اقرئي أو لا تقرئي (٤) جاهِدي

بقلم: علوية الحسيني إنّ المُتأملة في بعضِ آياتِ الجهادِ كقوله (تعالى): {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِين}(١)، تستظهرُ أنّ الخطابَ موجهٌ إلى المؤمنين من الرجال حصرًا؛ لكونِ سياقِ الآية الكريمة جاءَ بصيغةِ جمعِ المذكر السالم (جاهدوا). إلا أنَّ هذا الظهور ليس حجةً؛ إذ ليس هو مراد الله (تعالى)؛ فمراده هو مخاطبةُ الجنسين من الرجال والنساء، ووعده لهم بهدايتهم سُبُل الرضوان؛ فكما أنّ اللهَ (تعالى) كان قاصدًا مُخاطبة الجنسين بتكليفه إيّاهم بالصلاة، كما في قوله (تعالى): {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة}، فكذا آيةُ الجهاد فيه (تعالى)، وإلا لاختص فرضُ الصلاة بالرجالِ كما يُريد البعضُ أنْ يخصَّ مطلق الجهادَ بهم. نعم، للجهادُ في الله (تعالى) أقسامٌ، وبعضُها لا تُكلَّفُ المرأةُ به، ليس انتقاصًا من مقامِها؛ وإنّما لطبيعةِ خلقتِها، فلم يفرضِ الله (تعالى) عليها جهادَ القتال؛ لذا سيتمُّ بيانُ ما هو شاملٌ لها أو مختصٌ بها ضمن النقاط التالية: ١/ الجهادُ النفسي ويُسمّى بالجهادِ الأكبر، وأشارَ إليه الله (تعالى) في كتابه الكريم بقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُون}(٢) فجهادُ المرأةِ لنفسِها بتزكيتِها وتهذيبِها ومنعِها عن اقترافِ الذنوب هو جهادٌ في سبيل الله (تعالى)؛ لأنّه (تعالى) يُريدُ بعبادِه الوصولَ إلى الكمال، وما يترتبُ على جهادِ النفس فهو كمال، إذًا الله (تعالى) يُريدهُ من المرأة كأمَةٍ له. وما الجهادُ النفسي إلاّ فأسًا يُهدِّمُ مملكةَ الأنا والتغطرس، وجميع الرذائل الأخلاقية، حتى يُصبِحَ القلبُ ساحةً خاليةً لا تعلّقَ فيهِ إلا بالله تعالى خالقه، عندها ستعيشُ المرأةُ حالةَ انخلاعٍ واندلاع؛ انخلاع عن كلِّ ما يُغضِبُ الله الواحد الأحد، واندلاع لروحٍ تسمو إلى التحليقِ في سماءِ الفضيلةِ والرضوان. وإنّ ما يُعينُ على مُجاهدةِ النفسِ بعد المحاسبةِ والمراقبةِ هو البكاء، وهو السلاحُ الصارمُ الذي أشارتْ إليه الأدعيةُ؛ جاء في دعاء كميل: "وسلاحه البكاء". والمرأةُ تمتلكُ هذا السلاحَ أكثر من الرجل؛ فهي التي ينكسرُ قلبُها بسرعةٍ بالبكاءِ والتضرُّعِ لله (تعالى) ولذا قيل "إنّ المرأةَ أسرعُ من الرجلِ وصولًا للكمالِ في السيرِ والسلوكِ لله (تعالى)"(٣)، ومن ثمَّ يكونُ جهادُها النفسي أثمرَ من جهادِ الرجلِ لنفسه. ويدخلُ ضمن الجهادِ النفسي الصبرُ على البلايا والرزايا، والتسليمُ لأمرِ الله (تعالى)، ولنا في السيّدتين الزهراء والحوراء زينب (عليهما السلام) أسوةٌ حسنة؛ فالأولى قد جاهدت جهادًا نفسيًا طوالَ حياتِها المباركة، وتجلَّى ذلك في صبرها على انقلابِ من زعموا أنّهم صحابةُ أبيها، وعلى ما اقترفوه بحقِّها وبحقِّ بعلها من شنيع جرمٍ، وهتكِ مقامٍ. وأمّا الثانيةُ فتعلّمت من أمِّها الجهادَ النفسي؛ حتى صبرت ولم تجزعْ قطّ منذُ استشهاد أمها، مرورًا بغصبِ حقِّ أبيها، وقتل أخويها، وسبيها... ٢/الجهاد بالمال قال (تعالى): {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُون}(٤). أيضًا يجبُ على المرأةِ أنْ تجاهدَ بمالِها بدفعِ الحقوقِ الشرعيّة المالية المُترتبةِ في ذمتِها من كفاراتِ تأخير صومٍ، أو إفطارٍ متعمّدٍ، أو حنثِ يمينٍ أو عهدٍ، أو خمسٍ، أو ديّةٍ، أو ردّ مظالم، فأداءُ تلك الحقوق هو جهادٌ من المرأةِ بمالِها. وفي غير ما فَرَضَتْه الشريعة لا يجبُ عليها الجهادُ المالي، لكنّه يدخلُ ضمنَ باب الاستحباب كمساعدة الفقراء والمعاقين والمحتاجين، وذلك قدر الإمكان وحال الاستطاعة المالية، كتزويج مؤمنٍ، أو صرف علاجٍ لمريضٍ، أو إقراض مؤمنٍ لبناءِ بيتٍ أو لسفرِ عبادة. فالسيّدةُ خديجةُ جاهدتْ بمالِها حينما ساهمتْ بالتجارة مع بعلِها نبيّ الله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذا مصداقٌ من مصاديق جهادِ المرأة بمالِها. ٣/الجهادُ الفكري لعلَّ الآيةُ الكريمة التالية تُشيرُ إلى بعضِ هذا الجهاد، وهي قوله (تعالى): {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيم}(٥) فعادة ما يُجاهدُ المرءُ بفكره وهو في بلدٍ غير بلده، لاسيما البلدان المخالفة بالدّين أو المذهب لبلدِه، وحتمًا المرأةُ مشمولةٌ بهذا الجهاد، فكمْ من امرأةٍ انحرفَ فكرُها عن مبادئ دينِها ومذهبِها منذُ أولِ يومِ هجرةٍ لها لأماكنَ تعتقدُ بخلافِ اعتقادها دينًا ومذهبًا، بل حتى التي لا تعتقد بدين. فهنا إنْ ضَعُفَ دينُ المرأةِ أو دينُ ذويها، أو كلاهما وجبَ عليها أنْ تُجاهدَ جهادًا فكريًا إنْ كانت مؤهلةً لهذا الجهاد؛ إذ أنّه يتطلبُ عقيدةً راسخةً، ومكنةً على ردِّ الشبهات التي تُثارُ في تلك الأماكن، فلابُدَّ للمرأةِ أنْ تجاهدَ جهادًا فكريًا؛ بمحاربةِ البدعِ، والانحرافات، والتيه، والضلالات، وتكون نبراسًا لنفسها ولغيرها. فإن لم تستطعْ حرمُ عليها المكوثُ في تلك الأماكن؛ حيثُ إنّ هكذا النوع من الهجرة يُعَدُّ "من أعظمِ المعاصي، وتُسمّى (التَعرُّب بعد الهجرة)، والمقصود به الانتقالُ إلى بلدٍ ينتقص فيه الدّين أي يضعُف فيه إيمان المسلم بالعقائدِ الحقّة أو لا يستطيع أنْ يؤديَ فيه ما وجبَ عليه في الشريعةِ المقدسةِ أو يجتنبُ ما حرَّم عليه فيها"(٦) وأحيانًا يتطلبُ الموقفُ جهادًا فكريًا من المرأةِ وإنْ لم تكن مهاجرةً، وهي في بلدها، بل وفي قعرِ بيتِها، فبعدَ الانفتاح التكنلوجي باتتْ الشبهات الفكرية التي تحاولُ النيلَ من عقيدتِنا تغزو أفكارَ البعض، فهُنا لابُدَّ من تثقيفِ نفسِها ثقافةً عقائديةً رصينةً؛ كي تُنَجّي نفسها وذويها من الانحرافات، وتدافعُ عن دينِها ومذهبِها بدحضِ الشبهات، مستعينةً متقرّبةً لربّ السماوات. وإنِ استصعبَ عليها التعلُّم وجبَ عليها طرقُ بابِ أهلِ العلمِ من ذواتِ أو ذوي الاختصاص؛ لتحصلَ منهم على جوابٍ لكلِّ شبهةٍ تُثارُ أو سؤالٍ يُطرح، فما إعمالُ فكرها واستصعابه الجواب وعجزِها عنه إلاّ جهادًا فكريًا تؤجرُ عليه إنْ شاء الله (تعالى) ولهذا أكّد الإسلامُ على ضرورةِ طلبِ العلم؛ لأنّه نجاةٌ وحياةٌ، فيا أُختاه تسلّحي بالعلمِ وأعدِّي للعدوّ ما استطعتِ من قوّةٍ علميّة، تُحافظينَ بها على مُعتقدِكِ، وتُدافعين عنه، وتُنجين أقرانكِ من الجحيم الفكري المنحرف. ٤/ الجهادُ الأُسري وهو على مراتب: أ) حسن التَبَعُّل رويَ عن رسولِ الله محمد (صلى الله عليه وآله): "جهادُ المرأةِ حُسنُ التبعل لزوجها"(٧)، ومن مصاديق حُسنِ التبعّل خدمةُ الزوجِ وكلُّ ما يُرضيه ويصبُّ في مصلحةِ بيته. ولاشكَّ أنّ المرأةَ التي أحسنَتْ التبعّلَ هي كالمجاهدةِ في سبيلِ اللهِ (تعالى) في معامعِ الوغى؛ حيثُ إنّ مجرّدَ الإحسانِ والتودُّدِ للزوج، والخضوعِ لأوامره كقيّمٍ عليها هو نوعٌ من الجهادِ الذي يطمسُ روحَ العنادِ والتكبّر والتمرّد على أوامر زوجِها، فضلًا عن أدائها للأعمال المنزلية التي تعودُ نفعًا على الزوج لهو جهادٌ بدني، وفي جميع الأحوال مثوبتُها عندَ الله (تعالى) عظيمةٌ إنْ أحسنَتْ ذلك. روي عن أسماء بنت يزيد الأنصارية أنّها أتتِ النبي (صلى الله عليه وآله) تسألُه عن جهادِ النساء، فقال لها: "إنّ حُسنَ تبعل إحداكنّ لزوجها، وطلبِها مرضاته، واتِّباعها موافقته يعدلُ ذلك كلّه[إشارةً إلى ما امتدحَت هي به النساء]"(٨) ب) الصبرُ على أذى الزوج قد تواجهُ المرأةُ المؤمنةُ من زوجها أذىً لأسبابٍ عديدة، ويصعبُ وضعَ حلٍ له، لذا فإنّ الإسلامَ قد وضعَ لها حلًا يُجدي نفعًا ومثوبةً، ويُعطيها منزلةً كمنزلة المجاهد في سبيل الله (تعالى)؛ حيثُ روي عن الإمام علي (عليه السلام): "جهادُ المرأةِ أنْ تصبرَ على ما ترى من أذى زوجِها وعشرتِه"(٩) وهُنا لاحظَ الإسلامُ ضرورةَ المحافظةِ على استمرارِ رابطةِ الزوجية، وأنْ يؤدي كلٌّ منهما التزاماته ويتمسكُ بحقوقه، وباقي تفاصيل ذلك موكولٌ للحكم الشرعي في الرسالةِ العملية لمن تقلّده الزوجة من المراجع. وما يهمُنا هنا هو تسليطُ الضوء على إعطاء الصابرة على أذى زوجها صفة المجاهِدة. ج) الموتُ أثناءَ الطَلَق والولادة وما بعد الزواج تعتري المرأةُ حالاتِ حملٍ ثم طَلَقٍ ثم ولادة، قد أثابها الإسلام عليها، وأعطاها منزلةَ المجاهِدة أيضًا في حالِ موتِها أثناء تلك الحالات؛ حيثُ رويَ عن الإمام الصادق (عليه السلام) "...فقالت حوّاء: أسألكَ يا ربِّ أنْ تعطيني كما أعطيت آدم، فقال الله (تعالى): ... يا حوّا أيُّما امرأةٍ ماتتْ في ولادتِها حشرتُها مع الشهداء. يا حوا أيُّما امرأةٍ أخذها الطلقُ إلا كُتِبَ لها أجرُ شهيدٍ، فإن سلمت وولدت غفرتُ لها ذنوبَها ولو كانت مثل زَبَد البحر ورمل البر وورق الشجر، وإنْ مات[ت] صارتْ شهيدةً وحضرتها الملائكةُ عند قبضِ روحِها وبشّروها بالجنة وتُزّفُّ إلى بعلِها في الآخرة وتُفضّل على حور العين بسبعين[درجة أو حسنة]. فقالت حوّا : حسبيَ ما أعطيتَ"(١٠) ■والخلاصة: إنّ جميعَ أقسامِ ومراتبِ الجهاد مردُّه إلى الجهادِ الفكري بالمعنى الأخص؛ أيّ بالعلمِ بماهية كلِّ قسمٍ وبفضيلته، فعندئذٍ تستطيعين أُختاه اختيار ميدانكِ الجهادي، بالسلاح المناسب لنوع العدوّ. •فإن كانَ عدوَكِ شيطانًا فساحةُ جهادكِ النفس، وسلاحُكِ التخلُّق بأخلاق الله (تعالى) وأوليائه. •وإنْ كان عدوّكِ حبسَ حقٍّ مالي شرعي فساحةُ جهادكِ الواقعُ، وسلاحُكِ أداءُ ذلك الحقِّ. •وإنْ كان عدوّكِ هو الشبهات فساحةُ جهادِكِ الكتابةُ، وسلاحُكِ القلم. •وإنْ كان عدوّكِ هو أذى الزوج أو أذى الطلق والولادة فساحةُ جهادكِ البيت، وسلاحُكِ الصبر. ولا تنسي أُختاه أنّ مطلقَ جهادِ المرأةِ هو نوعٌ من التمهيد لدولةِ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف)؛ إذ يعني ذلك تهيئة كُمّلٍ من النسوة ليحظينَ بنصرتِه، والعيشِ في دولتِه الكريمة. ___________________ (1) العنكبوت: ٦٩. (2) الحجرات: ١٥. (3) المرأة في العرفان: للشيخ جوادي آملي، ص (4) الحجرات: ١٥. (5) البقرة:٢١٩. (6) منهاج الصالحين: للسيد السيستاني دام ظله، ج١، م٣٠، ص١٣. (7) فروع الكافي: للشيخ الكليني، ج٥، باب جهاد المرأة والرجل، ح١. (8) ميزان الحكمة: للريشهري، ج٩، ص٩٦-٩٧. (9) فروع الكافي: للشيخ الكليني، ح٥، باب جهاد المرأة والرجل، ح١. (10) مستدرك الوسائل: للميرزا حسين النوري الطبرسي، ج١٥، ص٢١٤. علمٌ ثم إعدادٌ ثم قوةٌ ثم جهاد.. فهلاّ جاهَدتِ؟

المرأة بين الإسلام والغرب
منذ 3 سنوات
350

خاطرة

رحم الله ميثماً وسلام عليه بطهر السلام ايّ حظوة نالها، اذ كان النبيّ "صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله" يُحدّث عليّاً "عليه السلام" عنه، *بل يوصيه عليه؛ في جوفِ الليل؟! #ميثم_بين_انوار_آل_محمد #شهادة_ينبوع_العشق_العلوي ____ *بحار الأنوار ج ٤١_ص٣٤٤

الخواطر
منذ 3 سنوات
260

بوارقُ التوحيدِ الجلي عند الإمام الحسين بن علي (6)

"يا مَنْ لا يَعْلَمُ مَا يَعْلَمُهُ إلاّ هُوَ" بقلم: علوية الحسيني بارقةٌ توحيديةٌ أخرى تلوحُ في سماءِ التقديس، مُسلِّطةً الضوء على جوهرِ التوحيد النفيس، وتقولُ: إنّ هناك علمًا لا يعلمُه إلا الله (تعالى)، استأثر به لنفسِه في سُرادقاتِ الغيب. نعم، إنّ هناكَ علماً يعلمُه غير الله (تعالى)، لكن ذلك لا يُنافي سعة علمه (تعالى)؛ إذ الآيات الكريمة والروايات الشريفة لا تُنكرُ السِعة، وتحميلُ الله (تعالى) للبعضِ علمَهُ لا ينفي إحاطتَه علمًا بما حمّله. ومن الدلائلِ على سِعةِ علمه (تعالى) قوله (جلَّ جلاله): {إِنَّمَا إِلَٰهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْما}(١) كما وجاءَ في الرواياتِ الشريفة أنْ لا مُنتهى لعلمِه (تعالى)؛ رويَ "عن الكاهلي، قال: كتبتُ إلى أبي الحسن (عليه السلام) في دعاء: (الحمد لله منتهى علمه) فكتب إليَّ: لا تقولَنَّ مُنتهى علمه، ولكنْ قُلْ: منتهى رضاه"(٢) وبعدَ أنْ نبّهْنا إلى سعةِ علمِ الله (تعالى)، نتطرقُ لأقسامه. *فمن سياقِ بعضِ الآياتِ الكريمة يتضحُ لنا أنّ العلمَ علمان بلحاظِ الاختصاص والاشتراك؛ حيثُ أنّ هناكَ أمورًا لا يعلمُ بها ملكٌ مقرّب، ولا نبيٌ مرسل، بدلالةِ ظاهر الآية: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُو}(٣)، فمن الغيب تحديدُ زمنِ يومِ القيامة: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبا}(٤) ومن سياقِ بعضِ الآياتِ الأخرى يتضحُ أنّ مشاركةَ أولياءِ الله (تعالى) لربّهم في علمِه، من قبيلِ ما أخبرَ الوحيُّ به الأنبياء (عليهم السلام)، هو متمثل بالكتبِ السماوية، والأحاديثِ النبوية، وما ألهمَ اللهُ (تعالى) به الأئمةَ (عليهم السلام) متمثلًا بالجفر، ومصحف فاطمة، أو ما تناقَلَه الأئمةُ عن سيّدِهم النبيّ محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بإذنٍ من الله (تعالى) متمثلًا بالحديثِ عن عللِ بعضِ الأحكام مثلًا. إلاّ أنّ كلّ ذلكَ العلم هو جزءٌ مما عندَ اللهِ (تعالى)، ومالكُ الجزءِ ليس بالضرورةِ أنْ يملكَ الكل، أمّا مالكُ الكلِّ فيملك الجزء بداهةً؛ أيّ أنَّ الله (تعالى) مالكٌ لعلمِه الغيبي، ومالكٌ للعلمِ الذي أفاضَ به على أوليائه. وهذا لا يُنافي ما جاء به الإمامُ الحسين (عليه السلام) في فقرةِ دعائه المتقدمة، بل إشارةٌ منه إلى العلم الغيبي الذي استأثر اللهُ (تعالى) به لنفسه، وعليه فينعقدُ الكلام حصرًا حوله. *كما وهناك تقسيمٌ آخر للعلمِ بلحاظِ المعلومِ به، فالمعلومُ به تارةً يكون ذاتيًا، وأخرى فعليًا، فالذاتيُّ لا يعلمُ به سوى الله الواحد الأحد، من قبيلِ علمِه بذاتِه (سبحانه)، وعلمه بالأشياء قبل إيجادها، ولا يتغيرُ أبدًا. أما الفعلي فممكنٌ أنْ يشاركَه (تعالى) أولياءه، من قبيلِ العلمِ بالأشياء بعد إيجادِها، بدليلِ أنّ الإنسانَ زارعُ البذرةِ ممكنٌ أنْ يعلمَ مستقبلَ البذرةِ، أو المرحلة الفعلية لها بعدَ أنْ كانت قوّةً. فعلمُه وإنْ كان مشوبًا بالجهلِ في أكثرِ الأحيان، إلاّ أنّه أصالةٌ نستطيعُ أنْ نقول ممكنٌ للإنسان أنْ يُشارِكَ اللهَ (تعالى) في ذلك العلم. وكلامُنا ينعقدُ حولَ العلمِ الذاتي الذي هو محلُّ شاهدنا من توضيحِ مرادِ الإمام الحسين (عليه السلام) في فقرته الدعائية. *كما وهناك تقسيمٌ آخر للعلمِ بلحاظ ِالذاتية والفعلية، جاءت به ألفاظٌ عديدة، منها صريحةٌ، ومنها مؤولةٌ. فأمّا الصريحةُ فواضحةٌ، وأمّا المُؤولةُ فهناك مفردتان انفرد أهلُ البيت (عليهم السلام) عن غيرِهم في تأويلها من ظاهر لفظها إلى العلم؛ تنزيهًا لله (تعالى)، واستنادًا على ما تلقوهُ من سيّدِ التوحيد، النبي الحميد محمد (صلى الله عليه وآله)، وهما مفردتا العرش، والكرسي. *فأمّا مفردةُ العرشِ الواردةُ في الآية {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَة}(٦). وفي الآية: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء}(٧). وفي آية: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى}(٨). فجميعُها مؤولةٌ بالعلم؛ استنادًا إلى ما رُويَ عن أميرِ المؤمنين وسيّدِ الموحدين علي (عليه السلام) حينما سأله الجاثليق عن عرش الرحمن، فأجابه (عليه السلام) بالقول: "إِنَّ الْعَرْشَ... وَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي حَمَّلَهُ الله الْحَمَلَةَ وَذَلِكَ نُورٌ مِنْ عَظَمَتِهِ فَبِعَظَمَتِهِ وَنُورِهِ أَبْصَرَ قُلُوبُ الْمُؤْمِنِين"(٩). وهكذا مفردةُ الكرسي الواردة في آية: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض}(١۰) فإنها مؤولةٌ بالعلمِ أيضًا؛ استنادًا إلى ما روي "عن حفص بن غياث، قال: سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله (عزّ وجل): (وسِعَ كرسيه السماوات والأرض) قال: علمه"(١١) والعلمُ الذي سيكونُ محلَّ كلامنا، والذي يقصدُه الإمامُ الحسين (عليه السلام) في قوله: " يا مَنْ لا يَعْلَم مَا يَعْلَمُهُ اِلاّ هُوَ" هو العلمُ الذي لا يعلمُه إلاّ الله( تعالى)، وأحد مصاديقه هو الكرسي، لتصريح بعضِ الرواياتِ بأنّ الكرسي هو العلمُ الذي لم يُطلِعِ الله (تعالى) عليه أحدٌ من أوليائه؛ رويَ "عن المُفضّلِ بن عمر قال: سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام) عن العرشِ والكرسي ما هما؟ فقال: العرشُ في وجهٍ هو جملةُ الخلقِ والكرسي وعاؤه، وفي وجهٍ آخر العرشُ هو العلمُ الذي أطلعَ اللهُ عليه أنبياءه ورسلَه وحججه، والكرسي هو العلم الذي لم يُطلع [الله تعالى] عليه أحدًا من أنبيائه ورسوله و حججِه (عليهم السلام)"(١٢) وقد صرحت بعضِ الروايات التي جاءت لتقِسيمُ العلم، وأشارت إلى محلِّ وقوعِ البداء بأنّ هناك علمًا يستأثرُ اللهُ (تعالى) به لنفسه، فلا يعلمُ به إلاّ هوَ، وهذا ما يقصدُه الإمامُ الحسين (عليه السلام)؛ "عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عَلَيْهِ السَّلام) يَقُولُ الْعِلْمُ عِلْمَانِ، فَعِلْمٌ عِنْدَ الله مَخْزُونٌ لَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ, وَعِلْمٌ عَلَّمَهُ مَلائِكَتَهُ وَرُسُلَهُ فَمَا عَلَّمَهُ مَلائِكَتَهُ وَرُسُلَهُ فَإِنَّهُ سَيَكُونُ لا يُكَذِّبُ نَفْسَهُ وَلا مَلائِكَتَهُ وَلا رُسُلَهُ وَعِلْمٌ عِنْدَهُ مَخْزُونٌ يُقَدِّمُ مِنْهُ مَا يَشَاءُ وَيُؤَخِّرُ مِنْهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ مَا يَشَاء"(١٣) وقد أطلقت بعضُ الروايات على العلمِ الذي لا يعلمُه إلا الله (تعالى) بالعلم الخاص، في قبالِ العلمِ العام، ومن خلالها يتضحُ مُرادُ الإمامِ الحسين (عليه السلام) بأنّه هو العلمُ الذي لا يعلمُه ملكٌ مقربٌ ولا نبيٌّ مرسلٌ هو علمُه الخاص الذي لا يعلمُه إلاّ هو؛ روي "عن جعفر بن محمد، عن أبيه (عليهما السلام)، قال: إنَّ لله (تعالى) علمًا خاصًا، وعلمًا عامًا، فأما العلمُ الخاصُ فالعلمُ الذي لم يُطلِع عليه ملائكته المقربين وأنبياءه المرسلين، وأما علمُه العامُ فإنّه علمُه الذي أطلع عليه ملائكته المقربين وأنبياءه المرسلين، وقد وقعَ إلينا من رسولِ الله (صلى الله عليه وآله)"(١٤) والخلاصةُ: مهما كان عند الإنسان من علوم، فهي متناهية بالقياس إلى علم الله تعالى، وبالتالي، فإن العلم اللامتناهي مختص به جل وعلا، وقد ذكرنا بعض مصاديقه حسب ما وردت به الروايات الشريفة. _____________ (1) طه: 98. (2) التوحيد: للشيخ الصدوق, ب10, ح2. (3) الأنعام: 59. (4) الأحزاب: 63. (5) الاسراء: 85. (6) الحاقة: 17. (7) هود: 7. (8) طه: 5. (9) الكافي: للشيخ الكليني, ج1, ب42, ح1. (10) البقرة: 255. (11) التوحيد: للشيخ الصدوق, ب52, ح1. (12) معاني الأخبار: للشيخ الصدوق, باب معنى العرش والكرسي, ص29, ح1. (13) الكافي, ج1, ب46, ح6. اللّهم إنّي أسألك من علمك بأنفذه، وكلّ علمك نافذ، اللّهم إنّي أسألُكَ بعلمك كلّه.

البيان والبلاغة في كلمات أهل البيت عليهم السلام
منذ 3 سنوات
317

خاطرة

هو الطبيب لوجع الفؤاد وخياط الجراح النازفة بألم البعد ... يكفيك أن تتكئ على كتفه لتزيح كل ما أهمك وأحزن روحك... هو الحبيب وإن طال الغياب ... إن كان تحت التراب أو فوقه! هو الأمان ومنتهى تحقيق الأحلام...

الخواطر
منذ 3 سنوات
279

موجزٌ لسيرةٍ ممتدّة

بقلم: صفاء الندى الصحابيُّ الجليلُ والمجاهدُ، ذو الشخصية المُلهِمة والثابتة، ميثمُ التمّار الكوفي (رضوان الله عليه)، كان عبدًا عند امرأةٍ من أهلِ الكوفة، اشتراه أميرُ المؤمنين (عليه السلام) ثم أعتقه.. امتهن بيعَ التمرِ في السوق؛ ليكفَّ نفسَه عن الحاجةِ للناس، ويعيش حرًا كريمًا.. وفي حكومةِ أمير المؤمنين (عليه السلام) عمل في شرطة الخميس، وهم جماعةٌ ممن شارطوا أمير المؤمنين (عليه السلام) على الجنةِ مقابلَ الوفاء والتضحية والإقدام. والخميس بمعنى الجيش؛ لأنّه خمسُ فرق: المقدمة والميمنة والميسرة والقلب والساق.. أصبح من حواريي أمير المؤمنين (عليه السلام)، وأحدَ خاصتِه الثقات، عالمًا بتفسيرِ القرآن ورواية الحديث، وهو من الذين أطلعهم أميرُ المؤمنين (عليه السلام) على خفايا المستقبل، وهو علم المنايا والبلايا.. والمنايا: جمع‌ مَنِيَّة‌، وهي‌ الموت‌ ومفارقة‌ الدنيا، فهو مُطّلعٌ‌ على آجالِ‌ الناس‌، ويعلمُ‌ أين‌ ومتى يموتون؟. والبلايا: جمع‌ بَلِيَّة‌، وهي‌ المصيبة‌ والمحنة‌، ومن‌ كان‌ له‌ حظٌّ من‌ هذا العلم‌، فهو مُطّلعٌ‌ علی الحوادثِ‌ والوقائعِ‌ التي‌ تستدعي‌ الاختبار، وتردُ فيها المصائب‌.. وكما أنّه يعلمُ بالناس متى يموتون وأين، فهو (رضي الله عنه) على علمٍ بالكيفية التي سيُقتلُ بها ومتى وبأمر من؛ فقد أخبره أميرُ المؤمنين (عليه السلام) بذلك إذ قال له ذات يوم: "إنّك تؤخذُ بعدي، فتصلبُ وتُطعنُ بحربة، فإذا جاء اليوم الثالث ابتدر منخراك وفوك دمًا، فتُخضّبُ لحيتك، وتُصلبُ على بابِ عمرو بن حريث عاشر عشرة، وأنت أقصرهم خشبة، وأقربهم من المطهرة. وامضِ حتى أريك النخلة التي تُصلبُ على جذعها" فأراهُ إيّاها.. وكانَ ميثمُ يأتيها فيصلّي عندها ويقول: "بوركتِ من نخلةٍ، لكِ خُلِقتُ، ولي غُذّيتِ" فلم يزل يتعاهدها حتى قُطِعت وبقيَ جذعُها. وقد قُتل (رضوان الله عليه) بأمر الحاكم ابن زياد سنة ٦٠هجرية قبل واقعةِ الطفِّ بأيامٍ قلائل؛ لأنّه رفض التبرؤ من الإمام علي (عليه السلام). نرى أنّ ميثمَ التمّار قد عشقَ النخلةَ التي أُنبئ أنّه سيُصلبُ عليها، فمن منا يعشقُ شيئًا يؤذيه حدّ الموت؟! من منا يستأنسُ برؤية شيءٍ كلما مدّ بصره إليه تتراءى له دماؤه وهي تسيلُ عليه من كُلِّ جانب؟! إنّها لم تكن نخلةً وحسب تلك التي عشقها ميثمُ التمّار، بل كانت.. عرينًا للولاء، وثيقةً للوفاء معراجًا للأتقياء، شجرةً تحملُ جسدًا أُبيدَ بحُبِّ علي، شجرةً تحملُ روحًا هامتْ بحُبِّ علي.. فجديرٌ أنْ يقدّسها كُلُّ ما في الكون حقيقةً ومعنى.. سلامٌ على جسدك المُعذَّب في ظُلمةِ السجون وأمامَ الملأ.. سلامٌ على لسانِك الناطق بالحقِّ تحديًا للطغاة، فقطعوه غيًا وضغينة.. سلامٌ عليك إذ بذلتَ كُلَّ ما لديك، وتحمّلتَ قسوةَ الظالمين فداءً للدين والإمامة الحقة.. سلامٌ على الذين إذا قرأنا عن سيرتِهم نشعرُ بالخجلِ والوجلِ من أنفسِنا التي لا تحتملُ وخزَ إبرةٍ في سبيلِ الله (تعالى).

اخرى
منذ 3 سنوات
340

خاطرة

سُئلَ حكيمٌ: ماذا علَّمَتْكَ الحياةُ؟ فقال: علَّمَتني أنْ أقفَ بجانبِ نفسي، ولا انتظر أحدًا يقفُ بجانبي، أو يدعمني فأنا كفيلٌ بدعم نفسي.

الخواطر
منذ 3 سنوات
378

نخلةٌ وتمّار

بقلم: نرجس مهدي روحٌ صافيةٌ، ونفسٌ طاهرةٌ، فارسيّ الأصل، عبدٌ لامرأةٍ أسدية، اشتراك أميرُ المؤمنين (عليه السلام)، فأعتقك، فأصبحت حرًا، لكنّك صرتَ بحبه مكبلًا، ولتراب قدميه عاشقًا. كنتَ تمارًا تبيعُ التمر في الكوفة، ظاهرًا كان ذاك، إلا أنّك لأسرارِ إمامكَ كنتَ كاتمًا، ولفيضِ علمهِ موضعًا.. اصطحبك إلى الصحراء كثيرًا، غذّاك من طيبِ كلامه، وروّاك من عسلِ بيانِه، فتنوّرَ قلبك بعلومِ القرآن تنزيلًا وتأويلًا. وهبكَ اللهُ (تعالى) إيمانًا راسخًا صلبًا، لا تخاف الظالمين، وقد عرف إمامك مكنونَ ما انطوى عليه فؤادك.. وعندها سألك: كيف أنت يا ميثم إذا دُعيتَ للبراءةِ مني؟ فأجبته بثباتِ اليقين: واللهِ لا أبرأُ منك يا أميرَ المؤمنين.. لأنّك تعلمُ علمَ اليقين أنّ البراءةَ من علي (عليه السلام) هي البراءةُ من الإسلام وهو الكفر بعينه. فكان جوابه (عليه السلام): إذن واللهِ تُقتَل وتُصلب. فأجبته: أصبر؛ فإنَّ هذا في الله قليل. فأتاك الجوابُ الشافي: يا ميثم، ستكونُ معي في الجنة. إيهٍ يا ميثم؛ هنيئًا لك هذه المعيّة، وقد استبشرتْ أساريرك، وتهلّل وجهك.. فكنتَ تتعاهدُ نخلتك، تمرُّ عليها وتسقيها، وتتحدثُ إليها وتُناجيها، لكِ خُلقتُ ولي غُذيتِ، فعرفتْك كما عرفتْها، وسمعت صوتَ مناجاتِك وصلاتك. أيُّها الزاهدُ العابدُ، يا من يبسَ جلدك على عظمك من فرط تقواك وزهدك، كنتَ كثيرَ الثقةِ بما قاله لك إمامُ الموحدين، فواللهِ ما نبتت تلك النخلةُ إلا لأجلك، ولا غذيت إلا لك.. وكم ابتهجَ قلبُك حين أدركتَ أنّ نهايتَك قد قرُبتْ، وأنّك ستلتحقُ بحبيبِ فؤادك، عندما أخبرك الدعيُّ بن الدعيّ أنّه سيقتلك.. فأجبته بمنطق الأقوياء، وشمم النبلاء: أعلمُ ذلك؛ فقد أخبرني حبيبي أميرُ المؤمنين (عليه السلام) بمقتلي، وقطع يدي، ورجلي، ولساني، وبصلبي. ولأنك شيعيٌّ موالي اضطهدوك، ولأنّك ناديتَ بصوتِ الحقِّ صمّوا آذانهم ولم يسمعوك، وبوحشيتهم عاملوك، وإلى نخلتِك أوثقوك، وللمنيةِ أسندوك.. أرادوا أنْ يُكبّلوا صوتَ الحقِّ، فصدعتَ به بقوةِ بيانك، وذكرتَ مناقبَ إمامك، تترجمُ شهدَ كلماته بلسانك. فكنت في الإسلامِ أولَ من ألجموه، وطعنوك بحربةٍ فابتدر فوك دمًا، فاح منه عطر ولائك.. تخضبتْ شيبتُك، وانتُهِكتْ حُرمتك، وأنت عاشرُ عشرةٍ، أقصرهم خشبة، قريبٌ من المطهرة. يا صاحبَ الكراماتِ، وعالمًا بالحوادث والمغيبات.. وقبل أن تلفظَ الأنفاس كم كنتَ تنادي: أيُّها الناس سلوني، فلقد غذّاني أمير المؤمنين (عليه السلام) علمًا، وأتحفني فهمًا، والله لأخبرنكم بعلمِ ما يكون إلى يوم القيامة. لم يرغبوا بكلامك، وزهدوا في روحك، وثقُلَت عليهم حجتك، وفي كُناسةِ الكوفةِ كانت آخر أنفاسك، حيث صارت مثواك.. فسلامُ الله عليك يا حواري أمير المؤمنين (عليه السلام)، عشت برفقته سعيدًا، والتحقت به ورحلت إلى ربك شهيدًا..

اخرى
منذ 3 سنوات
271

خاطرة

كانتْ سفرةً فيها الكثيرُ من المتاعب والآلام، وفيها الكثيرُ من الدروسِ والعبر، فما هي نهايةُ هذه السفرة؟ المركبُ واحدٌ ولكنِ النوايا مختلفة الآنَ قاربتِ الرحلةُ على الانتهاءِ، فصاحبُ القلبِ السليمِ ضاحكٌ مستبشر، إنّها النهايةُ السعيدةُ، إنّها الجنةُ، وأما الذي غرّتْه الدنيا .. فالآنَ أدركَ أنَّ الطريقَ الذي سلَكَه مظلمٌ لم يرَ النورَ فيه.

اخرى
منذ 3 سنوات
294

أنا وسماء علي (عليه السلام)

بقلم: صفاء الندى أخذتُ ورقةً وقلمًا، وشرَعت أخطُّ حروفًا، وبدت كُلُّها مكسورةً، ولم يتبيّن لي ما سرّها! أكتبُها منتظمةً، وما تلبثُ أنْ تتبعثرَ وتلوذَ بزوايا الورقة وكأنّها شاردةٌ من أمرٍ ما! ما الذي يحدث لي؟! ما بال حروفي الوادعة تستفزني؟ سأستمر بالكتابةِ لعلَّ ما تراه عيني وهْم عارض بسبب التعب... عاودتُ الكتابةَ مرةً أخرى وبإصرارٍ؛ فأنا لم أعتدْ أنْ أتجشمَ كُلَّ هذا العناء بإقناع رفيقاتي -حروفي- أنْ يتفاعلن معي في أيّ موضوعٍ أتناوله.. بالكادِ كتبتُ جملةً يتيمةً، بحروفٍ متثاقلةٍ، فرأيتُ يدي ترتعشُ، وأخذتِ الحروفُ تذوبُ وتنصهرُ على مرأى مني ثم تتلاشى وتختفي وتعودُ الورقةُ بيضاءَ وكأنّ قلمي لم يخط عليها شيئا! هنا انتابتني لحظاتٌ من الفزع، نظرتُ حولي وتوجهتُ ﻷختي؛ ﻷحدّثها بالأمر، فخشيتُ أنْ أُتّهَم بسلامةِ عقلي، وهو أعزُّ ما أملك بل كلُّ ما أملك. لا لن أحدّث أحدًا بالأمر.. أخذتُ ورقتي المُتعبة والفارغة بيدي وجلستُ بفناءِ المنزل حزينةً وحائرةً؛ فقد كنتُ أشعر بالعجز المُذل؛ ﻷنّي لم أكتب حرفًا عن أمير المؤمنين مولاي علي (عليه السلام) رمقتُ السماءَ بطرفي وناجيتُ الله (عز وجل) بسؤالٍ كُلُّه خجلٌ وانكسارٌ: لِمَ يا ربي حروفي لا تطاوعني؟! التفتُ إلى الورقة بيدي وقد أصابتني الدهشة؛ إذ رأيتُ مكتوبًا عليها بخطٍ لم أشاهد أجمل منه، كان يشعُّ نورًا: (يا علي لا يعرفك إلا الله وأنا)... يا إلهي! فأنا ما زلتُ لم أعرف إمامي حقًا؛ لكي أكتب عنه كلماتٍ تلامسُ سماءه العالية وترقى لجلالةِ شأنِه، وإنْ كتبتُ يومًا ما فهو بقدري يا مولاي وليس بقدره أبدًا أبدًا

اخرى
منذ 3 سنوات
240

يتصدر الان

لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع

يستشهد الكثير من الناس ــ وحتى بعض المثقفين ــ بقول:" لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع فإن الخير فيها دخيل وعاشر نفساً جاعت بعد شبع فإن الخير فيها أصيل" على أنه من أقوال أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، كما يستشهدون أيضاً بقولٍ آخر ينسبونه إليه (عليه السلام) لا يبعد عن الأول من حيث المعنى:"اطلبوا الخير من بطون شبعت ثم جاعت لأن الخير فيها باق، ولا تطلبوا الخير من بطون جاعت ثم شبعت لأن الشح فيها باق"، مُسقطين المعنى على بعض المصاديق التي لم ترُق افعالها لهم، لاسيما أولئك الذين عاثوا بالأرض فساداً من الحكام والمسؤولين الفاسدين والمتسترين عل الفساد. ونحن في الوقت الذي نستنكر فيه نشر الفساد والتستر عليه ومداهنة الفاسدين نؤكد ونشدد على ضرورة تحرّي صدق الأقوال ومطابقتها للواقع وعدم مخالفتها للعقل والشرع من جهة، وضرورة التأكد من صدورها عن أمير المؤمنين أبي الأيتام والفقراء (عليه السلام) أو غيرها من المعصومين (عليهم السلام) قبل نسبتها إليهم من جهة أخرى، لذا ارتأينا مناقشة هذا القول وما شابه معناه من حيث الدلالة أولاً، ومن حيث السند ثانياً.. فأما من حيث الدلالة فإن هذين القولين يصنفان الناس الى صنفين: صنف قد سبق له أن شبع مادياً ولم يتألم جوعاً، أو يتأوه حاجةً ومن بعد شبعه جاع وافتقر، وصنف آخر قد تقلّب ليله هماً بالدين، وتضوّر نهاره ألماً من الجوع، ثم شبع واغتنى،. كما جعل القولان الخير متأصلاً في الصنف الأول دون الثاني، وبناءً على ذلك فإن معاشرة أفراد هذا الصنف هي المعاشرة المرغوبة والمحبوبة والتي تجرّ على صاحبها الخير والسعادة والسلام، بخلاف معاشرة أفراد الصنف الثاني التي لا تُحبَّذ ولا تُطلب؛ لأنها لا تجر إلى صاحبها سوى الحزن والندم والآلام... ولو تأملنا قليلاً في معنى هذين القولين لوجدناه مغايراً لمعايير القرآن الكريم بعيداً كل البعد عن روح الشريعة الاسلامية ، وعن المنطق القويم والعقل السليم ومخالفاً أيضاً لصريح التاريخ الصحيح، بل ومخالف حتى لما نسمعه من قصص من أرض الواقع أو ما نلمسه فيه من وقائع.. فأما مناقضته للقرآن الكريم فواضحة جداً، إذ إن الله (تعالى) قد أوضح فيه وبشكلٍ جلي ملاك التفاضل بين الناس، إذ قال (عز من قائل):" يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)"(1) جاعلاً التقوى مِلاكاً للتفاضل، فمن كان أتقى كان أفضل، ومن البديهي أن تكون معاشرته كذلك، والعكس صحيحٌ أيضاً. وعليه فإن من سبق حاجتُه وفقرُه شبعَه وغناه يكون هو الأفضل، وبالتالي تكون معاشرته هي الأفضل كذلك فيما لو كان تقياً بخلاف من شبع وكان غنياً ، ثم افتقر وجاع فإنه لن يكون الأفضل ومعاشرته لن تكون كذلك طالما كان بعيداً عن التقوى. وأما بُعده عن روح الشريعة الإسلامية فإن الشريعة لطالما أكدت على أن الله (سبحانه وتعالى) عادلٌ لا جور في ساحته ولا ظلمَ في سجيته، وبالتالي لا يمكن أن يُعقل إطلاقاً أن يجعل البعض فقيراً ويتسبب في دخالة الخير في نفوسهم، التي يترتب عليها نفور الناس من عشرتهم، فيما يُغني سواهم ويجعل الخير متأصلاً في نفوسهم بسبب إغنائه إياهم ليس إلا ومن ثم يتسبب في كون الخير متأصلاً في نفوسهم، وبالتالي حب الناس لعشرتهم. فإن ذلك مخالف لمقتضى العدل الإلهي لأنه ليس بعاجزٍ عن تركه ولا بمُكره على فعله، ولا محب لذلك لهواً وعبثاً (تعالى عن كل ذلك علواً كبيراً). كما إن تأصل الخير في نفوس بعض الناس ودخالته في نفوس البعض الآخر منهم بناءً على أمر خارج عن إرادتهم واختيارهم كـ(الغنى والشبع أو الجوع والفقر) إنما هو أمرٌ منافٍ لمنهج الشريعة المقدسة القائم على حرية الانسان في اختياره لسبيل الخير والرشاد أو سبيل الشر والفساد، قال (تعالى):" إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)"(2) بل إن الانسان أحياناً قد يكون فقيراً بسبب حب الله (تعالى) له، كما ورد في الحديث القدسي: "أن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى فلو أفقرته لأفسده ذلك و أن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر فلو أغنيته لأفسده ذلك"(3) وهل يمكن ان نتصور أن الخيرَ دخيلٌ فيمن يحبه الله (تعالى) أو إن معاشرته لا تجدي نفعا، أو تسبب الهم والألم؟! نعم، ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"اِحْذَرُوا صَوْلَةَ اَلْكَرِيمِ إِذَا جَاعَ وَ اَللَّئِيمِ إِذَا شَبِعَ"(4) ولا يقصد به الجوع والشبع المتعارف عليه لدى الناس، وإنما المراد منه: احذروا صولة الكريم إذا اُمتُهِن، واحذروا صولة اللئيم إذا أكرم، وفي هذا المعنى ورد عنه (عليه السلام) أيضاً: "احذروا سطوة الكريم إذا وضع و سورة اللئيم إذا رفع"(5) وأما العقل السليم والمنطق القويم فإنهما يقتضيان أن تتأصل صفة الخير في الإنسان لملكاتٍ حميدة يتسم بها وصفات فضيلة يتميز بها، لا أن تتأصل صفة الخير في نفسه لمجرد أنه ولد في أسرة تتمتع بالرفاهية الاقتصادية ووجد في بيئة تتنعم بالثروات المادية! وعند مراجعتنا للتاريخ الصحيح نجد أن قادة البشر وصفوة الناس إنما كان أغلبهم ينتمي الى الطبقات الفقيرة من المجتمع، فهؤلاء الأنبياء ورسل الله (صلوات الله عليهم) منهم من كان نجاراً أو خياطاً أو راعياً، ومع ذلك فقد كانوا من أطيب الناس خلقاً، وأعظمهم شرفاً، وأرفعهم منزلةً، قد تأصّل الخير في نفوسهم تأصّلاً حتى غدوا قطعة منه، فكانوا هم الخير للبشر، وهم الرحمة للعالمين. وبالنزول إلى أرض الواقع نجد أن الكثير من الفقراء والمساكين طيبي الروح، كريمي النفس، يتألمون لألم المحتاج ولربما يؤثرونه على أنفسهم رغم حاجتهم. ولا نقصد من كلامنا هذا أن الأغنياء هم على نقيض ذلك، وإنما تأكيداً على مسألة عدم ارتباط تأصل الخير في النفوس وعدمه بمستواهم الاقتصادي الذي نشأوا فيه ارتباط العلة والمعلول، فكما إن بعض الفقراء أخيار، فإن بعض الأغنياء كذلك، والعكس صحيح أيضاً. ومن هنا يُفهم من بعض الروايات ضرورة عدم طلب الخير والحاجات ممن هم أهل للخير بقطع النظر عن مستواهم المعاشي الحالي والسابق، منها ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"أشد من الموت طلب الحاجة من غير أهلها"(5)، وعنه (عليه السلام) أيضاً: "فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غير أهلها"(6) إذن فلا صحة لهاتين المقولتين من حيث الدلالة، حتى وإن تنزلنا وحملنا الجوع والشبع على المعنى المعنوي لا المادي؛ وذلك لأنه حتى من يفتقر الى الأخلاق المعنوية فإنه ما إن يتكامل بالفضائل ويقلع عن الرذائل حتى يتسم بالخير وتحسن عشرته وتطيب للناس صحبته، والعكس صحيحٌ أيضا.. ومن البديهي أن ما لا يوافق العقل والمنطق السليم، ويخالف صريح القرآن الكريم، لا يمكن أن يصدر من وصي الرسول الكريم (صلوات الله عليهما وآلهما)، وعليه لا تصح نسبة هذين القولين الى أمير المؤمنين (عليه السلام).. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الحجرات 13 (2) الانسان 3 (3) عوالي الآلي ج2 ص29 (4) غرر الحكم ج1 227 (5) المدر السابق ج1 ص246 (6) ميزان الحكمة ج4 ص 238 رضا الله غايتي

اخرى
منذ 5 سنوات
70807

بين طيبة القلب وحماقة السلوك...

خلق الله الأشياء كلها في الحياة ضمن موازين وقياسات... فالزيادة أو النقيصة تسبب المشاكل فيها. وهكذا حياتنا وأفعالنا وعواطفنا لا بد أن تكون ضمن موازين دقيقة، وليست خالية منها، فالزيادة والنقيصة تسبب لنا المشاكل. ومحور كلامنا عن الطيبة فما هي؟ الطيبة: هي من الصفات والأخلاق الحميدة، التي يمتاز صاحبها بنقاء الصدر والسريرة، وحُبّ الآخرين، والبعد عن إضمار الشر، أو الأحقاد والخبث، كما أنّ الطيبة تدفع الإنسان إلى أرقى معاني الإنسانية، وأكثرها شفافية؛ كالتسامح، والإخلاص، لكن رغم رُقي هذه الكلمة، إلا أنها إذا خرجت عن حدودها المعقولة ووصلت حد المبالغة فإنها ستعطي نتائج سلبية على صاحبها، كل شيء في الحياة يجب أن يكون موزوناً ومعتدلاً، بما في ذلك المحبة التي هي ناتجة عن طيبة الإنسان، وحسن خلقه، فيجب أن تتعامل مع الآخرين في حدود المعقول، وعندما تبغضهم كذلك وفق حدود المعقول، ولا يجوز المبالغة في كلا الأمرين، فهناك شعرة بين الطيبة وحماقة السلوك... هذه الشعرة هي (منطق العقل). الإنسان الذي يتحكم بعاطفته قليلاً، ويحكّم عقله فهذا ليس دليلاً على عدم طيبته... بالعكس... هذا طيب عاقل... عكس الطيب الأحمق... الذي لا يفكر بعاقبة أو نتيجة سلوكه ويندفع بشكل عاطفي أو يمنح ثقة لطرف معين غريب أو قريب... والمبررات التي يحاول إقناع نفسه بها عندما تقع المشاكل أنه صاحب قلب طيب. الطيبة لا تلغي دور العقل... إنما العكس هو الصحيح، فهي تحكيم العقل بالوقت المناسب واتخاذ القرار الحكيم الذي يدل على اتزان العقل، ومهما كان القرار ظاهراً يحمل القسوة أحياناً لكنه تترتب عليه فوائد مستقبلية حتمية... وأطيب ما يكون الإنسان عندما يدفع الضرر عن نفسه وعن الآخرين قبل أن ينفعهم. هل الطيبة تصلح في جميع الأوقات أم في أوقات محددة؟ الطيبة كأنها غطاء أثناء الشتاء يكون مرغوباً فيه، لكنه اثناء الصيف لا رغبة فيه أبداً.. لهذا يجب أن تكون الطيبة بحسب الظروف الموضوعية... فالطيبة حالة تعكس التأثر بالواقع لهذا يجب أن تكون الطيبة متغيرة حسب الظروف والأشخاص، قد يحدث أن تعمي الطيبة الزائدة صاحبها عن رؤيته لحقيقة مجرى الأمور، أو عدم رؤيته الحقيقة بأكملها، من باب حسن ظنه بالآخرين، واعتقاده أن جميع الناس مثله، لا يمتلكون إلا الصفاء والصدق والمحبة، ماي دفعهم بالمقابل إلى استغلاله، وخداعه في كثير من الأحيان، فمساعدة المحتاج الحقيقي تعتبر طيبة، لكن لو كان المدّعي للحاجة كاذباً فهو مستغل. لهذا علينا قبل أن نستخدم الطيبة أن نقدم عقولنا قبل عواطفنا، فالعاطفة تعتمد على الإحساس لكن العقل أقوى منها، لأنه ميزان يزن الأشياء رغم أن للقلب ألماً أشد من ألم العقل، فالقلب يكشف عن نفسه من خلال دقاته لكن العقل لا يكشف عن نفسه لأنه يحكم بصمت، فالطيبة يمكن أن تكون مقياساً لمعرفة الأقوى: العاطفة أو العقل، فالطيّب يكون قلبه ضعيفاً ترهقه الضربات في أي حدث، ويكون المرء حينها عاطفياً وليس طيباً، لكن صاحب العقل القوي يكون طيباً أكثر من كونه عاطفياً. هل الطيبة تؤذي صاحبها وتسبب عدم الاحترام لمشاعره؟ إن الطيبة المتوازنة المتفقة مع العقل لا تؤذي صاحبها لأن مفهوم طيبة القلب هو حب الخير للغير وعدم الإضرار بالغير، وعدم العمل ضد مصلحة الغير، ومسامحة من أخطأ بحقه بقدر معقول ومساعدة المحتاج ... وغيرها كثير. أما الثقة العمياء بالآخرين وعدم حساب نية المقابل وغيرها فهذه ليست طيبة، بل قد تكون -مع كامل الاحترام للجميع- غباءً أو حماقة وسلوكاً غير عقلاني ولا يمت للعقل بصلة. إن المشكلة تقع عند الإنسان الطيب عندما يرى أن الناس كلهم طيبون، ثم إذا واجهه موقف منهم أو لحق به أذى من ظلم أو استغلال لطيبته، تُغلق الدنيا في وجهه، فيبدأ وهو يرى الناس الطيبين قد رحلوا من مجتمعه، وأن الخير انعدم، وتحصل له أزمة نفسية أو يتعرض للأمراض، لأن الطيّب يقدم الإحسان للناس بكل ما يستطيع فعله، ويقدّم ذلك بحسن نية وبراءة منه، فهو بالتالي ينتظر منهم الرد بالشكر أو المعاملة باللطف على الأقل... صحيح أن المعروف لوجه الله، ولكن من باب: من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق، لذلك يتأذى عندما يصدر فعل من الشخص الذي كان يعامله بكل طيب وصدق. هل الطيبة والصدق من علامات ضعف الشخصية؟ الكثير من الناس يصف طيب القلب بأنه ضعيف الشخصية، لأنه يتصف بعدم الانتقام ممن ظلمه، والصفح عنه عند رجوعه عن الخطأ، وأنه لا يحب إيقاع الآخرين بالمشاكل؛ لأنه مقتنع أن الله سيأخذ له حقه. والحقيقة هي أن الصدق والطيبة وحسن الظن بالآخرين ليست ضعف شخصية، بل هي من الأخلاق الراقية وهي تزيد صاحبها سمواً وجمالاً روحياً، وليس من المعيب أن يمتلك الإنسان الطيبة بل العيب في من لا يُقدّر هذه الطيبة ويعطيها حقها في التعامل بالمثل. فالمشكلة الأساسية ليست في الطيبة، إنما في استغلال الآخرين لهذه الطيبة، نتيجة لعدم عقلنة قراراتنا والاعتماد على عواطفنا بشكل كلي. فالصدق والطيبة حسب المنطق والعقل، ولها فوائد جمة للنفس ولعموم أفراد المجتمع، فهي تحصين للشخص عن المعاصي، وزيادة لصلة الإنسان بربه، وتهذيب للنفس والشعور بالراحة النفسية، فالصادق الطيب ينشر المحبة بين الناس، وهذا يعزّز التماسك الاجتماعي وتقويته من سوء الظنون والحقد، وهذا التعامل أكّدت عليه جميع الشرائع السماوية، ولو تأمّلنا تاريخ وأخلاق الأنبياء والأوصياء لوجدنا كل ما هو راقٍ من الأخلاق والتعامل بالطيبة والصدق... حنان الزيرجاوي

اخرى
منذ 5 سنوات
51882

الطلاق ليس نهاية المطاف

رحلةٌ مثقلة بالألم في طريق يئن من وطأة الظلم! ينهي حياة زوجية فشلت في الوصول إلى شاطئ الأمان. ويبدد طموحات أطفال في العيش في هدوء نفسي واجتماعي تحت رعاية أبوين تجمعهم المودة والرحمة والحب. الطلاق شرعاً: هو حل رابطة الزواج لاستحالة المعاشرة بالمعروف بين الطرفين. قال تعالى: [ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)].(١). الطلاق لغوياً: من فعل طَلَق ويُقال طُلقت الزوجة "أي خرجت من عصمة الزوج وتـحررت"، يحدث الطلاق بسبب سوء تفاهم أو مشاكل متراكمة أو غياب الانسجام والحب. المرأة المطلقة ليست إنسانة فيها نقص أو خلل أخلاقي أو نفسي، بالتأكيد إنها خاضت حروباً وصرعات نفسية لا يعلم بها أحد، من أجل الحفاظ على حياتها الزوجية، ولكن لأنها طبقت شريعة الله وقررت مصير حياتها ورأت أن أساس الـحياة الزوجيـة القائم على المودة والرحـمة لا وجود له بينهما. فأصبحت موضع اتهام ومذنبة بنظر المجتمع، لذلك أصبح المـجتمع يُحكم أهواءه بدلاً من الإسلام. ترى، كم من امرأة في مجتمعنا تعاني جرّاء الحكم المطلق ذاته على أخلاقها ودينها، لا لسبب إنما لأنها قررت أن تعيش، وكم من فتاة أُجبرت قسراً على أن تتزوج من رجل لا يناسب تطلعاتها، لأن الكثير منهن يشعرن بالنقص وعدم الثقة بسبب نظرة المجتمع، وتقع المرأة المطلّقة أسيرة هذه الحالة بسبب رؤية المجتمع السلبيّة لها. وقد تلاحق بسيل من الاتهامات وتطارد بجملة من الافتراءات. وتعاني المطلقة غالباً من معاملة من حولها، وأقرب الناس لها، بالرغم من أن الطلاق هو الدواء المر الذي قد تلجأ إليه المرأة أحياناً للخلاص من الظلم الذي أصبح يؤرق حياتها الزوجية، ويهدد مستقبلها النفسي، والله تعالى لم يشرع أمراً لخلقه إلا إذا كان فيه خير عظيم لهم، والطلاق ما شرّع إلا ليكون دواء فيه شفاء وإن كان مرّاً، وإن كان أمره صعباً على النفوس، حيث قال عز وجل: "وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا"، روي عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) ((أبغض الحلال إلى الله الطلاق) (٢). ورغم أن الشريعة الإسلامية أباحت الطلاق بشروط تلاءم لبناء المجتمع، وأولت أهمية في الإحسان دائمًا للطرف الأضعف والأكثر خسارة في هذه المعادلة وهي "المرأة"، إلا أن المجتمع الذي يدّعي الإسلام لا يرحمها، ويحكم عليها بالإدانة طوال حياتها دون النظر في صحة موقفها في الطلاق من عدمه! قال( تعالى ): [الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] (٣). ولكن بعد كل هذا فالحياة لم ولن تتوقف بعد الطلاق! الطلاق ليس نهاية الحياة. - أخيتي. ليكن الطلاق بداية جديدة لحياة جديدة وللانطلاق. -قطار العطاء لن يتعطل. فإن كنت السبب في الطلاق فالحمد لله على كل حال وتلك أمة قد خلت وأيام ذهبت وانجلت فلست بالمعصومة من الخطأ. وعليك استدراك الأخطاء وتقوية مواطن الضعف في شخصيتك، واجعليها درساً مفيداً في الحياة لتطوير نفسك وتقويتها. وإذا كنتِ مظلومة فهناك جبار يُحصي الصغير والكبير وسيأتي يوم ينتصر لك فيه. -ومن الجميل أن تعطي نفسك الإحساس بالحب والاحترام، ولا تتأثري بأي نظرة سلبية من المجتمع وكون البعض يتعامل مع المطلقة على أنها حالة خاصة فعليكِ إثبات ذاتك حتى تفرضي على الكل شخصيتك. - نظرتك لنفسك اجعليها نظرة ايجابية مشرقة ولا تنزلقي في مستنقع نبذ الذات وظلم النفس. - ابحثي عن الصفات الجيدة فيك فإن ذلك سيشعرك بالثقة في ذاتك والتقدير لها. -حاولي مراجعة نفسك للخروج بإيجابيات حصلت لك من طلاقك. - خالطي الآخرين وإياك والعزلة بسبب وضعك الجديد فلست بأول من يبتلى بالطلاق. -استمتعي بالموجود ولا تتعلقي بالمفقود، حلقي بروح تعبق أملاً وتفاؤلاً، استمتعي بما وهبك الله من نعم (صحة وأولاد وأهل وصديقات وعمل وهوايات وغيرها من الأمور الجميلة) فما حصل لك حصل… ولابد أن تتقبليه برضا، وأعلمي أن ما أصابك لم يكن ليخطأك وما أخطأك لم يكن ليصيبك. وقال أصدق من قال: ( وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم). فالرضا سر السعادة الحقيقي. - اقتربي من صديقاتك الصالحات، واقضي معهن وقتاً طيباً تنسين به ألمك وحزنك. - احرصي على الصلوات وقراءة القرآن الكريم والذكر والاستغفار وأكثري من الطاعات قدر ما تستطيعين، ففيها السلوى والفرح والسعادة. ونعم سعادة القرب من الرحمن. - اشغلي نفسك بأعمال البر والإحسان بمساعدة محتاج. بكفالة يتيم. بتعلم الفقه والقرآن وتعليمه. - اجتهدي في عمل برنامج يومي لك يكون ممتلأ بكل ما هو مفيد لك. من قراءة وزيارة الأصدقاء وصلة الرحم. بحيث لا تكون هناك دقيقة أنت فارغة فيها. - وأسرعي بقاربك الجميل بمجذافين من إيمان بالله وثقة بالنفس وسوف تصلين بإذن الله نحو جزيرة السعادة والنجاح. لكي تتسلق جبال الإنجاز، وتصل لأعلى مراتب الاعجاز. وعندها جزماً سيكون للحياة معنى آخر. --------------------------------- (١)-سورة البقرة الآية (٢٢٦-٢٢٧). (٢)-الكافي (٢)-سورة البقرة الآية (٢٢٨) حنان ستار الزيرجاوي

اخرى
منذ 5 سنوات
41703

لا تقاس العقول بالأعمار!

(لا تقاس العقول بالأعمار، فكم من صغير عقله بارع، وكم من كبير عقله فارغ) قولٌ تناولته وسائل التواصل الاجتماعي بكل تقّبلٍ ورضا، ولعل ما زاد في تقبلها إياه هو نسبته الى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولكننا عند الرجوع إلى الكتب الحديثية لا نجد لهذا الحديث أثراً إطلاقاً، ولا غرابة في ذلك إذ إن أمير البلاغة والبيان (سلام الله وصلواته عليه) معروفٌ ببلاغته التي أخرست البلغاء، ومشهورٌ بفصاحته التي إعترف بها حتى الأعداء، ومعلومٌ كلامه إذ إنه فوق كلام المخلوقين قاطبةً خلا الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ودون كلام رب السماء. وأما من حيث دلالة هذه المقولة ومدى صحتها فلابد من تقديم مقدمات؛ وذلك لأن معنى العقل في المفهوم الإسلامي يختلف عما هو عليه في الثقافات الأخرى من جهةٍ، كما ينبغي التطرق الى النصوص الدينية الواردة في هذا المجال وعرضها ولو على نحو الإيجاز للتعرف إلى مدى موافقة هذه المقولة لها من عدمها من جهةٍ أخرى. معنى العقل: العقل لغة: المنع والحبس، وهو (مصدر عقلت البعير بالعقال أعقله عقلا، والعِقال: حبل يُثنَى به يد البعير إلى ركبتيه فيشد به)(1)، (وسُمِّي العَقْلُ عَقْلاً لأَنه يَعْقِل صاحبَه عن التَّوَرُّط في المَهالِك أَي يَحْبِسه)(2)؛ لذا روي عنه (صلى الله عليه وآله): "العقل عقال من الجهل"(3). وأما اصطلاحاً: فهو حسب التصور الأرضي: عبارة عن مهارات الذهن في سلامة جهازه (الوظيفي) فحسب، في حين أن التصوّر الإسلامي يتجاوز هذا المعنى الضيّق مُضيفاً إلى تلك المهارات مهارة أخرى وهي المهارة العبادية. وعليه فإن العقل يتقوّم في التصور الاسلامي من تظافر مهارتين معاً لا غنى لأحداهما عن الأخرى وهما (المهارة العقلية) و(المهارة العبادية). ولذا روي عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنه عندما سئل عن العقل قال :" العمل بطاعة الله وأن العمّال بطاعة الله هم العقلاء"(4)، كما روي عن الإمام الصادق(عليه السلام)أنه عندما سئل السؤال ذاته أجاب: "ما عُبد به الرحمن، واكتسب به الجنان. فسأله الراوي: فالذي كان في معاوية [أي ماهو؟] فقال(عليه السلام): تلك النكراء، تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل"(5) والعقل عقلان: عقل الطبع وعقل التجربة، فأما الأول أو ما يسمى بـ(الوجدان الأخلاقي) فهو مبدأ الادراك، وهو إن نَما وتطور سنح للإنسان فرصة الاستفادة من سائر المعارف التي يختزنها عن طريق الدراسة والتجربة وبالتالي يحقق الحياة الإنسانية الطيبة التي يصبو اليها، وأما إن وهن واندثر لإتباع صاحبه الأهواء النفسية والوساوس الشيطانية، فعندئذٍ لا ينتفع الانسان بعقل التجربة مهما زادت معلوماته وتضخمت بياناته، وبالتالي يُحرم من توفيق الوصول إلى الحياة المنشودة. وعقل التجربة هو ما يمكن للإنسان اكتساب العلوم والمعارف من خلاله، وما أروع تشبيه أمير البلغاء (عليه السلام) العلاقة التي تربط العقلين معاً إذ قال فيما نسب إليه: رأيت العقل عقلين فمطبوع ومسموع ولا ينفع مسموع إذ لم يك مطبــوع كما لا تنفع الشمس وضوء العين ممنوع(6) فقد شبّه (سلام الله عليه) عقل الطبع بالعين وعقل التجربة بالشمس، ومما لاشك فيه لكي تتحقق الرؤية لابد من أمرين: سلامة العين ووجود نور الشمس، وكما إن الثاني لا ينفع إن لم يتوفر الأول فكذلك عقل التجربة لا ينفع عند غياب عقل الطبع فضلاً عن موته. وبما إن عقل الطبع قد ينمو ويزدهر فينفع صاحبه من عقل التجربة، وقد يموت ويندثر عند الاستسلام لإضلال شبهةٍ أوبسبب إرتكاب معصية، فإنه ومن باب أولى أن يتعرض الى الزيادة والنقصان كما سيأتي... وقد ورد في النصوص الدينية أن للعقل زمناً ينمو فيه ويكتمل، فعن إمامنا أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه):"يثغر الصبي لسبع، ويؤمر بالصلاة لتسع، ويفرق بينهم في المضاجع لعشر، ويحتلم لأربع عشرة، وينتهى طوله لإحدى وعشرين سنة، وينتهي عقله لثمان وعشرين إلا التجارب"(7)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يربى الصبي سبعاً ويؤدب سبعاً، ويستخدم سبعاً، ومنتهى طوله في ثلاث وعشرين سنة، وعقله في خمس وثلاثين [سنة] وما كان بعد ذلك فبالتجارب"(8). إذن يتوقف النمو الطبيعي لعقل الانسان عند سن الثامنة والعشرين أو الخامسة والثلاثين كما ورد في الروايتين، وأية زيادة أخرى في طاقته بعد ذلك إنما تأتي عن طريق التجارب، وقد يُتوهم بأن ثمة تعارضاً ما بين الروايتين المتقدمتين في شأن تحديد سن النمو العقلي، إلا إنه لا تعارض ينهما إذا حملنا اختلافهما فيه على اختلاف الاشخاص وتباين استعدادات وقابليات كل منهم. وعلى الرغم من توقف نمو عقل الإنسان إلا إن له أنْ يزيده بالتجارب ومواصلة التعلم ــ كما تقدم في الروايات ــ وسواء أثبت العلم هذه الحقيقة الروائية أم لا، فنحن نريد الإشارة إلى ضرورة استمرار التجربة والتعلم لزيادة نمو العقل وهذا المقدار لا خلاف فيه وعلى الرغم من إن لعمر الانسان مدخلية في زيادة عقله كما تقدم وكما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يزيد عقل الرجل بعد الاربعين إلى خمسين وستين، ثم ينقص عقله بعد ذلك"(9)، إلا إن ذلك ليس على نحو العلة التامة، إذ يمكن للعقل أن يبقى شاباً وقوياً وإن شاب الإنسان وضعف جسمه، وتقدم في السن ووهن عظمه، فالعاقل لا يشيب عقله ولا تنتقص الشيخوخة من قوته بل وقد يزداد طاقةً وحيويةً لذا ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"رأي الشيخ أحب الي من جَلَد الغلام"(10)، وفي أخرى ".....من حيلة الشباب "(11) وأما من لم يوفر أسباب صقل عقله في مرحلة الشباب فإنه بلا شك يضمحل عقله في مرحلة الشيخوخة. وليس تقدم العمر هو العامل الوحيد في نقصان العقل بل إن النصوص الشرعية أشارت الى عوامل عديدة اخرى أهمها: أولاً: التعلم: فقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "من لم يصبر على ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبداً"(13). ثانياً: التوبة: وعنه (عليه السلام) ايضاً:"من لم يرتدع يجهل"(14) ثالثاً: التقوى: فقد كتب إمامنا الباقر (عليه السلام) إلى سعد الخير: "بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإني اوصيك بتقوى الله فإن فيها السلامة من التلف والغنيمة في المنقلب إن الله (عزوجل) يقي بالتقوى عن العبد ما عزب عنه عقله ويجلي بالتقوى عنه عماه وجهله"(15) إذن التوبة هي سبب للتوفيق الإلهي الذي يؤدي فيما يؤدي إليه من إكمال العقل. رابعاً: الوقوف عند الشبهة: وقال (عليه السلام ): "لا ورع كالوقوف عند الشبهة"(16). فإن الوقوف عند الشبهات سبب من أسباب التوفيق الإلهي بلا شك. خامساً: الاعتراف بالجهل: كما روي عن الإمام علي (عليه السلام): "غاية العقل الاعتراف بالجهل"(17) إذ الاعتراف بالجهل يدفع الإنسان دوماً إلى مزيد من بذل الجهد واكتساب المعارف. مما تقدم تتضح جلياً صحة هذه المقولة دلالةً، إذ إن العقول فعلاً لا تقاس بالأعمار لأن كلٍاً من زيادتها ونقيصتها منوطٌ بالعديد من العوامل الأخرى والتي تقدم ذكرها، بيد إن ذلك لا يبرر التساهل في نشرها والتهاون في الاستشهاد بها على إنها من أقوال أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) لعدم ثبوت ذلك سنداً من جهة ولضعف بلاغتها وركاكة تركيبها بالنسبة إلى سيد البلغاء والبلاغة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) تهذيب اللغة ج1 ص65 (2) لسان العرب ج11 ص458 (3) نهاية الحكمة ص305 (4) ميزان الحكمة ج3 ص333 (5) أصول الكافي ج1، ح3 / 11 (6) نهج السعادة ج9 ص163 (7) الكافي ج7 ص94 (8) الفقيه ج3 ص493 (9) الاختصاص ص245 (10) نهج البلاغة حكمة 86 (11) بحار الأنوار ج72 ص105 (12) المصدر السابق ج1 ص94 (13) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص118 (14) الكافي ج8 ص73 (15) وسائل الشيعة ج1 ص162 (16) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص1 بقلم الكاتبة: رضا الله غايتي

اخرى
منذ 5 سنوات
36464

المرأة في فكر الإمام علي (عليه السلام)

بقلم: أم نور الهدى كان لأمير المؤمنين (عليه السلام) اهتمام خاص بالمرأة، فنراه تارة ينظر إليها كآية من آيات الخلق الإلهي، وتجلٍ من تجليات الخالق (عز وجل) فيقول: (عقول النساء في جمالهن وجمال الرجال في عقولهم). وتارة ينظر إلى كل ما موجود هو آية ومظهر من مظاهر النساء فيقول: (لا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها فإن المرأة ريحانة وليس قهرمانة). أي إن المرأة ريحانة وزهرة تعطر المجتمع بعطر الرياحين والزهور. ولقد وردت كلمة الريحان في قوله تعالى: (فأمّا إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة النعيم) والريحان هنا كل نبات طيب الريح مفردته ريحانة، فروح وريحان تعني الرحمة. فالإمام هنا وصف المرأة بأروع الأوصاف حين جعلها ريحانة بكل ما تشتمل عليه كلمة الريحان من الصفات فهي جميلة وعطرة وطيبة، أما القهرمان فهو الذي يُكلّف بأمور الخدمة والاشتغال، وبما إن الإسلام لم يكلف المرأة بأمور الخدمة والاشتغال في البيت، فما يريده الإمام هو إعفاء النساء من المشقة وعدم الزامهن بتحمل المسؤوليات فوق قدرتهن لأن ما عليهن من واجبات تكوين الأسرة وتربية الجيل يستغرق جهدهن ووقتهن، لذا ليس من حق الرجل إجبار زوجته للقيام بأعمال خارجة عن نطاق واجباتها. فالفرق الجوهري بين اعتبار المرأة ريحانة وبين اعتبارها قهرمانة هو أن الريحانة تكون، محفوظة، مصانة، تعامل برقة وتخاطب برقة، لها منزلتها وحضورها. فلا يمكن للزوج التفريط بها. أما القهرمانة فهي المرأة التي تقوم بالخدمة في المنزل وتدير شؤونه دون أن يكون لها من الزوج تلك المكانة العاطفية والاحترام والرعاية لها. علماً أن خدمتها في بيت الزوجية مما ندب إليه الشره الحنيف واعتبره جهادًا لها أثابها عليه الشيء الكثير جدًا مما ذكرته النصوص الشريفة. فمعاملة الزوج لزوجته يجب أن تكون نابعة من اعتبارها ريحانة وليس من اعتبارها خادمة تقوم بأعمال المنزل لأن المرأة خلقت للرقة والحنان. وعلى الرغم من أن المرأة مظهر من مظاهر الجمال الإلهي فإنها تستطيع كالرجل أن تنال جميع الكمالات الأخرى، وهذا لا يعني أنها لا بد أن تخوض جميع ميادين الحياة كالحرب، والأعمال الشاقة، بل أن الله تعالى جعلها مكملة للرجل، أي الرجل والمرأة أحدهما مكمل للآخر. وأخيرًا إن كلام الإمام علي (عليه السلام) كان تكريمًا للمرأة ووضعها المكانة التي وضعها الله تعالى بها، حيث لم يحملها مشقة الخدمة والعمل في المنزل واعتبر أجر ما تقوم به من اعمال في رعاية بيتها كأجر الجهاد في سبيل الله.

اخرى
منذ 5 سنوات
33390

أساليب في التربية

عالم الطفولة كأنه طاولة، لا تجد فيه غير طعام لذيذ، ومنظر لطيف وجديد، فعالمهم فاكهة الوجود، وخضار الأرواح، ومياه الحياة تسقي القلوب... عالم صفاء وأحلام جميلة بسيطة وتافهة ولكن بنظرهِ هو عظيمة وكبيرة، فهو العالم الذي ينطلق منه الإنسان في بداية عمره. فالطفل في بداية حياته ينظر إلى الحياة بتفكيره البريء، فالطفل يعيش بعالم خاص به مملوء بالمحبة البريئة. هذه هي الصورة الجميلة التي يحملها الطفل، وكم يتمنى كل إنسان أن يعود لطفولته البريئة ليتأمل في أرجاء عالمها الذي كان يصور له حياة مختلفة تشد الإنسان إليها بجمالها، هذا هو عالم الطفولة وهذه أحلام من يعيشها، فلا ينفذ إلى ملكوت ذلك العالم ولا يدرك كنهه إلا من عاشه وجال في ربوعه. حيث يتذوق الطفل مع أحلام طفولته هذه لذة الحياة ولذة العيش فيها، ومهما حاولنا أن نعبر عن هذه الحقيقة فلن نستطيع تصويرها بالكلمات. وبعد هذا، فإن الاهتمام بمستقبل الطفل هو في الواقع ضمان لمستقبل شعب بأسره. قال اللَّه تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا". التحريم/6 أعتنى الإسلام بتربية الأبناء عناية فائقة، وألقى على عاتق الأهل ما سيكون عليه الولد في مسلكه الدنيوي ومصيره الأخروي إن هم قصروا في تربيته وإعداده. وقد ذكر العلماء أن شخصية الولد تتأثر في نموها بعوامل ثلاثة وهي: الوراثة، والبيئة، والتربية. إذا خضنا في مضمار التربية السليمة للأبناء... فعلى الأبوين أن يكون لهما الوعي التربوي الذي يبنى على أسس صحيحة ويتوفر لديهم فهم لأساليب التربية والتوجيه والرعاية وهذه نقطة البداية. فمثلاً في أسلوب التعامل مع الطفل تبرز أمامنا ثلاثة اشكال لتعامل الآباء مع الأبناء: الشكل الأول: أسلوب الدلال المفرط وهذا الأسلوب له نتائجه السلبية الخطيرة، فإنه يخلق شخصية هشة متميعة وشخصية اتكالية تحب الكسل والخمول مجردة من الهدف والإقدام، انهزامية غير قادرة على مواجهة التحديات وبمعنى أدق شخصية لا تثق بنفسها. شخصية متسيبة في ظل غياب المراقبة والمحاسبة وهذا التسيب يقود إلى الانفلات والانحراف. الشكل الثاني: فهو أسلوب التربية القاسية والعنف. وهذا الأسلوب أيضاً له نتائجه الخطيرة والسلبية التي يعاني منها الأبناء طوال حياتهم فهو يخلق شخصية قلقة ومتأزمة ومعقدة وخائفة وتحمل عقدة الخوف، شخصية حاقدة وعدوانية وقد تتأزم الأمور لتصبح شخصية منافقة وكاذبة خوفاً من العقاب والتعنيف ضمن حدود الأسرة ولكن يوماً من الأيام سينطلق هذا الشخص ليواجه المجتمع ككل، فلنتصور كيف سيتعامل مع المحيطين ضمن مجالات الدراسة والعمل وهو شخصية هاربة من أجواء الأسرة وقد يعرضها للتسيب والانحراف لأنها شخصية متمردة مما يعرضها للعقوق. الأسلوب الثالث: التوازن. الأسلوب الصحيح يعتمد على التوازن فمن شروط نجاح التربية التوازن في المعاملة ما بين الأمور التي تحتاج إلى شدة وحزم ليتربى على أن هذه الأمور خطوط حمراء طبعاً هنا يمكن أن يعترض أحد ويقول: لا للعنف الأسري ولا لاستخدام القسوة. نعم فهناك طرق غير استخدام العنف. يكفي ان يبدي الآباء انزعاجهم مثلاً. وهنا النقطة مهمة جداً، وهي: أن نوضح لهم سبب المنع والرفض لا تعتقدوا أن أبناءكم لا يدركون ولن يفهموكم. تخصيص الوقت للنقاش مهم جداً. وما بين أسلوب المرونة والحنان والاحتواء. التوازن في المعاملة. إن الإمام زين العابدين (عليه السلام) يصرح بمسؤولية الأبوين بتربية الطفل، ويعتبر التنشئة الروحية والتنمية الخلقية لمواهب الأطفال واجباً دينياً يستوجب أجراً وثواباً من الله تعالى، وأن التقصير في ذلك يُعرّض الآباء إلى عقاب الله. فيقول (عليه السلام): (وأما حق ولدك عليك فأن تعلم أنه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره. وأنك مسؤول عما وليته به من حسن الأدب والدلالة على ربه عز وجل والمعونة له على طاعته. فأعمل في أمره عمل من يعلم أنه مثاب على الإحسان إليه معاقب على الإساءة إليه ) مكارم الأخلاق للطبرسي ص٢٣٢ حنان الزيرجاوي

اخرى
منذ 5 سنوات
32340