Profile Image

وفاء لدماء الشهداء

بطاقة تهنئة لأم الشهيد

بقلم: وفاء لدماء الشهداء أيُّ كلمة حب ووفاء؟! وأيُّ عبارة عرفان وثناء؟! وأيُّ رسالة شكر وتقدير؟! اهديها في يوم العيد لك يا أم الشهيد، يا من كنت ولا زلت نبراسًا للتضحيات ونورًا يضيء لنا الظلمات، يا من تشرقين في كل يوم مع إشراقة الشمس، فتملئين حياتنا بالعزة والضياء والبركات. يا أروع نخبة عرفتها النساء، يا من بذلت فلذة كبدك دون تردد بكل شموخ وصبر وفداء، وعلمت الأجيال كيف يكون الايثار والعطاء، مباركة سعيدة برضوان الله تعالى أيامك أيتها السائرة على خطى الصديقة الزهراء وابنتها الحوراء. أمي الحبيبة يا أم الشهيد، بردي نيران القلب، اطفئي حرارة الدمع، ضمدي جرح الغياب، وبلسمي حرارة المصاب بحسن التوكل والصبر الجميل. نعم، يحتضن الأولاد في الأعياد أمهاتهم، يحملون معهم إليهنَّ هدايا محبتهم، وأنتِ تنظرين... تقفين على ضريح ضم جثمان ولدك الحبيب، تُقبّلين حبات التراب، وتنساب من عينيك دموع الاشتياق لطول الغياب. لكن ليتك تسمعين، بل أظنك تسمعين صدى صوت ولدك الشهيد وهو يقول: أُماه لا تحزني فأنا ما زلت حول فلكك أدور، أنا ولدك الذي استقبلته في جنان الله تعالى الحور، أنا نتاج يدك، أنا ثمرة عمرك الذي وهبته للإسلام ولآل البيت (عليهم السلام)، أنا قد ارتفعت بك وسموتُ بكلماتك، حتى بلغت السعادة، وحظيت بنعيم الشهادة، فلا تحزني، ولا تذرفي دمعك الغالي يا نور عيني، أمي أنا الآن في الجنان، حيث لا ألم ولا أحزان بل سعادة واطمئنان، وحبور وسرور لا يخطر على قلب إنسان. فألف شكر لك أيتها الحرة الأبية، وكل عيد وأنت بألف خير أيتها الصادقة في ولائها للعترة النبوية.

اخرى
منذ 4 سنوات
4635

كي لا يعيشوا ما عشته...

بقلم: غدير خم حميد العارضي كان هنالك شخصٌ يُدعى منصوراً، يسكن في حيٍ فقير، وكُلّما يذهب إلى جامعته يتعرض للانتقاد، فقد كان هناك الكثير ممن يستهزؤون بفقره، ويعيبون ذلك عليه. وبعد مرور عشر سنوات... إنّها الرابعة عصرًا.. إذ طُرِق الباب.. -بُنيّ علي، افتح الباب، إنّه جارنا على ما أظن.. يدخل الجار المنزل، ويدخل عليٌ أيضًا لكنّه ظلَّ مراقبًا ما يحدث دون أنْ يُشعِر والده. ما هي إلا لحظاتٌ وإذا بوالد علي يأخذ ظرفًا من بين أغراضه على الطاولة ويسلّمه للجار.. ما إنْ غادر الجار حتى توجه الفتى علي نحو أبيه ليسأله، إذ لم يعد يتحمل السكوت: - أبي.. هذه ليست أول مرة أراك تفعل ما فعلت.. ماذا يوجد داخل الظرف؟ - ستعرف حين تكبر يا بُني.. - أريدُ أنْ أعرف الآن يا أبي.. - حسنًا يا بُني.. هناك البعض يقصدونني لكي أساعدهم وما في الظرف هو مالٌ أهديه لهم بطريقةٍ غير مباشرة.. - لِمَ تفعل ذلك يا أبي.. لِمَ لا تحتفظ بالمال لنا؟! _ يا صغيري.. أنا ولدتُ في عائلةٍ فقيرة.. عندما كنتُ في عمرك تربيتُ في بيت أعمامي بعد وفاة والدي.. وعندما كبرت لم أتلقَ دعمًا من أحد. كنتُ أعمل وأدرس في آنٍ واحد.. فهذه الشركة التي أملكها الآن لم تأتِ من فراغ إنّما من تعبٍ وشقاءٍ لسنين طويلة؛ لذا أحاول دائمًا أنْ أكون في عونِ الفقراء كي لا يعيشوا ما عشته.. _ وهنا ناداهما صوتٌ رقيق: حبيبي منصور، ولدي علي.. طعامُ الغداء جاهز..

اخرى
منذ 4 سنوات
464

التسامُــــح

بقلم: ضحى حسنين/ وغدير خم حميدالعارضي كانت الشريعة الإسلامية السمحاء وما تزال منبعًا لكلِّ خصال الخير والمنفعة، وسبيلًا لبلوغِ أعلى درجاتِ الكمال الروحي والأخلاقي. إذ جاءت مُشرِّعةً لسبلِ الكمال والتعالي عن كلِّ رذيلةٍ ومنقصة، داعيةً لكلِّ فضيلةٍ تُزيّن العباد وتُعمِّر الأرض والبلاد.. ومن بين عظيم المناقب التي تميّز المسلم المؤمن عن غيره منقبة "التسامح"، إذ يُعدُّ التسامحُ من الخصالِ المهمة التي دعا الدين الإسلامي إلى الاتصافِ بها لما فيها من الآثار المباركة والثمار الرائعة على الفرد والمجتمع. فربما يعلمُ الجميع معنى التسامح اللغوي من العفو عند المقدرة والصفح عن المذنبين، لكن للتسامح معانٍ روحية وخُلُقية قد تعجزُ الكلمات عن وصفها.. فقد ورد في الآية ٢٣٧ من سورة البقرة المباركة قوله (تعالى): "وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ". فالعفو والتسامح هما سُلَّم ارتقاءِ الروح وتنزهها عن الأحقاد والآثام.. وخير من يتصف بهذه الصفة من يحملُ رسالةَ السماءِ و يُجسدُ أخلاقَها، فلو نظرنا إلى تاريخِ النبي والآل (صلوات الله عليهم) لوجدنا أنَّ كلَّ تعاملهم كان طبقًا لمبدأِ التسامح فكانوا يعفون عن المُسيء الذي يؤذيهم والوقح الذي يشتمُهم ويُقابلون إساءته بالإحسانِ؛ مما يجعلُ المسيء بحدِّ ذاته يتعجب من فعلِهم، ويندمُ على ما بدر منه، ومن ثم إعادة النظر في عمله وموقفه. فعلى مرِّ الأزمان كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومن بعده آل البيت (عليهم السلام) هم القدوة المثلى الذين أظهروا دائمًا عفوهم وتسامحهم.. وأما عن فضلِ العفو والتسامح وجزائه، فلقد ورد "أنّه إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين في صعيدٍ واحد ثم ينادي منادٍ: أين أهل الفضل؟ قال فيقوم عُنُقٌ من الناس فتتلقاهم الملائكة فيقولون: و ما كان فضلهم؟ فيقولون: كُنّا نصلُ من قطعنا، ونُعطي من حرمنا، و نعفو عمّن ظلمنا، فيُقال لهم: صدقتم ادخلوا الجنة. وإنَّ خير خلائق الدنيا والآخرة من وصل من قطعه وأعطى من حرمه، وعفا عمّن ظلمه، وأحسن إلى من أساء إليه". وإذا كان اللهُ (سبحانه وتعالى) يعفوُ عنا ويسامحنا؛ لأننا ضعفاء ولسنا بمعصومين عن الخطأِ، أفلا يجبُ علينا أنْ نتعاملَ هكذا مع من أساءَ إلينا؟ ألا يجدر بنا أنْ نتخلق بأخلاق الله (عز وجل)؟ أليس رائعًا أنْ نعيش السلام الداخلي ونتنزه عن الأحقاد والضغائن؟ فما أروع أنْ نسعى لرفع شعارِ العفو والتسامح ليسود الحب والوئام وتختفي المشاكل والأضغان والآلام. وفي عصرنا هذا كان خير نموذجٍ ومثالٍ يُحتذى به هو مرجعنا الأعلى وسيدنا المعظم السيد على الحسيني السيستاني (أدام الله ظله).. مرجع المحبةِ و التسامح. فرغم إساءة المُسيئين إليه وتحامل الكثيرين عليه، لم يقُلْ يومًا سوى إنَّه يُحِبُّ الجميع، ويُسامح كلَّ من أساء إليه ويعفو عن كلِّ من وقف ضده، حتى صار خيرَ شبيهٍ لمولانا أمير المؤمنين علي(عليه السلام). فليحفظ الله (تعالى) مرجعنا المُفدى الذي غمر بحنان أبوته كلَّ أتباعِ أهل البيت (عليهم السلام)، حتى بات الجميع مولعًا بالأب العطوف المسامح أب العراق والعراقيين.

اخرى
منذ 4 سنوات
2271

عليٌ وفقراءُ الحي

بقلم: غدير خم حميد العارضي طَرْقٌ على الباب أيقظه من نومه... نظر إلى الساعة فرأى أنَّها تقارب الواحدة بعد منتصف الليل.. من عساه يأتي في هكذا وقتٍ يا ترى؟! هرع ليفتح الباب، لم يرَ أحدًا، كلُّ ما كان هناك سلةٌ وضِعَ فيها الكثيرُ من الطعام، ورسالة كُتِب فيها: "اعتذر إنْ كان الوقتُ متأخرًا، لكن منازل الحيِّ كثيرةٌ" دخل الرجل داره وهو يحمل السلةَ بفرحٍ؛ فمنذُ بدء أيام الجائحة وحاله كحالِ باقي أفراد الحي ليست على ما يُرام.. رغم تأخر الوقت إلا أنّه لم يقدرْ إلا أنْ يوقظ أطفاله محمداً وزينب وزوجته الصابرة ليُطعمهم بعد أنْ ناموا ليلتهم السابقة دون عشاء.. تهافت الصغيران فرحًا على الطعام، وقامت الأمُّ غير مصدقةٍ تسألُ زوجها: أنّى لكَ هذا؟! فردَّ عليها قائلًا: لا أعلم، أحدهم وضعها أمام الباب وترك رسالةَ اعتذارٍ لتأخرِ الوقت.. كانت تلك المرة الأولى ولكن.. ليست الأخيرة أبدًا... وعاد علي النجفي إلى منزله مع أذان صلاة الفجر.. صلّى صلاته ثم نهض ليقرأ بعض آيات القرآن.. استيقظت زوجته للصلاة فرأت دموعًا تنساب من عينه تأثرًا بما يقرأه.. سألته: أين كنت؟.. لم يُجِبْها فقط ابتسم.. حينها أدركت أنّه كان في (عملِ خيرٍ) فهذه عادته منذ زواجهما.. ربما هي قصةٌ من نسجِ الخيال ولكن.. لنربط أحداثها بواقعنا.. أليس والدنا علي السيستاني (أدام الله ظله) هو علي هذه النجف؟ أليس فقراء ذلك الحي هم أبناء وطننا هذا؟ أليست الجائحة كورونا في القصة هي ذاتها في الحقيقة.. ويا ترى هل تعرفون كم سبقتها من الجائحات الفكرية والعسكرية على مستوى الوطن؟ وكما فعلَ عليٌ في القصة.. كانت مرجعيتنا الرشيدة دائمًا ما تطرق أبواب المحتاجين بمعونةِ طلبتها الحقيقيين ومشايخها المُبجلين الموجودين في حوزاتها من غير مِنّةٍ أو أذى.. ففي عمليات الإغاثة الأخيرة التي قامت بها العتبات المقدسة، وطلبة الحوزة العلمية المباركة، والتي ما تزال مستمرة، قال أحدُ ممثلي المرجعية: إننا لا نريد من يُصوِّر ما نقوم به. فمرجعيتنا المباركة سعت دائمًا لكي لا تدع أحدًا يجوع، ولا بلداً يُهدم، ولا دماً يُسفك بغير حق.. ولا حقاً يُهتضَم، ولم تُسِئ لأحدٍ أو تردَّ عليه مهما آذاها أو طعن فيها... وهذا هو خُلُقُ مولانا علي (عليه السلام).

اخرى
منذ 4 سنوات
516

هل ضحّيتَ بإسماعيلك؟

بقلم: وفاء لدماء الشهداء صحراءُ قاحلةٌ، أرضٌ جرداء، لا زرعَ فيها ولا ماء، شدَّ إليها الرحال أبٌ وأمٌّ وطفلهما الوحيد، الذي انتظراه منذُ زمنٍ بعيد.. وهناك تركَ الأبُ الشفيقُ زوجَه وطفلَه الرقيق، وقفلَ راجعًا وهو يلهجُ: "رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ". وما هي إلا لحظاتٌ حتى كوتْ شمسُ الحجازِ الحارقةُ الأمَّ ووليدَها، وأضرَّ بهما العطش، فانطلقتْ تسعى بحثًا عن الماء في تلك الصحراء، وكُلُّها ثقةٌ بربِّ الأرضِ والسماء الذي اختار لها هذا البلاء، وإذا بربِّ العالمين يُكافئُ تلك الأمةَ المُطيعة المُضحية، فيفجرَ بئرَ زمزم ويتدفقُ الماءُ كأغلى هدية. وتأتي الطيورُ وتصيرُ أرض التضحياتِ مهوى الأفئدة، ويكبرُ الصغيرُ، ويشتدُّ عودُه ويتألقُ شبابُه، وتكبرُ أحلامُ الأمِّ الصابرة فيه... ويأتي الأبُ من جديد؛ ليرى عظيمَ صنعِ الله (تبارك وتعالى) بعبادِه المُخلصين، وأوليائه المُضحين، فيرفع القواعدَ من البيت بمعيّةِ ولدِه الذي تركَه قبلَ سنين. وتأتي لحظةُ اختبارٍ أخرى لم يُخفِ القرآنُ هولَها حتى أسماها البلاء المبين، تلك اللحظةُ التي رأى بها الأبُ أنَّ عليه أنْ يضحيَ بفلذةِ كبدِه وحلم عمره على مذبحِ الحُبِّ الإلهي، "فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ". ما أروعه من عبدٍ قد تشرَّبَ الحُبَّ والطاعةَ من أبيه لينجحَ في هذا الاختبار العسير كما نجحَ أبوه وأمَّه من قبل. ويمسكُ الأبُ الشفيقُ السكينَ ليضعَها على رقبةِ ولدِه ليحزَّ بها جلدَه الرقيق، ليُسكِتَ أنفاسَ الأمل الذي انتظره طويلًا، لحظةٌ شديدةٌ عسيرةٌ مرّت على الأبِ وابنِه أظهرا فيها منتهى الطاعةِ والحُبِّ والتفاني والإيثار والإخلاص. ولكن شاءتْ إرادةُ الله (تعالى) أنْ تفقدَ السكينُ خاصيّةَ الذبحِ تمامًا كما فقدتِ النارُ خاصيّة الإحراق منذُ سنين خلتْ عندما كانَ الأبُ يخوضُ أصعبَ اختبار. ويأتي النداءُ الإلهي مُفعمًا بالبشائر: "...وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ *قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ* وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ *وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ *سَلَامٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ * كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ". قصةٌ نذكرُها في كلِّ أضحى، لتنطلقَ العقولُ والقلوبُ بالتفكرِ والتأمل في معانيها وأسرارها وألطافها. وهي قصةٌ تعنينا جميعًا، فقصةُ تضحيةِ نبيّ اللهِ إبراهيم (عليه السلام) بولده إسماعيل (سلام الله عليه) وصبر أمِّه هاجر، لم تكنْ يومًا للتسليةِ والترفيه، وإنّما لأخذِ الدرسِ والعبرةِ والتنبيه. إنَّ هذه القصة تنطقُ فتقول: إنّ الابنَ هو رمزٌ لأغلى ما يُمكِنُ أنْ يملكَه الإنسانُ في الحياةِ، كيف لا وهو فلذةُ الكبد، وقطعةٌ من الروح والجسد، تتعلقُ به القلوب والألباب، ويُخاضُ من أجلِه في غمراتِ المِحَنِ والصعاب، فيا تُرى كيفَ استسهلَ النبيُّ إبراهيم (عليه السلام) ذبحَ ولدِه؟ وما هو الشعورُ الذي خالجَه عند إمرارِ السكينِ القاطع على رقبته؟ وكيف استسلمَ الابنُ لإرادةِ ربِّه وخالقه؟ وكيف استقبلتِ الأمُّ كلَّ ذلك؟ حقائقُ ينبغي أنْ نُمعنَ فيها النظر، ونطيل فيها التأمّل والتفكر، لنرى سرَّ التسليم والصبر. إنّه الحُبُّ الإلهي الذي ملأ شغافَ القلوب النقيّة الطاهرة، هو الذي يجعلُ كلَّ عسيرٍ يسيرًا، فيهونُ الفقدُ وتصغرُ التضحيةُ، ويعظمُ الخالقُ (عز وجل) فتُفدى له كلُّ الأشياءِ مهما كانت نفيسةً عزيزةً. واليوم ونحنُ نعيشُ أجواءَ عيدِ الأضحى المُبارك الذي يُذكّرُنا بقصةِ التضحيةِ والفداء، ويرسمُ لنا صورةَ الحُبِّ الأوحد لله (تعالى) وإيثارَ طاعتِه ورضاه في الشدِّة والرخاء، ألا يجدرُ بنا أنْ نقفَ مع أنفسِنا وقفةَ تأملٍ لنتساءلُ: تُرى هل ضحّينا بإسماعيلنا؟ هل نحرنا على مذبحِ الحُبِّ الإلهي كلَّ تعلقاتِنا؟ هل أفرغنا قلوبَنا لخالقِنا؟ هل حبُّه وقربُه ورضاه هو المُسيطر على أفئدتِنا؟ هل رضاه هو مُنانا وغايةُ آمالِنا؟ تُرى هل نستطيعُ الانتصارَ على النفسِ كما انتصرَ إبراهيمُ وإسماعيلُ وهاجر؟ هل يُمكِنُ أنْ نضحيَ بالمحبوباتِ والمرغوباتِ وكلِّ المُتعلقاتِ من أجلِ المحبوبِ الأكبر؟ أسئلةٌ ينبغي أنْ نُكرّرَها في كلِّ عامٍ، ومع كلِّ ذكرى أضحى، لنرى أينَ نحن؟ وفي أيّ طريقٍ نسيرُ؟ وما هو موقعُنا على خريطةِ الحُبِّ الإلهي؟ لنُكمِلَ بعدَها المسيرَ على بيّنةٍ من أمرِنا إنْ شاءَ اللهُ (تبارك وتعالى).

اخرى
منذ 4 سنوات
771

سنابلُ البراءة

بقلم: وفاء لدماء الشهداء للهِ دُرُّكم يا آلَ عقيل، كبارُكم ساندوا الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله)، وجادوا بكُلِّ عطاءٍ جميل، ثم صنعوا مع السبطِ الشهيدِ بعد حين ملحمةَ الخلود، وفدوا إمامَ زمانِهم الحُسين (عليه السلام) بكُلِّ غالٍ وثمين.. وصغارُكم قُتِلوا ظُلمًا، وسُحِقوا تحتَ سنابكِ خيلِ الأعداءِ قهرًا، حينما فرّوا في صحراءِ الطفِّ هلعًا من نيرانِ حقدِ الظالمين. وكأنّ قدرَ هذه الأسرةِ الجليلة أنْ تكونَ للإسلامِ فداءً، ولنصرةِ الحقِّ نبراساً، وعلى دربِ التضحياتِ الجسامِ مناراً للثائرين. ومن بين أولئك الأطفالِ الفارين في صحراءِ كربلاء الشاسعة، طفلان صغيران لمسلمٍ بن عقيل (عليه السلام)، فرّا معًا وهما لا يعلمان إلى أين يتجهان! ذهبا ينشدانِ موطنًا للإيمان، ومحلًا يشعران فيه بالراحة والأمان، بعد أنْ فتكَ الشيطانُ بقلبِ الإنسانِ، وأغراهُ بالسجودِ له بعدما كرّمه ورفعَ شأنَه واجتباهُ للخلافةِ الرحمن! ولكنّه الشيطان... نعم هو الشيطان، كان يمشي في الطريقِ ليحظى بغنيمةٍ يُسِرُّ بها قلبَ السلطان، وأيّ شيءٍ يا تُرى؟ أنفسُ وأغلى ثمنًا من ذُريّةِ من نصروا الإمام الحسين (عليه السلام) بالحسام والبيان واللسان؟! طار الشيطانُ فرحًا، وترنّمَ جذلًا، بعدما عرف أنّهما يتيمان، ومن ذُريّةِ من استشهد عطشًا في أرضِ كوفان، فأخذهما مسرورًا وهو يحلمُ بجائزةِ أميرِه المشؤوم، فدخلا قصر اللعين، يحملان رسالةَ دماءِ شهداءِ الطفِّ الصالحين، ويريان أنّهما مُكلفان بحفظِها وصيانتِها وإيصالِ صداها مهما كانت الأثمان؛ لذا لم يُسلِّما عليه بالإمارة، ولم ينحنيا أمامَه بكُلِّ ثقةٍ وجسارة، فاستشاطَ اللعينُ غضبًا، وتميّزَ غيضًا، وراحَ يهزأُ بالدماء، ويفخرُ بما جرى على يديه في أرض كربلاء، فانطلقا يُبينانِ له الحقيقة، ويكشفانِ عن بصرهِ غشاوةَ العمى؛ ليسلبانِ منه نشوةَ النصرِ الكاذب، ويتوعدانه بظهورِ الحقِّ واعتلاءِ رايته، ولو بعد حين. فتوسّل بأساليبِ من سبقوه، فأمر بحبسهما والتضييق عليهما، غافلًا عن أنّ الذهبَ يُمتحنُ بالنار؛ ليشتدَّ بريقه ويتألقَ نوره فيأخذ بالأبصار، وأنّ الأرواحَ النقية تزدادُ نصوعًا، وتتوهج اللآلئ في أعماقِها كُلّما ازدادت أمواجُ البلاء. نعم، في جُدرانِ السجنِ القاسية لابنِ زيادٍ (لعنه الله واخزاه) كانا هناك؛ لينسجا للتاريخِ من سجلِ آلامِهما الحكايا الموجعة والقصص المُبكية، بعد أنْ علا وجهيهما الشحوب، وفتكت بقلبيهما الآلام، فقد أوغل اليُتمُ فيهما مكانًا قصيًا، وغادرتْهما الابتسامةُ برحيلِ تلك الأنوارِ البهيّة في كربلاء الفداء والتضحية، ولم يبقَ معهما غيرُ ذكرياتِ الطفِّ الأليمة، التي لم تزلْ تطعنُهما ذاتَ اليمين وذاتَ الشمال، وتنخرُ روحيهما البريئتين. زهرتان نضرتان ذبلتا في سجون الطواغيت، لكنّهما لم يفتآن يبينان من هما وعظيم قربهما من نبي الإسلام، ويدعوان إلى سبيل الله (تعالى) بطيبِ الموعظة وجميلِ الكلام. فرقَّ السجّانُ لعتمةِ أيامهما، وبكى مُعتذرًا عن جهلهِ بحقِّهما، ثم فكّ أصفادَ الوجعِ عنهما، فابتغيا أنْ يُرفرفا كحمامتين جميلتين لم تألفا إلا أعالي السماء موطنًا، ولم تعشقا إلا القممَ مسكنًا. هربا، فساقتهما أقدامُها في طريقِ الكفاحِ إلى بيتِ امرأةٍ مؤمنةٍ في زمنٍ عزَّ فيه الإيمان، ونَدُرَت فيه المواقفُ الجريئة التي تُترجِمُ صدقَ الولاءِ للإسلام والحُبِّ لذُريّةِ مُحرّرِ الإنسان من سطوةِ الظلمِ والعدوان.. ففرشتْ لهما قلبَها، ووضعتْ لهما روحها، وهي تشمُّ منهما بقايا عطرِ أميرِها العادل علي (عليه السلام)، وترى في وجهيهما آثارَ غربتِه في ذلك الزمن الموحش. يا لها من حكايةٍ عجيبةٍ! فمع مسلمِ بن عقيل (عليه السلام) كانت طوعةُ الأبيّة، ومع طفليه كانت هذه العجوز الوفيّة، ولأولِ مرةٍ ينعمُ الطفلان الصغيران في بيتِ العجوزِ بالأمان، ويحتضنُ أحدُهما الآخرَ في مشهدٍ دمعت له عينُ التاريخ والإنسان. ولكنّه الشيطان... نعم مرةً أخرى يأتي الشيطان؛ ليُحرِّكَ الطمعَ القابعَ في سراديبِ ضلالِ النفوس؛ ليحبسَ الحمامتين ويحول دون تحليقهما، ويمنعَ في قسوةٍ وغلظةٍ رفرفةَ جناحيهما، ويفلح الشيطان في تحريضِ من باع نفسه بالخسيس؛ ليستلَّ سيفَ البغي ويحصدَ سنابل البراءة، فيحزَّ رأسين صغيرين، لمُبلِّغِ رسالةِ الإمام الغريب سفيرِ الحُسين (عليه السلام)، فيودِّع القلوبَ وجعًا لا ينتهي، وحسرةً لا تنقضي على مرِّ السنين. فالسلامُ على تلك الدماءِ الزكيّة التي لوّنت نهر الفرات، وتناثرتْ ذودًا عن الإسلامِ في زمنِ الطغاة، سلامٌ عليكما سادتي وأنتما تُكملان نهضة السبطِ الشهيد، وتتحديان بنقاءِ الطفولةِ كُلّ سلطانٍ عنيد، وتكشفا زيفَ ادعاءِ الأعداءِ وبشاعتهم؛ ليكون موقفكما استمرارًا لرسالةِ ساداتِكما، يُطلِقُ في المدى علاماتِ استفهامٍ كبرى، كُلّما مرَّ أحدٌ على تاريخٍ حوى قصتكما، أو نزلَ بأرضٍ احتوت أجسادكما، وفازتْ بأنوارِ ضيائكما لتبقيا معلمًا للأحرار، ونبراسًا للثوار، وملاذًا لمن يبتغي نصرةَ الحقِّ بسيفِ البيان، ويرفض في إباءٍ وصمودٍ الخضوع للطاغوت والشيطان، مهما تجبّر المنكر ولبسَ لباسَ الحقِّ ليخدعَ الرائي ببريقِ الألوان. سلامٌ عليكما سادتي من قلبِ كُلِّ موالٍ لا زالَ يتنسمُ عندَ ضريحكما عطرَ التحدي والإصرار، ويستمدُّ منكما ثباتَ القدمِ في مُنزلقِ الطريقِ عند اشتدادِ العُتمةِ وغيابِ ضوء النهار، سلامٌ عليكما سادتي وأنتما تُلوِّنان بدماءِ البراءةِ لوحةَ الفداءِ التي حوتْ أسماءَ الفائزين بنصرةِ أبي الضيم سيّد الشهداء.

اخرى
منذ 4 سنوات
456

وهدأتْ أنفاسُ الرضيع

بقلم: وفاء لدماء الشهداء تساقطَ الأولادُ والأصحابُ واحدًا تلو الآخر في الميدان مُضرّجين بقاني الدماء، فارتسمَ الحزنُ على وجهِ سيّدِ الشهداء، وازدادَ عمقُ الجرحِ في قلبِه المُثقلِ بهمومِ الرسالاتِ والأنبياءِ.. ها هو الآن، وحيدًا في الميدان، بعدَ قتلِ الصفوةِ المُختارةِ من أصحابِه وأهلِ بيته على يدِ طغمةٍ فاسدةٍ قد امتلأت بالحقدِ على أهلِ بيتِ النبوةِ وموضعِ الرسالة. التفتَ الإمامُ الحُسينُ (عليه السلام) إلى مٌخيّماته فوجدها خاليةً من تلك الوجوه التي كانت تُضيءُ سماءَ كربلاء بإيمانها وتفانيها في سبيلِ نصرةِ إمامِ زمانها. أجالَ النظرُ في تلكَ البقعةِ الداميةِ، فرأى أجسادَهم مُتناثرةً، وأعضاءهم مُبضعةً، ودماءهم تسيلُ كنهرٍ هادرٍ؛ لتغسلَ وجهَ التاريخ، وتمحوَ الرينَ عن قلوبِ الغافلين. قَلَّبَ السبطُ المظلومُ النظرَ في الخيامِ وأمعنَ النظرَ إلى النساءِ فرآهن وقد امتلأتْ قلوبُهن بالألمِ، وهُنَّ يرينَ إمامَ زمانِهن بتلكَ الحالةِ من الغربةِ والوحدة. والجميعُ كانَ يتطلعُ إلى وجهِ ذلكَ السبطِ الوحيدِ في ميدانِ الشهادة، ذلك الوجه الذي كانِ يزدادُ تلألؤًا كُلّما ضاقتْ عليه الأرضُ بما رحُبت! نظرَ إلى القومِ الذين احتشدوا لمواجهته، فنادى علَّ نداءه يصلُ إلى قلبٍ فيه بقايا حياة، أو إلى سمعٍ لا يزالُ يذكرُ وصايا رسولِ الإسلام (صلى الله عليه وآله) في حبيبِ قلبِه الحُسين (عليه السلام): هَلْ مِنْ ذَابٍّ يَذُبُّ عَنْ حَرَمِ رَسُولِ الله؟ هَلْ مِنْ مُوَحِّدٍ يَخَافُ اللَّهَ فِينَا؟ هَلْ مِنْ مُغِيثٍ يَرْجُو اللَّهَ فِي إِغَاثَتِنَا؟ فأتمَّ الحُجَةَ وأوصلَ الرسالةَ بأبلغ معانيها، وأجلى صورِها، ولكن هؤلاء الصُمّ البُكم العمي لم يكنْ ليؤثرَ فيهم كُلُّ ذلك، فسكتوا بل صكّوا أسنانهم حقدًا وبغضًا على ابنِ عليٍ ذاك الذي حطَّمَ أحلامَهم، وقضى على مُخططاتِهم، وأردى كبراءَهم، وجاهدَ أشياخهم، فأودعَ قلوبَهم حقدًا، وأوقدَ في نفوسِهم المريضةِ جمرًا لا يُطفئهُ إلا الانتقامُ من ذريته. تركهم السبطُ المظلومُ وتوجّهَ تلقاءَ خيمةِ شريكتِه في نهضتِه، ومن ستُكمِلُ من بعدِه مسيرتَه، نظرَ إليها ونظرت إليه، فرأتْ كُلَّ معاني الوداعِ واللهفةِ في عينيه، فطلبَ منها أنْ تُعطيه ولدَه الصغير؛ ليودَّعَه الوداعَ الأخير. دخلتْ ربيبةُ الزهراءِ (عليها السلام) خيمتَها فأتتْ برضيعِ أخيها، جاءتْ ومعها حسرةٌ ولوعةٌ على حاله الذي يذوبُ لأجلهِ كُلُّ قلب، ويذرفُ الروحَ بدلَ الدمعة، فقد يبسَ لسانُه من شدّةِ الجوعِ والظمأ؛ لأنّه لم يشربْ ماءً ولا لبنًا منذُ ثلاثةِ أيام! حملَ الإمامُ المظلومُ رضيعَه إلى القومِ؛ علَّ صحراءَ قلوبِهم ترقُّ لحالِه، أبرزَه إليهم حتى رأوه طفلًا صغيرًا لا يقوى على الحراكِ، يُغمى عليه حينًا بعد حين، همسَ في أذنِه ريحانةُ الأمين: "وَيْلٌ لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ إِذَا كَانَ جَدُّكَ مُحَمَّدٌ الْمُصْطَفَى خَصْمَهُمْ". التفتَ به ناحيةَ القومِ الذين امتلأتْ قلوبُهم بالحقدِ والبغضِ لآلِ البيت (عليهم السلام) فقال: "يا قومُ، قَتَلْتُم شِيعَتي وأهلَ بَيْتِي، وقَدْ بَقِيَ هَذا الطِفلُ يَتَلَظَّى عَطَشًا، فاسقُوه شَربةً مِنَ المَاء". هتف الشيطانُ في جمعِهم، فأوقدَ لهيبَ الحقدِ في صدورهم، وباتَ يوسوسُ لهم، ويصمُّ عن سماعِ الحقِّ أسماعهم، وباتَ يستحثُهم لإكمالِ فصولِ الجريمة التي أثلجتْ قلبَه، وعوّضتْ عن خسارتِه لسنواتٍ عدة. وأخيرًا تمكّنَ الشيطانُ من حرملة، فانتفضَ اللعينُ مُعربدًا واستلَّ سهامَه المسمومةَ بخُبث، وراحَ يُسددها إلى رقبةٍ رقيقةٍ أضحتْ تلمعُ على صدرِ الحسين كأنّها إبريقُ فضة. فانطلقَ السهمُ الغادرُ فأصابَها بمقتلٍ، واخترقَها ليذبحَه من الوريدِ إلى الوريد، وتفجَّرَ الدمُ العبيطُ، وانتفضَ الطفلُ الصغيرُ من حرارةِ السهمِ الملتهبِ المسمومِ وأخرج يديه من قماطه؛ ليعانقَ الحُسينَ (عليه السلام) العناقَ الأخير.. بسط المظلومُ كفيه؛ ليجمعَ دماء ولدِه ويرمي بها إلى السماء، وردّد فؤادُه المكلومُ: "هَوَّنَ مَا نَزَلَ بِي أَنَّه بِعينِ اللهِ، اللهمَّ لا يَكُن أَهونَ عَلَيكَ مِن فَصيلِ (ناقَةِ صَالحٍ)، اللهمَّ إِنْ كُنتَ حَبَستَ عَنَّا النَّصرَ فاجْعَلْهُ لِمَا هُوَ خيرٌ مِنه، وَانتقِمْ لَنَا مِنَ الظَّالِمين". وقفلَ راجعًا إلى الخيامِ مُحتضنًا رضيعه الذي أضحى وكأنّه ياقوتةٌ حمراء، استقبلته ابنته سكينة: "أبِ يا حسين، لعلّك سقيتَ عبدَ الله ماءً وأتيتنا بالبقية؟ فنزلت كلماتُ أبيها على رأسها كالصاعقة وهو يقول بألم: "هذا أخوكِ مذبوحٌ من الوريدِ إلى الوريد". جاءت عمته زينب وأمّه الربابَ وعمته أمَّ كلثومٍ وبقية مُخدّراتِ الرسالة، فتصاعدتِ الأنّات، واحترقتِ القلوب، وعلتِ الأصواتُ بالبكاء والآهات، وعُقِدَ مأتمُ الرضيع في أرضِ النجيع، واحترقَ قلبُ الأبِ الشفيقِ على حالِ ولدِه الرقيق، فجاءَ النداءُ من ربِّ السماء: "دعْه يا حُسينُ؛ فإنّ له مُرضِعًا في الجنّة". رحلَ الرضيعُ (عليه السلام) مُخضبًا بدمهِ شهيدًا وشاهدًا على هذه الأمة، وبقيتْ جريمةُ قتلِه تهزُّ الوجدانَ وتُزلزِلُ المشاعر، وتُعرِبُ عن حقارةِ الدنيا وأتباعها الذين يستسهلونَ إراقةَ دماءِ الأبرياء من أجلِ حفنةٍ من الرُكامِ الفاني والملذاتِ الزائلة. وأصبحتْ هذه الجريمة فرقانًا بين الحقِّ والباطل، بين منهجِ الإصلاحِ والتغييرِ وهمجيةِ الفسادِ والتضليل، بين رموزِ الفضيلةِ وأقطابِ الرذيلة، ففضحتِ المنافقين، وبيّنتْ وهنَ شعاراتِهم وحبائلَ مكرهم وخداعهم، وأفصحت بما لا يدع مجالًا للشكِّ في أنَّ الحقَّ مع الإمامِ الحسين (عليه السلام)، وأنَّ هؤلاءِ شرذمةٌ باغيةٌ تطلبُ المُلكَ والسُلطانَ، ولا تتورعُ عن أيّ قبيحٍ في سبيلِ الوصولِ إلى مآربِها الخبيثة التي هي امتدادٌ لنهجِ وخطِّ من سبقوها. فبوركَ من دمٍ زكيٍ فضحَ الدعيَّ بن الدعي، وأضافَ إلى سجلِ التضحياتِ الجسامِ رقمًا جديدًا يُنصَرُ من خلاله السبطُ الأبي، وهنيئًا لمن وعى ويعي وسيعي هذه الحقائق اليومَ، ويتخذُ من الأمسِ منارًا لفهمِ الأحداثِ، وقراءة الواقعِ حتى الوصول إلى ضفةِ السلامةِ دون الوقوعِ في حبائلِ الخداعِ الأموي، الذي لا يزالُ مُمتدًا وإنِ اتخذَ أشكالًا أخرى ربما تنطلي وتشتبهُ على الكثير، ولكن لا يعبأُ بها الحُرُّ الواعي، ويتمكنُ من تشخيصِها أولَ انطلاقِها كُلُّ مؤمنٍ تقي.

اخرى
منذ 4 سنوات
349

ورحلَ المُصطفى

بقلم: وفاء لدماء الشهداء "لما قُبِضَ رسولُ الله (صلى الله عليه وآله) باتَ آلُ مُحمّدٍ (صلى الله عليه وآله) بأطولِ ليلةٍ حتى ظنّوا أنْ لا سماءَ تُظلّهم، ولا أرضَ تُقلّهم.."، بهذه الكلماتِ القاسية وصفَ الإمامُ الباقر (عليه السلام) ليلةَ رحيلِ رسولِ الإنسانية (صلوات الله وسلامه عليه وآله). ففي الثامنِ والعشرين من شهرِ صفر، كان بيتُ النبيّ الأعظم (صلى الله عليه وآله) على موعدٍ مع القدر، وما انبلجَ في ذلك اليومِ الحزين نورُ الفجر، فقد كانَ صبحُه أشدَّ عُتمةً وحلكةً من الليل، فرسولُ الله يعتزمُ الرحيل، إلى جوارِ المولى الجليل. ويسوَدُّ الفضاءُ بعينِ بضعتِه الزهراء (عليها السلام)، وهي ترى قُربَ تلك الساعةِ المحتومة، التي تُنذِرُ بوقوعِ الكارثة في الأمّة التي ستتنكرُ لكُلِّ جهادِ وجهودِ أبيها وبعلِها حتى تطلَّ الفتنةُ بأراجيفها المشؤومة. آهٍ لقلبكِ يا فاطمة وهو يفيضُ بالحسرات، آهٍ لعينيكِ وهما تمتلآنِ بالدموع الحارقات، فلا الدمعُ يُطفِئُ لوعتك، ولا النحيبُ المُتواصل يُهدِّئُ روعك ويمحو حسرتك. لهفي على حسِّكِ الرهيف، لوعتي على بيتِك الشريف، الذي سيكونُ نهبًا للحتوف، آهٍ لكِ وأنتِ تُضمّدين جُرحَ الغياب بحدِّ السيوف، سيوف العبراتِ والكلمات، والخُطَبِ والأنّات في المسجد أو الطُرُقات.. حتى يكونَ بيتُ أحزانِك ملاذَ روحِك المُتعبة، تُنفسين فيه عن ألمك، وتُعلنين من فنائه المُخضَل بدمعتِك نهضتك وثورتك، فأنتِ أكثرُ من يُدرِكُ حجمَ النكبةِ التي حلّت بالأمّة بعدَ رحيلِ والدك. إنَّ الموتَ الذي أسكتَ صوتَه وأوقفَ نبضاتِ قلبه، مهّدَ السبيلَ لرجعةٍ جاهليةٍ ورِدّةٍ وثنية، تعدّى فيها أقطابُ النفاقِ على ساداتِ البشرية، وأقصوهم بدءًا ببعلكِ المُرتضى عن منازلهم الربانيّة. يا لها من فِتنةٍ ابتدأتْ منذُ لحظات الرحيل الأولى لخاتمِ الأنبياءِ والمُرسلين، واستمرّت إلى الآن بآثارِها وما خلّفتْه وراءها رغم امتدادِ السنين، وكُنتِ وزوجكِ الوصي لها أول المُدركين.. آهٍ لكِ ماذا تفعلين؟ ولمن تنذرين؟ ومع من تتكلمين؟! وقد صُمّتِ الأسماعُ عن سماعِ صوتِك، وأُغلِقتِ العيونُ عن رؤيةِ حقّك، وبكمت الألسنُ عن نصرتِك، واجتمعت أبواقُ النفاقِ على تشويهِ الحقِّ وإخمادِ وهجه العظيم، وبثّتِ السمومَ في أوساطِ الأمّةِ المنكوبةِ؛ لتحرِفَها عن المسارِ الذي اختطّه الرسولُ (صلى الله عليه وآله) حتى حادتْ عن الصراط المستقيم. سيّدتي، رحلَ أبوكِ واتخذتْ رحلةُ كفاحِك لونًا آخر، قدِ اصطبغَ بالدمعِ والدم، فقد غارَ الإنصافُ، ونُكِّسَتْ رايةُ العدل والسلم، وأُعلِنَتِ الحربُ جهارًا نهارًا على بيتٍ لطالما أنِسَ به النبي (صلى الله عليه وآله).. بيتٌ أوسعَ النبيُّ (صلى الله عليه وآله) أهلَه باللثمِ والتقبيل، والإكرامِ والتبجيل، طرَقَه لشهورٍ أمامَ الملأ وهو يردد: "إنّما يُريدُ اللهُ ليُذهِبَ عنكم الرجسَ أهل البيت ويُطهِّركم تطهيرًا" بيتٌ انبثقتْ منه أنوارُ الإمامة، فكان في حياةِ أبيك للتائهين مناراً وعلامة، ولكن آهٍ من نوائبِ الدهر وغيَرِ الزمان، حينما تقصدُ خنقَ الحقِّ وإسكات صوتِ الحقيقةِ والقرآن. واليومَ... وبعدَ تقادُمِ السنين والأعوام، ها نحنُ نلتحِفُ الأسى ونفترشُ الصبرَ ونعضُّ على الجِراحِ والآلام، بانتظارِ حفيدِك المُغيّب إمامنا المهدي (عليه السلام)، نترقّبُ ظهورَ الأمر، والمُطالبةَ بالثأر، وإعادةَ الحقِّ المسلوبِ إلى أهله، وإعلاء رايةِ الإسلامِ الحقيقي في أصقاعِ الأرضِ التي باتتْ من الجَورِ تستغيث به كُلَّ يومٍ وتُناديه: عجِّلْ يا قُرّةَ عينِ النبي الأمين (صلوات الله عليه وآله). وحتى ذلك الحين سنبقى مُنتظرين، ولدينِ الإسلامِ الذي فداه أبوكِ وضحّيتِ له بحياتكِ وبنيكِ مُتبعين. سيأتي ولدُكِ الموعود وسيؤمُّ الملأ يومًا، وسنقفُ خلفَه نبكي ونقول: ها قد أتى مُعِزُّ المؤمنين ومُذِلُّ المُنافقين، والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.

اخرى
منذ 4 سنوات
387

خطواتٌ ودمعات

بقلم: غدير خم حميد العارضي على طريقِ العشقِ يسيرُ القلبُ قبلَ أنْ تسيرَ الأقدام، وتنطلقُ الروحُ المُتيّمةُ بين الجموعِ بلهفةٍ وحزن، أيام الأربعين ما هي إلا أيامُ تجديدِ العهدِ والوفاءِ لآلِ بيتِ النبي الأتقياء (عليهم جميعًا سلام الله)، فما ترى العينُ في هذهِ الأيامِ المُباركة إلا لوحةً مُتكاملةً تزخرُ بالنورِ تُسمّى بـ(لوحةِ الحُبِّ والولاء)، فجميعُ الأفرادِ صغارًا وكبارًا، نساءً ورجالًا، أطفالًا وشُبانًا، كُلُّهم يصطفّون على بابِ الهُدى يطلبونَ الزيارةَ والخدمة.. وكأنَّ سيّدَ الشهداء الإمامَ الحُسين (عليه السلام) قد سخَّرَ القلوبَ فباتت كُلّها تسعى إليه بطريقةٍ أو بأخرى، فنرى من يطهو الطعامَ للزائرين وهو يُردِّدُ: "خدمة الزائر شرف"، ونرى آخر قد فتحَ بيتًا أو حُسينيةً لمبيتِ السائرين نحو قبلةِ الأحرار وهو يُردِّدُ: "إنْ لم يسعكم المكانُ وسعتكم القلوب"، ونرى طفلًا يوزِّعُ الماءَ وهو يُردِّدُ: "اشربوا الماء واذكروا عطش الرضيع"، ونرى صغيرةً تمسكُ عباءتِها بقوّةٍ وكأنّها تتمسّكُ بها وهي توزِّعُ الدعاءَ والزيارةَ وكأنَّ لسانَ حالِها يقولُ: "أنا فداءٌ لعباءتك مولاتي رُقيّة".. لوحاتٌ تُرسَمُ بالدموعِ والحسراتِ على طولِ طريق الهُدى والإيمان، ولسانُ جميعِ من يخطو إلى الأرض المُقدّسة كربلاء إنّما هو: تمشي إليك توسُلًا خطواتي وأعدُّها إذْ أنّها حسناتي وكم من تائبٍ على هذا الطريق غسلَ بدموعِ الندم أدرانَ الذنوب وطهَّر روحَه من كُلِّ سوءٍ فيمَّمَ وجهه طاهرًا مُطهرًا نحو مولاه الحُسين (عليه السلام) كيوم ولدته أمه، وكم من مُخطئٍ أصلح سيرتَه وأعمالَه وجاءَ قاصدًا إمام العاشقين ليجعلَ من هُداه (عليه السلام) نهجًا ومنهاجًا للحياة، وكم من ذاتِ بينٍ أُصلِحَت، وبطنٍ أُشبِعَت، وعداوةٍ مُحيت، وصداقةٍ وطِّدتْ، ومحبةٍ وثِّقَت، وكم من روحٍ باتت أنقى، ونفسٍ صارت أتقى، وكم من ضالٍّ هُديَ للصلاح.. كُلُّ ذلك ببركةِ دماءٍ سُفِكتْ على طريقِ الفلاح؛ فدماءُ الإمامِ الحُسين (عليه السلام) التي سُفِكَت على أرضِ كربلاء إنّما أيقظتِ القلوبَ والعقولَ، وسطّرتْ أروعَ ملاحمِ الإنسانيةٍ في الذودِ عنِ الحقِّ والحقيقةِ والإيمان، فما يكونُ من الوفاءِ لتلك الدماءِ الزاكيات إلا تجديد العهد، وما يكونُ من ردِّ الجميل إلا تعلُّم سيرةِ المولى وانتهاجها في كُلِّ مفاصلِ الحياة، وما يكونُ من صدقِ الولاء إلا أنْ نكونَ حُسينيين بدفاعنا عن الحقِّ، عباسيين بنصرتِنا له، زينبيين بإكمالِ مسيرتِه.

المناسبات الدينية
منذ 4 سنوات
509