بقلم: شيماء المياحي الرحمة: لِفظٌ مأخوذٌ من (رَحِمَ)، وتعني الرقة، والعطف، والرأفة، ويُقال رحمه ويرحمه عندما يُعطف عليه. فالرحمةُ عبارةٌ عن الانفعالاتِ والعواطفِ التي تبدو على الشخص. والإنسانُ بطبيعته الفيسلوجية وفطرته يحتاجُ الرحمة، ويأنسُ بها؛ ولذلك المؤمن يناجي ربه على الدوام ويلتمسُ منه الرحمة؛ إذ إنّه أرحم الراحمين. وقد ذُكِرت الرحمة في الكتاب العزيز في آياتٍ كثيرة منها قوله (تعالى): "ورحمتي وسعت كلَّ شيء"[الأعراف:١٥٦] . وكما يحتاجُ الإنسان الرحمة من الخالق (جلَّ وعلا)، يحتاجُها من المخلوقين أيضًا، وأهمية التراحم بين البشر أمرٌ واضحٌ وجلي، ومن أشرف وأقدس مصاديق الرحمة على الأرض هم الرسول الأعظم محمد وآله الطاهرون (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)، حيث أرسله الله (تعالى) رحمةً للعالمين؛ ليكون سببًا لحفظ كرامة الإنسان من الانحطاط في مستنقعات الرذيلة؛ وليوفر له حياةً منعمةً كريمةً وقلبًا مطمئنًا، وزاهرًا بذكر الله (تعالى)، وعقلًا واعيًا مفعمًا بالأفكار النورانية الهادفة التي تُعينه على الارتقاء بمدارج الكمال، وليكون سببًا في نجاته من أهوال يوم القيامة، إذا ما أراد ذلك وسعى له السعي الحثيث، وكلّ هذه تجليات رحمة الله (تعالى) بعباده . ولكن ! يحرمُ الإنسانُ أحيانًا نفسه ويبعدها عن هذه الرحمة الواسعة، ويظلمها لعدة أمورٍ، منها: أنْ يستسلم للظنون السيئة، وهي ترجيح جانب الشر على جانب الخير، وهذا خلقٌ سيءٌ يُنافي الأخلاق الحميدة، والفطرة الإنسانية السويّة، وهو عبارة عن امتلاء القلب بالظنون السيئة اتجاه الآخرين حتى يطفح على اللسان والجوارح. وأيضًا الخوض في الخيال المسيء الذي يفسر كلَّ شيءٍ سلبًا وهذا ما يُساهم غالبًا في تدمير الجانب النفسي للإنسان، والذي يؤدي إلى الإصابة بالأمراض الجسدية؛ بسبب الارتباط بين الجانبي النفسي والجسدي، وله تأثير على الجانب الروحي أيضًا وذلك لوقوع عقله وقلبه في أسر الشيطان. وقد يُسيء الإنسان الظن بالله (تعالى)؛ بسبب وقوعه في بلاءٍ معين، فيشعر باليأس والقنوط من رحمة الله (تعالى) وفرجه بعباده، وهذا من كبائر المحرمات وقد ورد النهي عنه في الكتاب العزيز: "وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ والمُنَافِقَاتِ وَالمُشرِكِينَ وَالمُشرِكَاتِ الظَّانِّينَ باللهِ ظَنَّ السُّوءِ"[الفتح:٦] فيا أيها الإنسان: إنَّ لنفسك عليك حقًا، فلا تجعلها مأوىً لليأس، والإحباط، والظنون السيئة، وارحمها بحسن الظن، فكما ورد عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنّه قال: "حسن الظن راحة للقلب وسلامة الدين"(١) والواقعُ يشهدُ أنَّ دوام الحال من المحال فلا راحةً تدوم، ولا شقاءً يبقى، وعلى الإنسان العاقل السعي في تحصيل ما يخفف عنه الابتلاءات التي لا مفرَّ منها، وأنْ يكون متفائلًا بالخيرات، ويبقى على أمل أنّ كلّ شيءٍ سيكون بخير، ويتغيّر للأفضل بمشيئةِ الله (تعالى) وكما ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: "تفاءلوا بالخير تجدوه"(٢) والإنسان إذا انكسر لا يرحمه بعد الله (تعالى) سوى نفسه، وإذا انهزم لن ينصره بعد الله (سبحانه) سوى إرادته، وإنَّ قدرته على الوقوف ثانيًا لا يملكها غيره، فعلى الإنسان العاقل أنْ يسعى إلى اكتساب قوة الإرادة، والصمود بوجه البلاء، والأزمات ويرحم نفسه بحسن الظن بالله (تعالى) والتوكل عليه. روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: "من وثِقَ بالله أراه السرور، ومن توكل عليه كفاه الأمور"(٣) ----------------------------------- (١) غرر الحكم: ص٢٥٣ (٢) ميزان الحكمة: ج٣ / ص٢٣٥٣ (٣) البحار : ج٦٨ / ج51/ ص١٥١
اخرىبقلم: شيماء المياحي اتّبعت الشريعة الإسلامية نظام البديل في التكاليف الشرعية؛ لتوفّر أكبر فرصة ممكنة لنجاة الإنسان من شرِّ نفسه الأمّارة بالسوء، ولتوفير احتياجاته اللازمة من جانب، واجتناب معصية الخالق من جانب، ولإلقاء الحُجة عليه من جانب ثالث. فقد شرّع الإسلام سُنّة الزواج بديلًا عن الانحراف الأخلاقي، وقد روي عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) قال: "يا شاب تزوج وإياك والزنا، فإنه ينزع الإيمان من قلبك"(١) وهنا الرسول (صلى الله عليه وآله) قدّم البديل، و أمر بالمعروف قبل أنْ ينهى عن المنكر . كذلك في مسألة تحريم بعض أنواع اللحوم، فعند مراجعة الآيات التي تطرّقت لهذا الشأن وجدتُ في أكثر من سورة، أنّها تُبيح الطيبات قبل أنْ تُحرِّم الخبائث، ففي سورة البقرة قوله (تعالى): "يا أيُّها الذين آمنوا كلوا من طيباتِ ما رزقناكم واشكروا الله إنْ كنتم إياه تعبدون(١٧٢)" وفي الآية التي تليها قال الله (تعالى): "إنّما حرّم عليكم الميتة والدّم ولحم الخنزير وما أُهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عادٍ فلا اثم عليه إنَّ الله غفور رحيم(١٧٣)" وورد في سورة الأعراف أيضًا إباحة الطيبات قبل تحريم الخبائث في قوله (تعالى): "ويحلّ لكم الطيبات ويُحرمُ عليكم الخبائث(١٥٧)". وفي سورة النحل في قوله (تعالى): "فكلوا مما رزقكم الله حلالًا طيبًا واشكروا نعمت الله إنْ كنتم إيّاه تعبدون(١١٤)" وفي الآية التي تليها قوله (تعالى): "إنّما حرّم عليكم الميتة والدّم ولحم الخنزير وما أُهل لغير الله بهِ فمن اضطر غير باغ ولا عادٍ فإن الله غفور رحيم(١١٥)". فجميع هذه الآيات الكريمة قدّمت المباح على الحرام مع رفع الحرج عند الاضطرار. وكذلك نرى في المعاملات التجارية وردت الآية الكريمة في سورة البقرة: "وأحل الله البيع وحرّم الربا(٢٧٥)" فالشرعُ المقدس لم يحرّم شيئًا إلّا وأوجد البديل المباح عنه، لكن مع وجود هذا النظام المتكامل المحكم بإتقان بما يتلاءم مع حاجاتِ الإنسان الجسدية والنفسية، و...، لم يكتفِ الإنسان واتبع هواه ونفسه الأمّارة، بل اتّبع هوى غيره وأصبح أداةً لتحقيق مآرب الآخرين، ومنح عقله إجازةً مفتوحة، هذا العقل الذي ميّزه الله (سبحانه وتعالى) عن باقي المخلوقات، وكرّمه به، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: "ذهابُ العقلِ بين الهوى والشهوة"(٢). وعنه (عليه السلام): "يُستدل على عقل الرجل بالتحلي بالعفة والقناعة"(٣) لكن هيهات هيهات، لقد أسمعتَ لو ناديتَ حيًا، ولكن لا حياة لمن تنادي، لا يسمع أو يعقل من أمات قلبه وعقله باتّباع هواه، إلّا بعد فوات الأوان، حينها ينطق لسانه كما جاء في الآية الكريمة: "وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في اصحاب السعير"(الملك : ١٠) . ------------------------------- (١) مكارم الاخلاق للشيخ الطبرسي / ص١٩٦ . (٢) غرر الحكم ح٨٤ . (٣) غرر الحكم ح٥٤١٩ .
اخرىبقلم: شيماء المياحي جُبِل الإنسان على حُبِّ الخير لنفسه حتى إنّه إذا ما احتاج لغيره في أمرٍ ما يودُ لو أنَّ حاجتهُ تُقضى سريعًا، فإنْ تأخرت لسببٍ وآخر راودته الظنون ورجّحت السيئة منها على الحسنة، إلّا إذا تغلّب على هواه ونفسه الامّارة وتأمّل قليلًا، فعلمَ أنَّ ليس كلُّ من تأخر عليه في قضاء حاجته قد خذله، بل قد يكون الله (سبحانه وتعالى) سخّر له من يعلّمه الصبر، إذ لا مجال للصدفة في نظام الكون، وكلُّ ما يحدثُ ففيه حكمة قد ندركها وقد لا. ولو حصل الإنسان على كل ما يبتغي سريعًا وبلا عناء لما تعلم الصبر. وفي بعض التكاليف الشرعية التي يرى البعض فيها مشقة ومخالفة لما تهواه النفس أيضًا فيها تمارين روحية للتحلي بالصبر وقوة الإرادة، فالصوم يساعدُ الإنسان على أنْ يكون صبورًا وذا إرادةٍ قويةٍ في مختلفِ جوانب الحياة. وللصبر أهمية كبيرة فهو للمؤمن كالرأسِ من الجسد والإنسان يحتاجُ إليه حتى يستطيعَ أنْ يعيش في هذه الدنيا القصيرة المليئة بالمشاكل والمصائب؛ فالصبرُ يؤدي إلى الراحة في الدنيا والثواب العظيم في الآخرة. وهي دلالةٌ على قوة الإرادة والشجاعة في مواجهة أنواع البلاء، وبه تتحقق ما يروم إليه الإنسان من رغبات كما ورد عن أمير المؤمنين(عليه السلام): "بالصبر تُدرك الرغائب"(١)، فهو نعم العون على ذلك، قال (تعالى): "واستعينوا بالصبر والصلاة"[البقرة: ٤٥] ولا تقتصر آثار الصبر على الدنيا، بل له آثار بالغة في عالم البرزخ والآخرة، روي عن الامام الصادق (عليه السلام) أنه قال: "إذا دخل المؤمن في قبره كانت الصلاة عن يمينه، والزكاة عن يساره، والبرّ مطلٌّ عليه، ويتنحى الصبر ناحية، فإذا دخل عليه الملكان اللذان يليان مسألته قال الصبر للصلاة والزكاة والبرّ: دونكم صاحبكم فإنْ عجزتم عنه فأنا دونه"(2) وعلى المؤمن إن لم يكن صابرًا أن يتصبر حتى يصبح لديه الصبر ملكةً، روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "أفضل الصبر التصبّر"(3) والنتيجة: أحسِن الظن بالآخرين في كلِّ موقفٍ تتعرض إليه ولا يروقك، وانظر إلى جوانبه الإيجابية، فهو قد لا يحقق لك رغبةً ما لكنه يقينًا يعلمك درسًا تستفد منه طوال حياتك.. ----------------------------------- (١) غرر الحكم ص٢٨٤ ح٦٣٦٤ (٢) الكافي ج٢ ص٩٠ ح٨ (3) غرر الحكم ص٢٨١ ح٦٢٣٤
اخرىبقلم: شيماء المياحي من علامات الأرض الخصبة أنها تستقبل البذور، ثم تنمو وتخرج من باطن الأرض وتثمر بما ينتفع به المخلوقات، حتى وإن كان نثر البذور بطرق غير مباشرة وليس بفعل الإنسان، فقد تهب الريح لتحمل معها حبات البذور لتلك الأرض الخصبة. وهذا عينه ما يحصل مع الإنسان إذا كان قلبه خصبًا ومهيئاً لتلقي الموعظة، فقد يتلقى المواعظ بصورة مباشرة، أو عكس ذلك، فقد تطرق أذنه أو يرمق بصره حادثة معينة فيها ما فيها من الوعظ والإرشاد، وهذا ما يحصل عادةً مع الصالحين من عباد الله (سبحانه وتعالى) فهم يعتبرون ويتعظون بكل ما يعرض أمامهم من قول وفعل، بل والأشد من هذا هُناك من يتعظ حتى من باقي المخلوقات من غير البشر، فقد يتعلم الإنسان من دابة صغيرة (النملة) حسن الظن بالآخرين، فقد جعل الله (سبحانه وتعالى) هذه الدابة الصغيرة تقدم درسًا لبني البشر في حسن الظن بالآخرين، قال تعالى: (قَالَتْ نَمْلَةٌ يَٰأَيُّهَا ٱلنَّمْلُ ٱدْخُلُواْ مَسَٰكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَٰنُ وَجُنُودُهُۥ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) [النمل:١٨] فقد أحسنت الظن بجنود النبي سليمان (عليه السلام) بقولها: (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ). وهذا خُلق عظيم ينبغي للمؤمن التحلي به، وقد وصفه أمير المؤمنين (عليه السلام) بأنه راحة للقلب في حديثه: (حسن الظن راحة القلب وسلامة الدين) (١) كما ويمكن للمؤمن أن يتعلم من بعض سلوكيات الأطفال الملائمة للفطرة السليمة، كنقاء القلب، والشفافية في التعامل مع الأخرين، وما إلى ذلك من الصفات الحميدة. كما ويمكن للمؤمن أن يتعلم من هفوات الأخرين وزلاتهم، فضلًا عن هفواته التي وقع فيها بقصد أو بدونه، والعاقل لا يُلدغ من الجحر مرتين، وقد أشار الحديث الشريف عن أمير المؤمنين (عليه السلام) عن الاتعاظ بالغير قائلًا: (من لم يتعظ بالناس وعظ الله الناس به) (٢). ولكن كيف يمكن للمؤمن أن يجعل من قلبه خصبًا ومهيئاً لتلقي الحكمة والموعظة أين ما وجدها؟ كما ورد عن الرسول الأعظم (صل الله عليه وآله): (كلمة الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو احق بها) (٣). الموعظة لا تؤثر إلّا في من أرادها، واستشعر الحاجة لها، فالمريض لا يبحث عن العلاج إذا لم يشعر بالألم! والمؤمن لا يبحث عن ما يسد نقصه إذا أحس بالكمال، كيف يبحث وهو كامل لا نقص فيه؟! فلا بد من الشعور بالتقصير أمام الله (سبحانه وتعالى)، وكما جاء في الحديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (كفى بالمرء فضيلة ان ينقص نفسه) (4). فالإنسان يجب أن ينقص من قدر نفسه أمام عظمة الله (سبحانه وتعالى)، وهذا الشعور يكون دافعًا لطلب الموعظة والتغيير للأفضل، هو بحد ذاته عبادة عظيمة قد يُوفّق العبد بسببها لإصلاح نفسه، فالإصلاح وتلقي المواعظ يحتاج لتوفيق من الله( سبحانه وتعالى)، كما جاء في الحديث عن الإمام الجواد (عليه السلام): (المؤمن يحتاج الى ثلاث خصال: توفيق من الله، وواعظ من نفسه، وقبول ممن ينصحه) (٥). وينبغي للمؤمن الابتعاد عن كل ما يُميت القلب ويفسده، فعن الرسول الأكرم (صل الله عليه وآله): (ثلاثة مجالستهم تُميت القلب: مجالسة الأنذال، ومجالسة الاغنياء، والحديث مع النساء) (٦). وعنه (صلى الله عليه وآله): (إياك وكثرة الضحك فإنه يميت القلب) (7). وعن الإمام زين العابدين (عليه السلام): (إلهي ألبستني الخطايا ثوب مذلتي، وجللني التباعد منك لباس مسكنتي، وأمات قلبي عظيم جنايتي، فاحيه بتوبة منك يا أملي وبغيتي) (8). هذا بعض ما ورد عن أهل بيت العصمة فيما يُميت القلب ويجعله كالأرض المتصحّرة التي لا تنفع معها حكمة، ولا تؤثر فيها موعظة، فعلى المؤمن أن يجاهد نفسه في الحفاظ على سلامة قلبه من كل درن؛ ليكون كالأرض الخصبة تثمر بكل بذرة خير. _______________ (١) غرر الحكم: ص٢٥٣ (٢)غرر الحكم: ح ٨٩٣١ (٣) البحار: ج٢ ص٩٩ (٤) غرر الحكم: ص ٢٤٩ (٥) ميزان الحكمة: ج٤ ص٣٥٩٨ (٦) الخصال: ١٢٥ (7) معاني الاخبار: ص٣٢٥ (٨) البحار: ج٤٩ ص١٤٢
اخرىبقلم: شيماء عبد الواحد المياحي "اللهم صلِّ على محمدٍ وآله وبلغ بإيماني أكمل الإيمان" وردت هذه الفقرة في دعاء مكارم الأخلاق لسيد الساجدين وزين العابدين الإمام علي بن الحسين (عليهما السلام) في صحيفته المباركة، من بين عدة فقراتٍ تُبيّن صفات وأخلاق عباد الله (سبحانه وتعالى) الصالحين. وحيث إنَّ الإمام زين العابدين (عليه السلام) بعد واقعة الطف الأليمة مرَّ بفترةٍ زمنية حرجة اقتضت أنْ يكون تكليفه التبليغي وحركته الرسالية بأسلوب الدُعاء، فأخذ يُبيّن للناس، طُرق الارتقاء إلى الفضائل والتدرج بمراتب الكمال من خلال التحلّي بمكارم الاخلاق التي هي جوهر الدين وروحه، فأسّسَ دروسًا عظيمةً في علم الأخلاق الذي يُعرف به صلاح القلب وسائر الحواس. ابتدأ الإمام زين العابدين (عليه السلام) فقرات دُعائه بالصلاة على محمد وآله (صلوات الله عليهم أجمعين)، والتي هي خير ما تُبتدأ بها الأفعال، وتعطر بها الأفواه، وتزكى بها الأعمال ، وتُغفر بها الذنوب، وتُستجاب بفضلها الدعوات. فقد ورد عن الرسول الأكرم (صل الله عليه وآله): "صلاتكم عليَّ إجابةٌ لدعائكم، وزكاة لأعمالكم"(١) ثم قال: (وبلغ بإيماني أكمل الإيمان)، ولابُدَّ من معرفة حقيقة الإيمان حتى نبلغ كماله. الإيمان لغةً: التصديق. اصطلاحًا: الإيمان إقرار باللسان وعمل بالأركان واعتقاد بالجنان، فلا نفع في إيمان بلا عمل، ولا نفع بعمل بلا إيمان. قال (تعالى): "قالت الأعراب آمنا قل لم تُؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم" [الحجرات:١٤]، وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): "الإيمان معرفةٌ بالقلب، وإقرارٌ باللسان، وعملٌ بالأركان"(٢) وفي قوله (تعالى): "والعصر إنَّ الإنسان لفي خُسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر"[ العصر] يؤكد الله (سبحانه) على أنَّ الإنسان في خسرٍ ونقصانٍ دائم ولا يستثنى من ذلك إلا الذين يؤمنون به (سبحانه وتعالى) ويعملون الصالحات، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر. فالإيمانُ لابدَّ أنْ يقترن بالعمل الصالح، وإرشاد الآخرين إليه، لذا جعلت بعض الروايات لإيمان المؤمن علامات عملية ، منها ما روي عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) يذكر فيه بعض علامات المؤمن: "الورع في الخلوة، والصدقة في القلة، والصبر عند المصيبة، والحلم عند الغضب، والصدق عند الخوف"(٣) وللإيمان مراتبُ نسبية تختلف من فردٍ لآخر، بحسب اختلاف قوة الإدراك، ودرجة العلم والمعرفة. ولكي يبلغ المؤمن درجةً عاليةً من الإيمان عليه أنْ يتدرج شيئًا فشيئًا للوصول، فلا يمكن بلوغ أعلى مراتب الإيمان دفعةً واحدة، وذلك من خلال جهاد النفس الأمارة من جانبٍ والشيطان وجنوده من جانبٍ آخر. فيتغلب على أهوائه ورغباته المخالفة للمنهج الحق منهج العترة الطاهرة، وبلا شك أنَّ المغريات سوف تفتح ذراعيها له وتلقي بنفسها في حجره، ولكن ليس مستحيلًا التغلبُ عليها، نعم، لا بدّ من جهدٍ إضافي للسيطرة على النفس الأمّارة وكبح شهواتها، من خلال دعم الجنبة المعنوية بالتقرب إلى الله (سبحانه وتعالى) بالنوافل والمستحبات، وقطعًا سوف يحصل على العون والتسديد الإلهي إذا توجه إلى الباري (جلّ وعلا) بالدعاء، ولا سيما إذا كان مخلصًا فيما يطلب، وهذا ما أشارت إليه الزهراء (عليها السلام) في حديثٍ لها: "من أصعد إلى الله خالص عبادته أهبط الله (عز وجل) له أفضل مصلحته"(٤) ----------------------------------------- (١) بحار الانوار: ج٢ ص٣١٥ (٢) نهج البلاغة: ج٤ ص٥٠ (٣) الخصال: ص٢٦٩ (٤) تنبيه الخواطر : ج٢ ص١٠٨
اخرىبقلم: شيماء المياحي كثيرًا ما نسمع عنها، وهي صفة سلوكية جميلة يكتسبها الإنسان من خلال تخلُقه بفضائل الاخلاق، بها يستشعر من يجالسه ويُرافقه بالأُنس والبهجة، مع المهابة والاحترام في نفس الوقت، وهو ما ينبغي أن يتحلى به المؤمن، وهذا ما يشعر به من يُجالس العلماء والأتقياء من المؤمنين، فالأُلفة والطمأنينة التي يشعر بها جُلساؤهم تُرافقها الهيبة والوجل، بحيث تصعب معصية الله (تعالى) في حضرتهم، فهل رأيت أو سمعت من اغتاب مؤمناً بحضرة عالم تقي؟ ما أعني هنا بـ" جميل ذو هيبة" ليس شخصًا، إنما "القلم"! فأيُ كاتب لم يشعر بالأُنس بجمال ما تخطه أنامله؟ وأيُ كاتب لم تغمره السعادة وهو يرى ثمرات عُصارة فكره؟ حتى تكتمل هذه السعادة لا بد للكاتب أن يستشعر الهيبة والوقار في حضرة قلمه ولا يخالف بسلوكه ما خط بأنامله، وفي قوله تعالى: (كَبُرَ مَقتاً عِندَ اللهِ أن تَقُولُوا مَا لَا تَفعَلُونَ) [الصف: ٣] حينها يكون قلمه "جميلاً ذا هيبة".
اخرىبقلم: شيماء المياحي خلق الله (تعالى) الإنسان وأخرجه من عالمِ الأرحام إلى عالم الدنيا خاليًا من أيِّ علمٍ سوى بعض العلوم الفطرية التي تُعينه على استمرار الحياة، مثل حُبِّه لأبويه، وهدايته لطريقة الرضاعة الصحيحة، وبكائه عند جوعه .... وغيرها. وأتاح له فرصة السعي للتكامل في عالم الدنيا، وهيأ له المقدمات واللوازم التي تُعينه على بلوغ الكمال، قال (تعالى): "والله أخرجكم من بطون امهاتكم لا تعلمون شيئًا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون"[النحل:٧٨] وهذا ما يهدفُ إليه العقلاء على اختلاف معتقداتهم وتوجهاتهم، إلا أنّهم اختلفوا في نوعِ الكمال الذي يسعى له العقلاء، ويعود منشأ هذا الاختلاف إلى العقيدة، فمن يعتقد بوجود عالمٍ آخر، وحياةٍ أبدية بعد هذا العالم، فيها حسابٌ وجزاءٌ لكلِّ ما يفعله الإنسان في عالم الدنيا، تختلفُ نظرته للكمال عمّن يعتقد بأنَّ الحياةَ تنتهي بموتِ الإنسان. ولأجلِ بلوغ هذا الكمال- على اختلافاته- أُلِّفَتِ الكتب، وأُقيمت الدورات، والوِرَش التثقيفية بأنواعها، بأسماء مختلفة وهي ما يُطلق عليها اليوم عنوان "تطوير الذات" ونظرًا إلى عقيدة المسلم التي يؤمن عبرها بوجود عالمٍ آخر بعد عالم الدنيا فإنّه يسعى إلى تطوير ذاته لنيل الكمال في الدنيا والآخرة. وهذا ما أشارت إليه الآيات الكريمة والروايات الشريفة، في قوله (تعالى): "إنّ هذا القران يهدي للتي هي أقوم"[الاسراء:٩] فهذه الآية وغيرها من الآيات الكريمة تقطع الشك باليقين بأنَّ الكتاب العزيز هو طريقنا إلى النجاح وتطوير الذات في الحياة الدنيا، مثلما هو الموصل إلى النجاة في الآخرة، وهو الصواب في ضبط التوازن بين ظاهر الإنسان وباطنه، وبين مشاعره وسلوكه، وبين عقيدته وعمله. وهو الأقوم في ضبط علاقة الإنسان بخالقه من جانبٍ، وبالمخلوقات -البشر وغيره- من جانبٍ آخر، بل وحتى في تطوير ذاته يومًا فيوم. ففي حديثٍ لأبي عبدالله الصادق(عليه السلام): "من اعتدل يوماه فهو مغبون، ومن كان في غده شرًا من يومه فهو مفتون، ومن لم يتفقد النقصان في نفسه دام نقصه، ومن دام نقصه فالموت خير له"(١) كما أنَّ هناك الكثير من أحاديث أهل بيت العصمة (عليهم السلام) تدعو إلى السعي الحثيث في تشخيص عيوب الذات، والعمل على إصلاحها وتطويرها إلى الأفضل بالقدر الممكن. وتطويرُ الذات له أقسامٌ وأنواعٌ نذكر بعضها: ١ - التطوير العقلي وهو تطوير لأعظم النعم التي أنعم بها الباري (جلَّ وعلا) علينا، وبها كرّمنا على باقي مخلوقاته، وما كثرة الآيات القرآنية الدالة على التفكر والتدبر، إلا لإرشادنا إلى أهمية السعي الجاد لتطوير الجانب العقلي عند الإنسان. كما حثت الروايات الشريفة كذلك إلى السعي لتطوير الجانب العقلي، روي عن الإمام علي(عليه السلام): "العقلُ غريزةٌ تزيد بالعلم والتجارب"(٢) وعنه(عليه السلام): "أعونُ الأشياء على تزكية العقل التعليم"(٣) وهنا تنبيه: كثيرًا ما تتوجه الأذهان إلى أنَّ العقول النيّرة إذا التحق بها العلم والمعرفة تكون سبيلًا لتطوير الذات، والسير والسلوك في مدارج الكمال، ولكن! صانعُ السلاح النووي سلاحَ التدمير الفتاك، كان ذا عقلٍ نيّرٍ وعلمٍ محكمٍ أيضًا، ولكنه استخدم علمه في تدمير البشرية! وكذا إبليس(عليه اللعنة) من قبله، كان يتمتع بعقلٍ وذكاءٍ شديدين! لكنه استخدمهما لإضلال الناس عن طريق الهدى! فما قيمة العقل والعلم والمعرفة من دون الورع و التقوى؟! قال الشاعر: لو كان للعلمِ من غير التُقى شرفٌ لكان أشرفُ خلقِ اللهِ ابليسُ ٢ - التطوير الأخلاقي وهو رأس الهرم للرسالة الإسلامية، بل جوهرها وروحها، وينبغي للفرد المؤمن السعي في تطويره امتثالًا لما ورد عن أئمة الهدى (عليهم السلام)، فعن الإمام علي (عليه السلام): "لو كنا لا نرجو جنةً ولا نخشى نارًا، ولا ثوابًا ولا عقابًا، لكان ينبغي لنا أنْ نطالب بمكارم الأخلاق، فإنّها مما تدلُّ على سبل النجاح ....."(٤) ٣ - التطوير الاجتماعي بما أنَّ الإنسان كائنٌ اجتماعي ولا يمكنه الانفراد بنفسه، والعيش بعيداً عن أبناء جنسه، ينبغي له أنْ يتعلم آداب التواصل مع الآخرين ليحيى حياةً سعيدةً. والدين الإسلامي الذي هو خير الأديان لم يترك حركةً ولا سكونًا إلا وذكر لها أُسسًا ونُظُمًا، ولا سيما فيما يتعلق بعلاقة الإنسان مع أبناء جنسه حيث شرع القرآن الكريم منهجًا متكاملًا في التعامل مع الآخرين حيث جاء ذكر عدةِ وصايا أخلاقية اجتماعية في سورة الحجرات: -فتبينوا -فأصلحوا -واقسطوا -لا يسخر قومٌ من قومٍ -ولا تلمزوا أنفسكم -ولا تنابزوا بالألقاب -اجتنبوا كثيرًا من الظن -ولا تجسسوا -ولا يغتب بعضكم بعضًا وفي الروايات الشريفة وردت أيضًا آدابٌ وسنن يُحافظ التمسك بها على علاقة الإنسان بالآخرين من حيث ضبط جوارحه الخارجية عن كلِّ ما يُسببُّ التفرقة بينهم وضبط جوانحه أيضًا عن ظنِّ السوء والحسد والضغينة وغيرها من الرذائل الباطنية. روي عن الرسول الأكرم (صل الله عليه وآله) أنّه قال: "أمرني ربي بمداراة الناس كما أمرني بأداء الفرائض"(٥) فهل يوجد قانونٌ لتطوير الذات أفضل وأكمل من قانون الله (جلَّ وعلا)؟! ----------------------------------- (١) البحار: ج٧٨ ص٢٧٧ (٢) غرر الحكم : ح٣٢٤٦ (٣) نفس المصدر (٤)مستدرك : ج١١ ص١٩٣ (٥) الكافي : ج٢ ص١١٧
اخرىبقلم: شيماء المياحي - مرحبًا يا صديقي الـ Tab كيف حالك؟ - الحمد لله، أنا بخير، والجميع يحتاجني ولا أحتاج لأحد، ماذا عنك أيُها الكتاب المسكين؟ - لستُ مسكينًا، أنا مصدر العلم والمعرفة. - أنت متوهمٌ يا صديقي، فما أنت إلا عددٌ من صفحاتٍ تحتوي على جملةِ معلوماتٍ، أنا من أستحقُّ هذا اللقب، بل وأكثر منه، أنا بحرٌ من العلم والمعرفة. - نعم كما تفضلت يا صديقي الـ Tab ، ولكن فيك الكثير من الأخطار، فقد يغرق فيك من لا يُتقِن خوض البحار، أما أنا فنور علمي ينتفع به الكبار والصغار. - ومن يطلبك يا صديقي الكتاب، وأنا موجودٌ وأغمر حياة الجميع بالسعادة، وأُمتّعهم بالتجوال من عالمٍ إلى عالم بلا ملل ولا ضجر؟ - وماذا بعد هذا التجوال الذي ليس له قرار؟ - القرار بيد المستخدم فهو صاحب القرار، يتصفحُ ما يروقه ويختار، إما يجني مني أطيب الثمار، وإما يخسر ساعاتِ وأيامِ عمره القصار. - إذن، ها أنت ذا اعترفت بأنّ ما تحتويه فيه النجاة، وفيه الكثير من الأضرار. - نعم، لا أنكر ذلك فأنا مجرد أداةٍ وإنْ أُطلِقَ عليَّ أسم (جهازٌ ذكي)، ولكن من يستخدمني له عقل ويمكنه تجنب الأخطار. - إذن أنت المسكينُ يا صديقي؛ لأنك بحرٌ متاح للجميع، وقد يخوض فيك من لا يُحسن الخوض وتكون نهايته الغرق ويلتقمه كبار مخلوقات البحار. - لا ذنبَ لي سوى أنّي أستجيبُ لمن يستخدمني، فالكبارُ لهم عقل يرشدهم، والصغارُ لهم الأهل والمرشدين الأخيار.
اخرىبقلم: شيماء المياحي في ردهةِ الأورامِ السرطانية، أوجاعٌ تحكيها ملامحُ المرضى، أصواتٌ ترتفعُ إذا اشتدّ بهم الألم، صُراخٌ يعلو من ذوي الذين أبلى المرض أجسادهم ووافتهم المنِيِّة، يأسٌ يُخيِّمُ على المرضى الراقدين بجنبِهم، فما أقسى وأشرسَ الأفكار التي تُراودُ المريض إذا رأى من رافقه في رحلةِ المرض يسبقُه إلى رحمةِ الباري (جلّ وعلا)! ما أشدَّه من امتحانٍ للمريض ولذويه، نعم امتحانٌ صعبٌ ولكنّه نعمةٌ من نِعم الباري(جل وعلا)؛ فبعضُ النِعم ظاهرُها محنةٌ، وواقعُها نعمةٌ ومنحةٌ لمن اختارهم الله (سبحانه وتعالى) لها! الابتلاءُ بهذا المرض الذي عجزَ العلم عن الوصول لعلاجه، يُعدُّ محطة عبادية عظيمة تُهيئ الأسبابَ للتدرِّجِ بمدارج الكمال للمريض ولذويه ومن وفقه الله (سبحانه وتعالى) لرعايته؛ فاليأس من أسباب استمرار الحياة رغمَ إنّها حالةٌ سلبيةٌ نهى الدين الإسلامي عنها، وحث على التحلّي بروح التفاؤل والثقة بقدرة بالله (تعالى)، لكن لها جوانب إيجابية في سعي الإنسان للتكامل، نذكر بعضها: أولًا: اليأسُ من المخلوق يدفعُ المؤمنَ إلى التوجّه إلى الخالق (جل وعلا)، ويلتمس منه الفرج، وهذا التوجّه بالدعاء والمناجاة بحدِّ ذاته جُرعةٌ روحيّة عظيمة، فالدعاءُ مخُّ العبادة كما وصفه رسول الله (صلى الله عليه وآله). ثانيًا: اليأسُ من الأسبابِ المادية للشفاءِ يجعلُ المؤمن -غالبًا ما- يترقبُ حلولَ الموتِ في أيِّ لحظة، وهذا شعورٌ جيدٌ لمراقبة الإنسان لأفعاله وأقواله، والحذر الشديد من الوقوع في المعصية، وهذه المراقبةُ أحدُ أضلعِ المثلث الأخلاقي لتزكية النفس (المشارطة والمراقبة والمحاسبة). ثالثًا: هذه الحالة غالبًا ما تدفع المؤمن إلى العمل على تخليةِ ذمتِه من حقوق الله (تعالى) من خلال قضاء العبادات المتعلقة بذمته، وأداء حقوق الآخرين المادية وغيرها. رابعًا: الحدّ من حبِّ الدُنيا والتعلق بملذاتها الفانية، والتي هي رأسُ كلِّ خطيئة كما وصفها أمير المؤمنين وسيد المتقين (عليه السلام). خامسًا: ما ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيما يحصلُ عليه المريض من عظيم الثواب: "عجِبتُ من المؤمن وجزعه من السقم، ولو يعلم ماله في السقم من الثواب لأحب أنْ لايزال سقيمًا حتى يلقى ربَّه (عز وجل)"(١) وعن الإمام الكاظم (عليه السلام) أنّه قال: "إذا مرض المؤمن أوحى الله (عز وجل) إلى صاحبِ الشمال لا تكتب على عبدي مادام في حبسي ووثاقي ذنبًا، ويوحي إلى صاحب اليمين أن أكتب لعبدي ما كنت تكتبه في صحته من الحسنات"(٢) ويُعدُّ الابتلاء بالمرض محطةً روحيّة للتزود بالوقود المعنوي لغير المبتلى أيضًا، فعن الإمام الصادق(عليه السلام): "من عاد مريضًا شيّعه سبعون ألف ملك يستغفرون له حتى يرجع إلى منزله"(٣) فما أعظم رحمة الباري (جل وعلا) بعبده وما أشفقه عليه! يضمرُ له في كلِّ بلاءٍ جزاءً وعطاءً جزيلًا، فلا يسعه إلّا أنْ يحمده ويشكر فضله بكلِّ حالٍ من الأحوال. _________________________ (١) ميزان الحكمة : ج٤ / ص٢٨٨٥ (٢) نفس المصدر (٣) نفس المصدر ص٢٨٨٨
اخرىبقلم: شيماء المياحي هل فكّرتَ يومًا ما أن تسكن في منزلٍ من زُجاج، يمكن لأيِّ شخصٍ يمرّ عليه يطلع على ما يجري بداخله؟! هل يمكن العيش والاستقرار في منزلٍ من هذا النوع؟! أظنُّ أنّ هذا السؤال بحدِّ ذاته يُسبب النفور، فضلًا عن تخيُّل الموقف، فلا يمكن لأيِّ عاقلٍ أنْ يتقبّل هذا الأمر؛ لأن البيت والحياة العائلية فيها ما فيها من خصوصيات لا ينبغي - عرفًا ولا شرعًا - كشفها للآخرين من دون مبرّر وحدود. إذن ماذا جرى حتى أصبحت بيوتُ البعض وحياتهم الخاصة عبارة عن بيوتٍ من زُجاج يُرى ما في داخلها؟! بل ويُعرض كلُّ ما فيها من خلالِ المواقع الإلكترونية لأفرادها! هل تغيّرت أعرافُنا؟ هل تغيّر دينُنا؟ وأين ذهبت عقُولنا؟ العاقلُ لا يُقْبِل على أيِّ عملٍ قبل أنْ يتفكر بعواقبه، وثمراته. فماهي الفائدة من هذه الخطوة؟ وما هو الضرر المترتب عليها؟ وأيُّهما يرجح على الآخر؟ أم إن الأمر مجرد عشوائية في الأفعال؟ وتقليد لما يفعله الآخرون؟! مؤسفٌ جدًا أنْ يكون الإنسان الذي كرّمه الله (جلّ وعلا) على جميع مخلوقاته، وسخّر ما بين السماء والأرض لخدمته، مجرد آلةٍ وأداةٍ للتقليد من دون تفكّر بما يصدر منه من أفعال. ودرعه الحصين في الدفاع عن عشوائية أفعاله هي: عبارة ( الجميعُ يفعلُ كذا)، فيتخذ منها قانونًا وضابطةً يُبرّر بها كشفَ خصوصياته الشخصيّة والعائليّة التي لا تنفع ولا تضرّ من يطّلع عليها، بل قد تكون سببًا لاستهانة رواد العالم الافتراضي به؛ لشدة دناءتها وخسّتها. قيل لأمير المؤمنين (عليه السلام) صف لنا العقل؟ قال: "هو الذي يضع الشيء مواضعه"(١). إذن أين محلُّ العقلِ والحكمةِ في بثِّ كلِّ ما يجري داخل نطاق العائلة عبر العالم الافتراضي؟ وأخيرًا أقول: أسدلوا الستار على جدران منازلكم الزجاجية؛ حفاظًا على ما تبقى من خصوصياتكم. -------------------------- (١) نهج البلاغة
اخرىبقلم: شيماء المياحي مُفرداتٌ مُختلفةُ المعاني والثمرةُ واحدةٌ. لم يكتفِ الشّرعُ المقدّسُ بالإرشادِ والتوجيهِ لما يتعلقُ بالخُلق والسلوك الظاهري فحسب، بل شدد على ضرورة التحلّي بالأخلاق والصفات الباطنية الحميدة أيضًا؛ وذلك حرصًا منه على سلامةِ القلب من الوقوع في بعضِ الأمراض، والرذائل الروحية التي تقطعُ حبلَ الوصلِ بين الإنسان ومعبوده، كاليأسِ، والقنوط من رحمة الله(تعالى)، قال (تعالى): "وَمَن يَتَوَكَّل عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسبُهُ"[الطلاق:٣] ، وقال أيضًا: "نِعمَ أَجرُ العَمِلِينَ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبّهِم يَتَوَكَّلُونَ"[العنكبوت: ٥٨-٥٩] وجاء في الحديث النبوي: سأل النبي (صلى الله عليه وآله) طائفةً من أصحابِه فقال: ما أنتم؟ فقالوا: مؤمنون . فقال: ما علامة إيمانكم؟ فقالوا: نصبرُ عند البلاء، ونشكرُ عند الرخاء، ونرضى بمواقع القضاء. فقال(صلى الله عليه وآله): مؤمنون وربِّ الكعبة(١) فهذه الصفاتُ الثلاثة: التسليم، والتوكُّل، والرضا بقضاءِ اللهِ (تعالى)، رغم اختلاف مفرداتِها، لكنّها متقاربةٌ ومتشابهةٌ في المعنى مع تفاوتِ معانيها؛ فالتسليمُ قريبٌ من الرضا، والتوكّلُ على الله (تعالى)، بل هو أعلى درجةً منهما؛ لأنَّ الرضا: هو موافقةُ النفس لأمرٍ ما، دون وجودِ تعارضٍ بينهما، أما التسليم فأعلى مرتبةً من الرضا؛ لأنّه عبارةٌ عن تركِ الاعتراضِ في الأمور الواردة عليه، وفوقَ مرتبةِ التوكّل أيضًا، فالتوكّلُ عبارةٌ عن الاعتماد على الله (تعالى) في كلِّ الأمور. ومن ثمرات هذه الصفات الثلاثة: ١ - الراحةُ في الدُنيا: فعن الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام): "من رضيَ بما قسمَ اللهُ له استراح بدنه"(٢)، وعنه (عليه السلام): "من وثِقَ بالله أراه السرور، ومن توكلَ عليه كفاه الأمور"(٣) وفي حديث قدسي أنَّ الله (تعالى) أوحى لداود (عليه السلام): "تُريد وأُريد، وإنّما يكونُ ما أُريد، فإنْ سلّمت لما أُريد، كفيتك ما تُريد، وإنْ لم تُسلّم لما أُريد أتعبتُك فيما تُريد، ثم لا يكون إلا ما أُريد"(٤) ٢ - الغنى والسعادة: فعن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: "ارضَ بما قسمَ اللهُ لك تكن غنيًا"(٥). وعن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: "من توكَّلَ على اللهِ كفاهُ مؤونتَه ورزقه من حيثُ لا يحتسب"(٦) ٣ - الشعور بالقوة: عن الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله): " لو أنّ رجلًا توكّل على الله بصدق النية؛ لاحتاجت إليه الأمراء فمن دونهم، فكيفَ يحتاج هو ومولاه الغني الحميد"(٧) ٤ - التقربُ من الله (تعالى) وخلافه البُعد عنه (تعالى): فقد جاء في الحديث القدسي: "من لم يرضَ بقضائي، ولم يصبرْ على بلائي فليطلبْ ربًا سواي"(٨) إذن التسليمُ والرضا بقضاء الله (تعالى) يجعلُ كلَّ بلاءٍ جميلٌ في عين المؤمن؛ لأنّه بعين الله (تعالى)، ومشيئته، ولحكمته، وهذا ما قالته السيدة زينب (عليها السلام) عندما سألها ابن زياد: كيف رأيتِ صنعَ اللهِ بأخيكِ وأهلِ بيتك؟ قالت(عليها السلام): "ما رأيتُ إلّا جميلًا" وما قاله الإمام الحسين (عليه السلام) في يوم عاشوراء: "إنّي لا أرى الموت إلّا سعادة" كان نابعًا من التسليم والرضا بقضاء الله (تعالى) فيما جرى عليهم. وسببُ خروجِ النبي يونس (عليه السلام) من بطنِ الحوتِ هو التسليم والرضا بقضاء الله (تعالى)، حيث قال الله(تعالى) في كتابه العزيز: "فَلولا أنّهُ كَانَ مِنَ المُسَبِّحِينَ لَلَبثَ فِي بَطنِهِ إلَى يَومِ يُبعَثُونَ فَنَبَذنَهُ بِالعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ"[ الصافات: ١٤٣-١٤٤-١٤٥] ومن أهمِّ سبُلِ الوصول للتسليم والتوكّل والرضا بقضاء الله (تعالى) هو العلم والمعرفة. فالإنسانُ الذي لديه عقيدةٌ صحيحةٌ راسخةٌ بالأدلة اليقينية بالله (تعالى)، وبصفاتِه المقدسة يصلُ إلى التسليم والرضا؛ وذلك لاعتقاده بأنَّ الله (تعالى) عادلٌ وحكيمٌ ولا وجودَ للصدفةِ في مملكته- كما يظنُ البعض-. بل كلُّ شيءٍ يطرأ على الإنسان بمشيئته وحكمته، ولا يُقدّر لعبده إلا ما هو خيرٌ له، سواء أدرك العبدُ المصلحةَ في ذلك أم لم يُدركها، وسواء كانت المصلحة للدنيا أو للآخرة، فلا يسخط على ما يُقدّر له من ابتلاءات ومحن في الحياة، فالمريضُ لا يعترضُ على الطبيب إذا ما قام باستئصالِ عضوٍ من جسده؛ لأنه يعلم بوجود مصلحةٍ له في ذلك، بل وقد يُقدّم له كلماتِ الشكر والثناء على ما قام به! لذا ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "إنّ أعلمَ الناسِ باللهِ أرضاهم بقضاء اللهِ عزّ وجل"(٩) ولابُدّ أنْ يعلم الإنسان أنَّ هناك أمورًا حتمية لا مفرَّ منها، ولا قدرةَ للإنسان على منعها كالموت، فلابُدَّ له من التسليم والرضا بما يحلُّ به من قضاءٍ وقدر. نعم، فالتسليمُ والرضا لا ينافيه السعي في طلب العلاج إذا مَرِضَ الإنسان، أو السعي لطلبِ الرزق وقضاءِ الحوائج. وكذلك الدُعاء لا ينافي التسليم والرضا، بل ينبغي للمؤمن أنْ يتوجه لله (تعالى) بالدعاء في الشدة والرخاء، عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) قال: "الدعاء مخُ العبادة، ولا يهلكُ من الدعاء أحد"(١٠) فأيُّ حقٍ للعبد في الاعتراضِ على مشيئة ربّه وخالقهِ، وهو لا يملكُ لنفسه حتى الأوكسجين الذي به يحيا؟! ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (١) البحار: ج٧٩/ ص١٣٧ (٢) البحار: ج١٠ / ص١١٠ (٣) البحار: ج٦٨ /ص١٥١ (٤) البحار: ج٧٥ / ص٢٥٩ (٥) البحار : ج٦٨ / ص١٣٥ (٦) كنز العمال (٧) المستدرك : ج١١ / ص٢١٧ (٨) البحار: ج٧٩ / ص١٦ (٩) الكافي: ج٢ / ص٦٠ (١٠) الوسائل: ج٧ / ص٢٧
اخرىبقلم: شيماء المياحي ورد في الحديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "من شكا الحاجةَ إلى مؤمنٍ فكأنّما شكاها إلى الله، ومن شكاها إلى كافرٍ فكأنّما شكا الله"[ نهج البلاغة] الإيمانُ مفهومٌ واسع، يُطلقُ على كلِّ من يوالي أمير المؤمنين وأولاده الميامين (صلوات الله وسلامه عليهم)، وإنْ كانت تلك الموالاة ظاهريةً فقط فهو يُعتبر مؤمناً، وله حقوق المؤمنين من عدم جواز اغتيابهم، والحفاظ على حرمتهم، ...وغيرها . وكما هو واضحٌ من هذا الحديثِ الشريف أنَّ الشكوى للمؤمن بمنزلةِ الشكوى لله(تعالى). ولكن، ليس كلّ مؤمنٍ، بل لابُدَّ أنْ تتوفر فيه- ولو بعض- من صفاتِ المؤمن الحقيقي؛ لتكون الشكوى له بهذا المقام العظيم، ويحصل على ثمرةٍ منها، ومن هذه الصفات: ١ - كتمانُ السرّ: فعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: "من ضَعُف عن حفظِ سرِّه، لم يقوَ لسرِّ غيره"(١) فينبغي التثبت من وجود هذه الصفة في المؤمن الذي يُراد الشكوى له، وإلّا قد تكون النتيجةُ عكسيةً إنْ لم يكتمْ سرّ المُشتكي له. ٢ - الحكمة: عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: "كاد الحكيمُ أنْ يكون نبيًا"(٢) يُفترض أنْ يكون المؤمنُ ذا حكمةٍ في إبداءِ رأيه لوضعِ الحلول التي يُحتمل أنّها تُساهم في علاج المشكلة. وإلّا ستكون الشكوى له مجرد فضول كلام، بل قد تتخللها بعض المحرمات إذا كانت الشكوى ترتبط بطرفٍ آخر، كالغيبة وغيرها، أو قد يساهم في تعقيد المشكلة أكثر؛ لافتقاره إلى الحكمة. ٣ - التفقه في الدين والعدالة: من الضروريّ جدًا أن يكون الشخصُ المتصدي لوضعِ حلولٍ لمشكلاتِ الآخرين مُتفقهًا في الدين؛ حتى يُعطي كلَّ ذي حقٍ حقه بحسب ما جاء في الشريعة المقدسة، وإلّا قد يُبخس حقُّ طرفٍ على حساب إرضاء طرفٍ آخر. ومن هذا يتبين لنا أنّه لا ينبغي الشكوى: لأيِّ عابرِ سبيل ولا لصديقٍ جديد ولا لصديقٍ افتراضي ولا لأخٍ يفتقد هذه الصفات أو بعضها.. فضلاً عمّن يبثُّ شكواه في العالم الافتراضي، ويُطلِعُ عليها كلَّ من هبّ ودبّ، بذريعةِ أنّ من شكا لمؤمنٍ كمن شكا للهِ(تعالى). ------------------------------ (١) ميزان الحكمة: ج٢ / ص١٢٨٢ (٢) كنز العمال : ج١٦
اخرى