ربّه أن يجعل نفسه مطمئنة بقدَر أو قدْر الله (سبحانه وتعالى)، ولابد من الوقوف على أهم مفرداتها. *اللّهم: "صيغة نداء ودعاء مثل: يا الله ، حذف منها حرف النداء وعُوِّض عنه بميم مشدَّدة" (1) *اجعل: فعل أمر جاء للطلب من الداني -العبد- إلى العالي -الرَّب-. *نفسي: تلك النفس التي هي "كيان الإنسان وأساس وجوده وما يدل على تأثيره في بيته وعمله ومجتمعه" (2). * مطمئنة: الاطمئنان سكون النفس بعد انزعاجها واضطرابها" (3)، وهي درجة فوق السكينة، تنتهي بها حركتا المد والجزر للنفس، فبعد أن تكون كالبحر تصبح كالنهر الجاري بانتظام، الخالي من ملوحة الاضطراب. *بقدرك: القدر قدران: "التقدير العلمي: عبارة عن تحديد كل شيء بخصوصياته في علمه الأزلي سبحانه قبل أن يخلق العالم أو قبل أن يخلق الأشياء الحادثة. فالله سبحانه يعلم حد كل شيء ومقداره وخصوصياته الجسمانية والمعنوية... كقوله تعالى: {قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون} وقوله: {إن ذلك على الله يسير} دل على أن تقدير الحوادث قبل وقوعها والقضاء عليها بقضاء لا صعوبة فيه. والتقدير العيني: وهو عبارة عن الخصوصيات التي يكتسبها الشيء من علله عند تحققه وتلبسه بالوجود الخارجي... قال تعالى: {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم} (3). فلكل شيء حد محدود في خلقه لا يتعداه، وصراط ممدود في وجوده يسلكه ولا يتخطاه (4) القدْر (بسكون الدال): مصدر الفعل قَدِرَ يقْدَرُ قدَرَاً، وقد تسكن دالُه. قال ابن فارس: في مادة (قدر): القاف، والدال، والراء، أصل صحيح يدل على مبلغ الشيء وكنه، ونهايته؛ فالقدْر مبلغ كل شيء، يقال: قَدْرُه كذا أي مبلغه، وكذلك القدَرُ، وقدَرْت الشيء أقدِره وأقدُره من التقدير" (5). والقدَر (بفتح الدال): القضاء، والحكم، وهو ما يقدِّره الله (عز وجل) من القضاء، ويحكم به من الأمور. إنّ الله تعالى قدَّر أشياءً تقديرًا حتميًّا أو تكوينيًا، كما في قوله تعالى: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِين} أي جعل لحياتكم الدنيا نهاية وهي الموت، وقدَّر أشياءً بما هي معلّقة على فعل العبد، كما في قوله تعالى: {إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِين}، وهذا القدر مرتهن على فعل امرأة لوط، فاستحقت أن يكون قدرها أنّها من الغابرين؛ لأنّها عصت نبي الله لوط (عليه السلام)، ونهج دعوته للواحد الأحد. القدر في القـرآن الكريم: جاءت هذه المفردة بمعانٍ متعددة، نشير إلى بعض منها: أ- التضييق: كقوله تعالى {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَن} سورة الفجر: 16 . ب- التعظيم: كقوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِه} الأنعام: 91. ج- الاستطاعة، والتغلب، والتمكن: كقوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِم} سورة المائدة:34. د- التدبير: كقوله تعالى: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُون} المرسلات: ٢٣، أي دبَّرنا الأمور، أو أردنا وقوعها بحسب تدبيرنا. هـ- تحديد المقدار، أو الزمان، أو المكان: كقوله تعالى: {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْر} سبأ: 18، وقال: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِين} فصلت: 10. و- الإرادة: كقوله تعالى: {فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِر} القمر: 12، أي دبِّر، وأريد وقوعه. ز- القضاء والإحكام: كقوله تعالى: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمْ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِين} الواقعة: 60. أي قضينا، وحكمنا. ح- التمهل والتَّروي في الإنجاز: كقوله تعالى: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّر} المدثر: 18، أي تمهَّل، وتروَّى؛ ليتبين ما يقوله في القرآن. ط- الصنع بمقادير معينة: كقوله تعالى: {قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرا} الإنسان: 16. إشارة: إنّ القضاء والقدر أمران متلازمان، ولا ينفك أحدهما عن الآخر، لأنّ أحدهما بمنزلة الأساس وهو “القدر”، والآخر بمنزلة البناء وهو “القضاء" (6). وسوف نسلط الضوء على مفردة القدر، وفي الحلقة التالية إن شاء الله تعالى نسلط الضوء على مفردة القضاء. وقبل ان ندخل في قدسيات هذه الزيارة العظيمة، ربما يتساءل المستمع انه وعند قراءته لزيارة الامين يرى أن الأسطر الاولى من الزيارة هي عبارة عن سلام لمولانا أمير المؤمنين وبعدها ينتقل الإمام زين العابدين (عليه السلام) إلى مناجاة، فما السر الذي يكمن وراء هذه الانتقالة من الزيارة والسلام الى المناجاة؟ الجواب: حينما نقرأ: "اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا اَمينَ اللهِ في اَرْضِهِ وَحُجَّتَهُ عَلى عِبادِهِ اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا اَميرَ الْمُؤْمِنينَ"، ثم الشهادة له (عليه السلام): "اَشْهَدُ اَنَّكَ جاهَدْتَ فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ وَعَمِلْتَ بِكِتابِهِ وَاتَّبَعْتَ سُنَنَ نَبِيِّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) حَتّى دَعاكَ اللهُ إلى جِوارِهِ فَقَبَضَكَ اِلَيْهِ بِاخْتِيارِهِ وَاَلْزَمَ اَعْدآئَكَ الْحُجَّةَ مَعَ مالَكَ مِنَ الْحُجَجِ الْبالِغَةِ عَلى جَميعِ خَلْقِه" نجد أنّ الجمل الدعائية تبدأ تتوالى، متدرجةً من حيث الكمال، فأوّل دعاء في هذه الزيارة هو: "اَللّـهُمَّ فَاجْعَلْ نَفْسي مُطْمَئِنَّةً بِقَدَرِك". وهذا المنهج بتراتبية السلام على المعصوم، ثم الشهادة له، ثم اللهج بالدعاء وارد في أغلب زيارات أهل البيت (عليهم السلام)، ومن شاء فليراجع زياراتهم (عليهم السلام) الواردة على لسان الأئمة (عليهم السلام)، ونستظهر من ذلك كلّه السر من وراء ذلك هو: احاطة شيعتهم بآداب الزيارة، بابتداء السلام على المُزار وهم حضرته، فكأنّ الإمام زين العابدين (عليه السلام) يريد أن يخبر شيعته طريقة اجابة الدعاء في محضر المشاهد المقدسة، بالسلام على صاحب القبر، ثم الدعاء في محضره ليكون شفيعًا لهم. إذا تبين هذا نقول: إن الإمام السجاد (عليه السلام) يسأل من الله أن يجعل نفسه مطمئنة بقدر الله تعالى، فيا ترى ماهي الآثار الايجابية التي يتركها الاطمئنان بقدر الله في نفس المؤمن، حتى يبتدأ الامام سؤاله لله عن هذه الامر؟ ج/ الآثار الإيجابية للاطمئنان بقدر الله تعالى كثيرة، منها: 1/حسن الظن بالله تعالى فبعد الاطمئنان بقدر الله تعالى يظهر للعبد أنّ الله تعالى عادل، لطيف، رحيم، وليس فقط منتقم، جبار، شديد العقاب. فاليوم ما إن أصاب أحدنا قدر مقدورٌ، إلا وقد تجد الجزع يتسلل إلى نفسه، والاعتراض على المقدّر، {إنّ الإنسان خلق هلوعا* اذا مسّه الشر جزوعا* واذا مسه الخير منوعا} 2/علو الهمة فيؤسس العبد لنفسه قاعدة مفادها، كلّ ما هو من الحبيب حبيب، والمحب لمن أحب مطيعُ. فكلما كانت همته عالية كان رضاه بقدر وقضاء الله تعالى متحققا. 3/ استمرارية الدعاء بحسن الخاتمة فالعبد يهمه أمر حسن خاتمته، وهو قدر لا يعلمه إلاّ الله تعالى بعلمه الأزلي، فيبقى على لسانه لهجًا بالدعاء. لا يكل ولا يمل، مرتبطًا بعالم السماء، حيث الدعوات الصاعدات، والعنايات النازلات، فهذا العبد يؤمن ويرضى بكل قدر أو قضاء من الله تعالى له. هذا، وإن لعدم الاطمئنان بقدر الله تعالى آثارًا، منها: 1/حلول اللعنة الإلهية عن علي بن الحسين قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "ستة لعنهم الله وكل نبي مجاب: الزائد في كتاب الله، والمكذب بقدر الله، والتارك لسنتي، والمستحل من عترتي ما حرم الله، والمتسلط بالجبروت ليذل من أعزه الله ويعز من أذله الله، والمستأثر بفيء الله المستحل له " (7). واللعنة هي الطرد من رحمة الله تعالى، فيكون مصيره كإبليس اللعين الرجيم. 2/عدم رحمة الله تعالى في يوم القيامة روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): " أربعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: عاق، ومنان، ومكذب بالقدر، ومدمن خمر" (8). والمراد بالنظر هو عدم شمولهم بعناية الله تعالى يوم القيامة 3/عدم راحة العبد نفسيًا. فيبقى في قلقٍ وتشكيكٍ دائم بمجريات الأمور التي تواجهه، إلى أن يؤول الحال به إلى اتهام الله جلّ جلاله بأنّه سبب انتكاسته صحيًا، أو تعسّر رزقه، أو فقدان ولده، أو غير ذلك من الأمور المبتلى بها. سؤال مهم: في أي مرتبة من مراتب الايمان يكمن الاطمئنان بقدر الله وقضائه، وكيف عكس لنا أهل البيت (عليهم السلام) هذا المفهوم من خلال مسيرة حياتهم؟ ج/ إنه في مرتبة اليقين، تلك المرتبة التي توجب اليقين بكل شيء، وإنّ الوصول إلى الكمال الرّوحي يتطلب تحمل المشاق، والتسليم المطلق لله سبحانه، والذوبان في هيمنته وسلطنته جلّ شأنه، فالإنسان وإن كان مجبولًا في فطرته على حب الوصول إلى الكمال، إلاّ أنّ التعلّقات الدنيوية التي تطرأ عليه عرضًا تجعله محجوبًا عن الوصول. وها هي السيّدة زينب (عليها السلام) قد نالت ما نالت من فيوضاتٍ، وهيّمت قلبها لإرادة الواحد القهّار، وتركت التأثر بالعالم الماديّ لأهله، واعشوشب زهرها في ما فوق ذلك العالم، فأصبحت من خواص الله خلقًا، وأثمرهم عطا.ءً (ما رأيتُ إلاّ جميلاً) عبارةٌ قصيرة دلّت عباد الله على الله، إذ أعتقد أنه لم يكُ هدف السيّدة (عليها السلام) أن تبيّن للطاغية والحاضرين مدى رضاها بقضاء الله سبحانه وحسب، بل كان لها هدف سامٍ آخر ألا وهو: أن تدلّهم على الله وترسّخ محبتهم له سبحانه، حيث نقرأ في الزيارة الجامعة الكبيرة: "اَلسَّلامُ عَلَى الدُّعاةِ اِلَى اللهِ، وَالاْدِلاّءِ عَلى مَرْضاة اللهِ، وَالْمُسْتَقِرّينَ في اَمْرِ اللهِ، وَالتّامّينَ في مَحَبَّةِ الله". وجاء في مقطعٍ آخر: "اِلَى اللهِ تَدْعُونَ، وَعَلَيْهِ تَدُلُّونَ، وَبِهِ تُؤْمِنُونَ، وَلَهُ تُسَلِّمُونَ، وَبِأَمْرِهِ تَعْمَلُونَ، وَاِلى سَبيلِهِ تُرْشِدُون". ومنبع تصرّفها هذا هو حبّ الله سبحانه، ومعرفته، حيث روي أنه : "اوحـى اللّه تعالى إلى بـعـض الصدّيقين: إنّ لي عباداً مِن عبادي يحبونني واُحبهم، ويشتاقون إليّ وأشتاق إليهم، ويذكرونني وأذكرهم، ... أقل ما اُعطيهم ثلاثًا: الاول: أقذف من نوري فـي قـلوبهم فيخبرون عنّي كما اُخبر عنهم. والثاني: لو كانت السماوات والأرضون وما فيهما في مـوازيـنهم لاستقللتها لهم. والثالث: أقبل بوجهي عليهم، أ فَتُرى من أقبلتُ بوجهي عليه يعلم أحد ما اُريد أن اُعطيه؟! فقذف سبحانه في قلبها التفويض المطلق ووجدها صابرة، مسلّمة للقضاء والقدر. سؤال آخر: ماهي الاستعدادات النفسية التي تؤهل الفرد للوصول الى التسليم والاطمئنان بقدر الله؟ أو قل: هل هناك بعض الاعمال والممارسات العبادية والاخلاقية التي توصل الفرد الى مرتبة الاطمئنان؟ ج/ أول استعداد يؤهل العباد إلى الاطمئنان بقدر الله تعالى هو معرفة الله، فمن عرف الله أحبه، ثم اعتقد به، ثم امتثل لأوامره واجتناب عن نواهيه، ثم الاطمئنان بما قدر تعالى له. وهنا التفاتة عقائدية لابد من التركيز عليها، ألا وهي: معرفة الله تعالى، جاء في الدعاء " اللهم عرفني نفسك، فإنك إن لم تعرفني نفسك لم أعرف نبيك، اللهم عرفني رسولك فإنك إن لم تعرفني رسولك لم أعرف حجتك. اللهم عرفني حجتك فإنك إن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني ". فالضلال عن الدّين هو نتيجة الشك بوجود الله تعالى، أو بقدره، فيجزع العبد شيئًا فشيئًا إلى أن يصل إلى درجة الشك، والشك غير اليقين مصداقًا ونتيجة؛ فالمعرفة تولّد يقينًا بوجوده، وبقضائه وقدره. ولكن: ما هي حدود معرفة الله تعالى؟ الجواب: إنّ كمال الدِّين معرفته، ونفي الصفات عنه، وتنزيهه عن صفات التجسيم، وتأويل تلك الصفات إلى ما يليق وذاته المقدّسة. ومعرفته بأنّه واحدٌ أحدٌ، ليس كمثله شيء، قديمٌ، سميعٌ، بصيرٌ، عليمٌ، حكيمٌ، حيٌّ، قيومٌ، عزيزٌ، قدوسٌ، قادرٌ، غنيٌّ. لا يوصف بجوهرٍ، ولا جسمٍ، ولا صورةٍ، ولا عرضٍ، ولا خطٍ، ولا سطحٍ، ولا ثقلٍ، ولا خفةٍ، ولا سكونٍ، ولا حركةٍ، ولا مكاٍن، ولا زمان. وأنّه تعالى منزّه عن جميع صفات خلقه، خارج من الحدَّين: حدّ الإبطال وحدّ التشبيه. أما كيف نعرف ذات الله تعالى؟ فهنا يقف العقل البشري عاجزًا عن إدراك ماهية الذات المقدّسة؛ لقصور إدراك عقولنا. فلابدّ للواصف أن يكون: -إمّا بمرتبة الموصوف. -أو أعلى مرتبة منه. لكي يصفه، وإلاّ لكان عاجزًا عن وصفه؛ لأنّ النّاقص لا يوازي الكامل، والعاجز لا يساوي القادر، كما ورد عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث قال: "الحمد لله الدّالّ على وجوده بخلقه، وبمُحدث خلقه على أزليّته، وباشتباههم على أنّ لا شبه له، لا تستلمه المشاعر، ولا تحجبه السّواتر؛ لافتراق الصّانع والمصنوع، والحادّ والمحدود، والرّبّ والمربوب" (9). وإنّ للمعرفة درجات، ويجبُ على المؤمنين معرفة أدنــاها على الأقل، كما هو في الجانب الفقهيّ حيث يوجِب الفقهاء معرفة المسائل الابتلائيّة التي هي أدنـــى درجات المعرفة الفقهيّة، فلابدّ إذن مِن التــوازن المعرفي بين العلوم، ومعرفة ماهي أدنى المعرفة العقائديّة بالله تعالى. ويجب أن تكون تلكَ المعرفة الدُّنيا بالله تعالى مبنيّة على اُسسٍ عقليّةٍ بديهيّةٍ فطريّةٍ، يـعرفها حتى الساكن في بلدةٍ نائيّة بــفطرته، وليــس شرطًا أن تكون تلك المعرفة مبتنية على قواعدٍ فلسفيّة أو منطقيّة، وإلاّ : -لـكانت نسبة كبيرة مِن الناس كــافرين بالله تعالى. -أو كانَ إيمانهم بالأصول الاعتقاديّة ناتجًا عن تقليدٍ أعمى للعلماء والفلاسفة والمُتكلّمين. إذاً، الإنسان بـفطرته يستطيع أن يُثبت ما يعتقد به كما صنعَ أمير المؤمنين (عليه السلام) حينما سُئِلَ مــا الدليل على وجود الله تعالى؟ فأجاب بجوابٍ يناغم الفطرة: (البعرةُ تدلُّ على البعير) مشيرًا إلى سهولة الاستدلال على وجوده تعالى إذا ما كانت الفطرة سليمة. فهذا الدليل الفطريّ يُنمّق كلاميّاً وفلسفيّاً ليُناسب إدراكات الطلبة المتعلّمين ويُسمى بتسمياتٍ اُخَر. والأئمة (عليهم السلام) لم يتركوا شيعتهم دون توضيح لأدنى المعرفة بالله تعالى، حيث "رويَ عَنْ الْفَتْحِ بْنِ يَزِيدَ عَن أَبِي الْحَسَنِ (عَلَيْهِ السَّلام) سَأَلْتُهُ عَنْ أَدْنَى الْمَعْرِفَةِ.. فَقَالَ: الاقْرَارُ بِأَنَّهُ لا إِلَهَ غَيْرُهُ وَلا شِبْهَ لَهُ وَلا نَظِيرَ وَأَنَّهُ قَدِيمٌ مُثْبَتٌ مَوْجُودٌ غَيْرُ فَقِيدٍ وَأَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ" (10). فتلك هي أدنى المعرفة به تعالى، وبالتالي لم يتركنا أهل البيت (عليهم السلام) بدون ارشادٍ وتوجيه، بل أخذوا بأيدينا وأبعدونا عن التيه. __________________ (1) معجم اللغة العربية المعاصر. (2) ظ: الموسوعة الطبية. (3) ظ: الميزان في تفسير القرآن: للعلامة الطباطبائي. (4) الإلهيات: للشيخ جعفر السبحاني، ج2، ص515. (5) لسان العرب: لابن منظور، (6) التوحيد: للشيخ الصدوق، ب 60: باب القضاء والقدر و… ، ح22، ص366 . (7) بحار الأنوار: للعلامة المجلسي، ح 4 وبهذا المضمون الحديث الخامس والسادس مع إضافة يسيرة. (8) الخصال: للشيخ الصدوق. (9) نهج البلاغة، ٤٨. (10) الكافي: ج١، ب ٢٦، ح١. وصلِّ اللّهم على السيّد المطهَّر، والإمام المظفَّر، والشجاع الغضنفر، أبي شبيرٍ وشبّر، علي بن أبي طالب (عليه السلام).
البيان والبلاغة في كلمات أهل البيت عليهم السلاميستشهد الكثير من الناس ــ وحتى بعض المثقفين ــ بقول:" لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع فإن الخير فيها دخيل وعاشر نفساً جاعت بعد شبع فإن الخير فيها أصيل" على أنه من أقوال أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، كما يستشهدون أيضاً بقولٍ آخر ينسبونه إليه (عليه السلام) لا يبعد عن الأول من حيث المعنى:"اطلبوا الخير من بطون شبعت ثم جاعت لأن الخير فيها باق، ولا تطلبوا الخير من بطون جاعت ثم شبعت لأن الشح فيها باق"، مُسقطين المعنى على بعض المصاديق التي لم ترُق افعالها لهم، لاسيما أولئك الذين عاثوا بالأرض فساداً من الحكام والمسؤولين الفاسدين والمتسترين عل الفساد. ونحن في الوقت الذي نستنكر فيه نشر الفساد والتستر عليه ومداهنة الفاسدين نؤكد ونشدد على ضرورة تحرّي صدق الأقوال ومطابقتها للواقع وعدم مخالفتها للعقل والشرع من جهة، وضرورة التأكد من صدورها عن أمير المؤمنين أبي الأيتام والفقراء (عليه السلام) أو غيرها من المعصومين (عليهم السلام) قبل نسبتها إليهم من جهة أخرى، لذا ارتأينا مناقشة هذا القول وما شابه معناه من حيث الدلالة أولاً، ومن حيث السند ثانياً.. فأما من حيث الدلالة فإن هذين القولين يصنفان الناس الى صنفين: صنف قد سبق له أن شبع مادياً ولم يتألم جوعاً، أو يتأوه حاجةً ومن بعد شبعه جاع وافتقر، وصنف آخر قد تقلّب ليله هماً بالدين، وتضوّر نهاره ألماً من الجوع، ثم شبع واغتنى،. كما جعل القولان الخير متأصلاً في الصنف الأول دون الثاني، وبناءً على ذلك فإن معاشرة أفراد هذا الصنف هي المعاشرة المرغوبة والمحبوبة والتي تجرّ على صاحبها الخير والسعادة والسلام، بخلاف معاشرة أفراد الصنف الثاني التي لا تُحبَّذ ولا تُطلب؛ لأنها لا تجر إلى صاحبها سوى الحزن والندم والآلام... ولو تأملنا قليلاً في معنى هذين القولين لوجدناه مغايراً لمعايير القرآن الكريم بعيداً كل البعد عن روح الشريعة الاسلامية ، وعن المنطق القويم والعقل السليم ومخالفاً أيضاً لصريح التاريخ الصحيح، بل ومخالف حتى لما نسمعه من قصص من أرض الواقع أو ما نلمسه فيه من وقائع.. فأما مناقضته للقرآن الكريم فواضحة جداً، إذ إن الله (تعالى) قد أوضح فيه وبشكلٍ جلي ملاك التفاضل بين الناس، إذ قال (عز من قائل):" يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)"(1) جاعلاً التقوى مِلاكاً للتفاضل، فمن كان أتقى كان أفضل، ومن البديهي أن تكون معاشرته كذلك، والعكس صحيحٌ أيضاً. وعليه فإن من سبق حاجتُه وفقرُه شبعَه وغناه يكون هو الأفضل، وبالتالي تكون معاشرته هي الأفضل كذلك فيما لو كان تقياً بخلاف من شبع وكان غنياً ، ثم افتقر وجاع فإنه لن يكون الأفضل ومعاشرته لن تكون كذلك طالما كان بعيداً عن التقوى. وأما بُعده عن روح الشريعة الإسلامية فإن الشريعة لطالما أكدت على أن الله (سبحانه وتعالى) عادلٌ لا جور في ساحته ولا ظلمَ في سجيته، وبالتالي لا يمكن أن يُعقل إطلاقاً أن يجعل البعض فقيراً ويتسبب في دخالة الخير في نفوسهم، التي يترتب عليها نفور الناس من عشرتهم، فيما يُغني سواهم ويجعل الخير متأصلاً في نفوسهم بسبب إغنائه إياهم ليس إلا ومن ثم يتسبب في كون الخير متأصلاً في نفوسهم، وبالتالي حب الناس لعشرتهم. فإن ذلك مخالف لمقتضى العدل الإلهي لأنه ليس بعاجزٍ عن تركه ولا بمُكره على فعله، ولا محب لذلك لهواً وعبثاً (تعالى عن كل ذلك علواً كبيراً). كما إن تأصل الخير في نفوس بعض الناس ودخالته في نفوس البعض الآخر منهم بناءً على أمر خارج عن إرادتهم واختيارهم كـ(الغنى والشبع أو الجوع والفقر) إنما هو أمرٌ منافٍ لمنهج الشريعة المقدسة القائم على حرية الانسان في اختياره لسبيل الخير والرشاد أو سبيل الشر والفساد، قال (تعالى):" إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)"(2) بل إن الانسان أحياناً قد يكون فقيراً بسبب حب الله (تعالى) له، كما ورد في الحديث القدسي: "أن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى فلو أفقرته لأفسده ذلك و أن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر فلو أغنيته لأفسده ذلك"(3) وهل يمكن ان نتصور أن الخيرَ دخيلٌ فيمن يحبه الله (تعالى) أو إن معاشرته لا تجدي نفعا، أو تسبب الهم والألم؟! نعم، ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"اِحْذَرُوا صَوْلَةَ اَلْكَرِيمِ إِذَا جَاعَ وَ اَللَّئِيمِ إِذَا شَبِعَ"(4) ولا يقصد به الجوع والشبع المتعارف عليه لدى الناس، وإنما المراد منه: احذروا صولة الكريم إذا اُمتُهِن، واحذروا صولة اللئيم إذا أكرم، وفي هذا المعنى ورد عنه (عليه السلام) أيضاً: "احذروا سطوة الكريم إذا وضع و سورة اللئيم إذا رفع"(5) وأما العقل السليم والمنطق القويم فإنهما يقتضيان أن تتأصل صفة الخير في الإنسان لملكاتٍ حميدة يتسم بها وصفات فضيلة يتميز بها، لا أن تتأصل صفة الخير في نفسه لمجرد أنه ولد في أسرة تتمتع بالرفاهية الاقتصادية ووجد في بيئة تتنعم بالثروات المادية! وعند مراجعتنا للتاريخ الصحيح نجد أن قادة البشر وصفوة الناس إنما كان أغلبهم ينتمي الى الطبقات الفقيرة من المجتمع، فهؤلاء الأنبياء ورسل الله (صلوات الله عليهم) منهم من كان نجاراً أو خياطاً أو راعياً، ومع ذلك فقد كانوا من أطيب الناس خلقاً، وأعظمهم شرفاً، وأرفعهم منزلةً، قد تأصّل الخير في نفوسهم تأصّلاً حتى غدوا قطعة منه، فكانوا هم الخير للبشر، وهم الرحمة للعالمين. وبالنزول إلى أرض الواقع نجد أن الكثير من الفقراء والمساكين طيبي الروح، كريمي النفس، يتألمون لألم المحتاج ولربما يؤثرونه على أنفسهم رغم حاجتهم. ولا نقصد من كلامنا هذا أن الأغنياء هم على نقيض ذلك، وإنما تأكيداً على مسألة عدم ارتباط تأصل الخير في النفوس وعدمه بمستواهم الاقتصادي الذي نشأوا فيه ارتباط العلة والمعلول، فكما إن بعض الفقراء أخيار، فإن بعض الأغنياء كذلك، والعكس صحيح أيضاً. ومن هنا يُفهم من بعض الروايات ضرورة عدم طلب الخير والحاجات ممن هم أهل للخير بقطع النظر عن مستواهم المعاشي الحالي والسابق، منها ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"أشد من الموت طلب الحاجة من غير أهلها"(5)، وعنه (عليه السلام) أيضاً: "فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غير أهلها"(6) إذن فلا صحة لهاتين المقولتين من حيث الدلالة، حتى وإن تنزلنا وحملنا الجوع والشبع على المعنى المعنوي لا المادي؛ وذلك لأنه حتى من يفتقر الى الأخلاق المعنوية فإنه ما إن يتكامل بالفضائل ويقلع عن الرذائل حتى يتسم بالخير وتحسن عشرته وتطيب للناس صحبته، والعكس صحيحٌ أيضا.. ومن البديهي أن ما لا يوافق العقل والمنطق السليم، ويخالف صريح القرآن الكريم، لا يمكن أن يصدر من وصي الرسول الكريم (صلوات الله عليهما وآلهما)، وعليه لا تصح نسبة هذين القولين الى أمير المؤمنين (عليه السلام).. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الحجرات 13 (2) الانسان 3 (3) عوالي الآلي ج2 ص29 (4) غرر الحكم ج1 227 (5) المدر السابق ج1 ص246 (6) ميزان الحكمة ج4 ص 238 رضا الله غايتي
اخرىخلق الله الأشياء كلها في الحياة ضمن موازين وقياسات... فالزيادة أو النقيصة تسبب المشاكل فيها. وهكذا حياتنا وأفعالنا وعواطفنا لا بد أن تكون ضمن موازين دقيقة، وليست خالية منها، فالزيادة والنقيصة تسبب لنا المشاكل. ومحور كلامنا عن الطيبة فما هي؟ الطيبة: هي من الصفات والأخلاق الحميدة، التي يمتاز صاحبها بنقاء الصدر والسريرة، وحُبّ الآخرين، والبعد عن إضمار الشر، أو الأحقاد والخبث، كما أنّ الطيبة تدفع الإنسان إلى أرقى معاني الإنسانية، وأكثرها شفافية؛ كالتسامح، والإخلاص، لكن رغم رُقي هذه الكلمة، إلا أنها إذا خرجت عن حدودها المعقولة ووصلت حد المبالغة فإنها ستعطي نتائج سلبية على صاحبها، كل شيء في الحياة يجب أن يكون موزوناً ومعتدلاً، بما في ذلك المحبة التي هي ناتجة عن طيبة الإنسان، وحسن خلقه، فيجب أن تتعامل مع الآخرين في حدود المعقول، وعندما تبغضهم كذلك وفق حدود المعقول، ولا يجوز المبالغة في كلا الأمرين، فهناك شعرة بين الطيبة وحماقة السلوك... هذه الشعرة هي (منطق العقل). الإنسان الذي يتحكم بعاطفته قليلاً، ويحكّم عقله فهذا ليس دليلاً على عدم طيبته... بالعكس... هذا طيب عاقل... عكس الطيب الأحمق... الذي لا يفكر بعاقبة أو نتيجة سلوكه ويندفع بشكل عاطفي أو يمنح ثقة لطرف معين غريب أو قريب... والمبررات التي يحاول إقناع نفسه بها عندما تقع المشاكل أنه صاحب قلب طيب. الطيبة لا تلغي دور العقل... إنما العكس هو الصحيح، فهي تحكيم العقل بالوقت المناسب واتخاذ القرار الحكيم الذي يدل على اتزان العقل، ومهما كان القرار ظاهراً يحمل القسوة أحياناً لكنه تترتب عليه فوائد مستقبلية حتمية... وأطيب ما يكون الإنسان عندما يدفع الضرر عن نفسه وعن الآخرين قبل أن ينفعهم. هل الطيبة تصلح في جميع الأوقات أم في أوقات محددة؟ الطيبة كأنها غطاء أثناء الشتاء يكون مرغوباً فيه، لكنه اثناء الصيف لا رغبة فيه أبداً.. لهذا يجب أن تكون الطيبة بحسب الظروف الموضوعية... فالطيبة حالة تعكس التأثر بالواقع لهذا يجب أن تكون الطيبة متغيرة حسب الظروف والأشخاص، قد يحدث أن تعمي الطيبة الزائدة صاحبها عن رؤيته لحقيقة مجرى الأمور، أو عدم رؤيته الحقيقة بأكملها، من باب حسن ظنه بالآخرين، واعتقاده أن جميع الناس مثله، لا يمتلكون إلا الصفاء والصدق والمحبة، ماي دفعهم بالمقابل إلى استغلاله، وخداعه في كثير من الأحيان، فمساعدة المحتاج الحقيقي تعتبر طيبة، لكن لو كان المدّعي للحاجة كاذباً فهو مستغل. لهذا علينا قبل أن نستخدم الطيبة أن نقدم عقولنا قبل عواطفنا، فالعاطفة تعتمد على الإحساس لكن العقل أقوى منها، لأنه ميزان يزن الأشياء رغم أن للقلب ألماً أشد من ألم العقل، فالقلب يكشف عن نفسه من خلال دقاته لكن العقل لا يكشف عن نفسه لأنه يحكم بصمت، فالطيبة يمكن أن تكون مقياساً لمعرفة الأقوى: العاطفة أو العقل، فالطيّب يكون قلبه ضعيفاً ترهقه الضربات في أي حدث، ويكون المرء حينها عاطفياً وليس طيباً، لكن صاحب العقل القوي يكون طيباً أكثر من كونه عاطفياً. هل الطيبة تؤذي صاحبها وتسبب عدم الاحترام لمشاعره؟ إن الطيبة المتوازنة المتفقة مع العقل لا تؤذي صاحبها لأن مفهوم طيبة القلب هو حب الخير للغير وعدم الإضرار بالغير، وعدم العمل ضد مصلحة الغير، ومسامحة من أخطأ بحقه بقدر معقول ومساعدة المحتاج ... وغيرها كثير. أما الثقة العمياء بالآخرين وعدم حساب نية المقابل وغيرها فهذه ليست طيبة، بل قد تكون -مع كامل الاحترام للجميع- غباءً أو حماقة وسلوكاً غير عقلاني ولا يمت للعقل بصلة. إن المشكلة تقع عند الإنسان الطيب عندما يرى أن الناس كلهم طيبون، ثم إذا واجهه موقف منهم أو لحق به أذى من ظلم أو استغلال لطيبته، تُغلق الدنيا في وجهه، فيبدأ وهو يرى الناس الطيبين قد رحلوا من مجتمعه، وأن الخير انعدم، وتحصل له أزمة نفسية أو يتعرض للأمراض، لأن الطيّب يقدم الإحسان للناس بكل ما يستطيع فعله، ويقدّم ذلك بحسن نية وبراءة منه، فهو بالتالي ينتظر منهم الرد بالشكر أو المعاملة باللطف على الأقل... صحيح أن المعروف لوجه الله، ولكن من باب: من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق، لذلك يتأذى عندما يصدر فعل من الشخص الذي كان يعامله بكل طيب وصدق. هل الطيبة والصدق من علامات ضعف الشخصية؟ الكثير من الناس يصف طيب القلب بأنه ضعيف الشخصية، لأنه يتصف بعدم الانتقام ممن ظلمه، والصفح عنه عند رجوعه عن الخطأ، وأنه لا يحب إيقاع الآخرين بالمشاكل؛ لأنه مقتنع أن الله سيأخذ له حقه. والحقيقة هي أن الصدق والطيبة وحسن الظن بالآخرين ليست ضعف شخصية، بل هي من الأخلاق الراقية وهي تزيد صاحبها سمواً وجمالاً روحياً، وليس من المعيب أن يمتلك الإنسان الطيبة بل العيب في من لا يُقدّر هذه الطيبة ويعطيها حقها في التعامل بالمثل. فالمشكلة الأساسية ليست في الطيبة، إنما في استغلال الآخرين لهذه الطيبة، نتيجة لعدم عقلنة قراراتنا والاعتماد على عواطفنا بشكل كلي. فالصدق والطيبة حسب المنطق والعقل، ولها فوائد جمة للنفس ولعموم أفراد المجتمع، فهي تحصين للشخص عن المعاصي، وزيادة لصلة الإنسان بربه، وتهذيب للنفس والشعور بالراحة النفسية، فالصادق الطيب ينشر المحبة بين الناس، وهذا يعزّز التماسك الاجتماعي وتقويته من سوء الظنون والحقد، وهذا التعامل أكّدت عليه جميع الشرائع السماوية، ولو تأمّلنا تاريخ وأخلاق الأنبياء والأوصياء لوجدنا كل ما هو راقٍ من الأخلاق والتعامل بالطيبة والصدق... حنان الزيرجاوي
اخرىرحلةٌ مثقلة بالألم في طريق يئن من وطأة الظلم! ينهي حياة زوجية فشلت في الوصول إلى شاطئ الأمان. ويبدد طموحات أطفال في العيش في هدوء نفسي واجتماعي تحت رعاية أبوين تجمعهم المودة والرحمة والحب. الطلاق شرعاً: هو حل رابطة الزواج لاستحالة المعاشرة بالمعروف بين الطرفين. قال تعالى: [ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)].(١). الطلاق لغوياً: من فعل طَلَق ويُقال طُلقت الزوجة "أي خرجت من عصمة الزوج وتـحررت"، يحدث الطلاق بسبب سوء تفاهم أو مشاكل متراكمة أو غياب الانسجام والحب. المرأة المطلقة ليست إنسانة فيها نقص أو خلل أخلاقي أو نفسي، بالتأكيد إنها خاضت حروباً وصرعات نفسية لا يعلم بها أحد، من أجل الحفاظ على حياتها الزوجية، ولكن لأنها طبقت شريعة الله وقررت مصير حياتها ورأت أن أساس الـحياة الزوجيـة القائم على المودة والرحـمة لا وجود له بينهما. فأصبحت موضع اتهام ومذنبة بنظر المجتمع، لذلك أصبح المـجتمع يُحكم أهواءه بدلاً من الإسلام. ترى، كم من امرأة في مجتمعنا تعاني جرّاء الحكم المطلق ذاته على أخلاقها ودينها، لا لسبب إنما لأنها قررت أن تعيش، وكم من فتاة أُجبرت قسراً على أن تتزوج من رجل لا يناسب تطلعاتها، لأن الكثير منهن يشعرن بالنقص وعدم الثقة بسبب نظرة المجتمع، وتقع المرأة المطلّقة أسيرة هذه الحالة بسبب رؤية المجتمع السلبيّة لها. وقد تلاحق بسيل من الاتهامات وتطارد بجملة من الافتراءات. وتعاني المطلقة غالباً من معاملة من حولها، وأقرب الناس لها، بالرغم من أن الطلاق هو الدواء المر الذي قد تلجأ إليه المرأة أحياناً للخلاص من الظلم الذي أصبح يؤرق حياتها الزوجية، ويهدد مستقبلها النفسي، والله تعالى لم يشرع أمراً لخلقه إلا إذا كان فيه خير عظيم لهم، والطلاق ما شرّع إلا ليكون دواء فيه شفاء وإن كان مرّاً، وإن كان أمره صعباً على النفوس، حيث قال عز وجل: "وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا"، روي عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) ((أبغض الحلال إلى الله الطلاق) (٢). ورغم أن الشريعة الإسلامية أباحت الطلاق بشروط تلاءم لبناء المجتمع، وأولت أهمية في الإحسان دائمًا للطرف الأضعف والأكثر خسارة في هذه المعادلة وهي "المرأة"، إلا أن المجتمع الذي يدّعي الإسلام لا يرحمها، ويحكم عليها بالإدانة طوال حياتها دون النظر في صحة موقفها في الطلاق من عدمه! قال( تعالى ): [الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] (٣). ولكن بعد كل هذا فالحياة لم ولن تتوقف بعد الطلاق! الطلاق ليس نهاية الحياة. - أخيتي. ليكن الطلاق بداية جديدة لحياة جديدة وللانطلاق. -قطار العطاء لن يتعطل. فإن كنت السبب في الطلاق فالحمد لله على كل حال وتلك أمة قد خلت وأيام ذهبت وانجلت فلست بالمعصومة من الخطأ. وعليك استدراك الأخطاء وتقوية مواطن الضعف في شخصيتك، واجعليها درساً مفيداً في الحياة لتطوير نفسك وتقويتها. وإذا كنتِ مظلومة فهناك جبار يُحصي الصغير والكبير وسيأتي يوم ينتصر لك فيه. -ومن الجميل أن تعطي نفسك الإحساس بالحب والاحترام، ولا تتأثري بأي نظرة سلبية من المجتمع وكون البعض يتعامل مع المطلقة على أنها حالة خاصة فعليكِ إثبات ذاتك حتى تفرضي على الكل شخصيتك. - نظرتك لنفسك اجعليها نظرة ايجابية مشرقة ولا تنزلقي في مستنقع نبذ الذات وظلم النفس. - ابحثي عن الصفات الجيدة فيك فإن ذلك سيشعرك بالثقة في ذاتك والتقدير لها. -حاولي مراجعة نفسك للخروج بإيجابيات حصلت لك من طلاقك. - خالطي الآخرين وإياك والعزلة بسبب وضعك الجديد فلست بأول من يبتلى بالطلاق. -استمتعي بالموجود ولا تتعلقي بالمفقود، حلقي بروح تعبق أملاً وتفاؤلاً، استمتعي بما وهبك الله من نعم (صحة وأولاد وأهل وصديقات وعمل وهوايات وغيرها من الأمور الجميلة) فما حصل لك حصل… ولابد أن تتقبليه برضا، وأعلمي أن ما أصابك لم يكن ليخطأك وما أخطأك لم يكن ليصيبك. وقال أصدق من قال: ( وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم). فالرضا سر السعادة الحقيقي. - اقتربي من صديقاتك الصالحات، واقضي معهن وقتاً طيباً تنسين به ألمك وحزنك. - احرصي على الصلوات وقراءة القرآن الكريم والذكر والاستغفار وأكثري من الطاعات قدر ما تستطيعين، ففيها السلوى والفرح والسعادة. ونعم سعادة القرب من الرحمن. - اشغلي نفسك بأعمال البر والإحسان بمساعدة محتاج. بكفالة يتيم. بتعلم الفقه والقرآن وتعليمه. - اجتهدي في عمل برنامج يومي لك يكون ممتلأ بكل ما هو مفيد لك. من قراءة وزيارة الأصدقاء وصلة الرحم. بحيث لا تكون هناك دقيقة أنت فارغة فيها. - وأسرعي بقاربك الجميل بمجذافين من إيمان بالله وثقة بالنفس وسوف تصلين بإذن الله نحو جزيرة السعادة والنجاح. لكي تتسلق جبال الإنجاز، وتصل لأعلى مراتب الاعجاز. وعندها جزماً سيكون للحياة معنى آخر. --------------------------------- (١)-سورة البقرة الآية (٢٢٦-٢٢٧). (٢)-الكافي (٢)-سورة البقرة الآية (٢٢٨) حنان ستار الزيرجاوي
اخرى(لا تقاس العقول بالأعمار، فكم من صغير عقله بارع، وكم من كبير عقله فارغ) قولٌ تناولته وسائل التواصل الاجتماعي بكل تقّبلٍ ورضا، ولعل ما زاد في تقبلها إياه هو نسبته الى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولكننا عند الرجوع إلى الكتب الحديثية لا نجد لهذا الحديث أثراً إطلاقاً، ولا غرابة في ذلك إذ إن أمير البلاغة والبيان (سلام الله وصلواته عليه) معروفٌ ببلاغته التي أخرست البلغاء، ومشهورٌ بفصاحته التي إعترف بها حتى الأعداء، ومعلومٌ كلامه إذ إنه فوق كلام المخلوقين قاطبةً خلا الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ودون كلام رب السماء. وأما من حيث دلالة هذه المقولة ومدى صحتها فلابد من تقديم مقدمات؛ وذلك لأن معنى العقل في المفهوم الإسلامي يختلف عما هو عليه في الثقافات الأخرى من جهةٍ، كما ينبغي التطرق الى النصوص الدينية الواردة في هذا المجال وعرضها ولو على نحو الإيجاز للتعرف إلى مدى موافقة هذه المقولة لها من عدمها من جهةٍ أخرى. معنى العقل: العقل لغة: المنع والحبس، وهو (مصدر عقلت البعير بالعقال أعقله عقلا، والعِقال: حبل يُثنَى به يد البعير إلى ركبتيه فيشد به)(1)، (وسُمِّي العَقْلُ عَقْلاً لأَنه يَعْقِل صاحبَه عن التَّوَرُّط في المَهالِك أَي يَحْبِسه)(2)؛ لذا روي عنه (صلى الله عليه وآله): "العقل عقال من الجهل"(3). وأما اصطلاحاً: فهو حسب التصور الأرضي: عبارة عن مهارات الذهن في سلامة جهازه (الوظيفي) فحسب، في حين أن التصوّر الإسلامي يتجاوز هذا المعنى الضيّق مُضيفاً إلى تلك المهارات مهارة أخرى وهي المهارة العبادية. وعليه فإن العقل يتقوّم في التصور الاسلامي من تظافر مهارتين معاً لا غنى لأحداهما عن الأخرى وهما (المهارة العقلية) و(المهارة العبادية). ولذا روي عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنه عندما سئل عن العقل قال :" العمل بطاعة الله وأن العمّال بطاعة الله هم العقلاء"(4)، كما روي عن الإمام الصادق(عليه السلام)أنه عندما سئل السؤال ذاته أجاب: "ما عُبد به الرحمن، واكتسب به الجنان. فسأله الراوي: فالذي كان في معاوية [أي ماهو؟] فقال(عليه السلام): تلك النكراء، تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل"(5) والعقل عقلان: عقل الطبع وعقل التجربة، فأما الأول أو ما يسمى بـ(الوجدان الأخلاقي) فهو مبدأ الادراك، وهو إن نَما وتطور سنح للإنسان فرصة الاستفادة من سائر المعارف التي يختزنها عن طريق الدراسة والتجربة وبالتالي يحقق الحياة الإنسانية الطيبة التي يصبو اليها، وأما إن وهن واندثر لإتباع صاحبه الأهواء النفسية والوساوس الشيطانية، فعندئذٍ لا ينتفع الانسان بعقل التجربة مهما زادت معلوماته وتضخمت بياناته، وبالتالي يُحرم من توفيق الوصول إلى الحياة المنشودة. وعقل التجربة هو ما يمكن للإنسان اكتساب العلوم والمعارف من خلاله، وما أروع تشبيه أمير البلغاء (عليه السلام) العلاقة التي تربط العقلين معاً إذ قال فيما نسب إليه: رأيت العقل عقلين فمطبوع ومسموع ولا ينفع مسموع إذ لم يك مطبــوع كما لا تنفع الشمس وضوء العين ممنوع(6) فقد شبّه (سلام الله عليه) عقل الطبع بالعين وعقل التجربة بالشمس، ومما لاشك فيه لكي تتحقق الرؤية لابد من أمرين: سلامة العين ووجود نور الشمس، وكما إن الثاني لا ينفع إن لم يتوفر الأول فكذلك عقل التجربة لا ينفع عند غياب عقل الطبع فضلاً عن موته. وبما إن عقل الطبع قد ينمو ويزدهر فينفع صاحبه من عقل التجربة، وقد يموت ويندثر عند الاستسلام لإضلال شبهةٍ أوبسبب إرتكاب معصية، فإنه ومن باب أولى أن يتعرض الى الزيادة والنقصان كما سيأتي... وقد ورد في النصوص الدينية أن للعقل زمناً ينمو فيه ويكتمل، فعن إمامنا أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه):"يثغر الصبي لسبع، ويؤمر بالصلاة لتسع، ويفرق بينهم في المضاجع لعشر، ويحتلم لأربع عشرة، وينتهى طوله لإحدى وعشرين سنة، وينتهي عقله لثمان وعشرين إلا التجارب"(7)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يربى الصبي سبعاً ويؤدب سبعاً، ويستخدم سبعاً، ومنتهى طوله في ثلاث وعشرين سنة، وعقله في خمس وثلاثين [سنة] وما كان بعد ذلك فبالتجارب"(8). إذن يتوقف النمو الطبيعي لعقل الانسان عند سن الثامنة والعشرين أو الخامسة والثلاثين كما ورد في الروايتين، وأية زيادة أخرى في طاقته بعد ذلك إنما تأتي عن طريق التجارب، وقد يُتوهم بأن ثمة تعارضاً ما بين الروايتين المتقدمتين في شأن تحديد سن النمو العقلي، إلا إنه لا تعارض ينهما إذا حملنا اختلافهما فيه على اختلاف الاشخاص وتباين استعدادات وقابليات كل منهم. وعلى الرغم من توقف نمو عقل الإنسان إلا إن له أنْ يزيده بالتجارب ومواصلة التعلم ــ كما تقدم في الروايات ــ وسواء أثبت العلم هذه الحقيقة الروائية أم لا، فنحن نريد الإشارة إلى ضرورة استمرار التجربة والتعلم لزيادة نمو العقل وهذا المقدار لا خلاف فيه وعلى الرغم من إن لعمر الانسان مدخلية في زيادة عقله كما تقدم وكما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يزيد عقل الرجل بعد الاربعين إلى خمسين وستين، ثم ينقص عقله بعد ذلك"(9)، إلا إن ذلك ليس على نحو العلة التامة، إذ يمكن للعقل أن يبقى شاباً وقوياً وإن شاب الإنسان وضعف جسمه، وتقدم في السن ووهن عظمه، فالعاقل لا يشيب عقله ولا تنتقص الشيخوخة من قوته بل وقد يزداد طاقةً وحيويةً لذا ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"رأي الشيخ أحب الي من جَلَد الغلام"(10)، وفي أخرى ".....من حيلة الشباب "(11) وأما من لم يوفر أسباب صقل عقله في مرحلة الشباب فإنه بلا شك يضمحل عقله في مرحلة الشيخوخة. وليس تقدم العمر هو العامل الوحيد في نقصان العقل بل إن النصوص الشرعية أشارت الى عوامل عديدة اخرى أهمها: أولاً: التعلم: فقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "من لم يصبر على ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبداً"(13). ثانياً: التوبة: وعنه (عليه السلام) ايضاً:"من لم يرتدع يجهل"(14) ثالثاً: التقوى: فقد كتب إمامنا الباقر (عليه السلام) إلى سعد الخير: "بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإني اوصيك بتقوى الله فإن فيها السلامة من التلف والغنيمة في المنقلب إن الله (عزوجل) يقي بالتقوى عن العبد ما عزب عنه عقله ويجلي بالتقوى عنه عماه وجهله"(15) إذن التوبة هي سبب للتوفيق الإلهي الذي يؤدي فيما يؤدي إليه من إكمال العقل. رابعاً: الوقوف عند الشبهة: وقال (عليه السلام ): "لا ورع كالوقوف عند الشبهة"(16). فإن الوقوف عند الشبهات سبب من أسباب التوفيق الإلهي بلا شك. خامساً: الاعتراف بالجهل: كما روي عن الإمام علي (عليه السلام): "غاية العقل الاعتراف بالجهل"(17) إذ الاعتراف بالجهل يدفع الإنسان دوماً إلى مزيد من بذل الجهد واكتساب المعارف. مما تقدم تتضح جلياً صحة هذه المقولة دلالةً، إذ إن العقول فعلاً لا تقاس بالأعمار لأن كلٍاً من زيادتها ونقيصتها منوطٌ بالعديد من العوامل الأخرى والتي تقدم ذكرها، بيد إن ذلك لا يبرر التساهل في نشرها والتهاون في الاستشهاد بها على إنها من أقوال أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) لعدم ثبوت ذلك سنداً من جهة ولضعف بلاغتها وركاكة تركيبها بالنسبة إلى سيد البلغاء والبلاغة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) تهذيب اللغة ج1 ص65 (2) لسان العرب ج11 ص458 (3) نهاية الحكمة ص305 (4) ميزان الحكمة ج3 ص333 (5) أصول الكافي ج1، ح3 / 11 (6) نهج السعادة ج9 ص163 (7) الكافي ج7 ص94 (8) الفقيه ج3 ص493 (9) الاختصاص ص245 (10) نهج البلاغة حكمة 86 (11) بحار الأنوار ج72 ص105 (12) المصدر السابق ج1 ص94 (13) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص118 (14) الكافي ج8 ص73 (15) وسائل الشيعة ج1 ص162 (16) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص1 بقلم الكاتبة: رضا الله غايتي
اخرىبقلم: أم نور الهدى كان لأمير المؤمنين (عليه السلام) اهتمام خاص بالمرأة، فنراه تارة ينظر إليها كآية من آيات الخلق الإلهي، وتجلٍ من تجليات الخالق (عز وجل) فيقول: (عقول النساء في جمالهن وجمال الرجال في عقولهم). وتارة ينظر إلى كل ما موجود هو آية ومظهر من مظاهر النساء فيقول: (لا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها فإن المرأة ريحانة وليس قهرمانة). أي إن المرأة ريحانة وزهرة تعطر المجتمع بعطر الرياحين والزهور. ولقد وردت كلمة الريحان في قوله تعالى: (فأمّا إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة النعيم) والريحان هنا كل نبات طيب الريح مفردته ريحانة، فروح وريحان تعني الرحمة. فالإمام هنا وصف المرأة بأروع الأوصاف حين جعلها ريحانة بكل ما تشتمل عليه كلمة الريحان من الصفات فهي جميلة وعطرة وطيبة، أما القهرمان فهو الذي يُكلّف بأمور الخدمة والاشتغال، وبما إن الإسلام لم يكلف المرأة بأمور الخدمة والاشتغال في البيت، فما يريده الإمام هو إعفاء النساء من المشقة وعدم الزامهن بتحمل المسؤوليات فوق قدرتهن لأن ما عليهن من واجبات تكوين الأسرة وتربية الجيل يستغرق جهدهن ووقتهن، لذا ليس من حق الرجل إجبار زوجته للقيام بأعمال خارجة عن نطاق واجباتها. فالفرق الجوهري بين اعتبار المرأة ريحانة وبين اعتبارها قهرمانة هو أن الريحانة تكون، محفوظة، مصانة، تعامل برقة وتخاطب برقة، لها منزلتها وحضورها. فلا يمكن للزوج التفريط بها. أما القهرمانة فهي المرأة التي تقوم بالخدمة في المنزل وتدير شؤونه دون أن يكون لها من الزوج تلك المكانة العاطفية والاحترام والرعاية لها. علماً أن خدمتها في بيت الزوجية مما ندب إليه الشره الحنيف واعتبره جهادًا لها أثابها عليه الشيء الكثير جدًا مما ذكرته النصوص الشريفة. فمعاملة الزوج لزوجته يجب أن تكون نابعة من اعتبارها ريحانة وليس من اعتبارها خادمة تقوم بأعمال المنزل لأن المرأة خلقت للرقة والحنان. وعلى الرغم من أن المرأة مظهر من مظاهر الجمال الإلهي فإنها تستطيع كالرجل أن تنال جميع الكمالات الأخرى، وهذا لا يعني أنها لا بد أن تخوض جميع ميادين الحياة كالحرب، والأعمال الشاقة، بل أن الله تعالى جعلها مكملة للرجل، أي الرجل والمرأة أحدهما مكمل للآخر. وأخيرًا إن كلام الإمام علي (عليه السلام) كان تكريمًا للمرأة ووضعها المكانة التي وضعها الله تعالى بها، حيث لم يحملها مشقة الخدمة والعمل في المنزل واعتبر أجر ما تقوم به من اعمال في رعاية بيتها كأجر الجهاد في سبيل الله.
اخرىعالم الطفولة كأنه طاولة، لا تجد فيه غير طعام لذيذ، ومنظر لطيف وجديد، فعالمهم فاكهة الوجود، وخضار الأرواح، ومياه الحياة تسقي القلوب... عالم صفاء وأحلام جميلة بسيطة وتافهة ولكن بنظرهِ هو عظيمة وكبيرة، فهو العالم الذي ينطلق منه الإنسان في بداية عمره. فالطفل في بداية حياته ينظر إلى الحياة بتفكيره البريء، فالطفل يعيش بعالم خاص به مملوء بالمحبة البريئة. هذه هي الصورة الجميلة التي يحملها الطفل، وكم يتمنى كل إنسان أن يعود لطفولته البريئة ليتأمل في أرجاء عالمها الذي كان يصور له حياة مختلفة تشد الإنسان إليها بجمالها، هذا هو عالم الطفولة وهذه أحلام من يعيشها، فلا ينفذ إلى ملكوت ذلك العالم ولا يدرك كنهه إلا من عاشه وجال في ربوعه. حيث يتذوق الطفل مع أحلام طفولته هذه لذة الحياة ولذة العيش فيها، ومهما حاولنا أن نعبر عن هذه الحقيقة فلن نستطيع تصويرها بالكلمات. وبعد هذا، فإن الاهتمام بمستقبل الطفل هو في الواقع ضمان لمستقبل شعب بأسره. قال اللَّه تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا". التحريم/6 أعتنى الإسلام بتربية الأبناء عناية فائقة، وألقى على عاتق الأهل ما سيكون عليه الولد في مسلكه الدنيوي ومصيره الأخروي إن هم قصروا في تربيته وإعداده. وقد ذكر العلماء أن شخصية الولد تتأثر في نموها بعوامل ثلاثة وهي: الوراثة، والبيئة، والتربية. إذا خضنا في مضمار التربية السليمة للأبناء... فعلى الأبوين أن يكون لهما الوعي التربوي الذي يبنى على أسس صحيحة ويتوفر لديهم فهم لأساليب التربية والتوجيه والرعاية وهذه نقطة البداية. فمثلاً في أسلوب التعامل مع الطفل تبرز أمامنا ثلاثة اشكال لتعامل الآباء مع الأبناء: الشكل الأول: أسلوب الدلال المفرط وهذا الأسلوب له نتائجه السلبية الخطيرة، فإنه يخلق شخصية هشة متميعة وشخصية اتكالية تحب الكسل والخمول مجردة من الهدف والإقدام، انهزامية غير قادرة على مواجهة التحديات وبمعنى أدق شخصية لا تثق بنفسها. شخصية متسيبة في ظل غياب المراقبة والمحاسبة وهذا التسيب يقود إلى الانفلات والانحراف. الشكل الثاني: فهو أسلوب التربية القاسية والعنف. وهذا الأسلوب أيضاً له نتائجه الخطيرة والسلبية التي يعاني منها الأبناء طوال حياتهم فهو يخلق شخصية قلقة ومتأزمة ومعقدة وخائفة وتحمل عقدة الخوف، شخصية حاقدة وعدوانية وقد تتأزم الأمور لتصبح شخصية منافقة وكاذبة خوفاً من العقاب والتعنيف ضمن حدود الأسرة ولكن يوماً من الأيام سينطلق هذا الشخص ليواجه المجتمع ككل، فلنتصور كيف سيتعامل مع المحيطين ضمن مجالات الدراسة والعمل وهو شخصية هاربة من أجواء الأسرة وقد يعرضها للتسيب والانحراف لأنها شخصية متمردة مما يعرضها للعقوق. الأسلوب الثالث: التوازن. الأسلوب الصحيح يعتمد على التوازن فمن شروط نجاح التربية التوازن في المعاملة ما بين الأمور التي تحتاج إلى شدة وحزم ليتربى على أن هذه الأمور خطوط حمراء طبعاً هنا يمكن أن يعترض أحد ويقول: لا للعنف الأسري ولا لاستخدام القسوة. نعم فهناك طرق غير استخدام العنف. يكفي ان يبدي الآباء انزعاجهم مثلاً. وهنا النقطة مهمة جداً، وهي: أن نوضح لهم سبب المنع والرفض لا تعتقدوا أن أبناءكم لا يدركون ولن يفهموكم. تخصيص الوقت للنقاش مهم جداً. وما بين أسلوب المرونة والحنان والاحتواء. التوازن في المعاملة. إن الإمام زين العابدين (عليه السلام) يصرح بمسؤولية الأبوين بتربية الطفل، ويعتبر التنشئة الروحية والتنمية الخلقية لمواهب الأطفال واجباً دينياً يستوجب أجراً وثواباً من الله تعالى، وأن التقصير في ذلك يُعرّض الآباء إلى عقاب الله. فيقول (عليه السلام): (وأما حق ولدك عليك فأن تعلم أنه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره. وأنك مسؤول عما وليته به من حسن الأدب والدلالة على ربه عز وجل والمعونة له على طاعته. فأعمل في أمره عمل من يعلم أنه مثاب على الإحسان إليه معاقب على الإساءة إليه ) مكارم الأخلاق للطبرسي ص٢٣٢ حنان الزيرجاوي
اخرى