تشغيل الوضع الليلي
دور علماء الحوزة العلمية في الحفاظ على اللغة العربية من التتريك السيد المجدد الكبير انموذجًا (الحلقة الثالثة)
منذ 5 سنوات عدد المشاهدات : 1560
بقلم: دينا فؤاد
المبحث الثاني
السيد المجدد الكبير والحفاظ على اللغة العربية
نبذة تعريفية عن المجدد الشيرازي
هو آية الله العظمى الحاج ميرزا محمد حسن بن السيد ميرزا محمود ابن السيد ميرزا إسماعيل الحسيني الشيرازي. (1)
لقب بالمجدد الشيرازي، والشيرازي الأول، والشيرازي الكبير (2)، وصاحب فتوى التنباك الشهيرة (3) والتي كان لها الدور البالغ في تعزيز قيادة الأحداث الكبيرة من قبل العلماء (4)، حيث استخدم السيد لموجهة الاستعمار الإنجليزي سلاح الفتوى (5)، ولقب أيضاً بالمدد الكبير من قبل الذين قاموا بترجمته في مؤلفاتهم مشيرين إلى حديث معروف بأن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها. (6)
ولد السيد محمد حسن في مدينة شيراز في الخامس عشر من جمادي الأولى من عام 1230هـ، الموافق لشهر نيسان من عام 1815م، وقد تمتع بزعامة زمنية بارزة في مدينة شيراز. (7)
هاجر إلى العراق بعد هجرته إلى اصفهان وأقام في النجف الأشرف وتتلمذ على يد الأعلام من مدرسيها وخاصة الشيخ مرتضى الأنصاري، وبوفاته استغنى عن الحضور عند المدرسين لنبوغه وتوفر الملكات المودعة فيه ففتح باب التدريس على مصراعيه في النجف، وحضر بحثه العلماء وأهل الفضيلة، ورُجع إليه في التقليد، وأخذت مرجعيته بالاتساع على الرغم من أن النجف كانت فيها أقطاب العلماء والمراجع. (8)
وقد عُرف أن السيد الشيرازي (أعلى الله مقامه) بأنه أعقل أهل زمانه، وأشهر علماء أوانه، وكان صاحب معرفة بأمور السياسة والحزم والعزم والكياسة، قد أقبلت الدنيا في عصره إليه وواكبت الطلاب عليه حتى أصبحت سامراء بفضله مركزًا علميًا كبيرًا (9)، وهذا بعد أن هاجر إليها في سنة 1293هـ وانتقال الحوزة العلمية من النجف الأشرف إلى سامراء بعد أن انتهت إليه رئاسة أكثر الإمامية من سائر الأمصار، وقد حدثت في أيامه الكثير من الفتن من قبل الساسة الأجانب، ولكنه تغلب عليها بفضل فراسته ومحاولته الحفاظ على وحدة المسلمين وحمايتهم، وبقي في مدينة سامراء حتى وفاته في الرابع والعشرين من شعبان سنة 1312هـ، وقد حمل على الرؤوس من سامراء إلى النجف والقبائل العربية تستقبل جثمانه الطاهر وتحمله إلى حد القبيلة الثانية ، وهكذا حتى استقر إلى مأواه الأخير أسكنه الله فسيح جنانه. (10)
اللغة العربية والفترة المظلمة
لقد أطلق البعض على الفترة التي عاشها العراق في ظل السيطرة العثمانية اسم الفترة المظلمة، ولا يعد هذا تجنيًا ولا ظلمًا نظرًا لما طال الفكر والعلم من الإهمال والتردي في تقديم الخدمات لهما من قبل السلطة الحاكمة للعثمانيين، وهذا ما دعا إلى قيام العشائر والعلماء من ذوي الوعي الديني المتحفز بالثورات التي تناهض هذه الأساليب، ويعتبر الميرزا محمد حسن الشيرازي عملاق هذه الفترة. (11)
لقد شمل الظلم اللغة العربية في كافة مجالاتها، حيث كان هناك أصرار من قبل الاتحاديين في تنفير العناصر العربية وكل ما يمت بصلة إلى تلك اللغة الأصيلة، فأصروا أن تكون لغة التخاطب الرسمي والتعليم والدواوين وغير ذلك باللغة التركية، وكان هناك سعي حثيث لإبعاد أحد الوزراء العرب في الحكومة العثمانية بسبب لجوئه إلى قراءة دعاء باللغة العربية في نهاية الخطاب الذي ألقاه باللغة التركية أمام مجلس المبعوثان (12)، وهكذا أصبحت لغة التدريس هي اللغة التركية في المدارس المختلطة، حتى أن تدريس قواعد اللغة العربية كان باللغة التركية (13)
الهجرة إلى سامراء والحفاظ على اللغة العربية
لقد عدت الهجرة إلى سامراء من قبل المجدد الشيرازي نقلة نوعية في تاريخ سامراء نفسها لما طالتها من الأثار الإيجابية نتيجة تلك الهجرة المباركة، ومن تلك الأثار روجان بضاعة الأدب نتيجة اهتمام السيد الشيرازي بالأدباء والشعراء والصلة الوثيقة بهم (14)، وكان يجيز الشعراء على قصائدهم، وكان يجلس إليهم ويستمع لهم، ويستحسن الجيد من تلك الأشعار، ولهذا قصده الشعراء من سائر البلاد (15)، ولعل الغرض من إحياء المجالس الأدبية هو الحفاظ على اللغة العربية، وقد تكون هذه هي إحدى الأسباب التي دفعت المجدد الكبير إلى الهجرة، وعلى الرغم من أن الكثير من الكتّاب قد طرح أسباباً لهجرة السيد الشريفة، لكن لم يذكر أحد منهم السبب الذي قد يكون مهماً في نظر ذلك المرجع العظيم، وهو الحفاظ على اللغة العربية من الاندثار والضياع بين اللغات الهجينة، وخصوصاً أن أغلب أصول سكان سامراء من الأتراك وغيرهم كما هو معروف.
لقد عزز الميرزا الشيرازي حركة الوعي الإسلامي داخل الأمة الإسلامية ورعى نموها الطبيعي بمبادراته، وحافظ على أم اللغات وهي اللغة العربية بعد محاولة العديد من المغرضين بجعل اللغة المعتمدة والمتداولة هي اللغة التركية. ومن أعماله المهمة تشييد المدارس (16) واستمرت مدرسته في السير على خطاه عبر تلامذته الذين حملوا أفكاره ورؤاه (17)، وكان يؤكد على تلامذته المجتهدين الأعاظم أن يتدرجوا في مدارج الأخلاق والتهذيب، حتى يكونوا دعاة إلى الله بأفعالهم قبل أقوالهم، وكان يؤمر بتلاوة شيء من نهج البلاغة كل يوم قبل الدرس، فكان يعدّهم ليكونوا خلفائه من بعده. (18) وكان السيد المجدد الشيرازي رضوان الله عليه مثالاً يحتذى به في حفظ الحرمات ورعاية مقتضيات الأخوة بين اتباع المذاهب المختلفة، وله في ذلك مواقف مشهودة تذكر فتشكر. (19)
موقف الحوزة العلمية في الحفاظ على اللغة العربية من التتريك
لقد شعر جماعة من أهالي النجف بضرورة تأسيس مدارس تعني بالعلوم الحديثة لزيادة الوعي الفكري والثقافي لأبنائها، وخاصة أثر الفتاوى التي صدرت من العلماء بتحريم الدخول إلى المدارس، وذلك بعد أن اعتمدت اللغة التركية لا في إجراء المعاملات والمخابرات فحسب بل تم اعتمادها لتكون لغة التعليم في المدارس أيضاً (20)، فانحسرت معرفة العلوم على التعليم الأهلي الذي تركز في المساجد والمدن كالنجف وكربلاء والعديد من المدن الأمر الذي أدى إلى إسهامة إضافية في حفظ اللغة العربية (21)، وهذا ما دعا الكثير من العلماء إلى تأييد وتشجيع الجماعات التي دعت إلى تأسيس المدارس الحديثة كأمثال آية الله الملا كاظم الأخوند (وهو أحد تلامذة السيد المجدد الشيرازي) وغيره، وقد تأسست لهذا الغرض هيأة علمية ضمت الكثير من العلماء والتجار فأسفرت عن تأسيس مدرستين أولهما العلوية التي افتتحت أبوابها للطلبة سنة 1326هـ، والثانية تسمى الرضوية. (22)
وبلغ تأييد العلماء لإنشاء المدارس أن المجتهد الأكبر الملا كاظم الأخوند أجاز صرف الحقوق الشرعية على أمثال هذه المدارس، ولم يقتصروا على ذلك بل أنهم كانوا يحثون مقلديهم أينما وجدوا على الارتشاف من منابع الثقافة الحديثة. (23)
وهكذا أصبح من الواجب الشرعي على علماء الدين المحافظة على اللغة العربية من أي مدخول أجنبي، فقد حافظت الحوزة العلمية طوال حياتها على سلامة اللغة من الرطنات الأجنبية الدخيلة، وكانت هي الوسيلة لتوحيد القوميات التي جمعها الإسلام (24)، وتم اعتبار التتريك تيارًا معاديًا للإسلام في النتائج والأهداف، ولهذا تمت مواجهته بكافة الوسائل والطرق الممكنة، وبالفعل تم القضاء عليه بفضل الوحدة التي جُمعت بين علماء الدين من الحوزة العلمية والشعب الحر المؤمن بلغته العريقة، لغة القرآن الكريم.
الخاتمة وأهم النتائج
ترى الباحثة ان للسيد المجدد الشيرازي الفضل الكبير في الحفاظ على اللغة العربية من خلال هجرته المباركة وطريقته في مواكبة الأحداث وزرع الوعي الفكري الإسلامي وحبه للشعر وتقريبه للشعراء، وقد خلف أجيالاً حملت أفكاره ورؤاه وطبقوها على ساحة الواقع.
وأن لعلماء الحوزة العلمية من تلامذة السيد الشيرازي دوراً كبيراً في حماية اللغة العربية من التتريك والتي تمثلت بالأمور الأتية:
1/ الإفتاء بحرمة دخول أبنائها الإمامية إلى المدارس الحكومية العثمانية.
2/ تأسيس المدارس الحديثة لتوفير فرص التعليم لأبنائها.
3/ جعل اللغة المعتمدة في التدريس هي اللغة العربية وبكافة المراحل.
4/السعي والحث على دخول أكبر عدد ممكن من الطلاب إلى المدارس.
5/جواز صرف الحقوق الشرعية على المدارس.
________________________
1ـ ينظر، القمي، عباس، الكنى والألقاب، ج3، ص222.
2ـ ينظر، الشجيري، أحمد عبد الرسول جبر عباس، الموسوعة الشاملة لشخصيات عراقية معاصرة، ص686.
3ـ مهدي عبد المهدي، شيعة العراق بعيداً عن الطائفية، ص251.
4ـ ينظر، ماجد الغرباوي، الشيخ محمد حسين النائيني، ص41.
5ـ ينظر، محمد الحسيني الشيرازي، تلك الأيام، ج1، ص3.
6ـ ينظر، الأمين، محسن، أعيان الشيعة، مج5، ص305.
7ـ ينظر، عبد الكريم آل نجف، مجلة التوحيد، العدد 75، السنة 13، ص164.
8ـ ينظر، محمد حرز الدين، معارف الرجال، ج2، ص233.
9ـ ينظر، الأصفهاني الكاظمي، محمد مهدي، أحسن الوديعة، ج1، ص129.
10ـ ينظر، محمد حرز الدين، مصدر سابق، ص234ـ237.
11ـ ينظر، غالب الشابندر، التحولات الفكرية والسياسية في العراق خلال القرنين الأخيرين، مجلة الفكر الجديد، مجلة فصلية، العدد الأول، السنة الأولى، ص167ـ173.
12ـ ينظر، زكريا سليمان بيومي، قراءة إسلامية في تاريخ الدولة العثمانية، ص188.
13ـ ينظر، شكري محمود نديم، العراق في عهد السيطرة العثمانية، ص91.
14ـ ينظر، عبد الكريم آل نجف، الإمام المجدد السيد محمد حسن الشيرازي، مجلة التوحيد، العدد 75، السنة13، 1995م، ص169.
15ـ علي الروزدري، تقريرات آية الله المجدد الشيرازي، ج1، المقدمة، ص43.
16ـ ينظر، كلمة المرجعية العليا في النجف الأشرف، إعادة افتتاح المدرسة الجعفرية في سامراء، HTTPS://IRAQ.SHAFAQNA.COM. 17ـ ينظر، محمد جواد مالك، شيعة العراق وبناء الوطن، ص191.
18ـ ينظر، الأوردبادي، محمد علي الغروي، موسوعة العلامة الأوردبادي، ج11، ص38.
19ـ ينظر، كلمة المرجعية العليا في النجف الأشرف، إعادة افتتاح المدرسة الجعفرية في سامراء، HTTPS://IRAQ.SHAFAQNA.COM
20ـ ينظر، توفيق علي برور، العرب والترك في العهد الدستوري العثماني، ص81.
21ـ ينظر، يوسف عز الدين، الشعر العراقي أهدافه وخصائصه في القرن التاسع عشر، ص23.
22ـ عبد الله فياض، الثورة العراقة الكبرى، ص86.
23ـ ينظر، ن.م، ص88.
24ـ ينظر، حسن الحكيم، المفصل، ج7، ص36.
اخترنا لكم
طامورة الظلام
بقلم: نورا كاصد العبودي أنّى للحروف أنْ تصفك أو أنْ تتكلمَ عن عظيم خلقك! جمعتُ حروفي وأوصيتُها أنْ تترجم الألم الذي تكبدتَه في السجون! تساقطتْ أمامي متناثرةً أرضًا، أخذتُ أجمعُها وهي تردد: أضيعُ وأتلاشى لمصيبته! أرغمتُها أنْ تنصاع لأمري وتنفذ ما أمليه عليها، فجالت بما فاض به الخاطر... حدث في قفصِ الانتظار حيث أخذتُ أرنو إلى جدرانِه كيف صُفّت صفًا، لا يدخلُ منها أيُّ شعاعٍ للشمس... ظلامٌ دامس، كنتُ أواصلُ الليل بالنهار بين سجودٍ وركوع ... طلبتُ من السجانِ أنْ يُخبرني بأوقاتِ الصلاة فقط ويحمل لي معه ماءً للوضوء ... وافق وأصبح يحضر لي الماء، وينقل لي خبر شروق الشمس أو غروبها عندما اسأله عنها، لكن قلبي عالقٌ هناك حيث صلاة الليل... يأخذني ظلام الليل إلى الحادي عشر من المحرم كيف جمعت عمتي زينب (عليها السلام) الأيتام؟! كان ظلامه ليس مجرد سواد إنما مليءٌ بالدموع والأوجاع والآلام... أنا تأويني حجرةٌ وسقفٌ وعمتي أحرقوا خيامها، أنا مكبلٌ وعمتي ستُقيَّدُ غدًا وستُساقُ أسيرة! في هذا الظلام كانت تبحثُ عن يتامى الآل كانت تتعثرُ بالجثث، وتجوبُ صحراء الطفِّ تجمعُ العيال... كان الظلامُ يُثيرُ مواجعي... لكن ثمةَ حواراً بينه وبين الجدران لم أستطعْ تمييزه، أواصلُ الصلاة حتى أصلَ صلاة الليل... فأتذكر كيف صلّت عمتي صلاة الليل؟ صلّت بنتُ عليٍ (عليه السلام) صلاة الليل من جلوسٍ، فما عادتْ تقوى على الوقوف، والجيوش تُحيطُ بها من كلِّ جانبٍ، وعقلها تدور فيه الأحداث القادمة، وقلبها يتمزق مما رآه من أهوال وأحداث... لي موعدٌ غدًا مع الجسر كما كان لها موعد مع التل! متشابهٌ ما جرى علينا من أهوالٍ يا عمتي، فهذه الجدران تُحدِّثني ببكائها لحالي. سيدي يا مظلوم.. أيُّها المُكبّل بالسلاسل في قعور السجون، يا صاحب السجدة الطويلة، ليت النداء يصلُ إلى كربلاء حيث جدك الحسين (عليه السلام) فإنها غير بعيدةٍ، يُخبره بما فعل السندي وهارون بسيد العقيدة... غريبٌ يُسقى السم في سجون هارون ... سيوضع نعشك على الجسر حينها يظلمُ القمر وتسقطُ نجمة! سينكسرُ ظلُّ كلِّ شجرةٍ، وسيحدثُ شرخٌ في قلوبِ مُحبيك إلى قيام الساعة... سيدي يا موسى، ليتَ لنا أنْ نتشقق أو نتلاشى... ليتنا نستطيعُ أنْ نخلصك من تلك الزنزانة المظلمة لتنعم بالحرية! ليت لنا سهمًا نُصيبُ به من يحاول إيذاءك... ليتنا نوقدُ أنفسَنا شموعًا؛ كي ننير لك هذا الظلام! بكى الظلام واشتكى: أتحسبُني يا جدار راضٍ؟! أنا مجردٌ من كلِّ شيءٍ، لا أملكُ القدرة لتحويل نفسي، وأني لخجلٌ مما فعلتُ، كنتُ ليلة الحادي عشر ممن لم ينصروا الآل والعيال، والآن لم أقدِمْ على عمل يريح قلب مولاي موسى بن جعفر (عليه السلام)، إلى الله أشكو ضعف حيلتي... ليت لي قلبًا يشعُّ نورًا، ما كنتُ بخلتُ بأنْ أنير تلك الظلمة لإمامي، لكنّي كلي ظلام ... يا مولاي إنْ متُّ يومًا وبُعِثتُ أبدل ظلامي نورًا.
اخرىحماةٌ وكنّةٌ
بقلم: أم قنوت امرأتان في حياة رجلٍ واحد، وجودهما جوهري في رحلته نحو القمم، أو في بقائه على الهامش، الأولى أُمّه: أصلُه ومصنعُه، والثانية زوجتُه: نصفه الثاني ومسكنُه. أحد أهم الأدوار الأساسية للأم في حياة أولادها هو التوجيه، دينياً كان أو اجتماعياً أو أخلاقياً، فتستمر بالعطاء الى أن تصل بابنها الى سن النضوج وبرّ الامان، ليُكمل ما تبقى من عُمره مع امرأةٍ جديدة تُكمل المسيرة معه جنباً الى جنب. ليت الواقع مثالي ومُنمّق وصائب كهذه المقدمة، فبعض البيوت جحيمٌ أبدي تُسعر ناره إحدى المذكورتين وتنفخ فيها الأخرى، فيسعى الرجل بين هذه وتلك محاولاً الإخماد بلا جدوى، تدعّي كل منهما حبه، وتزعم أنها الباحثة عن راحته، حتى يصل ذلك المسكين إلى حافة الانهيار، فيتراجعا عندئذ، فلا يكاد ينفض عنه رماد النار القديمة إلّا واستعرت أُخرى. حربٌ بلا هدنة، فصولها متنوعة، غيرةٌ، وحقدٌ، وجهلٌ، وخاتمتها انتقام، إذا كان القصد الانتصار فتدبُّرٌ بسيط يُظهر أنّ المعركة تنتهي لصالح إحداهما ولكّن الحرب مستمرةٌ جولةً بعد جولة. أمٌ صبرت وربّت رجلاً تتمناه كل النساء وتحسدها عليه كل الامهات، لكن يتبخر كل ذلك في غمضة عين حال رؤية ابنها مع زوجته فتتغير كل مبادئها في سبيل الظفر به. زوجةٌ ناضجة تربّت على القيم والاخلاق فإذا بها ترمي ما تربّت عليه جانباً، فإن بدر من زوجها وصالٌ لأمه عاتبته: أنت مقصّرٌ معنا، وإن طلبت الحماة طلباً خفيفاً منها، فذاك أثقل من جبل، أما إذا تهور زوجها وفكر أن يبرّ أمه بمالٍ من رزقه فذلك يوم عسير كعسر قلبها. أيتها الحماة، كُنتِ كنَّةً يوماً ما. أيتها الكنَّة، ستصبحين حماةً يوماً ما. رفقاً بذاك الرجل المنهك، فقد تشتت عقله بتوافه الامور وأصبح مسجوناً في تلك الزاوية، فتنازلاتٌ بسيطةٌ كافية ليعّم الهدوء ويسود الحب، تطبيقاً لقول الله عز وجل﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ ثم ماذا عن مبدأ احترام الكبير والعطف على الصغير؟ لمَ لا يُطبّق في هذا البيت؟ وأين دهاء المرأة الذي تضج به الكتب؟ فطريق قلب الرجل يمر عبر حب واحترام الزوجة لأمه، وهل ينفع التذكير بعمر كليكما لترفق الحماة بزوجة ابنها وتعاملها بلين وعطف، بينما تتحمل الزوجة الصغيرة بعض المسؤولية عند تعاملها مع تلك الكبيرة في السن المريضة أكثر الاحيان؟ فطباعكِ طيّعة بينما تأصلّت طباعها. يروى عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: " إنما المرأة قلادةٌ فانظر ما تتقلّد، وليس لامرأةٍ خطرٌ، لا لصالحتهن ولا لطالحتهن: فأما صالحتهن فليس خطرها الذهب والفضة، هي خيرٌ من الذهب والفضة. وأما طالحتهن فليس خطرها التراب، التراب خيرٌ منها" (٢). رسالةٌ الى من يهمّها الأمر: لكِ الخيار بأن تكوني خيراً من الذهب والفضة أو دون التراب. ______________________ ١- معاني الأخبار، الشيخ الصدوق أبو جعفر محمد بن علي ابن بابويه القمي، ص١٤٤.
اخرىالتعليقات
يتصدر الان
لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع
يستشهد الكثير من الناس ــ وحتى بعض المثقفين ــ بقول:" لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع فإن الخير فيها دخيل وعاشر نفساً جاعت بعد شبع فإن الخير فيها أصيل" على أنه من أقوال أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، كما يستشهدون أيضاً بقولٍ آخر ينسبونه إليه (عليه السلام) لا يبعد عن الأول من حيث المعنى:"اطلبوا الخير من بطون شبعت ثم جاعت لأن الخير فيها باق، ولا تطلبوا الخير من بطون جاعت ثم شبعت لأن الشح فيها باق"، مُسقطين المعنى على بعض المصاديق التي لم ترُق افعالها لهم، لاسيما أولئك الذين عاثوا بالأرض فساداً من الحكام والمسؤولين الفاسدين والمتسترين عل الفساد. ونحن في الوقت الذي نستنكر فيه نشر الفساد والتستر عليه ومداهنة الفاسدين نؤكد ونشدد على ضرورة تحرّي صدق الأقوال ومطابقتها للواقع وعدم مخالفتها للعقل والشرع من جهة، وضرورة التأكد من صدورها عن أمير المؤمنين أبي الأيتام والفقراء (عليه السلام) أو غيرها من المعصومين (عليهم السلام) قبل نسبتها إليهم من جهة أخرى، لذا ارتأينا مناقشة هذا القول وما شابه معناه من حيث الدلالة أولاً، ومن حيث السند ثانياً.. فأما من حيث الدلالة فإن هذين القولين يصنفان الناس الى صنفين: صنف قد سبق له أن شبع مادياً ولم يتألم جوعاً، أو يتأوه حاجةً ومن بعد شبعه جاع وافتقر، وصنف آخر قد تقلّب ليله هماً بالدين، وتضوّر نهاره ألماً من الجوع، ثم شبع واغتنى،. كما جعل القولان الخير متأصلاً في الصنف الأول دون الثاني، وبناءً على ذلك فإن معاشرة أفراد هذا الصنف هي المعاشرة المرغوبة والمحبوبة والتي تجرّ على صاحبها الخير والسعادة والسلام، بخلاف معاشرة أفراد الصنف الثاني التي لا تُحبَّذ ولا تُطلب؛ لأنها لا تجر إلى صاحبها سوى الحزن والندم والآلام... ولو تأملنا قليلاً في معنى هذين القولين لوجدناه مغايراً لمعايير القرآن الكريم بعيداً كل البعد عن روح الشريعة الاسلامية ، وعن المنطق القويم والعقل السليم ومخالفاً أيضاً لصريح التاريخ الصحيح، بل ومخالف حتى لما نسمعه من قصص من أرض الواقع أو ما نلمسه فيه من وقائع.. فأما مناقضته للقرآن الكريم فواضحة جداً، إذ إن الله (تعالى) قد أوضح فيه وبشكلٍ جلي ملاك التفاضل بين الناس، إذ قال (عز من قائل):" يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)"(1) جاعلاً التقوى مِلاكاً للتفاضل، فمن كان أتقى كان أفضل، ومن البديهي أن تكون معاشرته كذلك، والعكس صحيحٌ أيضاً. وعليه فإن من سبق حاجتُه وفقرُه شبعَه وغناه يكون هو الأفضل، وبالتالي تكون معاشرته هي الأفضل كذلك فيما لو كان تقياً بخلاف من شبع وكان غنياً ، ثم افتقر وجاع فإنه لن يكون الأفضل ومعاشرته لن تكون كذلك طالما كان بعيداً عن التقوى. وأما بُعده عن روح الشريعة الإسلامية فإن الشريعة لطالما أكدت على أن الله (سبحانه وتعالى) عادلٌ لا جور في ساحته ولا ظلمَ في سجيته، وبالتالي لا يمكن أن يُعقل إطلاقاً أن يجعل البعض فقيراً ويتسبب في دخالة الخير في نفوسهم، التي يترتب عليها نفور الناس من عشرتهم، فيما يُغني سواهم ويجعل الخير متأصلاً في نفوسهم بسبب إغنائه إياهم ليس إلا ومن ثم يتسبب في كون الخير متأصلاً في نفوسهم، وبالتالي حب الناس لعشرتهم. فإن ذلك مخالف لمقتضى العدل الإلهي لأنه ليس بعاجزٍ عن تركه ولا بمُكره على فعله، ولا محب لذلك لهواً وعبثاً (تعالى عن كل ذلك علواً كبيراً). كما إن تأصل الخير في نفوس بعض الناس ودخالته في نفوس البعض الآخر منهم بناءً على أمر خارج عن إرادتهم واختيارهم كـ(الغنى والشبع أو الجوع والفقر) إنما هو أمرٌ منافٍ لمنهج الشريعة المقدسة القائم على حرية الانسان في اختياره لسبيل الخير والرشاد أو سبيل الشر والفساد، قال (تعالى):" إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)"(2) بل إن الانسان أحياناً قد يكون فقيراً بسبب حب الله (تعالى) له، كما ورد في الحديث القدسي: "أن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى فلو أفقرته لأفسده ذلك و أن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر فلو أغنيته لأفسده ذلك"(3) وهل يمكن ان نتصور أن الخيرَ دخيلٌ فيمن يحبه الله (تعالى) أو إن معاشرته لا تجدي نفعا، أو تسبب الهم والألم؟! نعم، ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"اِحْذَرُوا صَوْلَةَ اَلْكَرِيمِ إِذَا جَاعَ وَ اَللَّئِيمِ إِذَا شَبِعَ"(4) ولا يقصد به الجوع والشبع المتعارف عليه لدى الناس، وإنما المراد منه: احذروا صولة الكريم إذا اُمتُهِن، واحذروا صولة اللئيم إذا أكرم، وفي هذا المعنى ورد عنه (عليه السلام) أيضاً: "احذروا سطوة الكريم إذا وضع و سورة اللئيم إذا رفع"(5) وأما العقل السليم والمنطق القويم فإنهما يقتضيان أن تتأصل صفة الخير في الإنسان لملكاتٍ حميدة يتسم بها وصفات فضيلة يتميز بها، لا أن تتأصل صفة الخير في نفسه لمجرد أنه ولد في أسرة تتمتع بالرفاهية الاقتصادية ووجد في بيئة تتنعم بالثروات المادية! وعند مراجعتنا للتاريخ الصحيح نجد أن قادة البشر وصفوة الناس إنما كان أغلبهم ينتمي الى الطبقات الفقيرة من المجتمع، فهؤلاء الأنبياء ورسل الله (صلوات الله عليهم) منهم من كان نجاراً أو خياطاً أو راعياً، ومع ذلك فقد كانوا من أطيب الناس خلقاً، وأعظمهم شرفاً، وأرفعهم منزلةً، قد تأصّل الخير في نفوسهم تأصّلاً حتى غدوا قطعة منه، فكانوا هم الخير للبشر، وهم الرحمة للعالمين. وبالنزول إلى أرض الواقع نجد أن الكثير من الفقراء والمساكين طيبي الروح، كريمي النفس، يتألمون لألم المحتاج ولربما يؤثرونه على أنفسهم رغم حاجتهم. ولا نقصد من كلامنا هذا أن الأغنياء هم على نقيض ذلك، وإنما تأكيداً على مسألة عدم ارتباط تأصل الخير في النفوس وعدمه بمستواهم الاقتصادي الذي نشأوا فيه ارتباط العلة والمعلول، فكما إن بعض الفقراء أخيار، فإن بعض الأغنياء كذلك، والعكس صحيح أيضاً. ومن هنا يُفهم من بعض الروايات ضرورة عدم طلب الخير والحاجات ممن هم أهل للخير بقطع النظر عن مستواهم المعاشي الحالي والسابق، منها ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"أشد من الموت طلب الحاجة من غير أهلها"(5)، وعنه (عليه السلام) أيضاً: "فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غير أهلها"(6) إذن فلا صحة لهاتين المقولتين من حيث الدلالة، حتى وإن تنزلنا وحملنا الجوع والشبع على المعنى المعنوي لا المادي؛ وذلك لأنه حتى من يفتقر الى الأخلاق المعنوية فإنه ما إن يتكامل بالفضائل ويقلع عن الرذائل حتى يتسم بالخير وتحسن عشرته وتطيب للناس صحبته، والعكس صحيحٌ أيضا.. ومن البديهي أن ما لا يوافق العقل والمنطق السليم، ويخالف صريح القرآن الكريم، لا يمكن أن يصدر من وصي الرسول الكريم (صلوات الله عليهما وآلهما)، وعليه لا تصح نسبة هذين القولين الى أمير المؤمنين (عليه السلام).. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الحجرات 13 (2) الانسان 3 (3) عوالي الآلي ج2 ص29 (4) غرر الحكم ج1 227 (5) المدر السابق ج1 ص246 (6) ميزان الحكمة ج4 ص 238 رضا الله غايتي
اخرىبين طيبة القلب وحماقة السلوك...
خلق الله الأشياء كلها في الحياة ضمن موازين وقياسات... فالزيادة أو النقيصة تسبب المشاكل فيها. وهكذا حياتنا وأفعالنا وعواطفنا لا بد أن تكون ضمن موازين دقيقة، وليست خالية منها، فالزيادة والنقيصة تسبب لنا المشاكل. ومحور كلامنا عن الطيبة فما هي؟ الطيبة: هي من الصفات والأخلاق الحميدة، التي يمتاز صاحبها بنقاء الصدر والسريرة، وحُبّ الآخرين، والبعد عن إضمار الشر، أو الأحقاد والخبث، كما أنّ الطيبة تدفع الإنسان إلى أرقى معاني الإنسانية، وأكثرها شفافية؛ كالتسامح، والإخلاص، لكن رغم رُقي هذه الكلمة، إلا أنها إذا خرجت عن حدودها المعقولة ووصلت حد المبالغة فإنها ستعطي نتائج سلبية على صاحبها، كل شيء في الحياة يجب أن يكون موزوناً ومعتدلاً، بما في ذلك المحبة التي هي ناتجة عن طيبة الإنسان، وحسن خلقه، فيجب أن تتعامل مع الآخرين في حدود المعقول، وعندما تبغضهم كذلك وفق حدود المعقول، ولا يجوز المبالغة في كلا الأمرين، فهناك شعرة بين الطيبة وحماقة السلوك... هذه الشعرة هي (منطق العقل). الإنسان الذي يتحكم بعاطفته قليلاً، ويحكّم عقله فهذا ليس دليلاً على عدم طيبته... بالعكس... هذا طيب عاقل... عكس الطيب الأحمق... الذي لا يفكر بعاقبة أو نتيجة سلوكه ويندفع بشكل عاطفي أو يمنح ثقة لطرف معين غريب أو قريب... والمبررات التي يحاول إقناع نفسه بها عندما تقع المشاكل أنه صاحب قلب طيب. الطيبة لا تلغي دور العقل... إنما العكس هو الصحيح، فهي تحكيم العقل بالوقت المناسب واتخاذ القرار الحكيم الذي يدل على اتزان العقل، ومهما كان القرار ظاهراً يحمل القسوة أحياناً لكنه تترتب عليه فوائد مستقبلية حتمية... وأطيب ما يكون الإنسان عندما يدفع الضرر عن نفسه وعن الآخرين قبل أن ينفعهم. هل الطيبة تصلح في جميع الأوقات أم في أوقات محددة؟ الطيبة كأنها غطاء أثناء الشتاء يكون مرغوباً فيه، لكنه اثناء الصيف لا رغبة فيه أبداً.. لهذا يجب أن تكون الطيبة بحسب الظروف الموضوعية... فالطيبة حالة تعكس التأثر بالواقع لهذا يجب أن تكون الطيبة متغيرة حسب الظروف والأشخاص، قد يحدث أن تعمي الطيبة الزائدة صاحبها عن رؤيته لحقيقة مجرى الأمور، أو عدم رؤيته الحقيقة بأكملها، من باب حسن ظنه بالآخرين، واعتقاده أن جميع الناس مثله، لا يمتلكون إلا الصفاء والصدق والمحبة، ماي دفعهم بالمقابل إلى استغلاله، وخداعه في كثير من الأحيان، فمساعدة المحتاج الحقيقي تعتبر طيبة، لكن لو كان المدّعي للحاجة كاذباً فهو مستغل. لهذا علينا قبل أن نستخدم الطيبة أن نقدم عقولنا قبل عواطفنا، فالعاطفة تعتمد على الإحساس لكن العقل أقوى منها، لأنه ميزان يزن الأشياء رغم أن للقلب ألماً أشد من ألم العقل، فالقلب يكشف عن نفسه من خلال دقاته لكن العقل لا يكشف عن نفسه لأنه يحكم بصمت، فالطيبة يمكن أن تكون مقياساً لمعرفة الأقوى: العاطفة أو العقل، فالطيّب يكون قلبه ضعيفاً ترهقه الضربات في أي حدث، ويكون المرء حينها عاطفياً وليس طيباً، لكن صاحب العقل القوي يكون طيباً أكثر من كونه عاطفياً. هل الطيبة تؤذي صاحبها وتسبب عدم الاحترام لمشاعره؟ إن الطيبة المتوازنة المتفقة مع العقل لا تؤذي صاحبها لأن مفهوم طيبة القلب هو حب الخير للغير وعدم الإضرار بالغير، وعدم العمل ضد مصلحة الغير، ومسامحة من أخطأ بحقه بقدر معقول ومساعدة المحتاج ... وغيرها كثير. أما الثقة العمياء بالآخرين وعدم حساب نية المقابل وغيرها فهذه ليست طيبة، بل قد تكون -مع كامل الاحترام للجميع- غباءً أو حماقة وسلوكاً غير عقلاني ولا يمت للعقل بصلة. إن المشكلة تقع عند الإنسان الطيب عندما يرى أن الناس كلهم طيبون، ثم إذا واجهه موقف منهم أو لحق به أذى من ظلم أو استغلال لطيبته، تُغلق الدنيا في وجهه، فيبدأ وهو يرى الناس الطيبين قد رحلوا من مجتمعه، وأن الخير انعدم، وتحصل له أزمة نفسية أو يتعرض للأمراض، لأن الطيّب يقدم الإحسان للناس بكل ما يستطيع فعله، ويقدّم ذلك بحسن نية وبراءة منه، فهو بالتالي ينتظر منهم الرد بالشكر أو المعاملة باللطف على الأقل... صحيح أن المعروف لوجه الله، ولكن من باب: من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق، لذلك يتأذى عندما يصدر فعل من الشخص الذي كان يعامله بكل طيب وصدق. هل الطيبة والصدق من علامات ضعف الشخصية؟ الكثير من الناس يصف طيب القلب بأنه ضعيف الشخصية، لأنه يتصف بعدم الانتقام ممن ظلمه، والصفح عنه عند رجوعه عن الخطأ، وأنه لا يحب إيقاع الآخرين بالمشاكل؛ لأنه مقتنع أن الله سيأخذ له حقه. والحقيقة هي أن الصدق والطيبة وحسن الظن بالآخرين ليست ضعف شخصية، بل هي من الأخلاق الراقية وهي تزيد صاحبها سمواً وجمالاً روحياً، وليس من المعيب أن يمتلك الإنسان الطيبة بل العيب في من لا يُقدّر هذه الطيبة ويعطيها حقها في التعامل بالمثل. فالمشكلة الأساسية ليست في الطيبة، إنما في استغلال الآخرين لهذه الطيبة، نتيجة لعدم عقلنة قراراتنا والاعتماد على عواطفنا بشكل كلي. فالصدق والطيبة حسب المنطق والعقل، ولها فوائد جمة للنفس ولعموم أفراد المجتمع، فهي تحصين للشخص عن المعاصي، وزيادة لصلة الإنسان بربه، وتهذيب للنفس والشعور بالراحة النفسية، فالصادق الطيب ينشر المحبة بين الناس، وهذا يعزّز التماسك الاجتماعي وتقويته من سوء الظنون والحقد، وهذا التعامل أكّدت عليه جميع الشرائع السماوية، ولو تأمّلنا تاريخ وأخلاق الأنبياء والأوصياء لوجدنا كل ما هو راقٍ من الأخلاق والتعامل بالطيبة والصدق... حنان الزيرجاوي
اخرىالطلاق ليس نهاية المطاف
رحلةٌ مثقلة بالألم في طريق يئن من وطأة الظلم! ينهي حياة زوجية فشلت في الوصول إلى شاطئ الأمان. ويبدد طموحات أطفال في العيش في هدوء نفسي واجتماعي تحت رعاية أبوين تجمعهم المودة والرحمة والحب. الطلاق شرعاً: هو حل رابطة الزواج لاستحالة المعاشرة بالمعروف بين الطرفين. قال تعالى: [ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)].(١). الطلاق لغوياً: من فعل طَلَق ويُقال طُلقت الزوجة "أي خرجت من عصمة الزوج وتـحررت"، يحدث الطلاق بسبب سوء تفاهم أو مشاكل متراكمة أو غياب الانسجام والحب. المرأة المطلقة ليست إنسانة فيها نقص أو خلل أخلاقي أو نفسي، بالتأكيد إنها خاضت حروباً وصرعات نفسية لا يعلم بها أحد، من أجل الحفاظ على حياتها الزوجية، ولكن لأنها طبقت شريعة الله وقررت مصير حياتها ورأت أن أساس الـحياة الزوجيـة القائم على المودة والرحـمة لا وجود له بينهما. فأصبحت موضع اتهام ومذنبة بنظر المجتمع، لذلك أصبح المـجتمع يُحكم أهواءه بدلاً من الإسلام. ترى، كم من امرأة في مجتمعنا تعاني جرّاء الحكم المطلق ذاته على أخلاقها ودينها، لا لسبب إنما لأنها قررت أن تعيش، وكم من فتاة أُجبرت قسراً على أن تتزوج من رجل لا يناسب تطلعاتها، لأن الكثير منهن يشعرن بالنقص وعدم الثقة بسبب نظرة المجتمع، وتقع المرأة المطلّقة أسيرة هذه الحالة بسبب رؤية المجتمع السلبيّة لها. وقد تلاحق بسيل من الاتهامات وتطارد بجملة من الافتراءات. وتعاني المطلقة غالباً من معاملة من حولها، وأقرب الناس لها، بالرغم من أن الطلاق هو الدواء المر الذي قد تلجأ إليه المرأة أحياناً للخلاص من الظلم الذي أصبح يؤرق حياتها الزوجية، ويهدد مستقبلها النفسي، والله تعالى لم يشرع أمراً لخلقه إلا إذا كان فيه خير عظيم لهم، والطلاق ما شرّع إلا ليكون دواء فيه شفاء وإن كان مرّاً، وإن كان أمره صعباً على النفوس، حيث قال عز وجل: "وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا"، روي عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) ((أبغض الحلال إلى الله الطلاق) (٢). ورغم أن الشريعة الإسلامية أباحت الطلاق بشروط تلاءم لبناء المجتمع، وأولت أهمية في الإحسان دائمًا للطرف الأضعف والأكثر خسارة في هذه المعادلة وهي "المرأة"، إلا أن المجتمع الذي يدّعي الإسلام لا يرحمها، ويحكم عليها بالإدانة طوال حياتها دون النظر في صحة موقفها في الطلاق من عدمه! قال( تعالى ): [الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] (٣). ولكن بعد كل هذا فالحياة لم ولن تتوقف بعد الطلاق! الطلاق ليس نهاية الحياة. - أخيتي. ليكن الطلاق بداية جديدة لحياة جديدة وللانطلاق. -قطار العطاء لن يتعطل. فإن كنت السبب في الطلاق فالحمد لله على كل حال وتلك أمة قد خلت وأيام ذهبت وانجلت فلست بالمعصومة من الخطأ. وعليك استدراك الأخطاء وتقوية مواطن الضعف في شخصيتك، واجعليها درساً مفيداً في الحياة لتطوير نفسك وتقويتها. وإذا كنتِ مظلومة فهناك جبار يُحصي الصغير والكبير وسيأتي يوم ينتصر لك فيه. -ومن الجميل أن تعطي نفسك الإحساس بالحب والاحترام، ولا تتأثري بأي نظرة سلبية من المجتمع وكون البعض يتعامل مع المطلقة على أنها حالة خاصة فعليكِ إثبات ذاتك حتى تفرضي على الكل شخصيتك. - نظرتك لنفسك اجعليها نظرة ايجابية مشرقة ولا تنزلقي في مستنقع نبذ الذات وظلم النفس. - ابحثي عن الصفات الجيدة فيك فإن ذلك سيشعرك بالثقة في ذاتك والتقدير لها. -حاولي مراجعة نفسك للخروج بإيجابيات حصلت لك من طلاقك. - خالطي الآخرين وإياك والعزلة بسبب وضعك الجديد فلست بأول من يبتلى بالطلاق. -استمتعي بالموجود ولا تتعلقي بالمفقود، حلقي بروح تعبق أملاً وتفاؤلاً، استمتعي بما وهبك الله من نعم (صحة وأولاد وأهل وصديقات وعمل وهوايات وغيرها من الأمور الجميلة) فما حصل لك حصل… ولابد أن تتقبليه برضا، وأعلمي أن ما أصابك لم يكن ليخطأك وما أخطأك لم يكن ليصيبك. وقال أصدق من قال: ( وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم). فالرضا سر السعادة الحقيقي. - اقتربي من صديقاتك الصالحات، واقضي معهن وقتاً طيباً تنسين به ألمك وحزنك. - احرصي على الصلوات وقراءة القرآن الكريم والذكر والاستغفار وأكثري من الطاعات قدر ما تستطيعين، ففيها السلوى والفرح والسعادة. ونعم سعادة القرب من الرحمن. - اشغلي نفسك بأعمال البر والإحسان بمساعدة محتاج. بكفالة يتيم. بتعلم الفقه والقرآن وتعليمه. - اجتهدي في عمل برنامج يومي لك يكون ممتلأ بكل ما هو مفيد لك. من قراءة وزيارة الأصدقاء وصلة الرحم. بحيث لا تكون هناك دقيقة أنت فارغة فيها. - وأسرعي بقاربك الجميل بمجذافين من إيمان بالله وثقة بالنفس وسوف تصلين بإذن الله نحو جزيرة السعادة والنجاح. لكي تتسلق جبال الإنجاز، وتصل لأعلى مراتب الاعجاز. وعندها جزماً سيكون للحياة معنى آخر. --------------------------------- (١)-سورة البقرة الآية (٢٢٦-٢٢٧). (٢)-الكافي (٢)-سورة البقرة الآية (٢٢٨) حنان ستار الزيرجاوي
اخرىلا تقاس العقول بالأعمار!
(لا تقاس العقول بالأعمار، فكم من صغير عقله بارع، وكم من كبير عقله فارغ) قولٌ تناولته وسائل التواصل الاجتماعي بكل تقّبلٍ ورضا، ولعل ما زاد في تقبلها إياه هو نسبته الى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولكننا عند الرجوع إلى الكتب الحديثية لا نجد لهذا الحديث أثراً إطلاقاً، ولا غرابة في ذلك إذ إن أمير البلاغة والبيان (سلام الله وصلواته عليه) معروفٌ ببلاغته التي أخرست البلغاء، ومشهورٌ بفصاحته التي إعترف بها حتى الأعداء، ومعلومٌ كلامه إذ إنه فوق كلام المخلوقين قاطبةً خلا الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ودون كلام رب السماء. وأما من حيث دلالة هذه المقولة ومدى صحتها فلابد من تقديم مقدمات؛ وذلك لأن معنى العقل في المفهوم الإسلامي يختلف عما هو عليه في الثقافات الأخرى من جهةٍ، كما ينبغي التطرق الى النصوص الدينية الواردة في هذا المجال وعرضها ولو على نحو الإيجاز للتعرف إلى مدى موافقة هذه المقولة لها من عدمها من جهةٍ أخرى. معنى العقل: العقل لغة: المنع والحبس، وهو (مصدر عقلت البعير بالعقال أعقله عقلا، والعِقال: حبل يُثنَى به يد البعير إلى ركبتيه فيشد به)(1)، (وسُمِّي العَقْلُ عَقْلاً لأَنه يَعْقِل صاحبَه عن التَّوَرُّط في المَهالِك أَي يَحْبِسه)(2)؛ لذا روي عنه (صلى الله عليه وآله): "العقل عقال من الجهل"(3). وأما اصطلاحاً: فهو حسب التصور الأرضي: عبارة عن مهارات الذهن في سلامة جهازه (الوظيفي) فحسب، في حين أن التصوّر الإسلامي يتجاوز هذا المعنى الضيّق مُضيفاً إلى تلك المهارات مهارة أخرى وهي المهارة العبادية. وعليه فإن العقل يتقوّم في التصور الاسلامي من تظافر مهارتين معاً لا غنى لأحداهما عن الأخرى وهما (المهارة العقلية) و(المهارة العبادية). ولذا روي عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنه عندما سئل عن العقل قال :" العمل بطاعة الله وأن العمّال بطاعة الله هم العقلاء"(4)، كما روي عن الإمام الصادق(عليه السلام)أنه عندما سئل السؤال ذاته أجاب: "ما عُبد به الرحمن، واكتسب به الجنان. فسأله الراوي: فالذي كان في معاوية [أي ماهو؟] فقال(عليه السلام): تلك النكراء، تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل"(5) والعقل عقلان: عقل الطبع وعقل التجربة، فأما الأول أو ما يسمى بـ(الوجدان الأخلاقي) فهو مبدأ الادراك، وهو إن نَما وتطور سنح للإنسان فرصة الاستفادة من سائر المعارف التي يختزنها عن طريق الدراسة والتجربة وبالتالي يحقق الحياة الإنسانية الطيبة التي يصبو اليها، وأما إن وهن واندثر لإتباع صاحبه الأهواء النفسية والوساوس الشيطانية، فعندئذٍ لا ينتفع الانسان بعقل التجربة مهما زادت معلوماته وتضخمت بياناته، وبالتالي يُحرم من توفيق الوصول إلى الحياة المنشودة. وعقل التجربة هو ما يمكن للإنسان اكتساب العلوم والمعارف من خلاله، وما أروع تشبيه أمير البلغاء (عليه السلام) العلاقة التي تربط العقلين معاً إذ قال فيما نسب إليه: رأيت العقل عقلين فمطبوع ومسموع ولا ينفع مسموع إذ لم يك مطبــوع كما لا تنفع الشمس وضوء العين ممنوع(6) فقد شبّه (سلام الله عليه) عقل الطبع بالعين وعقل التجربة بالشمس، ومما لاشك فيه لكي تتحقق الرؤية لابد من أمرين: سلامة العين ووجود نور الشمس، وكما إن الثاني لا ينفع إن لم يتوفر الأول فكذلك عقل التجربة لا ينفع عند غياب عقل الطبع فضلاً عن موته. وبما إن عقل الطبع قد ينمو ويزدهر فينفع صاحبه من عقل التجربة، وقد يموت ويندثر عند الاستسلام لإضلال شبهةٍ أوبسبب إرتكاب معصية، فإنه ومن باب أولى أن يتعرض الى الزيادة والنقصان كما سيأتي... وقد ورد في النصوص الدينية أن للعقل زمناً ينمو فيه ويكتمل، فعن إمامنا أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه):"يثغر الصبي لسبع، ويؤمر بالصلاة لتسع، ويفرق بينهم في المضاجع لعشر، ويحتلم لأربع عشرة، وينتهى طوله لإحدى وعشرين سنة، وينتهي عقله لثمان وعشرين إلا التجارب"(7)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يربى الصبي سبعاً ويؤدب سبعاً، ويستخدم سبعاً، ومنتهى طوله في ثلاث وعشرين سنة، وعقله في خمس وثلاثين [سنة] وما كان بعد ذلك فبالتجارب"(8). إذن يتوقف النمو الطبيعي لعقل الانسان عند سن الثامنة والعشرين أو الخامسة والثلاثين كما ورد في الروايتين، وأية زيادة أخرى في طاقته بعد ذلك إنما تأتي عن طريق التجارب، وقد يُتوهم بأن ثمة تعارضاً ما بين الروايتين المتقدمتين في شأن تحديد سن النمو العقلي، إلا إنه لا تعارض ينهما إذا حملنا اختلافهما فيه على اختلاف الاشخاص وتباين استعدادات وقابليات كل منهم. وعلى الرغم من توقف نمو عقل الإنسان إلا إن له أنْ يزيده بالتجارب ومواصلة التعلم ــ كما تقدم في الروايات ــ وسواء أثبت العلم هذه الحقيقة الروائية أم لا، فنحن نريد الإشارة إلى ضرورة استمرار التجربة والتعلم لزيادة نمو العقل وهذا المقدار لا خلاف فيه وعلى الرغم من إن لعمر الانسان مدخلية في زيادة عقله كما تقدم وكما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يزيد عقل الرجل بعد الاربعين إلى خمسين وستين، ثم ينقص عقله بعد ذلك"(9)، إلا إن ذلك ليس على نحو العلة التامة، إذ يمكن للعقل أن يبقى شاباً وقوياً وإن شاب الإنسان وضعف جسمه، وتقدم في السن ووهن عظمه، فالعاقل لا يشيب عقله ولا تنتقص الشيخوخة من قوته بل وقد يزداد طاقةً وحيويةً لذا ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"رأي الشيخ أحب الي من جَلَد الغلام"(10)، وفي أخرى ".....من حيلة الشباب "(11) وأما من لم يوفر أسباب صقل عقله في مرحلة الشباب فإنه بلا شك يضمحل عقله في مرحلة الشيخوخة. وليس تقدم العمر هو العامل الوحيد في نقصان العقل بل إن النصوص الشرعية أشارت الى عوامل عديدة اخرى أهمها: أولاً: التعلم: فقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "من لم يصبر على ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبداً"(13). ثانياً: التوبة: وعنه (عليه السلام) ايضاً:"من لم يرتدع يجهل"(14) ثالثاً: التقوى: فقد كتب إمامنا الباقر (عليه السلام) إلى سعد الخير: "بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإني اوصيك بتقوى الله فإن فيها السلامة من التلف والغنيمة في المنقلب إن الله (عزوجل) يقي بالتقوى عن العبد ما عزب عنه عقله ويجلي بالتقوى عنه عماه وجهله"(15) إذن التوبة هي سبب للتوفيق الإلهي الذي يؤدي فيما يؤدي إليه من إكمال العقل. رابعاً: الوقوف عند الشبهة: وقال (عليه السلام ): "لا ورع كالوقوف عند الشبهة"(16). فإن الوقوف عند الشبهات سبب من أسباب التوفيق الإلهي بلا شك. خامساً: الاعتراف بالجهل: كما روي عن الإمام علي (عليه السلام): "غاية العقل الاعتراف بالجهل"(17) إذ الاعتراف بالجهل يدفع الإنسان دوماً إلى مزيد من بذل الجهد واكتساب المعارف. مما تقدم تتضح جلياً صحة هذه المقولة دلالةً، إذ إن العقول فعلاً لا تقاس بالأعمار لأن كلٍاً من زيادتها ونقيصتها منوطٌ بالعديد من العوامل الأخرى والتي تقدم ذكرها، بيد إن ذلك لا يبرر التساهل في نشرها والتهاون في الاستشهاد بها على إنها من أقوال أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) لعدم ثبوت ذلك سنداً من جهة ولضعف بلاغتها وركاكة تركيبها بالنسبة إلى سيد البلغاء والبلاغة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) تهذيب اللغة ج1 ص65 (2) لسان العرب ج11 ص458 (3) نهاية الحكمة ص305 (4) ميزان الحكمة ج3 ص333 (5) أصول الكافي ج1، ح3 / 11 (6) نهج السعادة ج9 ص163 (7) الكافي ج7 ص94 (8) الفقيه ج3 ص493 (9) الاختصاص ص245 (10) نهج البلاغة حكمة 86 (11) بحار الأنوار ج72 ص105 (12) المصدر السابق ج1 ص94 (13) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص118 (14) الكافي ج8 ص73 (15) وسائل الشيعة ج1 ص162 (16) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص1 بقلم الكاتبة: رضا الله غايتي
اخرىالمرأة في فكر الإمام علي (عليه السلام)
بقلم: أم نور الهدى كان لأمير المؤمنين (عليه السلام) اهتمام خاص بالمرأة، فنراه تارة ينظر إليها كآية من آيات الخلق الإلهي، وتجلٍ من تجليات الخالق (عز وجل) فيقول: (عقول النساء في جمالهن وجمال الرجال في عقولهم). وتارة ينظر إلى كل ما موجود هو آية ومظهر من مظاهر النساء فيقول: (لا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها فإن المرأة ريحانة وليس قهرمانة). أي إن المرأة ريحانة وزهرة تعطر المجتمع بعطر الرياحين والزهور. ولقد وردت كلمة الريحان في قوله تعالى: (فأمّا إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة النعيم) والريحان هنا كل نبات طيب الريح مفردته ريحانة، فروح وريحان تعني الرحمة. فالإمام هنا وصف المرأة بأروع الأوصاف حين جعلها ريحانة بكل ما تشتمل عليه كلمة الريحان من الصفات فهي جميلة وعطرة وطيبة، أما القهرمان فهو الذي يُكلّف بأمور الخدمة والاشتغال، وبما إن الإسلام لم يكلف المرأة بأمور الخدمة والاشتغال في البيت، فما يريده الإمام هو إعفاء النساء من المشقة وعدم الزامهن بتحمل المسؤوليات فوق قدرتهن لأن ما عليهن من واجبات تكوين الأسرة وتربية الجيل يستغرق جهدهن ووقتهن، لذا ليس من حق الرجل إجبار زوجته للقيام بأعمال خارجة عن نطاق واجباتها. فالفرق الجوهري بين اعتبار المرأة ريحانة وبين اعتبارها قهرمانة هو أن الريحانة تكون، محفوظة، مصانة، تعامل برقة وتخاطب برقة، لها منزلتها وحضورها. فلا يمكن للزوج التفريط بها. أما القهرمانة فهي المرأة التي تقوم بالخدمة في المنزل وتدير شؤونه دون أن يكون لها من الزوج تلك المكانة العاطفية والاحترام والرعاية لها. علماً أن خدمتها في بيت الزوجية مما ندب إليه الشره الحنيف واعتبره جهادًا لها أثابها عليه الشيء الكثير جدًا مما ذكرته النصوص الشريفة. فمعاملة الزوج لزوجته يجب أن تكون نابعة من اعتبارها ريحانة وليس من اعتبارها خادمة تقوم بأعمال المنزل لأن المرأة خلقت للرقة والحنان. وعلى الرغم من أن المرأة مظهر من مظاهر الجمال الإلهي فإنها تستطيع كالرجل أن تنال جميع الكمالات الأخرى، وهذا لا يعني أنها لا بد أن تخوض جميع ميادين الحياة كالحرب، والأعمال الشاقة، بل أن الله تعالى جعلها مكملة للرجل، أي الرجل والمرأة أحدهما مكمل للآخر. وأخيرًا إن كلام الإمام علي (عليه السلام) كان تكريمًا للمرأة ووضعها المكانة التي وضعها الله تعالى بها، حيث لم يحملها مشقة الخدمة والعمل في المنزل واعتبر أجر ما تقوم به من اعمال في رعاية بيتها كأجر الجهاد في سبيل الله.
اخرىأساليب في التربية
عالم الطفولة كأنه طاولة، لا تجد فيه غير طعام لذيذ، ومنظر لطيف وجديد، فعالمهم فاكهة الوجود، وخضار الأرواح، ومياه الحياة تسقي القلوب... عالم صفاء وأحلام جميلة بسيطة وتافهة ولكن بنظرهِ هو عظيمة وكبيرة، فهو العالم الذي ينطلق منه الإنسان في بداية عمره. فالطفل في بداية حياته ينظر إلى الحياة بتفكيره البريء، فالطفل يعيش بعالم خاص به مملوء بالمحبة البريئة. هذه هي الصورة الجميلة التي يحملها الطفل، وكم يتمنى كل إنسان أن يعود لطفولته البريئة ليتأمل في أرجاء عالمها الذي كان يصور له حياة مختلفة تشد الإنسان إليها بجمالها، هذا هو عالم الطفولة وهذه أحلام من يعيشها، فلا ينفذ إلى ملكوت ذلك العالم ولا يدرك كنهه إلا من عاشه وجال في ربوعه. حيث يتذوق الطفل مع أحلام طفولته هذه لذة الحياة ولذة العيش فيها، ومهما حاولنا أن نعبر عن هذه الحقيقة فلن نستطيع تصويرها بالكلمات. وبعد هذا، فإن الاهتمام بمستقبل الطفل هو في الواقع ضمان لمستقبل شعب بأسره. قال اللَّه تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا". التحريم/6 أعتنى الإسلام بتربية الأبناء عناية فائقة، وألقى على عاتق الأهل ما سيكون عليه الولد في مسلكه الدنيوي ومصيره الأخروي إن هم قصروا في تربيته وإعداده. وقد ذكر العلماء أن شخصية الولد تتأثر في نموها بعوامل ثلاثة وهي: الوراثة، والبيئة، والتربية. إذا خضنا في مضمار التربية السليمة للأبناء... فعلى الأبوين أن يكون لهما الوعي التربوي الذي يبنى على أسس صحيحة ويتوفر لديهم فهم لأساليب التربية والتوجيه والرعاية وهذه نقطة البداية. فمثلاً في أسلوب التعامل مع الطفل تبرز أمامنا ثلاثة اشكال لتعامل الآباء مع الأبناء: الشكل الأول: أسلوب الدلال المفرط وهذا الأسلوب له نتائجه السلبية الخطيرة، فإنه يخلق شخصية هشة متميعة وشخصية اتكالية تحب الكسل والخمول مجردة من الهدف والإقدام، انهزامية غير قادرة على مواجهة التحديات وبمعنى أدق شخصية لا تثق بنفسها. شخصية متسيبة في ظل غياب المراقبة والمحاسبة وهذا التسيب يقود إلى الانفلات والانحراف. الشكل الثاني: فهو أسلوب التربية القاسية والعنف. وهذا الأسلوب أيضاً له نتائجه الخطيرة والسلبية التي يعاني منها الأبناء طوال حياتهم فهو يخلق شخصية قلقة ومتأزمة ومعقدة وخائفة وتحمل عقدة الخوف، شخصية حاقدة وعدوانية وقد تتأزم الأمور لتصبح شخصية منافقة وكاذبة خوفاً من العقاب والتعنيف ضمن حدود الأسرة ولكن يوماً من الأيام سينطلق هذا الشخص ليواجه المجتمع ككل، فلنتصور كيف سيتعامل مع المحيطين ضمن مجالات الدراسة والعمل وهو شخصية هاربة من أجواء الأسرة وقد يعرضها للتسيب والانحراف لأنها شخصية متمردة مما يعرضها للعقوق. الأسلوب الثالث: التوازن. الأسلوب الصحيح يعتمد على التوازن فمن شروط نجاح التربية التوازن في المعاملة ما بين الأمور التي تحتاج إلى شدة وحزم ليتربى على أن هذه الأمور خطوط حمراء طبعاً هنا يمكن أن يعترض أحد ويقول: لا للعنف الأسري ولا لاستخدام القسوة. نعم فهناك طرق غير استخدام العنف. يكفي ان يبدي الآباء انزعاجهم مثلاً. وهنا النقطة مهمة جداً، وهي: أن نوضح لهم سبب المنع والرفض لا تعتقدوا أن أبناءكم لا يدركون ولن يفهموكم. تخصيص الوقت للنقاش مهم جداً. وما بين أسلوب المرونة والحنان والاحتواء. التوازن في المعاملة. إن الإمام زين العابدين (عليه السلام) يصرح بمسؤولية الأبوين بتربية الطفل، ويعتبر التنشئة الروحية والتنمية الخلقية لمواهب الأطفال واجباً دينياً يستوجب أجراً وثواباً من الله تعالى، وأن التقصير في ذلك يُعرّض الآباء إلى عقاب الله. فيقول (عليه السلام): (وأما حق ولدك عليك فأن تعلم أنه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره. وأنك مسؤول عما وليته به من حسن الأدب والدلالة على ربه عز وجل والمعونة له على طاعته. فأعمل في أمره عمل من يعلم أنه مثاب على الإحسان إليه معاقب على الإساءة إليه ) مكارم الأخلاق للطبرسي ص٢٣٢ حنان الزيرجاوي
اخرى