حوارٌ مُبين في زيارة الأمين (١٢)

بقلم: علوية الحسيني ودعاء الربيعي "مشغولةً عن الدنيا بحمدكَ وثنائكَ" محورُ هذه الحلقةِ الأخيرة هو (الانشغالُ عن الدنيا بذكرِ اللهِ (تعالى) والثناء عليه)، وسوف نعلمُ كيفية الانشغال عن الدنيا بحمدِ وذكر الله (تعالى)، وكيفَ لنا أنْ نصلَ إلى هذهِ المرتبةِ العظيمة. فذكرُ الباري من شيَمِ المُتقين كما قال مولانا علي (عليه السلام): "ذكرُ اللهِ شيمةُ المُتقين". وقال أيضًا: "ذكرُ اللهِ سجيةُ كلِّ مُحسنٍ وشيمة كلِّ مؤمنٍ", وقال: "ذكرُ اللهِ مسرةُ كلِّ مُتقٍ ولذّة كلِّ موقنٍ" ويتم بيان ذلك من خلال عدة أسئلة: السؤال الأول: ما هي كيفيةُ الانشغالِ عن الدنيا؟ وكيف نُحقق ذلك؟ ولماذا قال الإمام زين العابدين (عليه السلام): "مشغولةً بالحمدِ والثناء" ولم يقُلْ مثلاً "مشغولةً بالاستغفار، أو التكبير"؟ ج/ قبلَ بيانِ كيفيةِ الانشغالِ بذكرِ وحمدِ الله (تعالى) وترك الدنيا، هناك التفاتةٌ مهمةٌ لابُدَّ من بيانها، وهي أنّ الذكرَ والحمدَ لله (تعالى) يكونُ في دارِ الدنيا فكيف تكونُ مذمومةً وهي طريقُ مؤدٍ للخيرات؟ إذًا كيف نتركها؟ الجواب: أجبنا عن ذلك في إحدى الحلقات السابقة، الثامنة تحديدًا (مشتاقةً إلى فرحة لقائك)، فكانَ حُبُّ الدنيا والتعلّقُ بها سببًا لحجبِ المؤمنين عن رؤية ربّهم قلبيًا وأما الدنيا في هذا المقطع (مشغولةً عن الدنيا بحمدِك وثنائك) فالدنيا تارةً تكونُ دارَ اصطفاء، وأخرى دارَ خزي؛ كما أخبرنا اللهُ (تعالى) في كتابه الكريم، بقوله: {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِين}(1), وقال (تعالى) في قباله: {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيم}(2) فيتضح لنا أنّ الدنيا متعددةُ الأدوارِ حسب سالكيها، فقد رويَ عن الإمامِ علي (عليه السلام) أنّه قالَ لشخصٍ يذمُّ الدنيا: "أيُّها الذامُّ للدنيا، المغترُّ بغرورها، المخدوعُ بأباطيلها، أتغترُّ بالدنيا ثم تذمّها؟ - إلى أنْ قال - إنّ الدنيا دارُ صدقٍ لمن صدّقها، ودارُ عافيةٍ لمن فهم عنها، ودارُ غنى لمن تزوّد منها، ودارُ موعظةٍ لمن اتّعظ بها، مسجدُ أحبّاء الله، ومُصلّى ملائكةِ الله، ومَهبطُ وحي الله ومتجر أولياء الله...."(3) فاتضح أنّ الدنيا على أربعةِ أقسامٍ تندرجُ تحت إطارِ دنيا الاصطفاء المُشار إليها، فمن يتخذها لغير هذه الأغراض الأربعة يكن محتجبًا عن لقاء الله (تعالى)، منشغلًا بها، أما من اتخذها ممرًا فقد لاقاه (جلّ جلاله)، وأنشغل عنها. إلى هنا يبقى السؤالُ قائمًا: كيف ننشغلُ عن الدنيا بحمدِ وذكرِ الله (تعالى)؟ الجواب: بما أنّ الدنيا هي دارُ علمٍ وعملٍ، فينبغي اغتنام الأوقاتِ فيما يعودُ نفعًا على النفس، وإلاّ سوّفت وألهت بطول الأمل، كما يقولُ الشاعر: يا منْ بدنياهُ اشتغل قد غرّه طولُ الأمل الموت يأتي بغتةً والقبر صندوق العمل وأيُّ عملٍ أزكى من ذكر الله (تعالى)، ومن مصاديق الذكر أداءُ الواجباتِ والمستحبات؛ لأنّها تُهيمنُ على القلب فتجعله مطمئنًا مُستنيرًا بنورِ المعرفة، ولا يتعدّى الحدود التي رسمها له الله الواحد الأحد، فلا يرتكبُ صاحبه الذنب، وإن ارتكب أسرع وتوضأ بماءِ التوبة، وصلّى على سجادةِ العفو؛ يقول (تعالى): {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوب}(4)، ويقول (سبحانه): {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُون}(5)، فذكر الله (تعالى) أكبر وأوسع من أنْ يشملَ الصلاة فقط. إن الانشغالُ عن الدنيا بذكرِ وحمدِ الله (تعالى) لا يعني انطواء العبدِ وعزلتِه عن الناسِ وتفرغه للتعبد، بل يعني اتخاذ دارِ الدنيا لحمدِ وثناءِ الله (تعالى)، وفي الوقتِ نفسه ممارسة نشاطات الحياة فيها، والدعاءُ بأنْ يوفقَ لذلك مبتعدًا عن الغفلات، يقول الإمام زين العابدين (عليه السلام) في دعائه مكارم الأخلاق: "اللّهم نبّهني لذكرِكَ في أوقات الغفلة، واستعملني لطاعتك في أيام المهلة"(6)، والحمدُ والثناءُ من الذكر، فيشمله طلب الدعاء. ويعضدُ ذلك ما روي عن الإمام علي (عليه السلام): "إنّ الدنيا لم تُخلقْ لكم دارَ مقامٍ، بل خُلِقت لكم مجازًا لتزودوا منها الأعمال إلى دار القرار"(7) أما سببُ تخصيصِ الإمام زين العابدين (عليه السلام) في دعائه أثناء زيارته لجدّه الإمام علي (عليه السلام) بالحمدِ والثناءِ دون سائر الأذكار؛ فلعلّه إشارة منه (عليه السلام) إلى أنّه وبعدَ معرفةِ الله (تعالى) يأتي لزومُ شكره، والثناء على عطاياه؛ وهذا ما تُشيرُ إليه القاعدة العقلية (لزوم شكرِ المنعم)، التي هي إحدى القواعد التي توجبُ على العبدِ معرفةَ ربّه. روي في فضل الحمد "عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ قَالَ قُلْتُ لأبِي عَبْدِ الله (عَلَيهِ السَّلام): أَيُّ الأعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى الله (عَزَّ وَجَلَّ)؟ فَقَالَ أَنْ تَحْمَدَه"(8). وفي الثناءِ الذي هو: التمجيدُ لله (تعالى)، ومدحه، روي "عن الإمام الصادق (عليه السلام): إنّ العبدَ لتكونَ له الحاجة إلى الله فيبدأ بالثناءِ على الله والصلاة على محمدٍ وآله حتى ينسى حاجته، فيقضيها من غير أنْ يسأله إياها"(9). أما عن كيفية الثناء فقد روي عن أبي عَبْدِ الله (عَلَيهِ السَّلام): "إِذَا طَلَبَ أَحَدُكُمُ الْحَاجَةَ فَلْيُثْنِ عَلَى رَبِّهِ وَلْيَمْدَحْهُ، فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا طَلَبَ الْحَاجَةَ مِنَ السُّلْطَانِ هَيَّأَ لَهُ مِنَ الْكَلامِ أَحْسَنَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فَإِذَا طَلَبْتُمُ الْحَاجَةَ فَمَجِّددُوا الله الْعَزِيزَ الْجَبَّارَ وَامْدَحُوهُ وَأَثْنُوا عَلَيْهِ تَقُولُ: يَا أَجْوَدَ مَنْ أَعْطَى، وَيَا خَيْرَ مَنْ سُئِلَ، يَا أَرْحَمَ مَنِ اسْتُرْحِمَ، يَا أَحَدُ يَا صَمَدُ، يَا مَنْ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ، يَا مَنْ لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً، يَا مَنْ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، وَيَقْضِي مَا أَحَبَّ، يَا مَنْ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ، يَا مَنْ هُوَ بِالْمَنْظَرِ الأعْلَى، يَا مَنْ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ، يَا سَمِيعُ يَا بَصِيرُ. وَأَكْثِرْ مِنْ أَسْمَاءِ الله (عَزَّ وَجَلَّ؛ فَإِنَّ أَسْمَاءَ الله كَثِيرَةٌ، وَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ و وَآلِه وجميعُ ذلك إقرارٌ بوجودِ الله (تعالى)، والمعرفة به. السؤال الثاني: ماهي الآثار الدنيوية والأخروية المترتبة على الانشغال عن الدنيا بذكر الله وحمده وثنائه؟ ج/ الآثارُ عديدةٌ، منها: 1/ الاطمئنان القلبي. 2/ تخفيف الحساب. 3/ بلوغ المنازل الشريفة في الدارين. 4/ ديمومة حياطة الله (تعالى) له. 5/ زيادة الأرزاق. 6/ إحياء القلوب. 7/ كثرة البركة. 8/ النجاة من الهلكة. 9/ الابتعاد عن الشيطان. 10/ الدنو من ملائكة الرحمن. السؤال الثالث: كيف جسّد الإمام السجاد (عليه السلام) وهو سيّدُ الساجدين وزين العابدين مفهوم الانشغال عن الدنيا بذكر الله (تعالى)؟ ج/ لقد جسّد الإمام زين العابدين (عليه السلام) صاحبُ هذه الزيارة الانشغال بحمدِ الله (تعالى) والثناءِ عليه تاركًا الدنيا وزخرفها عن طريقِ المنظومة العبادية التي أسسها (عليه السلام) من صلاةٍ ودعاءٍ عالي المضامين، عميق المقاصد، وكان هذا سلاحُه في مواجهةِ الدنيا وأهل الدنيا، فجمعَ بين محاربة الدنيا وتهذيب المتعلقين بها، وبين الانشغال بحمد الله (تعالى) وثنائه. لكن هذا لا يعني أنّه ترك وظيفته الدعوية، وظيفة الأنبياء (عليهم السلام)؛ إذ هو إمامُ ذلك الزمان بعد أبيه الحسين (عليه السلام)، بل كانتْ أدعيتُه فيها نوعٌ من الدعوةِ إلى الله (تعالى)، ذات صبغة تعليمية، مكتسية بعباراتٍ تكشفُ الحكّام الظالمين، ومتلألئة بأنوارٍ معرفيةٍ عقائديةٍ وفقهيةٍ وأخلاقية، فكتب صحيفته السجادية التي تُسمّى (زبور آل محمد)؛ لعظمتها، فهذا هو الحمد والثناء الذي جسّده (عليه السلام). ومن المؤسفِ أنّ البعض يعتقدُ في إمامه السجاد (عليه السلام) أنّه اتخذ من البكاء وردًا له، واعتزلَ شؤونَ الأمةِ الإسلامية آنذاك، وقد غابت عنهم أمورٌ عديدةٌ غير دور السلاح الدعائي، منها: أنّه (عليه السلام) كان يشتري عبيدًا ويعلّمهم ثم يعتقهم؛ لينشروا ما تعلّموه بين الأوساط، فكان هذا من قبيل الانشغال بنشر حمد الله (تعالى) الواحد الأحد والثناء عليه. وكذا خطبته البليغة التي تشهدُ بموقفها المسيرةُ الحسينية، حيثُ كانت من قبيل نشر حمد وثناء الله تعالت أسماؤه. السؤال الرابع: هناك بالتأكيد فارقٌ كبيرٌ بين من ينشغلُ عن الدنيا وبين من ينشغلُ بالدنيا، ولنا في سيرِ الماضين دروسٌ وعِبرٌ فهلّا بيّنتم هذا الأمر؟ ج/ إنّ الفرقَ بين الجملتين هو حرفُ جر، فمفادُ الأولى صرفُ الإنسانِ عن الدنيا، والثانية تغمسه في الدنيا. وشتّانَ ما بين الحالين. لنأخذ مثالًا الشخص المَزُوْرَ، النور في الديجور، أمير المؤمنين، علياً (عليه السلام) فقد كان كثيرًا ما يدعو إلى الزهدِ في الدنيا –الزهد أنْ لا يملكك شيءٌ-, ولهذا كانت بطولاتُه وشجاعتُه مسجلةً أسمى الدرجات، وفاقَ من زاحمه المنصب القيادي آنذاك، وكان لا يهابُ الموت ومفارقة الدنيا، حتى أصبح الموت له ولذريته عادة، والكرامة له ولهم الشهادة. والمواقف التاريخية خيرُ شاهدٍ على ذلك؛ وما نومه في فراش النبيّ (صلى الله عليه وآله) إلا تجلٍ للانشغال بحمدِ الله (تعالى) وثنائه، وترك التعلق بالدنيا، مع الاستعداد للموت. وما مشاركته في الحروب مع ابن عمه (صلى الله عليه وآله) إلاّ تجلٍ آخر أيضًا. وعلى هذا فليقس كلّ من لا يعرف شيئًا عن آل محمد (عليهم وعلى سيدهم السلام)، فتوارثهم ذلك كان من المصطفى الأحمد، محمد (صلى الله عليه وآله) ومن هنا توارثت العترة المحمدية خصلة الانشغال عن الدنيا بحمد وثناء الواحد الأحد، مع مراعاة وظائفهم المنوطة بهم.هي الخلاصة لأهمِّ الدروسِ والعبر المُستسقاة من هذه الزيارة العظيمة التي شملت وتضمنت مفاهيم غاية في الأهمية تساهم وبشكلٍ فعّال في صلاحِ الفردِ والمجتمع ككل؟ ج/ الخلاصة: أنّ الدعاء الوارد في زيارةِ أمينِ الله (عليه السلام) يُحاكي جوارح وجوانح العبد؛ فتارةً يُحاكي الجوارح كالفقرات التالية: مولعةً بذكرك، مفارقةً لأخلاق أعدائك، مشغولةً عن الدنيا بحمدِك وثنائك، ذاكرةً لسوابغ آلائك، مستنةً بسننِ أوليائك. وأخرى يُحاكي الجوانح كالفقرات التالية: مطمئنةً بقدرك، راضيةً بقضائك، صابرةً على نزول بلائك، مشتاقةً إلى فرحة لقائك، متزودةً التقوى ليوم جزائك، شاكرةً لفواضل نعمائك، محبةً لصفوة أوليائك. وكما تعوّدنا قراءةَ الأدعيةِ الشاملةِ من أهلِ البيت (عليهم السلام) عمومًا، ومن صاحب الزبور المحمدي، الإمام زين العابدين (عليه السلام) خصوصًا، فهذا الدعاءُ أحدُ أدعيته، الذي يُعدُّ أحدَ اللوائحِ المعرفية التي لا تخلو منها حياةُ أيّ عبد، ومن ثم فلا استغناء عن مفردات هذا الدعاء. ونرجو أن نكون قد أعطينا الفقرات شيئاً من حقِّها بالتوضيح -وإنْ كان قاصرًا.- _________________ (1) البقرة: 130. (2) البقرة: 114. (3) نهج البلاغة: ح131. (4) الرعد: 28. (5) العنكبوت: 45. (6) مفاتيح الجنان: للشيخ عباس القمي, ص (7) نهج البلاغة, خ132. (8) الكافي: للشيخ الكليني, ج2, باب التحميد والتمجيد, ح2. (9) بحار الأنوار: للعلامة المجلسي, ج39, ص312. (10) مصدر سابق, ج2, باب الثناء قبل الدعاء, ح6. وَالحَمْدُ للهِ الَّذِي تَحَبَّبَ إِلَيَّ وَهُوَ غَنِيُّ عَنِّي، وَالحَمْدُ للهِ الَّذِي يَحْلُمُ عَنِّي حَتَّى كَأَنِّي لا ذَنْبَ لِي، فَرَبِّي أَحْمَدُ شَيْءٍ عِنْدِي وَأَحَقُّ بِحَمْدِي.

البيان والبلاغة في كلمات أهل البيت عليهم السلام
منذ 3 سنوات
413

خاطرة

حقيقةٌ علينا الاعترافُ بها ".... وقليلٌ من عبادي الشكور" شُكرُ النعمةِ يُحركُك للعمل بها وتزكيتها كما أنَّ زكاةَ العلمِ نشرُه وزكاةَ المالِ إنفاقُه كذلك باقي النعمِ، حركيةُ الإنسانِ تدلُّ على مدى وعيه بهذا الأمر وإلا فهو بالتأكيدِ من الواقفين في أحدِ الطابورين الطوال.

اخرى
منذ 3 سنوات
215

حوارٌ مبين في زيارة الأمين (١١)

بقلم: علوية الحسيني ودعاء الربيعي "مُفارقةً لأخلاق أعدائِكَ" الأسئلةُ حولَ هذه الفقرة هي كالتالي: ■السؤالُ الأول: ما المُرادُ من مُفردة الخُلُق؟ وكيف وضَّحَ القرآن الكريم هذا المفهوم؟ ج/ الخُلُق: هو "عبارة عن هيئةٍ قائمةٍ في النفس، تصدرُ منها الأفعالُ بسهولةٍ من دون الحاجةِ إلى تدبّرٍ وتفكّرٍ"(1). أما القرآنُ الكريم فقد تعرّضَ إلى الأخلاقِ بقسميها الحسنة والسيئة, مؤكدًا على ضرورة التحلّي بالأولى, ناهيًا عن التخلّق بالثانية. هو كتابُ هدى وكمال, رسمَ للإنسان قواعدَ الأخلاقِ في التعاملِ مع بني أقرانه, كقوله (تعالى): {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيم}(2), فالآيةُ الكريمةُ تُشيرُ إلى التصدُّق, ذلك الخُلُق العظيم الذي يؤدي إلى التكافلِ الاجتماعي. وآياتٌ أخرى رسمتْ له أخلاقياتِ التعامُلِ مع ربِّه, كقوله (تعالى): {مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَه}(3), فالآيةُ الكريمةُ تُشيرُ إلى العلاقة بين العبدِ وربِّه إذا كانت مشوبةً بالتعدّي على الحدود التي رسمها اللهُ (تعالى) لعباده. ومن ناحيةٍ أخرى نجدُه قد رسمَ لنا قواعدَ أخلاقِ المهن, وأخرى نجدُه قد رسمَ لنا أخلاقياتِ بناءِ الذاتِ الإنسانية, وهكذا. وبما أنّ الأخلاقَ أحدُ رؤوسِ هرمِ المنظومةِ المعرفية الدينية بالإضافةِ إلى أصولِ الدّين –العقيدة- وفروعه -الفقه-, فقد أولى لها القرآنُ الكريمُ درجةً من الأهمية, وحثّ ما حثّ عليه من فضائلها, ونهى ما نهى عنه من رذائلها. ■السؤال الثاني: من هُم أعداء الله (تعالى) المقصودون في الزيارة بحيث يطلبُ الإمامُ السجاد من الله (تعالى) أنْ يُبعدَه ويُجنبه أخلاقَهم؟ ج/ إنّ الله (تعالى) ذكر أعداءه في كتابه الكريم في آياتٍ عديدة, منها آياتٌ أوضحتْ مصيرَ أعداءِ الله (تعالى) فقط دون أنْ تُحدِّدَ ماهيةَ أولئك الأعداء، كقوله تعالى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ الله إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُون}(4), وكقوله (تعالى): {ذَٰلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْد}(5), ومنها ما أوضحتْ عدم محبةِ الله (تعالى) بمن عاداه, كقوله (تعالى): {وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِين}(6). وبما أنّ القرآن الكريم يفسّر بعضُه بعضًا, فنجدُ المرادَ من (أعداء الله (تعالى)) في آياتٍ أُخر, منها ما عرّفتهم بالظالمين؛ كقوله (تعالى): {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُون}(7), وأولُ من تعدّى حدود الله (تعالى) هو ابليس, فكان أولَ أعداءِ الله (تعالى), ولهذا نهانا (سبحانه) عن اتّباعه بقوله (تعالى): {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِين}(8). ومن تلك الآيات ما عرّفت أعداء الله بالكافرين؛ كقوله (تعالى): {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِين}(9). ومن تلك الآيات ما عرّفتهم بأنّهم أعداءُ رسلِ الله (تعالى) وملائكته, وبالتالي هم كافرون, وهذا ما صرّحتْ به هذه الآية الكريمة في ذيلها: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لله وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِين}(10), فالآيةُ الكريمةُ أشارت إلى حكمِ المُعادي الكافر بأوائل أصولِ الدّين: التوحيد -بقوله عدوًا لله- , والعدل الإلهي -بقوله وملائكته التي هي أحد الطرق التي يُكلّم الله (تعالى) به أنبياءه ورسله بالتكاليف الشرعية فيوصلونها إلى العباد, وذلك من عدله (تعالى) أنّه يُعلِّم عبادَه بالتكاليف ثم يُثيب المطيع, ويعاقب العاصي-, والنبوة –بقوله ورسله-. *فائدة: إنّ الآيةَ الكريمة حينما قالتْ من كان عدوًا لملائكةِ الله (تعالى) فإنّها أوضحتِ المقصودَ من معاداةِ الكفار للملائكة وذلك بعدمِ الإيمان بهم, إلاّ أنّ الآيةَ عطفتْ في الحكم -معاداةَ الله (تعالى) لهم-, فقالت: من كان عدوًا لله, وملائكته, ورسله, وجبريل, وميكال (عليهما السلام). فتكرارُ العطفِ على فردين من أفراد الملائكة جبرائيل وميكائيل (عليهما السلام) رغم أنّ نوعَ الملائكةِ قد ذُكِرَ في بداية الآية, يدعو إلى التساؤل: لماذا التكرار؟! جوابه: نحنُ نعتقدُ أنّ الله (تعالى) حكيمٌ, منزّهٌ عن اللغوِ في الحديث, فحينما كرّرَ حكمَ معاداةِ الملَكين -جبرائيل وميكائيل (عليهما السلام)- فلعله كان ذلك منه إشارةً منه (تعالى) إلى ما صدرَ من الكافرين في زمن النبي محمد (صلى الله عليه وآله) حينما كفروا ببعض الملائكة؛ فكان سببُ نزولِ هذه الآية: "أنّ ابن صوريا وجماعةً من اليهودِ جاؤوا للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا له: خصلةٌ واحدةٌ إنْ قلتَها آمنتُ بك واتبعتُك. فسألوه: أيّ ملكٍ يأتيك بما يُنزل الله عليك؟ قال (صلى الله عليه وآله): جبريل. قال ابن صوريا: ذاكَ عدوّنا ينزِلُ بالقتال والشدّة والحرب، وميكائيل ينزِلُ باليُسر والرخاء. وطلبوا أنْ يكونَ ميكائيلُ هو الذي يُنزّل الأحكامَ من عندِ الله (تعالى) على قلبِ النبي (صلى الله عليه وآله) حتى يؤمنوا به!"(11), وما كانَ ذلك إلاّ تملُّصًا من الإيمان بالدعوة المحمدية إلى دين الله (تعالى). وبهذا يتضحُ لنا من هم أعداء الله (تعالى), وهذا ينطبقُ على ذراريهم, ومؤيديهم, وإنْ كانوا يطلقون على أنفسهم أنّهم مسلمون. ■السؤال الثالث: هل المرادُ من المُفارقةِ لأخلاق أعداءِ الله تعالى هي نفسها البراءةُ منهم، أم أنّ مفهومَ البراءة يختلفُ عن مفهومِ المفارقة؟ ج/ نعم, فكما توجدُ هناك ملازمةٌ بين أخلاق الله (تعالى) وأوليائه ووجوب الاتصاف بها, توجد ملازمةٌ بين أخلاقِ أعداء الله (تعالى) ووجوب النفورِ منها والتبرّي من أصحابِها. وبالعقلِ -إجمالًا- يستطيعُ كلّ إنسانٍ أنْ يُفرّقَ بين الأمورِ الحسنة والسيئة, فيُدرك أنّ الكذبَ -مثلاً- قبيحٌ فلا يكذب, ويُدرك في قباله أنّ الصدقَ -مثلاً- حسنٌ فيتصف به. إذًا فمسألة التمييز بين الحسن والقبح لها تأصيل عقلي؛ والأخلاق من المسائل التي تخضع لذلك, فبالعقل أُدرِكَتِ الأخلاق حتى قبل العلم بالنصوص النقلية الصادرة عن النبي الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله)؛ بدليل قوله (عليه وآله السلام) : "إنّما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"(12), فلم يقل لأعلِّم الأخلاق, وإنّما ليتمم ما هو موجود لديهم بالفطرة, ويبيّن لهم أكمل الأخلاق. وعليه, إنّ الإنسانَ يُدركُ بعقله الأخلاقَ السيئة التي توجبُ غضبَ الله (تعالى) فينفر منها, ويتبرأ ممن يتصف بها. كما يدرك بعقله الأخلاق الحسنة التي توجب رضا الله (تعالى) فيتصف بها, ويوالي من يتصف بها. إذًا فالنفورُ شيئًا فشيئًا من أخلاقِ أعداء الله (تعالى) يؤدي إلى البراءة منها وممن يتصف بها. كما التحلّي بأخلاقِ أولياء الله (تعالى) يؤدي إلى اكتسابها وتولّي من يتصف بها. ■السؤال الرابع: كيف يُمكِنُ لنا أنْ نُقبّحَ أفعالَ وأخلاقَ أعداء الله (تعالى) في أعيُنِ الناس حتى يتجنبوا محاكاتها أو اتباعها؟ وما هي الرسالة التي من الممكنِ أنْ نوجهها للأجيالِ الشابة فيما يخصُّ الابتعاد عن أخلاق أعداء الله (تعالى)؟ ج/ قُلنا سابقًا إنّ الأمورَ القبيحةَ واضحةٌ عقلًا عندَ كلِّ إنسان؛ طبقًا لنظريةِ (الحسن والقبح العقليين), فالقبيحُ قبيحٌ لا يحتاجُ لأن نُقبّحه لسالكيه, فمنْ يتصف بقبائحِ الأخلاق يُدرك حتمًا أنّه على غيرِ الحالةِ المُعتادة عندَ عامةِ الناس من الأخلاقِ الحسنة؛ بدليلِ أنّ البعضَ حينما يريدُ أنْ يعكسَ قُبحَ أخلاقِه يتردّدُ ويخشى الناس, فنجدُه لا يكذبُ أمام أيّ أحدٍ, ولا يخونُ, ولا يُفشي سرًا أمامَ أيّ أحد. وفي أحيانٍ أخرى نجدُ البعض يتجاهرُ بقبائحِ الأخلاقِ أمامَ الملأ, كمن يتعدّى حدودَ الله (تعالى) ويسبُّ اللهَ ورسولَه وكلَّ من ينصحه, فهؤلاء رانَ على قلوبِهم ما كانوا يكسبون, بل وبعضُ الآياتِ تصفُهم بأنّهم كالأنعامِ وأضل, بعد عدمِ استجابتِهم للرشد, وعدم ارعوائهم عن طريقِ الغي. وأمّا الرسالةُ التي من الممكن أنْ نوجهَها لكلِّ من يتخلّق بأخلاقِ أعداء الله (تعالى) فتتمثل بالنقاط التالية: 1/ ضرورةُ معرفةِ الآثار السلبية من الاتصافِ بأخلاقِ أعداء الله (تعالى) (الأخلاق القبيحة), من قبيل: أ- فساد الإيمان: عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: "إنّ سوءَ الخُلُق ليفسدَ الإيمان كما يُفسِدُ الخلُّ العسل"(13). ب- تعذيب النفس: عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "من ساء خُلُقه عذّب نفسه"(14), حيثُ إنّ الجميعَ ينفرُ منه؛ لسوء خلقه, فيبقى معتزلًا مستوحشةً نفسه. ج- الاحتقار في المجتمع: إذ من وظائفِ الآمرِ بالمعروف والناهي عن المنكر أنْ يأمرَ وينهى حسب الدرجات والشرائط, وحالُ عدم الاستجابة يُبدي الانزجار واللامبالاة لمن اتصفَ بأخلاقِ أعداء الله (تعالى). د- توهين الشخصية: إذ إنّ صاحبَ الأخلاق السيئة ضعيفُ الرأي, وهنُ الشخصية؛ لبعدِه عن النهجِ القويم. 2/ بيانُ محاسنِ الأخلاق والآثار الإيجابية من التحلّي بها, وأنّها أخلاق النبي وآله (عليهم السلام). 3/ ترويضُ وتهذيبُ النفس بإشرافِ مرشدٍ يكون كالطبيب الروحي له. 4/ ضرورةُ معرفةِ أنّ طريقَ التكاملِ لا زال مفتوحًا, فبإمكان الإنسان سيء الخلق أنْ ينسلخَ بسهولةٍ من تشبهِّه بأعداء الله (تعالى), ويُصبِحُ كأحدِ أولياء الله (تعالى). ___________________ (1) الحقائق في محاسن الأخلاق: للفيض الكاشاني, ص54. (2) البقرة: 261. (3) الطلاق: 1. (4) فصلت 19. (5) فصلت: 28. (6) البقرة: 190. (7) البقرة: 229. (8) البقرة: 208. (9) البقرة: 98. (10) البقرة: 98. (11) ظ: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزّل: للشيخ ناصر مكارم الشيرازي. (12) حديث مشهور. (13) الكافي: للشيخ الكليني, ج2, باب سوء الخلق, ح3. (14) المصدر نفسه, ح4. اللّهم استعملنا فيما تُحبُّ وترضى, بحقِّ محمدٍ وآله أولي الخُلُق السجي والعُلى.

البيان والبلاغة في كلمات أهل البيت عليهم السلام
منذ 3 سنوات
317

لو كانوا مخلصين!

بقلم: شيماء عبدالواحد المياحي لم يشهد الدين الإسلامي انتشارًا واسعًا كما هو عليه اليوم منذ بعث الله (تعالى) نبيه الأكرم (صلى الله عليه وآله) بالرسالة المحمدية من حيث سهولة وتعدد سُبل نشر العلم على أرض الواقع أو عبر المواقع الإلكترونية، وانتشار الشعائر الحسينية على أوسع نطاقٍ؛ حيث أنَّ بعض المواسم يشهدها الملايين من البشر من مختلفِ الأديان والقوميات، وربما يكون أكبر تجمعٍ بشري هو في مواسم الزيارة ولا سيما زيارة الأربعين للإمام الحسين (عليه السلام)؛ وهذا مما يسهل على المتصدين للتبليغ الديني والإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ممن هم أهل له. ولكن، في المقابل لم تمر على البشرية فترة تشهد انتشارًا واسعًا جدًا للفساد وتهيئة مقدماته بكلِّ أنواعها كما نحن عليه اليوم والتي أحد اسبابها أيضاً التقدم التكنلوجي وإتاحة التواصل مع العالم بأكمله، وكثرة المغريات التي يشهدها المرء بقصدٍ أو من دونه، مما قد تودي به وبمرور الوقت إلى الوقوع في الهاوية، خصوصًا مع عدم وجود الرادع الذي يردعه من الانجرار وراء ما تملي عليه غرائزه ونفسه الأمارة بالسوء، حتى يصل إلى مرحلةٍ يخرج فيها عن الإنسانية وينحط إلى درجةِ البهائم والعياذ بالله. وهنا يأتي سؤالٌ: أين ثمرة عمل المصلحين والمبلغين؟ قال البعض: لو كان عملهم بإخلاص لأثّمر، ونسب إلى عملهم التبليغي بعض الغايات الدنيوية! نعم، بلا شكَّ أنَّ الإخلاص أحد شروط قبول العبادات والتبليغ من أسمى العبادات فقد جاء في كتاب الله العزيز: "وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيّمة"(١). ولكن لا يمكن القول بأنَّ كلَّ من تصدى للتبليغ غيرُ مخلصٍ في عمله. إذن ما هو السبب؟ يكمن الجواب في عدة نقاط: أولًا: قانون القابل والفاعل: ففاعلية الفاعل ليست على وتيرةٍ واحدة، بل هي متناسبة مع قابلية القابل. ومثاله: البحرُ فاعلٌ - بمعنى من المعاني - والنهر قابلٌ كذلك، والمستقي منهما هو القابل، ولكن البعض يأخذ من البحر فنجانًا، فيما يأخذ البعض الآخر بحيرة، كبعض البحيرات المتصلة بالبحر، فصاحب الفنجان هذه قابليته، وصاحب البحيرة هذه قابليته أيضًا. وعليه فالمرشد والمبلغ فاعلٌ - والفاعل الأعظم هو الله (تعالى)- وكلًا يستقي من علمه حسب قابليته. ثانيًا: الله (تعالى) هو خالق الأنفس، وهو الذي يتحكم بتغييرها، ولكنه (تعالى) ألقى الحجة على عباده وبيّن لهم الأسباب التي تقربهم منه (سبحانه وتعالى)، ولم يجبرهم على شيء قال (تعالى): "إنَّ الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"(٢) إذن التغيير والإصلاح يبدأ من الإنسان نفسه. ثالثًا: الأئمة (صلوات الله وسلامه عليهم) أرفدونا بما يصلح الإنسان ومن ذلك ما وردنا عن الإمام الجواد (عليه السلام): "المؤمن يحتاج إلى ثلاث خصال: توفيق من الله، وواعظ من نفسه، وقبول ممن ينصحه"(٣) فمتى ما اجتمعت هذه الخصال الثلاثة في أيِّ إنسانٍ سيتغلب على نفسه الأمارة وأهوائه ورغباته التي تحول بينه وبين إصلاح نفسه والاتعاظ بغيره. رابعًا: ذكر لنا التاريخ أنَّ قومًا من الناس قضوا وطرًا من حياتهم تحت منبر الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وكانوا يأتمون به في كلِّ فريضةٍ ويستقون من بحر علمه كلَّ يومٍ، ولكنهم لم يتأثروا به (صلى الله عليه وآله)، فهل يمكن أنْ يُعزى سبب ذلك إلى عدم إخلاصه (صلى الله عليه وآله)؟! لذا فعلى الإنسان أنْ يسعى لإصلاح نفسه، وأنْ يطلب من الله (تعالى) التوفيق لما يحب ويرضى، ولا يلقي باللوم على غيره، ولابُدَّ من ترك التذرع بهذه الحجج وأمثالها؛ لأنها ليست مبررًا للتهاون في الامتثال لأحكام الدين. وصلى الله على محمد وآله الطاهرين. -------------------------- (١) الأنبياء ٢٥ (٢) الرعد ١١ (٣) بحار الأنوار ج٧٥ / ٣٥٨

اخرى
منذ 3 سنوات
262

بهجةُ تنصيبِ الأمير كبهجةِ ظهورِ الحُجّة

بقلم: شيماء المياحي في يومِ تنصيبِ الأميرِ، سرورٌ يلجُ أعماقَ الفؤاد، ويُزيحُ همومَ الحياة، وكأنّه يومُ ظهورِ الحُجّة المهدي (عجّل الله (تعالى) فرجه). للمؤمنِ الموالي غصةٌ ولوعةٌ في كُلِّ يومٍ لفراقِ إمامه وولي أمره، وتشتدُّ اللوعةُ وألمُ الفراقِ في عيدي الفطر والأضحى؛ وذلك لاحتياج الإنسانِ لولي أمره في هكذا مناسبات، وهي حاجةٌ فطرية، فحتى الطفل إذا كان يتيمًا يشتدُّ ألمَهُ لفقدِ ولي أمره في الأعيادِ.. ولكن الأمر مختلفٌ في عيد الغدير الأغر؛ فللمؤمنِ فيه بهجةٌ تلجُ قلبه، وسرورٌ يمحو أحزانه، ويُخففُ من وطأةِ مِحَنِ وابتلاءات الحياة، فحتى العلماء- كما يُذكرُ عنهم- كانَ لهم استعدادٌ مُميزٌ لهذا اليومِ العظيمِ في بثِّ الفرحِ والسرورِ، بارتداءِ الملابس الجديدة، وإطعامِ الطعامِ والحلوى، على حُبِّ أمير المؤمنين (عليه السلام)، والاجتماع بالمؤمنين، وتبادل التهاني بينهم؛ وذلك لأنَّ لهذا اليوم شأنًا عظيمًا عند الله (تعالى) وعند المؤمن. فهو بالنسبة له يومَ إنقاذٍ ونجاةٍ من الضياع والتيّه الذي كادَ أنْ يحصلَ بعد فقدِ النبي (صلى الله عليه وآله) لولا هذا التنصيب وهذه الحادثة العظيمة، التي هي بمنزلة الجذور للقضية المهدوية التي تترقبُها البشريةُ عمومًا والأتباعُ على وجه الخصوص، على أملِ أنْ تحيا الحياةَ السعيدة، تحت لواءِ الإمامِ الهادي المهدي (عجل الله (تعالى) فرجه الشريف)؛ ولكان حالَ المؤمنِ كحالِ غيرهِ الذين يتخبطون في دينهم، تخبطَ الأعمى في دُجى الليل.

اخرى
منذ 3 سنوات
286

الغديرُ رسالةُ النّبي للأمّة

بقلم: وجدان الشوهاني ينتابُني القلقُ بمَن هم حولي، حتى إنّي بدأتُ أشُكّ في صحةِ عقيدتي في بعض الأحيان! ها هو يومُ الغدير يطلُّ علينا من جديد، ولكنّي أرى ذلك اليوم من منظارٍ مختلفٍ عن الكثيرين؛ فالكثيرُ يفهمُ من تلك الأحداث وما جرى بعد حادثةِ الغدير، أنّ الخلافَ شيعيٌ سنّيٌ فقط، ولكنّي أراهُ أوسعَ من ذلك، فكما هو شيعيٌ سنّيٌ هو شيعيٌ شيعيٌ أيضًا! فثرثرةُ العقلِ تقودني إلى تتبعِ أحداثِ ما جرى بدقةٍ متناهية؛ لأفهم الرسالة السّماويّة التي بيّنها النبي (صلى الله عليه وآله)، ولأقفَ على حقيقةِ معتقدي، عسى أن يرحل عنّي ذلك القلق. فما جرى لم يكن محضَ صدفة، وليس حدثًا عابرًا، فكلُّ ما حدث قد تمَّ بترتيبٍ إلهي، ولأهمية الأمر، كان تدبيرُ الله (تعالى) حاضرًا في كلِّ مفاصلَ الحادثة. تلك الواقعةُ التي تبدأ بقول الله (جلَّ وعلا): "يا أيها الرسول بلّغْ"، فهذه الآيةُ نزلتْ على النبي (صلوات الله عليه وآله ) في حجّه.. صيغةُ الأمر في الفعل (بلّغ) أرهقتني بكثرةِ التفكير في معناها، فهناك أمرٌ مهمٌ وجبَ على النبي أنْ يُبلّغ الأمةَ به، وفي نفس الأمر تشيرُ إلى صفةٍ ثابتةٍ في النبي وهي التبليغ، ومن هنا جاء من صفاته (المبلّغ). تُرى هل تلك الصفةُ يمكنُ أنْ تنتقلَ للبعض الذي سيخصهم الله (تعالى) بعنايته؟ سؤال علينا أنْ لا نغفلَ عنه، ولكن لنُكمِل عسى أنْ نجدَ الإجابةَ؛ فالكلُّ ينتظرُ التبليغ المهم. متى سيقومُ النبيُ بتبليغه؟ فقد أنهى الجميعُ أعمالَ الحج، وبدأ التهيؤ للعودة للديار بعد أن ودّع الجميعُ بيتَ الله الحرام. لم يختر النبي أيَّ مكانٍ من الأماكن التي جرت بها فريضة الحج، ليس تهاونًا كما يتصوّره البعض حتى وصل التوهم لبعض الشيعة، إنّما المكانُ قد جرى وفق تدبير الله (تعالى).. فتلك الأماكنُ يكونُ الحاجُّ فيها مشغولًا بأعمالِ الحجِ، وربما لا ينتبه الكثيرُ لكلامِ النبي (صلى الله عليه وآله)، وهذا خلافُ أهميةِ الأمرِ الذي جاء في الآية. بدأ المسيرُ، حتى وصلَ الجميعُ إلى مُفترقِ طرقٍ، إنّه غديرُ خُمٍ، هكذا هو اسمه، وهكذا جرى تدبيرُ الإلهِ في اختيارِ المكانِ الذي يجمعُ كافةَ المسلمين من كلِّ البلاد. جاء النداءُ؛ ليتوقف الجميع! الكلُّ يسألُ: ماذا جرى؟ هل هناك شيء؟ - نعم؛ فالنبيُّ سوف يخطبُ بكم جميعًا قبلَ أن تفترقوا. نصبوا للنبي منبرًا ليراه الجميع، خطب خُطبتَه المعروفة؛ ليُعلنَ عن تنصيبِ علي بن أبي طالب (عليه السلام) أميرًا للمؤمنين ووليًا وإمامًا بعده. والجميعُ منتبهٌ لذلك التنصيب، ولكن السؤال: هل كان الجميعُ يعي معناه؟ مهلًا، لنعد إلى سؤالٍ طرحناه سابقًا يخصُّ صفةَ (المبلّغ)؛ فجوابُ السؤال عن الصفةِ لا يفهمه إلّا من وعى حقيقة الولاية والإمامة وإمرة المؤمنين.. إن الولاية تستلزم انتقال كُلِّ صفاتِ النبي وخصائصه إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام ) باستثناء النبوة؛ فكما إنّه يجبُ على الأمة طاعةُ النبي (صلى الله عليه وآله) يجبُ أيضًا طاعةُ علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وفي كلِّ شيءٍ حتى التبليغ. فالخلاف الشيعي السني كان في إثبات المعنى وإنكاره، على حين الخلاف الشيعي الشيعي كان في طاعةِ الإمامِ والسيرِ على نهجه بكلِّ حذافيره، فالطاعةُ ليستْ مقتصرةً على صلاةٍ وصومٍ وغيرها من العبادات، وإنّما الطاعةُ تكمنُ في نظامٍ إلهي مُتكاملٍ على مستوى القيادة والإدارة والمنهج بالإضافة إلى العبادة. وهنا نفهمُ معنى السؤال الثاني؛ لأن الكثيرَ لا يفهم أنّ الإمامةَ طاعةٌ مُطلقةٌ في كلِّ شيء.. فكم منّا يؤمنُ بإمامةِ علي (عليه السلام)، ويفرحُ بيوم الغدير، ويبتهلُ إلى الله (تعالى) ويُرسلُ التهاني، ولكنّه إذا توّلى منصبًا سياسيًا نراه لا يسيرُ بنهجِ علي فيسرق! ولو كان طالبًا أكاديميًا لا نراهُ يسيرً بنهج علي فيغش!، ولو كان بقالًا أو موظفًا أو... وحتى النساء تفعلُ ما تفعلُ! فيضعنا فعلُهم أمامَ سؤالٍ: أين نهجُ علي؟! وأين الولايةُ التي احتفلوا بها وقدّموا من أجلها التهاني؟! لا أتكلمُ عن الجميع، وإنّما كلامي للبعض.. وهذا هو الخلاف الشيعي الشيعي؛ فعدمُ فهمِ معنى الولاية قادنا إلى متاهات، ونحنُ من جعلنا دائرةَ الخلافِ تتسع. ولا عجب في ذلك، فالجميعُ يعلمُ بحضور شخصياتٍ بارزة في مبايعة يوم الغدير كأبي بكرٍ وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وطلحة والزبير، ولو تمعّنا في الأسماء جيّدًا سنجدهم أبطالًا لكثيرٍ من الأحداث التي جرت فيما بعد، أهمّها السقيفة! هذه الأسماءُ هي أوّلُ من لبّتْ أمرَ النبي بعد أنْ بلّغ الأمّة بالأمر المهم وهي البيعة لعلي بن أبي طالب (عليه السلام )، وكانت مبايعتهم على مرأى ومسمع الجميع، فكانوا ممّن أطاع الله والنبي (صلى الله عليه وآله) في بيعتهم للإمام علي (عليه السلام)، خصوصًا أنّهم نادوه بإمرة المؤمنين! وهذا يعني أنّهم فهموا من خطبة النبي أنّ عليًا أميرهم وتجب طاعته؛ لأنها طاعةُ الله ونبيّه، ولكن هل ستستمر هذه الطاعة إنْ غاب عنهم شخص النبي؟ ما جرى من أحداثِ السقيفة كشف حقيقة تلك المبايعة. ولكن علينا أنْ نفهمَ أنّ السقيفةَ قد رسمتْ للأمّة منهجًا مغايرًا لمنهجِ النبي وعلي (عليهما وآلهما السلام). وهنا نقفُ مندهشين أمام البعض ممن يُبايعُ الإمام في يوم الغدير بزيارة مرقدِه ولكنّه يسيرُ بمنهج السقيفة بالخفاء! أيُّ نفاقٍ يحملُ هؤلاءِ، هذا النفاقُ الذي بانَ في تعاملهم مع المرجعية؛ فالمقلدون كثيرون كما أنّ المبايعين لعلي (عليه السلام) كثيرون، ولكن إنْ جئنا إلى التطبيق، فلن نجدَ إلّا النزر القليل. وهنا نفهمُ الربطَ الحقيقي بين ما جرى في واقعةِ الغدير وبين علاقتِنا بالإمام الحجة (عجّل الله فرجه) وعلاقتنا بمرجعيتنا. فرسالةُ النبي (صلى الله عليه وآله) للأمّة، رسالةٌ مهمة تحتاج منّا مزيدًا من الوعي، والانتباه؛ إذ إنَّ نكرانَ إمامةِ علي (عليه السلام) لا يختلفُ كثيرًا عن إنكارِ التقليد؛ لأنّه سيقودُ لإنكار إمامةِ الحجة (عجّل الله فرجه). وعدمُ السير بمنهج علي (عليه السلام) لا يختلفُ كثيرًا عن عدمِ الأخذِ بوصايا المرجعية والسير وفقَ منهجِ الهوى الذي وضعه أهل السقيفة. فاليوم مطلوبٌ منّا ألّا ننظر للأمر من منظارِ المذهبية، بل علينا أنْ ننظر لتلك الولاية من منظار التطبيق؛ لأنّ وفق منظار التطبيق سيسقطُ الكثيرُ سواءً على مستوى من يخالفنا في المذهب أو يتفق معنا بالمذهب! ولكي نُزيلَ الأوهامَ والقلق الذي يكادُ أنْ يقتل المُنصفين أقول: إنَّ رسالةَ النبي (صلى الله عليه وآله) للأمّة في يومِ الغدير عميقةٌ في محتواها، تحتاجُ للعقول الواعية.. فنبيُّكم يُنادي وإمامُكم يُنادي ومرجعُكم يُنادي الولايةُ تطبيقُ منهجٍ، وليس فقط مذهب! فهل فيكم مَن يعي ذلك النداء؟!

اخرى
منذ 3 سنوات
294

عليٌ والرواتبُ المزدوجة

بقلم: الدكتور عزيز سنبه يومُ الغدير ليسَ يومَ توزيعِ المناصب، إنّه يومٌ حدَّد فيه الرسولُ (صلى الله عليه وآله) معالمَ وأُسسَ الحضارة الجديدة التي تتخطى المكونات والقوميات والاختلافات البشرية. ولم يكنْ بيانُ وتوضيحُ معالم ونهجَ وأسس ومسلك هذه الحضارة ليتحقّقَ بغيرِ علي (عليه السلام)، المُجسِّم روحًا وفعلًا لهذه الحضارة. أهمُّ المناهجِ التي اتبعها عليٌ (عليه السلام) لتأسيسِ هذه الحضارة هو بناءُ مجتمعٍ تسودُه المساواة والعدالة الاجتماعية، وفقَ أسسٍ في مقدمتها التوزيعُ العادلُ لثروات الدولة. وتوضيحُ هذا الأمر يتطلب التطرُّقَ لبعضِ التفاصيل السياسية المتعلقة بالأحداث التي رافقتْ تطبيق هذا المنهج عند استلامه للخلافة وربطها بواقعنا الحالي، ومن خلالِها نفهمُ من هو عليٌ (عليه السلام)؟ ولماذا اختاره الرسولُ الأعظم (صلى الله عليه وآله)؟ الخطوةُ الأولى التي رسمها عليُ (عليه السلام) هي إلغاءُ جميعِ الامتيازات التي يتمتعُ بها السياسيون وغيرهم وفق قوانين العدالة الانتقالية؛ فقرارُه الأولُ كان إلغاءَ قانونٍ عمره ثلاثةٌ وعشرون عامًا (منذُ خلافةِ عمر) الذي ميّزَ "المجاهدين" المهاجرين الأوائل عن غيرهم، ومواطني الداخل عن مواطني الخارج، والذي كان يمنحُ الرواتبَ المُزدوجة وامتيازاتٍ لفئاتٍ دون أخرى. ومن المؤكد أنَّ الكثيرَ من البدريين والدُعاة والسُجناء السياسيين وأصحابِ الامتيازاتِ لم يَرُقْ لهم هذا الإلغاء؛ لأنّها -حسب تصورهم- حقوقُهم، ليسَ لأحدٍ الاقترابُ منها؛ لأنّها خطٌ أحمر! فاجتمعتِ الأحزابُ والكياناتُ السياسية المُعترضة، ووصل خبرُ اعتراضِهم لعليٍ (عليه السلام) الذي ارتقى المنبرَ وخطبَ؛ ليُبيّنَ لهم فسادَ القوانين التي كانت توزَّعُ الثرواتُ وفقًا لها، وقد أصرَّ على قرارِ الإلغاء، فقال: "ألا وأيُّما رجلٍ من المهاجرين والأنصار من أصحابِ رسولِ الله (صلى الله عليه وآله) يرى أنَّ الفضلَ له على من سواه لصحبتِه، فإن الفضلَ النيّرَ غدًا عند الله، وثوابه وأجره على الله. وأيُّما رجلٍ استجاب للهِ وللرسول، فصدَّق ملتَنا، ودخلَ في ديننا، واستقبلَ قبلتنا، فقد استوجبَ حقوقَ الإسلامِ وحدوده؛ فأنتم عبادُ الله، والمالُ مالُ الله، يُقسَّمُ بينكم بالسويّة، لا فضلَ فيه لأحدٍ على أحد، وللمُتقين عندَ الله غدًا أحسنُ الجزاء، وأفضلُ الثواب. لم يجعلِ اللهُ الدنيا للمتقين أجرًا ولا ثوابًا، وما عند الله خيرٌ للأبرار". ولاحظَ المُقربون من علي (عليه السلام) والمخلصون له أنّ المعترضين والمتضررين من هذا القرار يمثلون كياناتٍ سياسيةً لها نفوذُها وتأثيرها على الرأي العام والإعلام، فتحدّثوا إليه بطريقةٍ لمّحوا فيها إلى ضرورةِ التهدئةِ السياسيةِ وفقَ حوارٍ وطني، وطاولةٍ مُستديرة، وتوافقاتٍ سياسية؛ من أجلِ ألّا تسقطَ العمليةُ السياسيةُ، وإلّا انتقلوا إلى المعسكر الآخر، وانضموا إلى تنظيمِ القاعدة وحزبِ البعث المُنحل. كما لمّحوا لعليٍ (عليه السلام) أنَّ ذلك خسارةٌ كبيرةٌ مقابلَ الإبقاء على رواتبهم وامتيازاتهم السابقة. فما كان من ابن أبي طالب (عليه السلام) إلا أن ازدادَ غضبًا وهو يرى أنَّ أقربَ مُقربيه لم يستوعبوا قراره ولم يفهموه؛ فارتقى المنبرَ ثم صاحَ بأعلى صوتِه: "أطيعوا الله وأطيعوا الرسول، فإنْ توليتُم فإنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الكافرين" ثم قال: يا معشر المهاجرين والأنصار! أتمنّونَ على الله ورسوله بإسلامِكم، بل اللهُ يمنُّ عليكم أنْ هداكم للإيمان إنْ كنتم صادقين...حتى قال: وهذا كتابُ الله به أقررنا وله أسلمنا، وعهدُ نبينا بين أظهرنا، فمن لم يرضَ به فليتولَ كيف شاء؛ فإنَّ العاملَ بطاعةِ اللهِ والحاكمَ بحكمِ الله لا وحشةَ عليه". وبذلك أنهى جميعَ المساراتِ التي كان البعضُ يعتقدُ أنّها ستؤثرُ على عليه. ولأنَّ عليًا (عليه السلام) ديمقراطي النزعة، فقد قرّرَ الاستماعَ إلى هؤلاء المعارضين والمتضررين من إلغاء (قوانين العدالة الانتقالية)؛ لعلّهم يُقنعونه بوجهةِ نظرهم أو يُقنعهم، فبعث إليهم، واستمع. وكان حديثهم في موضوعين: الأول: طلبوا أنْ يكونوا شركاءَ في القراراتِ السياسية التي تخصُّ الدولة، لاسيما في الموازنةِ العامة للدولة، فقالوا: "أعطيناك بيعتنا على ألّا تقضى الأمور، لا تقطعها دوننا، وأنْ تستشيرَنا في كلِّ أمرٍ، ولا تستبد بذلك علينا، ولنا من الفضلِ على غيرنا ما قد علمت؛ فأنتَ تقسمُ القسم وتقطعُ الأمر، وتمضي الحكم بغير مشاورتنا ولا علمنا". وأما الطلبُ الثاني: فقد كانوا فيه أكثرَ وضوحًا وصراحةً، وهو الأساس، يتعلق بإنقاصِ رواتبهم، فقالوا: "إنّك جعلتَ حقنا في القسمِ كحقِّ غيرِنا، وسوَّيتَ بيننا وبين من لا يُماثلنا فيما أفاء اللهُ (تعالى) علينا بأسيافِنا ورماحِنا وأوجفنا عليه بخيلنا ورجلنا...". فهم يجدون أنفسَهم أصحابَ فضلٍ في سقوطِ النظام السابق، وأنه ليسَ من العدل مساواتُهم مع غيرهم في الرواتب والامتيازات. أجابهم عليٌ (عليه السلام) بخصوصِ الطلب الأول بأنَّ القراراتِ التي اتخذها كانتْ وفقًا لنصوصِ الدستور الموضوع الذي (قاتلتم) من أجله، وتداعون به، فقال: "...نظرتُ في كتابِ اللهِ وسُنةِ رسوله، فأمضيت ما دلّاني عليه واتبعته، ولم أحتج إلى آرائكما فيه، ولا رأي غيركما، ولو وقعَ حكمٌ ليس في كتابِ الله بيانُه ولا في السنةِ برهانُه، واحتيج إلى المشاورة فيه لشاورتكما فيه". أما المسألةُ الثانية المُتعلقة بالامتيازات والمُخصصات والرواتب المزدوجة فقد أكّدَ عليٌ (عليه السلام) أنّها عديمةُ السندِ الدستوري؛ فلا كتاب الله تعالى يؤيدُ هذه الامتيازات، ولا سنة الرسول (صلى الله عليه وآله)؛ إذ قال: "وأمّا القسم والأسوة، فإنَّ ذلك أمرٌ لم أحكمْ فيه بادئ بدءٍ، قد وجدتُ أنا وأنتما رسولَ الله (صلى الله عليه وآله) يحكمُ بذلك، وكتابُ الله ناطقٌ به، وهو الكتابُ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيلٌ من حكيمٍ حميدٍ" أمّا موضوعُ الخدمةِ الجهادية فأجابهم عليٌ (عليه السلام): إنَّ اللهَ هو من يوفيكم عنها، وليست الموازنة العامة للدولة. وإنَّ هناك من هو أسبقُ منكم في الإسلام وقتَ الرسول (صلى الله عليه وآله) ولم يُميّزهم (صلى الله عليه وآله) بشيء، فقال: "وأمّا قولُكما: جعلتَ فيئنا وما أفاءته سيوفنا ورماحنا، سواءً بيننا وبين غيرنا، فقديمًا سبقَ إلى الإسلام قومٌ ونصروه بسيوفهم ورماحهم، فلم يُفضِّلْهم رسولُ الله (صلى الله عليه وآله) في القسم، ولا آثرهم بالسبق، والله (سبحانه) موفِ السابق والمجاهد يوم القيامة أعمالهم، وليس لكما والله عندي ولا لغيركما إلا هذا، أخذ اللهُ بقلوبنا وقلوبكم إلى الحق..." هذا أحدُ المشاهد التاريخية التي يُفترضُ أنْ يُقرأ كدرسٍ من دروسِ علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فلم يُهادنْ؛ لأنّه لا يطلبُ نصرًا بالجورِ وببخسِ حقوقِ الآخر بحججِ الحفاظِ على العملية السياسية والوحدة الوطنية كذبًا وزيفًا. هذا الرجلُ الذي اختفتْ لديه المنطقةُ الرماديةُ؛ فلم يرَ سوى طريق الحق مسلكًا لا بديل له. ستبقى سيدي أسطورةً وأمثولةً، وستبقى مسعى البشرية أبدًا.

اخرى
منذ 3 سنوات
249

نفحاتٌ غديرية

بقلم: سماهر الخزرجي في ظهيرةِ يومٍ قائظِ الحر، تصهرُ الشمسُ في حرارتها الوجوه، وتلفحُ الأجسامَ بنارها الحارقة، لكن لا سُلطانَ لها على ضمائرَ غادرتها الإنسانية. حشودٌ كبيرةٌ تزحفُ آتيةً، قطراتُ العرق المعتوقة من نوافد أجسادهم وسجنها؛ تغسلُ ذنوبَ بعضهم، والبعضُ لا تزيدُه إلا عزةً بالإثم. في بيداءَ خُمٍ حيثُ الحرّ الهجير، يقفُ الرسول (صلى الله عليه وآله) فجأةً لتنهالَ عليه فيوضاتٍ إلهية، وتذوبُ روحُ الأمين شوقًا لمناجاته. تشرئبُّ الأعناقُ، ويعتريهم الفضول، تحمرُّ وجنات الرسول (صلى الله عليه وآله)، ويشعُّ وجهه أملًا ورحمة. لا يكتمل الدينُ إلا بتنصيب ابن عمه، ينزلُ في موضعِ (سلمات)، فيأمر أنْ يقمّ ما تحته، ويُنصبُ له حجارةٌ كهيئةِ المنبر، ليُشرفَ على الناس، فتتراجع الناس ويحتبس أواخرهم في ذلك المكان.. يقومُ الرسولُ (صلى الله عليه وآله) فوق تلك الأحجار؛ يحمدُ اللهُ ويُثني عليه ثم يقول: "الحمد لله الذي علا في توحده…" تُفتحُ نوافذُ النفسِ أمام كلمات الرسول (صلى الله عليه وآله)، وتُفتحُ أبوابُ الرجاء بأوجهِ الفقراء والباحثين عن النعيم الأبدي، وهناك خفقاتُ قلبٍ تضطرمُ نارًا من الحسد والغيرة. صوتٌ ملكوتي يصدحُ، يُزيلُ أغشيةَ الخطايا عن خلايا النفوس، ويهمسُ في أذان الظهيرة سرَّ الخلود.. مآتي الدقائق تمرُّ بلُطفٍ ترومُ امتصاصَ عذوبةِ صوتِ الرسول. يبدأ الارتقاءُ الروحي، وأرواحُهم كالزهور تتمايل مع نغماتِ صوتِه العذب. تبرقُ العيون وتنبسطُ محيّاهم، صحاري حياتهم تتحولُ إلى آمالٍ مُخضرّة، فتظهرُ مكامن الجمالِ في نفسه، رداءُ أخلاقه محوكٌ من خيوط التساهل والرحمة، انعكاساتُ نفسه تعكسُ نفسَ علي (عليه السلام)؛ كيف لا، وهو نفسه بنص آية المباهلة .. كما هي الجبالُ مساميرُ الأرض، كذلك هم قطبُ رحى الأرض وأوتادها. أصابعُ مشبوكةٌ كتشابكِ الضفائر، تُرفعُ ويغدوان كيانًا واحدًا! نداءٌ يهزُّ عرشَ النفوس وجبروتها: "ألا من كنت مولاه فهذا علي مولاه"، إنّه تناغمٌ بين روحين، ذوبانٌ في نفسٍ واحدةٍ، إنّها أنفسٌ لو سارت في البيد؛ لأخضرّت فرحًا وتخايلًا. لكن أيطلبُ الرسولُ من الأموات بيعة؟ من الذين يولدون أمواتًا! فيبدأ عرس البيعة وكرنفالها، فتضمرُ نفوسٌ غير الذي أبدت. (بخٍ بخٍ لك يا علي، لقد أصبحتَ وأمسيتَ مولى كُلِّ مؤمنٍ ومؤمنة)، وهي تحوكُ في داخلِها مؤامرةً قذرة. لقد ولِدَ عليٌ (عليه السلام)، وقد قُيِّدَ مهدُه بقيدِ الظلم، وخُتِمَ بوشمِ الغدر، لكن سيومضُ برقُ ثأره يومًا؛ بعد أنْ ترقدَ الحياةُ والأخلاق ليُحييها أملُها الموعود.

اخرى
منذ 3 سنوات
298

بين أفنيةِ الضّريح

بقلم: منار المهديّ هُناك... في البَعيد خلفَ أكوامِ الثّلوج وبَينَ أفنيَةِ الضَّريح حطّ عُصفورٌ جَريح... كانَ يشدو بالنَشيد راحَ يشكو للإمام سيّدي حلّ الظَّلام سيّدي ماتَ السّلام...وأتىٰ نسرٌ عَنيْد راحَ ينهشُ بالطُّيور بالصّدور أسكنَ الوردَ القُبور...بطشَ جبّارٍ عَتيْد أسدلَ اللّيلُ سِتارَه فوقَ أضواء المَنارَة وأتىٰ طيفُ البِشارَة...بانَ ضوءٌ مِن بَعيْد وأتىٰ ردُّ الإمام راكِبًا جنحَ الحَمام حامِلًا مسكَ الخِتام...ناثِرًا بَهجةَ عيْد الظّلامُ لَن يطول شمسُكُم تأبىٰ الأُفول وسيأتي ابنُ البتول...براية المجدِ التليْد سترىٰ وجه الإمام من خلفِ أكوام الغَمام من بينِ أسرابِ الحَمام... طالبًا ثأر الشهيْد يسحقُ النسر العنيْد

اخرى
منذ 3 سنوات
239

يتصدر الان

لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع

يستشهد الكثير من الناس ــ وحتى بعض المثقفين ــ بقول:" لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع فإن الخير فيها دخيل وعاشر نفساً جاعت بعد شبع فإن الخير فيها أصيل" على أنه من أقوال أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، كما يستشهدون أيضاً بقولٍ آخر ينسبونه إليه (عليه السلام) لا يبعد عن الأول من حيث المعنى:"اطلبوا الخير من بطون شبعت ثم جاعت لأن الخير فيها باق، ولا تطلبوا الخير من بطون جاعت ثم شبعت لأن الشح فيها باق"، مُسقطين المعنى على بعض المصاديق التي لم ترُق افعالها لهم، لاسيما أولئك الذين عاثوا بالأرض فساداً من الحكام والمسؤولين الفاسدين والمتسترين عل الفساد. ونحن في الوقت الذي نستنكر فيه نشر الفساد والتستر عليه ومداهنة الفاسدين نؤكد ونشدد على ضرورة تحرّي صدق الأقوال ومطابقتها للواقع وعدم مخالفتها للعقل والشرع من جهة، وضرورة التأكد من صدورها عن أمير المؤمنين أبي الأيتام والفقراء (عليه السلام) أو غيرها من المعصومين (عليهم السلام) قبل نسبتها إليهم من جهة أخرى، لذا ارتأينا مناقشة هذا القول وما شابه معناه من حيث الدلالة أولاً، ومن حيث السند ثانياً.. فأما من حيث الدلالة فإن هذين القولين يصنفان الناس الى صنفين: صنف قد سبق له أن شبع مادياً ولم يتألم جوعاً، أو يتأوه حاجةً ومن بعد شبعه جاع وافتقر، وصنف آخر قد تقلّب ليله هماً بالدين، وتضوّر نهاره ألماً من الجوع، ثم شبع واغتنى،. كما جعل القولان الخير متأصلاً في الصنف الأول دون الثاني، وبناءً على ذلك فإن معاشرة أفراد هذا الصنف هي المعاشرة المرغوبة والمحبوبة والتي تجرّ على صاحبها الخير والسعادة والسلام، بخلاف معاشرة أفراد الصنف الثاني التي لا تُحبَّذ ولا تُطلب؛ لأنها لا تجر إلى صاحبها سوى الحزن والندم والآلام... ولو تأملنا قليلاً في معنى هذين القولين لوجدناه مغايراً لمعايير القرآن الكريم بعيداً كل البعد عن روح الشريعة الاسلامية ، وعن المنطق القويم والعقل السليم ومخالفاً أيضاً لصريح التاريخ الصحيح، بل ومخالف حتى لما نسمعه من قصص من أرض الواقع أو ما نلمسه فيه من وقائع.. فأما مناقضته للقرآن الكريم فواضحة جداً، إذ إن الله (تعالى) قد أوضح فيه وبشكلٍ جلي ملاك التفاضل بين الناس، إذ قال (عز من قائل):" يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)"(1) جاعلاً التقوى مِلاكاً للتفاضل، فمن كان أتقى كان أفضل، ومن البديهي أن تكون معاشرته كذلك، والعكس صحيحٌ أيضاً. وعليه فإن من سبق حاجتُه وفقرُه شبعَه وغناه يكون هو الأفضل، وبالتالي تكون معاشرته هي الأفضل كذلك فيما لو كان تقياً بخلاف من شبع وكان غنياً ، ثم افتقر وجاع فإنه لن يكون الأفضل ومعاشرته لن تكون كذلك طالما كان بعيداً عن التقوى. وأما بُعده عن روح الشريعة الإسلامية فإن الشريعة لطالما أكدت على أن الله (سبحانه وتعالى) عادلٌ لا جور في ساحته ولا ظلمَ في سجيته، وبالتالي لا يمكن أن يُعقل إطلاقاً أن يجعل البعض فقيراً ويتسبب في دخالة الخير في نفوسهم، التي يترتب عليها نفور الناس من عشرتهم، فيما يُغني سواهم ويجعل الخير متأصلاً في نفوسهم بسبب إغنائه إياهم ليس إلا ومن ثم يتسبب في كون الخير متأصلاً في نفوسهم، وبالتالي حب الناس لعشرتهم. فإن ذلك مخالف لمقتضى العدل الإلهي لأنه ليس بعاجزٍ عن تركه ولا بمُكره على فعله، ولا محب لذلك لهواً وعبثاً (تعالى عن كل ذلك علواً كبيراً). كما إن تأصل الخير في نفوس بعض الناس ودخالته في نفوس البعض الآخر منهم بناءً على أمر خارج عن إرادتهم واختيارهم كـ(الغنى والشبع أو الجوع والفقر) إنما هو أمرٌ منافٍ لمنهج الشريعة المقدسة القائم على حرية الانسان في اختياره لسبيل الخير والرشاد أو سبيل الشر والفساد، قال (تعالى):" إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)"(2) بل إن الانسان أحياناً قد يكون فقيراً بسبب حب الله (تعالى) له، كما ورد في الحديث القدسي: "أن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى فلو أفقرته لأفسده ذلك و أن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر فلو أغنيته لأفسده ذلك"(3) وهل يمكن ان نتصور أن الخيرَ دخيلٌ فيمن يحبه الله (تعالى) أو إن معاشرته لا تجدي نفعا، أو تسبب الهم والألم؟! نعم، ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"اِحْذَرُوا صَوْلَةَ اَلْكَرِيمِ إِذَا جَاعَ وَ اَللَّئِيمِ إِذَا شَبِعَ"(4) ولا يقصد به الجوع والشبع المتعارف عليه لدى الناس، وإنما المراد منه: احذروا صولة الكريم إذا اُمتُهِن، واحذروا صولة اللئيم إذا أكرم، وفي هذا المعنى ورد عنه (عليه السلام) أيضاً: "احذروا سطوة الكريم إذا وضع و سورة اللئيم إذا رفع"(5) وأما العقل السليم والمنطق القويم فإنهما يقتضيان أن تتأصل صفة الخير في الإنسان لملكاتٍ حميدة يتسم بها وصفات فضيلة يتميز بها، لا أن تتأصل صفة الخير في نفسه لمجرد أنه ولد في أسرة تتمتع بالرفاهية الاقتصادية ووجد في بيئة تتنعم بالثروات المادية! وعند مراجعتنا للتاريخ الصحيح نجد أن قادة البشر وصفوة الناس إنما كان أغلبهم ينتمي الى الطبقات الفقيرة من المجتمع، فهؤلاء الأنبياء ورسل الله (صلوات الله عليهم) منهم من كان نجاراً أو خياطاً أو راعياً، ومع ذلك فقد كانوا من أطيب الناس خلقاً، وأعظمهم شرفاً، وأرفعهم منزلةً، قد تأصّل الخير في نفوسهم تأصّلاً حتى غدوا قطعة منه، فكانوا هم الخير للبشر، وهم الرحمة للعالمين. وبالنزول إلى أرض الواقع نجد أن الكثير من الفقراء والمساكين طيبي الروح، كريمي النفس، يتألمون لألم المحتاج ولربما يؤثرونه على أنفسهم رغم حاجتهم. ولا نقصد من كلامنا هذا أن الأغنياء هم على نقيض ذلك، وإنما تأكيداً على مسألة عدم ارتباط تأصل الخير في النفوس وعدمه بمستواهم الاقتصادي الذي نشأوا فيه ارتباط العلة والمعلول، فكما إن بعض الفقراء أخيار، فإن بعض الأغنياء كذلك، والعكس صحيح أيضاً. ومن هنا يُفهم من بعض الروايات ضرورة عدم طلب الخير والحاجات ممن هم أهل للخير بقطع النظر عن مستواهم المعاشي الحالي والسابق، منها ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"أشد من الموت طلب الحاجة من غير أهلها"(5)، وعنه (عليه السلام) أيضاً: "فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غير أهلها"(6) إذن فلا صحة لهاتين المقولتين من حيث الدلالة، حتى وإن تنزلنا وحملنا الجوع والشبع على المعنى المعنوي لا المادي؛ وذلك لأنه حتى من يفتقر الى الأخلاق المعنوية فإنه ما إن يتكامل بالفضائل ويقلع عن الرذائل حتى يتسم بالخير وتحسن عشرته وتطيب للناس صحبته، والعكس صحيحٌ أيضا.. ومن البديهي أن ما لا يوافق العقل والمنطق السليم، ويخالف صريح القرآن الكريم، لا يمكن أن يصدر من وصي الرسول الكريم (صلوات الله عليهما وآلهما)، وعليه لا تصح نسبة هذين القولين الى أمير المؤمنين (عليه السلام).. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الحجرات 13 (2) الانسان 3 (3) عوالي الآلي ج2 ص29 (4) غرر الحكم ج1 227 (5) المدر السابق ج1 ص246 (6) ميزان الحكمة ج4 ص 238 رضا الله غايتي

اخرى
منذ 5 سنوات
71290

بين طيبة القلب وحماقة السلوك...

خلق الله الأشياء كلها في الحياة ضمن موازين وقياسات... فالزيادة أو النقيصة تسبب المشاكل فيها. وهكذا حياتنا وأفعالنا وعواطفنا لا بد أن تكون ضمن موازين دقيقة، وليست خالية منها، فالزيادة والنقيصة تسبب لنا المشاكل. ومحور كلامنا عن الطيبة فما هي؟ الطيبة: هي من الصفات والأخلاق الحميدة، التي يمتاز صاحبها بنقاء الصدر والسريرة، وحُبّ الآخرين، والبعد عن إضمار الشر، أو الأحقاد والخبث، كما أنّ الطيبة تدفع الإنسان إلى أرقى معاني الإنسانية، وأكثرها شفافية؛ كالتسامح، والإخلاص، لكن رغم رُقي هذه الكلمة، إلا أنها إذا خرجت عن حدودها المعقولة ووصلت حد المبالغة فإنها ستعطي نتائج سلبية على صاحبها، كل شيء في الحياة يجب أن يكون موزوناً ومعتدلاً، بما في ذلك المحبة التي هي ناتجة عن طيبة الإنسان، وحسن خلقه، فيجب أن تتعامل مع الآخرين في حدود المعقول، وعندما تبغضهم كذلك وفق حدود المعقول، ولا يجوز المبالغة في كلا الأمرين، فهناك شعرة بين الطيبة وحماقة السلوك... هذه الشعرة هي (منطق العقل). الإنسان الذي يتحكم بعاطفته قليلاً، ويحكّم عقله فهذا ليس دليلاً على عدم طيبته... بالعكس... هذا طيب عاقل... عكس الطيب الأحمق... الذي لا يفكر بعاقبة أو نتيجة سلوكه ويندفع بشكل عاطفي أو يمنح ثقة لطرف معين غريب أو قريب... والمبررات التي يحاول إقناع نفسه بها عندما تقع المشاكل أنه صاحب قلب طيب. الطيبة لا تلغي دور العقل... إنما العكس هو الصحيح، فهي تحكيم العقل بالوقت المناسب واتخاذ القرار الحكيم الذي يدل على اتزان العقل، ومهما كان القرار ظاهراً يحمل القسوة أحياناً لكنه تترتب عليه فوائد مستقبلية حتمية... وأطيب ما يكون الإنسان عندما يدفع الضرر عن نفسه وعن الآخرين قبل أن ينفعهم. هل الطيبة تصلح في جميع الأوقات أم في أوقات محددة؟ الطيبة كأنها غطاء أثناء الشتاء يكون مرغوباً فيه، لكنه اثناء الصيف لا رغبة فيه أبداً.. لهذا يجب أن تكون الطيبة بحسب الظروف الموضوعية... فالطيبة حالة تعكس التأثر بالواقع لهذا يجب أن تكون الطيبة متغيرة حسب الظروف والأشخاص، قد يحدث أن تعمي الطيبة الزائدة صاحبها عن رؤيته لحقيقة مجرى الأمور، أو عدم رؤيته الحقيقة بأكملها، من باب حسن ظنه بالآخرين، واعتقاده أن جميع الناس مثله، لا يمتلكون إلا الصفاء والصدق والمحبة، ماي دفعهم بالمقابل إلى استغلاله، وخداعه في كثير من الأحيان، فمساعدة المحتاج الحقيقي تعتبر طيبة، لكن لو كان المدّعي للحاجة كاذباً فهو مستغل. لهذا علينا قبل أن نستخدم الطيبة أن نقدم عقولنا قبل عواطفنا، فالعاطفة تعتمد على الإحساس لكن العقل أقوى منها، لأنه ميزان يزن الأشياء رغم أن للقلب ألماً أشد من ألم العقل، فالقلب يكشف عن نفسه من خلال دقاته لكن العقل لا يكشف عن نفسه لأنه يحكم بصمت، فالطيبة يمكن أن تكون مقياساً لمعرفة الأقوى: العاطفة أو العقل، فالطيّب يكون قلبه ضعيفاً ترهقه الضربات في أي حدث، ويكون المرء حينها عاطفياً وليس طيباً، لكن صاحب العقل القوي يكون طيباً أكثر من كونه عاطفياً. هل الطيبة تؤذي صاحبها وتسبب عدم الاحترام لمشاعره؟ إن الطيبة المتوازنة المتفقة مع العقل لا تؤذي صاحبها لأن مفهوم طيبة القلب هو حب الخير للغير وعدم الإضرار بالغير، وعدم العمل ضد مصلحة الغير، ومسامحة من أخطأ بحقه بقدر معقول ومساعدة المحتاج ... وغيرها كثير. أما الثقة العمياء بالآخرين وعدم حساب نية المقابل وغيرها فهذه ليست طيبة، بل قد تكون -مع كامل الاحترام للجميع- غباءً أو حماقة وسلوكاً غير عقلاني ولا يمت للعقل بصلة. إن المشكلة تقع عند الإنسان الطيب عندما يرى أن الناس كلهم طيبون، ثم إذا واجهه موقف منهم أو لحق به أذى من ظلم أو استغلال لطيبته، تُغلق الدنيا في وجهه، فيبدأ وهو يرى الناس الطيبين قد رحلوا من مجتمعه، وأن الخير انعدم، وتحصل له أزمة نفسية أو يتعرض للأمراض، لأن الطيّب يقدم الإحسان للناس بكل ما يستطيع فعله، ويقدّم ذلك بحسن نية وبراءة منه، فهو بالتالي ينتظر منهم الرد بالشكر أو المعاملة باللطف على الأقل... صحيح أن المعروف لوجه الله، ولكن من باب: من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق، لذلك يتأذى عندما يصدر فعل من الشخص الذي كان يعامله بكل طيب وصدق. هل الطيبة والصدق من علامات ضعف الشخصية؟ الكثير من الناس يصف طيب القلب بأنه ضعيف الشخصية، لأنه يتصف بعدم الانتقام ممن ظلمه، والصفح عنه عند رجوعه عن الخطأ، وأنه لا يحب إيقاع الآخرين بالمشاكل؛ لأنه مقتنع أن الله سيأخذ له حقه. والحقيقة هي أن الصدق والطيبة وحسن الظن بالآخرين ليست ضعف شخصية، بل هي من الأخلاق الراقية وهي تزيد صاحبها سمواً وجمالاً روحياً، وليس من المعيب أن يمتلك الإنسان الطيبة بل العيب في من لا يُقدّر هذه الطيبة ويعطيها حقها في التعامل بالمثل. فالمشكلة الأساسية ليست في الطيبة، إنما في استغلال الآخرين لهذه الطيبة، نتيجة لعدم عقلنة قراراتنا والاعتماد على عواطفنا بشكل كلي. فالصدق والطيبة حسب المنطق والعقل، ولها فوائد جمة للنفس ولعموم أفراد المجتمع، فهي تحصين للشخص عن المعاصي، وزيادة لصلة الإنسان بربه، وتهذيب للنفس والشعور بالراحة النفسية، فالصادق الطيب ينشر المحبة بين الناس، وهذا يعزّز التماسك الاجتماعي وتقويته من سوء الظنون والحقد، وهذا التعامل أكّدت عليه جميع الشرائع السماوية، ولو تأمّلنا تاريخ وأخلاق الأنبياء والأوصياء لوجدنا كل ما هو راقٍ من الأخلاق والتعامل بالطيبة والصدق... حنان الزيرجاوي

اخرى
منذ 5 سنوات
52384

الطلاق ليس نهاية المطاف

رحلةٌ مثقلة بالألم في طريق يئن من وطأة الظلم! ينهي حياة زوجية فشلت في الوصول إلى شاطئ الأمان. ويبدد طموحات أطفال في العيش في هدوء نفسي واجتماعي تحت رعاية أبوين تجمعهم المودة والرحمة والحب. الطلاق شرعاً: هو حل رابطة الزواج لاستحالة المعاشرة بالمعروف بين الطرفين. قال تعالى: [ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)].(١). الطلاق لغوياً: من فعل طَلَق ويُقال طُلقت الزوجة "أي خرجت من عصمة الزوج وتـحررت"، يحدث الطلاق بسبب سوء تفاهم أو مشاكل متراكمة أو غياب الانسجام والحب. المرأة المطلقة ليست إنسانة فيها نقص أو خلل أخلاقي أو نفسي، بالتأكيد إنها خاضت حروباً وصرعات نفسية لا يعلم بها أحد، من أجل الحفاظ على حياتها الزوجية، ولكن لأنها طبقت شريعة الله وقررت مصير حياتها ورأت أن أساس الـحياة الزوجيـة القائم على المودة والرحـمة لا وجود له بينهما. فأصبحت موضع اتهام ومذنبة بنظر المجتمع، لذلك أصبح المـجتمع يُحكم أهواءه بدلاً من الإسلام. ترى، كم من امرأة في مجتمعنا تعاني جرّاء الحكم المطلق ذاته على أخلاقها ودينها، لا لسبب إنما لأنها قررت أن تعيش، وكم من فتاة أُجبرت قسراً على أن تتزوج من رجل لا يناسب تطلعاتها، لأن الكثير منهن يشعرن بالنقص وعدم الثقة بسبب نظرة المجتمع، وتقع المرأة المطلّقة أسيرة هذه الحالة بسبب رؤية المجتمع السلبيّة لها. وقد تلاحق بسيل من الاتهامات وتطارد بجملة من الافتراءات. وتعاني المطلقة غالباً من معاملة من حولها، وأقرب الناس لها، بالرغم من أن الطلاق هو الدواء المر الذي قد تلجأ إليه المرأة أحياناً للخلاص من الظلم الذي أصبح يؤرق حياتها الزوجية، ويهدد مستقبلها النفسي، والله تعالى لم يشرع أمراً لخلقه إلا إذا كان فيه خير عظيم لهم، والطلاق ما شرّع إلا ليكون دواء فيه شفاء وإن كان مرّاً، وإن كان أمره صعباً على النفوس، حيث قال عز وجل: "وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا"، روي عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) ((أبغض الحلال إلى الله الطلاق) (٢). ورغم أن الشريعة الإسلامية أباحت الطلاق بشروط تلاءم لبناء المجتمع، وأولت أهمية في الإحسان دائمًا للطرف الأضعف والأكثر خسارة في هذه المعادلة وهي "المرأة"، إلا أن المجتمع الذي يدّعي الإسلام لا يرحمها، ويحكم عليها بالإدانة طوال حياتها دون النظر في صحة موقفها في الطلاق من عدمه! قال( تعالى ): [الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] (٣). ولكن بعد كل هذا فالحياة لم ولن تتوقف بعد الطلاق! الطلاق ليس نهاية الحياة. - أخيتي. ليكن الطلاق بداية جديدة لحياة جديدة وللانطلاق. -قطار العطاء لن يتعطل. فإن كنت السبب في الطلاق فالحمد لله على كل حال وتلك أمة قد خلت وأيام ذهبت وانجلت فلست بالمعصومة من الخطأ. وعليك استدراك الأخطاء وتقوية مواطن الضعف في شخصيتك، واجعليها درساً مفيداً في الحياة لتطوير نفسك وتقويتها. وإذا كنتِ مظلومة فهناك جبار يُحصي الصغير والكبير وسيأتي يوم ينتصر لك فيه. -ومن الجميل أن تعطي نفسك الإحساس بالحب والاحترام، ولا تتأثري بأي نظرة سلبية من المجتمع وكون البعض يتعامل مع المطلقة على أنها حالة خاصة فعليكِ إثبات ذاتك حتى تفرضي على الكل شخصيتك. - نظرتك لنفسك اجعليها نظرة ايجابية مشرقة ولا تنزلقي في مستنقع نبذ الذات وظلم النفس. - ابحثي عن الصفات الجيدة فيك فإن ذلك سيشعرك بالثقة في ذاتك والتقدير لها. -حاولي مراجعة نفسك للخروج بإيجابيات حصلت لك من طلاقك. - خالطي الآخرين وإياك والعزلة بسبب وضعك الجديد فلست بأول من يبتلى بالطلاق. -استمتعي بالموجود ولا تتعلقي بالمفقود، حلقي بروح تعبق أملاً وتفاؤلاً، استمتعي بما وهبك الله من نعم (صحة وأولاد وأهل وصديقات وعمل وهوايات وغيرها من الأمور الجميلة) فما حصل لك حصل… ولابد أن تتقبليه برضا، وأعلمي أن ما أصابك لم يكن ليخطأك وما أخطأك لم يكن ليصيبك. وقال أصدق من قال: ( وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم). فالرضا سر السعادة الحقيقي. - اقتربي من صديقاتك الصالحات، واقضي معهن وقتاً طيباً تنسين به ألمك وحزنك. - احرصي على الصلوات وقراءة القرآن الكريم والذكر والاستغفار وأكثري من الطاعات قدر ما تستطيعين، ففيها السلوى والفرح والسعادة. ونعم سعادة القرب من الرحمن. - اشغلي نفسك بأعمال البر والإحسان بمساعدة محتاج. بكفالة يتيم. بتعلم الفقه والقرآن وتعليمه. - اجتهدي في عمل برنامج يومي لك يكون ممتلأ بكل ما هو مفيد لك. من قراءة وزيارة الأصدقاء وصلة الرحم. بحيث لا تكون هناك دقيقة أنت فارغة فيها. - وأسرعي بقاربك الجميل بمجذافين من إيمان بالله وثقة بالنفس وسوف تصلين بإذن الله نحو جزيرة السعادة والنجاح. لكي تتسلق جبال الإنجاز، وتصل لأعلى مراتب الاعجاز. وعندها جزماً سيكون للحياة معنى آخر. --------------------------------- (١)-سورة البقرة الآية (٢٢٦-٢٢٧). (٢)-الكافي (٢)-سورة البقرة الآية (٢٢٨) حنان ستار الزيرجاوي

اخرى
منذ 5 سنوات
41946

لا تقاس العقول بالأعمار!

(لا تقاس العقول بالأعمار، فكم من صغير عقله بارع، وكم من كبير عقله فارغ) قولٌ تناولته وسائل التواصل الاجتماعي بكل تقّبلٍ ورضا، ولعل ما زاد في تقبلها إياه هو نسبته الى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولكننا عند الرجوع إلى الكتب الحديثية لا نجد لهذا الحديث أثراً إطلاقاً، ولا غرابة في ذلك إذ إن أمير البلاغة والبيان (سلام الله وصلواته عليه) معروفٌ ببلاغته التي أخرست البلغاء، ومشهورٌ بفصاحته التي إعترف بها حتى الأعداء، ومعلومٌ كلامه إذ إنه فوق كلام المخلوقين قاطبةً خلا الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ودون كلام رب السماء. وأما من حيث دلالة هذه المقولة ومدى صحتها فلابد من تقديم مقدمات؛ وذلك لأن معنى العقل في المفهوم الإسلامي يختلف عما هو عليه في الثقافات الأخرى من جهةٍ، كما ينبغي التطرق الى النصوص الدينية الواردة في هذا المجال وعرضها ولو على نحو الإيجاز للتعرف إلى مدى موافقة هذه المقولة لها من عدمها من جهةٍ أخرى. معنى العقل: العقل لغة: المنع والحبس، وهو (مصدر عقلت البعير بالعقال أعقله عقلا، والعِقال: حبل يُثنَى به يد البعير إلى ركبتيه فيشد به)(1)، (وسُمِّي العَقْلُ عَقْلاً لأَنه يَعْقِل صاحبَه عن التَّوَرُّط في المَهالِك أَي يَحْبِسه)(2)؛ لذا روي عنه (صلى الله عليه وآله): "العقل عقال من الجهل"(3). وأما اصطلاحاً: فهو حسب التصور الأرضي: عبارة عن مهارات الذهن في سلامة جهازه (الوظيفي) فحسب، في حين أن التصوّر الإسلامي يتجاوز هذا المعنى الضيّق مُضيفاً إلى تلك المهارات مهارة أخرى وهي المهارة العبادية. وعليه فإن العقل يتقوّم في التصور الاسلامي من تظافر مهارتين معاً لا غنى لأحداهما عن الأخرى وهما (المهارة العقلية) و(المهارة العبادية). ولذا روي عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنه عندما سئل عن العقل قال :" العمل بطاعة الله وأن العمّال بطاعة الله هم العقلاء"(4)، كما روي عن الإمام الصادق(عليه السلام)أنه عندما سئل السؤال ذاته أجاب: "ما عُبد به الرحمن، واكتسب به الجنان. فسأله الراوي: فالذي كان في معاوية [أي ماهو؟] فقال(عليه السلام): تلك النكراء، تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل"(5) والعقل عقلان: عقل الطبع وعقل التجربة، فأما الأول أو ما يسمى بـ(الوجدان الأخلاقي) فهو مبدأ الادراك، وهو إن نَما وتطور سنح للإنسان فرصة الاستفادة من سائر المعارف التي يختزنها عن طريق الدراسة والتجربة وبالتالي يحقق الحياة الإنسانية الطيبة التي يصبو اليها، وأما إن وهن واندثر لإتباع صاحبه الأهواء النفسية والوساوس الشيطانية، فعندئذٍ لا ينتفع الانسان بعقل التجربة مهما زادت معلوماته وتضخمت بياناته، وبالتالي يُحرم من توفيق الوصول إلى الحياة المنشودة. وعقل التجربة هو ما يمكن للإنسان اكتساب العلوم والمعارف من خلاله، وما أروع تشبيه أمير البلغاء (عليه السلام) العلاقة التي تربط العقلين معاً إذ قال فيما نسب إليه: رأيت العقل عقلين فمطبوع ومسموع ولا ينفع مسموع إذ لم يك مطبــوع كما لا تنفع الشمس وضوء العين ممنوع(6) فقد شبّه (سلام الله عليه) عقل الطبع بالعين وعقل التجربة بالشمس، ومما لاشك فيه لكي تتحقق الرؤية لابد من أمرين: سلامة العين ووجود نور الشمس، وكما إن الثاني لا ينفع إن لم يتوفر الأول فكذلك عقل التجربة لا ينفع عند غياب عقل الطبع فضلاً عن موته. وبما إن عقل الطبع قد ينمو ويزدهر فينفع صاحبه من عقل التجربة، وقد يموت ويندثر عند الاستسلام لإضلال شبهةٍ أوبسبب إرتكاب معصية، فإنه ومن باب أولى أن يتعرض الى الزيادة والنقصان كما سيأتي... وقد ورد في النصوص الدينية أن للعقل زمناً ينمو فيه ويكتمل، فعن إمامنا أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه):"يثغر الصبي لسبع، ويؤمر بالصلاة لتسع، ويفرق بينهم في المضاجع لعشر، ويحتلم لأربع عشرة، وينتهى طوله لإحدى وعشرين سنة، وينتهي عقله لثمان وعشرين إلا التجارب"(7)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يربى الصبي سبعاً ويؤدب سبعاً، ويستخدم سبعاً، ومنتهى طوله في ثلاث وعشرين سنة، وعقله في خمس وثلاثين [سنة] وما كان بعد ذلك فبالتجارب"(8). إذن يتوقف النمو الطبيعي لعقل الانسان عند سن الثامنة والعشرين أو الخامسة والثلاثين كما ورد في الروايتين، وأية زيادة أخرى في طاقته بعد ذلك إنما تأتي عن طريق التجارب، وقد يُتوهم بأن ثمة تعارضاً ما بين الروايتين المتقدمتين في شأن تحديد سن النمو العقلي، إلا إنه لا تعارض ينهما إذا حملنا اختلافهما فيه على اختلاف الاشخاص وتباين استعدادات وقابليات كل منهم. وعلى الرغم من توقف نمو عقل الإنسان إلا إن له أنْ يزيده بالتجارب ومواصلة التعلم ــ كما تقدم في الروايات ــ وسواء أثبت العلم هذه الحقيقة الروائية أم لا، فنحن نريد الإشارة إلى ضرورة استمرار التجربة والتعلم لزيادة نمو العقل وهذا المقدار لا خلاف فيه وعلى الرغم من إن لعمر الانسان مدخلية في زيادة عقله كما تقدم وكما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يزيد عقل الرجل بعد الاربعين إلى خمسين وستين، ثم ينقص عقله بعد ذلك"(9)، إلا إن ذلك ليس على نحو العلة التامة، إذ يمكن للعقل أن يبقى شاباً وقوياً وإن شاب الإنسان وضعف جسمه، وتقدم في السن ووهن عظمه، فالعاقل لا يشيب عقله ولا تنتقص الشيخوخة من قوته بل وقد يزداد طاقةً وحيويةً لذا ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"رأي الشيخ أحب الي من جَلَد الغلام"(10)، وفي أخرى ".....من حيلة الشباب "(11) وأما من لم يوفر أسباب صقل عقله في مرحلة الشباب فإنه بلا شك يضمحل عقله في مرحلة الشيخوخة. وليس تقدم العمر هو العامل الوحيد في نقصان العقل بل إن النصوص الشرعية أشارت الى عوامل عديدة اخرى أهمها: أولاً: التعلم: فقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "من لم يصبر على ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبداً"(13). ثانياً: التوبة: وعنه (عليه السلام) ايضاً:"من لم يرتدع يجهل"(14) ثالثاً: التقوى: فقد كتب إمامنا الباقر (عليه السلام) إلى سعد الخير: "بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإني اوصيك بتقوى الله فإن فيها السلامة من التلف والغنيمة في المنقلب إن الله (عزوجل) يقي بالتقوى عن العبد ما عزب عنه عقله ويجلي بالتقوى عنه عماه وجهله"(15) إذن التوبة هي سبب للتوفيق الإلهي الذي يؤدي فيما يؤدي إليه من إكمال العقل. رابعاً: الوقوف عند الشبهة: وقال (عليه السلام ): "لا ورع كالوقوف عند الشبهة"(16). فإن الوقوف عند الشبهات سبب من أسباب التوفيق الإلهي بلا شك. خامساً: الاعتراف بالجهل: كما روي عن الإمام علي (عليه السلام): "غاية العقل الاعتراف بالجهل"(17) إذ الاعتراف بالجهل يدفع الإنسان دوماً إلى مزيد من بذل الجهد واكتساب المعارف. مما تقدم تتضح جلياً صحة هذه المقولة دلالةً، إذ إن العقول فعلاً لا تقاس بالأعمار لأن كلٍاً من زيادتها ونقيصتها منوطٌ بالعديد من العوامل الأخرى والتي تقدم ذكرها، بيد إن ذلك لا يبرر التساهل في نشرها والتهاون في الاستشهاد بها على إنها من أقوال أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) لعدم ثبوت ذلك سنداً من جهة ولضعف بلاغتها وركاكة تركيبها بالنسبة إلى سيد البلغاء والبلاغة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) تهذيب اللغة ج1 ص65 (2) لسان العرب ج11 ص458 (3) نهاية الحكمة ص305 (4) ميزان الحكمة ج3 ص333 (5) أصول الكافي ج1، ح3 / 11 (6) نهج السعادة ج9 ص163 (7) الكافي ج7 ص94 (8) الفقيه ج3 ص493 (9) الاختصاص ص245 (10) نهج البلاغة حكمة 86 (11) بحار الأنوار ج72 ص105 (12) المصدر السابق ج1 ص94 (13) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص118 (14) الكافي ج8 ص73 (15) وسائل الشيعة ج1 ص162 (16) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص1 بقلم الكاتبة: رضا الله غايتي

اخرى
منذ 5 سنوات
37381

المرأة في فكر الإمام علي (عليه السلام)

بقلم: أم نور الهدى كان لأمير المؤمنين (عليه السلام) اهتمام خاص بالمرأة، فنراه تارة ينظر إليها كآية من آيات الخلق الإلهي، وتجلٍ من تجليات الخالق (عز وجل) فيقول: (عقول النساء في جمالهن وجمال الرجال في عقولهم). وتارة ينظر إلى كل ما موجود هو آية ومظهر من مظاهر النساء فيقول: (لا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها فإن المرأة ريحانة وليس قهرمانة). أي إن المرأة ريحانة وزهرة تعطر المجتمع بعطر الرياحين والزهور. ولقد وردت كلمة الريحان في قوله تعالى: (فأمّا إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة النعيم) والريحان هنا كل نبات طيب الريح مفردته ريحانة، فروح وريحان تعني الرحمة. فالإمام هنا وصف المرأة بأروع الأوصاف حين جعلها ريحانة بكل ما تشتمل عليه كلمة الريحان من الصفات فهي جميلة وعطرة وطيبة، أما القهرمان فهو الذي يُكلّف بأمور الخدمة والاشتغال، وبما إن الإسلام لم يكلف المرأة بأمور الخدمة والاشتغال في البيت، فما يريده الإمام هو إعفاء النساء من المشقة وعدم الزامهن بتحمل المسؤوليات فوق قدرتهن لأن ما عليهن من واجبات تكوين الأسرة وتربية الجيل يستغرق جهدهن ووقتهن، لذا ليس من حق الرجل إجبار زوجته للقيام بأعمال خارجة عن نطاق واجباتها. فالفرق الجوهري بين اعتبار المرأة ريحانة وبين اعتبارها قهرمانة هو أن الريحانة تكون، محفوظة، مصانة، تعامل برقة وتخاطب برقة، لها منزلتها وحضورها. فلا يمكن للزوج التفريط بها. أما القهرمانة فهي المرأة التي تقوم بالخدمة في المنزل وتدير شؤونه دون أن يكون لها من الزوج تلك المكانة العاطفية والاحترام والرعاية لها. علماً أن خدمتها في بيت الزوجية مما ندب إليه الشره الحنيف واعتبره جهادًا لها أثابها عليه الشيء الكثير جدًا مما ذكرته النصوص الشريفة. فمعاملة الزوج لزوجته يجب أن تكون نابعة من اعتبارها ريحانة وليس من اعتبارها خادمة تقوم بأعمال المنزل لأن المرأة خلقت للرقة والحنان. وعلى الرغم من أن المرأة مظهر من مظاهر الجمال الإلهي فإنها تستطيع كالرجل أن تنال جميع الكمالات الأخرى، وهذا لا يعني أنها لا بد أن تخوض جميع ميادين الحياة كالحرب، والأعمال الشاقة، بل أن الله تعالى جعلها مكملة للرجل، أي الرجل والمرأة أحدهما مكمل للآخر. وأخيرًا إن كلام الإمام علي (عليه السلام) كان تكريمًا للمرأة ووضعها المكانة التي وضعها الله تعالى بها، حيث لم يحملها مشقة الخدمة والعمل في المنزل واعتبر أجر ما تقوم به من اعمال في رعاية بيتها كأجر الجهاد في سبيل الله.

اخرى
منذ 5 سنوات
34104

أساليب في التربية

عالم الطفولة كأنه طاولة، لا تجد فيه غير طعام لذيذ، ومنظر لطيف وجديد، فعالمهم فاكهة الوجود، وخضار الأرواح، ومياه الحياة تسقي القلوب... عالم صفاء وأحلام جميلة بسيطة وتافهة ولكن بنظرهِ هو عظيمة وكبيرة، فهو العالم الذي ينطلق منه الإنسان في بداية عمره. فالطفل في بداية حياته ينظر إلى الحياة بتفكيره البريء، فالطفل يعيش بعالم خاص به مملوء بالمحبة البريئة. هذه هي الصورة الجميلة التي يحملها الطفل، وكم يتمنى كل إنسان أن يعود لطفولته البريئة ليتأمل في أرجاء عالمها الذي كان يصور له حياة مختلفة تشد الإنسان إليها بجمالها، هذا هو عالم الطفولة وهذه أحلام من يعيشها، فلا ينفذ إلى ملكوت ذلك العالم ولا يدرك كنهه إلا من عاشه وجال في ربوعه. حيث يتذوق الطفل مع أحلام طفولته هذه لذة الحياة ولذة العيش فيها، ومهما حاولنا أن نعبر عن هذه الحقيقة فلن نستطيع تصويرها بالكلمات. وبعد هذا، فإن الاهتمام بمستقبل الطفل هو في الواقع ضمان لمستقبل شعب بأسره. قال اللَّه تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا". التحريم/6 أعتنى الإسلام بتربية الأبناء عناية فائقة، وألقى على عاتق الأهل ما سيكون عليه الولد في مسلكه الدنيوي ومصيره الأخروي إن هم قصروا في تربيته وإعداده. وقد ذكر العلماء أن شخصية الولد تتأثر في نموها بعوامل ثلاثة وهي: الوراثة، والبيئة، والتربية. إذا خضنا في مضمار التربية السليمة للأبناء... فعلى الأبوين أن يكون لهما الوعي التربوي الذي يبنى على أسس صحيحة ويتوفر لديهم فهم لأساليب التربية والتوجيه والرعاية وهذه نقطة البداية. فمثلاً في أسلوب التعامل مع الطفل تبرز أمامنا ثلاثة اشكال لتعامل الآباء مع الأبناء: الشكل الأول: أسلوب الدلال المفرط وهذا الأسلوب له نتائجه السلبية الخطيرة، فإنه يخلق شخصية هشة متميعة وشخصية اتكالية تحب الكسل والخمول مجردة من الهدف والإقدام، انهزامية غير قادرة على مواجهة التحديات وبمعنى أدق شخصية لا تثق بنفسها. شخصية متسيبة في ظل غياب المراقبة والمحاسبة وهذا التسيب يقود إلى الانفلات والانحراف. الشكل الثاني: فهو أسلوب التربية القاسية والعنف. وهذا الأسلوب أيضاً له نتائجه الخطيرة والسلبية التي يعاني منها الأبناء طوال حياتهم فهو يخلق شخصية قلقة ومتأزمة ومعقدة وخائفة وتحمل عقدة الخوف، شخصية حاقدة وعدوانية وقد تتأزم الأمور لتصبح شخصية منافقة وكاذبة خوفاً من العقاب والتعنيف ضمن حدود الأسرة ولكن يوماً من الأيام سينطلق هذا الشخص ليواجه المجتمع ككل، فلنتصور كيف سيتعامل مع المحيطين ضمن مجالات الدراسة والعمل وهو شخصية هاربة من أجواء الأسرة وقد يعرضها للتسيب والانحراف لأنها شخصية متمردة مما يعرضها للعقوق. الأسلوب الثالث: التوازن. الأسلوب الصحيح يعتمد على التوازن فمن شروط نجاح التربية التوازن في المعاملة ما بين الأمور التي تحتاج إلى شدة وحزم ليتربى على أن هذه الأمور خطوط حمراء طبعاً هنا يمكن أن يعترض أحد ويقول: لا للعنف الأسري ولا لاستخدام القسوة. نعم فهناك طرق غير استخدام العنف. يكفي ان يبدي الآباء انزعاجهم مثلاً. وهنا النقطة مهمة جداً، وهي: أن نوضح لهم سبب المنع والرفض لا تعتقدوا أن أبناءكم لا يدركون ولن يفهموكم. تخصيص الوقت للنقاش مهم جداً. وما بين أسلوب المرونة والحنان والاحتواء. التوازن في المعاملة. إن الإمام زين العابدين (عليه السلام) يصرح بمسؤولية الأبوين بتربية الطفل، ويعتبر التنشئة الروحية والتنمية الخلقية لمواهب الأطفال واجباً دينياً يستوجب أجراً وثواباً من الله تعالى، وأن التقصير في ذلك يُعرّض الآباء إلى عقاب الله. فيقول (عليه السلام): (وأما حق ولدك عليك فأن تعلم أنه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره. وأنك مسؤول عما وليته به من حسن الأدب والدلالة على ربه عز وجل والمعونة له على طاعته. فأعمل في أمره عمل من يعلم أنه مثاب على الإحسان إليه معاقب على الإساءة إليه ) مكارم الأخلاق للطبرسي ص٢٣٢ حنان الزيرجاوي

اخرى
منذ 5 سنوات
32542