تشغيل الوضع الليلي

شبهاتٌ حول التشيّع/ في القضيّة الحسينيّة قتلوا الحسين ويبكون عليه!

منذ 5 سنوات عدد المشاهدات : 4111

مِن جملة التشنيعات التي شنّها أعداء المذهب والجهلاء هي أنّ الشيعة قتلوا الحسين ولازالوا يبكونه, ولدحض هذه الشبهة لابدّ من ترتيب الجواب وفق ثلاثة مطالب.

المطلب الأول: مَن هم الشيعة؟ ومَن كتبَ للإمام الحسين من الكوفة؟
الشيعة لغةً: "هم الجماعة المتعاونون على أمر واحد في قضاياهم، يقال تشايع القوم إذا تعاونوا، وربّما يطلق على مطلق التابع، قال سبحانه: (فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِى مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِى مِنْ عَدُوِّهِ)"(1).
فالتشيع يعني الاتباع والطاعة، وهذا هو ما تؤكده روايات أهل البيت (عليهم السلام)
وإنّ من كتبَ للإمام الحسين (عليه السلام) هم أهل الكوفة, لكن لا يعني ارسالهم برسائل إلى الحسين (عليه السلام) أنّهم شيعة الحسين (عليه السلام)؛ لقد كانوا يتعاملون معه (عليه السلام) باعتباره صحابي وسبط الرسول (صلى الله عليه وآله) لاسيما بعد انكشاف النوايا الشيئة لقادة الكوفة آنذاك.
إذاً فتلبية الحسين (عليه السلام) لدعوة اهل الكوفة ليس لأنهم من شيعته, وللوقوف أكثر على شيعيّة الكوفة نقرأ المطلب التالي.

المطلب الثاني: هل الكوفة كانت شيعية؟
"إن الشيعة في الكوفة يمثّلون سبع سكّانها وهم (15) ألف شخص كما نقل التاريخ وحدود (12) ألف زجّوا في السجون، وقسم منهم اعدموا، وقسم منهم سفّروا إلى الموصل وخراسان، وقسم منهم شرّدوا، وقسم منهم حيل بينهم وبين الحسين (عليه السلام) مثل بني غاضرة، وقسم منهم استطاعوا أن يصلوا الى الحسين (عليه السلام)"(2)
إذاً نسبة السُبع نسبة قليلة مقارنةً بمساحة الكوفة, وهذا ما يجعل القارئ يستفهم عن سكنتها الآخرين وعقديتهم, والجواب بديهي وهو أنّ سكنتها من غير شيعة الإمام الحسين (عليه السلام) بــدليل قول السيد محسن الامين في أعيانه:
"حاش لله أن يكون الذين قتلوه هم شيعته، بل الذين قتلوه بـعضهم أهل طمع لا يرجع إلى دين، وبـعضهم أجلاف أشرار، وبـعضهم اتبعوا رؤساءهم الذين قادهم حب الدنيا إلى قتاله، ولم يكن فيهم من شيعته ومحبيه أحد، أما شيعته المخلصون فكانوا له أنصاراً وما برحوا حتى قتلوا دونه ونصروه بكل ما في جهدهم إلى آخر ساعة من حياتهم وكثير منهم لم يتمكن من نصره أو لم يكن عالماً بأن الأمر سينتهي إلى ما انتهى إليه وبعضهم خاطر بنفسه وخرق الحصار الذي ضربه ابن زياد على الكوفة وجاء لنصره حتى قتل معه، أما إنّ أحداً من شيعته ومحبيه قاتله فذلك لـم يكن، وهل يعتقد أحد إن شيعته الخلص كانت لهم كثرة مفرطة ؟ كلا، فما زال أتباع الحق في كل زمان أقل قليل ويعلم ذلك بالعيان وبقوله تعالى: وقليل من عبادي الشكور"(3).
المطلب الثالث: مَن هم قتلة الشيعة الحقيقيون؟
إنّ الإمام الحسين (عليه السلام) هو الذي يخبرنا مَن هم قتلته, حيث أشار إليهم (عليه السلام) اشارة واضحة في يوم عاشوراء وقال:
"ويلكم يا شيعة آل أبي سفيان إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون يوم المعاد فكونوا أحراراً في دنياكم هذه, وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عرباً كما تزعمون"(4)
فالإمام (عليه السلام) قد خصّهم بشيعة –أتباع- آل أبي سفيان ودعا عليهم بالويل إن نفذوا ما يطلبه منهم القادة الظلمة.
ومِن أبرز وأقسى أتباع آل أبي سفيان مِن جنود يزيد (عليهما اللعنة) هو شمر بن ذي الجوشن, فهذا اللعين حتماً ليس مِن شيعة الإمام الحسين (عليه السلام) بدليل شناعة فعله, واعتراف أبناء العامة بأنّه كان يصلي معهم, بـل لم يأخذوا برواياته فجرّدوه عن صفة الوثاقة, يقول إمامهم الذهبي في ميزانه:
" شمر بن ذي الجوشن ، أبو السابغة الضبابي ، عن أبيه ، وعنه أبو إسحاق السبيعي ، لــيس بأهل للرواية ، فانه أحد قتلة الحسين (ر) ، وقد قتله أعوان المختار ، روى أبو بكر بن عياش ، عن أبي إسحاق ، قال: كان شمر يصلى معنا ثم يقول: اللهم إنك تعلم إني شريف فاغفر لي، قلتُ: كيف يغفر الله لك وقد أعنت على قتل ابن رسول الله (ص[صلى الله عليه وآله وسلم])، قال: ويحك فكيف نصنع، إن أمراءنا هؤلاء أمرونا بأمر فلم نخالفهم، ولو خالفناهم كنا شرا من هذه الحمر السقاة ، قلت: إن هذا لعذر قبيح ، فإنما الطاعة في المعروف"(5)
فهذا اللعين يؤكد بلسانه على أنّ هناك مَن أمره بقتل الحسين (عليه السلام) وأعانه على ذلك, فيتضح للقارئ العصابة التي شايعت وبايعت وساعدت على قتل ريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله), بـل وأمرت بذلك (عليهم اللعنة أجمعين), ووجه شمول كل من اولئك باللعنة هو:
1/ القاتل (لعن الله أمة قتلتكم).
2/ المساعد (ولعن الله الممهدين لهم بالتمكين من قتالكم).
3/ الراضون بما جرى (ولعن الله أمة سمعة بذلك فرضيت به).
وتلك نصوص صريحة في زيارة عاشوراء تستنكر تعاون اولئك على الإثم والعدوان.
ولتوضيح الصورة أكثر نقول:
إنّ المتتبع لكتب الفريقين يجد أنّ المجرم الأول مصرّح باسمه هو يزيد بن معاوية (عليهما اللعنة), فقال الذّهبيّ فيه:
"كان[يزيد] ناصبيا، فظّا، غليظا، يتناول المسكر ويفعل المنكر، افتتح دولته بــقتل الحسين، وختمها بوقعة الحرّة، فمقته النّاس، ولم يبارك في عمره"(6).
بل نجده بنفسه (لعنه الله) يعترف بقتل الحسين (عليه السلام) لا بل ويندم على جريمته النكراء, وذلك كما ينقل رواة أبناء العامة, حيث قال الذهبي:
"حدثنا : يونس بن حبيب ، قال : لما قتل عبيد الله الحسين وأهله ، بعث برؤوسهم إلى يزيد ، فسر بقتلهم أولا ، ثم لم يلبث حتى ندم على قتلهم ، فكان يقول: وما علي لو احتملت الأذى ، وأنزلت الحسين معي ، وحكمته فيما يريد ، وإن كان علي في ذلك وهن ، حفظا لرسول الله (ص[صلى الله عليه وآله]) ورعاية لحقه ، لعن الله ابن مرجانة يعني عبيد الله فانه أحرجه ، واضطره ، وقد كان سأل أن يخلي سبيله أن يرجع من حيث أقبل ، أو يأتيني ، فيضع يده في يدي ، أو يلحق بثغر من الثغور ، فأبى ذلك عليه وقتله ، فأبغضني بقتله المسلمون ، وزرع لي في قلوبهم العداوة"(7)
بـل وهنالك العديد من الروايات عندهم تصرّح بجرأة اللعين حينما مثّل برأس الإمام الحسين (عليه السلام) ولا أعلم هل هناك عاقل يقول بأنّ قتلة الحسين هم شيعته بعد كل هذا التصريح في كتب القوم؟!
نقرأ ما قاله إمامهم البخاري في صحيحه:
"عن ‏ ‏أنس بن مالك ‌‏(ر) ‏أتي ‏ ‏عبيد الله بن زياد [عليه اللعنة] ‏برأس ‏ ‏الحسين ‌‏(ع[عليه السلام]) ‏ ‏فجعل في طست فجعل ‏ ‏ينكت‏، ‏وقال في حسنه شيئا ، فقال أنس‏: ‏كان أشبههم برسول الله ‏ (ص[صلى الله عليه وآله]) ‏ ‏وكان ‏ ‏مخضوبا بالوسمة"(8)
فإن قال قائل: إنّ عبيد الله بن زياد هو الذي قتل الحسين (عليه السلام) وليس يزيد, وأنّ يزيد قد ندم على ذلك, كمــا يقول شيخ الوهابية ابن تيمية: "ولم يأمر[أي يزيد] بقتل الحسين[عليه السلام] ولا أظهر الفرح بقتله"(9)
فنـقول له ولأمثاله باختصار:
إنّ تبريركم هذا يعني أموراً، وكلها مرّة، فأيّهما تختارون:
1- أنّ ابن زياد خرج عن امرة يزيد, فيجب لعن ابن زياد بل وقتله, وحيث أنّ يزيد لم يقتله إذاً فهو حاكم ظالم فاسق, أو جبان يخشى أتباعه.
2- أنّ يزيد كان منشغلاً بالقردة والخمور والجواري ولم يهتم بمجريات الامور مع الجيش الذي أرسله لمقاتلة الحسين (عليه السلام).
3- أنّ يزيد كان سفيهاً بعدم دراسته لخططه فهو لا يصلح بذلك للحكم, وبهذا أخطأ معاوية حينما ولاّه الخلافة المزعومة.
4- تكذيب الروايات التي رواها البخاري والذهبي وغيرهم التي صرّحت بجرميّة يزيد.

ترى أيّ الامور ستختارون؟!
ولرسول الله غداً كيف ستواجهون؟!
علماً وللأمانة، أنّ بعض علماء أبناء العامة قد خالفوا الوهابية برأيهم في يزيد (عليه اللعنة), كما قرأنا للذهبي أعلاه, بل ولابن الجوزي أيضاً رأي سديد حيث يقول:
"ما رأيكم في رجل[أي يزيد] حكم ثلاث سنين : قتل في الأولى الحسين بن علي ، وفي الثانية أرعب المدينة وأباحها لجيشه ، وفي السنة الثالثة ضرب بيت الله بالمنجنيق"(10).
ويقول المناوي في فيضه:
" وأول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر ملك الروم يعني القسطنطينية ، أو المراد مدينته التي كان بها يوم ، قال النبي (ص[صلى الله عليه وآله]) ذلك وهي حمص وكانت دار مملكته إذ ذاك مغفور لهم ، لا يلزم منه كون يزيد بن معاوية مغفورا له لكونه منهم ، إذ الغفران مشروط بكون الانسان من أهل المغفرة ويزيد ليس كذلك ، لخروجه بدليل خاص ويلزم من الجمود على العموم إن من ارتد ممن غزاها مغفور له ،
وقد أطلق جمع محققون حل لعن يزيد به ، حتى قال التفتازاني : الحق أن رضى يزيد بقتل الحسين واهانته أهل البيت مما تواتر معناه ، وإن كان تفاصيله آحادا فنحن لا نتوقف في شأنه بل في إيمانه لعنة الله عليه وعلى أنصاره وأعوانه"(11).

وأمّا كتب الشيعة فهي مشحونة باستنكار فعلة يزيد وشرذمته (عليهم لعنة الله), نقتصر على احدى الروايات فيها:
"روى الكليني بسند صحيح عن بريد بن معاوية قال: سمعت أبا جعفر ـ الباقر ـ عليه السلام يقول: ان يزيد بن معاوية دخل المدينة وهو يريد الحج, فبعث إلى رجل من قريش فأتاه فقال له يزيد: أتقر لي أنك عبد لي, إن شئت بعتك وإن شئت استرقيتك فقال له الرجل: والله يا يزيد ما أنت بأكرم مني في قريش حسباً ولا كان أبوك أفضل من أبي في الجاهلية والإسلام, وما أنت بأفضل مني في الدين ولا بخبر مني فكيف أقر لك بما سألت؟ فقال له يزيد: إن لم تقر لي والله قتلتك, فقال له الرجل: ليس قتلك إياي بأعظم من قتلك الحسين بن علي (عليهما السلام) ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأمر به فقتل))"(12).
ومسك الختام وقول الفصل رواية في وصف شيعة أهل البيت (عليهم السلام):
روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال:
"لا تذهب بكم المذاهب، فوالله ما شيعتنا إلاّ مَن أطاع الله عزّ وجلّ" (13),
فلو سلّمنا جدلاً وقلنا أنّ شيعة الإمام هم مَن قتلوا إمامهم, فهل يتقربون بقل إمامهم إلى الله؟! أعتقد أنّه لا يقول بذلك إلاّ سخفاء العقول, أو يكون الإمام الباقر (عليه السلام) مخطئاً في وصف الشيعة ! وأعتقد أنّه لا يقول بذلك إلاّ الناصبة.


______________________
(1) الملل والنحل ، تأليف : الشيخ جعفر السبحاني ، ج٦ ص ۷ ـ ۱۱.
(2) مركز الأبحاث العقائدية.
(3) أعيان الشيعة, 1ج, ص585.
(4) المصدر نفسه, ص 906.
(5) ميزان الاعتدال في نقد الرجال - حرف الشين - 3742 - شمر بن ذي الجوشن, ج2, ص 280.
(6) ميزان الاعتدال, ج4, ص404.
(7) سير أعلام النبلاء - ومن صغار الصحابة - الحسين الشهيد[عليه السلام], ج3, ص 317.
(8) صحيح البخاري - كتاب فضائل الصحابة - باب مناقب الحسن والحسين (ر[عليهما السلام]), ح3538.
(9) الوصية الكبرى, ص25.
(10) تذكرة الخواص, ج1, ص 261.
(11) فيض القدير شرح الجامع الصغير, ج3, ص 84.
(12) الكافي, ج8, ص 235.
(13) الكافي, ج2, ص 73.

اللّهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه, وأرن الباطل باطلاً وأعنّا على اجتنابه, والحمد لله حمداً يليق بشأنه, الصلاة على محمدٍ وآله.

علوية الحسيني

اخترنا لكم

صورٌ من حياة الإمام الكاظم (عليه السلام)

بقلم: صفاء الندى قالوا: السجنُ مقبرةُ الأحياء.. فأزهرَ قَبوه روضةً يانعةً واعشوشب ترتيلًا ودعاءً.. يتباهى بضمِّ الإمام بين جدرانه، يبرقُ لأهلِ السماء.. سنونه الطوال رافقتها سجداتُه الطوال.. جرت دموعُه على أرضه شلالاً.. خشيةً وشوقًا لربِّه ذي العزة والجلال.. **** قالها هارون بنفاقٍ عند قبر الرسول: السلامُ عليكَ بابن العم.. وقال الإمام الكاظم تحديًا: السلام عليك يا أبَه.. جهاده سلميٌ بعزيمتِه يمضي.. يرفضُ الركون للطغاة.. فجعل كفارة عمل السلطان في استيفاء حاجات الإخوان.. **** قالوا: سيخضع.. أدخلوها بحضرة الإمام وهو ساجد.. وانتظروا خارجه يُمنّون أنفسهم برفع راية إبليس منتصرةً بعد دقائق.. هلوساتٌ اختمرت في أذهانهم العليلة.. ظل ساجدًا.. عابدًا.. زاهدًا.. بربه عائذًا.. أصاب تبخترها بمقتل... هزَّ حُجُب الرذائل فيها فتهاوت بعضها فوق بعض.. ارتعدت.. سجدت وهي تقول: قدوس.. سبحانك.. سبحانك بلا شكٍ ولا ريبة.. انتصرت فضيلة الإمام وطهارته على مكائد الشياطين وأمانيهم.. **** قالوا: هو المهدي.. نعم هو المهدي وكلهم عليهم السلام مهديون.. إلا أنّه ليس الذي يملأ به الله الأرض عدلًا وقسطًا.. فالإمام المهدي(عجل الله فرجه) محجوبٌ في غياهب الأزمان.. والإمام الكاظم(عليه السلام) قد حُجب في غياهب السجون.. وإننا كموالين في كلا العصرين لسنا أهلًا لظهور كلا الرحمتين.. وما زلنا كذلك... إلى أن نصحو من غفلتنا ويرانا الله أهلا لرحمته **** قالوا : سمعًا وطاعةً للأمير.. وضعوا طبق الرطب بين يدي الإمام.. تناول منه حباتٍ تراءت له كالحيّات.. سمٌ زعافٌ يسري.. مركب الموت يجري.. يجري سريعًا إلى حيث النهايات.. أهلًا بلقاء ربي فلقياه أسمى الغايات.. قد كنتُ رجوته أن يخلصني.. وبرحمته أخذني إليه.. **** قال: موعدنا على الجسر.. فطرق ابن سويد الأبواب مبشرًا.. جاء من جاء.. وغاب من غاب.. رأوا التابوت مطروحًا أمامهم.. يا للفجيعة.. إمامنا مسموم.. قتله هارون.. إمامٌ بعد إمام، ومصلحٌ بعد مصلح.. وسؤال الشيعة الأبرز والمتجدد.. مَنْ بعدَه؟! ليتنا نقول: نهلك ولا نبقى بعدك..

اخرى
منذ 4 سنوات
278

أريج التوبة مع الإمام الكاظم (عليه السلام) (٢)

بقلم: عبير المنظور العشقُ سجدةٌ! بارعةُ الجمال، فائقةُ الحسن، فاتنةٌ ذات غنج ودلال، لا يستطيع رجل أن يفلتَ من سيف لحظي القاتل، أقوى الرجال وأشرسهم واغناهم كانوا يركعون تحت قدمي بنظرة واحدة مني، ويسجدون لأرضى عنهم، هكذا أنا ومن على شاكلتي، نفخر بعدد ضحايانا من الرجال وركوعهم وسجودهم أمام جمالنا الوضّاء. طارَ لُبّي عندما أخبرني أحدهم بأن الخليفة العباسي هارون يستدعيني، ويأمرني بأن أقابله وأنا في أبهى حلة وزينة وعطر، امتثلت مسرعة للأمر. غمرتني السعادة حتى كاد قلبي يخرج من قفصي الصدري فرحاً وأنا أدخل على الخليفة. دخلتُ على هارون وكُلّي أمل بأن يجعلني محظية عنده، استبشرتُ خيراً عندما تفحّصني مبتسماً من أعلى رأسي حتى أخمص قدميّ، عندها أمر الخادم بان يأخذني إلى السجن! تحيّرت وانعقد لساني من الذهول، أيُّ سجن هذا؟ ولماذا؟ كنتُ على وشك الانفجار حتى علمتُ أنهم يستخدمونني لإغواء احد السجناء بحجة خدمته! رغم انني ذُهلتُ أيضاً لهذه المهمة الغريبة، ومن هو هذا السجين الذي يود الخليفة أن يجعلني خادمة له ليفتنه بالنساء واللهو وهو في قعر السجن! ولماذا؟ وسرعان ما طردت هذه الأفكار من رأسي، المهم إنني سأدخل السجن أؤدي مهمة اعتدتها ولن أُطيلَ المقام كثيراً فأنا لستُ سجينة، ومهما كان السجين فإنه سيركع ويسجد أمام جمالي بسرعة وسيزداد عدد ضحاياي. ذهبت مع الخادم إلى السجن وكان سجناً مظلماً ضيقاً خانقاً، امتعضتُ للوهلة الاولى، كيف سأبقى في هذا السجن؟! وما كان يُطمئن قلبي أنني لن أُطيل المكوث هنا، فأي سجين في هذا السجن المخيف يرفض امرأة بارعة الجمال تخدمه وتقضي حوائجه! تشتّتْ أفكاري هذه على صوت فتح باب الزنزانة، دخلت الزنزانة وإذا بي أرى رجلاً مقيداً بالسلاسل والأغلال، عليه سيماء الصالحين، ففي وجهه نور لم ألحظهُ أبداً في ضحاياي، كنتُ أتأملُ ذلك النور حينما أخبره الخادم بأنني هدية الخليفة إليه لأخدمه في السجن، كنتُ أظن أنني سأراهُ مبتهجاً لهذه الهدية. فوجئتُ كثيراً عندما قال له: قل لهارون: بل أنتم بهديتكم تفرحون، لا حاجة لي في هذه وأمثالها. استشطتُ غضباً منه كيف يرفض هدية الخليفة؟! وأي هدية! أنا فاتنة الرجال؟! تحيّرتُ في أمره مَنْ يكون؟ خرجتُ من الزنزانة وعباب الأفكار يلـّفُ رأسي، لا أُنكِرُ أنني أعجبتُ بقوة إرادته رغم أغلاله وقيوده وزنزانته، ولكنني غضبت لرفضه، وغضب هارون أيضاً، فقال للخادم قل له: ليس برضاك حبسناك ولا برضاك أخدمناك، واترك الجارية عنده وانصرف. أُعجبتُ بمقالة هارون وصمـّمتُ على إغواء ذاك السجين، وكأن الأمر أصبح تحدياً بيني وبينه. عدتُ إلى الزنزانة مجدداً وعزمتُ على تنفيذ المهمة في أسرع وقت. بقيت واقفة عندما كان السجين منقطعاً في صلاته ما بين ركوع وسجود، وكان يطيل السجود كثيراً، فغضبتُ لأنني اعتدت أن يركع الرجال ويسجدون تحت قدمي. وقفتُ كثيراً وطال وقوفي وهو يصلي ليله ونهاره، فلما انصرف من صلاته وهو يسبح الله ويقدسه قلت له: هل لك حاجة أعطيكها؟ فقال: وما حاجتي إليكِ؟ قلتُ: إني أُدخلت عليكَ لحوائجك. فقال: فما بال هؤلاء؟ - وأشار بيده إلى جهة- فالتفتُّ فاذا روضة مزهرة لا أبلغ آخرها من أولها بنظري، ولا أولها من آخرها، فيها مجالس مفروشة بالوشي والديباج، وعليها وصفاء ووصايف لم أرَ مثل وجوههنّ حسناً، ولا مثل لباسهنّ لباساً، عليهن الحرير الأخضر، والأكاليل والدر والياقوت، وفي أيديهن الأباريق والمناديل، ومن كل الطعام، وإني لمّا عاينت من الأمر نادتني الجواري: يا فلانة ابتعدي عن العبد الصالح حتى ندخل عليه فنحن له دونك. فوقعتُ ساجدة لعظيم ما رأيت لا أرفع رأسي وأردد: قدوس سبحانك سبحانك. لم أشعر إلا وقبضة الخادم الذي أمره هارون بمراقبتي مع ذلك السجين تجرجرني إلى الخليفة الذي كان يستشيط غضباً وهو يقول: سحرها والله موسى بن جعفر، عليَّ بها. أتيتهُ وأنا أرتعدُ وقد شَخَصْتُ ببصري نحو السماء وأنا أذكر الله وأمجّده، فسألني هارون: ما شأنكِ؟ قلتُ: شأني شأن البديع، وقصصتُ عليه ما رأيت. قال لي: يا خبيثة لعلّك سجدتِ، فنمتِ فرأيتِ هذا في منامك! قلت: لا والله يا سيدي، رأيتُ هذا قبل سجودي، فسجدتُ من أجل ذلك. فقال الرشيد الخادم: اقبضْ هذه الخبيثة إليك، فلا يُسمع منها هذا. واعتقلني الخادم عنده، فأقبلتُ على العبادة والصلاة، فاذا سُئلتُ عن ذلك قلتُ: هكذا رأيت العبد الصالح(١). ولم تمر أيام قليلة حتى سمعتُ بنبأ وفاة العبد الصالح. فتأثرتُ كثيرا، فلم يكن العبد الصالح مجرد رجل مرّ في حياتي لم يأبه لجمالي وفتنتي، بل لأنني عشتُ بفضله لحظة مقارنة تأملتُ فيها دناءة نفسي مع تلك النفوس القدسية. ولأنني عرفتُ على يديه معنى الحرية الحقيقية، تلك الحرية التي تكمن في الروح وترفض أغلال الظالمين وسلاسلهم وزنازينهم وترفض اتّباع الشهوات، نعم وجدتُ الحرية هنا بين هذه القضبان! متجسّدة في العبد الصالح موسى بن جعفر. عرفتُ على يديه الكريمتين معنى الصلاة بالركوع والسجود الحقيقي، سجود العبودية لله هو حرية الانسان الحقة من سلاسل الذات والمال والجمال والشهوة والسلطة وغيرها، عرفتُ كيف يُسلّم ُالإنسان لأمر ربه بيقين وتوكل، ومهما ضاقت عليه السبل ظاهرياً إلا أنه في نعمة باطنة لا يعلمها إلا الله والراسخون في العلم. عرفتُ تلك الحقيقة عندما رأيت نعيم الجنة للعبد الصالح وهو حبيس هذه الزنزانة. عرفتُ كم كنتُ بشعة وحقيرة ورخيصة ومتهتكة أمام جمال الحور العين اللاتي رأيتهن وهن يبعدنني عن العبد الصالح لأنني قد لوثتُ نفسي بالمعاصي والذنوب واصطياد عيون وقلوب الرجال وغرائزهم، وافتخاري بذلك على بقية الجواري أمثالي! كانتْ لحظة غيرّتْ مسار حياتي وفكري وعقيدتي وروحي، لحظة جعلتني أُدركُ الحقيقة، حقيقة أن لكل سوق بضاعة والبضاعة لها ثمن، إلا نحن النساء اللاهيات العابثات، فنحن السوق ونحن البضاعة ونحن الثمن! مهما ركع الرجال بين أقدامنا نبقى في الحضيض وفي قعر سجن الذات والشهوات. لم أَعُدْ سوقاً ولا بضاعة ولا ثمناً بخساً للذئاب البشرية، فقد تعلمتُ من مولاي العبد الصالح أن الدنيا سوق والجنة هي البضاعة والثمن هو عملنا الصالح والعبادة الحقيقية. فوقعت ساجدةً سجدةَ عشقٍ أَعلنتُ بها توبتي الى الله مما كنتُ عليه وبدأت صفحة النقاء والعفة والانقطاع إليه تعالى. كانت أعظم دروس توبتي هي معرفة معنى السجود من مولاي صاحب السجدة الطويلة والدمعة الغزيرة. فالآن عرفتُ لماذا كان يطيل العبد الصالح السجود، فقد كان منقطعاً برفقة من أحبّ في محراب العشق الإلهي. يا بنات حواء، هذه قصة توبتي بين أيديكن، اقرأْنها بقلوبكن، فمهما تغيّرت الحياة عبر قرون وقرون، تبقى المرأة مرأة بكل جمالها وعنفوان أحاسيسها ومشاعرها المندفعة والمترعة بالعاطفة. لا تُحوّلنَ عواطفكن إلى سوق أنتن فيه البضاعة والثمن، كُنَّ بضاعةً في سوق العفاف وثمنكن الكرامة، فالله قد أكرمكن في الدنيا والاخرة، فالمرأة الصالحة في الدنيا خير من الحور العين في الجنة. _____________________ (١) أنظر مناقب آل أبي طالب، إبن شهر آشوب، ج٣ ، ص٤١٥.

اخرى
منذ 4 سنوات
2794

همساتُ الأرز (الحلقة الأولى)

بقلم: علوية فاطمية حسينية مهدوية في صباحِ يومِ الاثنينِ، في الساعة العاشرة صباحًا، كنتُ حائرةً ماذا أطهو من الطعام للغداء، فكّرتُ مليًا، ثم التفتُّ فوقعَ نظري على كيس الأرز، أتصدقون شيئًا، أحسستُ أنّ الأرز يُكلِّمُني ويترجاني أنْ اقتربَ منه لأكلِّمه، فلم يكنْ بي إلا أنْ رضختُ لطلبه فجلبتُ إناءً وأخذتُ حفنةً منه؛ لأبدأ بتنظيفِه حبةً حبة. لكنّي اليومَ لم أشعرْ بالضجر أو الملل من تنظيفِه، كانتِ الأجواءُ جميلةً برفقتهِ، فقد كُنّا نتكلمُ سويًا، ونبثُّ شكوانا، ونُحلِّلُ الأمورَ بدقةٍ متناهيةٍ لنصلَ إلى الحلِّ بكلِّ هدوء. وبينما أنا على هذه الحالة وإذا بي أسترجعُ شريطَ حياتي برفقةِ العائلةِ الكريمة، تذكّرتُ مواقفَ أمّي وأبي، وكيف كانوا يعاملونَ الناسَ برحمةٍ وإنسانيةٍ، وكم كنتُ مشاغبةً في صغري، لكن لم ينمُ العداءُ في قلبي، بل ظلّتْ أمّي تنصحني من جانبٍ، وأبي من جانبٍ آخر حتى أشعرَ بالندمِ على ما اقترفت. كان غذائي الحُبَّ والتعاونَ، لم تكنْ تعليماتُهم مجردَ كلماتٍ بل كانوا يُطبقونها أمامَنا تارةً وخلفَنا تارةً أخرى، وكُنّا نسمعُ عنهما كلَّ جميل. كان نُصحُهم لنا بسلوكٍ عمليٍ أكثر مما هو كلامٌ نظري، حين يرون من يحتاج إلى العونِ كانوا سبّاقين لتقديم المساعدة، ومن وقعَ بشدّةٍ هم أولُ من يُنقذه, يواسونَ المحزون ويخففون عنه حزنه، وينفسون عن المكروب كربه. لقد كان بيتُنا محطَّ رحالِ الفقير والمحتاج، كانتِ الطيبةُ والإيمانُ يشعّان منه، فلم تقُلْ لي أمّي اقرئي دعاءً أو قرآنًا، بل رأيتُ دموعَها تنهمرُ وهي على سجادةِ الصلاة مُردِّدةً إلهي كيف أصبِرُ على فراقك، إلهي من لي غيرك. ولعشقِ مناجاةِ محبوبِها كانت تستيقظُ في ظلمِ الليالي لمناجاته والتكلم معه، كان حُسنُ ظنِّها بالمعبودِ الأوحد والتوكّل عليه في كلِّ أمورِها ديدنها. لم تسأمْ من نثرِ الحُبِّ والوئام، كأنّها نسمةُ هواءٍ لطيفةٍ، لم تخدعْ، ولم تغدرْ، وكذا كان السيّدُ الوالد.. كنتُ أرى رأفتهم وإحسانهم، وبالمقابلِ لم أرَ ردَّ جميلِهم إلا بنكرانه، لكن قلوبهم لم تقسُ وظلتْ تُردِّدُ: نحنُ نفعل لله، لا نريدُ جزاءً ولا شكورًا، كما كان يُردِّدُ عليٌّ (عليه السلام) وفاطمة (عليها السلام) ... ما أجملَ ذاكَ البيتُ وأحلاه، كان يشعُّ بالنورِ المُستمَدِّ من نورِ بيتِ آلِ محمدٍ (عليهم أفضل الصلاة والسلام)، ويُضيءُ لأهلِ السماء كما تُضيءُ النجومُ لأهل الأرض. فصرتُ أنا القمرُ المنيرُ في العُتمةِ بعدما اكتسبتُ أفضلَ الصفاتِ وأحلاها من أُمّي وأبي، وأصبحتُ بفضلِهم شخصًا سويًا، لا أعاني من أمراضٍ نفسيةٍ أو أخلاقيةٍ أو سلوكيةٍ، بل إنسانٌ مستقرٌ احترمُ الغيرَ وأعيشُ مع الناس كالوردِ الذي ينثرُ عطرَه أينما حلَّ ويُجمِّلُ المكان، ومع كلِّ ميلانٍ بين النسيم أردِّدُ: يا مهدي!. بعد كلِّ هذهِ الذكرياتِ الجميلة أدركتُ أنَّ الإقدامَ على الزواجِ ليس أمرًا سهلًا أبدًا قبل اختيارِ الشريكِ والبحث في الصفاتِ الجيّدةِ، كما لابُدَّ أنْ التفتُ لنفسي أولًا وأراقبَ سلوكياتي وأصححها، ومن ثم افكرُ لاختيار الأنيس. فالولدُ الصالحُ المطيعُ من يسعدُ مهدي روحي، لا ينشأ أو يتربى في الشارع والمدرسة، بل يتربّى بحجري وحجرِ رفيقِ الدرب، ومن خلالِ صفاتي وسلوكياتي سينشأ ويتغذّى على الصلاح والفلاح. إنْ أردتُ أنْ أعلّمَه على الصلاة فلابُدَّ لي أنْ أتذوقَ لذّةَ الأنسِ وأحِبُّ الكلامَ مع الطبيب، وحين يقتربُ موعدُ الأذانِ أتركُ كلَّ شيءٍ وأهرولُ للقاءِ المعشوق، وأبين لهم مدى حبي وشوقي للصلاة ومخاطبةً إلهي الحبيب، لابُدّ أنْ أعكسَ روحيةَ العبادةِ وأجعلهم يعيشون في جوٍ إيمانيِ ينبضُ بالحبِّ. إذنْ لابُدّ من التطبيقِ بحُبٍّ وشوقٍ، كي يقتنعَ الأبناءُ فيعبدون الله (تعالى) بحُبٍّ دون ضغطٍ أو تهديد، وليصدقوا بأنَّ أباهم هائمٌ بربِّ الوجودِ ولا يبتغي إلا رضاه والقرب منه، وأنّ صلاته قد قُبِلَت من المعبود؛ لأنّه قد صلّى بنيةٍ خالصةٍ لوجهِ الله (سبحانه)، والدليلُ على ذلك هو انعكاسها على أفعاله وتصرفاته، أ فليست الصلاةُ تنهى عن الفحشاء والمنكر؟! وكذا صلاتي تدلُّ على قبولها سيرتي الحسنة، فيفتخر بي أبنائي. وسأصِرُّ على بناءِ النفس، والاستزادةِ من العلمِ والمعرفةِ وأطوّرَ قدراتي، وأقرأ أنواع الكتب، ومن ضمنِها الخاصةُ بالأسرةِ وتربيةِ الأبناء؛ لأكونَ على قدر المسؤولية، وأحافظُ على الأمانةِ التي أعطيت لي من قبلِ الله (سبحانه وتعالى)، وشرّفني بها. ورحتُ أتأملُ بأبوّةِ الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأميري علي (عليه السلام)، وكيفَ أنّهما ربّيا الناس وأنقذوهما من الضلالة، فها هما أبوا هذه الأمة قد نشرا الإسلام ورفعا راية( لا إله إلا الله) عاليًا رغم إحاطتهما بقلوبٍ قاسيةٍ أشدُّ قسوةً من الحجارة. فكيف لا أستطيعُ رفعَ الرايةِ عاليًا في بيتي وأنا أتعاملُ مع قلوبٍ رقيقة لم تُلوَّثْ بعدُ بالأرجاس؟! لا. .. يُمكنني ذلك ولكن لابُدَّ من الصبرِ والثباتِ وزيادةِ القرب من الله (تعالى). فالسرُّ في نجاحِ أبوّةِ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والأمير علي (عليه السلام) هو طهارةُ النفسِ وسلامةُ القلب، وفعلُ كلَّ شيءٍ من أجله ولأجله.

اخرى
منذ 3 سنوات
287

التعليقات

يتصدر الان

لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع

يستشهد الكثير من الناس ــ وحتى بعض المثقفين ــ بقول:" لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع فإن الخير فيها دخيل وعاشر نفساً جاعت بعد شبع فإن الخير فيها أصيل" على أنه من أقوال أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، كما يستشهدون أيضاً بقولٍ آخر ينسبونه إليه (عليه السلام) لا يبعد عن الأول من حيث المعنى:"اطلبوا الخير من بطون شبعت ثم جاعت لأن الخير فيها باق، ولا تطلبوا الخير من بطون جاعت ثم شبعت لأن الشح فيها باق"، مُسقطين المعنى على بعض المصاديق التي لم ترُق افعالها لهم، لاسيما أولئك الذين عاثوا بالأرض فساداً من الحكام والمسؤولين الفاسدين والمتسترين عل الفساد. ونحن في الوقت الذي نستنكر فيه نشر الفساد والتستر عليه ومداهنة الفاسدين نؤكد ونشدد على ضرورة تحرّي صدق الأقوال ومطابقتها للواقع وعدم مخالفتها للعقل والشرع من جهة، وضرورة التأكد من صدورها عن أمير المؤمنين أبي الأيتام والفقراء (عليه السلام) أو غيرها من المعصومين (عليهم السلام) قبل نسبتها إليهم من جهة أخرى، لذا ارتأينا مناقشة هذا القول وما شابه معناه من حيث الدلالة أولاً، ومن حيث السند ثانياً.. فأما من حيث الدلالة فإن هذين القولين يصنفان الناس الى صنفين: صنف قد سبق له أن شبع مادياً ولم يتألم جوعاً، أو يتأوه حاجةً ومن بعد شبعه جاع وافتقر، وصنف آخر قد تقلّب ليله هماً بالدين، وتضوّر نهاره ألماً من الجوع، ثم شبع واغتنى،. كما جعل القولان الخير متأصلاً في الصنف الأول دون الثاني، وبناءً على ذلك فإن معاشرة أفراد هذا الصنف هي المعاشرة المرغوبة والمحبوبة والتي تجرّ على صاحبها الخير والسعادة والسلام، بخلاف معاشرة أفراد الصنف الثاني التي لا تُحبَّذ ولا تُطلب؛ لأنها لا تجر إلى صاحبها سوى الحزن والندم والآلام... ولو تأملنا قليلاً في معنى هذين القولين لوجدناه مغايراً لمعايير القرآن الكريم بعيداً كل البعد عن روح الشريعة الاسلامية ، وعن المنطق القويم والعقل السليم ومخالفاً أيضاً لصريح التاريخ الصحيح، بل ومخالف حتى لما نسمعه من قصص من أرض الواقع أو ما نلمسه فيه من وقائع.. فأما مناقضته للقرآن الكريم فواضحة جداً، إذ إن الله (تعالى) قد أوضح فيه وبشكلٍ جلي ملاك التفاضل بين الناس، إذ قال (عز من قائل):" يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)"(1) جاعلاً التقوى مِلاكاً للتفاضل، فمن كان أتقى كان أفضل، ومن البديهي أن تكون معاشرته كذلك، والعكس صحيحٌ أيضاً. وعليه فإن من سبق حاجتُه وفقرُه شبعَه وغناه يكون هو الأفضل، وبالتالي تكون معاشرته هي الأفضل كذلك فيما لو كان تقياً بخلاف من شبع وكان غنياً ، ثم افتقر وجاع فإنه لن يكون الأفضل ومعاشرته لن تكون كذلك طالما كان بعيداً عن التقوى. وأما بُعده عن روح الشريعة الإسلامية فإن الشريعة لطالما أكدت على أن الله (سبحانه وتعالى) عادلٌ لا جور في ساحته ولا ظلمَ في سجيته، وبالتالي لا يمكن أن يُعقل إطلاقاً أن يجعل البعض فقيراً ويتسبب في دخالة الخير في نفوسهم، التي يترتب عليها نفور الناس من عشرتهم، فيما يُغني سواهم ويجعل الخير متأصلاً في نفوسهم بسبب إغنائه إياهم ليس إلا ومن ثم يتسبب في كون الخير متأصلاً في نفوسهم، وبالتالي حب الناس لعشرتهم. فإن ذلك مخالف لمقتضى العدل الإلهي لأنه ليس بعاجزٍ عن تركه ولا بمُكره على فعله، ولا محب لذلك لهواً وعبثاً (تعالى عن كل ذلك علواً كبيراً). كما إن تأصل الخير في نفوس بعض الناس ودخالته في نفوس البعض الآخر منهم بناءً على أمر خارج عن إرادتهم واختيارهم كـ(الغنى والشبع أو الجوع والفقر) إنما هو أمرٌ منافٍ لمنهج الشريعة المقدسة القائم على حرية الانسان في اختياره لسبيل الخير والرشاد أو سبيل الشر والفساد، قال (تعالى):" إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)"(2) بل إن الانسان أحياناً قد يكون فقيراً بسبب حب الله (تعالى) له، كما ورد في الحديث القدسي: "أن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى فلو أفقرته لأفسده ذلك و أن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر فلو أغنيته لأفسده ذلك"(3) وهل يمكن ان نتصور أن الخيرَ دخيلٌ فيمن يحبه الله (تعالى) أو إن معاشرته لا تجدي نفعا، أو تسبب الهم والألم؟! نعم، ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"اِحْذَرُوا صَوْلَةَ اَلْكَرِيمِ إِذَا جَاعَ وَ اَللَّئِيمِ إِذَا شَبِعَ"(4) ولا يقصد به الجوع والشبع المتعارف عليه لدى الناس، وإنما المراد منه: احذروا صولة الكريم إذا اُمتُهِن، واحذروا صولة اللئيم إذا أكرم، وفي هذا المعنى ورد عنه (عليه السلام) أيضاً: "احذروا سطوة الكريم إذا وضع و سورة اللئيم إذا رفع"(5) وأما العقل السليم والمنطق القويم فإنهما يقتضيان أن تتأصل صفة الخير في الإنسان لملكاتٍ حميدة يتسم بها وصفات فضيلة يتميز بها، لا أن تتأصل صفة الخير في نفسه لمجرد أنه ولد في أسرة تتمتع بالرفاهية الاقتصادية ووجد في بيئة تتنعم بالثروات المادية! وعند مراجعتنا للتاريخ الصحيح نجد أن قادة البشر وصفوة الناس إنما كان أغلبهم ينتمي الى الطبقات الفقيرة من المجتمع، فهؤلاء الأنبياء ورسل الله (صلوات الله عليهم) منهم من كان نجاراً أو خياطاً أو راعياً، ومع ذلك فقد كانوا من أطيب الناس خلقاً، وأعظمهم شرفاً، وأرفعهم منزلةً، قد تأصّل الخير في نفوسهم تأصّلاً حتى غدوا قطعة منه، فكانوا هم الخير للبشر، وهم الرحمة للعالمين. وبالنزول إلى أرض الواقع نجد أن الكثير من الفقراء والمساكين طيبي الروح، كريمي النفس، يتألمون لألم المحتاج ولربما يؤثرونه على أنفسهم رغم حاجتهم. ولا نقصد من كلامنا هذا أن الأغنياء هم على نقيض ذلك، وإنما تأكيداً على مسألة عدم ارتباط تأصل الخير في النفوس وعدمه بمستواهم الاقتصادي الذي نشأوا فيه ارتباط العلة والمعلول، فكما إن بعض الفقراء أخيار، فإن بعض الأغنياء كذلك، والعكس صحيح أيضاً. ومن هنا يُفهم من بعض الروايات ضرورة عدم طلب الخير والحاجات ممن هم أهل للخير بقطع النظر عن مستواهم المعاشي الحالي والسابق، منها ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"أشد من الموت طلب الحاجة من غير أهلها"(5)، وعنه (عليه السلام) أيضاً: "فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غير أهلها"(6) إذن فلا صحة لهاتين المقولتين من حيث الدلالة، حتى وإن تنزلنا وحملنا الجوع والشبع على المعنى المعنوي لا المادي؛ وذلك لأنه حتى من يفتقر الى الأخلاق المعنوية فإنه ما إن يتكامل بالفضائل ويقلع عن الرذائل حتى يتسم بالخير وتحسن عشرته وتطيب للناس صحبته، والعكس صحيحٌ أيضا.. ومن البديهي أن ما لا يوافق العقل والمنطق السليم، ويخالف صريح القرآن الكريم، لا يمكن أن يصدر من وصي الرسول الكريم (صلوات الله عليهما وآلهما)، وعليه لا تصح نسبة هذين القولين الى أمير المؤمنين (عليه السلام).. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الحجرات 13 (2) الانسان 3 (3) عوالي الآلي ج2 ص29 (4) غرر الحكم ج1 227 (5) المدر السابق ج1 ص246 (6) ميزان الحكمة ج4 ص 238 رضا الله غايتي

اخرى
منذ 5 سنوات
69405

بين طيبة القلب وحماقة السلوك...

خلق الله الأشياء كلها في الحياة ضمن موازين وقياسات... فالزيادة أو النقيصة تسبب المشاكل فيها. وهكذا حياتنا وأفعالنا وعواطفنا لا بد أن تكون ضمن موازين دقيقة، وليست خالية منها، فالزيادة والنقيصة تسبب لنا المشاكل. ومحور كلامنا عن الطيبة فما هي؟ الطيبة: هي من الصفات والأخلاق الحميدة، التي يمتاز صاحبها بنقاء الصدر والسريرة، وحُبّ الآخرين، والبعد عن إضمار الشر، أو الأحقاد والخبث، كما أنّ الطيبة تدفع الإنسان إلى أرقى معاني الإنسانية، وأكثرها شفافية؛ كالتسامح، والإخلاص، لكن رغم رُقي هذه الكلمة، إلا أنها إذا خرجت عن حدودها المعقولة ووصلت حد المبالغة فإنها ستعطي نتائج سلبية على صاحبها، كل شيء في الحياة يجب أن يكون موزوناً ومعتدلاً، بما في ذلك المحبة التي هي ناتجة عن طيبة الإنسان، وحسن خلقه، فيجب أن تتعامل مع الآخرين في حدود المعقول، وعندما تبغضهم كذلك وفق حدود المعقول، ولا يجوز المبالغة في كلا الأمرين، فهناك شعرة بين الطيبة وحماقة السلوك... هذه الشعرة هي (منطق العقل). الإنسان الذي يتحكم بعاطفته قليلاً، ويحكّم عقله فهذا ليس دليلاً على عدم طيبته... بالعكس... هذا طيب عاقل... عكس الطيب الأحمق... الذي لا يفكر بعاقبة أو نتيجة سلوكه ويندفع بشكل عاطفي أو يمنح ثقة لطرف معين غريب أو قريب... والمبررات التي يحاول إقناع نفسه بها عندما تقع المشاكل أنه صاحب قلب طيب. الطيبة لا تلغي دور العقل... إنما العكس هو الصحيح، فهي تحكيم العقل بالوقت المناسب واتخاذ القرار الحكيم الذي يدل على اتزان العقل، ومهما كان القرار ظاهراً يحمل القسوة أحياناً لكنه تترتب عليه فوائد مستقبلية حتمية... وأطيب ما يكون الإنسان عندما يدفع الضرر عن نفسه وعن الآخرين قبل أن ينفعهم. هل الطيبة تصلح في جميع الأوقات أم في أوقات محددة؟ الطيبة كأنها غطاء أثناء الشتاء يكون مرغوباً فيه، لكنه اثناء الصيف لا رغبة فيه أبداً.. لهذا يجب أن تكون الطيبة بحسب الظروف الموضوعية... فالطيبة حالة تعكس التأثر بالواقع لهذا يجب أن تكون الطيبة متغيرة حسب الظروف والأشخاص، قد يحدث أن تعمي الطيبة الزائدة صاحبها عن رؤيته لحقيقة مجرى الأمور، أو عدم رؤيته الحقيقة بأكملها، من باب حسن ظنه بالآخرين، واعتقاده أن جميع الناس مثله، لا يمتلكون إلا الصفاء والصدق والمحبة، ماي دفعهم بالمقابل إلى استغلاله، وخداعه في كثير من الأحيان، فمساعدة المحتاج الحقيقي تعتبر طيبة، لكن لو كان المدّعي للحاجة كاذباً فهو مستغل. لهذا علينا قبل أن نستخدم الطيبة أن نقدم عقولنا قبل عواطفنا، فالعاطفة تعتمد على الإحساس لكن العقل أقوى منها، لأنه ميزان يزن الأشياء رغم أن للقلب ألماً أشد من ألم العقل، فالقلب يكشف عن نفسه من خلال دقاته لكن العقل لا يكشف عن نفسه لأنه يحكم بصمت، فالطيبة يمكن أن تكون مقياساً لمعرفة الأقوى: العاطفة أو العقل، فالطيّب يكون قلبه ضعيفاً ترهقه الضربات في أي حدث، ويكون المرء حينها عاطفياً وليس طيباً، لكن صاحب العقل القوي يكون طيباً أكثر من كونه عاطفياً. هل الطيبة تؤذي صاحبها وتسبب عدم الاحترام لمشاعره؟ إن الطيبة المتوازنة المتفقة مع العقل لا تؤذي صاحبها لأن مفهوم طيبة القلب هو حب الخير للغير وعدم الإضرار بالغير، وعدم العمل ضد مصلحة الغير، ومسامحة من أخطأ بحقه بقدر معقول ومساعدة المحتاج ... وغيرها كثير. أما الثقة العمياء بالآخرين وعدم حساب نية المقابل وغيرها فهذه ليست طيبة، بل قد تكون -مع كامل الاحترام للجميع- غباءً أو حماقة وسلوكاً غير عقلاني ولا يمت للعقل بصلة. إن المشكلة تقع عند الإنسان الطيب عندما يرى أن الناس كلهم طيبون، ثم إذا واجهه موقف منهم أو لحق به أذى من ظلم أو استغلال لطيبته، تُغلق الدنيا في وجهه، فيبدأ وهو يرى الناس الطيبين قد رحلوا من مجتمعه، وأن الخير انعدم، وتحصل له أزمة نفسية أو يتعرض للأمراض، لأن الطيّب يقدم الإحسان للناس بكل ما يستطيع فعله، ويقدّم ذلك بحسن نية وبراءة منه، فهو بالتالي ينتظر منهم الرد بالشكر أو المعاملة باللطف على الأقل... صحيح أن المعروف لوجه الله، ولكن من باب: من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق، لذلك يتأذى عندما يصدر فعل من الشخص الذي كان يعامله بكل طيب وصدق. هل الطيبة والصدق من علامات ضعف الشخصية؟ الكثير من الناس يصف طيب القلب بأنه ضعيف الشخصية، لأنه يتصف بعدم الانتقام ممن ظلمه، والصفح عنه عند رجوعه عن الخطأ، وأنه لا يحب إيقاع الآخرين بالمشاكل؛ لأنه مقتنع أن الله سيأخذ له حقه. والحقيقة هي أن الصدق والطيبة وحسن الظن بالآخرين ليست ضعف شخصية، بل هي من الأخلاق الراقية وهي تزيد صاحبها سمواً وجمالاً روحياً، وليس من المعيب أن يمتلك الإنسان الطيبة بل العيب في من لا يُقدّر هذه الطيبة ويعطيها حقها في التعامل بالمثل. فالمشكلة الأساسية ليست في الطيبة، إنما في استغلال الآخرين لهذه الطيبة، نتيجة لعدم عقلنة قراراتنا والاعتماد على عواطفنا بشكل كلي. فالصدق والطيبة حسب المنطق والعقل، ولها فوائد جمة للنفس ولعموم أفراد المجتمع، فهي تحصين للشخص عن المعاصي، وزيادة لصلة الإنسان بربه، وتهذيب للنفس والشعور بالراحة النفسية، فالصادق الطيب ينشر المحبة بين الناس، وهذا يعزّز التماسك الاجتماعي وتقويته من سوء الظنون والحقد، وهذا التعامل أكّدت عليه جميع الشرائع السماوية، ولو تأمّلنا تاريخ وأخلاق الأنبياء والأوصياء لوجدنا كل ما هو راقٍ من الأخلاق والتعامل بالطيبة والصدق... حنان الزيرجاوي

اخرى
منذ 5 سنوات
50336

الطلاق ليس نهاية المطاف

رحلةٌ مثقلة بالألم في طريق يئن من وطأة الظلم! ينهي حياة زوجية فشلت في الوصول إلى شاطئ الأمان. ويبدد طموحات أطفال في العيش في هدوء نفسي واجتماعي تحت رعاية أبوين تجمعهم المودة والرحمة والحب. الطلاق شرعاً: هو حل رابطة الزواج لاستحالة المعاشرة بالمعروف بين الطرفين. قال تعالى: [ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)].(١). الطلاق لغوياً: من فعل طَلَق ويُقال طُلقت الزوجة "أي خرجت من عصمة الزوج وتـحررت"، يحدث الطلاق بسبب سوء تفاهم أو مشاكل متراكمة أو غياب الانسجام والحب. المرأة المطلقة ليست إنسانة فيها نقص أو خلل أخلاقي أو نفسي، بالتأكيد إنها خاضت حروباً وصرعات نفسية لا يعلم بها أحد، من أجل الحفاظ على حياتها الزوجية، ولكن لأنها طبقت شريعة الله وقررت مصير حياتها ورأت أن أساس الـحياة الزوجيـة القائم على المودة والرحـمة لا وجود له بينهما. فأصبحت موضع اتهام ومذنبة بنظر المجتمع، لذلك أصبح المـجتمع يُحكم أهواءه بدلاً من الإسلام. ترى، كم من امرأة في مجتمعنا تعاني جرّاء الحكم المطلق ذاته على أخلاقها ودينها، لا لسبب إنما لأنها قررت أن تعيش، وكم من فتاة أُجبرت قسراً على أن تتزوج من رجل لا يناسب تطلعاتها، لأن الكثير منهن يشعرن بالنقص وعدم الثقة بسبب نظرة المجتمع، وتقع المرأة المطلّقة أسيرة هذه الحالة بسبب رؤية المجتمع السلبيّة لها. وقد تلاحق بسيل من الاتهامات وتطارد بجملة من الافتراءات. وتعاني المطلقة غالباً من معاملة من حولها، وأقرب الناس لها، بالرغم من أن الطلاق هو الدواء المر الذي قد تلجأ إليه المرأة أحياناً للخلاص من الظلم الذي أصبح يؤرق حياتها الزوجية، ويهدد مستقبلها النفسي، والله تعالى لم يشرع أمراً لخلقه إلا إذا كان فيه خير عظيم لهم، والطلاق ما شرّع إلا ليكون دواء فيه شفاء وإن كان مرّاً، وإن كان أمره صعباً على النفوس، حيث قال عز وجل: "وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا"، روي عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) ((أبغض الحلال إلى الله الطلاق) (٢). ورغم أن الشريعة الإسلامية أباحت الطلاق بشروط تلاءم لبناء المجتمع، وأولت أهمية في الإحسان دائمًا للطرف الأضعف والأكثر خسارة في هذه المعادلة وهي "المرأة"، إلا أن المجتمع الذي يدّعي الإسلام لا يرحمها، ويحكم عليها بالإدانة طوال حياتها دون النظر في صحة موقفها في الطلاق من عدمه! قال( تعالى ): [الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] (٣). ولكن بعد كل هذا فالحياة لم ولن تتوقف بعد الطلاق! الطلاق ليس نهاية الحياة. - أخيتي. ليكن الطلاق بداية جديدة لحياة جديدة وللانطلاق. -قطار العطاء لن يتعطل. فإن كنت السبب في الطلاق فالحمد لله على كل حال وتلك أمة قد خلت وأيام ذهبت وانجلت فلست بالمعصومة من الخطأ. وعليك استدراك الأخطاء وتقوية مواطن الضعف في شخصيتك، واجعليها درساً مفيداً في الحياة لتطوير نفسك وتقويتها. وإذا كنتِ مظلومة فهناك جبار يُحصي الصغير والكبير وسيأتي يوم ينتصر لك فيه. -ومن الجميل أن تعطي نفسك الإحساس بالحب والاحترام، ولا تتأثري بأي نظرة سلبية من المجتمع وكون البعض يتعامل مع المطلقة على أنها حالة خاصة فعليكِ إثبات ذاتك حتى تفرضي على الكل شخصيتك. - نظرتك لنفسك اجعليها نظرة ايجابية مشرقة ولا تنزلقي في مستنقع نبذ الذات وظلم النفس. - ابحثي عن الصفات الجيدة فيك فإن ذلك سيشعرك بالثقة في ذاتك والتقدير لها. -حاولي مراجعة نفسك للخروج بإيجابيات حصلت لك من طلاقك. - خالطي الآخرين وإياك والعزلة بسبب وضعك الجديد فلست بأول من يبتلى بالطلاق. -استمتعي بالموجود ولا تتعلقي بالمفقود، حلقي بروح تعبق أملاً وتفاؤلاً، استمتعي بما وهبك الله من نعم (صحة وأولاد وأهل وصديقات وعمل وهوايات وغيرها من الأمور الجميلة) فما حصل لك حصل… ولابد أن تتقبليه برضا، وأعلمي أن ما أصابك لم يكن ليخطأك وما أخطأك لم يكن ليصيبك. وقال أصدق من قال: ( وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم). فالرضا سر السعادة الحقيقي. - اقتربي من صديقاتك الصالحات، واقضي معهن وقتاً طيباً تنسين به ألمك وحزنك. - احرصي على الصلوات وقراءة القرآن الكريم والذكر والاستغفار وأكثري من الطاعات قدر ما تستطيعين، ففيها السلوى والفرح والسعادة. ونعم سعادة القرب من الرحمن. - اشغلي نفسك بأعمال البر والإحسان بمساعدة محتاج. بكفالة يتيم. بتعلم الفقه والقرآن وتعليمه. - اجتهدي في عمل برنامج يومي لك يكون ممتلأ بكل ما هو مفيد لك. من قراءة وزيارة الأصدقاء وصلة الرحم. بحيث لا تكون هناك دقيقة أنت فارغة فيها. - وأسرعي بقاربك الجميل بمجذافين من إيمان بالله وثقة بالنفس وسوف تصلين بإذن الله نحو جزيرة السعادة والنجاح. لكي تتسلق جبال الإنجاز، وتصل لأعلى مراتب الاعجاز. وعندها جزماً سيكون للحياة معنى آخر. --------------------------------- (١)-سورة البقرة الآية (٢٢٦-٢٢٧). (٢)-الكافي (٢)-سورة البقرة الآية (٢٢٨) حنان ستار الزيرجاوي

اخرى
منذ 5 سنوات
41062

لا تقاس العقول بالأعمار!

(لا تقاس العقول بالأعمار، فكم من صغير عقله بارع، وكم من كبير عقله فارغ) قولٌ تناولته وسائل التواصل الاجتماعي بكل تقّبلٍ ورضا، ولعل ما زاد في تقبلها إياه هو نسبته الى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولكننا عند الرجوع إلى الكتب الحديثية لا نجد لهذا الحديث أثراً إطلاقاً، ولا غرابة في ذلك إذ إن أمير البلاغة والبيان (سلام الله وصلواته عليه) معروفٌ ببلاغته التي أخرست البلغاء، ومشهورٌ بفصاحته التي إعترف بها حتى الأعداء، ومعلومٌ كلامه إذ إنه فوق كلام المخلوقين قاطبةً خلا الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ودون كلام رب السماء. وأما من حيث دلالة هذه المقولة ومدى صحتها فلابد من تقديم مقدمات؛ وذلك لأن معنى العقل في المفهوم الإسلامي يختلف عما هو عليه في الثقافات الأخرى من جهةٍ، كما ينبغي التطرق الى النصوص الدينية الواردة في هذا المجال وعرضها ولو على نحو الإيجاز للتعرف إلى مدى موافقة هذه المقولة لها من عدمها من جهةٍ أخرى. معنى العقل: العقل لغة: المنع والحبس، وهو (مصدر عقلت البعير بالعقال أعقله عقلا، والعِقال: حبل يُثنَى به يد البعير إلى ركبتيه فيشد به)(1)، (وسُمِّي العَقْلُ عَقْلاً لأَنه يَعْقِل صاحبَه عن التَّوَرُّط في المَهالِك أَي يَحْبِسه)(2)؛ لذا روي عنه (صلى الله عليه وآله): "العقل عقال من الجهل"(3). وأما اصطلاحاً: فهو حسب التصور الأرضي: عبارة عن مهارات الذهن في سلامة جهازه (الوظيفي) فحسب، في حين أن التصوّر الإسلامي يتجاوز هذا المعنى الضيّق مُضيفاً إلى تلك المهارات مهارة أخرى وهي المهارة العبادية. وعليه فإن العقل يتقوّم في التصور الاسلامي من تظافر مهارتين معاً لا غنى لأحداهما عن الأخرى وهما (المهارة العقلية) و(المهارة العبادية). ولذا روي عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنه عندما سئل عن العقل قال :" العمل بطاعة الله وأن العمّال بطاعة الله هم العقلاء"(4)، كما روي عن الإمام الصادق(عليه السلام)أنه عندما سئل السؤال ذاته أجاب: "ما عُبد به الرحمن، واكتسب به الجنان. فسأله الراوي: فالذي كان في معاوية [أي ماهو؟] فقال(عليه السلام): تلك النكراء، تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل"(5) والعقل عقلان: عقل الطبع وعقل التجربة، فأما الأول أو ما يسمى بـ(الوجدان الأخلاقي) فهو مبدأ الادراك، وهو إن نَما وتطور سنح للإنسان فرصة الاستفادة من سائر المعارف التي يختزنها عن طريق الدراسة والتجربة وبالتالي يحقق الحياة الإنسانية الطيبة التي يصبو اليها، وأما إن وهن واندثر لإتباع صاحبه الأهواء النفسية والوساوس الشيطانية، فعندئذٍ لا ينتفع الانسان بعقل التجربة مهما زادت معلوماته وتضخمت بياناته، وبالتالي يُحرم من توفيق الوصول إلى الحياة المنشودة. وعقل التجربة هو ما يمكن للإنسان اكتساب العلوم والمعارف من خلاله، وما أروع تشبيه أمير البلغاء (عليه السلام) العلاقة التي تربط العقلين معاً إذ قال فيما نسب إليه: رأيت العقل عقلين فمطبوع ومسموع ولا ينفع مسموع إذ لم يك مطبــوع كما لا تنفع الشمس وضوء العين ممنوع(6) فقد شبّه (سلام الله عليه) عقل الطبع بالعين وعقل التجربة بالشمس، ومما لاشك فيه لكي تتحقق الرؤية لابد من أمرين: سلامة العين ووجود نور الشمس، وكما إن الثاني لا ينفع إن لم يتوفر الأول فكذلك عقل التجربة لا ينفع عند غياب عقل الطبع فضلاً عن موته. وبما إن عقل الطبع قد ينمو ويزدهر فينفع صاحبه من عقل التجربة، وقد يموت ويندثر عند الاستسلام لإضلال شبهةٍ أوبسبب إرتكاب معصية، فإنه ومن باب أولى أن يتعرض الى الزيادة والنقصان كما سيأتي... وقد ورد في النصوص الدينية أن للعقل زمناً ينمو فيه ويكتمل، فعن إمامنا أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه):"يثغر الصبي لسبع، ويؤمر بالصلاة لتسع، ويفرق بينهم في المضاجع لعشر، ويحتلم لأربع عشرة، وينتهى طوله لإحدى وعشرين سنة، وينتهي عقله لثمان وعشرين إلا التجارب"(7)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يربى الصبي سبعاً ويؤدب سبعاً، ويستخدم سبعاً، ومنتهى طوله في ثلاث وعشرين سنة، وعقله في خمس وثلاثين [سنة] وما كان بعد ذلك فبالتجارب"(8). إذن يتوقف النمو الطبيعي لعقل الانسان عند سن الثامنة والعشرين أو الخامسة والثلاثين كما ورد في الروايتين، وأية زيادة أخرى في طاقته بعد ذلك إنما تأتي عن طريق التجارب، وقد يُتوهم بأن ثمة تعارضاً ما بين الروايتين المتقدمتين في شأن تحديد سن النمو العقلي، إلا إنه لا تعارض ينهما إذا حملنا اختلافهما فيه على اختلاف الاشخاص وتباين استعدادات وقابليات كل منهم. وعلى الرغم من توقف نمو عقل الإنسان إلا إن له أنْ يزيده بالتجارب ومواصلة التعلم ــ كما تقدم في الروايات ــ وسواء أثبت العلم هذه الحقيقة الروائية أم لا، فنحن نريد الإشارة إلى ضرورة استمرار التجربة والتعلم لزيادة نمو العقل وهذا المقدار لا خلاف فيه وعلى الرغم من إن لعمر الانسان مدخلية في زيادة عقله كما تقدم وكما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يزيد عقل الرجل بعد الاربعين إلى خمسين وستين، ثم ينقص عقله بعد ذلك"(9)، إلا إن ذلك ليس على نحو العلة التامة، إذ يمكن للعقل أن يبقى شاباً وقوياً وإن شاب الإنسان وضعف جسمه، وتقدم في السن ووهن عظمه، فالعاقل لا يشيب عقله ولا تنتقص الشيخوخة من قوته بل وقد يزداد طاقةً وحيويةً لذا ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"رأي الشيخ أحب الي من جَلَد الغلام"(10)، وفي أخرى ".....من حيلة الشباب "(11) وأما من لم يوفر أسباب صقل عقله في مرحلة الشباب فإنه بلا شك يضمحل عقله في مرحلة الشيخوخة. وليس تقدم العمر هو العامل الوحيد في نقصان العقل بل إن النصوص الشرعية أشارت الى عوامل عديدة اخرى أهمها: أولاً: التعلم: فقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "من لم يصبر على ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبداً"(13). ثانياً: التوبة: وعنه (عليه السلام) ايضاً:"من لم يرتدع يجهل"(14) ثالثاً: التقوى: فقد كتب إمامنا الباقر (عليه السلام) إلى سعد الخير: "بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإني اوصيك بتقوى الله فإن فيها السلامة من التلف والغنيمة في المنقلب إن الله (عزوجل) يقي بالتقوى عن العبد ما عزب عنه عقله ويجلي بالتقوى عنه عماه وجهله"(15) إذن التوبة هي سبب للتوفيق الإلهي الذي يؤدي فيما يؤدي إليه من إكمال العقل. رابعاً: الوقوف عند الشبهة: وقال (عليه السلام ): "لا ورع كالوقوف عند الشبهة"(16). فإن الوقوف عند الشبهات سبب من أسباب التوفيق الإلهي بلا شك. خامساً: الاعتراف بالجهل: كما روي عن الإمام علي (عليه السلام): "غاية العقل الاعتراف بالجهل"(17) إذ الاعتراف بالجهل يدفع الإنسان دوماً إلى مزيد من بذل الجهد واكتساب المعارف. مما تقدم تتضح جلياً صحة هذه المقولة دلالةً، إذ إن العقول فعلاً لا تقاس بالأعمار لأن كلٍاً من زيادتها ونقيصتها منوطٌ بالعديد من العوامل الأخرى والتي تقدم ذكرها، بيد إن ذلك لا يبرر التساهل في نشرها والتهاون في الاستشهاد بها على إنها من أقوال أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) لعدم ثبوت ذلك سنداً من جهة ولضعف بلاغتها وركاكة تركيبها بالنسبة إلى سيد البلغاء والبلاغة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) تهذيب اللغة ج1 ص65 (2) لسان العرب ج11 ص458 (3) نهاية الحكمة ص305 (4) ميزان الحكمة ج3 ص333 (5) أصول الكافي ج1، ح3 / 11 (6) نهج السعادة ج9 ص163 (7) الكافي ج7 ص94 (8) الفقيه ج3 ص493 (9) الاختصاص ص245 (10) نهج البلاغة حكمة 86 (11) بحار الأنوار ج72 ص105 (12) المصدر السابق ج1 ص94 (13) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص118 (14) الكافي ج8 ص73 (15) وسائل الشيعة ج1 ص162 (16) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص1 بقلم الكاتبة: رضا الله غايتي

اخرى
منذ 5 سنوات
34885

أساليب في التربية

عالم الطفولة كأنه طاولة، لا تجد فيه غير طعام لذيذ، ومنظر لطيف وجديد، فعالمهم فاكهة الوجود، وخضار الأرواح، ومياه الحياة تسقي القلوب... عالم صفاء وأحلام جميلة بسيطة وتافهة ولكن بنظرهِ هو عظيمة وكبيرة، فهو العالم الذي ينطلق منه الإنسان في بداية عمره. فالطفل في بداية حياته ينظر إلى الحياة بتفكيره البريء، فالطفل يعيش بعالم خاص به مملوء بالمحبة البريئة. هذه هي الصورة الجميلة التي يحملها الطفل، وكم يتمنى كل إنسان أن يعود لطفولته البريئة ليتأمل في أرجاء عالمها الذي كان يصور له حياة مختلفة تشد الإنسان إليها بجمالها، هذا هو عالم الطفولة وهذه أحلام من يعيشها، فلا ينفذ إلى ملكوت ذلك العالم ولا يدرك كنهه إلا من عاشه وجال في ربوعه. حيث يتذوق الطفل مع أحلام طفولته هذه لذة الحياة ولذة العيش فيها، ومهما حاولنا أن نعبر عن هذه الحقيقة فلن نستطيع تصويرها بالكلمات. وبعد هذا، فإن الاهتمام بمستقبل الطفل هو في الواقع ضمان لمستقبل شعب بأسره. قال اللَّه تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا". التحريم/6 أعتنى الإسلام بتربية الأبناء عناية فائقة، وألقى على عاتق الأهل ما سيكون عليه الولد في مسلكه الدنيوي ومصيره الأخروي إن هم قصروا في تربيته وإعداده. وقد ذكر العلماء أن شخصية الولد تتأثر في نموها بعوامل ثلاثة وهي: الوراثة، والبيئة، والتربية. إذا خضنا في مضمار التربية السليمة للأبناء... فعلى الأبوين أن يكون لهما الوعي التربوي الذي يبنى على أسس صحيحة ويتوفر لديهم فهم لأساليب التربية والتوجيه والرعاية وهذه نقطة البداية. فمثلاً في أسلوب التعامل مع الطفل تبرز أمامنا ثلاثة اشكال لتعامل الآباء مع الأبناء: الشكل الأول: أسلوب الدلال المفرط وهذا الأسلوب له نتائجه السلبية الخطيرة، فإنه يخلق شخصية هشة متميعة وشخصية اتكالية تحب الكسل والخمول مجردة من الهدف والإقدام، انهزامية غير قادرة على مواجهة التحديات وبمعنى أدق شخصية لا تثق بنفسها. شخصية متسيبة في ظل غياب المراقبة والمحاسبة وهذا التسيب يقود إلى الانفلات والانحراف. الشكل الثاني: فهو أسلوب التربية القاسية والعنف. وهذا الأسلوب أيضاً له نتائجه الخطيرة والسلبية التي يعاني منها الأبناء طوال حياتهم فهو يخلق شخصية قلقة ومتأزمة ومعقدة وخائفة وتحمل عقدة الخوف، شخصية حاقدة وعدوانية وقد تتأزم الأمور لتصبح شخصية منافقة وكاذبة خوفاً من العقاب والتعنيف ضمن حدود الأسرة ولكن يوماً من الأيام سينطلق هذا الشخص ليواجه المجتمع ككل، فلنتصور كيف سيتعامل مع المحيطين ضمن مجالات الدراسة والعمل وهو شخصية هاربة من أجواء الأسرة وقد يعرضها للتسيب والانحراف لأنها شخصية متمردة مما يعرضها للعقوق. الأسلوب الثالث: التوازن. الأسلوب الصحيح يعتمد على التوازن فمن شروط نجاح التربية التوازن في المعاملة ما بين الأمور التي تحتاج إلى شدة وحزم ليتربى على أن هذه الأمور خطوط حمراء طبعاً هنا يمكن أن يعترض أحد ويقول: لا للعنف الأسري ولا لاستخدام القسوة. نعم فهناك طرق غير استخدام العنف. يكفي ان يبدي الآباء انزعاجهم مثلاً. وهنا النقطة مهمة جداً، وهي: أن نوضح لهم سبب المنع والرفض لا تعتقدوا أن أبناءكم لا يدركون ولن يفهموكم. تخصيص الوقت للنقاش مهم جداً. وما بين أسلوب المرونة والحنان والاحتواء. التوازن في المعاملة. إن الإمام زين العابدين (عليه السلام) يصرح بمسؤولية الأبوين بتربية الطفل، ويعتبر التنشئة الروحية والتنمية الخلقية لمواهب الأطفال واجباً دينياً يستوجب أجراً وثواباً من الله تعالى، وأن التقصير في ذلك يُعرّض الآباء إلى عقاب الله. فيقول (عليه السلام): (وأما حق ولدك عليك فأن تعلم أنه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره. وأنك مسؤول عما وليته به من حسن الأدب والدلالة على ربه عز وجل والمعونة له على طاعته. فأعمل في أمره عمل من يعلم أنه مثاب على الإحسان إليه معاقب على الإساءة إليه ) مكارم الأخلاق للطبرسي ص٢٣٢ حنان الزيرجاوي

اخرى
منذ 5 سنوات
32055

المرأة في فكر الإمام علي (عليه السلام)

بقلم: أم نور الهدى كان لأمير المؤمنين (عليه السلام) اهتمام خاص بالمرأة، فنراه تارة ينظر إليها كآية من آيات الخلق الإلهي، وتجلٍ من تجليات الخالق (عز وجل) فيقول: (عقول النساء في جمالهن وجمال الرجال في عقولهم). وتارة ينظر إلى كل ما موجود هو آية ومظهر من مظاهر النساء فيقول: (لا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها فإن المرأة ريحانة وليس قهرمانة). أي إن المرأة ريحانة وزهرة تعطر المجتمع بعطر الرياحين والزهور. ولقد وردت كلمة الريحان في قوله تعالى: (فأمّا إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة النعيم) والريحان هنا كل نبات طيب الريح مفردته ريحانة، فروح وريحان تعني الرحمة. فالإمام هنا وصف المرأة بأروع الأوصاف حين جعلها ريحانة بكل ما تشتمل عليه كلمة الريحان من الصفات فهي جميلة وعطرة وطيبة، أما القهرمان فهو الذي يُكلّف بأمور الخدمة والاشتغال، وبما إن الإسلام لم يكلف المرأة بأمور الخدمة والاشتغال في البيت، فما يريده الإمام هو إعفاء النساء من المشقة وعدم الزامهن بتحمل المسؤوليات فوق قدرتهن لأن ما عليهن من واجبات تكوين الأسرة وتربية الجيل يستغرق جهدهن ووقتهن، لذا ليس من حق الرجل إجبار زوجته للقيام بأعمال خارجة عن نطاق واجباتها. فالفرق الجوهري بين اعتبار المرأة ريحانة وبين اعتبارها قهرمانة هو أن الريحانة تكون، محفوظة، مصانة، تعامل برقة وتخاطب برقة، لها منزلتها وحضورها. فلا يمكن للزوج التفريط بها. أما القهرمانة فهي المرأة التي تقوم بالخدمة في المنزل وتدير شؤونه دون أن يكون لها من الزوج تلك المكانة العاطفية والاحترام والرعاية لها. علماً أن خدمتها في بيت الزوجية مما ندب إليه الشره الحنيف واعتبره جهادًا لها أثابها عليه الشيء الكثير جدًا مما ذكرته النصوص الشريفة. فمعاملة الزوج لزوجته يجب أن تكون نابعة من اعتبارها ريحانة وليس من اعتبارها خادمة تقوم بأعمال المنزل لأن المرأة خلقت للرقة والحنان. وعلى الرغم من أن المرأة مظهر من مظاهر الجمال الإلهي فإنها تستطيع كالرجل أن تنال جميع الكمالات الأخرى، وهذا لا يعني أنها لا بد أن تخوض جميع ميادين الحياة كالحرب، والأعمال الشاقة، بل أن الله تعالى جعلها مكملة للرجل، أي الرجل والمرأة أحدهما مكمل للآخر. وأخيرًا إن كلام الإمام علي (عليه السلام) كان تكريمًا للمرأة ووضعها المكانة التي وضعها الله تعالى بها، حيث لم يحملها مشقة الخدمة والعمل في المنزل واعتبر أجر ما تقوم به من اعمال في رعاية بيتها كأجر الجهاد في سبيل الله.

اخرى
منذ 5 سنوات
31620