بقلم: علوية الحسيني "وعجِّل فرجي وسهِّل مخرجي" قوله: "وعجِّل" فعلٌ صيغته مشدّدة, والأصل: "عَجِلَ عَجِلَ عَجَلاً, وهو بمعنى الإسراع, وجاء في القرآن الكريم: {وَعَجِلْتُ إلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} أي أسرعتُ إلى طاعتكَ ربّي لترضى عنّي. وعَجَّلَ بالتشديد تفيد نفس المعنى, وهو التشديد بالإسراع, فيقال: عجّل للضَّيْف: أي قَدَّم إليه الطعام" (1), وقد ذكر الفعل مشددًا في القرآن الكريم, بقوله تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَاب} (2), "فطلبوا استهزاءً بيوم المعاد أن يسرع الله تعالى لهم بحظّهم من العذاب قبل يوم القيامة" (3). *وقوله: "فرجي" أي غمِّي؛ فيقال: "فَرَجَ اللهُ الغَمَّ: [أي] كَشَفَه" (4). فظاهر العبارة أنّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) يلح بدعائه على الله تعالى بأن يسرع كشف غمّه نتيجة غيبته. *قوله: "وسهِّل" أيضًا صيغة الفعل مشدّدة, والأصل "سَهُلَ سَهُلَ سُهُولَةً: مالَ إلى اللِّين وقَلَّت خشونته" (5). *وقوله: "مخرجي" المخرج هو "موضعُ الخَروج" (6).. لو تأملنا في مفردة دعاء الإمام هذه, لوجدنا أنّه يشخّص بدقة ما يريد, وهو الحكيم في قوله؛ إذ دعا بتسهيل خروجه, ولم يقل بتسهيل الظهور؛ لتغاير المفردتين, فالخروج قد يعني "خروجه عليه السلام من المدينة إلى مكة" (7), وما طلبه التسهيل والإسراع في موردٍ كهذا إلاّ لشدّة ما سيمرّ به بعد ظهوره الأصغر في المدينة المنورة؛ إذ سيرسل السفياني جيشًا إلى المدينة؛ فعن النبي (صلى الله عليه وآله): ... خرج عليهم السفياني من الوادي اليابس... فيبعث جيشاً إلى المشرق وجيشاً إلى المدينة" (8). والإمام في هذه الحال لم يعلن (عجّل الله فرجه الشريف) عن ظهوره الأكبر, فنتيجة للخطر المحدق بالإمام توجّه بالدعاء بإلحاح بأن يسهّل خروجه من المدينة؛ إذ قد يتمكن جيش السفياني من اعتقال الإمام قبل خروجه منها, وهو آنذاك لا ناصر له إلاّ الله (تعالى), بل حتى لو دعا الناس إليه، لأمكن أن لا يصدّقه أغلب الناس. ولازم تلك الرواية أنّ عدو الله (تعالى) السفياني سيعلم بتواجد الإمام في المدينة, فيرسل جيشًا لاعتقاله أو قتله. ولعل ترقب السفياني هذا, ودس جواسيسه في أماكن كمكة والمدينة, يكون نتيجة سماعه وجنوده الصيحة الجبرائيلية, في ليلة الثالث والعشرين من شهر رمضان, فلعله يستفهم من أهل العلم آنذاك عن خارطة ظهور الإمام, إذ أنّ إغلب الناس سيترنمون باسم الإمام؛ حسب ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: "إذا نادى منادٍ من السماء: إنَّ الحقَّ في آل محمّد، فعند ذلك يظهر المهدي على أفواه الناس، ويُشربون حبّه، فلا يكون لهم ذكر غيره" (9). فيستغل الجواسيس آنذاك هذه الفرصة ويسترقون المعلومات, ويحصلون على مكان تواجد الإمام, نظير استراق الشياطين أخبار السماء. فيترقب السفياني حصول حراك ضدّه, ليرسل شرذمته إلى المدينة, ومكة, محل الظهور. *وهنا سؤال: هل يعلم الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) بوقت ظهوره؟ جوابه منبثق من العصمة التي تتطلب كل كمال، فبما أنّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) معصوم, "والعصمة تتجلّى بعلم لدنّي يكشف للمعصوم ما خفي علينا,... فهو إذن يعلم بساعة الظهور, إمَّا من باب أنَّ العصمة تعني فيما تعنيه علماً لدنّياً غيبياً بتعليم من الله تعالى، وإمَّا من باب أنَّ من خصائص الأئمَّة (عليهم السلام) أنَّهم إذا أرادوا أن يعلموا الشـيء، فإنَّ الله تعالى يُعلِّمهم ذلك الشيء بمجرَّد توجّه نفوسهم القدسية إلى معرفته" (10). ونحن نعلم أن ذلك العلم اللدني من الله (تعالى), وبإذنه؛ فقد روي "عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الاوَّلِ مُوسَى (عَلَيْهِ السَّلام) قَالَ: مَبْلَغُ عِلْمِنَا عَلَى ثَلاثَةِ وُجُوهٍ مَاضٍ وَغَابِرٍ وَحَادِثٍ, فَأَمَّا الْمَاضِي فَمُفَسَّرٌ, وَأَمَّا الْغَابِرُ فَمَزْبُورٌ, وَأَمَّا الْحَادِثُ فَقَذْفٌ فِي الْقُلُوبِ وَنَقْرٌ فِي الاسْمَاعِ, وَهُوَ أَفْضَلُ عِلْمِنَا, وَلا نَبِيَّ بَعْدَ نَبِيِّنَا" (11). ومعه، فحتى لو قيل: إنه (عجل الله تعالى فرجه) لا يعلم بوقت ظهوره اليوم، وسيعلمه في وقت خاص، فهذا ليس بنقصٍ, بل هو اصطفاء له, وتمييز عن غيره؛ لكونه معصوما. *وعليه, فإن قيلَ: بما أنّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) معصوم, والمعصوم لا يصدر منه اللغو, فإذا كان يعلم بوقت ظهوره فما فائدة دعائه؟ يمكن الإجابة على هذا الإشكال اجمالًا ضمن النقاط التالية: 1- إنّ الدعاء ليس لغواً على كل حال, فدعاء الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) شوق منه لتحقيق رضا الله تعالى, بسيادة العدل في دولته الموعودة, التي سادها الظلم والجور, وللقاء بأنصاره, وشيعته, ومن سيلتحق به, بعد أن أحرقهم شوق الانتظار, وهذا بحد ذاته فعل حسن, يحكم العقل بحسنه. 2- إنّ دعاء الإمام رسالة لنا بعدم الانقطاع عن الدعاء مهما كان القدر مفروغًا منه؛ روي "عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عَلَيهِ السَّلام) قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: ادْعُ وَلا تَقُلْ قَدْ فُرِغَ مِنَ الأمْرِ فَإِنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَة" (12), فرغم كون خروج الإمام مفروغًا منه إلاّ أنّ الإمام لم ينقطع عن الدعاء, فدعا بتسهيل مخرجه. 3- إنّ دعاء الإمام بتعجيل الفرج محققٌ لغرض الله (تعالى), وهو هداية العباد, وتحقيق القسط والعدل, وتطبيق معالم الدّين, وهذا كافٍ لرفع اللغوية. *فإن قيل: إنّ ظهور الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) من الأمور المحتومة, اللابدية الوقوع, فكيف يدعو الإمام ربّه بأن يغيّر محتومًا؟ وإن استجاب الله (تعالى) له فهذا من قبيل اجراء البداء على علمه (تعالى)! *يجاب: إنّ هذا الإشكال مندفع بعدم لزوم المحذور مع اجراء البداء؛ انطلاقًا من فهم معنى البداء بالنسبة لله تعالى, وتفصيله يقع ضمن الوجهين التاليين: ▪️الوجه الأول: لو أُجريَ على الفقرة الأولى من دعاء الإمام, وهي "وعجّل فرجي": فإن حُمل تعجيل الفرج على تعجيل الظهور العالمي للإمام؛ بقرينة حاليّة, وهي انكشاف غم الإمام بالظهور, فكأنّه (عجّل الله فرجه الشريف) دعا باللازم, وهو (تعجيل الفرج), لا بالملزوم وهو (تعجيل الظهور). فهذا ممكن في عالم الثبوت والإثبات؛ والشواهد على ذلك كثيرة, منها ما روي عن رسول الله, محمد (صلى الله عليه وآله), أنّه قال: "لولم يَبقَ من الدنيا إلّا يوم، لــطوَّل الله ذلك اليوم حتّى يظهر المهدي من آل محمّد (صلى الله عليه وآله)"(13), فمنطوق الرواية صريح في حتمية ظهور الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف), وهذا أمرٌ مفروغٌ منه, ولكنّها تشير إلى إمكان تأخير الله (تعالى) ليوم الظهور, وجعله آخر يومٍ في الدنيا. فكما أمكن تأخير ذلك اليوم, أمكن تقديمه, ومن هنا انطلق الإمام بالدعاء بتعجيل فرجه, أي بتعجيل يوم كشف غمته والإذن له بالظهور. والنتيجة/ ممكن حصول البداء في تعجيل فرج الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف), ولا محذور في ذلك؛ وذلك لأن التغيّر سيحصل في علمنا نحن, لا في علم الله (تعالى)؛ لأنّه (تعالى) بعلمه الأزلي علم أنّ الإمام سيدعو بتقديم يوم ظهوره. ▪️الوجه الثاني: لو أُجري على الفقرة الثانية من دعاء الإمام, وهي "وسهّل مخرجي": فهنا يمكن القول بجريان البداء؛ فبناءً على أنّ خروج الإمام يختلف عن ظهوره, فكما جرى بالظهور يجري في الخروج؛ لاشتراك المفردتين في هدفٍ واحدٍ؛ لهذا دعا الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) ربّه باللطف وتسهيل العقبات عند ظهوره الأولي, أو خروجه, أما نقرأ أنّ الله (تعالى) سيحميه, ويخرجه من المدينة بلينٍ ولطف! فهذا بداءٌ بالنسبة لنا؛ حيث كنّا لا نعلم, وقد علمنا. ___________________ (1) ظ: المعجم الوسيط: لمجموعة مؤلفين, ج2, ص586. (2) سورة ص: 16. (3) ظ: تفسير الميزان: للسيّد محمد حسين الطباطبائي, ج17, ص186. (4) المعجم الوسيط: لمجموعة مؤلفين, ج2, ص678. (5) المصدر نفسه, ج1, ص458. (6) المصدر نفسه, ج1, ص225. (7) صحيفة صدى المهدي, العدد 85, ربيع الأول, 1435هـ, الأسئلة الموجهة إلى مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي عليه السلام. (8) معجم أحاديث الإمام المهدي عليه السلام: للشيخ الكوراني, ج5, ص354. (9) كنز العمّال: للمتَّقي الهندي, ج١٤, ص٥٨٨, ح ٣٩٦٦5. (10) مقال: عنصر الخفاء في القضية المهدوية: للشيخ حسين الأسدي, مجلة الموعود, العدد ٤/ ذو الحجة/ ١٤٣٨هـ. (11) الكافي: للشيخ الكليني, ج1, باب جهات علوم الأئمة, ح1. (12) الكافي: للشيخ الكليني, ج2, باب فضل الدعاء والحث عليه, ح5. (13) الصواعق المحرقة: لابن حجر العسقلاني, ص249. اللّهم عجّل فرجه, وسهّل مخرجه, واجعلنا من أنصاره وأتباعه, بحق محمدٍ وآله.
العقائدبقلم: علوية الحسيني السؤال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته لا أعرف كيف أبدأ لكن لجأتُ إليكم بعد الله تعالى لتنقذوني مما أنا فيه، أنا أعاني من حالة ترك الصلاة والعبادة بعد أن كنت من المواظبات عليها منذ الصغر ولا أترك فريضةً ولا دعاء ولا تسبيحًا. أحسست في داخلي بأنَّ الله تعالى غير موجود؛ لأنه لا يستجيب لي، أعاني كثيرًا فما دعوته مرة واستجاب. أموري مُتعسرة وحالي (واقف)، حياتي صعبة جدًا. سُدّت الأبواب في وجهي. أرى الكون مظلمًا. حينما ينادي المؤذن للصلاة أقول وماذا أعطاني الله تعالى فأجلس أبكي. رجاءً ساعدوني أنا لست صغيرة وأخاف أنْ يأخذ الله تعالى عمري وأنا مُقصرة معه. الجواب: عليكم السلام ورحمة الله وبركاته أهلًا ومرحبًا بالمؤمنة التي لم تستطع أنْ تفارق العبادة, حتى لجأت لطلب حلٍّ للرجوع إليها. أراكِ في حالةِ اختناقٍ وتطلبين أوكسجين الحياة, وهذا هو حال المؤمن الذي يبتعد عن الله (تعالى), كما أخبرنا هو (سبحانه) في سورة طه: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا) رغم ما حلّ بكِ من مشكلة, لكني ومن خلال قولكِ (أنكِ تستغفرين, وتعزمين على التوبة من ترك الواجبات) أحسستُ أنّ فطرتكِ سليمة, متشوقة لرضوان الله تعالى الواحد الأحد, وحقًا تطلب الحياة الرغيدة, لكنها لا تعلم كيف السبيل, مع محاولة استيلاء جنود الشيطان الرجيم عليها. يا أمة الله العزيزة! لاحظتُ من خلال سؤالكِ أنّ هناك أربع مشاكل, وليست مشكلة واحدة, لذا اسمحي لي أنْ أتطرق إليها جميعًا؛ لأهميتها, ومن غير الصحيح تغافلها, وهي: 1/شعورك بأنّ الله (تعالى) غير موجود. 2/أنّ الله (تعالى) لم يستجب لكِ دعوة أبدًا. 3/ترككِ الصلاة. 4/نظرتكِ للكون مظلمة. وقد تعمدتُ ترتيب المشكلات بدءاً من أهمها, وإن كانت هي ليست محل سؤالكِ, إلاّ أنّها مشكلة خطيرة جدًا, إذا لم يتم وضع علاج لها, لن تنفعكِ الحلول في رجوعكِ إلى المواظبة على الصلاة. المــشكلة الاولــى: وهي شعوركِ بأنّ الله (تعالى) غير موجود! حول هذه المشكلة اسمحي لي أن أبين لكِ خطر آثارها, فإذا لم تقتنعي بالحلول, فأرجو أنْ تتواصلي معي؛ لأنَّ الإيمان بوجود الله (تعالى) يجب أن يكون راسخًا في ذهنك وقلبكِ, وإلاّ ما فائدة تعبّدكِ لله (تعالى) وأنتِ لا تشعرين بوجوده. عزيزتي المؤمنة! اعلمي أنّ الموجودات في الكون إما أنْ تكون مادية (نراها بالعين الباصرة), أو مجردة عن المادة (لا نراها), وبالتالي لا يمكنكِ أن تنكري وجود كل ما لا ترينه, فمثلًا ذرات الكهرباء داخل الأسلاك الكهربائية لا يمكن أنْ تقولي أنّها غير موجودة فقط لأنك لا ترينها. وإنّ انكار وجود الله (تعالى) من الكفر, أ فسماءٌ ذات أبراج, وأرضٌ ذات فجاج لا تدلان على الله العليم الخبير؟! فتأملي في هذا الكون البديع, ستجدين الدقة والنظام, وتساءلي من الذي أوجده؟ ثقي أنّ فطرتكِ ستجيبكِ: هو الله (جلّ جلاله) تعاملي مع الله (تعالى) على أنّه ربُّكِ, لا على أنّكِ أحد عباده, فالاعتراف بجلال الألوهية أعظم من الاعتراف بذل العبودية. المــشكلة الــثانية: أنّ الله (تعالى) لم يستجب لكِ دعوة أبدًا! هنا اسمحي لي أن أقول لكِ أنّ اعتقادكِ هذا غير صحيح؛ فمن منّا يستطيع أنْ يُحصي نعم الله تعالى الوهاب التي أنعم بها عليه دون أن يطلبها؟! أرجو منكِ قراءة (دعاء الجوشن الصغير), والتأمل في مفرداته, ستجدين كم من البلاء أنتِ منه في عافيةٍ, وكم من نعمةٍ أنتِ غارقة بها دون أن تسأليه ليعطيكِ. ودعيني أسألكِ سؤالًا عزيزتي: هل دعوتِ يومًا ما بأن يجري الله (تعالى) الدماء في شعيرات وأوردة جسمكِ بانتظام؟ هل دعوتِ يومًا ما أن لا يهدم الله (تعالى) لكِ بيتكِ؟ هل دعوتِ يومًا ما أن يُديم الله (تعالى) عليكِ سلامة بصركِ؟ هل دعوتِ يومًا ما أن ينظم الله (تعالى) دقات قلبكِ؟ هذا كلّه بل وأكثر منه أنعمَ به عليكِ دون أن تطلبي, وتذكري بعض فقرات دعاء أبو حمزة الثمالي الذي تقرئينه في شهر رمضان, حيث جاء في الدعاء: "إلهي أنت الذي تفيض سيبك[نعمكِ] على من لا يسألك وعلى الجاحدين بربوبيتك، فكيف سيدي بمن سألك وأيقن أن الخلق لك، والأمر إليك، تباركت وتعاليت يا رب العالمين". أختاه! لا تعبدي الله (تعالى) عن رغبةٍ وروتين؛ لأنّ عبادتك ستكون فاترة. ولا تعبديه عن تجارة؛ لأنّها سوف تسلب منكِ روح العبادة. بل اعبديه (تعالى) عن حبٍّ, تجدين ماءَ حياةِ روحكِ العطشى, وتهيم روحكِ لإرادته, والتسليم بقضائه وقدره. المــشكلة الثـــالثة: ترككِ الصلاة! اعلمي عزيزتي أنّ تارك الصلاة على عدة أقسام: 1/تارك الصلاة من باب وجوبها, فينكر أن الله (تعالى) قد أوجبها. فهذا كافر ومصيره الخلود في النار؛ لأنه مكذّب بنبي الله (صلى الله عليه وآله), ومن يكذب النبي (صلى الله عليه وآله) فقد كذّب الله (سبحانه وتعالى). 2/تارك الصلاة من باب الإهمال لها رغم اعترافه بوجوبها, فيتركها وينشغل بالأمور الدنيوية وملذاتها. فهذا الشخص فاسق, اسودّ قلبه بالذنوب, فيعاقب بالنار على ذنبه هذا, إلا أن يتوب. 3/تارك للصلاة من باب الاستخفاف بها, فيصلي أيامًا, ويترك أخرى. فهذا شخص مستخف بصلاته, مضيّع لها, روي عن رسول الله (صلى الله عليه واله) أنّه قال: "من صلى الصلاة لغير وقتها رفعت له سوداء مظلمة تقول ضيعتني ضيعك الله كما ضيعتني". فانظري حالكِ اختي أي قسمٍ من تلك الأقسام, وأسرعي بالتوبة والعودة إلى رضا الله (سبحانه وتعالى), وإنّي أخشى أن يتسلط عليكِ الشيطان الرجيم أكثر من هذا فيدعوكِ لارتكاب المحرمات الكبيرة؛ وهذه نتيجة متحققة, كما نقلها لنا أهل البيت (عليهم السلام)؛ حيث روي عن رسول الله محمد (صلى ألله عليه وآله) أنّه قال: "لا يزال الشيطان هائبًا لأبن آدم [يهيب ويحترم ابن آدم] ذعرًا منه [خائفًا منه] ما صلّى الصلوات الخمس لوقتهن[أي عندما يصلي صلواته ولا يتركها]. فاذا ضيعهن [أي إذا ضيّع ابن آدم صلواته] اجترأ عليه [أي تجرأ عليه الشيطان] فادخله في العظائم [أي جعله يرتكب الذنوب العظيمة متى ما ضيّع ابن آدم صلواته المفروضة.] وأعلمي أختي أنّ صلاتكِ نفع لكِ وليس لله (تعالى), فهو الغني عن عباده, قال (تعالى) في سورة فاطر: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيد) وأعلمي أنّ الإنسان متى ما كان عبدًا لله الرحمن, عاصيًا للشيطان، فلا سلطان عليه, ومتى ما كان ابن آدم متبعًا للشيطان فهو ضال ومصيره النيران, يقول الله (تعالى) في سورة الحجر: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِين) والآن يا أختاه, طالما تحملين قوة الشباب، والعمر يمضي, فاتكئي على جدار الأسف، واسجدي لله تعالى عفوًا, لتخفّفي عن ظهركِ ثقل الذنوب والخطايا بابتعادكِ عن عباداتكِ, واغسلي وجهكِ بكوثر الدموع من خوف الله (تعالى) والشوق له, وانطلقي نحو وادي الغفران الآمن, ستجدين الله (تعالى) تائبًا عنكِ, غافرًا لكِ, مباهيًا بكِ عباده العاصين, وسيشرق عليكِ أشعة العفو الذهبية, عندئذٍ ستتذوقين طعم حلاوة المناجاة معه, وتلهجين باسمه دومًا, ويمتلأ قلبكِ محبةً له وخوفًا وشوقا. المـــشكلة الرابــعة: نظرتكِ للكون مظلمة! إنّ عدم استجابة الله (تعالى) لبعض دعواتنا لا يعني أنْ ننظر للكون نظرةً مظلمة, تشاؤمية, فلله حكمةٌ بالغةٌ في عدم استجابته, وهو أحكم الحاكمين. فنحن العباد ننظر للمسألة من جانبٍ معيّن؛ لقصور عقلنا عن إدراك مصالحنا, بينما يراها الله العزيز الحكيم من عدّة جوانب، ومن يتولّى الله فهو حسبه. ثم إنّه (تعالى) لم يعجّل باستجابة دعاء بعض أنبيائه, كنبي الله نوح (عليه السلام) الذي لبث يدعو قومه قرابة ألف سنة, فلماذا لم يستجب له ربّه (تعالى) بأن يهدي جميع قومه؟ وذلك نبي الله يوسف (عليه السلام) الذي بقي في السجن, فلماذا لم يفرّج الله (تعالى) عنه منذ أول لحظة ليجمعه بأهله, وليجعله حاكمًا؟ وذلك هو نبيّنا الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله) لماذا لم يستجب الله (تعالى) له في أنْ يحفظ ابنته وذريتها من أن يمسهم كلُّ ظالمٍ بسوء؟ فيا عزيزتي ليست المسألة مسألة أنا أدعو وغدًا يستجيب لي الله تعالى, هذا فرضٌ خاطئ نحن نفرضه على الله العزيز القدير. قرأتُ في بعض الروايات أنّه (تعالى) يصب الابتلاء على بعض عباده, ليرفع منزلتهم, ويضاعف أجرهم في الآخرة, وليسمع حسيس دعائهم ومناجاتهم. فكما فعل هكذا مع أنبيائه وأوليائه, يفعله مع جميع عباده, وسيأتي يومٌ يحقق لكِ دعوتكِ, في الدنيا - إنْ شاء- أو يدّخِرُها لكِ في الآخرة ، فقط أحسني الظن بالله الواحد الأحد. روي عن إمامنا الرضا (عليه السلام) أنّه قال: "أحسِن الظن بالله, فإنّ الله (عزّ وجل) يقول: أنا عند ظن عبدي المؤمن بي، إن خيرًا فخير, وإن شرًا فشر". فيا عزيزتي المؤمنة! إنّ حقيقة الإنسان هي كونه ينسى شكر خالقه حينما يكون في نعيم, كأن يترك العبادات الواجبة التي هي صورة من صور شكر الله (تعالى). وينسى التضرع لخالقه بالدعاء حينما يكون في بلاء. لكن هذه الحقيقة استُثني منها المواظبون على صلاتهم, كما أخبرنا (تعالى) بقوله في سورة المعارج: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا* إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا* وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا* إِلَّا الْمُصَلِّينَ* الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُون) فلتكن نظرتكِ للكونِ مشرقةً, لاسيما أنتِ مسلمةٌ أنعم الله (تعالى) عليكِ بنطق شهادة أن لا إله إلاّ الله, وأنّ محمدًا رسول الله، والإيمان بهما, هذه النعمة التي غيركِ محروم منها؛ حيث لا ربّ له سوى الأبقار والفئران. كما وأنتِ مؤمنة, أنعم الله (تعالى) عليكِ بنطق شهادة ولاية الأئمة (عليهم السلام), والإيمان بهم, بينما غيركِ يعيش في حالة تيه, لا تراث صحيحاً لهم ليرجعوا إليه في العقيدة والفقه والأخلاق. كما وزيدي من درجة إشراق نظرتكِ للكون, فسيأتي يومٌ يظهر فيه إمام زمانكِ, المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف), وإن شاء الله (تعالى) تعيشين في دولته, وتنالين رضاه, بالتزامكِ بعباداتكِ, فمن أرضى الإمام فقد أرضى الله (تعالى). فالتفتي إلى دوركِ في المجتمع, ولا تحصريه بأمرٍ معين, وعوّدي نفسكِ على أن تكوني قدوة ممهدة في كلِّ قولٍ وفعلٍ, ولكِ في السيدتين الزهراء والحوراء (عليهما السلام) أسوةٌ حسنة, فاغتنمي تأسيكِ بهما, وراجعي سيرتهما. ______________________ وفقكِ الله (تعالى) لرضوانه, ولا أخلاكِ عن رعايته, بحق محمدٍ وآله.
العقائدبقلم: علوية الحسيني "وأحي بي ما دُرِسَ من فروضك وسننك" يواصل الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) دعاءه, طالبًا من الله تعالى أن يحيي به الفرائض والسنن. *فقوله: "أحي" يقال: "أحْياهُ: جَعَلَهُ حَيًّا"(1). *وقوله: "ما دُرِسَ" فعل مبني للمجهول من انْدَرَسَ, أي "انْطَمَسَ" (2). وقوله: "من فروضك" مستخدمًا الحرف (مِن) للتبعيض، ولعلها بيانية. والفرض: هو "ما أَوْجَبه اللّه عزّ وجلّ، سمي بذلك لأَنَّ له مَعالِمَ وَحُدُوداً" (3). وقوله: "سننك" جمع سنّة, و"السُّنَّةُ (في الشرع): العملُ المحمودُ في الدين مما ليس فَرْضًا ولا واجبًا" (4). وواقعًا هناك فرائض وسنن مندرسٌ أثرها, هي أحكام لله تعالى يريدها, فيدعو الإمام ربّه بأن يحييها على يديه, حين ظهوره (عجّل الله فرجه الشريف)؛ بكشفها لهم, ومنعهم من العمل بالمبتدع بها, أو المغيّر عليها -حسب القياس, أو المصالح المرسلة, أو سد الذرائع-. وبالتالي سيحصر الإمام مصادر استنباط الحكم الشرعي بالقرآن الكريم, والسنة النبوية القطعية -أقوال وأفعال وسكوت النبي وآله (عليهم السلام)-. واندراس تلك الفرائض والسنن يرجع إلى جملة من الأسباب, "منها: أولاً: أسباب خارجية, كغزو البلاد, أو احتلالها الذي أدى إلى تدمير العديد من المكتبات الشيعية, التي تحتوي على كتب متضمنة للفرائض والسنن المروية عن محمدٍ وآل محمد (عليهم السلام). ثانيًا: أسباب داخلية, كالحقد الطائفي الذي أعمى البعض وأدى بهم إلى حرق بعض تراثنا, فسبب اندراساً جزئياً لبعض الفرائض والسن" (5). لكن بعد ظهور الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) يعرّف الناس بنفسه, وبدين الله تعالى, ويطلب منه الناس الأدلة والبراهين على صدق ما يدعوهم إليه, فيقوم الإمام بوظيفته تلك, فيبلغهم معالم دين الله تعالى الواقعي, بأصوله, وفروعه, ويهذّب الموروث الروائي المنسوب إلى محمدٍ وآل محمد (صلى الله عليه وآله)؛ لذا جاء في بعض الروايات أنّه (عجّل الله فرجه الشريف) يعيد الإسلام جديدًا؛ "فعن عبد الله بن عطاء المكّي، عن شيخ من الفقهاء - يعني أبا عبد الله (عليه السلام)-، قال: سألته عن سيرة المهدي كيف سيرته؟ فقال: «يصنع كما صنع رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، يهدم ما كان قبله كما هدم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أمر الجاهلية، ويستأنف الإسلام جديداً"(6). والتجديد لازمه الاحياء, فيُحيي ما اندرس من الفرائض والسنن المعطلة. ولا مناص من كونها معطلة, وإلاّ ما الغاية من إحياء الإمام لفريضة أو سنة متبعة! والدليل على ذلك التجديد ما نقرأه في فقرات دعاء العهد: "واجعله اللهم... ومجددًا لما عطل من أحكام كتابك" (7) فظاهر مفردة التجديد هو (غير) أحكام الدّين التي نحن عليها, وإلاّ فالدّين الإسلامي هو هو, لقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَام} (8), وبالتالي لابد من معرفة ما هو التجديد الذي سيقوم به الإمام المهدي (عجّل الله فرجع الشريف) في الدّين. ذلك "التجديد يحتمل عدّة أوجه" (9): 1- التجديد بإحياء علوم الدّين الواقعية, التي هي عند الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف), أما ما عندنا اليوم من علوم فأغلبها ظاهرية؛ أي أنها ممكن أن تصيب الواقع, وممكن أن لا تصيبه, "لكننا معذورون شرعًا أمام الله تعالى لو اتضح عدم اصابة أحكامنا الواقع؛ لأنّنا لم نقتحم الشبهة حال الشك بالحكم الواقعي, فالفقيه معذور شرعًا؛ لأنّه اجتهد وفق دليل ظني قد جعل الشارع المقدس له الحجية, فاستنبط حكمًا ظاهريًا بديلاً عن الواقعي المشكوك, وحدد وظيفة كلّ مكلّفٍ تجاه ربّه, وكذا المكلف معذور شرعًا؛ لأنّه لم يقتحم الشبهة, أي لم يرتكب ما هو مشكوك في حرمته, ولم يترك ما هو مشكوك في وجوبه" (10). 2- التجديد ببيان معالم دين الله تعالى جميعها, التي تعمّد مخالفوه وضع الأحاديث ودسّها ونسبتها للنبي وآله (عليهم السلام), فيأتيهم الإمام بمعالم دينٍ حقيقية غير محرّفة, صادقة غير مكذوبة, منجية غير مهلكة, فيرونَ الدّين بحلّته الجديدة. 3- التجديد ببيان ما نسيَ بيانه بعض الرواة؛ نتيجة الظروف القاهرة التي أصابت التراث الشيعي من الحرق والإتلاف آنذاك. 4- التجديد باعتبار (الإمامة) أصلاً من أصول الدّين, فيرى منكروها الدّين جديدًا. 5- التجديد من خلال القضاء على البدع التي يثيرها المغرضون ضد الدّين الإسلامي؛ بإدخال ما ليس من الدّين فيه, أو بإحياء بدعة وإماتة سنة, فيغيرّون بالدّين تعمدًا, وهنا يظهر دور الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف)؛ كما جاء في دعاء الاستغاثة به: "اللهم جدد به ما محي من دينك وأحيي به ما بدل من كتابك وأظهر به ما غُيِّر من حكمك حتى يعود دينك به وعلى يديه غضاً جديداً خالصاً مخلصاً لا شك فيه ولا شبهة معه ولا باطل عنده ولا بدعة لديه" (11). وبعد معرفة كيفية تجديد الدين على يدي الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف), ينبغي معرفة كيف سيُحيي ما جدّد من الفرائض والسنن. فمن يتأمل في ظاهر الحديث المروي عن الهروي حينما سمع الإمام الرضا (عليه السلام) يقول: "أحيوا أمرنا، رحم الله من أحيا أمرنا. قال له: يا بن رسول الله وكيف يحيا أمركم؟ قال: أن يتعلم علومنا ويعلمها الناس؛ فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لتبعونا" (12), يحكم عقلاً بأنّ جدور هذا الحديث راجع إلى آباء الإمام الرضا (عليه السلام)؛ فمروياته مرويات محمد وآله (عليهم السلام), وبما أنّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) ضمن الآل, فتعيّن أنّه سيعلّم الناس علوم أجداده (عليهم السلام) الواقعية. وبما أنّنا نعتقد أنّ قول وفعل وسكوت المعصوم حجّة, وأنّ إحياء علوم الدّين لا يكون إلاّ من خلال القول تبليغًا, والفعل امتثالاً, والسكوت تطبيقًا, فتكون الفريضة والسنة المتجددتان حجّة على العباد آنذاك. إذًا كل اطر العملية التبليغية التي سيقوم بها بهدف تعليم الناس علوم محمد وآل محمد (عليهم السلام), يعدّ إحياءً لعلوم الدّين. لذا نجد الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف), المبلغ الرسالي, أُلقي على عاتقه مهمة الأنبياء –تبليغ رسالات السماء-, وإحياء الدّين, كسلفه (عليهم السلام). إلاّ أنّ إحياءه للدّين سيكون مختلفًا نوعًا ما عن إحياء أجداده (عليهم السلام)؛ نظرًا لطول غيبته (عجّل الله فرجه الشريف) التي استغلها البعض في إماتة السنن, وإحياء البدع, بل وتبديل دين الله تعالى الواقعي, على اختلاف مذاهبهم الفقهية. ولازم دعاء الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) أنّه يحيي أيضًا أصول الدّين؛ لأنّه لا عمل بفروع الدّين ما لم يتم الإيمان بأصوله؛ فحين ظهوره سيبلّغ الناس العقيدة الحقّة, بتنزيه الله تعالى عن كل ما لا يليق بساحة جلالته, مما نسبت إليه الأديان والمذاهب والفرق الضالة, وكذا يبلغهم حقيقة العدل الإلهي, ويبطل الجبر والتفويض الذي قالت به بعض الفرق الكلامية, ويثبت أصالة الإمامة بين أصول الدّين, ودورها الرابط والمهم, ويعرّج على المعاد, ويشير إلى حقائق لم تكن تطرق اسماع البعيدين عن عقيدة محمد وآل محمد (عليهم السلام)؛ لأنّهم لم يستمدوا علومهم من العترة المحمدية (عليهم وعلى سيدهم السلام). كما ويلزم من دعائه (عجّل الله فرجه الشريف) أنّه سيُحيي أخلاق الدّين المندرسة بسبب تشتت الأهواء, والابتعاد عن الأخلاق القويمة في زمن الغيبة؛ نتيجة الفتن, والابتلاءات التي انجرف معها كثيرون. وإلاّ كيف يُحيي الإمام الفرائض والسنن المندرسة وأخلاقهم ليست أخلاقًا محمدية؟! إذًا الهرم المعرفي الثلاثي (اصول الدّين, وفروعه, وأخلاقه) لا يمكن تثنيته, ولا توحيده بالإحياء. ________________ (1) القاموس المحيط: للفيروز آبادي, ج4, ص322. (2) المصدر نفسه, ج2, ص215. (3) لسان العرب: لابن منظور, ج7, ص202. (4) المعجم الوسيط: مادّة (سنن) و(بدع). (5) ظ: التراث المهدوي استقراء التطور الفكري في مسيرة التراث المهدوي الشيعي: لمجتبى السادة, ف11. (6) الغيبة: للنعماني, ص٢٣٦, ب ١٣, ح13. (7) مفاتيح الجنان: للشيخ القمي, دعاء العهد, ص603. (8) سورة الرعد: 19. (9) ظ: شذرات مهدوية: للشيخ حسين الأسدي, الشذرة20, ص265-272. (10) ظ: اصول الفقه, للسيد محمد باقر الصدر, ج3, ص26. (11) المزار: لمحمد بن المشهدي, ص٦٦٩. (12) بحار الأنوار: للعلامة المجلسي, ج2، ص30، ح13. اللهم جدّد بوليّك ما مُحي من دينك, وأحيي به ما بُدّل من كتابك, وأظهر به ما غُيِّر من حكمك, حتى يعود دينك به وعلى يديه غضاً جديداً خالصاً مخلصاً, لا شك فيه, ولا شبهة معه, ولا باطل عنده, ولا بدعة لديه, بحق محمدٍ وآله الطاهرين.
العقائدبقلم: علوية الحسيني يترتب على معرفة الله (تعالى) توحيده في الذات, والصفات, والخالقية, والربوبية, والعبادة, انطلاقًا من الآية الكريمة, التي هي أمّ الآيات المحكمة: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء}(1). والتوحيدُ بصورةٍ عامة هو نفيُ الشريك, وبطلان تعدد الآلهة. والاعتقاد السائد هو وجود إله، وهذا ما لا غبار عليه, لكن الاختلاف يحصل في الاعتقاد بوحدانية الإله, أو بتعدده, ومن هنا تشعبت المذاهب والأديان؛ حيث إنّ جميع الأنبياء كانوا يدعون إلى وحدانية الله (تعالى), بدليل قول الله (تعالى): "لَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوت"(2). لذا, علينا أولًا دراسة شُعَب التوحيد, لتكون أثرًا مترتبًا على معرفة الله (تعالى). أولاً: التوحيد في الذات. أي إنّ الله (تعالى) بسيط, لا جزء له, غير مركب –أحدي-, وأنّه (تعالى) متفردٌ, لا ثاني له, ليس له مثل ولا نظير –واحدي-. ببيان إنّ الماهية إمّا أن تكون بسيطة, أو مركبة. وهذه المركبة لا تخلو من أن يكون التركيب فيها أحد احتمالاتٍ ثلاثة: 1/ تركيب عقلي, كتركيب الماهية من الجنس والفصل, وهذا التركيب محال على الله (تعالى)؛ لأنّها أجزاء عقلية, وسبحانه (تعالى) لا أجزاء عقلية له. 2/ تركيب مقداري, كتركيب الماهية من الخط والجسم والسطح, وهذا التركيب محال على الله (تعالى)؛ لأنّ جميع ذلك جواهر, والجواهر حادثة, وسبحانه (تعالى) عن أن يكون حادثًا؛ فهو الأزلي. 3/ تركيب خارجي, كتركيب الماهية من مادةٍ وصورة, وهذا التركيب محال على الله (تعالى) أيضًا؛ لأن ذلك لازم الجسم, وسبحانه تعالى عن أن يكون جسمًا. فإذا بطل احتمال أن تكون ذات الله (تعالى) مركبة, تعيّن كونها بسيطة, فليس كمثل الله تعالى شيء, وهو المطلوب. والخلاصة: أن التركيب يستلزم الحاجة إلى الأجزاء، والله تعالى غني مطلق. *وهنا سؤال: ما هي الأدلة على واحدية الله (تعالى)؟ وجوابه: الدليل على ذلك قسمين: *الدليل النقلي: 1/ قول الله (تعالى): {هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّار}(3). 2/ قوله (تعالى): {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّار}(4). 3/ قوله (تعالى): { وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّار}(5). فالآيات الكريمة تشير إلى قهر الله الواحد لعباده المحدودين, المتناهين الحدود , فهو (سبحانه) لا محدودية لقهّاريته وسلطانه, فهو القاهر لهم بالمحدودية من جميع النواحي, فلا محدوديته لازمة لقهاريته (تعالى). ولو كانت وحدته عددية لكان بجنبها عدد آخر أكمل منها؛ فالاثنان أكمل من الواحد, والثلاثة أكمل من الاثنين, والأربعة أكمل من الثلاثة, وهكذا. فحاشا الله (سبحانه وتعالى) أن تكون وحدته عددية؛ حيث قال أمير الموحدين (عليه السلام): "كُلُّ مُسَمّىً بِالْوَحْدَةِ غَيْرَهُ قَلِيل"(6), إشارةً منه إلى اتسام العدد واحد بالقلّة, وهو غير الله (تعالى), ولهذا ينفي عنه العددية في قول آخر واصفًا وحدة الله (تعالى): "وَاحِدٌ لاَ بِعَدَد"(7). وفي خطبةٍ له أخرى يقول (عليه السلام) مبيّنًا لازم القول بالوحدة العددية: "وَمَنْ عَدَّهُ فَقَدْ أَبْطَلَ أَزَلَه"(8). أي إنّ سبب استحالة الوحدة العددية على الله (تعالى) هي جعله حادثًا, مخلوقًا في زمان ومكان ما. والحادث من كان عدمًا, واحتاج إلى علة لتوجده من كتم العدم إلى ساحة الوجود, وليس الله (تعالى) محتاجًا, ولا مخلوقًا. وبالتالي: إنّ وحدة الله (تعالى) حقيقية, غير عددية. الدليل العقلي: وهو اثنان: 1/ التعدد يستلزم التركيب أي لو كان الله (تعالى) متعددًا وليس واحدًا, لكان مركبًا. وتوضيح ذلك: إنّ الإله لو كان اثنان لكان كلّ واحد منهما مركبًا من جزء يشترك به مع الآخر, وجزء يختلف به مع الآخر. والمركب محتاج إلى أجزائه, وسبق وأن نفينا أن يكون الله تعالى مركبًا, فبطل هذا الفرض. ويؤيد حكم العقل بواحدية الله (تعالى) الآية الكريمة: {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَد}(9). ويؤيد حكم العقل بواحدية الله (تعالى) هنا الآية الكريمة: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}(10). 2/ صرف الوجود لا يتثنى ولا يتكرر إنّنا حينما نجد حقيقة بدون ماهية فوجودها صرف, لا تشوبه شائبة – نقص أو فقدان-, فتلك هي حقيقة الله (تعالى), فهو لا يتثنى, ولا يتكرر. والواحدية الثابتة لله (تعالى), هي الواحدية الحقيقية؛ أي وحدة بساطته في ذاته؛ فليس له شبيه يوافقه. ووحدة انفراده بعد النظير, والمثيل. وهنا سؤال: ماذا يترتب على توحيد ذات الله (تعالى), طالما كانت الذات مجهولة الاكتناه؟ جوابه يأتي في النبضة الرابعة إن شاء الله (تعالى). _________________ (1) سورة الشورى: 11. (2) سورة النحل: 36. (3) سورة الزمر: 4. (4) سورة يوسف: 39. (5) سورة ص: 65. (6) نهج البلاغة, خ65. (7) المصدر نفسه, خ231. (8) المصدر نفسه, خ152. (9) سورة الإخلاص: 4. (10) سورة الأنبياء: 22.
العقائدبقلم: علوية الحسيني "واحفظني في غيبتي إلى أنْ تأذن لي في ظهوري" *قوله: "احفظني" الحفظ عرفًا هو الصون، والوقاية من أمرٍ ما. *وقوله: "في غيبتي" إشارةً من الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) إلى الغيبة، صغرى كانت أو كبرى، إلا أنه الآن للكبرى أقرب؛ خصوصاً مع قوله (إلى أنْ تأذن لي في ظهوري)، فالإذن بالظهور أقرب إلى الغيبة الكبرى من الصغرى. ولم يحدد الإمام زمنًا معيّنًا في غيبته، ويطلب من الله (تعالى) الحفظ، إيمانًا منه بأنّ نظام الكون هو نظام العلّة والمعلول، والعلّة التامة لهذا الكون كلّه هو الله (تعالى)، فتتجلى حاجة معلولاته له (تعالى). ومن إطلاق كلام الإمام نستفيد دروسًا عقدية في العبودية الخالصة لله الواحد الأحد، وأدب التذلل في الكلام مع الخالق. وهذا ديدن السلف من أجداده (عليهم السلام)، في طلب الحوائج من الله (تعالى) بتذلل؛ حيث جاء في دعاء جدّه الإمام الحسين (عليه السلام) أنّه قال: " إلهي هذا ذُلّي ظاهِرٌ بَيْنَ يَدَيْكَ، وَهذا حالي لا يَخْفى عَلَيْكَ، مِنْكَ أطْلُبُ الْوُصُولُ إلَيْكَ، وِبَكَ أسْتَدِلُّ عَلَيْكَ، فَاهْدِني بِنُورِكَ إلَيْكَ، وَأقِمْني بِصِدْقِ الْعُبُودِيَّةِ بَيْنَ يَدَيْك"(1). نعم, قد يتعرض الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) إلى الضر كالمرض، والبرد، والحر، والعطش؛ فهو وإن كان معصومًا إلاّ أنّه بشرٌ مثلنا، "كما تعتقد الشيعة الإمامية "(2). ولعله بقوله هذا أعطى درسًا بليغًا للغلاة الذين يجعلون لمقام الأئمة (عليهم السلام) مقام الألوهية، فسلك الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) مسلك أجداده الذين كانوا يحذرون من الانحراف مع الغلاة؛ حيث روي عن أمير المؤمنين (عليهم السلام) أنّه قال: "لا تقولوا فينا ربا وقولوا ما شئتم ولن تبلغوا "(3). وبالتالي يجب الإذعان بأنّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) يحتاج إلى الله (تعالى) ولهذا طلب الحفظ في غيبته. *وقوله: "إلى" فهذا الحرف يفيد الغاية، وانسجامًا مع سياق دعاء الإمام تكون الغاية زمانية. فيحتمل أنْ يكون المعنى: (احفظني في غيبتي حتى تأذن في ظهوري)، فظاهرًا أنّ الإمام يشير إلى درجات حفظه، فجعل حفظه في غيبته قبل ظهوره حفظًا مهمًا، يكون هو أكثر حرصًا على طلبه من الله (تعالى)؛ حتى ينجز له ربّه (تعالى) وعده الذي وعده به. ويؤيد ذلك سياق دعائه (عجّل الله فرجه الشريف) بمفرداته السابقة: "اللّهمّ احجبني عن عيون أعدائي, واجمع بيني وبين أوليائي، وأنجز لي ما وعدتني"، فوحدة السياق ظاهرة في انصراف الكلام نحو مرحلة ما قبل الظهور، وحفاظًا عليها يكون معنى (إلى) في قول الإمام "واحفظني في غيبتي إلى أن تأذن في ظهوري" بمعنى الغاية، أي احفظني قبل الظهور؛ إلحاحًا منه (عجّل الله فرجه الشريف) على الله (تعالى)، وقد تم بيان السبب أعلاه. وهذا لا يتنافى مع طلب حفظه زمن ظهوره، لكنه أحوج إليه زمن الغيبة. *وقوله: "أن تأذن في ظهوري" إنّ أمر الإذن له بالظهور راجع إلى الوقت الذي يحدده الله (تعالى)؛ "روي عن الإمام الجواد (عليه السلام): "... يجتمع إليه من أصحابه عدة أهل بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلًا... فإذا اجتمعت له هذه العدة من أهل الإخلاص أظهر الله أمره"(4). نعم، بعض الروايات وصفت مجريات الظهور، وكانت على ثلاثة أصناف: 1/ روايات حددت العلامات الحتمية قبل ظهور الإمام، ومنها ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام): "خمس علامات قبل قيام القائم: الصيحة والسفياني والخسف وقتل النفس الزكية واليماني"(5). 2/ روايات حددت وصْف سـنة ظهور الإمام، منها: ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام): "لا يخرج القائم إلا في وتر من السنين تسع وثلاث وخمس وإحدى"(6). 3/ روايات وصفت يـوم ظهور الإمام العلني، ومنها: ما "قال أبو جعفر (عليه السلام): كأني بالقائم يوم عاشوراء يوم السبت قائمًا بين الركن والمقام،...فيملأها عدلًا كما ملئت ظلمًا وجورًا"(7). لكن رغم تلك المعارف، يبقى العلم اجماليًا بالنسبة لنا؛ فيبقى هناك أمر غيبي، وهو (في أيّ سنةٍ وترية سيأذن الله (تعالى) بظهور الإمام؟). هذا ما لا يعلمه إلاّ الله (سبحانه وتعالى)، لكنه (تعالى) لم يترك عباده سدى، فقد رسم قواعد كليّة لنبيّه الخاتم محمد (صلى الله عليه وآله)، وبدوره نقلها إلى أهل بيته (عليهم السلام)، ووصلت بعضها إلينا، منها ما "روي عن النبي محمد (صلى الله عليه وآله): لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يخرج رجل من ولدي فيملأ الأرض عدلًا وقسطًا كما مُلئت ظلمًا وجورًا"(8). حيث أعطت هذه الرواية قاعدة حتمية بتحقق ظهور الإمام، وبثت في العباد روح الإخلاص بالعبادة، والعمل على تهذيب النفس، والاستعداد الروحي ليوم الظهور. فزرعت فيهم الأمل لمواجهة مجهولية يوم الظهور. وأما الإمام فلا زال يترقب هلال الظهور، على مرّ العصور. وعند التأمل في روايات الظهور يظهر أنّ الظهور قسمان؛ ظهور أول سرّي أصغر، وظهور ثاني علني أكبر، وقال بذلك بعض العلماء. 1/ الظهور العلني الأكبر وهو ظهوره في مكّة المكرَّمة بين الركن والمقام في العاشر من محرَّم الحرام. 2/ الظهور السري الأصغر يمكن أن يُراد من الظهور الأصغر أحد الاحتمالين التاليين: الاحتمال الأوَّل: أن يُراد من الظهور الأصغر هو ظهور ذكره (عليه السلام) على ألسن الناس، خصوصًا بعد وقوع علامات الظهور، وأهمّها الصيحة، الأمر الذي أشارت إليه بعض الروايات الشريفة. عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «إذا نادى منادٍ من السماء: إنَّ الحقَّ في آل محمّد، فعند ذلك يظهر المهدي على أفواه الناس، ويُشربون حبّه، فلا يكون لهم ذكر غيره» كنز العمّال للمتَّقي الهندي ١٤: ٥٨٨/ ح ٣٩٦٦٥. الاحتمال الثاني: أن يُراد من الظهور الأصغر هو ظهوره الابتدائي لخاصَّة شيعته في المدينة المنوَّرة، "(9). وممكن ترجيح الاحتمال الثاني؛ بلحاظ أنّه أقرب إلى كونه ظهورًا, وأقرب إلى انطباق اللفظ (الظهور) عليه - رغم صحة الاحتمال الأول-. ومن خلال ذلك يتضح أنّ الله (تعالى) سيستجيب لدعاء الإمام "وأنجز لي ما وعدتني" فسيظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون، ظهورًا أكبر كان او أصغرا، بل كلاهما، مع اليقين بأنّ الإمام محفوظ بحفظ الله (تعالى)، كيف لا؟ وقد ادّخره لزمنٍ يطفح فيه كيل الظلم والجور! ليستبدل بذلك قسطًا وعدلاً وإيمانا. ومن خلال التأمل في روايات الظهور الأصغر يتضح لنا سبب إلحاح الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) بالدعاء بأن يحفظه الله (تعالى)؛ حيث أنّ الروايات الواصلة لنا تشير إلى مهاجمة جيش السفياني للمكان الذي سيظهر به الإمام ظهورًا أوليًا سريًا، وهي المدينة المنورة، روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: "يبعث السفياني بجيش إلى المدينة فيأخذون من قدروا عليه من آل محمّد صلى الله عليه وآله ويقتل من بني هاشم رجالاً ونساءً، فعند ذلك يهرب المهدي والمنتصر من المدينة إلى مكّة، فيبعث في طلبهما وقد لحقا بحرم الله وأمنه"(10). وهناك نظرية افترضت كيفية كشف السفياني لظهور الإمام الأولي، وممارسة الإمام لمهامه بشخصيته الثانوية، غير المعلنة لجميع الناس، " فقالت: إنّ السفياني يتتبع التحركات السياسية والعقائدية وتمييز المهدوية منها من غيرها، إلى أنْ يصل لخبر ظهور الإمام، فيرسل إليه جيشًا ليعتقله"(11). ونلاحظ هنا الخطر المحدق بالإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) في المدينة فيما لو اعتقله جيش السفياني، ولهذا نجده (أرواحنا فداه) يلح على الله (تعالى) بالدعاء ليحفظه، بل وابتدأ دعاءه بـ"اللهم احجبني عن عيون أعدائي"، فما كشف الله (تعالى) شخص الإمام لجيش السفياني إلاّ لحكمةٍ بالغةٍ هو (تعالى) أعلم بها، ولا تعني عدم استجابة لدعاء وليّه، بل مجريات غيبه وحكمته تقتضي أن تحدث، مع إنّ الحفظ لوليّه متحقق. لذا نجد أنّ الروايات تخبرنا بأنّ الله (تعالى) سيأمر الإمام بالاختفاء من المدينة، والظهور بمكة المكرمة؛ روي عن الإمام السجاد (عليه السلام) أنّه قال: "فإذا ظهر السفياني اختفى المهدي ثم يظهر بعد ذلك"(12). ومن بعد الظهور الأصغر يظهر الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) ظهورًا أكبرًا في مكة المكرمة، ويصله قادة جيشه، ويحاججه بعض الناس هناك؛ طالبين منه الدليل على إمامته، بل خلافته على الأرض، فيؤمن بعضهم، ويعاديه آخرون، ثم يصلي الإمام بأتباعه، ويصلي بهم العشاءين، ثم يخطب بهم؛ روي عن أبي جعفر (عليه السلام): "ثم يظهر المهدي بمكة عند العشاء، ومعه راية رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقميصه وسيفه، وعلامات، ونور، وبيان، فإذا صلى العشاء نادى بأعلى صوته يقول: أذكركم الله أيها الناس، ومقامكم بين يدي ربكم، فقد اتخذ الحجة، وبعث الأنبياء، وأنزل الكتاب، وأمركم أنْ لا تشركوا به شيئًا، وأنْ تحافظوا على طاعته وطاعة رسوله، وأنْ تحيوا ما أحيا القرآن، وتميتوا ما أمات، وتكونوا أعوانًا على الهدى، ووزرًا على التقوى، فإنّ الدنيا قد دنا فناؤها وزوالها، وآذنت بالوداع، فإنّي أدعوكم إلى الله وإلى رسوله، والعمل بكتابه، وإماتة الباطل، وإحياء سنته.."(13). وبهذا يكون الله تعالى قد أنجز وعده، وحفظ وليّه. ______________ (1) مفاتيح الجنان: للشيخ عباس القمي، ص226. (2) ظ: عقائد الامامية: للشيخ المظفر, ص85. (3) بحار الأنوار: للعلامة المجلسي، ج25، باب نفي الغلو، ص347. (4) معجم أحاديث الامام المهدي: للشيخ الكوراني, ج4, ص39, ح1360. (5) الكافي: للشيخ الكليني, ج8, ص310, ح483. (6) الغيبة: للشيخ الطوسي, ج1, ص473. عنه إثبات الهداة: للشيخ محمد الحر العاملي, ج ٣, ص514, ح354. (7) الغيبة: للشيخ الطوسي, ج1, ص473. عنه البحار: للعلامة المجلسي, ج٥٢ , ص٢٩٠, ح30, وإثبات الهداة: للشيخ محمد الحر العاملي, ٣ج, ص514, ح353, ومنتخب الأثر في الإمام الثاني عشر: للشيخ لطف الله الكلبايكاني, ص464, ح4. (8) الغيبة: للشيخ الطوسي, ج ١, ص445, عن إثبات الهداة: للشيخ محمد الحر العاملي, ج٣, ص514, ح350. (9) على ضفاف الانتظار: للشيخ حسين الأسدي, ص180-181. (10) معجم الملاحم والفتن/ الده سرخي ٣: ٢٣. (11) السفياني حتم مر: للسيد جلال الموسوي, ص79. (12) بحار الأنوار: للعلامة المجلسي, ج52, ص213. (13) معجم أحاديث الامام المهدي: للشيخ الكوراني, ج3, ص295, ح832. اللهم احفظ وليّك من بين يديه, ومن خلفه, وعن يمينه, وعن شماله, ومن فوقه, ومن تحته, بحفظ الإيمان, يا رحيم, يا رحمن.
العقائدبقلم: علوية الحسيني يطلب الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) من الله (تعالى) أنْ يُنجز له ما وعده به؛ انطلاقًا من عقيدته بالله (تعالى) أنّه (تعالى) صادق, لا يُخلِفُ وعده أبدًا. * قوله: "وأنجز"، الإنجاز عرفًا هو الإتمام, أو الإيفاء بالشيء. *وقوله: "ما وعدتني"، إشارةً منه (عجّل الله فرجه الشريف) إلى الوعد بوراثة الأرض, الذي ذكره الله (تعالى) في كتابه الكريم في موضعين: الأول: في قوله (تعالى): {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِين}(1). حيث جاءت أحاديث كثيرة على لسان أهل البيت (عليهم السلام) بشأن تفسير هذه الآية مؤكدةً على أنّ الله (تعالى) سيورثُ خلافة الأرض للإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف)، كما روي عن الإمام علي (عليه السلام) بشأن تفسير هذه الآية أنّه قال: "هم آل محمد, يبعث الله مهديهم بعد جهدهم فيعزهم ويذل عدوهم"(2). الثاني: في قوله (تعالى): {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}(3), فالله (تعالى) هنا يجزم بأنّه يعطي الخلافة في الأرض للذين آمنوا وعملوا الصالحات, وسيد المؤمنين اليوم, وعامل الصالحات هو الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف). ويؤيد تشخيص ذلك المصداق ما روي "عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: نزلت في القائم وأصحابه"(4). وعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: "لا تقومُ السّاعةُ حَتّى يَقُومَ قائِمٌ للحَقِّ مِنّا، وَذَلِكَ حِينَ يَأْذَنُ اللهُ (عزَّ وجلَّ) لَهُ، وَمَنْ تَبعَهُ نَجا، وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ هَلَكَ، اللهَ اللهَ عِبَادَ اللهِ فأتوهُ وَلَوْ حَبْواً على الثَلْجِ، فإنّه خَليفَةُ اللهِ (عزَّ وجلَّ)"(5). ويتحقق ذلك الوعد من خلال اذن الله (تعالى) للإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) بالظهور ثم القيام, "المشار إلى الفرق بينهما سابقًا"(6). وما طلب الإمام من الله (تعالى) لمصلحةٍ شخصية, بل تعجيلاً لفرج شيعته المضطهدين, وشوقًا منه إلى تحقيق العدل في ربوع الأرض, حيث روي عنه (عجّل الله فرجه الشريف) أنّه قال: "أكثروا الدعاء بتعجيل الفرج، فإن ذلك فرَجُكم"(7). ولابد من الاشارة إلى أنّ طلب الإمام من الله (تعالى) تعجيل إنجاز الوعد لا ينافي عدم علم الإمام بحكمة ربه بعدم السماح له بالظهور, بل طلبه الدعائي هذا نابع من استنانه بسنة أجداده (عليهم السلام) في الإلحاح بالدعاء, حيث روي عن الإمام الصادق (عليه السلام): "وَالله لا يُلِحُّ عَبْدٌ مُؤْمِنٌ عَلَى الله عَزَّ وَجَلَّ فِي حَاجَتِهِ إِلا قَضَاهَا لَه"(8). ▪️- وهنا سؤال: رغم إلحاح الإمام بالدعاء لماذا إلى الآن لم يستجب الله (تعالى) لوليّه ويُظهره؟ ▪️- جوابه: إنّ لغيبة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) حكمتين: ظاهرة, وباطنة. فأما الحكمة الظاهرة: فتتجلى في ما يلي: 1/ عدم الاستعداد العالمي لظهور الإمام من جميع النواحي, حيث إنّ حكومته (عجّل الله فرجه الشريف) تتطلب تهيئة البشر وإذعانهم بتخطئة مسلكهم, حكومةً وعقيدة. 2/ عدم تكامل العقول بالعلم والمعرفة, حيث إنّ حكومة الإمام تتطلب كمالاً في السلم المعرفي. 3/ خوفُ الإمام القتل على نفسه, وهذا له مدخلية بعدم اكتمال عدد أصحابه ليتولوا الدفاع عنه فيما لو مسّه الأعداء بضر, وهذا مصداقه واضح لنا, من كثرة أعداء أهل البيت (عليهم السلام) وأتباعهم. وأما الحكمة الباطنة: فلله (تعالى) في غيبه شؤون, وهذا تجسد لاختصاصه (تعالى) بالغيب, حيث قال في كتابه العزيز: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّه}(9). ومعه، فقد يُقال: بأن علم وقت الظهور بالضبط هو من الغيب الذي اختصه الله تعالى لنفسه، والعلم الغيببي الذاتي خاص بالله تعالى، حيث روي عن الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف): "أنا بريءٌ إلى الله وإلى رسولِه ، ممّن يقول إنّا نعلم الغيب، ونشاركُه في مُلكِه، أو يُحِّلُنا محلاً سوى المحلَ الذي رضيه الله لنا"(10). نعم, بتعليم من الله تعالى يمكن أن يطلع الإمام على ذلك، وإلى إمكان اطلاع الله (تعالى) بعض أوليائه على جزءٍ من علم الغيب أشار (تعالى) في كتابه الكريم بقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا* إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُول}(11). فبعضُ القضايا معروفةٌ لنا وللإمام, وبعضها غيبية علينا معلومة للإمام، وبعضها خاصة بالله تعالى, ومن تلك القضايا الغائبة عنا نحن, وجهُ الحكمة في غيبة الإمام, وعدم إنجاز وعد الله (تعالى) إلى الآن بالأذن بالظهور, فتثبت الحكمة الباطنة من عدم الظهور. نعم، يظهر من بعض الروايات أن لأهل البيت (عليهم السلام) علم ذلك، ولكن لم يؤذن لهم باطلاعنا عليه، ومن ذلك ما روي عن عبد الله بن الفضل أنّه قال: "سمعت جعفر بن محمد (الإمام الصادق عليه السلام) يقول: (إنَّ لصاحب هذا الأمر غيبة لابد منها يرتاب فيها كل مبطل. فقلت له: ولمَ جعلت فداك؟ قال: لأمر لـم يؤذن لنا في كشفه لكم. قلت: فما وجه الحكمة في غيبته؟ فقال: وجه الحكمة في غيبته وجه الحكمة في غيبات من تقدمه من حجج الله (تعالى) ذكره. إنَّ وجه الحكمة في ذلك لا ينكشف إلا بعد ظهوره... . يا ابن الفضل، إنَّ هذا أمرٌ من أمر الله، وسرٌ من سر الله، وغيبٌ من غيب الله. ومتى علمنا أنه (عزّ وجل) حكيمٌ صدقنا بأنَّ أفعاله كلها حكمة، وإنْ كان وجهها غير منكشف لنا"(12). _______________ (1) سورة القصص: 5. (2) الغيبة: للشيخ الطوسي, ص183 – 185، ح143. (3) سورة النور: 55. (4) الغيبة: للشيخ النعماني, ص247. (5) عيون أخبار الرضا (عليه السلام): للشيخ الصدوق, ج2, ب٣١، ص٥٩-٦٠، ح٢٣٠. (6) ظ: تجليات معرفية في الخطاب المهدوي, ح4. (7) كمال الدين: لشيخ الصدوق, ج2, ص485. (8) الكافي: للشيخ الكليني, ج2, باب الإلحاح بالدعاء, ح3. (9) سورة هود: 123. (10) الاحتجاج: للشيخ الطبرسي, ج,2 ص487. (11) سورة الجن: 26. اللهم إنّه عبدك الذي استخلصته لنفسك, وارتضيته لنصرة دينك, واصطفيته بعلمك, وعصمته من الذنوب, وبرأته من العيوب, وأطلعته على الغيوب, فأنجز له ما وعدته, يا كاشف الكروب.
العقائدتجلياتٌ معرفية في الخطاب المهدوي(7) بقلم: علوية الحسيني "واجمع بيني وبين أوليائي" تحتمل هذه الفقرة من دعاء الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) احتمالين: ■الاحتمال الأول: لعلّ الإمام يشير إلى عالم الدنيا, زمن الظهور, بجمع أوليائه وأنصاره له، وكذا زمن رجعة حيث يرجع بعض الأموات إلى الحياة الدنيا؛ شوقًا منه (عجّل الله فرجه الشريف) إلى أوليائه وأتباعه الذين سيعاصرون زمنه, أو الذين سيرجعون للحياة الدنيا. ■الاحتمال الثاني: لعلّ الإمام يشير إلى عالم الآخرة, فيكون دعاؤه طلبًا للجنة لهم, بأنْ يجمعهم الله (تعالى) معًا دون تفريق في الجنة, بل وتحتمل العبارة أن يكون دعاء الإمام بأنْ يجمع الله (تعالى) أولياءه وأتباعه معه في نفس الجنة التي يسكنها الإمام (عجّل الله فرجه الشريف), لا في الجنة فقط. ولعل الاحتمال الأول ظاهرًا أقرب للصحة؛ لأن سياق دعائه (عجّل الله فرجه الشريف) بصدد عالم الدنيا, تحديدًا في زمن الغيبة والظهور, حيث يُتم الإمام كلامه قائلاً: "اللّهمّ احجبني عن عيون أعدائي، واجمع بيني وبين أوليائي، وأنجز لي ما وعدتني، واحفظني في غيبتي إلى أن تأذن لي في ظهوري، وأحي بي ما درس من فروضك وسننك، وعجّل فرجي وسهّل مخرجي..." أما أولياء الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف)، فهم كل من اتصف بصفات المؤمنين التي ذكرها الله (تعالى) في كتابه الكريم, والنبي محمد, وأهل بيته (عليهم السلام) في الروايات الصادرة عنهم, فمن صفات أوليائه: ۱ـ "أهل الورع والاجتهاد، وأهل الوفاء والأمانة، وأهل الزهد والعبادة، أصحاب إحدى وخمسين ركعة في اليوم والليلة، القائمون بالليل، الصائمون بالنهار، يزكّون أموالهم، ويحجّون البيت، ويجتنبون كلّ محرّم"(1) 2- من قدّم ما استحسن، وأمسك ما استقبح، وأظهر الجميل، وسارع بالأمر الجليل، رغبة إلى رحمة الجليل"(2) 3- مَن اتّقى الله وأطاعه، وما كانوا يُعرفون إلاّ بالتواضع والتخشّع، وأداء الأمانة، وكثرة ذكر الله، والصوم والصلاة، والبر بالوالدين، وتعهّد الجيران من الفقراء وذوي المسكنة والغارمين والأيتام، وصدق الحديث، وتلاوة القرآن، وكف الألسن عن الناس إلاّ من خير، وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء"(3) 4- الحلماء، العلماء بالله ودينه، العاملون بطاعته وأمره، المهتدون بحبّه، أنضاء عبادة، أحلاس زهادة، صُفر الوجوه من التهجّد، عُمش العيون من البكاء، ذُبل الشفاه من الذكر، خُمص البطون من الطوى، تُعرف الربّانية في وجوههم، والرهبانية في سمتهم، مصابيح كلّ ظلمة"(4) ومعه: ■-فعلى الاحتمال الأول: يكون كل اتصف بتلك الصفات, وبالأكمل منها من أنصار الإمام عند ظهوره، وهم قادة جيشه البالغ عددهم (313), بعدد قادة معركة بدر. روي عن الإمام الباقر (عليه السلام): "فيقوم القائم بين الركن والمقام فيصلي.... ويجئ والله ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا فيهم خمسون امرأة يجتمعون بمكة على غير ميعاد قزعا كقزع الخريف يتبع بعضهم بعضا"(5) وكذلك بقية جيشه وجميع الموالين له, ومن سيدخلون إلى الدين الإسلامي, أو الذين سيعتنقون التشيّع. •-وهنا سؤال: كيف يجمعُ الله (تعالى) بين الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) وبين من مات وكان متصفًا بهذه الصفات؟ •- جوابه يدور ضمن الاحتمالين: ■فعلى الاحتمال الأول, يرجع الله (تعالى) إلى الحياة الدنيا من كان متصفًا بتلك الصفات وبالأكمل منها؛ ليعيش في زمن الإمام. وينقل لنا الشيخ الصدوق (رحمه الله) عقيدتنا في الرجعة قائلاً: "وإنَّ الذي تذهب إليه الشيعة الإمامية، اَنّ الله (تعالى) يُعيد عند ظهور المهدي قومًا ممن كان تقدم موته من شيعته و قومًا من أعدائه"(12). فينحصرُ شوق الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) بالاجتماع بأوليائه. نعم, تطرّقت روايات أهل البيت (عليهم السلام) إلى رجوع جماعات من الأموات إلى الحياة الدنيا في زمن ظهور الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف), قد مضى على موتهم قرون, منها ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام): "يخرج مع القائم عليه السلام من ظهر الكوفة سبعة وعشرون رجلاً من قوم موسى، وسبعة من أهل الكهف ويوشع بن نون وسليمان وأبو دجـانة الأنصاري والمقداد ومالك الأشتر فيكونون بين يديه أنصارًا"(13) فهؤلاء مشمولون بشوق الإمام لأن يجمعهم به. ■وعلى الاحتمال الثاني: فكل من كان متصفًا بتلك الصفات, وبالأكمل منها, سيكون مصيره الجنة إن شاء الله (تعالى)؛ لأنها أعدّت للمتقين, ووعد الله (تعالى) عباده المتقين بها, والله لا يخلف وعده, قال (تعالى): { جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا* لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا* تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيا}(14) فما إنْ حقق الله (تعالى) وعده للمتقين من أولياء الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) فقد جمعهم مع الإمام في الجنة - نفس الجنة, أو دونها-. وهذا هو الجمع الخالد الذي لا موت بعده, وقد وعدَ الله (تعالى) بخلود ساكنيها فيها؛ حيث قال (تعالى): {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون}(15), بقطع النظر عن اسم الجنة –على اختلاف درجاتها ومسمياتها-, فاجتماع الإمام بأوليائه متحققٌ لا محالة. __________________ (1) صفات الشيعة: للشيخ الصدوق, ص2, مما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام). (2) المصدر نفسه, ص17, عن الإمام الصادق (عليه السلام). (3) تحف العقول: لابن شعبة الحراني , ص295, عن الإمام الباقر (عليه السلام). (4) أمالي الطوسي: للشيخ الطوسي, ص576, عن الإمام علي (عليه السلام). (5) معجم أحاديث الامام المهدي: للشيخ الكوراني, ج5, ص11, ح1452. (12) أعيان الشيعة: للسيد محسن الأمين, ج1, ص132.. (13) المصدر نفسه, ج2, ص653. (14) سورة مريم: 61-63. (15) سورة البقرة: 82. (16) تفسير مجمع البيان: للشيخ الطبرسي, ج10, ص385. اَللّـهُمَّ اجْعَلْني مِنْ اَنْصارِهِ, وَاَعْوانِهِ, وَالذابين عَنْهُ, وَالْمُسارِعينَ إلَيْهِ في قَضاءِ حَوائِجِهِ، وَالْمُمْتَثِلينَ لأوامِرِهِ, وَالْمُحامينَ عَنْهُ، وَالسّابِقينَ إلى إرادَتِهِ, وَالْمُسْتَشْهَدينَ بَيْنَ يَدَيْهِ.
العقائدبقلم: علوية الحسيني "اللهم احجبني عن عيون أعدائي" هذا أحد الأدعية المروية عن الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) في الاحتجاب عن أعدائه (1)، يحتوي مضامين عالية من المعارف، ويسمى "باحتجاب الإمام المهدي (عليه السلام). ابتدأ الإمام دعاء بصيغة الدعاء، فنادى ربّه بقوله: "اللّهم": وهي "صيغة نداء ودعاء مثل: يا الله، حذف منها حرف النداء وعُوِّض عنه بميم مشدَّدة" (2). "احجبني" حجَبَ: الحجاب: الستر. حجبَ الشيء, يحجبه حُجبا وحِجابا, وحجبه: ستره. وقد احتجب وتحجب إذا اكتنّ من وراء حجاب" (3). إنّ طلب الدعاء هو خير درسٍ على شدة الارتباط بالله تعالى، وهذا اخلاص عبودية الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) لله الواحد الأحد، ودليل أيضًا على فقره لله تعالى الغني عن خلقه، إذ الإمام بشر مخلوق، وكل المخلوقات فقيرة إلى خالقها، وعقيدتنا في الأئمة (عليهم السلام) "أنَّهم بشر مثلنا، لهم ما لنا، وعليهم ما علينا، وإنما هم عباد مكرمون، اختصّهم الله تعالى بكرامته، وحباهم بولايته" (4). فللإمام ما لنا من قواعد البشرية المحتاجة إلى خالقها، إلّا إنّه (عجّل الله فرجه الشريف) اصطفاه الله تعالى للولاية؛ لعلمه تعالى الأزلي بأهلية الإمام لها، وشدة أورعيته عن اقتحام الشبهات وارتكاب الذنوب، لكنه رغم عصمته يتذلل لله العزيز الجبار أدبًا، واستنانًا بسنة جدّه محمد (صلى الله عليه وآله). وطلب الإمام الاحتجاب لا يخدش كمال الإمام كمعصوم؛ فقد طلب الاحتجاب الأئمة من قبله الإمام علي (عليه السلام) في دعائه الشهير "بدعاء الاحتجاب" (5). وما طلبه هذا إلّا لوجود قوّة مضادة لمساره، وهم الأعداء، وهو تصرف عقلائي يتخذه كل من رام دفع الضرر عن نفسه. قوله: "عن عيون أعدائي" جرت سيرة العقلاء على أنّ المتكلم الحكيم إذا أراد أن يتكلّم فكل ما يريده يقوله، والإمام سيّد العقلاء، فقيّد كلامه بقيدٍ احترازيٍ، وهو (عيون الأعداء)، اشارةً منه إلى الأمور التالية: 1- إنّ قلوب الأعداء لا تناله، فهي ران عليها، وكذا فطنتهم لا تدلهم على الإمام (عجّل الله فرجه الشريف)، لذا قيّد كلامه بعيون أعدائه. وسواء كان قصد الإمام عين نفس العدو، أو الجاسوس التابع للعدو، فلا فرق من هذه الناحية. 2- إنّ الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) لم يطلب الاحتجاب عن عيون أوليائه وأتباعه، لأنّه ظاهر لهم، وغائب عنهم في آنٍ واحد، كونه حيًا، يعيش بيننا؛ فظاهرٌ لهم حيث يراهم، وهم يعيشون معه بشعورهم، وغائبٌ عنهم حيث يرونه ولا يعرفونه. وهذه هي نظرية (خفاء العنوان) والتي تقول: "إنّ الناس يرون الامام المهدي عليه السلام بشخصه من دون أنْ يكونوا عارفين او ملتفتين لحقيقته" (6)؛ استنادًا إلى روايات عديدة منها: "ما روي عن الحميري، عن محمد بن عثمان العمري: والله إن صاحب هذا الامر يحضر الموسم [موسم الحج] كل سنة، فيرى الناس ويعرفهم ويرونه ولا يعرفونه" (7). 3- إنّ طلبه الاحتجاب عن عيون أعدائه، وخوفه على نفسه، لا ينافي عصمته (عليه السلام)؛ لسببين: السبب الأول: قرآني، حيث أنّ النبي موسى (عليه السلام) قد خاف من أمرين، وأكد خوفه في مورد منفصل ثالث: أ- خاف من تكذيب قومه له، كما قال تعالى حكايةً: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِين* قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ* قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُون} (8). ب- خاف من قومه أن يقتلوه، كما قال تعالى حكايةً عن لسان نبيّه: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُون} (9). ج- إقرار النبي (عليه السلام) بالخوف حينما واجه فرعون، حيث قال تعالى حكايةً: {فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِين} (10). فحتمًا إنّ النبي موسى (عليه السلام) ما ينطق عن الهوى، فكلامه كلام الوحي، وكلام الوحي كلام الله تعالى، وبالتالي يكون خوف النبي لأمر حكيم يعلمه الله تعالى، لا خوفاً من الموت مثلاً، فلا ينافي عصمته. وكذا وليّ الله الخاتم، الإمام القائم (عجّل الله فرجه الشريف)، خوفه من أعدائه، ولذلك طلب من الله تعالى أن يحجبه عنهم. السبب الثاني: روائي، حيث ذكرت بعض الروايات صريحاً مفردة الخوف؛ عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: "لابُدَّ لِلْغُلامِ [الإمام المهدي عليه السلام] مِنْ غَيْبَةٍ، فَقِيلَ لَهُ: وَلِمَ يا رَسُولَ اللهِ؟ قالَ: يَخافُ القَتْل"(11). فها هو رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله) يصرّح بأحد أسباب غيبة الإمام واحتجابه، وهو خوفه (عجّل الله فرجه الشريف). فلو كان نقص كمالٍ منه لما ذكره (صلى الله عليه وآله). 4- ليبقى (عجّل الله فرجه الشريف) محافظًا على حياته؛ لأنّه بوجوده المبارك سيقضي الله تعالى على الفساد والجور والعدوان، وبه تحقيق وعد الله تعالى بأن يجعل وليّه خليفة في الأرض ولهذا طلب الاحتجاب عن عيون أعدائه؛ ليحقق لطف الله تعالى بعباده؛ حيث إنّ وجود الإمام لطفٌ لهم, والأتباع منتظرون ظهوره، فبالتالي متى ما حافظ الإمام على حياته، واكتنزها ليوم الظهور, فإنّه سيحقق وعد الله تعالى. *إنّ طلب احتجاب الإمام عن عيون أعدائه ليس أمرًا مستحيلًا، بل ممكنًا؛ حيث حصل وأن حجبه الله تعالى عن عيون أعدائه منذ غيبته الصغرى، عندما كانت تبحث عنه السلطات الظالمة آنذاك لكنها لم تعرف شكله؛ لأن الإمام العسكري (عليه السلام) كان يخفي ابنه عن أعين العامة، ولهذا استبعد جنود العدو أن يخرج الإمام من بيته، فخرج ولم يعرفه أحد منهم، وغاب غيبته الصغرى" (12). فما حصل مع الإمام سابقًا بالاحتجاب عن عيون أعدائه هو هين عند الله تعالى في زمن غيبته. ________________ (1) المصباح: للكفعمي, ص ٢١٩, ف26. بحار الأنوار: للعلاّمة المجلسي, ج91, ص ٣٧٨, ب52, الاحتجابات المروية. مهج الدعوات: للسيد ابن طاووس, ص303, حجاب مولانا صاحب الزمان (عليه السلام). (2) معجم اللغة العربية المعاصر. (3) لسان العرب: لابن منظور, ج1, ص298. (4) عقائد الامامية: للشيخ المظفر, ص85. (5) موسوعة أمير المؤمنين علي بن ابي طالب [عليه السلام]: للشيخ باقر شريف القرشي, ج4, ص203-204. (6) مقال الغيبة أقسامها وأسبابها: للشيخ عادل الحريري. (7) بحار الأنوار: للعلامة المجلسي, ج52, ح4, عن اكمال الدين. (8) سورة الشعراء: 10-12. (9) سورة الشعراء: 14. (10) سورة الشعراء: 21. (11) بحار الأنوار: للعلامة المجلسي, ج٥٢, ص٩٠, ب٢٠, ح١ - عن علل الشرائع. (12) ظ: دائرة معارف الغيبة. اللهم احفظه من كل باغٍ وطاغٍ، بحق محمد وآله الطاهرين.
العقائدبقلم: علوية الحسيني بعد أنْ أثبتنا وجوب معرفته تعالى، تعيّن بيانُ كيفية تلك المعرفة، وقد جعل أهل البيت (عليهم السلام) معرفة الله سبحانه وتعالى أول الدّين، وأوليّة الشيء تدل على شرفه؛ حيث روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "أوّل الدين معرفته"(1). ولا عبادة لمن لا معرفة له بالله تعالى، كما روي عن الإمام الباقر (عليه السلام): إنّما يعبد الله مَن عرف الله، فأمّا مَن لا يعرف الله كأنّما يعبد غيره هكذا ضالاً"(2). فكيف نعرف الله سبحانه وتعالى؟ جوابه يتضح في المطالب التالية: ■المطلب الأول: حدود معرفة الله تعالى إنّ لدائرة معرفة الله تعالى حدودًا يقفُ عندها العقل والنقل، ولا يتجاوزها العقل، ولا حتى النقل، فقد دلّ كلٌّ منهما على عدم إمكان وجواز اكتناه الذات الإلهية المقدسة. فأمّا العقل فسيأتي دليله، وأمّا النقل فقد روي عن أبي جعفر (عليه السلام) أنّه قال: "دعوا التفكر في الله فإنّ التفكر في الله لا يزيد إلا تيها لأن الله تبارك وتعالى لا تُدركه الأبصار ولا تبلغه الأخبار"(3) إذًا لابد من الوقوف على ما هو داخل حدود المعرفة بالله تعالى. وذلك يكون عبر التالي: •الفرع الأول: نقلاً 1/ ادنى المعرفة سُئل الإمام الهادي (عليه السلام) عن أدنى المعرفة بالله تعالى، قال : الإقرار بأنّه لا إله غيره، ولا شبه له ولا نظير، و أنّه قديم مثبت موجود غير فقيد، وأنّه ليس كمثله شيء"(4) . ما ذكره الإمام كافٍ لمعرفة العبد بربّه، حيث إنّ ما انتقاه من مفرداتٍ واضحةٌ إجمالاً؛ من حيث كون الله تعالى هو الإله, ولم يشبهه ويماثله شيء, ولم يكن له شيءٌ مقابلاً أو مماثلاً ليقال أنّه تعالى يناظر ذلك الشيء. وقديم بمعنى أنّه لم يكن مخلوقًا، بل هو الذي خلق المخلوقات، وموجود معنا في كلّ مكانٍ بوجوده غير المادي المختلف عن وجودنا، بل وعن وجود الموجودات غير المادية أيضًا. 2/ أعلى المعرفة. وهنا يتجلى الكمال المعرفي، ولا يناله إلاّ ذو حظٍ عظيم، وقد ناله نبي الله الخاتم، محمد وآله الميامين (صلى الله عليه وعليهم)، وأيّ معرفةٍ أشرف من المعرفة بالواحد الأحد! روي عن الإمام الصادق (عليه السَّلام) أنه قَالَ: " لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي فَضْلِ مَعْرِفَةِ الله عَزَّ وَ جَلَّ مَا مَدُّوا أَعْيُنَهُمْ إِلَى مَا مَتَّعَ الله بِهِ الْأَعْدَاءَ مِنْ زَهْرَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ نَعِيمِهَا، وَ كَانَتْ دُنْيَاهُمْ أَقَلَّ عِنْدَهُمْ مِمَّا يَطَئُونَهُ بِأَرْجُلِهِمْ، وَ لَنُعِّمُوا بِمَعْرِفَةِ الله جَلَّ وَ عَزَّ، وَ تَلَذَّذُوا بِهَا تَلَذُّذَ مَنْ لَمْ يَزَلْ فِي رَوْضَاتِ الْجِنَانِ مَعَ أَوْلِيَاءِ الله"(5). ولم تخلُ روايات أهل البيت (عليهم السلام) من بيانِ أعلى المعارف التوحيدية، فبعضها ولجت في بحر الأحدية، وأخرى وقفت على ساحل الواحدية، حتى سطعت بأنوارها الملكوتية على قلب خيار البشرية. ومنها ما روي عن الإمام الكاظم (عليه السلام): "...واعلم أنّ الله تعالى واحد، أحدٌ، صمدٌ، لم يلد فيورث، ولم يولد فيشارك، ولم يتخذ صاحبة ولا ولدًا ولا شريكًا، وأنّه الحي الذي لا يموت، والقادر الذي لا يعجز، والقاهر الذي لا يغلب، والحليم الذي لا يعجل، والدائم الذي لا يبيد، والباقي الذي لا يفنى، والثابت الذي لا يزول، والغني الذي لا يفتقر، والعزيز الذي لا يذل، والعالم الذي لا يجهل، والعدل الذي لا يجور، والجواد الذي لا يبخل، وانه لا تقدره العقول، ولا تقع عليه الأوهام، ولا تحيط به الاقطار، ولا يحويه مكان، ولا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير، وليس كمثله شيء وهو السميع البصير. (ما يكون من نجوى ثلاثة إلاّ هو رابعهم ولا خمسة إلاّ هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلاّ هو معهم اينما كانوا ) وهو الأوّل الذي لا شيء قبله، والآخر الذي لا شيء بعده، وهو القديم وما سواه مخلوق محدث، تعالى عن صفات المخلوقين علوًّا كبيرًا"(6) •الفرع الثاني: عقلاً 1/ أدنى المعرفة. أدنى ما يستطيع العقل أنْ يحكم به كمعرفةٍ بالله تعالى هو وجود إله منظم لهذا الكون، وطبقًا لقاعدة: الأثر يدل على المؤثر يحكم بأنّ للخالق وجود فلابد من معرفته، لكن لا بالتقليد؛ بل بالبرهان القاطع. 2/ أعلى المعرفة. وكذا يتجلى هنا الكمال المعرفي؛ فنفس القواعد العقلية الدنيا ممكن الوغول فيها، حسب إدراكات العارف؛ لتنبهه على معرفة الله تعالى، بل وتزداد الدرجات بدراسة القواعد الفلسفية التي لا تتعارض مع الكتاب والسنة النبوية، فتكون عندئذٍ شعاعًا وهّاجًا للعقل، وأداةً لاستنباط نوعٍ من المعارف العليا التوحيدية. ■المطلب الثاني: طرق معرفة الله تعالى. الطريق الأول: الله تعالى. رسم أهل البيت (عليهم السلام) ضلعًا من أضلع مربع طرق المعرفة بالله تعالى, فقال سيّدهم أمير المؤمنين (عليهم السلام) في دعائه: "يا من دلّ على ذاته بذاته"(7) وروي عن الإمام السجاد (عليه السلام) في دعائه الذي علّمه لأبي حمزة الثمالي: "إلهي... بِكَ عَرَفْتُكَ وَأَنْتَ دَلَلْتَنِي عَلَيْكَ، وَدَعَوْتَنِي إِلَيْكَ، وَلَوْ لاَ أَنْتَ لَمْ أَدْرِ مَا أَنْت"(8) وهذا الطريق صعب جداً إلا على المعصوم (عليه السلام) -نبيًا كان أو إمامًا-؛ لقصور الإدراك البشري عندنا؛ حيثُ إنّ الإنسان المنغمس في عالمِ المادّة لا يعرف الله تعالى بالله، بـل يعرفه بأفعالهِ وصفاتهِ. •الطريق الثاني: الفطرة. لقد أعطى رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله) قاعدةً كليّة في ما روي عنه من حديث: كلُّ مولودٍ يولد على الفطرة"(9) وبقرنِ مقدمةٍ صغرى مروية عن الإمام الباقر (عليه السلام): "فطر الله الناس... على المعرفة به"(10) فينتج أنّ المعرفةَ طريقٌ لمعرفة الله تعالى. والمقصود من الفطرة: أن الإنسان لو تُرك من دون مؤثرات خارجية لاهتدى إلى وجود إله خالق للكون. •الطريق الثالث: النبي وآله (عليه وعليهم السلام( النبي وآله (عليهم السلام) فعلٌ من أفعال الله تعالى؛ لخلقه إياهم هداةً، قادةً، ومن المعلوم أنّ الفاعل يمكن التعرف إلى صفاته عبر فعله، وعليه يمكن التعرف إلى الله تعالى عبرهم، يعضّد ذلك ما نقرأهُ في الزيارةِ الجامعةِ الكبيرةِ: "مَن أراد الله بدأ بكم"(11) •الطريق الرابع: العلم روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "بالعلمِ يُعرف الله"(12) ظاهر الحديث يشير إلى أهمية قرن المعرفة بالعلم، لا المعرفة بالتقليد، فمن يعرف ربّه بالعلوم النقلية أو العقلية أفضل من الذي يعرف ربّه تقليدًا لأبويه مثلًا. •الطريق الخامس: العقل روي عن الإمام عليّ (عليه السلام): "لم يُطلعِ [الله تعالى] العقول على تحديد صفته، ولم يحجبها عن واجب معرفته"(13), اشارةً منه (عليه السلام) "في مقطعه الأول إلى استحالة معرفة ذات الله تعالى, وفي مقطعه الثاني إلى إمكان معرفته بصفاته وأفعاله"(14( ■المطلب الثالث: معرفةٌ مستحيلة على الله تعالى هناك طرق نهت عن سلوكها الروايات، وكذا العقل يحار فيها، فيهلك صاحبها, وهي: 1/الأوهام لما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "التوحيد ألاّ تتوهّمه"(15)، فمن يعرف الله تعالى بالتوهم "يجعل من الله جزئيًا محسوسًا، حيث تدركه القوة الواهمة، وهذا خُلفُ كونهِ تعالى منزهًا عن المحسوسية"(16)، حيث يلزمه كون الله تعالى محاطًا بالعقل. 2/الحواس ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "لا تدركه الحواس فتحسّه"(17), حيث يلزمه هيمنة الحواس عليه تعالى. 3/الرؤية قال تعالى " لا تُدْرِكُهُ الابْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الابْصار"(18), حيث يلزمه كون الله تعالى جسمًا, وانحصاره في مكان. 4/الشبيه لما روي عن الإمام الرضا (عليه السلام): " إِنَّ الله لا يُشْبِهُهُ شَيْء"(21)، حيث يلزمه مخالفة نص الآية (ليس كمثله شيء(، فلا شبيه له لنعرفه من خلاله. أما ماذا يترتب على معرفة الله تعالى؟ فجوابه يأتي في النبضة الثالثة إن شاء الله تعالى. ____________ (1) نهج البلاغة, 13, خ1. (2) تفسير العياشي: لمحمد العياشي, ج2, ح155. (3) التوحيد: للشيخ الصدوق, ب67, ح13. (4) المصدر السابق, ح283. (5) الكافي : 8 / 247. (6)بحار الأنوار: 75/296 ـ 319. (7) مفاتيح الجنان: للشيخ عباس القمي, ص96. (8) المصدر نفسه, ص232. (9) الكافي: للشيخ الكليني, ج2, باب فطرة الخلق على التوحيد, ح3. (10) المصدر نفسه, ج2, ح3. (11) مفاتيح الجنان: للشيخ عباس القمي، 611. (12) الأمالي: للشيخ الصدوق, ص468, م90, ح1. (13) نهج البلاغة, خ49. (14) ظ: مركز الأبحاث العقائدية. (15) نهج البلاغة, ح470. (16) ظ: شرح نهج البلاغة: لابن ميثم البحراني، ج5، ص465. (17) نهج البلاغة, خ186. (18) الكافي: للشيخ الكليني, ج1, باب ابطال الرؤية, ح11. (19) نهج البلاغة, خ186. (20) مصباح المتهجد: للشيخ الطوسي, ص332. (21) الكافي: للشيخ الكليني, ج1, باب النهي عن الجسم والصورة, ح8. (22) تحف العقول: لإبن شعبة الحراني, ص238.
العقائديستشهد الكثير من الناس ــ وحتى بعض المثقفين ــ بقول:" لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع فإن الخير فيها دخيل وعاشر نفساً جاعت بعد شبع فإن الخير فيها أصيل" على أنه من أقوال أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، كما يستشهدون أيضاً بقولٍ آخر ينسبونه إليه (عليه السلام) لا يبعد عن الأول من حيث المعنى:"اطلبوا الخير من بطون شبعت ثم جاعت لأن الخير فيها باق، ولا تطلبوا الخير من بطون جاعت ثم شبعت لأن الشح فيها باق"، مُسقطين المعنى على بعض المصاديق التي لم ترُق افعالها لهم، لاسيما أولئك الذين عاثوا بالأرض فساداً من الحكام والمسؤولين الفاسدين والمتسترين عل الفساد. ونحن في الوقت الذي نستنكر فيه نشر الفساد والتستر عليه ومداهنة الفاسدين نؤكد ونشدد على ضرورة تحرّي صدق الأقوال ومطابقتها للواقع وعدم مخالفتها للعقل والشرع من جهة، وضرورة التأكد من صدورها عن أمير المؤمنين أبي الأيتام والفقراء (عليه السلام) أو غيرها من المعصومين (عليهم السلام) قبل نسبتها إليهم من جهة أخرى، لذا ارتأينا مناقشة هذا القول وما شابه معناه من حيث الدلالة أولاً، ومن حيث السند ثانياً.. فأما من حيث الدلالة فإن هذين القولين يصنفان الناس الى صنفين: صنف قد سبق له أن شبع مادياً ولم يتألم جوعاً، أو يتأوه حاجةً ومن بعد شبعه جاع وافتقر، وصنف آخر قد تقلّب ليله هماً بالدين، وتضوّر نهاره ألماً من الجوع، ثم شبع واغتنى،. كما جعل القولان الخير متأصلاً في الصنف الأول دون الثاني، وبناءً على ذلك فإن معاشرة أفراد هذا الصنف هي المعاشرة المرغوبة والمحبوبة والتي تجرّ على صاحبها الخير والسعادة والسلام، بخلاف معاشرة أفراد الصنف الثاني التي لا تُحبَّذ ولا تُطلب؛ لأنها لا تجر إلى صاحبها سوى الحزن والندم والآلام... ولو تأملنا قليلاً في معنى هذين القولين لوجدناه مغايراً لمعايير القرآن الكريم بعيداً كل البعد عن روح الشريعة الاسلامية ، وعن المنطق القويم والعقل السليم ومخالفاً أيضاً لصريح التاريخ الصحيح، بل ومخالف حتى لما نسمعه من قصص من أرض الواقع أو ما نلمسه فيه من وقائع.. فأما مناقضته للقرآن الكريم فواضحة جداً، إذ إن الله (تعالى) قد أوضح فيه وبشكلٍ جلي ملاك التفاضل بين الناس، إذ قال (عز من قائل):" يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)"(1) جاعلاً التقوى مِلاكاً للتفاضل، فمن كان أتقى كان أفضل، ومن البديهي أن تكون معاشرته كذلك، والعكس صحيحٌ أيضاً. وعليه فإن من سبق حاجتُه وفقرُه شبعَه وغناه يكون هو الأفضل، وبالتالي تكون معاشرته هي الأفضل كذلك فيما لو كان تقياً بخلاف من شبع وكان غنياً ، ثم افتقر وجاع فإنه لن يكون الأفضل ومعاشرته لن تكون كذلك طالما كان بعيداً عن التقوى. وأما بُعده عن روح الشريعة الإسلامية فإن الشريعة لطالما أكدت على أن الله (سبحانه وتعالى) عادلٌ لا جور في ساحته ولا ظلمَ في سجيته، وبالتالي لا يمكن أن يُعقل إطلاقاً أن يجعل البعض فقيراً ويتسبب في دخالة الخير في نفوسهم، التي يترتب عليها نفور الناس من عشرتهم، فيما يُغني سواهم ويجعل الخير متأصلاً في نفوسهم بسبب إغنائه إياهم ليس إلا ومن ثم يتسبب في كون الخير متأصلاً في نفوسهم، وبالتالي حب الناس لعشرتهم. فإن ذلك مخالف لمقتضى العدل الإلهي لأنه ليس بعاجزٍ عن تركه ولا بمُكره على فعله، ولا محب لذلك لهواً وعبثاً (تعالى عن كل ذلك علواً كبيراً). كما إن تأصل الخير في نفوس بعض الناس ودخالته في نفوس البعض الآخر منهم بناءً على أمر خارج عن إرادتهم واختيارهم كـ(الغنى والشبع أو الجوع والفقر) إنما هو أمرٌ منافٍ لمنهج الشريعة المقدسة القائم على حرية الانسان في اختياره لسبيل الخير والرشاد أو سبيل الشر والفساد، قال (تعالى):" إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)"(2) بل إن الانسان أحياناً قد يكون فقيراً بسبب حب الله (تعالى) له، كما ورد في الحديث القدسي: "أن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى فلو أفقرته لأفسده ذلك و أن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر فلو أغنيته لأفسده ذلك"(3) وهل يمكن ان نتصور أن الخيرَ دخيلٌ فيمن يحبه الله (تعالى) أو إن معاشرته لا تجدي نفعا، أو تسبب الهم والألم؟! نعم، ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"اِحْذَرُوا صَوْلَةَ اَلْكَرِيمِ إِذَا جَاعَ وَ اَللَّئِيمِ إِذَا شَبِعَ"(4) ولا يقصد به الجوع والشبع المتعارف عليه لدى الناس، وإنما المراد منه: احذروا صولة الكريم إذا اُمتُهِن، واحذروا صولة اللئيم إذا أكرم، وفي هذا المعنى ورد عنه (عليه السلام) أيضاً: "احذروا سطوة الكريم إذا وضع و سورة اللئيم إذا رفع"(5) وأما العقل السليم والمنطق القويم فإنهما يقتضيان أن تتأصل صفة الخير في الإنسان لملكاتٍ حميدة يتسم بها وصفات فضيلة يتميز بها، لا أن تتأصل صفة الخير في نفسه لمجرد أنه ولد في أسرة تتمتع بالرفاهية الاقتصادية ووجد في بيئة تتنعم بالثروات المادية! وعند مراجعتنا للتاريخ الصحيح نجد أن قادة البشر وصفوة الناس إنما كان أغلبهم ينتمي الى الطبقات الفقيرة من المجتمع، فهؤلاء الأنبياء ورسل الله (صلوات الله عليهم) منهم من كان نجاراً أو خياطاً أو راعياً، ومع ذلك فقد كانوا من أطيب الناس خلقاً، وأعظمهم شرفاً، وأرفعهم منزلةً، قد تأصّل الخير في نفوسهم تأصّلاً حتى غدوا قطعة منه، فكانوا هم الخير للبشر، وهم الرحمة للعالمين. وبالنزول إلى أرض الواقع نجد أن الكثير من الفقراء والمساكين طيبي الروح، كريمي النفس، يتألمون لألم المحتاج ولربما يؤثرونه على أنفسهم رغم حاجتهم. ولا نقصد من كلامنا هذا أن الأغنياء هم على نقيض ذلك، وإنما تأكيداً على مسألة عدم ارتباط تأصل الخير في النفوس وعدمه بمستواهم الاقتصادي الذي نشأوا فيه ارتباط العلة والمعلول، فكما إن بعض الفقراء أخيار، فإن بعض الأغنياء كذلك، والعكس صحيح أيضاً. ومن هنا يُفهم من بعض الروايات ضرورة عدم طلب الخير والحاجات ممن هم أهل للخير بقطع النظر عن مستواهم المعاشي الحالي والسابق، منها ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"أشد من الموت طلب الحاجة من غير أهلها"(5)، وعنه (عليه السلام) أيضاً: "فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غير أهلها"(6) إذن فلا صحة لهاتين المقولتين من حيث الدلالة، حتى وإن تنزلنا وحملنا الجوع والشبع على المعنى المعنوي لا المادي؛ وذلك لأنه حتى من يفتقر الى الأخلاق المعنوية فإنه ما إن يتكامل بالفضائل ويقلع عن الرذائل حتى يتسم بالخير وتحسن عشرته وتطيب للناس صحبته، والعكس صحيحٌ أيضا.. ومن البديهي أن ما لا يوافق العقل والمنطق السليم، ويخالف صريح القرآن الكريم، لا يمكن أن يصدر من وصي الرسول الكريم (صلوات الله عليهما وآلهما)، وعليه لا تصح نسبة هذين القولين الى أمير المؤمنين (عليه السلام).. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الحجرات 13 (2) الانسان 3 (3) عوالي الآلي ج2 ص29 (4) غرر الحكم ج1 227 (5) المدر السابق ج1 ص246 (6) ميزان الحكمة ج4 ص 238 رضا الله غايتي
اخرىخلق الله الأشياء كلها في الحياة ضمن موازين وقياسات... فالزيادة أو النقيصة تسبب المشاكل فيها. وهكذا حياتنا وأفعالنا وعواطفنا لا بد أن تكون ضمن موازين دقيقة، وليست خالية منها، فالزيادة والنقيصة تسبب لنا المشاكل. ومحور كلامنا عن الطيبة فما هي؟ الطيبة: هي من الصفات والأخلاق الحميدة، التي يمتاز صاحبها بنقاء الصدر والسريرة، وحُبّ الآخرين، والبعد عن إضمار الشر، أو الأحقاد والخبث، كما أنّ الطيبة تدفع الإنسان إلى أرقى معاني الإنسانية، وأكثرها شفافية؛ كالتسامح، والإخلاص، لكن رغم رُقي هذه الكلمة، إلا أنها إذا خرجت عن حدودها المعقولة ووصلت حد المبالغة فإنها ستعطي نتائج سلبية على صاحبها، كل شيء في الحياة يجب أن يكون موزوناً ومعتدلاً، بما في ذلك المحبة التي هي ناتجة عن طيبة الإنسان، وحسن خلقه، فيجب أن تتعامل مع الآخرين في حدود المعقول، وعندما تبغضهم كذلك وفق حدود المعقول، ولا يجوز المبالغة في كلا الأمرين، فهناك شعرة بين الطيبة وحماقة السلوك... هذه الشعرة هي (منطق العقل). الإنسان الذي يتحكم بعاطفته قليلاً، ويحكّم عقله فهذا ليس دليلاً على عدم طيبته... بالعكس... هذا طيب عاقل... عكس الطيب الأحمق... الذي لا يفكر بعاقبة أو نتيجة سلوكه ويندفع بشكل عاطفي أو يمنح ثقة لطرف معين غريب أو قريب... والمبررات التي يحاول إقناع نفسه بها عندما تقع المشاكل أنه صاحب قلب طيب. الطيبة لا تلغي دور العقل... إنما العكس هو الصحيح، فهي تحكيم العقل بالوقت المناسب واتخاذ القرار الحكيم الذي يدل على اتزان العقل، ومهما كان القرار ظاهراً يحمل القسوة أحياناً لكنه تترتب عليه فوائد مستقبلية حتمية... وأطيب ما يكون الإنسان عندما يدفع الضرر عن نفسه وعن الآخرين قبل أن ينفعهم. هل الطيبة تصلح في جميع الأوقات أم في أوقات محددة؟ الطيبة كأنها غطاء أثناء الشتاء يكون مرغوباً فيه، لكنه اثناء الصيف لا رغبة فيه أبداً.. لهذا يجب أن تكون الطيبة بحسب الظروف الموضوعية... فالطيبة حالة تعكس التأثر بالواقع لهذا يجب أن تكون الطيبة متغيرة حسب الظروف والأشخاص، قد يحدث أن تعمي الطيبة الزائدة صاحبها عن رؤيته لحقيقة مجرى الأمور، أو عدم رؤيته الحقيقة بأكملها، من باب حسن ظنه بالآخرين، واعتقاده أن جميع الناس مثله، لا يمتلكون إلا الصفاء والصدق والمحبة، ماي دفعهم بالمقابل إلى استغلاله، وخداعه في كثير من الأحيان، فمساعدة المحتاج الحقيقي تعتبر طيبة، لكن لو كان المدّعي للحاجة كاذباً فهو مستغل. لهذا علينا قبل أن نستخدم الطيبة أن نقدم عقولنا قبل عواطفنا، فالعاطفة تعتمد على الإحساس لكن العقل أقوى منها، لأنه ميزان يزن الأشياء رغم أن للقلب ألماً أشد من ألم العقل، فالقلب يكشف عن نفسه من خلال دقاته لكن العقل لا يكشف عن نفسه لأنه يحكم بصمت، فالطيبة يمكن أن تكون مقياساً لمعرفة الأقوى: العاطفة أو العقل، فالطيّب يكون قلبه ضعيفاً ترهقه الضربات في أي حدث، ويكون المرء حينها عاطفياً وليس طيباً، لكن صاحب العقل القوي يكون طيباً أكثر من كونه عاطفياً. هل الطيبة تؤذي صاحبها وتسبب عدم الاحترام لمشاعره؟ إن الطيبة المتوازنة المتفقة مع العقل لا تؤذي صاحبها لأن مفهوم طيبة القلب هو حب الخير للغير وعدم الإضرار بالغير، وعدم العمل ضد مصلحة الغير، ومسامحة من أخطأ بحقه بقدر معقول ومساعدة المحتاج ... وغيرها كثير. أما الثقة العمياء بالآخرين وعدم حساب نية المقابل وغيرها فهذه ليست طيبة، بل قد تكون -مع كامل الاحترام للجميع- غباءً أو حماقة وسلوكاً غير عقلاني ولا يمت للعقل بصلة. إن المشكلة تقع عند الإنسان الطيب عندما يرى أن الناس كلهم طيبون، ثم إذا واجهه موقف منهم أو لحق به أذى من ظلم أو استغلال لطيبته، تُغلق الدنيا في وجهه، فيبدأ وهو يرى الناس الطيبين قد رحلوا من مجتمعه، وأن الخير انعدم، وتحصل له أزمة نفسية أو يتعرض للأمراض، لأن الطيّب يقدم الإحسان للناس بكل ما يستطيع فعله، ويقدّم ذلك بحسن نية وبراءة منه، فهو بالتالي ينتظر منهم الرد بالشكر أو المعاملة باللطف على الأقل... صحيح أن المعروف لوجه الله، ولكن من باب: من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق، لذلك يتأذى عندما يصدر فعل من الشخص الذي كان يعامله بكل طيب وصدق. هل الطيبة والصدق من علامات ضعف الشخصية؟ الكثير من الناس يصف طيب القلب بأنه ضعيف الشخصية، لأنه يتصف بعدم الانتقام ممن ظلمه، والصفح عنه عند رجوعه عن الخطأ، وأنه لا يحب إيقاع الآخرين بالمشاكل؛ لأنه مقتنع أن الله سيأخذ له حقه. والحقيقة هي أن الصدق والطيبة وحسن الظن بالآخرين ليست ضعف شخصية، بل هي من الأخلاق الراقية وهي تزيد صاحبها سمواً وجمالاً روحياً، وليس من المعيب أن يمتلك الإنسان الطيبة بل العيب في من لا يُقدّر هذه الطيبة ويعطيها حقها في التعامل بالمثل. فالمشكلة الأساسية ليست في الطيبة، إنما في استغلال الآخرين لهذه الطيبة، نتيجة لعدم عقلنة قراراتنا والاعتماد على عواطفنا بشكل كلي. فالصدق والطيبة حسب المنطق والعقل، ولها فوائد جمة للنفس ولعموم أفراد المجتمع، فهي تحصين للشخص عن المعاصي، وزيادة لصلة الإنسان بربه، وتهذيب للنفس والشعور بالراحة النفسية، فالصادق الطيب ينشر المحبة بين الناس، وهذا يعزّز التماسك الاجتماعي وتقويته من سوء الظنون والحقد، وهذا التعامل أكّدت عليه جميع الشرائع السماوية، ولو تأمّلنا تاريخ وأخلاق الأنبياء والأوصياء لوجدنا كل ما هو راقٍ من الأخلاق والتعامل بالطيبة والصدق... حنان الزيرجاوي
اخرىرحلةٌ مثقلة بالألم في طريق يئن من وطأة الظلم! ينهي حياة زوجية فشلت في الوصول إلى شاطئ الأمان. ويبدد طموحات أطفال في العيش في هدوء نفسي واجتماعي تحت رعاية أبوين تجمعهم المودة والرحمة والحب. الطلاق شرعاً: هو حل رابطة الزواج لاستحالة المعاشرة بالمعروف بين الطرفين. قال تعالى: [ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)].(١). الطلاق لغوياً: من فعل طَلَق ويُقال طُلقت الزوجة "أي خرجت من عصمة الزوج وتـحررت"، يحدث الطلاق بسبب سوء تفاهم أو مشاكل متراكمة أو غياب الانسجام والحب. المرأة المطلقة ليست إنسانة فيها نقص أو خلل أخلاقي أو نفسي، بالتأكيد إنها خاضت حروباً وصرعات نفسية لا يعلم بها أحد، من أجل الحفاظ على حياتها الزوجية، ولكن لأنها طبقت شريعة الله وقررت مصير حياتها ورأت أن أساس الـحياة الزوجيـة القائم على المودة والرحـمة لا وجود له بينهما. فأصبحت موضع اتهام ومذنبة بنظر المجتمع، لذلك أصبح المـجتمع يُحكم أهواءه بدلاً من الإسلام. ترى، كم من امرأة في مجتمعنا تعاني جرّاء الحكم المطلق ذاته على أخلاقها ودينها، لا لسبب إنما لأنها قررت أن تعيش، وكم من فتاة أُجبرت قسراً على أن تتزوج من رجل لا يناسب تطلعاتها، لأن الكثير منهن يشعرن بالنقص وعدم الثقة بسبب نظرة المجتمع، وتقع المرأة المطلّقة أسيرة هذه الحالة بسبب رؤية المجتمع السلبيّة لها. وقد تلاحق بسيل من الاتهامات وتطارد بجملة من الافتراءات. وتعاني المطلقة غالباً من معاملة من حولها، وأقرب الناس لها، بالرغم من أن الطلاق هو الدواء المر الذي قد تلجأ إليه المرأة أحياناً للخلاص من الظلم الذي أصبح يؤرق حياتها الزوجية، ويهدد مستقبلها النفسي، والله تعالى لم يشرع أمراً لخلقه إلا إذا كان فيه خير عظيم لهم، والطلاق ما شرّع إلا ليكون دواء فيه شفاء وإن كان مرّاً، وإن كان أمره صعباً على النفوس، حيث قال عز وجل: "وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا"، روي عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) ((أبغض الحلال إلى الله الطلاق) (٢). ورغم أن الشريعة الإسلامية أباحت الطلاق بشروط تلاءم لبناء المجتمع، وأولت أهمية في الإحسان دائمًا للطرف الأضعف والأكثر خسارة في هذه المعادلة وهي "المرأة"، إلا أن المجتمع الذي يدّعي الإسلام لا يرحمها، ويحكم عليها بالإدانة طوال حياتها دون النظر في صحة موقفها في الطلاق من عدمه! قال( تعالى ): [الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] (٣). ولكن بعد كل هذا فالحياة لم ولن تتوقف بعد الطلاق! الطلاق ليس نهاية الحياة. - أخيتي. ليكن الطلاق بداية جديدة لحياة جديدة وللانطلاق. -قطار العطاء لن يتعطل. فإن كنت السبب في الطلاق فالحمد لله على كل حال وتلك أمة قد خلت وأيام ذهبت وانجلت فلست بالمعصومة من الخطأ. وعليك استدراك الأخطاء وتقوية مواطن الضعف في شخصيتك، واجعليها درساً مفيداً في الحياة لتطوير نفسك وتقويتها. وإذا كنتِ مظلومة فهناك جبار يُحصي الصغير والكبير وسيأتي يوم ينتصر لك فيه. -ومن الجميل أن تعطي نفسك الإحساس بالحب والاحترام، ولا تتأثري بأي نظرة سلبية من المجتمع وكون البعض يتعامل مع المطلقة على أنها حالة خاصة فعليكِ إثبات ذاتك حتى تفرضي على الكل شخصيتك. - نظرتك لنفسك اجعليها نظرة ايجابية مشرقة ولا تنزلقي في مستنقع نبذ الذات وظلم النفس. - ابحثي عن الصفات الجيدة فيك فإن ذلك سيشعرك بالثقة في ذاتك والتقدير لها. -حاولي مراجعة نفسك للخروج بإيجابيات حصلت لك من طلاقك. - خالطي الآخرين وإياك والعزلة بسبب وضعك الجديد فلست بأول من يبتلى بالطلاق. -استمتعي بالموجود ولا تتعلقي بالمفقود، حلقي بروح تعبق أملاً وتفاؤلاً، استمتعي بما وهبك الله من نعم (صحة وأولاد وأهل وصديقات وعمل وهوايات وغيرها من الأمور الجميلة) فما حصل لك حصل… ولابد أن تتقبليه برضا، وأعلمي أن ما أصابك لم يكن ليخطأك وما أخطأك لم يكن ليصيبك. وقال أصدق من قال: ( وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم). فالرضا سر السعادة الحقيقي. - اقتربي من صديقاتك الصالحات، واقضي معهن وقتاً طيباً تنسين به ألمك وحزنك. - احرصي على الصلوات وقراءة القرآن الكريم والذكر والاستغفار وأكثري من الطاعات قدر ما تستطيعين، ففيها السلوى والفرح والسعادة. ونعم سعادة القرب من الرحمن. - اشغلي نفسك بأعمال البر والإحسان بمساعدة محتاج. بكفالة يتيم. بتعلم الفقه والقرآن وتعليمه. - اجتهدي في عمل برنامج يومي لك يكون ممتلأ بكل ما هو مفيد لك. من قراءة وزيارة الأصدقاء وصلة الرحم. بحيث لا تكون هناك دقيقة أنت فارغة فيها. - وأسرعي بقاربك الجميل بمجذافين من إيمان بالله وثقة بالنفس وسوف تصلين بإذن الله نحو جزيرة السعادة والنجاح. لكي تتسلق جبال الإنجاز، وتصل لأعلى مراتب الاعجاز. وعندها جزماً سيكون للحياة معنى آخر. --------------------------------- (١)-سورة البقرة الآية (٢٢٦-٢٢٧). (٢)-الكافي (٢)-سورة البقرة الآية (٢٢٨) حنان ستار الزيرجاوي
اخرى(لا تقاس العقول بالأعمار، فكم من صغير عقله بارع، وكم من كبير عقله فارغ) قولٌ تناولته وسائل التواصل الاجتماعي بكل تقّبلٍ ورضا، ولعل ما زاد في تقبلها إياه هو نسبته الى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولكننا عند الرجوع إلى الكتب الحديثية لا نجد لهذا الحديث أثراً إطلاقاً، ولا غرابة في ذلك إذ إن أمير البلاغة والبيان (سلام الله وصلواته عليه) معروفٌ ببلاغته التي أخرست البلغاء، ومشهورٌ بفصاحته التي إعترف بها حتى الأعداء، ومعلومٌ كلامه إذ إنه فوق كلام المخلوقين قاطبةً خلا الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ودون كلام رب السماء. وأما من حيث دلالة هذه المقولة ومدى صحتها فلابد من تقديم مقدمات؛ وذلك لأن معنى العقل في المفهوم الإسلامي يختلف عما هو عليه في الثقافات الأخرى من جهةٍ، كما ينبغي التطرق الى النصوص الدينية الواردة في هذا المجال وعرضها ولو على نحو الإيجاز للتعرف إلى مدى موافقة هذه المقولة لها من عدمها من جهةٍ أخرى. معنى العقل: العقل لغة: المنع والحبس، وهو (مصدر عقلت البعير بالعقال أعقله عقلا، والعِقال: حبل يُثنَى به يد البعير إلى ركبتيه فيشد به)(1)، (وسُمِّي العَقْلُ عَقْلاً لأَنه يَعْقِل صاحبَه عن التَّوَرُّط في المَهالِك أَي يَحْبِسه)(2)؛ لذا روي عنه (صلى الله عليه وآله): "العقل عقال من الجهل"(3). وأما اصطلاحاً: فهو حسب التصور الأرضي: عبارة عن مهارات الذهن في سلامة جهازه (الوظيفي) فحسب، في حين أن التصوّر الإسلامي يتجاوز هذا المعنى الضيّق مُضيفاً إلى تلك المهارات مهارة أخرى وهي المهارة العبادية. وعليه فإن العقل يتقوّم في التصور الاسلامي من تظافر مهارتين معاً لا غنى لأحداهما عن الأخرى وهما (المهارة العقلية) و(المهارة العبادية). ولذا روي عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنه عندما سئل عن العقل قال :" العمل بطاعة الله وأن العمّال بطاعة الله هم العقلاء"(4)، كما روي عن الإمام الصادق(عليه السلام)أنه عندما سئل السؤال ذاته أجاب: "ما عُبد به الرحمن، واكتسب به الجنان. فسأله الراوي: فالذي كان في معاوية [أي ماهو؟] فقال(عليه السلام): تلك النكراء، تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل"(5) والعقل عقلان: عقل الطبع وعقل التجربة، فأما الأول أو ما يسمى بـ(الوجدان الأخلاقي) فهو مبدأ الادراك، وهو إن نَما وتطور سنح للإنسان فرصة الاستفادة من سائر المعارف التي يختزنها عن طريق الدراسة والتجربة وبالتالي يحقق الحياة الإنسانية الطيبة التي يصبو اليها، وأما إن وهن واندثر لإتباع صاحبه الأهواء النفسية والوساوس الشيطانية، فعندئذٍ لا ينتفع الانسان بعقل التجربة مهما زادت معلوماته وتضخمت بياناته، وبالتالي يُحرم من توفيق الوصول إلى الحياة المنشودة. وعقل التجربة هو ما يمكن للإنسان اكتساب العلوم والمعارف من خلاله، وما أروع تشبيه أمير البلغاء (عليه السلام) العلاقة التي تربط العقلين معاً إذ قال فيما نسب إليه: رأيت العقل عقلين فمطبوع ومسموع ولا ينفع مسموع إذ لم يك مطبــوع كما لا تنفع الشمس وضوء العين ممنوع(6) فقد شبّه (سلام الله عليه) عقل الطبع بالعين وعقل التجربة بالشمس، ومما لاشك فيه لكي تتحقق الرؤية لابد من أمرين: سلامة العين ووجود نور الشمس، وكما إن الثاني لا ينفع إن لم يتوفر الأول فكذلك عقل التجربة لا ينفع عند غياب عقل الطبع فضلاً عن موته. وبما إن عقل الطبع قد ينمو ويزدهر فينفع صاحبه من عقل التجربة، وقد يموت ويندثر عند الاستسلام لإضلال شبهةٍ أوبسبب إرتكاب معصية، فإنه ومن باب أولى أن يتعرض الى الزيادة والنقصان كما سيأتي... وقد ورد في النصوص الدينية أن للعقل زمناً ينمو فيه ويكتمل، فعن إمامنا أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه):"يثغر الصبي لسبع، ويؤمر بالصلاة لتسع، ويفرق بينهم في المضاجع لعشر، ويحتلم لأربع عشرة، وينتهى طوله لإحدى وعشرين سنة، وينتهي عقله لثمان وعشرين إلا التجارب"(7)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يربى الصبي سبعاً ويؤدب سبعاً، ويستخدم سبعاً، ومنتهى طوله في ثلاث وعشرين سنة، وعقله في خمس وثلاثين [سنة] وما كان بعد ذلك فبالتجارب"(8). إذن يتوقف النمو الطبيعي لعقل الانسان عند سن الثامنة والعشرين أو الخامسة والثلاثين كما ورد في الروايتين، وأية زيادة أخرى في طاقته بعد ذلك إنما تأتي عن طريق التجارب، وقد يُتوهم بأن ثمة تعارضاً ما بين الروايتين المتقدمتين في شأن تحديد سن النمو العقلي، إلا إنه لا تعارض ينهما إذا حملنا اختلافهما فيه على اختلاف الاشخاص وتباين استعدادات وقابليات كل منهم. وعلى الرغم من توقف نمو عقل الإنسان إلا إن له أنْ يزيده بالتجارب ومواصلة التعلم ــ كما تقدم في الروايات ــ وسواء أثبت العلم هذه الحقيقة الروائية أم لا، فنحن نريد الإشارة إلى ضرورة استمرار التجربة والتعلم لزيادة نمو العقل وهذا المقدار لا خلاف فيه وعلى الرغم من إن لعمر الانسان مدخلية في زيادة عقله كما تقدم وكما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يزيد عقل الرجل بعد الاربعين إلى خمسين وستين، ثم ينقص عقله بعد ذلك"(9)، إلا إن ذلك ليس على نحو العلة التامة، إذ يمكن للعقل أن يبقى شاباً وقوياً وإن شاب الإنسان وضعف جسمه، وتقدم في السن ووهن عظمه، فالعاقل لا يشيب عقله ولا تنتقص الشيخوخة من قوته بل وقد يزداد طاقةً وحيويةً لذا ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"رأي الشيخ أحب الي من جَلَد الغلام"(10)، وفي أخرى ".....من حيلة الشباب "(11) وأما من لم يوفر أسباب صقل عقله في مرحلة الشباب فإنه بلا شك يضمحل عقله في مرحلة الشيخوخة. وليس تقدم العمر هو العامل الوحيد في نقصان العقل بل إن النصوص الشرعية أشارت الى عوامل عديدة اخرى أهمها: أولاً: التعلم: فقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "من لم يصبر على ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبداً"(13). ثانياً: التوبة: وعنه (عليه السلام) ايضاً:"من لم يرتدع يجهل"(14) ثالثاً: التقوى: فقد كتب إمامنا الباقر (عليه السلام) إلى سعد الخير: "بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإني اوصيك بتقوى الله فإن فيها السلامة من التلف والغنيمة في المنقلب إن الله (عزوجل) يقي بالتقوى عن العبد ما عزب عنه عقله ويجلي بالتقوى عنه عماه وجهله"(15) إذن التوبة هي سبب للتوفيق الإلهي الذي يؤدي فيما يؤدي إليه من إكمال العقل. رابعاً: الوقوف عند الشبهة: وقال (عليه السلام ): "لا ورع كالوقوف عند الشبهة"(16). فإن الوقوف عند الشبهات سبب من أسباب التوفيق الإلهي بلا شك. خامساً: الاعتراف بالجهل: كما روي عن الإمام علي (عليه السلام): "غاية العقل الاعتراف بالجهل"(17) إذ الاعتراف بالجهل يدفع الإنسان دوماً إلى مزيد من بذل الجهد واكتساب المعارف. مما تقدم تتضح جلياً صحة هذه المقولة دلالةً، إذ إن العقول فعلاً لا تقاس بالأعمار لأن كلٍاً من زيادتها ونقيصتها منوطٌ بالعديد من العوامل الأخرى والتي تقدم ذكرها، بيد إن ذلك لا يبرر التساهل في نشرها والتهاون في الاستشهاد بها على إنها من أقوال أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) لعدم ثبوت ذلك سنداً من جهة ولضعف بلاغتها وركاكة تركيبها بالنسبة إلى سيد البلغاء والبلاغة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) تهذيب اللغة ج1 ص65 (2) لسان العرب ج11 ص458 (3) نهاية الحكمة ص305 (4) ميزان الحكمة ج3 ص333 (5) أصول الكافي ج1، ح3 / 11 (6) نهج السعادة ج9 ص163 (7) الكافي ج7 ص94 (8) الفقيه ج3 ص493 (9) الاختصاص ص245 (10) نهج البلاغة حكمة 86 (11) بحار الأنوار ج72 ص105 (12) المصدر السابق ج1 ص94 (13) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص118 (14) الكافي ج8 ص73 (15) وسائل الشيعة ج1 ص162 (16) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص1 بقلم الكاتبة: رضا الله غايتي
اخرىبقلم: أم نور الهدى كان لأمير المؤمنين (عليه السلام) اهتمام خاص بالمرأة، فنراه تارة ينظر إليها كآية من آيات الخلق الإلهي، وتجلٍ من تجليات الخالق (عز وجل) فيقول: (عقول النساء في جمالهن وجمال الرجال في عقولهم). وتارة ينظر إلى كل ما موجود هو آية ومظهر من مظاهر النساء فيقول: (لا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها فإن المرأة ريحانة وليس قهرمانة). أي إن المرأة ريحانة وزهرة تعطر المجتمع بعطر الرياحين والزهور. ولقد وردت كلمة الريحان في قوله تعالى: (فأمّا إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة النعيم) والريحان هنا كل نبات طيب الريح مفردته ريحانة، فروح وريحان تعني الرحمة. فالإمام هنا وصف المرأة بأروع الأوصاف حين جعلها ريحانة بكل ما تشتمل عليه كلمة الريحان من الصفات فهي جميلة وعطرة وطيبة، أما القهرمان فهو الذي يُكلّف بأمور الخدمة والاشتغال، وبما إن الإسلام لم يكلف المرأة بأمور الخدمة والاشتغال في البيت، فما يريده الإمام هو إعفاء النساء من المشقة وعدم الزامهن بتحمل المسؤوليات فوق قدرتهن لأن ما عليهن من واجبات تكوين الأسرة وتربية الجيل يستغرق جهدهن ووقتهن، لذا ليس من حق الرجل إجبار زوجته للقيام بأعمال خارجة عن نطاق واجباتها. فالفرق الجوهري بين اعتبار المرأة ريحانة وبين اعتبارها قهرمانة هو أن الريحانة تكون، محفوظة، مصانة، تعامل برقة وتخاطب برقة، لها منزلتها وحضورها. فلا يمكن للزوج التفريط بها. أما القهرمانة فهي المرأة التي تقوم بالخدمة في المنزل وتدير شؤونه دون أن يكون لها من الزوج تلك المكانة العاطفية والاحترام والرعاية لها. علماً أن خدمتها في بيت الزوجية مما ندب إليه الشره الحنيف واعتبره جهادًا لها أثابها عليه الشيء الكثير جدًا مما ذكرته النصوص الشريفة. فمعاملة الزوج لزوجته يجب أن تكون نابعة من اعتبارها ريحانة وليس من اعتبارها خادمة تقوم بأعمال المنزل لأن المرأة خلقت للرقة والحنان. وعلى الرغم من أن المرأة مظهر من مظاهر الجمال الإلهي فإنها تستطيع كالرجل أن تنال جميع الكمالات الأخرى، وهذا لا يعني أنها لا بد أن تخوض جميع ميادين الحياة كالحرب، والأعمال الشاقة، بل أن الله تعالى جعلها مكملة للرجل، أي الرجل والمرأة أحدهما مكمل للآخر. وأخيرًا إن كلام الإمام علي (عليه السلام) كان تكريمًا للمرأة ووضعها المكانة التي وضعها الله تعالى بها، حيث لم يحملها مشقة الخدمة والعمل في المنزل واعتبر أجر ما تقوم به من اعمال في رعاية بيتها كأجر الجهاد في سبيل الله.
اخرىعالم الطفولة كأنه طاولة، لا تجد فيه غير طعام لذيذ، ومنظر لطيف وجديد، فعالمهم فاكهة الوجود، وخضار الأرواح، ومياه الحياة تسقي القلوب... عالم صفاء وأحلام جميلة بسيطة وتافهة ولكن بنظرهِ هو عظيمة وكبيرة، فهو العالم الذي ينطلق منه الإنسان في بداية عمره. فالطفل في بداية حياته ينظر إلى الحياة بتفكيره البريء، فالطفل يعيش بعالم خاص به مملوء بالمحبة البريئة. هذه هي الصورة الجميلة التي يحملها الطفل، وكم يتمنى كل إنسان أن يعود لطفولته البريئة ليتأمل في أرجاء عالمها الذي كان يصور له حياة مختلفة تشد الإنسان إليها بجمالها، هذا هو عالم الطفولة وهذه أحلام من يعيشها، فلا ينفذ إلى ملكوت ذلك العالم ولا يدرك كنهه إلا من عاشه وجال في ربوعه. حيث يتذوق الطفل مع أحلام طفولته هذه لذة الحياة ولذة العيش فيها، ومهما حاولنا أن نعبر عن هذه الحقيقة فلن نستطيع تصويرها بالكلمات. وبعد هذا، فإن الاهتمام بمستقبل الطفل هو في الواقع ضمان لمستقبل شعب بأسره. قال اللَّه تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا". التحريم/6 أعتنى الإسلام بتربية الأبناء عناية فائقة، وألقى على عاتق الأهل ما سيكون عليه الولد في مسلكه الدنيوي ومصيره الأخروي إن هم قصروا في تربيته وإعداده. وقد ذكر العلماء أن شخصية الولد تتأثر في نموها بعوامل ثلاثة وهي: الوراثة، والبيئة، والتربية. إذا خضنا في مضمار التربية السليمة للأبناء... فعلى الأبوين أن يكون لهما الوعي التربوي الذي يبنى على أسس صحيحة ويتوفر لديهم فهم لأساليب التربية والتوجيه والرعاية وهذه نقطة البداية. فمثلاً في أسلوب التعامل مع الطفل تبرز أمامنا ثلاثة اشكال لتعامل الآباء مع الأبناء: الشكل الأول: أسلوب الدلال المفرط وهذا الأسلوب له نتائجه السلبية الخطيرة، فإنه يخلق شخصية هشة متميعة وشخصية اتكالية تحب الكسل والخمول مجردة من الهدف والإقدام، انهزامية غير قادرة على مواجهة التحديات وبمعنى أدق شخصية لا تثق بنفسها. شخصية متسيبة في ظل غياب المراقبة والمحاسبة وهذا التسيب يقود إلى الانفلات والانحراف. الشكل الثاني: فهو أسلوب التربية القاسية والعنف. وهذا الأسلوب أيضاً له نتائجه الخطيرة والسلبية التي يعاني منها الأبناء طوال حياتهم فهو يخلق شخصية قلقة ومتأزمة ومعقدة وخائفة وتحمل عقدة الخوف، شخصية حاقدة وعدوانية وقد تتأزم الأمور لتصبح شخصية منافقة وكاذبة خوفاً من العقاب والتعنيف ضمن حدود الأسرة ولكن يوماً من الأيام سينطلق هذا الشخص ليواجه المجتمع ككل، فلنتصور كيف سيتعامل مع المحيطين ضمن مجالات الدراسة والعمل وهو شخصية هاربة من أجواء الأسرة وقد يعرضها للتسيب والانحراف لأنها شخصية متمردة مما يعرضها للعقوق. الأسلوب الثالث: التوازن. الأسلوب الصحيح يعتمد على التوازن فمن شروط نجاح التربية التوازن في المعاملة ما بين الأمور التي تحتاج إلى شدة وحزم ليتربى على أن هذه الأمور خطوط حمراء طبعاً هنا يمكن أن يعترض أحد ويقول: لا للعنف الأسري ولا لاستخدام القسوة. نعم فهناك طرق غير استخدام العنف. يكفي ان يبدي الآباء انزعاجهم مثلاً. وهنا النقطة مهمة جداً، وهي: أن نوضح لهم سبب المنع والرفض لا تعتقدوا أن أبناءكم لا يدركون ولن يفهموكم. تخصيص الوقت للنقاش مهم جداً. وما بين أسلوب المرونة والحنان والاحتواء. التوازن في المعاملة. إن الإمام زين العابدين (عليه السلام) يصرح بمسؤولية الأبوين بتربية الطفل، ويعتبر التنشئة الروحية والتنمية الخلقية لمواهب الأطفال واجباً دينياً يستوجب أجراً وثواباً من الله تعالى، وأن التقصير في ذلك يُعرّض الآباء إلى عقاب الله. فيقول (عليه السلام): (وأما حق ولدك عليك فأن تعلم أنه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره. وأنك مسؤول عما وليته به من حسن الأدب والدلالة على ربه عز وجل والمعونة له على طاعته. فأعمل في أمره عمل من يعلم أنه مثاب على الإحسان إليه معاقب على الإساءة إليه ) مكارم الأخلاق للطبرسي ص٢٣٢ حنان الزيرجاوي
اخرى