لعل من التعاريف الجميلة التي عُرف بها القلم هو ما قيل بأنه " الحافظ للعلوم، المدوّن للأفكار، الحارس لها، وحلقة الاتصال الفكري بين العلماء، والقناة الرابطة بين الماضي والحاضر، والحاضر والمستقبل. بل حتّى موضوع ارتباط الأرض بالسماء قد حصل هو الآخر عن طريق اللوح والقلم أيضاً". وبأنه" يربط بين بني البشر المتباعدين من الناحية الزمانية والمكانية، وهو مرآة تعكس صور المفكّرين على طول التاريخ في كلّ الدنيا... ".(١) فلا عجب أن تكون هناك سورة كاملة في كتاب الله - الذي هو دستور حياة الانسان- باسم "القلم" ففي ذلك إشارة وتنبيه لنا على أهمية هذه الأداة الموصلة للمعارف والتي تكتمل بها معتقدات الإنسان الفكرية وتحفظ بها علومه العقلية والنقلية . وبذلك يتم إيصال وتبيان الحقائق وتثبيتها للأجيال لكي لا يضلوا الطريق ولا ينحرفوا بالأقلام المشبوه والأخبار المزيفة الموصلة لهلاك الانسان. ففي كل جانب من جوانب الحياة هناك من يدعو للحق وترسيخ القيم وكل ما يرتبط بالمعارف الالهية وهناك من يدعو لخلاف ذلك مِمَن اتباع هواه ونفسه الأمارة بالسوء. فالقلم هو رمز لأداة عامة تطورت بمرور الزمن ولكن الغاية منها واحدة وهي إيصال مفهوم ما أو ثقافة أو معتقد ما إلى المجتمع البشري. وما لفت انتباهي هو أن السورة التي كانت باسم "القلم" كان اطارها العام يتحدث عن صنفين: صنف عَلم بالحق وآمن بالحجج الالهيين فبلغ الهداية، وصنف جهل وأستهزئ بما جاءت به الرسل من آيات فكان مصيره الضلال على أثر ذلك. ولذا ففي هذا الربط إشارة الى ان القلم من أهم الوسائل بتعريف الناس بالحق المتمثل بمن هو سبيل الله الموصل اليه والمتمثل بخط اهل السماء، وبهذه الوسيلة يتم احياء العقول الجاهلة بهذه الحقيقة. فالرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله) قد بَيّن من هو السبيل بعده واكد على ذلك واراد ان يثبت ذلك في وصيته كما ورد عن سعيد بن جبير، عن ابن عبَّاس،... قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: « ائتوني بالكتف والدواة ، أو اللوح والدواة ، أكتب لكم كتاباً لن تضلُّوا بعده أبداً ».(٤) فبالنتيجة هو(صل الله عليه وآله) أراد أن يثبت هذا الأمر عبر تدوينه، إلا ان الامة لجهلها منعوه ان يخط ذلك خشية على مصالحهم الدنيوية إثر اتباعهم لأهوائهم... وأبى الله تعالى الا ان يظهر أمره. فمنهاج الحجج الالهيين قائم بالأساس على التوضيح والتبيان والفكر لا السيف والاكراه فكما ورد :" إنّ قوام اُمور الدين والدنيا بشيئين: القلم والسيف، والسيف تحت القلم"(١) وهنا أتى دور انصار الحق والمؤمنين به ممن حفظوا وصية النبي(صلّى الله عليه وآله) في قلوبهم والذين ثبتوا ولم ينقلبوا على اعقابهم؛ واتبعوا السبيل وهو امام زمانهم الامام علي(عليه السلام). فكانت مولاتنا الزهراء (عليها السلام) الشخصية الابرز في التصدي لحفظ رسالات السماء من خلال خطبها وتضحياتها الجسيمة، فقد كانت خير مُبيّن وناصر لإمام زمانها... فتوثيق خطبة الزهراء(عليها السلام) كان بمثابة فرقان للناس ليصل من يريد ان يبصر نور الحق من خلالها. وهذه الفقرة من خطبتها :«وطاعتنا نظاماً للملة، وإمامتنا أمنًا للفرقة».(٥) يمكن ان نقول انها قد أوجزت لنا جوهر غاية الامامة وثمرة اتباع خليفة الله المجعول من قِبل الله في ارضه. وهكذا الاصحاب الخلص ممن ناصر الامام علياً (عليه السلام) ففي كل زمان كان هناك من يبيّن ويعرّف الناس بحق إمام زمانه ويبين للناس أمور دينهم ودنياهم وفق نهج أهل البيت (عليهم السلام) من أصحاب ذلك الامام وتلامذته، وهناك شواهد كثيرة تثبت ذلك - لسنا بصدد الحديث عنها - ونحن الان في زمن لنا أمام زمان هو غائب عنا بشخصه حاظر فينا لان " الارض لا تخلو من حجة "... فمن أهم واجباتنا: إعداد أنفسنا لنكون أهلاً لهذا الانتماء من خلال معرفته كإمام مفترض الطاعة وحجة الله وبقيته والسبيل الموصل اليه. ونجعل طاعتنا وتسليمنا راسخاً في قلوبنا باتباع منهجه والسير على سيرة أجداده وآبائه... فمتى ما كنّا كذلك كنا ممن يوفقون بأن يكونوا من الادلّاء على امامهم والدعاة إليه والذين يقودون الناس للاهتداء بنوره (عجل الله فرجه)... فكم من موالي غافل عن امامه؟ فعلى الذاكر لإمامه ان يوقظه من غفلته. وكم من مدّعٍ لحب أهل البيت وهو يؤذي الامام بأفعاله؟ فعلى العاملين بنهج ائمتهم ان يأخذوا بيده ويصححوا له مسلكه. وكم من تائه يعيش في ظلمة الذنوب والمعاصي يحتاج الى رشحات نور من نور الامام؟ وعلى من يملكها ممن استقى من نور امامه ان يزوده وينير له ظلمته ... فكل هؤلاء يحتاجون ان يعرفوا امامهم ويتعرفوا عليه من خلال المنتمين اليه والعارفين بضرورة الارتباط به... فالضال لابد ان يرتبط بإمامه ليهتدي، والمهتدي عليه ان يزيد ويعمّق ارتباطه بإمامه لكي يكون من اهل الاستقامة. فالإمامة منهج والمأموم عليه ان يكون مرآة تجلٍ لهذا المنهج ليتحول على شكل سلوك سليم يرتضيه الامام فيتحقق بذلك فينا جانب من مفهوم نصرتنا له. وهنا يمكن أن نستفيد من قول الإمام الصادق (عليه السلام): « إن العلماء ورثة الأنبياء».(٢) فالعلماء هم ترجمان للخط الالهي، فهم بتثبيتهم للعلوم الحقة بنفوسهم واستيعابهم لها تمكنوا من حفظ إرث الأنبياء والأوصياء... فكما أن الانبياء جاؤوا لهداية البشرية وليبينوا لهم الحق ويرشدونهم لما فيه صواب؛ فيحيونهم الحياة الانسانية المتمثلة بحياة الفكر والوعي والتعقّل كانت المسؤولية ملقاة على عاتق العلماء كذلك. فمن غايات خلق الانسان هو ان يكون ذا علم وتعقل ليبلغ الرشاد فلا ينحرف عن طريق الحق ويبلغ الغاية القصوى من خلقه ألا وهي نيل الرحمة الالهية. ففي زمننا هناك من ينصر الامام بقلمه من العلماء والمفكرين من خلال ما يتوصلون اليه من خلال تتبع اثار النبي (صلى الله عليه وآله) وعترته صلوات الله عليهم وهو ما يعرف بالاجتهاد والفقاهة. وكل من يبحث ويتوصل للحق وتحصل لديه معرفة بإمام زمانه تقع عليه ذات المسؤولية وذلك بالسعي لإيصال ما يعرفه لمن لا معرفته له. والسؤال هنا هل هذه النصرة ممتدة في زمن حضوره ؟ هنا يمكن ان نجيب بالاتي: كما أن هناك في زمن كل إمام حاضر من هم من أهل العلم والمعرفة كان لهم دور في ايصال فكر أهل البيت ومنهجهم للناس مع وجود امام ذلك الزمان، ففي زمن حضور الامام المنتظر(عجل الله تعالى فرجه) هناك علماء وفقهاء ايضا يمارسون هذا الدور ويعطيهم هذه المسؤولية. فلما نتتبع الروايات- وفق استقراء غير تام - نجد أن هذا الباب يبقى مفتوحاً ولكن بإشراف الامام بشكل مباشر، حيث إن باب الاجتهاد يُغلق والإمام يحيي قلوب الناس بإحياء القرآن واظهار السنن الحقة وتجديد الاسلام. كما ورد في النهج الشريف :« فيريكم كيف عدل السيرة، ويحيي ميّت الكتاب والسنّة » (٧) فهناك صنف من الروايات تتحدث عن الاكتفاء الذاتي (المكتسب من فيض الامام الحاضر) للمجتمع الانساني في معرفة الحق كما في هذه المصاديق: - كما ورد عن الامام الصادق(عليه السلام):« العلم سبعة وعشرون حرفاً.... فاذا قام قائمنا أخرج الخمسة والعشرين حرفاً فبثّها في الناس،... ». (٨) - وعن الامام الباقر(عليه السلام):« اذا قام قائمنا وضع يده على رؤوس العباد، فجمع بها عقولهم، وكملت بها أحلامهم».(٩) - وعن أبي جعفر(عليه السلام) أنه قال:«...وتؤتون الحكمة في زمانه حتى أن المرأة لتقضي في بيتها بكتاب الله تعالى وسنة رسول الله (صل الله عليه وآله وسلم) ».(١٠) وهناك بالمقابل صنف من الروايات تتحدث عن عدم وجود اكتفاء ذاتي بل هو نسبي عند افراد المجتمع الانساني في دولة الامام(عجل الله تعالى فرجه) كما في المصاديق التالية: - ففي الحديث الشريف عن أمير المؤمنين (عليه السلام) :« كأنّي أنظر إلى شيعتنا بمسجد الكوفة، قد ضربوا الفساطيط، يعلّمون الناس القرآن كما اُنزل ». (١١) - وفي الغيبة للنعماني:«...عن محمد بن جعفر، عن أبيه(عليهما السلام) قال: إذا قام القائم [بعث] في أقاليم الأرض في كل إقليم رجلا يقول عهدك [في] كفك، فإذا ورد عليك ما لا تفهمه ولا تعرف القضاء فيه، فانظر إلى كفك واعمل بما فيها».(١٢) وهنا لعل وفق المقارنة بين ما ذكرناه من روايات ان اتمام العقول وبلوغ اعلى درجات المعرفة يتحقق بشكل كامل في بعض الناس من القادة والاصحاب الذين يعتمد عليهم الامام في تشييد دولته، وتثبيت اركانها في كل العالم. كما ورد عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) في وصف أصحاب المهدي (عجل الله تعالى فرجه):« .. وهم النجباء والقضاة والحكام والفقهاء في الدين، يمسح الله بطونهم وظهورهم فلا يشتبه عليهم حكم».(١٣) وهذا لا يعني نفي تحقق اكمال عقول عوام الناس بل هو يتحقق ايضاً ولكن في حدود فهمي لعله يكون من ناحية تقبلهم للحق وقبولهم وأقبالهم عليه لما يُدعون له ويُبين لهم ممن هم من اتباع المذاهب الاخرى والشرائع الاخرى كاليهود والنصارى... أو لعل إكمال عقولهم سيكون في مرحلة متأخرة عن خُلّص أصحابه، وهو ما يمكن أن نفسر به روايات تعليم الناس القرآن كما أنزل وأمثالها. والخلاصة: ان القلم وسيلة لإيصال العلوم والمعارف ففي زمن الغيبة نحن نتعلم ونعلم بواسطة ما وصل الينا من علوم أهل البيت مما ينطبق ويوافق كتاب الله. وفي الظهور نأخذ علمنا مباشرة من الامام عليه السلام. وهو (صلوات الله عليه) كما انه في غيبته يختار اصحابه الممهدين لظهوره، الامر كذلك في ظهوره فأهل الاستعداد والقابلية في الغيبة هم من يلقى عليهم هذا الدور عند تحقق الفرج. وبذلك فليتنافس المتنافسون الان وقبل الظهور. ________________ (١) تفسير الأمثل: ج١٨، ص٣٠١. (٢) الكافي:ج١، ص ٣٢، ح٢. (٣) مجمع البيان: ١٠ : ٥٠١. (٤) مسند أحمد بن حنبل ٥ : ١١٦: ٣٣٣٦. (٥) شرح خطبة الصديقة فاطمة الزهراء(ع):ص١٥٥. (٦) مكيال المكارم :ص١٦٣. (٧) نهج البلاغة: خطبة١٣٨. (٨) البحار، ج ٥٢، ص ٣٣٦، ب ٢٧، ح ٧٣. (٩) البحار ، ج ٥٢، ص ٣٢٨، ب ٢٧، ح ٤٧. (١٠) كتاب الغيبة: ج ١، ص ٢٤٣.(١١) الغيبة للشيخ النعماني، ص ٣١٨، ح ٣. (١٢) بحار الأنوار، ج ٥٢، ص ٣٦٥. (١٣) الإمام المهدي وظهوره، ص٢٣٨ . فاطمة الركابي
اخرىكنت أتساءل في بادئ الامر عن سبب اهتمام العلماء بالكتابة، حيث كان أكثر ما يلفت انتباهي قصص بعضهم ممن تعرض للسجن كيف أنهم كانوا يحاولون إيجاد أي وسيلة ليكتبوا عليها مما تجود به أذهانهم... أي قصاصة! اي علبة! وأشياء كثيرة لا تخطر على البال! كانت من الممكن أن تنفعهم لتدوين أفكارهم، كانوا يستثمرون وجودها للكتابة عليها. فأدركت بعدها أنهم وحدهم من كانوا يعرفون قيمتها. نعم، لأن الأفكار كالفرص تمرّ مرّ السحاب؛ تأتي بسرعة وبوفرة، لكن تذهب وتتلاشى بذات السرعة. فمن يعرف قيمتها بعد فواتها سيتحسر وسيندم إذ إنه لم يدونها ليحفظها من النسيان. يقول الامام علي (عليه السلام):"الفكر مرآة صافية"(١) فالمرآة وضيفتها أن تُري وتعكس ما أمامها؛ لذا يمكن أن نقول: إن أفكار الأنسان هي كاشفة وعاكسة لما يحمله هذا الإنسان في عقله، وهذا ما يؤكده كلام الأمير فيما قال: "العقل حفظ التجارب"(٢). فحياة الانسان مليئة بالمواقف والتجارب والكلام المسموع منه والمقروء. بالنتيجة الافكار هي خزين دفين في ذاكرة الانسان ما ان يمر الانسان بشيء يُحرك ما يوافق ذلك الخزين الفكري حتى يتحرك ويتجلى فإن لم يغتنمها الانسان ويستلمها بشكل جيد فإنها تضيع منه. ويكمن خطر ما يحمل الانسان من أفكار في كونها جزءً من وجوده؛ وحَريٌ بالإنسان ان يُدقق ويتفحص كل ما يحمله ويتبناه. فالسقيم منه يداويه سواء كانت فكرة مغلوطة او شبهة او التباساً، أما أذا تجلت وظهرت ولم يُعر لها اي اهتمام فسيبقى جزء من وجوده المتمثل بعالم الفكر سقيماً. ومن هذه الافكار هي تساؤلات تُريدُ حلولاً، هي تشغل الانسان في داخل ذهنه، وتتوقد! لكن الانسان بانشغالاته بحياته المادية يغفل عنها! وكما قال النبي(صل الله عليه وآله): " العلم خزائن ومفاتيحه السؤال"(٢) فعند ظهورها فهذا وقتها المناسب لتعود الى داخله بهيئة اجوبة لكي يحصل في داخله سلام أكثر - كما يقال - فكثير ما ينشئ عدم وجود حالة الاطمئنان النفسي من قلة التفكر، وبنفس الوقت ان الاطمئنان يُمَكّن الانسان من أن يُوجد حالة التفكر في حياته أكثر. لذا كن متفكراً، لتكن دليلاً لنفسك، ولتبلغ بذلك الرشاد وتتحصن من القلق والاضطراب. ومنها افكار تحتاج الى تطوير/تنمية، هي تحتاج الى من يُظهرها ويُطبقها على ارض الواقع فقد تكون سبباً لبدأ مشروع جديد يغير مسير حياة هذا الانسان. فتجارب الكثيرين تثبت ذلك فإن بدايات نجاحاتهم كانت وميض فكرة برقت كالنجم في سماء فكرهم فأبصروها ولم يغفلوا عنها؛ فعلى بها نجمهم في الحياة. فتضييعها قد يُخسر الانسان الكثير، ولا يحصل بعدها في حياته اي تغيير مشابه لو انه اغتنم هذه الفكرة او تلك. لذا قال نبينا الاكرم (صل الله عليه وعلى آله): " قيدوا العلم بالكتابة "(٣). إن الأفكار هي كالكنوز الدفينة تحتاج الى ان نبحث عنها و نستمع اليها ونحترمها ولا نقلل من شأنها . وأن ندرك ان عالم الفكر عالم واسع ومهم جداً في حياة الانسان ومثمر جداً لكن بشرط ان ينتقل الانسان من مرحلة ان تكون لديه فكرة الى مرحلة ان تكون لديه حالة تفكر. فمن لا يتفكر بما يسمع او بما يقرأ او بما يمر به في حياته فإن حياته الفكرية تكون عقيماً لا ولادة لفكر جديد فيها . لذا فالكِتاب الذي تقرأه أذا لم تَستخلص منه فكرة تكتبها لتضيف عليها، او لتناقشها او تنتقدها، فاعلم انك قارئ غير جيد، وذو فكر يحتاج الى أن يُنشّط لإخراجه من حالة الجمود. إذا سمعت كلمة ولم تُحدث في داخلك حالة من التجاوب ولم تفكر فيما قيل، ولم تولِ أي أهمية او تأثر، ولم تُقيّم ما قِيل سلباً او ايجاباً فهذا مؤشر غير طيب عن دورك غير المفعل. لذا اكتبوا... ثم اكتبوا... ثم اكتبوا كل فكرة ليس لتصبحوا كُتاباً فقط بل... لتصبحوا أُناساً متفكرين... أصحاب وعي ودراية ويقين... أن توجدوا ثراءً فكري لأجيال اللاحقين ______________________ (1) نهج البلاغة :الحكمة ٣٦٢: ا. (2) تحف العقول عن آل الرسول: ص ٣٤. (3) نفس المصدر: ص ٣١ فاطمة الركابي
اخرىإن الإنسان وفق الثقافة الدينية الإسلامية هو موجود له جنبتان: جنبة مادية ترتبط بتكوينه الترابي الأرضي، كما في قوله تعالى: {وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ}.(١) وجنبة معنوية ترتبط بكونه نفحة من روح الله سبحانه وتعالى، كما في قوله تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي...}.(٢) ولكي يعيش هذا الإنسان حياة متزنة وسليمة عليه أن يحرص على تغذية هاتين الجنبتين كلاً بما يناسبها. وأن لا يُركز على جنبة ويهمل الأخرى فيكون صحيح البدن عليل الروح، أو العكس. مع أن الإنسان هو موجود سماوي بالأصل وما يبقى منه ولا يفنى هي روحه التي هي مرتبطة بعالم الغيب فهي الأهم والتي ستبقى، لذا فإهمال هذه الجنبة وعدم الحرص على تنميتها يجعل من هذا الإنسان موجوداً فاقداً لقيمته الحقيقية... فالجنبة المادية ما هي إلّا [مرْكَب] -كما يعبرون- أما الجنبة المعنوية فهي [القائد] التي تقود هذا الموجود للحياة الطيبة. ولنا أن نتخيل إذا كان دور هذا [القائد] غائباً أو مهملاً مغيباً، فمن سيقود هذا البدن؟! وإلى أي وجهة صاحبه متوجه؟ وبالتالي إلى أين ممكن أن يصل؟ هذا يوصلنا إلى أن نعرف أين تكمن أهمية التغذية المعنوية واكتساب حالة النمو الروحي الدائم، وذلك لكي يبقى هذا الفرد حيّاً بالحياة الإنسانية المطلوبة منه كخليفة الله تعالى في ارضه. فالمكتسبات المعنوية هي طاقة روحية تعطي الإنسان حالة من البهجة والسعادة والحيوية، فهي التي تقوي إرادة الإنسان للقيام بأي عمل. فالخمول والكسل والملل الذي يعيشه البعض يكون نتيجة لنقص في الحالة المعنوية فيهم. فالروح الإنسانية إذا فُعّلت ونمت؛ الإنسان يصبح شعلة متقدة تنير وتنفع وتبدع في المجتمع الإنساني. أي يصبح ذا قيم ومبادئ إلهية وإرادة تدفعه نحو كل خير ونبذ التفكير النفعي والمادي الشخصي المحض الذي تفرضه عليه الحياة المادية. كيفية تحصيل المكاسب المعنوية؟ هناك عدة مصادر منها: المصدر الأول: هو الثقلان، فأول منابع المكاسب المعنوية هو كتاب الله وأهل البيت (عليهم السلام)، فهم وسائط نزول فيض الله تعالى على عباده، فمن لا يأتي بوعائه ليُملأ من هذا النبع الأصيل فلن يحصل على شيء! وسيبقى فقيراً معنوياً، حيث قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (3) فالشفاء هنا من الأسقام المادية، وكذلك المعنوية بتطهير القلب من الأمراض وتصحيح الفكر من الشبهات. ولأهل البيت (عليهم السلام) هذان الدوران في حياة الإنسان لكونهم ترجمان آيات الله سبحانه، فهم القرآن الناطق كما أن آيات الله التدوينية هي القرآن الصامت. ومن هنا فمن الوفاء أن لا نغفل عن وجود أمامنا الحي الغائب (عجل الله فرجه) فهو تجلي الثقلين على الأرض وهو المصدر الذي علينا أن نسعى لبلوغ القرب منه والارتباط به لنحيا حياة معنوية طيبة في ضل رعايته ورحمته ودعائه وتسديده لنا. المصدر الثاني: مواسم الطاعة، كما في الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): "إن لربكم في أيام دهركم نفحات فتعرضوا له لعله أن يصيبكم نفحة منها فلا تشقون بعدها أبداً" (٤). فهذه المواسم من شأنها رفع الطاقة المعنوية في الإنسان، ومن التفاتات اللطيفة لأحد الأفاضل أنه قال: "إن قيمة هذه النفحات ليس ببقائها فهي لا محال تزول، بل ببقاء أثرها ومقدار انتفاعنا منها... من قوة إرادة اكتسبناها؛ وقرار للتغيير في جانب من حياتنا قد اتخذناه وثبتنا عليه". المصدر الثالث: الأماكن التي فيها طابع روحاني وبركة كمراقد الأئمة (عليهم السلام) والأولياء والمساجد فهي مناسبة جداً ليكتسب الإنسان شيئاً جديداً يُضفي على روحه البهجة والنماء. المصدر الرابع: الرفقاء الصُلحاء ومتابعة ارشاد وتوجيه العلماء العرفاء فهم خير زاد ومعين. الاخطار التي تواجهها مكاسبنا المعنوية؟ أولاً: ضعف إيمان الإنسان بالجانب الغيبي وحصر نظرته على الحياة الدنيوية (المادية) فهذا من أشد الأخطار على الإنسان، فعندما يغفل عن جانبه المعنوي ويهمله فإنه يموت موتاً معنوياً، وإن كان حياً يمشي على هذه الأرض. ثانياً: عدم تعظيم شعائر الله، ونقصد هنا: كل شيء دال على عظمة الله سبحانه وكل شيء يُراد منه أن يلتفت الإنسان لغاية وجوده في هذه الحياة الوقتية، فعدم الالتفات لذلك من شأنه أن يميت قلب الإنسان فيفقد تقواه أي يصبح غير محصن من أن تدخله كل شاردة وواردة حتى يصبح مغلفاً مختوماً عليه ومقفلاً -كما ورد من تعابير قرآنية- ثم إذا مات القلب يصبح -كما تعبر بعض الروايات- "كالإناء المنكوس" مهما كان الفيض النازل كثيراً فلن يدخل شيء فيه لأن قلبه (وعاءه) غير قادر على استقباله والاحتفاظ به فيبقى بلا حياة... ثالثاً: عدم مراقبة النفس وتهذيبها وتطهيرها وتزكيتها من كل شيء فيه شبهة أو حرام، فالرزق الحرام يجعل النفس لا تتفاعل مع المكاسب المعنوية بشكل صحيح، وإن اكتسبتها إلا أن ترتيب الأثر يكون قليلاً ومعدوماً أحياناً. رابعاً: اتباع خطوات الشيطان من الأنس والجن فقد يكون الإنسان ذا مكاسب معنوية طيبة لكنه باتباع أهل الهوى والشيطان يفقد مكاسبه شيئاً فشيئاً. كيف نحافظ على المكاسب المعنوية؟ من خلال الحرص على عدم ترك المصادر التي ذكرناها آنفاً: ١- الاتصال الدائم بالأمام (عجل الله تعالى فرجه) الذي قلنا إنه وسيط الفيض الإلهي، واستمداد العون منه من خلال ترسيخ فكرة أننا دائماً بحالة حاجة وافتقار للمدد الإلهي المتمثل بالإمام (صلوات الله عليه). ٢- عدم هجر كتاب الله تلاوة وتدبراً وعملاً بما فيه. ٣- مراقبة النفس ومحاسبتها من خلال خلوة مع الله تعالى، وهناك مثال جميل لا بئس بذكره لأحد علمائنا (ادام الله ظلهم جميعاً) يقول: " كما أن بدنك يتسخ خلال اليوم ويحتاج إلى الاغتسال والملبس النظيف والتعطر، كذلك الروح تتسخ وتتعب خلال الاحتكاك اليومي بالناس لذا تحتاج أن تطهر بخلوة مع الرب بسجدة ودمعة تطهرك، وباستغفار يعطرك". ٤- تَذكُر الموت فهو خير واعظ ومحيي للقلب ليبقى على اتصال بعالم الغيب. ٥- الانتفاع من مواسم الطاعة والمناسبات والأماكن التي فيها نزول الرحمة والبركة. ٦- عدم هجر الرفقاء الصالحين، والحرص على عدم هجر أماكن الوعظ والإرشاد. ٧- الحرص على [عدم الالتفات القلبي] بالنظر أو السماع أو عند التواجد في أماكن لا يسودها جو الإيمان إلى الأمور التي من شأنها أن تفقدنا شيئاً من مكاسبنا الروحية. نسال الله ان يوفقنا جميعاً ويرزقنا الاستقامة في السير إليه. ________ (1)السجدة :7. (2)الحجر: 29. (3)الإسراء:82، (4) كنز العمال: 21324 ،21325. فاطمة الركابي
اخرىالسؤال: من هم الاخسرون أعمالا؟ الجواب عند تتبع آيات موضوع الخسارة في ثقافة القرآن الكريم نجد أنها ليست بالقليلة، ولو تأملنا في موارد ذكرها نجد انها تقع في قبال الفلاح. فالفلاح هو حالة استقامة في النجاح اي بلوغ النجاة وحسن الخاتمة للإنسان عند انتقاله من هذا العالم الى العالم الاخر. وبتعبير آخر: مفهوم الخسران المطروح في القرآن الكريم مرتبط بالجزاء الأخروي للأعمال، لا الاثر الدنيوي الذي يترتب على ما يصدر منا من افعال ووفق سنة الاسباب الطبيعية. فهناك (خسران بناء) أي يُخفق الإنسان في مرحلة أو في خطوة من خطوات مسيرته فيعمل على التصحيح، أي هناك فرصة لتحصيل التعويض والانتفاع مما وقع. ولكن في ثقافة كتاب الله تعالى هو يتحدث عن (الخسران الهدام) الذي لا يمكن ان يُصحح او يُعوض إذا وقع فيه الانسان ولم يتجنبه، وهنا تكمن خطورة هذا الخسران. لقد ورد استعمالات مفردة (خسر) في القرآن الكريم بثلاث صيغ (١): ١- مفردة (خُسْر) اي ان الانسان في نقصان دائم في اصل رأس ماله وهو العمر، كما في قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} العصر:2. ٢- مفردة (خْسَر) تعني الانقاص في الميزان اي في المعاملات التجارية المالية سواء بالبيع بعدم الانصاف بالعطاء، او بأخذ اكثر من الاستحقاق، كما في قوله تعالى:{وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ}المطففين:3. ٣- مفردة(خَسِر) تعني بمعنى الهلاك والضياع، كما في قوله تعالى:{...فَإِذَا جَاء أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ} غافر:78. مواضع استعمال مفردة الخسر في القرآن الكريم الموصلة لمعرفة اسباب الخسر بشكل عام: ١• الشرك في عدم جعل الأعمال خالصة لله تعالى: قال تعالى: {... لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}الزمر: 65. ٢• سوء الظن بالله سبحانه بما يرتبط بإحاطته وعلمه المطلق بما نعمل في السر والعلن قال تعالى: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ} فصلت:23. ٣• عبادة غير الله تعالى ففي ذلك لن يصل الانسان لغاية وجوده قال تعالى:{فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}الزمر: 15. ٤• في الصدود والتمرد بعدم قبول وطاعة اوامر الله ورسله من قبل تلك الاقوام وهنا اتى بمورد أخذ العبرة قال تعالى:{ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ(8)فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا}الطلاق:9. ٥• الغفلة عن ذكر الله على أثر الانشغال بزينة الدنيا المتمثلة بالمال والبنون قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} المنافقون:9. ٥• التكذيب بآيات الله الدالة عليه والهادية الى صراطه المستقيم قال تعالى: {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} يونس: 95. ٦• تكذيب رسل السماء {الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ} الأعراف: 92. ٧• اتباع غير حجج السماء من الرسل والانبياء والاوصياء من اهل الترف والاستكبار قال تعالى: {قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا} نوح:21. ٨• طاعة الكفار يوجب الخسران كما في قوله تعالى:{ يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَـابِكُمْ فَتَنقَلِبوُاْ خَـاسِرِينَ} آل عمران:149. ٩• نصب المكائد لإيذاء حجج السماء قال تعالى:{وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} الأنبياء: 70. ١٠• الظالمون الذين يصدون الناس عن السبيل المستقيم المتمثل بدين الله وشريعته واحكامه، وابداله بسنن ابتدعوها وفق اهوائهم ونزواتهم قال تعالى:{ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ(19) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ(21)لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ} هود :22. ١١• اتباع خطوات الشيطان والدخول في ولايته قال تعالى:{وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا} النساء: 119. ١٢• الجهل بشريعة الله تعالى وبالتالي العمل بغير ما شرع الله تعالى مما يوافق اهواءهم ومنافعهم الشخصية قال تعالى:{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللّهُ افْتِرَاء عَلَى اللّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ}الأنعام: 140. ١٣• الامم التي تنتمي لشرائع سماوية لكنها لم تؤمن بالشريعة الخاتمة وبالنبي الخاتم المذكور عندهم. قال تعالى:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}الأنعام :20. ١٤• عدم الانتفاع بالقرآن الكريم على أثر ظلم هؤلاء لأنفسهم بعصيانهم وعدم ايمانهم بما يتلى عليهم من هدى قال تعالى:{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا}الإسراء: 82. ١٥• عدم العمل بمنهج دين الاسلام يوجب الخسران قال تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} آل عمران: 85. ١٦• المبطلون للحق (اي الذين ابطلوا الحق بنشر عقيدة الباطل والذين كذبوا بالأنبياء وسخروا من كلامهم)(٢) قال تعالى:{... فَإِذَا جَاء أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ} غافر:78. ١٧• الكفر بنِعمة الوجود الذي كرم الله تعالى بها بني البشر بأن جعلهم خلفاءه في ارضه، حيث ان " الخلافة لا تنفك عن اصل الخلقة، فلا يمكن فصل الخالق الذي اوجدهم عن كونه هو المُستخلف لهم في ارضه"(٣). قال تعالى:{هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا } فاطر: 39. ١٨• الجحود بنعم الايمان قال تعالى: {وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} المائدة: 5. حيث إن من معاني الكفر هو الجحود بالنعم، اي عدم شكرها بالعمل بها بما يصب في نفع الغير بل و تسخيرها في ما فيه فساد. ١٩• الذي لا يؤمن بالحق الذي اتى به القران الكريم المنزلة من الله تعالى من وعيد وانذار وتبشير عبر الرسل، فهو سيكون خاسراً إذا انتقل للعالم الاخر ورأى حقيقة ما كان يدعى اليه. قال تعالى:{هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ}الأعراف: 53. ٢٠• الاعراض وترك الحق بعد معرفته قال تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ} البقرة:64. ٢١• اصحاب الايمان المتزلزل/السطحي قال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} الحج: 11. اي الايمان الذي لم يستقر في القلب فيحقق الاطمئنان النفسي سواء في الرخاء او البلاء لأنه سيخسر الدنيا لأنه يعيش بقلق دائم ويخسر الاخرة لأنه لم ينجح بفهم ان الدنيا دار ابتلاء فيتقبل الابتلاءات جزءً من حياته. ٢٢• الظلم قال تعالى:{...وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ} الشورى:45. فعن امير الكلام(عليه السلام) أنه قال: اخسركم أظلمكم.(٤) ٢٣• الذي يقر لله تعالى بإيمانه في الاخرة اي بعد انتهاء الامتحان الالهي في الدنيا قال تعالى:{فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} غافر: 85. فسنة الله في الدنيا قائمة على الاختبار والاختيار، اما الاخرة فهي دار الجزاء فإن لم يختر الانسان الايمان وينجح بهذا الاختبار في الدنيا خسر فرصته بشكل نهائي. ٢٤• عدم الايمان بالمعاد واتى في موارد عدة منها: قال تعالى:{وَلَلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرضِ وَيَومَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ}الجاثية: 27. ٢٥• التكذيب بلقاء الله، وقد اتى في موارد عدة منها: قال تعالى:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ}يونس: 45. والتكذيب هنا ينتج عنه سلوك عملي خاطئ، لأنه لن يتزود بالعمل الصالح. فعن النبي(صل الله عليه وآله): الخاسر من غفل عن إصلاح المعاد.(٥) ٢٦• عند العدل في ميزان البيع والشراء قال تعالى:{أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ} الشعراء: 181. قال تعالى:{وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ}الرحمن:9. هنا الآية تحذر من انقاص وبخس الناس حقوقهم في المعاملات التجارية، وقد تبين في المقدمة ان ثقافة الخسر تتحدث عن الاخرة وهنا تتحدث عن فعل ذلك في الدنيا ولكن في قوله تعالى:{ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ(١)وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ}المطففين:3، ونرى ان هذا المصداق فيه تحذير من بلوغ الهلاك في الاخرة اي تتحدث عن اصل مفهوم الخسران في الاخرة على اثر هذا فعل الاخسار بحق الاخرين. فعن النبي(صلى الله عليه وآله) انه قال: قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل.(٦) ٢٧• قتل النفس الانسانية بغير حق قال تعالى: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} المائدة:30، " وذلك على اثر التدرج في الاصغاء لوساوس النفس التي عبر عنها (طوعت) حتى تمت الطاعة والانقياد لأمرها وارتكاب ما فيه الخسران".(٧) ٢٨• في فقدان الانسان لرأس ماله وهو العمر قال تعالى: {إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} العصر:2. ٢٩• الذين لم يتزودوا لحياتهم الاخرى، واتت في موارد منها: قال تعالى:{وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ(8)وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ}الأعراف: 9. والوزن هنا عبر عنه بالحق " اي الوزن يكون للعمل دون العامل سواء كان العمل خير او شر، ولان الذي يثقل الميزان ما كان موافق للحق لذا فالذي لم يقدم عمل صالح ميزانه يبقى خفيف وبتالي يخسر العامل نفسه" . (٨) فعن النبي(صلى الله عليه وآله) انه قال: المنفق عمره في طلب الدنيا خاسر الصفقة عادم التوفيق.(٩) ٣٠• عدم بلوغ المغفرة والرحمة الالهية على اثر الجهل بالحاجة الدائمة لله سبحانه والافتقار اليه على كل حال واتت في موارد ثلاثة منها: قال تعالى: {وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} الأعراف: 149. ٣١• اصحاب النظرة الضيقة المحصورة بعالم الدنيا ممن كفروا بآيات الله تعالى ولم يوقنوا بتحقق لقائه قال تعالى:{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا(103)الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا(104) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا }الكهف: 105. إن لمفردة (الخسر) في القرآن الكريم مراتب هي: (خسر، الخسران، الخسران المبين، الأخسر، الاخسر اعمالاً) ومن هنا نلحظ: أن الأخسرين اعمالاً قد وردوا في مصداق واحد، وهذا الخسران متوقف على كيفية التعامل مع الدنيا ومع آيات الله والايمان بلقائه سبحانه وتعالى. فقد ورد عن الإمام الهادي(عليه السلام) انه قال: «الدنيا سوق ربح فيها قوم وخسر آخرون»(١٠) والقران الكريم يعطينا عناصر البضاعة المزجاة التي لا تنفع للمتاجرة بها والتي تسبب هذا الخسران عبر هذه الاسباب الثلاثة بقوله تعالى:{ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ}(البقرة:86). وفي قوله تعالى:{بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا...فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ} (البقرة:90). كيفية تجنب الوقوع في خسران الاعمال؟ وذلك من خلال معرفة كيف نبلغ الفلاح ونكون من المفلحين، وذلك بتتبع سمات المفلحين في ثقافة القران الكريم، وهي كالتالي: ١- تحقق حالة الايمان قال تعالى:{ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}(المؤمنون:١). ولو تتبعنا خصائص المؤمنين المفلحين لوجدنا انها هنا تحل محل خصال الخاسرين، فذكر الله تعالى الدائم وحالة الوجل والتوكل، كما في قوله تعالى:{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (الأنفال:74) هي خلاف الإيمان على حرف والغفلة، وخلاف الاستكبار والعناد. ٢- الكون من حزب الله. كما في قوله تعالى:{ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(المجادلة:22) إما خصائص حزب الله فهي: أ - الإيمان بالله ورسوله وإتباعه في قوله تعالى:{ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (المائدة:56). ب- التبري من أعداء الله ورسله في قوله تعالى: { لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ... أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(المجادلة:22)، لكي لا يخسر الانسان بالدخول في ولاية الشيطان واولياءه من الانس. ٣- الطاعة لله ورسوله. قال تعالى:{ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الأعراف:157)، وهذه خلاف من يطيع الكافرين. ٤- الاتباع للنبي (صلى الله عليه وآله) والإيمان به ونصرته له باتباع النور الذي انزل معه (القران والعترة) والمهتدين بهدى الله والموقنين بالجزاء. قال تعالى:{ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ.... فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(البقرة:4). ٥- الايمان بما انزل من الحق المتعال والايمان بالمعاد في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ(4)أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون} (البقرة:5). ٦- الذين يدعون للصلاح ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. قال تعالى:{وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(آل عمران: 104). خلاف الخاسر الذي يصد عن سبيل الله، ويبغونها عوجاً كما ورد . ٧- الايثار الذي يوجب عدم التعلق بالدنيا في قوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (التغابن:16). ٨- الذين ثقلت موازينهم بالأعمال الصالحة قال تعالى: {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (المؤمنون:102). نسأل الله تعالى ان يبعدنا عن الخسران ويرزقنا الكون من اهل الفلاح والايمان... __________ (١)قاموس المعاني الفوري مجال البحث مصطلحات المعجم الوسيط: رابط(https://www.almaany.com/ar/dict/ar-ar/خسر/)(بتصرف). (٢) مختصر تفسير الميزان: ص١٣٩(بتصرف). (٣) مختصر تفسير الميزان: ص٣٤٦(بتصرف). (٤) تفسير المعين ص٤٦٠ نقلاً: عن غرر الحكم. (٥) نفس المصدر، نقلاً عن: تنبيه الخواطر: ص٣٥٩. (٦) نفس المصدر، نقلاً عن: البخاري:٣٤١٤. (٧) مختصر تفسير الميزان: ص١٣٩(بتصرف). (٨) مختصر تفسير الميزان: ص١٩٠(بتصرف). (٩) تفسير المعين ص٤٦٠، نقلاً: تنبيه الخواطر: ص٣٥٩. (١٠) تحف العقول، ص361. فاطمة الركابي
اخرىإن الحياة الدنيا بطبيعتها هي دار لهو ولعب، كما في قوله تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} (الأنعام: 32)، وأن الإنسان الذي يعيش [فيها] و[لها] بطبيعته يُحب اجواء الفرح وكل ما فيها من لهو وراحه للنفس! لكن هذه الحياة فيها فرص في ذات الوقت لكل [عاقل] فهذه الأفراح -كعيد رأس السنة- وإن كان ليس عيداً لنا كمسلمين، لكن الناس (المسلمين) بطبيعتهم البشرية يحبون هذه الأجواء ويندمجون بها وإن كانت لا تخصهم؟! فإن أراد الإنسان العاقل أن يفرح مع المسيحيين، فليكن فَرحهُ فرحاً مستقلاً خالياً من التقليد الأعمى! ليكن فرحاً ذا ثمرة مستقبلية... وذلك باستثمار هذه الأجواء، فهي فرصة جيدة لكي يجلس الإنسان مع نفسه باعتبارها ختاماً لسنة انتهت وبداية لسنة جديدة. بلى هو "عيد" فليُعدْ كل منا حساباته... يرى ما أنجزه في ما مضى من سنته التي انقضت... فليُعد استذكار: كم من أهدافه التي وضعها قد تم أنجازها؟ -لا على الأقل- ليعرف كم تقدم بخطواته نحو أهدافه؟ وإن لم يحققها بشكل كامل... فهو أمر باعث للسرور في النفس المُجدّة ذات الهمة العالية... ليُعدْ نظرته في حياته على المستوى الشخصي والاجتماعي... إلى أي مستوى ارتقى وتكامل روحياً؟ إلى أي درجة ازداد معرفة بنفسه؟ إلى أي مستوى حسن علاقته مع ربه؟ هل عدّل سلوكاً كان لا يُعجبه بنفسه، مما كان يُشكل عائقاً بينه وبين غيره؟ إن الإنسان الذي يرى أمامه: كم من خطوة نحو النور تقدم؟ وكم من بصمة نافعة للمجتمع قدم هنا؟ حري به كإنسان عاقل أن يكون فَرِحاً... فَرحٌ يكسبه سعادة قلبية دائمة ذات أثر في حياته كلها... فرحٌ يكسبه بهجة روحية، وطاقة حركية تحفزه ليخطط لعام جديد... سيكون مليئاً بالعطاء والتوفيق والنماء بأذن الله تعالى. وكمتاع له في حياته الأخرى التي تحتاج إلى التزود بالمزيد من الزاد... أما الذي يفرح فرح بلا مقدمات وبلا نتاج! هو في الحقيقة يُشغل نفسه عن حقيقة نفسه، هو يعيش لحظات فرح كالسراب يحسبه الظمآن ماء وما هو بماء! فيبقى عطشاً... بلا توفيق ولا نماء في قادم الأيام... بل يزداد بعداً عن حقيقة وجوده بلا أهداف ولا زاد... لذا فليسْعَ كلٌ منا أن يعرف متى يفرح؟ وعلى مَ يفرح؟ فكم هو جميل أن نجعل العيد عيد [عبرة] و[معبر]، نُعيد ونَستعيد ما مضى لنعتبر مما حصل، ونُعد ونَستعد لما هو آتي لنعبر لما هو أفضل... وكما ابتدأنا بآية من الكتاب الكريم...فليكن ختامنا منه... فتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ(57)قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} (يونس:٥٨). فاطمة الركابي
اخرىورد في (مفردات الراغب): "ان السيد من ساد القوم يسودهم، ولما كان من شروط المتولي للجماعة أن يكون مهذب النفس، قيل لكل من كان فاضلاً في نفسه: سيد". ومن هنا نعرف أن السيد هو أكمل الناس في الفضائل الانسانية من ذي الكمال (الخَلقي) و(الخُلقي)، وهو ما يعبر عنه بأنه "الإنسان الكامل". إن الزهراء عليها السلام كانت إنسانة كاملة لما تحلت به من كمالات وبأعلى الدرجات على المستوى الظاهري والباطني. ويمكن لنا ان نثبت هذه الحقيقية من خلال القرآن الكريم، فهو مقياسنا في أساس التفاضل بين الناس بشكل عام، ومنه التفاضل النساء - وهو مطلوبنا - وذلك من خلال تتبع ذكر خصائص النساء الممدوحات فيه. إن كل إنسان هو موجود من صُنع وخَلق الله تعالى، ولكن بعض الخلق ميزهم لميزة وخصوصية فيهم دون غيرهم. فمنهم من خُلق بالحُسن العام الذي شمل كل البشرية في قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا}(نوح:17)، ومنهم من خصهم وزادهم بالخلقة فوصفهم بالإنبات الحسن في قوله تعالى:{...وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا}(آل عمران:37). والزهراء (عليها السلام) من أهل الخلقة والانبات الخاص، فهي الحوراء الأنسية - وكما يعبرون " فقد قدمت أصل تكوينها الملكوتي على الجانب الملكي" فكان أصل تكوينها ومجيئها لعالم الدنيا كمولودة للنبي الاكرم (صل الله عليه واله) بطقوس ومقدمات خاصة. كما قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله: "فاطِمَة خُلِقَتْ حورِيَّةٌ فِيْ صورة إنسيّة"(١) ونذكر هنا عدة نقاط: اولاً: من الشواهد على كمال الزهراء (عليها السلام) الخَلقي: روى ابن شهر اشوب (في ذكر خصائص النساء في القرآن الكريم) أنه قال: "...، والجمال لسارة زوج ابراهيم..." وبالمقابل روى الخوارزمي بإسناده عن ابن عباس، قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "لو كان الحُسن شخصاً لكان فاطمة، بل هي أعظم، إن فاطمة ابنتي خير أهل الأرض عنصراً وشرفاً وكرماً". (٢) وعن عائشة انها قالت: "كنّا نخيط، و نغزل، و ننظم الإبرة باللّيل في ضوء وجه فاطمة عليها السلام".(٣) ثانياً: من الشواهد على كمال السيدة الزهراء (عليها السلام) الخُلقي وهنا عدة مستويات، نذكر منها التالي: ١- على المستوى العلاقة بالله تعالى بلحاظ ما جاء في المناقب نقارن بين الفاضلات من النساء مع الزهراء (عليها السلام): قيل: إن التوبة من حواء، بقوله تعالى: (قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا) (الاعراف: 23) والزهراء عليها السلام هي اعلى مقاماً، فهي تجاوزت مرتبة الغفران الى الرضوان بل ان الله تعالى يرضى لرضاها كما روى الحاكم، فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال لفاطمة (عليها السلام): "إن الله ليغضب لغضبك ويرضى لرضاك". (٤) وقيل الشوق من آسية، قال تعالى: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ}(التحريم:11) والسيدة الزهراء (عليها السلام) لم تطلب الجوار، بل لها ما لها من الشأن في موقف يوم القيامة من الشفاعة الكبر،ى مثلاً كما في قوله:{وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى}(الأنبياء:28). فمن القابها أنها "الراضية المرضية". ذِكرُ الله تعالى لمريم عليها السلام، قال تعالى:{يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} (آل عمران : 43) بالمقابل الزهراء (عليها السلام) كانت تجسد مرتبة العبودية بكل وجودها وبأعلى الدرجات كما روي عن الحسن البصري أنه قال: "ما كان في هذه الأمة أعبد من فاطمة، كانت تقوم حتى تتورم قدماها".(٥) وفي آية {كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ } روي أنها زلت في علي ابن ابي طالب وفاطمة وحسن والحسين (عليهم السلام).(٦) ٢- على المستوى السلوك الإنساني وإظهار الفضائل نكمل مع ما جاء في المناقب وهو قول ابن شهر آشوب في ذكر خصائص بعض النساء الإلهيات: - الضيافة والكرم من سارة: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ}(هود:71). والزهراء (عليها السلام) من مصاديق قول الإمام الهادي (عليه السلام) في الزيارة الجامعة الكبيرة في وصفهم: "فعلكم الخير، وعادتكم الاحسان، وسجيتكم الكرم ...". فالزهراء (عليها السلام) لم تكن مضيافة فقط، بل وتؤثر الآخرين على أقرب الناس إليها وهم أولادها كما في سورة الدهر التي نزلت فيها وفي أهل بيتها. - الحياء من امرأة موسى، قال تعالى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} (القصص: 25). وهذه الخصيصة في وصف حال الزهراء (عليها السلام) بأعلى مستوياتها، فعن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) استأذن أعمى على فاطمة (عليها السلام) فحجبته. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لها: لمَ حجبتهِ وهو لا يراك؟ فقالت (عليها السلام): إن لم يكن يراني فأني أراه، وهو يشم الريح، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) أشهد أنك بضعة مني". (٧) فالزهراء (عليها السلام) توصل لنا رسالة: أن العفة ليست مسألة مظهر خارجي تستر المرأة فيها جمالها، بل هي مسالة قلبية روحية، علينا أن نهتم بها كما نهتم بظاهرنا. - الإحسان من خديجة، قال تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا} (الضحى:8) وكما في الحديث: "ما قام ولا استقام الدين إلا بسيف علي ومال خديجة". (٨) فإذا كان استقامة الدين كان بأموال السيدة خديجة (عليها السلام)، فالصديقة الزهراء (عليها السلام) بذلت كل وجودها ورحلت شهيدة دفاعاً عن الإمامة التي بها كمال الدين وحفظه. -الصبر على الاختبارات الإلهية لأم موسى، قال تعالى:{وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغًا ۖ إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (القصص:10) ويكفينا ما ورد في زيارتها صلوات الله عليها: " يا ممتحنة امتحنك الذي خلقك قبل ان يخلقك فوجدك لما امتحنك صابرة".(10) - الصدق لمريم قال تعالى:{... وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ...}( المائدة:75)، وقد ورد عن عائشة في حق الزهراء (عليها السلام) قالت: "ما رأيت أحداً كان أصدق لهجة منها إلا أن يكون الذي ولدها".(١١) وروى الشيخ الكليني بإسناده عن علي بن جعفر، عن أخيه ابي الحسن (عليه السلام) قال: "إن فاطمة (عليها السلام) صديقة شهيدة". (١٢) وفي قول للنبي صل الله عليه واله قال: "فهي الصادقة الصدوقة". (١٣) - العقل من بلقيس، قال تعالى: (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً)(النمل: 34). وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال " العلم مصباح العقل"(١٤). وعن الإمام الصادق (عليه السلام) : "نحن الراسخون في العلم و نحن نعلم تأويله"(١٥). والزهراء (عليها السلام) مشمولة بهذا الامر، وكما هو بادي في خطبتها لما قالت: " أيها الناس اعلموا أني فاطمة و أبي محمد (صلى الله عليه وآله) أقول عوداً وبدواً ولا أقول ما أقول غلطاً ولا أفعل ما أفعل شططاً". ٣- على مستوى المقامات الإلهية - مقام الاصطفاء، حيث ورد في خصائص النساء الالهيات والصفوة لمريم أم عيسى، روت عائشة أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) قال: " يا فاطمةُ أبْشِري؛ فإنّ الله اصطفاكِ على نساء العالمين، وعلى نساء الإسلام وهو خيرُ دِين".(١٦) - مقام تكليمها (عليها السلام) للملائكة حيث ورد في القرآن الكريم أن أم موسى (عليها السلام) اوحي إليها {وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ} (القصص:٧). وهذه خصيصة حظيت بها الصديقة كذلك بل وزادت عليهما كما روى المجلسي (رضي الله عنه) قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله) : "فاطمة سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، وإنها لتقوم في محرابها فيسلم عليها سبعون ألف ملك من المقربين، وينادونها بما نادت به الملائكة مريم، فيقولون: يا فاطمة {إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ}".(١٧) - مقام الحجية، فالله تعالى عبر عن السيدة مريم (عليها السلام) بأنها آية، حيث ورد عن الأئمة في قول الله عزَّ وجلَّ: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً}, يعني حجة". (١٨) فكونها حجة أي إنها دليل للناس وشاهد عليهم. وبالمقابل روي عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): "نحن حجج اللَّه على خلقه وجدّتنا فاطمة حجة اللَّه علينا".(١٩). فالزهراء (عليها السلام) حجة على حجج الله فهي بالنتيجة الآية الكبرى وليست فقط آية، بل وهي مفترضة الطاعة على جميع الخلق -كما ورد-. - المرأة المثل، قال تعالى:{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ...}(التحريم: 11) وإذا كانت أسيا مثلاً للمؤمنين، فان الزهراء عليها السلام هي المثل الاعلى، حيث مثلها الله تعالى بنوره بوصفها بالمشكاة، قال تعالى:{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ...وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ}(النور : 35). وفي اُصول الكافي: قال أبوعبد الله عليه السلام في قول الله عزّ وجلّ : (اللهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ ) فاطمة.(٢٠) بالنتيجة السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) لديها كل ما تفرق من خصائص وبأعلى الدرجات في هذه النسوة الإلهيات وزيادة... ومن الملفت ان رسول الله (صلى الله عليه واله) أكّد على سيادة الزهراء عليها السلام على النساء في الحياة الدنيا وفي الحياة الاخرة بقوله صلى الله عليه وآله: "فاطمة سيدة نساء أهل الجنة".(٢١) فحريٌّ بكل النساء ان يجعلن هذه الخصائص مقياسهن لمن ارادت منهن ان تبلغ الفلاح والسعادة في الدارين. ___________ (١)مناقب الإمام علي لابن المغازلي ص٢٩٦. (٢)مقتل الحسين:ج١، ص٦. (٣)فاطمة بهجة قلب المصطفى: ج١، ص٦١. (٤)المستدرك: ج٣، ص١٥٤. (٥) البحار ج٣٤، ص٤٨. (٦) شواهد التنزيل: ج٢، ص٢٦٨. (٧)الكافي: ج ٥، ص ٥٣٤. (٨)البخاري باب: المغازي، ح٤١٥٤. (١٠) مفاتيح الجنان: ص٤٠٣. (١١) الفضائل الخمسة من الصحاح الستة : ج٣ ،ص ١٨١. (١٢)الكافي:ج ١،ص ٤٥٨،ح ٢. (١٣)بحار الانوار: ج٣٤، ص١٩١. (١٤)غرر الحكم: ص٣٢. (١٥)الكافي: ج١،ص ٢١٣. (١٦)بحار الأنوار ج٤٣، ص٣٦،ح٣٩. (١٧)البحار: ج٤٣، ص٤٩. (١٨)كمال الدين وتمام النعمة: ص١٧-١٨. (١٩)تفسير أطيب البيان : ج١٣،ص ٢٢٦. (٢٠)الميزان : ج١٥،ص١٥٣. (٢١)صحيح البخاري: ج١٥، ص٤. * مناقب آل أبي طالب٢٠٣/٣(بتصرف). **بحار الأنوار / المجلسي ٣٤/٤٣(بتصرف). فاطمة الركابي
اخرىالفرق بين الغيث والمطر في اللغة: قيل في اللغة في مادة (غوث): "الغَوْثُ" يقال في النّصرة، و"الغَيْثُ" في المطر، و "اسْتَغَثْتُهُ" طلبت الغوث أو الغيث، و "فَأَغَاثَنِي" من الغوث، و "غَاثَنِي" من الغيث، و"الغيْثُ" المطر .(1) و(الغيث) ما كان نافعًا في وقته، وقِيل: "الغيث" المطر الآتي بعد الجفاف، سمي "غيثًا" بالمصدر لأن به غيث الناس المضطرين.(2) أما ما قِيل في اللغة عن مادة (مطر): "المَطَر" الماء المنسكب، وقيل إنّ "مطر" يقال في الخير، و"أمطر" في العذابِ.(3) و"المطر" قد يكون نافعاً وضاراً في وقته وغير وقته.(4) مصاديق الغيث والمطر في القرآن الكريم والفرق في استعمالها: اُستعملت مفردة (الغيث) في القرآن الكريم في موارد عدة: ١- بمعنى المدد على مستوى القوة والنصر كما في قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ} (الأنفال: 9). ٢- بمعنى المدد لكن بالجانب السلبي كما في قوله تعالى:{...وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا} (الكهف:29). ٣- بمعنى نزول المطر لسقي الحرث والنسل كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ...} (لقمان: 34). ٤- بمعنى امدادهم بالأمل بالحياة بعد أن أجدبت الأرض وانعدمت مظاهر الحياة فيها. كما في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ } (الشورى: 28)، وهذا مرتبط باستشعار ولاية الله تعالى علينا من خلال معرفة أن الحياة بكل مظاهرها منه سبحانه، وبالتالي يرتب الانسان أثرًا، أي يكون بحالة حمد وشكر بالقول والعمل على ما ينشره تعالى من رحمة تمدنا بالتنعم بالحياة، فلا يقنط لعارض أو بلاء. ٥- تجسيد مَثل حسي لتقريب الصورة للأذهان حول تقلب احوال الدنيا وزوال زينتها ومُتعها كنزول المطر الذي يسقي الأرض ويَعجب الزرّاع ما زرعوا فينشغلون بما تثمر الأرض، مع أنها لابد وأن تزول بقطفها، أو يأتيها عارض فيزيلها. فالإنسان هكذا في انشغاله بزينة الدنيا مع أنها الى زوال؛ أما أن يفارقها باختياره أو عن عارض يصيبه، كما في قوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ} (الحديد:20). أما استعمال مفردة (مطر) في القرآن الكريم: وفق استقراء الآيات الكريمة، تأتي بمعنى نزول نوع من العذاب والسخط على أقوام تلك الأماكن على أثر عنادهم، وكالتالي: 1- على أثر كونهم مجرمين، في قوله تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} (الأعراف:84). 2- هم يطلبون نزول العذاب على شكل مطر لكي يصدقوا! في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء...} (الأنفال:32). 3- على أثر عدم انتهائهم عن فعل السيئات، في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ} (هود:82). 4- على أثر ظلمهم، في قوله تعالى: {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ} (الحجر:74). 5- على أثر عدم ايمانهم بالمعاد، في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا} (الفرقان:40). 6- على أثر عدم انتفاعهم بالنذر وايذائهم للرسل من خلال محاولة اخراجهم من ديارهم وتكذيبهم، في قوله تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَسَاء مَطَرُ الْمُنذَرِينَ}(الشعراء:173). وفي قوله تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَسَاء مَطَرُ الْمُنذَرِينَ} (النمل:58). 7- على أثر جهلهم في التعامل مع الرسل وعدم تصديقهم لما به يوعدون، وفي قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} (الأحقاف: 24). علمًا أن ما ذكرناه من فرق بين الغيث والمطر لا يمثّل القاعدة العامة، وإنما هو فرق غالبي في آيات القرآن الكريم. __________ (1) رابط ( http://iswy.co/e12j2j)، نقلاً عن: مفردات الراغب:617. (2) كذلك، نقلاً عن: التحرير والتنوير: 25/ 156. (3) كذلك، نقلاً عن: مفردات الراغب:770. (4) كذلك، نقلاً عن: القرطبي:16/ 29 . فاطمة الركابي
اخرىعندما نسأل: من هي السيدة زينب الحوراء (عليها السلام)؟ إنها عقيلة بني هاشم، زينة حيدرة الكرار، وفخر المخدرات... ما شأنها عند الله؟ عظيمة الشأن والقدر هي والله... فلمَ أدخلها سبية بأرض الكوفة والشام مع ما لها من الشأن والمقام؟! حيث قال لها أهل الدنيا: "كَيْفَ رَأَيْتِ صُنْعَ اللَّهِ بِأَخِيكِ وَ أَهْلِ بَيْتِكِ ؟ " - هي (عليها السلام) قالت: "مَا رَأَيْتُ إِلَّا جَمِيلًا، هَؤُلَاءِ قَوْمٌ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْقَتْلَ فَبَرَزُوا إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ،...". (١) ومن قولها يمكن أن نعلم لماذا يا تُرى كان هكذا ردها؟ - لأنها تعلم أن ربها كمال مطلق، والكامل لا يصدر منه إلّا كل جميل؛ وما حصل كان جزءً من اختبارات الدنيا... نعم هي كانت تعلم أنها [في] اختبار، وهم في الدنيا باختبار . [هي] كان عليها أن تصبر لكل ما جرى وصار لأنها مكلفة بأداء مهام اتمام نهضة إمام زمانها، الذي قال لها في آخر لحظات: "أخية... تعزي بعزاء الله "(٢)، أي اعلمي أنكِ بدرع الله محاطة ومحصنة فكوني بقوة ربكِ ذات عزيمة... و[هم] كان عليهم أن يوقّروها ويعرفوا قدرها، ولا يَجروا عليها ما جرى من سبي وأسفار بين البلدان! وادخالها لقصور طواغيت ذاك الزمان... لكنهم بما فعلوا فشلوا... وهي (سلام الله عليها) بما فعلت اجتازت الاختبار بعزة ووقار... هم رغم هيمنتهم ورفعتهم بما يحسبونه قوة وسلطان كانوا صغاراً ليسوا ذوي هيمنة وقرار... لذا قالت (عليها السلام) لأميرهم: "إنّي لأستصغرُ قَدْرَك، وأستَعظمُ تَقريعك، واستكبر توبيخك!" (٣). ولأنها كانت تعلم مقياس الرفعة والهوان، كان هؤلاء في عينها وعين العائلة الهاشمية المسبية ليسوا أهل رفعة، نعم، فهم من أهل بيت نزل فيه القران فترسخت فيهم قيم رب الأكوان؛ كانوا يعلمون أن الرفعة بالعلم والإيمان لا بالمال والسلطان، حيث قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} وهذا ما أعطاهم البصيرة والثبات، ولم يلتبس عليهم الأمر أو يضعفوا أو يشعروا بالهوان! لذا قالت العالمة غير المعلمة في محضر طاغية زمانها: "أظنَنْتَ يا يزيد حيث أخَذتَ علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبَحنا نُساق كما تُساق الأُسارى، أنّ بنا على الله هَواناً وبك عليه كرامة ؟! ..."(٤) فكما نعلم أن لكل شيء زكاة، ومن خلال إنفاقه وبذله يتطهر الإنسان؛ ومن أعظم مصاديق الإنفاق هو بذل الوجاهة الظاهرية لوجه الله تعالى، ومن دون ذلك قد لا يستحصل الإنسان على أعلى المقامات... فالهوان [الظاهري] ممدوح إذا كان لأجل الله تعالى، أي أن تكون باذلاً جاهك ووجاهتك لأجله سبحانه، فيرى الناس إنك هين عند الله سبحانه؛ لكنك تعلم أن ذلك هو الذي يرفعك عنده سبحانه فيهون عليك نظر الناس وتقييمهم لما جرى فيك وصار... بالمقابل كان أولئك من أهل الجهل والجاهلية لأنهم قتلوا ابن بنت نبيهم. وكانوا من أهل الكفر لأنهم جحدوا بنعمة الولاية لحجة الله وهو سيد الشهداء (عليه السلام)، ولم يأتموا به كإمام منصّب من قبل الله عز وجل، وهذا خلاف الايمان للباري المتعال. فهم مصداق قوله تعالى: {الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ... أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(المائدة: 41) فهم لم يتطهروا إذ تكبّروا على الحق ولم يتبعوا أهله... وهنا قد يتبادر في الذهن سؤال: نحن نرى أن أهل الكفر والإلحاد مع هذه الرفعة بما يعيشونه من تطور ووجاهة ورفاهية وأموال؟ ومع هذا المدد؟ أين الخزي المقصود في الآية؟! - تبارك وتعالى يجيب بقوله:{اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}(البقرة: 15)، حيث عبر عن (المدد)بأنه طغيان وليس رفعة، فالطغاة من شأنهم الاستعلاء، أي هم برفعة موهومة لا حقيقية، فتأمل! بالنتيجة، هذا المدد ليس مقياسًا، وهذا ما يؤكده قوله تعالى: {قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا... فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا} (مريم: 75)، فهم من لا مكانة لهم ولا قيمة عند الله، ولا قوة لهم ولا وجاهة... لذا فما نراه من ظلم هو من صنع البشر، لا من صنع الله تعالى، أي من سوء تعامل البشر وعدم الانتفاع مما وضعه تعالى بين أيديهم من نعم وجاه وسلطان... نعم هكذا تُعلمنا الصديقة الصغرى أن لا يشعر من يؤمن بالحق ويتخذه منهجاً بالضِعة والهوان إذا لم يعرف أهل الدنيا مقامه ولم يُعطوه حقه واستحقاقه... المهم ما هي نظرة الله تعالى وأي كرامة له عند مولاه... لذا، إذا رأيت الظلم لا تشكّك بعدل الله تعالى، بل أحرص إلا تكون ظالمًا. انجح أنت... وأعط كل ذي حق حقه، وأثبت على الحق الذي تحمله في قلبك، لتكن مكرماً وجيها عند الملك المتعال... _____________________ (١)زينب الكبرى من المهد الى اللحد، ص٢٢٣. (٣) بلاغات النساء ص٣٥. (٢)زينب الكبرى من المهد الى اللحد، ص١٠٧. (٤) نفس المصدر، ص٢٤٥. فاطمة الركابي
اخرىيقول الامام الخميني (قدس سره): "إنّ المرأة كالقرآن كلاهما أوكل إليه مهمّة صنع الإنسان"(١) ان هذه الكلمة تحمل في طياتها معانٍ سامية وعميقة تُشير الى عظمة المرأة في هذه الحياة، ومدى حجم أدوارها الموكلة إليها من قِبل الله تعالى، وأهم الادوار الملقاة عليها هي إنها الوعاء الحامل للإنسان، والحضن المربي والصانع له. لذا نرى أن الله تعالى أولى للمرأة اهتمامًا خاصًا وخصّها بما لم يَخص به غيرها مِن خلقهِ، وذلك من خلال التشديد على رعايتها والاعتناء بها وحفظ كرامتها ومكانتها في المجتمع الأسري والعام عبر ما شرّعه في ديننا الحنيف. إن صلاح المرأة وقوتها ووعيها يُنتج مجتمعًا قويًا وصالحًا، فهي التي تصنع الرجال والنساء، فمتى ما عَرفت مكانتها وموقعها الحقيقي أخرجت رجالًا صالحين ذوي قيم، يحترمون المرأة سواء كانت هي ذاتها الام، او الاخت او الزوجة في المستقبل؛ وتنشئ لنا جيلاً من النساء الواعيات المربيات الفاضلات يخرج لميادين الحياة بوعي وعفة وحياء. نعم هكذا كانت مولاتنا الزهراء (عليها السلام)، كيف لا! وقد كان النبي (صلى الله عليه وآله) يبالغ في الاعتناء بها، وقد كسر قيود المجتمع الجاهلي الذي لم يكن يعطي المرأة مكانتها الحقيقية. فمن القيود التي كسرها النبي (صلى الله عليه وآله) من خلال تعامله من السيدة فاطمة (عليها السلام): - إظهار حبه واحترامه لها (سلام الله عليها) فقد ورد " كانت الزهراء (عليها السلام) اذا دخلت على النبي (صل الله عليه واله) قام إليها فقبلها فأجلسها في مجلسه". (٢) ومما يُنقل أنه كان يفتديها بنفسه، كما ورد أنه قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في رواية طويلة شاهدنا فيها قوله: "...فداها أبوها - ثلاث مرات - ما لآل محمد وللدنيا؟ فإنهم خلقوا للآخرة، وخُلقت الدنيا لهم". (٣) إن البنت التي يُغرس في داخلها أنها كيان عزيز ومحبوب عند والديها، ستكون ممتلئة عاطفياً، قوية، لا تبحث عمن يُغذيها أو يملؤها بالحب من هنا أو هناك، ولا تضعف أمام ضِعاف النفوس وذوي القلوب المريضة ومغريات الحياة الدنيا بل وتكون كتلة من الحنان والرحمة والقوة، أي تكون مصدر عطاء للحب، لا باحثة عن مصدر ليُعطيها! لذا فسلوك النبي (صلى الله عليه وآله) مع ابنته فاطمة (عليها السلام) حجة ومنهاج على كل مسلم أن يقتدي به، وذلك من خلال إكرام بناته، وغمرها باهتمامه وحبه، بالنتيجة ستكون له كما كانت "أم أبيها" (٤)، بلسمًا ومسكنًا راحته، وملاذه عند اشتداد الأزمات والحامي والمدافع عنه في قبال كل من آذاها. لذا هكذا امرأة، كيف يُمكن لنا أن نُلم بالجيل الذي سيتربى على يديها، بل وأنى لنا أن نتصور أي الأبناء ستُظهر للمجتمع، ان كانت حازت على مقام أن تكون أماً لأبيها، فكيف ستكون أمومتها لأبنائها! بلى، لا عجب إن كان نتاجها ولدين إمامين هما الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة، وبنتًا كانت تُلقب بأنها " تالية أمها" أنها زينب ابنت الطهر (عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين). - السؤال الدائم عنها وتفقد احوالها عن أبي جعفر(عليه السلام) قال : " كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا أراد السفر سلّم على من أراد التسليم عليه من أهله، ثم يكون آخر من يسلم عليه فاطمة عليها السلام فيكون توجهه إلى سفره من بيتها، وإذا رجع بدأ بها،...". والدرس التربوي الذي يُعلمنا إياه سيد الخلق في التعامل مع البنت هو أن على الاب أن لا يقطع الوصل ببناته وإن كُنَّ في عُهدة رجل أخر، ومهما كانت مشاغله، فهذه من الامور التي تولد شيء من العزة في نفسها، وتجعلها بحالة بهجة وسرور دائم . لذا فالسؤال الدائم والوصل الذي لا ينقطع عنها من قبل والديها وأخوتها ضروري، لأنه مؤشر على الحرص والحب والاهتمام، وهذا السلوك كان سنة حسنة اسسها النبي(صلى الله عليه وآله) للمجتمع المسلم، لتَضل أواصر الارتباط وصلة الرحم قائمة، فكم نحتاجها في هذا الزمان الذي شحت به ثقافة التواصل والتراحم الحقيقية. - إن المرأة هي كيان فعال ولها ادوار تتطلب عدم الالتفات للدنيا وزينتها ثم تكمل الرواية لتعطينا درساً أخر: "...، فلما قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله) دخل المسجد، فتوجه نحو بيت فاطمة عليها السلام كما كان يصنع، فقامت فرحة إلى أبيها [صبابة وشوقاً إليه]، فنظر (صلى الله عليه وآله) فإذا في يدها سواران من فضة وإذا على بابها ستر ، فقعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) حيث ينظر إليها، فبكت فاطمة وحزنت وقالت: ما صنع هذا أبي قبلها، فدعت ابنيها ونزعت الستر من بابها وخلعت السوارين من يدها، ثم دفعت السوارين إلى أحدهما والستر إلى الاخر، ثم قالت لهما : انطلقا إلى أبي فاقرآه السلام وقولا له: ما أحدثنا بعدك غير هذا، فما شأنك به؟ فجاءاه فأبلغاه ذلك عن أمهما، فقبلهما رسول الله (صلى الله عليه وآله) والتزمهما وأقعد كل واحد منهما على فخذه ، ... الخ الحديث.(٥) إن فعل النبي(صلى الله عليه وآله) هذا لم يَكن إلا لان الزهراء (عليه السلام) كانت السيدة الاولى في ذلك المجتمع اي إنها كانت قدوة لكل النساء، وهذا ما يُحتم عليها أن تُعايش نساء ذلك المجتمع، فالنساء من الفقراء والمعدمين لا يُمكن أن يتقبلوا الاقتداء بسيدة لم تَذق ما يَذقنه، ولن ينجذبْن لإرشادها وتوجيهها، وهذا من أهم متطلبات نجاحها كرسالية وداعية الى الله تعالى، وهذا يوجب شعورهن بقربها منهن، بل وتكون بذلك مواسية ومعينه لهن على ضعف حالهن، وتكون مصدر قوة . لذا في هذا الجزء من الحديث دروس يريد منا النبي الأكرم والسيدة الزهراء (عليها السلام) أن نتعلمه ونربي أبناءنا عليها، وهو أن يُربى الإنسان بشكل عام والمرأة خصوصًا إذا كانوا ذوي اهدف سامية على الزهد (اي أن لا يتعلق قلبهم بشيء من زينة الدنيا)، فلا ينشغل بهم عن دورهم في هذه الحياة. إن المرأة التي تتربى على القناعة، لن تنشغل بالأمور الكمالية، وعندما تذهب لدار زوجها ستكون نعم العون له والسند، لا أن تكون سببًا لتعاسته والتضييق عليه، بل ولعل بعضهن تصل لقرار فكّ هذا العقد المقدس لضيق يده وفقره كما هو شائع الآن للأسف الشديد، وكل ذلك سببه ابتعادنا عن التربية المحمدية لمولاتنا فاطمة (عليها السلام). - تكليفها بأعمال اجتماعية إن من أهم تطبيقات زرع الثقة في نفس الإنسان سواء كان رجلًا أم امرأة، هو عندما تُوكَل اليه المهام، وكلما كان الشخص الطالب ذا وجاهة ومكانة اكبر كلما كان هذا الامر معززاً لثقة المطلوب منه بنفسه، وكذلك يجعل روح المسؤولية لديه بحالة نمو وتصاعد، فكيف اذا كان الطالب شخصًا كخاتم الرسل(صلى الله عليه وآله). فالنبي الأكرم قد كسر قيد تلك النظرة القاصرة لدور المرأة، فكان يرسل للزهراء (عليها السلام) من يحتاج الى مساعدة او من يحتاج لرعاية أو استشارة في مسالة علمية وغيرها من المهام لمولاتنا فاطمة (عليها السلام)، كما ورد " لما استشهد جعفر بن أبي طالب في مؤتة أمرها رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن تتخذ لأسماء بنت عميس طعاماً ثلاثة أيام، فجرت بذلك السُنّة، وأمراها أن تقيم عندها ثلاثة أيام هي ونساؤها لتسليها عن المصيبة ثم اصبحت تلك سنة عامة". (٦) وفي كتاب (بشارة المصطفى) عن الإمام الصادق عن أبيه (عليهما السلام) عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: صلَّى بنا رسول الله (صل الله عليه وآله ) صلاة العصر، فلما انفتل جلس في قبلته والناس حوله. فبينما هم كذلك إذ أقبل شيخ من العرب مهاجر، ...، فقال الشيخ: يا نبي الله أنا جائع الكبد فأطعمني، وعاري الجسد فاكسني وفقير فارشني. فقال (صل الله عليه وأله): ما أجد لك شيئاً، ولكن الدال على الخير كفاعله، انطلق إلى منزل مَن يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يؤثر الله على نفسه، انطلق إلى حجرة فاطمة...الخ" الرواية. (٧) كما أن النبي (صلى الله عليه وآله) فتح للزهراء (عليها السلام) باب تعليم النساء فيما يجهلنه من مسائل الدين والدنيا، فكن يقصدنها من كل مكان. لذا على الآباء أن يهتموا بهذا الامر بأن يوكلوا بعض المهام لفتياتهم، ليعززوا ثقتهن بأنفسهن وليَكنّ قادرات على إدارة حياتهن وتَحمُل المسؤوليات في المستقبل بشكل أفضل، أن يستشيرونهن ويطلبوا رأيهن، ليصبحن من ذوي الفكر والتعقل، فلا يتربين على الامتثال لكل ما يسمعن وعلى تَقبل كل ما يُقال لهن على أنه صحيح ومسلم به بل يُفكرن ويحللن كل ما يُطرح عليهن، فيأخذن بالجيد منه. بالنتيجة سيرة الزهراء (عليها السلام) مليئة بالكنوز التي يمكن للإنسان أن يتأمل بها ليتخذها منهاجاً له ليصبح إنساناً إلهياً مرضياً مكرماً عند ربه، وجيهاً به عند خلقه. ___________ (١) الفقهاء حكام على الملوك – حسن الدجيلي، موقع البوابة الجامعة لأهل البيت (عليهم السلام) التابعة للمجمع العالمي لأهل البيت. (٢) بحار الانوار ج٤٣، ص٢٨٥.(٣) اشارة الى حديث سوار الفضة و وهو ورد في مقتل الحسين للخوارزمي. (٤) الإسرار الفاطمية، محمد فاضل المسعودي، ج١، ص٢٧٩، ح١٨. (٥) مكارم الأخلاق، ص٩١. (٦) قراءة في السيرة الفاطمية، ص٤٧٥، نقلا عن: المحاسن للنراقي. (٧) بحار الانوار ج٤٣، ص٥٦. فاطمة الركابي
اخرىتعني الوجاهة بشكل عام: الحرمة والرفعة والقوة والمُكنة لمالكها عند الخلق. ويمكن أن نصنف الناس في سعيهم لبلوغ الوجاهة إلى صنفين: الصنف الأول: صاحب النظرة المحدودة الذي يسعى لبلوغ الوجاهة عند أهل الدنيا وفي الدنيا فقط، فتراه يبحث ويتقرب من كل الأسباب المادية الدنيوية المتمثلة بجمع المال والثروة والدرجات العلمية العالية، والكون من الطبقات الاجتماعية الرفيعة ليبلغ الوجاهة والرفعة في اعين الناس. الصنف الثاني: صاحب النظرة غير المحدودة الواسعة، حيث يتصل بمصدر القوة والعزة سبحانه وتعالى، وبأوليائه فيبلغ الوجاهة في الدارين، ويبلغ الرفعة المادية والمعنوية. ومن هنا نعرف: أن الأمر متوقف على الإنسان نفسه، الله تعالى وفق حكمته وعدله لا يُعطي شيئًا مادياً أو معنوياً من دون استعداد وقابلية في من سيُعطى، وهذا يُوصلنا بالنتيجة إلى معرفة عظمة وكمالات صاحب تلك الوجاهة، وزكاة تلك النفس (أي الصنف الثاني). وهنا سنتطرق إلى ملكة واحدة توصل الإنسان لبلوغ الوجاهة عند الله تعالى وكيف تجلت في مولاتنا أم البنين (عليها السلام) وبمقدار ما وفقنا تعالى، وهي "التقوى" حيث قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ... إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } (الحجرات: 13). ويمكن تعريف الكرامة بأنها مقدار القرب من الله تعالى، وبلوغها -كما بينت الآية- بالتقوى، فهي استشعار حضور الله تعالى ورقابته لنا، ورعايته وعنايته، وهي في اللغة مشتقة من الوقاية فعن الإمام علي (عليه السلام) يقول: "اعلموا عباد الله أنّ التقوى دار حصن عزيز..." (١). وهي تصقل هذا القلب وتصفيته وتطهره وتجعله مؤهلاً ليكون محل لتقبل الفيوض الإلهية ورحمته وكرامته كما قال تعالى: {أُولَٰئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ} (الحجرات:3) "فروح التقوى لا تُعطى إلا بعد إن يُمحص العبد ويختبر باختبارات الصبر والرضا والتسليم ثم إذا نجح يعطى ملكة التقوى" كما يعبر أحد علمائنا. وهي أساس كل نية صادقة وإيمان خالص وطاعة وعمل مقبول عند الله كما في قوله: {لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ}(التوبة:108). ففي حديث قدسي يبين ثمرة بلوغ التقوى: "يا ابن آدم أنا أقول للشيء كن فيكون، أطعني فيما أمرتك أجعلك تقول للشيء كن فيكون" بالنتيجة نصل لنفس المطلب وهو الوجاهة، أي بلوغ القدرة على التصرف خارج الأسباب الطبيعية، وامتلاك قدرات غيبية. ومن هنا يمكن أن نقول: إن أعظم مصاديق الطاعة والعمل لله تعالى قد بُينَ لنا في حديث قدسي آخر حيث ورد في "دعوات الراوندي" (اختصاراً أخذنا الشاهد منه فقط) أنه روي أن الله تعالى قال لموسى (عليه السلام): ".... فأي عمل عملت لي؟ قال موسى عليه السلام: دلني على العمل الذي هو لك، قال: "يا موسى هل واليت لي وليًا، وهل عاديت لي عدوا قط؟ فعلم موسى أن أفضل الأعمال الحب في الله، والبغض في الله"(3) أي أن على رأس موارد الطاعة والعمل الخالص لله هو ولاية أولياء الله، والكون مع حجج السماء كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (التوبة:119)، وأعلى مصاديق الصادقين هم النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) من الأئمة الاطهار. وبعد هذه المقدمات نصل إلى مطلبنا وهو بلوغ مولاتنا أم البنين (عليها السلام) أعلى درجات التقوى المتجلية بولاية أمام زمانها سواء في زمن الإمام علي (عليه السلام) وولديه الإمامين الحسن والحسين (عليهما السلام) كما هو بَيّن في مختصر سيرتها المشهور والواصلة إلينا. وكلامنا هنا عن ولايتها للإمام الحسين (عليه السلام) بشكل خاص، وهذا إن دل فإنه يَدل على عِظم مقام هذه السيدة، وسعة وجودها الإلهي بما تملكه من استعدادات وقابليات أهّلتها لتكون بهذه الوجاهة والكرامة عند الله سبحانه وتعالى. كما ورد في وصفها من قبل أحد علمائنا أنه قال في حقها: "كانت من النساء الفاضلات العارفات بحق أهل البيت (عليهم السلام) ... ذات تقى وزهد وعبادة" (٤). من مصاديق الوجاهة للسيدة أم البنين (عليها السلام) في الدنيا: - المودة في قلوب الخواص والعوام. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} (مريم: 96). وعن الإمام علي (عليه السلام) أنه قال: "التقوى سنخ الإيمان" (٥). فتحقق الايمان يعني تحقق التقوى، والسيدة الجليلة كانت ذات شأن عند الأئمة حيث كانوا يكنّون لها حباً ووداً واحتراماً خاصاً. حيث مما ورد في وصف شأنها "كانت أم البنين (عليها السلام) من النساء الفاضلات، مخلصة في ولائهم، ممحضة في مودّتهم، ولها عندهم الجاه الوجيه، والمحلّ الرفيع، وقد زارتها زينب الكبرى بعد وصولها المدينة تعزّيها بأولادها الأربعة، كما كانت تعزّيها أيام العيد.." (٦). وهذا أوجب لها مودة ليس فقط في قلوب خواص المؤمنين بل في قلوب عامة المؤمنين، وهذا واضح من خلال ما لها من عظمة في النفوس، وما لها من ذكر مستمر، وإحياءٍ لأمرها دائم. - درجة العلم والمعرفة التي جعلتها صاحبة رفعة قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ...}البقرة (282). ظاهراً كانت السيدة شخصية عادية من حيث عدم انتمائها لبيوت الأنبياء والأوصياء قبل ارتباطها بالإمام علي (عليه السلام)، إلا إن الله تعالى وهبها درجة علم ومعرفة بحججه عجيبة! وهذا يُشير إلى سمو روح هذه السيدة الإلهية وطهارة نفسها ونقاوتها وتقواها التي أوصلتها إلى هذه المرتبة من الذوبان بسيد الشهداء (عليه السلام) حتى إنها تخلت عن اسمها رعاية لمشاعر ذرية بيت النبوة والإمامة، وفدته بذراريها، وهل هناك أحب للأم من أبنائها؟! إلا أنها صَنعت منهم درعاً وحصناً حول قلبها ووهبتهم لربها قرباناً ليبقى وجود حب إمامها حياً بقلبها ومحيّاً لوجودها بعد رحيلها، حيث ورد أنه لما رجعت القافلة للمدينة بعد واقعة كربلاء أنها قالت: "قَطَعت نياط قلبي أولادي الأربعة، ومن تحت الخضراء فداء لسيدي أبي عبد الله الحسين (عليه السلام). من مصاديق وجاهة السيدة في الآخرة تعالى عزّ وجل يصف نبيه عيسى (عليه السلام) بأنه وجيهاً بقوله: {... إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} (آل عمران: 45)، ثم في آية أخرى يُعطي شيئًا من مصاديق تلك الوجاهة في قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ....وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي...} (المائدة: 110). في حدود فهمي، هذه الوجاهة هي أعلى مراتب الكرامة وتعرف بـ "معاجز الانبياء"، وهي قدرات خاصة وقوى غيبية -كما قلنا سابقاً- تُعطى لخواص الخلق يخترق بها السنن الطبيعية بإذن الله سبحانه. هي تعطى لهم لإثبات حجيتهم وصدق رسالاتهم، لكون تلك الأقوام تميل إلى البراهين الحسية الملموسة التي يرونها بالعين، ولكنها تكسبهم أيضاً ذات المطلب وهو إظهار قربهم وكرامتهم عند الله تعالى للناس أجمعين. ومولاتنا أم البنين (عليها السلام) حازت على مقام القرب الإلهي في الأخرة من خلال ظهور كراماتها في الدنيا عند التوسل بها، وذلك بجعلها وسيلة لقضاء الحوائج الصعبة، والمشكلات المعقدة في حياة أي إنسان لديه عقيدة وإيمان بعظم شأنها، والأمر خاضع للتجربة والمحاولة والكرامات لا تُعد ولا تُحصى، فهي باب من أبواب الله سبحانه وتعالى الذي لا يُغلق بوجه سائل أو محتاج يطرق أبوابه. لذا نستطيع أن نقول: إن مولاتنا أم البنين (عليها السلام) بمقدار ما هي [وسيلة] لنبلغ مطالبنا ومقاصدنا، هي [مطلب] و[مقصد] أيضاً من خلال التأسي بها والسير على سيرتها ببلوغ درجة التقوى (القرب) من خلال الطاعة القصوى لإمام زماننا (عجل الله فرجه) والأئمة الأطهار (عليهم السلام) لنبلغ الوجاهة بهم عند الله في الدنيا والآخرة كما هي بلغت ذلك وذلك بمقدار استطاعتنا. __________________________ (١) نهج البلاغة، الخطبة ١٥٧. (٢) بحار الأنوار ج٩٠، ص٣٧٦. (٣) بحار الأنوار، العلامة المجلسي ج ٦٦، ص ٢٥٣. (٤) زينب الكبرى للنقدي، ص٣٣. (٥) تحف العقول، ص١٥٤. (٦) العباس للمقرم: ص ٧٢-٧٣، نقلاً عن مجموعة الشهيد الأول. فاطمة الركابي
اخرىبقلم: فاطمة الركابي إن الصديقة الزهراء (عليها السلام) لها من مقام علمي عالي تام، لكونها من أهل بيت العصمة الراسخين في العلم، وهذا ما ليس لأحد منا أن يبلغه لأنه مقام إلهي يُعطى للمصطفين من خواص خلقه، لذا نحن لن نتكلم عن الاقتداء وفق هذا المستوى لأنه خاص -كما قلنا-. فعن الإمام الصادق (عليه السلان): "إن الله تعالى أعطى عشرة أشياء لعشرة من النساء... إلى أن قال: والعلم لفاطمة زوجة المرتضى"(١)، ولكن نحن نتكلم عن جانب العلم الاكتسابي الذي يُمكن أن يُحصله كل فرد منا ليكون عارفاً بإمام زمانه وبمقدار ما ينشرح صدره له، ويستضئ بنور العلم الإلهي ليهتدي بهداه، ويثبت بذلك على صراط الله. فالعلم بالإمام هو على مراتب: فهناك مرتبة العلم العامة تلك المرتبة التي يحملها عوام الناس، كمعرفة الاسم والنسب وغيرها من الأمور العامة، وهذه المرتبة في الغالب لا يترتب عليها أثر بحيث تجعل حامليها من العارفين، ولكنها تكون مقدمة للارتباط به ومعرفته. وهناك مرتبة كمعرفة شيء من مقامات الإمام الإلهية، وتتبع سيرته ومنهجه الإلهي والعمل وفقها، وهذه مرتبة أعلى من تلك لما لها من أثر طيب بمقدار ما. وهناك مرتبة علم أعلى وهي للخواص ويترتب على أثرها درجة معرفة عليا تجعل الإنسان يعيش حالة الفناء والحب التام لإمامه، وهي المرتبة التي وصلت إلى أعلى مراتبها الصديقة الزهراء (عليها السلام)؛ ذلك العلم الموجب لحالة التسليم والطاعة التامة والانقياد، والعمل بمنهجه، ونصرته والدعوة إليه وتعريف الآخرين به. يمكن أن نتوصل لشيء حول حقيقة المعرفة بالإمام لما نقرأ ما نُقل عن إمامنا الصادق (عليه الصلاة والسلام) لما سئل (وجواب السؤال هنا يشمل معرفة جميع الأئمة، وإن كان وارداً في زيارة إمامنا الثامن الضامن فقط) حيث قال: "... من زاره عارفاً بحقه...، قِيل له ما عرفان حقه؟ قال: العلم بأنه إمام مفترض الطاعة غريب شهيد..."(٢) ويعلق أحد الفضلاء حول هذه الفقرة بهذه الالتفاته بقوله: "إن الإمام يُشير إلى مطلبين يجب أن يتحققا بالموالي وهما الانقياد على المستوى الجوارحي (الفعلي) بالعمل بمنهج الإمام الذي عبر عنه بوجوب الطاعة، وعلى المستوى الجوانحي (القلبي) أي حالة الارتباط المشاعري الوجداني بذلك الإمام من خلال استشعار مظلوميته وغربته، فهذان من أهم المقومات الموجبة للاتصال بالإمام وبتالي معرفته". تحقق المطلبين في الصديقة الزهراء (عليها السلام) من خلال بعض ما جاء في سيرتها: أولاً: تحقق الطاعة والتسليم: إن العلم المؤدي للمعرفة ثمرته الطاعة -كما ذكرنا- إي أن يكون الإنسان مستعدًا لقبول الأوامر الإلهية من دون قيد أو شرط، بل هو في حالة انتظار أي استعداد وتأهب لتلقيها ليعمل بها ووفقها، وهي تتجسد بطاعة الله ورسوله وولي أمره لا نفسه أو هواه! فعن ابن شهر أشوب في المناقب: دخل الحسن بن صالح بن حي على الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) فقال: يا ابن رسول الله ما تقول في قوله تعالى: {أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}، من أولي الأمر الذين أمر الله بطاعتهم، قال: العلماء. فلما خرجوا قال الحسن: ما صنعنا شيئاً، ألَا سألناه : من هؤلاء العلماء؟ فرجعوا إليه فسألوه فقال: الأئمة منا أهل البيت(٣). وهذا ما تجسد في الصديقة الزهراء (عليها السلام)، فمعرفتها بمقام الإمام علي (عليه السلام) كإمام منصب من قِبل الله تعالى تجلى في طاعتها التامة، حيث قال رسول الله (صل الله عليه وآله): "إن ابنتي فاطمة ملأ الله قلبها وجوارحها إيماناً ويقيناً إلى مشاشها، ففرغت لطاعة الله"(٤). علمًا أننا عندما نذكر هذه الصفات للعارفين بالإمام، ونقيسها بالزهراء (عليها السلام) نحفظ المقام العالي لسيدتنا البضعة الطاهرة، وإنما هو قياس لنتعرف نحن على بعض هذه المراتب لا لنسلط الضوء على حقيقة ما كان عندها (صلوات الله عليها). ويمكن أن نقول: إن الطاعة نوعان: طاعة فرض، وطاعة حب وولاء؛ فطاعة الحب تجسد الطاعة الحقيقية، وهي أعلى مرتبة من طاعة الفرض (أي عن خوف من عقاب أو عن رغبة في ثواب) والله تعالى يريد منا أن ننمي في داخلنا الطاعة المثلى وهي طاعة الحبيب لمن يحب، وهذه المرتبة العالية قد جسدتها الصديقة؛ فان طاعتها لإمامها هي كانت امتدادًا لطاعتها لربها كما في قولها (عليها السلام): "رضيت بالله ربا وبك يا أبتي نبيا وبابن عمي بعلا ووليا"(٥) وكما في قول إمامنا علي (عليه السلام) فيها (سلام الله عليها): "أنتِ أعلم بالله وأبر وأتقى وأكرم وأشد خوفاً من الله، من أن أوبخك بمخالفة...." (٦). وكما صرح في مورد أخر حيث إن الإمام (عليه السلام) يظهر مدى رضاه عن الزهراء (عليها السلام) ومدى طاعتها له، بقوله :"... ولا عصيت لي أمراً، ..."(٧) الثاني: استشعار غربة الإمام ومظلوميته، وهذا الجانب من المعرفة لدى الزهراء (عليها السلام) كان متحققًا أيضاً فهي كانت مستشعرة لعظيم غربة الإمام (عليه السلام) كما ورد في رواية عن أخر يوم في حياتها، حيث قالت فاطمة (عليها السلام) في جواب أم سلمة (رضي الله عنها) حين قالت لها: "كيف أصبحت يا بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ فقالت: "أصبحت في كمد وكرب: فقد النبي وظلم الوصي"(٨). فالزهراء (عليها السلام) قدمت التفكير بألآم إمامها وغربته على آلامها ومصابه، وفي رواية عن الإمام الصادق عن آبائه (عليهم السلام) أنه قال: "لما حضرت فاطمة الوفاة بكت، فقال لها أمير المؤمنين(عليه السلام) يا سيدتي ما يبكيك؟ قالت: ابكي لما تلقى من بعدي،..."(٩). بل ولطالما كانت مصدر بهجته، والمؤنسة له، المدخلة للسرور على قلبه، وبلسماً لجراحاته، كما أن الإمام علي (عليه السلام)، صرح بذلك في ما روي عنه أنه قال :"ولقد كنت انظر لها فتنكشف عني الهموم والإحزان"(٧). ونحن نعيش في وقت يعيش فيه إمامنا غربتين كما يُعلق صاحب كتاب مكيال المكارم في معنى الغربة التي يعيشها إمام زماننا "أن للغربة معنيين: أحدهما البعد عن الأهل والأوطان والديار، والثاني قلة الأعوان والأنصار وهو روحي له الفدى غريب بكلى المعنيين..." (١٠). لذا فواجبنا تجاه هذه الأسوة العظيمة (صلوات الله عليها)، وتجاه إمام زماننا (عجل الله تعالى فرجه) هو أن نسعى لبلوغ درجة من العلم توصلنا لمعرفة مقامه. تلك المعرفة التي يترتب عليها أثر وهو الطاعة واستشعار غربته وآلامه بل والسعي لنكون سبباً لإدخال السرور على قلبه (عجل الله تعالى فرجه). بلى! فكما إن النبي (صلى الله عليه وآله) والإمام علي (عليه السلام) كانوا يطرقون باب دار مولاتنا الطاهرة لأنها مسكن راحة وانس. كذلك من الوفاء إن يسعى كل منتظر منا أن يجعل من قلبه دار راحة لإمامه في غيبتهِ، وموطن سعادة له في غربتهِ؛ لا دار ألم وزيادة في جراحاته، وبالتالي يكون سبباً لتأخر فرجه. -------- (١) المناقب لابن شهرا شوب ج٣، ص٣٢١. (٢) ضياء الصالحين، ص٢٢١. (٣) في رحاب النبي وآل بيته الطاهرين - محمد بيومي ص 39. (٤) الفضائل الخمسة من الصحاح الستة : ٣ / ١٨١، دلائل الإمامة للطبري: ١٣٩:٤٧. (٥) إحقاق الحق لسيد نور الله الحسيني المرعشي التستري: ج٥، ص١١٧. (٦) الخصال لشيخ الصدوق: ص٥٨٨، ح١٢ (٧) كشف الغمة للاريلي: ج١، ص٣٦٣، وبحار الأنوار: ج٤٣، ص١٣٤. (٨) بحار الأنوار للمجلسي ج٣٤، ص١٥٦- ١٥٧. (٩) بحار الأنوار للمجلسي ج٤٣، ص٢١٨، ح٤٩. (١٠)مكيال المكارم في فوائد الدعاء للقائم للحاج ميرزا محمد تقي الموسوي ج١، ص١٤٩.
اخرىبقلم: فاطمة الركابي كان هناك رجل من اصفهان فقير الحال، ذا لسان كثير اللجاج، وذا جرأة لا يَهاب، فقدرت له الاقدار أن يُخرجه أهل مدينته على أثر ذلك من دياره في سنة من سني حياته، وقد أوقفته الاقدار في باب من ابواب من هم أشد أذى وطغيانًا، في باب طاغية زمانه المتوكل، ولكن كان يومها قد وقف وقفة المتظلمين الذين اتوا ليبدوا شكواهم إليه! وهكذا مرت أيام وهو لا زال على ذلك الباب واقفاً، فليس غريباً أن يطول وقوفه هناك، فقد أخطأ المقصد، وغفل عن الباب الذي عليه ان يَطرق، واليه يَلجأ. بلى! مَمن مِنهم تُطلب المطالب، وبهم الى الرب تكون المقاصد، بل هم من يَقصدون المحتاج قبل أن يَقصدهم، ويُعطون قبل أن يَسألهم المعوز. وبينما هو على هذا الحال واقفاً، وقفة الذليل على باب من هو في الذلة مرتكز، وبطغيانه لم يَكن بالله متوكلًا ومعتزًا، وإن كان اسمه المتوكل! إذ جاء مَن عِزة الله فيه قد تجلت، إذ خرج الأمر بإحضار علي بن محمد بن الرضا (عليه السلام)، فقال هذا الرجل لبعض من حضـر: من هذا الرجل الذي قد أُمر بإحضاره؟ فقيل: هذا رجل علوي تقول الرافضة بإمامته، ثم قال: ويقدر أن المتوكل يحضره للقتل! هنا يبدوا أن ذكر الإمام الهادي (عليه السلام) قد أوقد مصباح قلب ذلك الرجل المفتقر للنور قبل المال! حيث يُقال: إن الله تعالى لا يُخلي قلب أحد من نافذة ليَنفذ منها شعاع نوره متى ما حضر حامله ليُضيء لأمثال هؤلاء بعد أن عاشوا ظلمات الدنيا الغرور، بلى أنه ربنا صاحب اللطف الخفي، والرحمة التي وسعت كل شيء. وفي هذه اللحظات التي وصل شيء من شعاع نور الامام (عليه السلام) لقلبه -حصل الاتصال- فقال في نفسه: لا أبرح من ههنا حتى أنظر إلى هذا الرجل أي رجل هو؟ فرأى الامام حيث: أقبل راكباً على فرس، وقد قام الناس يمنة الطريق ويسرتها صفين ينظرون إليه - وعندها بلغ الوصل – حتى وقع حب الامام في قلبه، فأصبح يلهج بالدعاء اليه؛ بأن يدفع اللـه عنه شر المتوكل، كيف لا! أوليس هو وجه الله تعالى ونوره الهادي النقي؟! وهكذا أقبل الامام يَسير بين الناس وهو ينظر إلى عُرف دابته لا ينظر يمنة ولا يسرة، وهو لا يزال مداوماً على الدعاء، فلما صار إليَّه أقبل الامام بوجهه إليَّه، وقال : استجاب اللـه دعاءك، وطَوّل عمرك ، وكثر مالك وولدك! نعم! هكذا قصده الامام قبل أن يقصده، وسمع مبتغاه قبل أن تنطق شفتاه، لأنه باب الله الذي لا يُغلق، وإمام القلوب الذي ما دخل حبه فيها حتى استغنت، ونالت العزة، عندها أخذته هيبة إمامه وشغله بهاه، وأخجله كرمه وتلطفه وحنانه، فأرتعد ووقع بين أصحابه فسألوه وهم يقولون: "ما شأنك ؟ فقال: خيرًا... وأسرّ الامر في نفسه وكأنه كان يُردد في نفسه: بل كل الخير، فقد نال نظرة ممن هو أصل كل خير. وهكذا قُدر له أن يكون مخرجه بتلك الصفة من مدينته سبباً لبلوغه لهدايته، وتغير حاله الى أحسن حالة، فقد اهتدى لإمام زمانه، ووجّه بوصلة قلبه نحو السبيل الذي فيه حصول ثباته، وتزود نوراً وعزاً ليَسير فيه بدنياه، وليُنير به ظلمة أخراه. وبهذا اليقين وهذه البصيرة أنصرف إلى أصفهان، ففتح اللـه عليّه وجوهاً من المال، حتى أنه كان يصف حاله أنه باليوم يغلق بابه على ما قيمته ألف ألف درهم،...، ورزق عشرة من الأولاد، وقد بلغ من عمره نيفاً وسبعين سنة وهو يقول بإمامة امامنا الهادي الذي علم ما في قلبه، واستجاب اللـه دعاءه فيه وإليه.. (١). ______________________ (1) بحار الانوار: ج49، ص( 141 - 142).
اخرى