هُنــا وهُنــاك الحلقة (4) والأخيرة

بقلم: صفاء الندى وعند حلول الفجر لامستْ زقزقةُ العصافير سمعه بلطفٍ ولكنّه لم يستيقظ، اخترق صوت أبواق السيارات المارّة سمعه بشدّة وكأنّه صوتُ بوق يوم القيامة لشدةِ فزعه منها! نهض سريعًا، فوجد في نفسه رغبةً ملحةً للصلاة وما دامت الشمس لم تُشرق بعد فليصلِ الصبح بوقتها. أخرج من جيبه قنينة ماء فلطالما نصحه الأطباء بشربِ الماء، توضأ فهو لم ينسَ الوضوء مطلقًا؛ لأنّه راسخٌ في ذهنه، كما ويذكر كيفية أداء الصلاة؛ فقد كان في مقتبل عمره من المصلين. أنهى صلاته وعزم على العودة للمستشفى ومعاودةِ طرح الموضوع مرةً أخرى مع الإدارة هناك، رآهم يهيؤون الجثث التي سينقلونها بعد وقتٍ قصير للدفن بمدافن خاصة ومن بينهم جثة جاره أبي خليل، وقف محمود يراقب الإجراءات عن بعد.. ــ رُحماك يا رب، أحسن خواتيمنا، إنّهم يضعونهم في شاحناتٍ مبردة ..وبأعداد كبيرة! (تحسّر ..) ليتني أعرف رقم هاتف ابنه خليل لأرمي بحمل هذه المسؤولية الصعبة عليه .. وإن كان في كلِّ الأحوال حتى وإنْ كنتُ أعرف رقم هاتفه لا يمكنه المجيء .. سلّم عليه أحد الأطباء وسأله عن صحته، فأجاب: ــ صحتي بخير ولكنّي حزين. ــ كيف يمكن الجمع بين الحالتين؟! ــ دعك من هذا الكلام، أرجوك ساعدني، فلنحاول بقدر استطاعتنا أن يُدفن الرجل بحسب الشريعة الإسلامية نغسله ونصلي عليه سريعًا لن يكلفنا ذلك وقتًا طويلًا. وأنا أتكفل بالأمر وأتحمل أية خطورةٍ تُلحق بي، ولكن فلنحقق للرجل وصيته وهذا أبسط حقوقه. ــ كلامك صحيح، ولكن ما يمكنني أنْ أفعل؟! جاء طبيبٌ آخر سلَّم عليهما، وكان مُسلمًا، فتناقشوا معًا بالموضوع بجديةٍ ومسؤوليةٍ دينية واتفقوا على أنَّهم سيطلبون تحقيق هذا الأمر وبإلحاح، فانتقال الفيروس بعد موت المصاب أمرٌ غير مؤكد حاليًا، بل تتوارد معلومات أنَّ الفايروس يموت مع موتِ المصاب بعد ساعات. قال محمود: إذن يا إخوتي فلنذهب.. وفي طريقهم وجدوا زميلًا لهم فطلبوا منه الانضمام إليهم ..سألهم: إلى أين؟! قالوا: عمل خير.. لا وقت للتفاصيل ستعرف بعد قليل. توجهوا إلى مدير المشفى في مكتبه فأخبروهم أنّه يقوم بجولاتٍ تفقدية في الردهات، حثّوا الخُطى وإذا بهم يتقابلون مع المدير في إحدى الممرات فجأةً، سكت الجميع .. فأشار أحدهم لمحمود لكي يتحدث.. بدأ محمود حديثه بكلِّ أدبٍ وحزن، وشرح للمدير دواعي هذا المطلب الإنساني وأنَّه لا توجد به أيةِ مخالفةٍ قانونية مع التزامهم بمتطلبات الوقاية. أكمل أحد الأطباء: سنقوم بجميع الاحتياطات، وبحسب شريعتنا الإسلامية بما لا يخالف السلامة الصحية وإن لم نتمكن من غسل الميت سنستبدل الغسل بالتيمم حسب فتوى مرجعيتنا الدينية التي أعطت رأيًا بهذا الأمر.. فما قرارك مديري العزيز..؟ نظر إليهم بحيرةٍ وقال: كما قلتم هذا الفيروس لا نعرف الكثير عنه وقد شدّدنا الإجراءات لدواعي السلامة العامة، ولكن بدأت المعلومات الجديدة تصل أسماعنا وما ذكرتموه أقربُ إلى الحقيقة. قال محمود: إذن يا دكتور ..؟ ــ لا بأس، ووجّه كلامه للأطباء بالخصوص: وكونوا حذرين فأنا أعرفكم أطباء أكْفاء ومنضبطين، ولكن اعلموا أنكم عند أيِّ تهاونٍ ستُحاسبون وأنا معكم.. بكى محمود من شدةِ فرحه وقال مبتهجًا وبصوتٍ عالٍ: الشكر لك يا رب .. وتوجه مسرعًا وهم على إثره إلى السيارة التي تقل الجثث، طلب الطبيب إخراج الجثة رقم ٢١، حملوها ووضعوها على إحدى الأسرّة وقالوا لمحمود: ــ إنَّها مهمتك .. وسلموه نص فتوى المرجعية بهذا الصدد ليُباشر الأمر وفق الضوابط الشرعية.. تذكر محمود أنّه لا يعرف هذه الأمور جيدًا، فاستأذن منهم دقائق ودخل إلى الحمام، أخرج هاتفه سريعًا بحث عن كيفية أداء هذه الأعمال، وعاد إلى الغرفة وجدهم قد هيأوا له ملابس وقاية كاملة، كتلك التي يرتديها منتسبو المستشفى.. وعندما أنهى محمود مهمته ووظيفته الشرعية تجاه الميت، قاموا بتكفينه والصلاة عليه .. خاطب محمود جاره الراحل (أبا خليل): ــ هذا ما مكنني ربي يا حاج وسامحني، فهل أنت مطمئن الآن ..؟ قال الأطباء: هيا فلنعجل السيارة بالانتظار.. وقف محمود يرقب ذهاب السيارة التي ستوصل الجميع إلى مثواهم الأخير.. وعاد ليشكر الأطباء الذين ساعدوه على إنجاز هذا الأمر، وأبدى لهم محبته وامتنانه لوقفتهم المشرفة في ظلِّ هذه الظروف العصيبة التي تمرُّ بها الإنسانية. قال له أحدهم: لم يعد لك عذر للبقاء يا محمود، هيّا عُد إلى بيتك ولا تخرج منه إلا بعد القضاء على هذا الفيروس ــ سأفعل إنْ شاء الله (تعالى) مشى محمود خطواتٍ والتفت إليهم قائلًا: ــ ولكن عندي مقترح، لِمَ لا نقوم بتجهيز جميع الموتى المسلمين الذين يؤتى بهم إلى هنا!! ــ اذهب ولا تقلق لقد اتفقنا نحن على ذلك. ــ ألا تحتاجون إليَّ بشيءٍ ما؟ ــ لا إطلاقًا، هيا ارحل.. ــ سأترك رقم هاتفي لديكم وسأكون بخدمتكم في أيِّ وقت.. وعند وصوله إلى المنزل اتصلت به والدته تحثّه على العودة سريعًا إلى هناك.. إلى وطنه.. ـــ أمي حبيبتي اهدئي واسمعيني.. هُنا أم هُناك، هي التي جاءت بي إلى هنا، سأكفُّ عن المقارنات والتمنيات وسأظل ..هُنا.. لأعيش الواقع بخيره وشره صابرًا مُحتسبًا ولن أهرب مرةً أخرى..

اخرى
منذ 3 سنوات
309

هنــا وهنــاك الحلقة (٣)

بقلم: صفاء الندى ... لبس محمود كمامةً وقفازاتٍ وتوجه إلى دورية الشرطة التي في الشارع، أخبرهم أنَّه بحاجةٍ إلى بعض المواد الغذائية، فطلبوا منه الانتظار قليلًا؛ لأنّه تقرّر أنْ يتوجه الناس لشراء حاجاتهم بالدَّور لئلا يزدحموا بمكانٍ واحد .. فرح لموافقتهم على خروجه، وذهب مبتهجًا، ولكنَّ قلبه متوجس خيفةَ أنْ ينتقل إليه الفيروس عن طريق رذاذ مريضٍ ما أو ملامسة الأسطح. مضى في سبيله محافظًا على مسافةِ التباعد الاجتماعي المطلوبة والمُقدَّرة بمترٍ ونصف تقريبًا. وعندما وصل إلى المكان المقصود وجد أناسًا قليلين مصطفين، ويقف مقابلهم رجلٌ عجوزٌ يبدو عليه الإرهاق، تفحّصَ وجهه وإذا به جاره، لم يذكر اسمه، فهو بالكاد تذكر شكله، فسأله: ــ يا حاج هل أنت بحاجةٍ إلى مساعدة؟ ــ أنا بخير ــ أتذكّر أنَّ لك ولدًا؟! ــ نعم، اسمه خليل، ولكنه الآن يدرس في دولةٍ أخرى ــ إذن أنت لوحدك في البيت؟ ــ نعم، يا ولدي ــ استأنس محمود بالحديث مع الرجل؛ فهو متلهفٌ لتبادلِ الأحاديث مع الآخرين.. ــ يا حاج، ما رأيك أنْ تعود إلى بيتك وأنا سآتي لك بحاجياتك؟ فقط قل لي ما ينقصك .. ــ أشكرك يا ولدي .. قد حان دوري... أستودعك الله ــ في أمان الله وفي طريق عودته رأى محمود جاره أبا خليل يمشي بخطواتٍ ثقيلة، وقد ملأ كيسه بالأغراض، اقترب منه، وحمل الكيس عنوةً، وقال له: ستجده أمام باب بيتك يا عم وأكمل طريقه. دعا له الحاج بالهداية ودوام العافية.. وعاد محمود إلى البيت، وقد شعر بالارتياح لخروجه اليوم من سجنه الانفرادي، ولكنه عاد إليه الآن... ذهب إلى المطبخ، رتّب أغراضه في الثلاجة، واكتفى بتناول تفاحة؛ فهو لا يرغب بالأكل كثيرًا هذه الأيام. بعد ذلك اتصل بوالدته ولكنها لم تجبه فانتابه القلق، وحدّث نفسه بصوتٍ عالٍ ــ ولم يعد يُحدّث نفسه إلا كذلك؛ ليكسر حاجز الصمت حوله ــ: يقولون إنَّ أقرب الأولاد إلى قلب الأم، المسافر حتى يعود، وأنا ماذا؟ أتصلُ ولا ترد عليّ! لعلَّ إخوتي منعوها من التواصل معي؛ فأنا أسأتُ إليهم كثيرًا، وهي تتحاشى إغضابهم .. بهذه الأثناء اتصلت به والدته واعتذرت منه؛ لأنّها كانت تصلي. وبينما محمود يحدّث أمَّه وهو واقفٌ على الشرفة، وإذا به يشاهد جاره العجوز خرج من منزله يمشي متأرجحًا وسقط في حديقة المنزل.. فاعتذر من أمِّه وأنهى المكالمة معها.. ونزل مسرعًا .. تذكّر أنْ يلبس كمامته وقفازاته؛ فالوضعُ خطيرٌ. وعندما وصل إليه ناداه من بُعد: يا عم، هل أنت بخير؟ فأشّر بيده .. فعلِم أنَّه ما زال حيًا، فأخذ يقتربُ منه تارةً ويبتعد أخرى؛ خشية العدوى .. ولكنَّه اتخذ قراره بعد أنْ خاطب نفسه: ما بالك يا محمود! الرجل يحتضر.. استمع لما يريد أنْ يوصي. عاد باحثًا عن سيارة الشرطة حوله ولكنه لم يجدها، فرجع إلى جاره وقال له: ــ سآتي بسيارتي لأنقلك إلى المشفى.. مسكه الحاج من ملابسه وقال: لا داعي، فقط اسمعني يا ولدي .. ــ قُل يا عم ــ أبلغ ولدي الحبيب عني السلام، وقل له: إنَّ أباك راضٍ عنك.. ولا تدعهم يا محمود يدفنوني بلا غسلٍ وبلا صلاةٍ أو أنْ يُحرقوني! أنا مسلمٌ وإنسانٌ، ولي كرامتي وديني له قوانينه قل لهم ذلك.. قل لهم ذلك .. ــ نعم يا عم، اطمئن لن أدعهم يفعلون ذلك بك.. جاء رجال الشرطة، فأخذوا يصرخون طالبين منه الابتعاد عن الرجل؛ فقد اتصلوا بالإسعاف، وهم على وشك القدوم... جاء المسعفون وأخذوا الجثة، وطلبوا من محمود أن يأتي معهم للتأكد من سلامته بسبب الملامسة... فرأى بأمِّ عينه الفوضى والإرباك الذي حلّ في مدينته - فالمشفى نموذج مصغّر-، وبالكاد تسيطر الدول على مواطنيها؛ فعندما يصل الإنسان إلى مرحلة الهلع والخوف على الذات تسقط بعض الاعتبارات والقيم والقوانين الصارمة.. وآمن محمود وتيقّن حقًا أنَّ الإنسان مهما تعاظم ماديًا، فهناك شيءٌ ما سيذله ويُظهر له عجزه ليعود به إلى حقيقة أنَّه ضعيفٌ ومحتاجٌ وليس بقويٍ ولا مُستغنٍ. طلب من إدارة المشفى أن يتكفل بغسل جثةِ جاره كونه مسلمًا، والصلاة عليها وترجّاهم أنْ يساعدوه بتأمين جميع الاحتياطات الصحية، ولكنهم لم يكترثوا بحديثه، وأعلنوا أنَّهم سيدفنون الجثث جميعها غدًا.. احتار محمود فيما عليه أنْ يفعل، فقد وعد الحاج أنَّه سينفذ وصيته، باتَ ليلته قلقًا مضطربًا، رغم أنَّهم أخبروه ليلتها أنَّ نتيجة الفحص لديه كانت سلبية وبإمكانه المغادرة. لم يكن مهتمًا كثيرًا بنتيجة الفحص، فرحَ قليلًا وحمد الله تعالى كثيرًا، فهو لن يهنأ له بال ويطيب له حال حتى يحقق لجاره المتوفي ما أوصاه به .. خرج من باب المشفى حزينًا؛ فهو لم يرغب بالخروج، فلاذ بنفسه بإحدى الشجيرات.. جثا على الأرض في حديقة المشفى، ونظر إلى السماء مخاطبًا الله (تعالى) في سرِّه... يا رب، أنا عبدك العاصي، أعترف لك بذلك .. وأنت سبحانك غنيٌّ عن طاعتي، رحيمٌ غفور، أستغفرك من ذنوبي.. أنا لا أستحق نظرةً منك .. ولكني أدعوك لا لنفسي بل لهذا العبد الذي كان مطيعًا لك، الفريد من غيرِ أهلٍ يلونَ أمره بعد موتِه، ساعدني أنْ أنفذ وصيته.. سجد على الأرض باكيًا، رفع رأسه من السجود وقرّر أنْ يبيت ليلته هنا؛ فالظلامُ دامسٌ لا ينير المكان سوى ضوءِ القمرِ الخافت، ولن يلتفت إلى وجوده أحدٌ. أسند ظهره على جذع شجرةٍ وغاص بنومٍ عميق؛ فإنَّها من أتعب الليالي التي عاشها وأعسرها .. يتبع...

اخرى
منذ 3 سنوات
314

هُنــا وهُنــاك الحلقة (٢)

بقلم: صفاء الندى ــ لقد أصِبتُ بالعدوى منكم منذ زمنٍ، منذ جئتكم، بل قبل أنْ تطأ قدماي أرضكم التي ظننتها المدينة الفاضلة الموعودة.. نعم، أصِبتُ بالعدوى عندما انبهرت بالتكنولوجيا بلا حدود، عندما جعلت نظرياتكم وأفكاركم دستورا لحياتي .. إنني مصابٌ بالعدوى حقًا ووباؤكم على وشك أنْ يقبض روحي.. يا الله، إنّي أشعر بالاختناق.. جَثا على الأرض .. اشتد إحساسه بصعوبة التنفس .. هل حقًا سأموت؟! ليس الآن يا ربي! تمدّد على الأرض .. نظر إلى السقف .. تواترت أمام ناظريه خيالاتٌ متداخلة .. أصبح بالكاد يرى بعينيه لغزارةِ دموعهما المنهمرة.. صورٌ مرّت متسارعةً أمام ناظريه.. بيتُ العائلة المتهالك، شوارع مدينته الترابية، مجموعاتٌ من الناس يلطمون، شاهد نفسه يدفع عربة، شهادةٌ معلّقة على حائط، حقيبةُ سفرٍ، قاربٌ مطاطي على وشك الغرق، جزيرةٌ خضراء، ولاحت آخر صورةٍ لامرأة .. ابتسم عندما رآها لوهلةٍ.. وحدثها معاتبًا: ليتكِ لم تلِديني، حتى أنتِ تركتِني وحيدًا يا أمّي، فمنذ سنة لم تتصلي بي والآن سأموت لوحدي.. وفي هذه الأثناء رنّ الهاتف رنينًا طويلًا.. لم يصدق أنَّ هاتفه يرن، مسح دموعه تحسس جسده، قلبه ما زال يخفق، ما زلتُ حيًا.. تمتم مع نفسه: هل أستطيع النهوض يا ترى؟! ما زال الهاتف يرن، قام بتثاقل يرمق هاتفه الذي كان قد رماه بعيدًا وصل إليه، قبض عليه ويده ترتعش، أجاب وإذا به يسمع صوتًا يذوب حنينًا إلى سماعه: ــ ولدي، حبيبي، كيف حالك؟ أنا أمك .. ــ أمّي! ــ هل أنت بخير يا ولدي؟ أين أنت الآن؟ صمت محمود ولم يُجِبها؛ لشدة دهشته ــ فلتأتِ إلينا .. محمود لمَ لا ترد؟! ــ أنا بخير، لقد اشتقت إليكِ يا أمي.. لماذا انقطعتِ عني؟! ــ الحمد لله أنَّك بعافية، لقد ضاع هاتفي وأنا لم أكن أحتفظ برقم هاتفك .. وكنت أنتظرك أنْ تتصل أنت بي. ــ أنا ظننت إنَّ إخوتي يمنعونك من الاتصال؛ ولذا لم أتصل لئلا أتسبب بإيذائك. ــ الآن يا ولدي وأنا على وسادتي وقد جفاني النوم أتحسر على رؤياك وخائفة عليك، تذكرتُ أنّي كنت قد كتبتُ رقم هاتفك بقُصاصة ورق وضعتها في أحد الأدراج، فقمت مسرعة نبشتها واحدًا واحدًا حتى وجدته وسجدت شكرًا لله (تعالى).. إنَّ الله قد رفق بحالي يا ولدي إذ ذكّرني بهذه القصاصة. ــ نعم يا أمي، الحمد لله، الله رحمني أيضًا، فإنَّ صوتكِ أراحني بل أحياني. ــ أدعو الله تعالى أنْ يقرَّ عيني بك. ــ لا أستطيع المجيء إننا محجوزون هنا. ــ بل ستعود يا محمود، كثيرٌ من الناس قد عادوا إلى أوطانهم، فكل دولة تُجلي مواطنيها. ــ نعم سأرى ما سأفعل. ــ ولدي مضطرة لإنهاء المكالمة، سأتصل بك غدًا، بحفظ الله ورعايته. وحصّن نفسك بالقرآن، فهذا الوباء حتى الآن ليس له علاج، التجئ إلى الله تعالى وستطمئن.. ــ نعم، في أمان الله يا أمي.. أخذ نفسًا عميقًا، فكّر بحديث أمّه وبأمر القصاصة، شغّل التلفاز ليرى أخبار المدينة .. مذيعُ الأخبار يُصرّح أنَّ أعلى نسب الإصابة في مدينته، ومنذ الصباح قد تمَّ عزلها عن جميع المدن للسيطرة على الوباء الذي ينتشر بلا توقف.. عاوده الخوف، بدأ يتسلل داخل نفسه من جديد.. أطفأ التلفاز مُتأفّفا، تذكر نصيحة أمّه، قلّب هاتفه سريعا اختار سماع آياتٍ من القرآن، اطمأن قلبه .. سرَت القشعريرة في جسده وكأنها صعقاتٌ خفيفةٌ لمكامن العربدة والعبث في داخله، طاردةً لها من حياته. اعترف مع نفسه: ما أروعه من صوت! لماذا كنت أحرم نفسي من هذه السكينة؟! إنّه شعورٌ بالأمان الحقيقي.. ظل مستمعًا متفكرًا ليلته حتى غلبه النوم فاستسلم له بهدوء. وعند الصباح استيقظ على صوتِ جلبةٍ في الشارع، نظر من الشرفة فرأى سيارة إسعافٍ تقف أمام أحد المنازل، وطواقم طبية تحمل شخصًا على السرير.. دقّق محمود النظر وقال: يبدو ميتًا.. تسمّر في مكانه محدقًا بسيارة الإسعاف حتى غادرت المكان، نظر إلى السماء رأى الطيور تحلق بكثافة فوق المدينة والقطط تسير آمنةً في الطرقات.. تساءل مع نفسه: هل استبدل الله تعالى وجودنا بالحيوانات وغيّبنا عن وجه الأرض، لتتنفس الصعداء وتنبسط باستنشاق هواء لا تشوبه ملوثات الإنسان المعتادة؟! يا الله، أين أمي لم تتصل، ما بالك يا محمود، لا تنسَ فارق الوقت ركّز كفاك تشتتًا، نعم صحيح .. صِرت أحدث نفسي كثيرًا، جيدٌ أنْ أتعرف على نفسي من جديد! سأحاول الخروج اليوم أيضًا .. يتبع...

اخرى
منذ 3 سنوات
343

هُنا وهُناك/ الحلقة (١)

بقلم: صفاء الندى ذهبتُ بعيدًا ولم أرد العودة فقد انتهى الأمر.. أسمع همهماتٌ وأصواتٌ خافتة تُناديني لن أكترث.. ذاك الطريق سالك أمامي فلست بحاجةٍ لأحد.. سيظلون صخرةً تعترض مسيري.. وأخيرًا تحررتُ من قيودهم البائسة، وحروبهم التي لا تنتهي، وشظف العيش الذي أكل شبابي وجعل مني ركامَ إنسانٍ.. كم هي الحياةُ رائعةٌ هنا! الكلُّ يضحك، ليس فقط يضحك وكفى بل بعضهم يُغمى عليه من شدةِ الضحك. -لا بأس سيعود له وعيه بعد قليل- أمرٌ مثيرٌ حقًا، الكلُّ هنا بمتناول اليد سواء كانوا نساءً ورجالًا، بعضهم لبعضٍ ملتحمون من شدةِ القرب، لستُ مضطرًا أنْ أشعر بالحرمان وحسرة اللذة كلّ ليلةٍ وأنا وحيدٌ على فراشي.. استوقفه أمرٌ ما.. ولكني أخشى الأمراض المُعدية.. اقتحمت وسوسةٌ خفيفةٌ قلبه: لا تخف كلُّ شيءٍ على ما يرام، لقد تطور العلم جدًا حتى وإنْ مرضت -إن مرضت- وهو احتمالٌ ضئيلٌ جدًا، ستجد المصل والعلاج المناسب.. نعم، صحيح، فالوضعُ هنا بهذا العالم الجميل يختلف، سيجدون لي حلًا.. يا لسعادتي! أنا حرٌ بأموالي أفعلُ بها ما أشاء، فلا خمس ولا زكاة، مللتُ هذه المنغصات.. - ولكنهم يفرضون ضرائبَ على كلِّ شيءٍ هنا- تسللت سريعًا بذهنه خاطرةٌ خبيثةٌ: لا بأس يا عزيزي، كلُّ ما ستدفعه سيعود بالنفع عليك ألا ترى ما هيأوه لك من أسبابِ السعادة.. ــ نعم أكيد أنا سعيدٌ هنا.. تمضي السنون سريعًا على محمود، وكلُّ أموره ظاهرًا تبدو تسير على ما يرام ..وفي إحدى الليالي عاد إلى البيت متأخرًا هالكًا من عبثه الليلي، رمى بنفسه على السرير، نام كعادته وهو لا يعلم.. استيقظ متثاقلا على صوت المنبه، كم يتمنى أنْ لا يعمل ولكنه من دون العمل لا يمكن أن يوفر متطلبات حياته.. توجه إلى النافذة أشاح الستارة ليدخل ضوء الشمس لمح كائناتٍ غريبة تمشي في الشارع، أعاد النظر مجددًا، أخرج رأسه من النافذة: يا للعجب إنّهم بشر، ما لهم يلبسون هذه الملابس المضحكة؟! ذهب إلى الحمام استحمَّ سريعًا، وتأنق ببدلةٍ فاخرة، سرّح شعره وتأكد من ثبات خصلاته كالدبابيس فوق رأسه.. نظر إلى ساعته محدّثًا نفسه: لعلّي تأخرتُ، ولكن لن أعجز عن أنْ أصل للعمل بالوقت المناسب سأقود سيارتي كالبرق وأصل حتمًا.. فتح باب منزله لم يكد يضع رجله خارجه، حتى وجد تلك الكائنات التي استهزأ بها قبل دقائق تأمره بالبقاء في البيت وتمنعه من الخروج بأمرٍ قضائي.. ــ ما هذا؟! أنا لم أفعل ما يخالف القانون؟! ــ ابقَ في البيت حرصًا على سلامتك ــ أنا بخير وصحتي جيدة، وسأطرد من وظيفتي إنْ تأخرت دعوني أذهب، ولماذا ترشون بيتي بالمبيدات مَن أذِنَ لكم؟! ــ ما بك يا هذا؟ إنّه الحجر الصحي ألا تفهم؟! هناك وباءٌ مستشري والناس تموتُ، ألم تسمع بكورونا؟ ونحن نرشُّ المعقمات في الأماكن العامة وليس المبيدات! ــ كورونا! ذاك اللعين لقد سمعت به، ولكنه فيروس انتشر في الصين بعيدًا جدًا، كيف وصل إلى مدينتي؟ توقعت أنَّه لن يصيبنا بسوء، بالتأكيد ستجدون له علاجًا، أليس كذلك؟ سَئِموا من الحديث معه .. ــ ليس له علاجٌ، اصمت والزم بيتك فقط، وإلا سيتم إلقاء القبض عليك من قبل الشرطة. صرخ محمود متسائلا: كم الساعة ينتهي حظركم هذا؟ عاد إليه أحدهم وقال له: لعله سيطول أيامًا أو أسابيعَ، لا نعلمُ فالأمرُ خطيرٌ٠ ــ لا استطيع البقاء لوحدي سأموت كمدًا ــ ألست مسلمًا؟! إذن أنت لست وحدك فمعك ربك، ألستم تقولون ذلك دومًا؟! -أنا .. ربي.. كيف عرفت أنّي مسلم؟! نظر الرجل باتجاه لوحةٍ صغيرة كان قد وضعها محمود على خجل في زاويةٍ فوق المدفأة وخرج من المنزل مسرعًا ملتحقًا برفاقه.. إنَّها هديةٌ يعتزُّ بها من أمّه تضمُّ صورةً للكعبة المشرفة. حدّق محمود بالصورة ممتعضًا وقال: ما زلت مسلمًا.. ما زالوا يروني مسلمًا رفس الكنبة بغضبٍ وجلس قليلًا.. شعر بالنعاس ففضّل العودة للنوم .. استيقظ قبل مغيب الشمس ناسيًا الأمر، متشوقًا لأكل وجبةٍ تسدُّ جوعه الشديد، ملأ معدته ونهض ليخرج، حينها تذكر أمر الحجر الصحي.. ضرب جبهته قائلًا: تبًّا لحظي التعيس، ولكن لعلهم غادروا المكان.. فتح الباب بهدوءٍ نظر بخفية، رآهم يحومون في الشوارع يذهبون وتأتي مجموعة أخرى تفرض على الناس البقاء في منازلهم. حدّث نفسه: يبدو الوضع خطيرًا حقًا، لم يخطر في بالي أنْ يحدث مثل هكذا يومٍ هنا.. ضرب الحائط بيده متململًا.. يا الهي سيحلُّ الليل وأنا لوحدي، هل نحن سجناء؟! كيف يعاملوننا بهذه الطريقة؟! رمى بنفسه على كرسيه الهزّاز، استرخى دقائق ثم عاد إليه الاضطراب.. أمسك بهاتفه وقرر الاتصال بصديقته الأقرب إلى قلبه لورا .. لن تخذلني ستقف معي في هذه المحنة. ــ حبيبتي أين أنت الآن؟ (حدّثها بلهفة) إنّي لستُ بخير، أرجو أنْ تأتي إليّ بأيةِ طريقة.. ــ لا يمكنني المجيء (أجابته ببرود) ــ لماذا لورا؟! أكاد أنْ أُجَن، أحتاجكِ بقربي ــ أنا أيضًا لست بخير، العالم كله ليس بخير وأنت تفكر بنفسك فقط، ثم إنني غادرت المدينة قبل إغلاقها ورجعت إلى بلدتي، لا أريد البقاء هنا.. (قالت بغضب) دمعت عينا محمود بصمتٍ، وشعر أنَّ قلبه يكاد ينصهر جرّاء صدمته من تصرفها الأناني.. أنهى المكالمة، وغاص بالأفكار عميقًا لبعض الوقت حينها تذكر صديقه أمجد، اتصل به مستبشرًا.. تأخر صديقه بالرد ألحَّ محمود بالاتصال، فأجابه مستعجلًا: ــ محمود إنني في كارثة، زوجتي مصابة بالفايروس ونحن جميعًا مشكوكٌ بسلامتنا، إنَّه يوم القيامة، إنَّ الله غاضبٌ علينا، وأغلق الهاتف بوجهه.. غضب محمود ورمى الهاتف بعيدًا، وارتعشَ من أم رأسه لأخمص قدميه.. ــ يوم القيامة! هاج صارخًا لوحده في ظلمة الليل جَلجَل سكون منزله الموحش أيُّها المخادعون.. الآن يذكرون يوم القيامة.. الآن يتحدثون عن غضب الله، وهم من سلبوا مني إيماني وقالوا: كلُّ ما لا نراه لا نؤمن به.. كلُّ رجالِ الدين كاذبون وسارقون ومخادعون.. كلُّ مشاكلنا وآلامنا يخلصنا منها العلم.. وكلُّ أحلامنا يحققها لنا التطور.. وماذا بعد؟ وما النتيجة؟! أسجنُ في بيتي خشية فيروس حقير أعجز البشرية بأجمعها.. ولكنكم آمنتم به الآن .. وتريدون مني أنْ أؤمن به أيضًا.. اللعنة عليكم.. يتبع..

اخرى
منذ 3 سنوات
275

سلسلة شذرات رمضانية: الشذرة الأولى: الصيام إنسانية

بقلم: شفاء طارق الشمري بينما كانت يداي تُحضّر السحور لصيام يوم آخر من أيام شهر رمضان، سمعتُ ابن جارنا الصغير يقول لأمه: أُماه متى نفطر؟ سقط الصحن من يدي وارتجف جسمي واقشعرت شراييني… هل حقًا هذا؟ لا أصدق… كيف فطرت؟ والآن أتسحر ولا أعلم بحال جاري يا حسرتي على غفلتي.. يا خجلي من إمام زماني... ذهبت مسرعة لبيت جيراني، قمت بتقديم السحور فطوراً لهم! ما أكثرها من لحظات قاسية، هنا تذكرت أنّ إمامنا أمير المؤمنين أبا اليتامى والفقراءِ، حيث قال جملة هزت عرش كل من يدعي المروءة: (لو كان الفقر رجلا لقتلته). ما أعظمك مولاي! ونحن الآن نجد من يجلس ويتفاخر بتناول ما لذ وطاب وهناك من جعله الجوع لا يميز السحور من الفطور.. ما أقسى تلك القلوب التي تشبعت بالتفاخر والغنى اللامحدود؟! تراهم يتفاخرون على الفقير وينشرون هذا في الإعلام، وكأنهم يقطعون بالسيف حياة الفقير بحربهم المبهمة المتسلحة بالنعومة. وهل الصيام إلّا إنسانية ورعاية للقلوب الفقيرة، رغم كون الموقف أبكاني لكنه أفرحني في ذات الوقت لأني رأيت ابتسامة صاحب الزمانِ.. فنظرت إليه قائلة: وانت كيف حالك أيها الصائم الغائب عن الأبصارِ..؟

اخرى
منذ 3 سنوات
434

إلى نبعِ الحنان.. إلى رمزِ الأمان

بقلم: زينب راضي الزيني تخجلُ الكلمات عندما تكتبُ عن أغلى ما في وجودِي... وتقفُ الحروفُ عاجزةً عن صياغةِ كلماتٍ يُرتُلها قلبي بحقِّها وتتيهُ الأفكارُ مني عندما ألفظُ حروفها... إنّها أمي.. الأمنُ والأمان.. والراحةُ والاطمئنان... أراكِ في الكونِ أجمل ما رأيت! من صدرك الدافئ ارتويت.. وإذا سألوني عنكِ هل لها أنتَ وفيت؟ أقولُ: لا مهما عملت وعملت فإن نقطة واحدة من بحرِ مائها الوارف ما وفيت.. مدرسةٌ أنتِ ومن فصولكِ تعلمتُ الحلالَ والحرامَ، وتعلمتُ الالتزامَ، وتعلمتُ مبادئ الإسلام، وحبَّ أهلِ البيتِ الصفوة الكرام... إليكِ يا نبعَ الحنان.. ورمزَ الأمان.. أسطرُ حروفًا مدادها وفاء وعرفان.. للمرأةِ التي هي للوفاء والكرم والتفاني عنوان... تعلمتُ منكِ الالتزامَ وأنْ نعاملَ الناسَ بالإحسان.. حتى لو أساؤوا لنا تُذكريننا بالقرآن.. كم أنتِ رائعةٌ ايُّتها المرأة الحسان؟ كيف لا تكوني رائعةً وأنتِ من أوصى بها الرحمن؟ بين يديِك كبرت، وبين ضلوعك اختبأت، وفي حضنك احتميت، ومن كرمِك ارتويت... أنتِ لي نورُ الصباح... عطرُ المساء الفواح.. أجدكِ معي في حزني.. فرحي.. تسقينني من حنانك إذا ظمأت.. وتمسحين على رأسي إذا تمرضت.. وتدعينَ لي بكلّ خطوةٍ إذا درست.. عملت.. نجاحي بفضل دعواتكِ لي يا منبعَ الطيب.. فأنتِ الحبيب القريب.. لم أجدْ صدرًا في الكون كصدركِ الدافئ.. فالكون على اتساعهِ لا يضاهي سعة قلبك الصافي... لو كان للحبِّ تاج فأنتِ بالتاجِ جديرة.. يا صاحبةَ القلب الكبير.. والوجه النظير.. أحنُّ إليك إذا دجى الليل.. وإذا مالت الحياة بي، إذ كنتِ أنتِ الدليل إذا داهمتني الخطوب فأجدُكِ أنتِ لي السبيل إذا تمرضتُ، كان دعاؤك لي كالنسيمِ العليل.. أنتِ ظلي الظليل... حنانك كان لي نبعاً يسيل... أنت مجدي الأثيل.. أنتِ القلبُ الذي فيه مسكني، والصدرُ الذي فيه أحتمي، والحياةُ التي فيها مغنمي، وبدونك لا طعمَ للحياةِ يا أمي.. يرحمُكِ الربّ الجليل لعطائكِ لي ولإخوتي، فعن حُبّكِ يا أمي لن أميل.. أنتِ نعمة من الله... فلا أحد يحسُ بفقدِ هذه النعمة إلّا من فقدها... وأحس بمرارة بُعدها... كيف أُقدمُ لكِ السعادةَ التي منحتني إياها؟ وزرعت الأمل في كلِّ سنيّ عمري، علمتني يا نبع الحنان كيف يكون العطاء دون مقابل دون حساب، لآخر رمق في حياتي. ينتشي قلبُكِ فرحًا عند نجاحي وتحقيق أمنياتي.. وكل ركن من أركان بيتك يفوح شذى عطائك، لا أرجو من الله تعالى سوى رضاكِ... يا مُهجةَ روحي أدعو لكِ بكلّ صلواتي أنْ يرحمَك الله تعالى وينوّرُ قبرك يا من قاسيت وعانيتِ ولينتِ الصعاب... وسهلتِ الأسباب.. وتحديتِ في سبيل أن نبقى نعم الأصحاب والأحباب.. اشتقتُ لذاكَ الصدرِ الحنون... أشتقتُ لقلبي المفتون.. أمي تتوق لرؤياك العيون.. يزورُ الشوقُ قبركِ أمي.. ويبكي القلبُ فراقَكِ عني.. وكلّ ركنٍ في البيت يسألني.. لِمَ أظلم البيت أين شمعتهُ؟ آه يؤلمني.. يقتلني غيابكِ عني.. يا أمي.. الله يرحمكِ يا أغلى مخلوق رأتهُ عيني.. أمي الغالية نورٌ يشرقُ في قلبي.. وينيرُ ظلمة دربي... مُعدم أنا وحُبُكِ اغتناء.. واكتفاء.. واقطع عهدًا لكِ بأنّني سأكونُ الفتاة الزينبية الفاطمية التي تتباهى بها كل النساء.. وأكونُ عند حُسنِ ظنّكِ بي يا نبعَ الحنان.. ويا رمزَ الأمان.. يا حياةٌ... أنتِ لها عنوان..

اخرى
منذ 3 سنوات
847

لونُ الصباح

بقلم: خالد العلمي إليكَ حبيبي أقصُّ الحكايا إمامي أراكَ بلون الصباحْ وأدنو إليكَ بقلبٍ كسيرٍ وأدعو للُقيا بعزمِ الرياحْ فهبني حنانًا وعطفًا كبيرًا فأنت الشفاءُ لكلِّ الجراحْ وأنتَ الهناءُ، وأنت البقاء ومنّي إليكَ نداءُ الفـلاحْ فهبني ظهورًا يُريحُ القلوب فقلبي يُنادي غِدوًا رواحْ فعجلّ إليّ بيومِ الظهورِ فليس لضعفي سواك سلاحْ

اخرى
منذ 3 سنوات
327

من وحي الطفولة

بقلم: وجدان الشوهاني إلى جميع الأمهات/ حان وقت الصلاة نداء موشحٌ بالحنين والرحمة طالما سمعتهُ من أعزِ إنسانة على قلبي، تلك هي أمي، فمذ كنتُ صغيرة وأنا اسمع صوتها الحنين ينادي على إخوتي وأخواتي بأن حان وقت الصلاة فما إن يؤذن المؤذن ويقول (الله أكبر) يأتي ذلك الصوت ليجتاح أذنَي الصغيرتين وأراقب ذلك الصوت الذي لا يهدأ حتى يتم الجميع صلاته، وكنت أتساءل: لمَ لا تناد عليَّ كما تنادي على إخوتي وأخواتي الكبار؟ ولمَ هذا الاهتمام الكبير بوقت الصلاة وبإقامتها؟ وسألتها مرارا وتكرارا عن ذلك، وكان الجواب: ما زلت صغيرة يا فلذة كبدي وأنت آخر العنقود، ولم أفهم رفضها عن البوحِ بالأسباب حتى أتممت من عمري ثمانية أعوام ميلادية، وبدأت أمي تهيئ لي عيد الميلاد كما اعتادت في كل عام، ولكن اهتمامها هذه المرة يختلف عن كل السنوات الماضية. فلم تترك صديقة لي إلّا ووجهت لها دعوة لحضور حفلة عيد الميلاد فلقد أعدّت احتفالًا كبيرًا يختلف عن كل الأعوام، كما إنّ فرحتها بهذا الاحتفال تختلف عن غيره، وما أن أتى كلُّ الحضور وبدأ الاحتفال، وإذا بأمّي توجه لصديقاتي سيلاً من أجمل الكلمات. وتقول لهنّ: أهلًا وسهلًا بكنّ جميعًا فاليوم هو اليوم الذي اكملت ابنتي من عمرها ثمانية أعوام، ودعوتكم لأُعلِمَكم جميعًا بأنّهُ لم يبقَ لها سوى أشهرُ قليلة وستكون آخر عنقود العائلة كبيرة وسوف يخاطبها الله (سبحانه وتعالى)، فتعجّب الجميع من قول أمّي، وقالوا لها: وكيف ذلك؟ فقالت: بعد أشهرٍ قليلة ستكون صغيرتي كبيرة وسيكلّفها الله (سبحانه وتعالى) بواجبات لأنّها ستكمل تسع سنين هجرية والتكليف دليل على نهاية فترة الصغر لأن الصغار لا يُكلّفون بشيء وهذه الواجبات هي خطاب الله (سبحانه وتعالى) للإنسان. فسألت أمي: وهل هناك فرق بين السنين الميلادية والهجرية؟ فقالت أمي: نعم أكيد هناك فرق فالسنة الميلادية تفرق أحد عشر يوماً عن الهجرية ولذا فبحسب السنة الهجرية أنتِ أكبر سنًا من الميلادية. فقلت: معلومة جديدة تعلمتها، ولكن ماذا عليَّ أن أفعل إن خاطبني وكلّفني الله (سبحانه وتعالى)؟ فقالت أمي: ستجب عليكِ الصلاة والصوم وغيرها من واجبات ومتى ما يُرفع الأذان سأقول لك حان وقت الصلاة، ألم تسأليني دائمًا عن سبب عدم توجيه النداء لكِ؟! اليوم حان الوقت لأخبركِ بالسبب ولذا عليكِ أن تتهيئي للصلاة والصوم وكل الواجبات لأن الواجبات للكبار الذين كلّفهم الله (عزّ وجل) وإلى الآن أنتِ صغيرة ولكن بعد أشهر قلائل ستكونين كبيرة ومكلفة. وهنا وجدتها فرصة لأوجه لها سؤال آخر وهو: لِمَ هذا الاهتمام الكبير بالصلاة؟ فقالت أمّي: لأُحافظ عليكم! فتعجبت وتعجبت كل صديقاتي من الجواب، وسألناها: وكيف يكون ذلك؟ فقالت: ألم يقل الله في كتابه العزيز (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ )؟ قلنا: نعم، هذا قول الله تعالى. فقالت: إذن اهتمامي بالصلاة لكي احصّنكم من الفحشاء والمنكر والبغي وبذلك أحافظ عليكم، فالصلاة عمود الدين فمتى ما اهتممنا بذلك العمود ضمنّا سلامة الدين، ومتى ما سلم الدين سلم الجميع، وبهذا أُحافظ عليكم، فهذا الاحتفال لم يكن لأنكِ أكملت ثمانية أعوام فقط، بل هو احتفال لتتهيئي وتتهيأ كل صديقاتكِ ممن في عمرك لخطاب الله تعالى وتكليفه، فسوف تكونين مؤهلة وعلى قدر المسؤولية، ولذا أحببت أن أُنبّهكِ على تلك المهمة من خلال هذا الاحتفال حتى تكوني مستعدة للقيام بالمهمة على أكمل وجه ولا تتفاجئي، فلن تكوني بعد التكليف صغيرة بل ستكونين كبيرة وأميرة، والتكليف هو تاج إمارتك، فحافظي على تاجكِ بإداء ما يجب عليكِ، واحذري من ضياعه، ففي ضياعه ضياع الدين، وإن ضاع الدين ضاع كلُ شيء. ومنذ ذلك الحين وأنا أُحافظ على الصلاة، والآن أقوم بنفس ما كانت تقوم به أمي رحمها الله تعالى، ومتى ما سمعت صوت المؤذن أُنادي على أولادي: حان وقت الصلاة. فإلى جميع الأمهات... حافظوا على أولادكم بالصلاة.

اخرى
منذ 3 سنوات
466

خاطرة

إن كان ولابد من القلق فعليك أن تعرف كيف تتعامل معه وتنهض به وليس الهروب منه بالبحث عن المجهول وعن المفقود ... انما انت عبد محدود مُحاط بعناية رب لا يَعتدي على أهل مملكته... فأكثر المتضررين في الابتلاءات هم من أرادوا حلاً لكل شيء ولا ينظرون إلى المجهول بأنه أمر جميل تحت عناية حكيم خبير..

اخرى
منذ 3 سنوات
417

يتصدر الان

لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع

يستشهد الكثير من الناس ــ وحتى بعض المثقفين ــ بقول:" لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع فإن الخير فيها دخيل وعاشر نفساً جاعت بعد شبع فإن الخير فيها أصيل" على أنه من أقوال أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، كما يستشهدون أيضاً بقولٍ آخر ينسبونه إليه (عليه السلام) لا يبعد عن الأول من حيث المعنى:"اطلبوا الخير من بطون شبعت ثم جاعت لأن الخير فيها باق، ولا تطلبوا الخير من بطون جاعت ثم شبعت لأن الشح فيها باق"، مُسقطين المعنى على بعض المصاديق التي لم ترُق افعالها لهم، لاسيما أولئك الذين عاثوا بالأرض فساداً من الحكام والمسؤولين الفاسدين والمتسترين عل الفساد. ونحن في الوقت الذي نستنكر فيه نشر الفساد والتستر عليه ومداهنة الفاسدين نؤكد ونشدد على ضرورة تحرّي صدق الأقوال ومطابقتها للواقع وعدم مخالفتها للعقل والشرع من جهة، وضرورة التأكد من صدورها عن أمير المؤمنين أبي الأيتام والفقراء (عليه السلام) أو غيرها من المعصومين (عليهم السلام) قبل نسبتها إليهم من جهة أخرى، لذا ارتأينا مناقشة هذا القول وما شابه معناه من حيث الدلالة أولاً، ومن حيث السند ثانياً.. فأما من حيث الدلالة فإن هذين القولين يصنفان الناس الى صنفين: صنف قد سبق له أن شبع مادياً ولم يتألم جوعاً، أو يتأوه حاجةً ومن بعد شبعه جاع وافتقر، وصنف آخر قد تقلّب ليله هماً بالدين، وتضوّر نهاره ألماً من الجوع، ثم شبع واغتنى،. كما جعل القولان الخير متأصلاً في الصنف الأول دون الثاني، وبناءً على ذلك فإن معاشرة أفراد هذا الصنف هي المعاشرة المرغوبة والمحبوبة والتي تجرّ على صاحبها الخير والسعادة والسلام، بخلاف معاشرة أفراد الصنف الثاني التي لا تُحبَّذ ولا تُطلب؛ لأنها لا تجر إلى صاحبها سوى الحزن والندم والآلام... ولو تأملنا قليلاً في معنى هذين القولين لوجدناه مغايراً لمعايير القرآن الكريم بعيداً كل البعد عن روح الشريعة الاسلامية ، وعن المنطق القويم والعقل السليم ومخالفاً أيضاً لصريح التاريخ الصحيح، بل ومخالف حتى لما نسمعه من قصص من أرض الواقع أو ما نلمسه فيه من وقائع.. فأما مناقضته للقرآن الكريم فواضحة جداً، إذ إن الله (تعالى) قد أوضح فيه وبشكلٍ جلي ملاك التفاضل بين الناس، إذ قال (عز من قائل):" يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)"(1) جاعلاً التقوى مِلاكاً للتفاضل، فمن كان أتقى كان أفضل، ومن البديهي أن تكون معاشرته كذلك، والعكس صحيحٌ أيضاً. وعليه فإن من سبق حاجتُه وفقرُه شبعَه وغناه يكون هو الأفضل، وبالتالي تكون معاشرته هي الأفضل كذلك فيما لو كان تقياً بخلاف من شبع وكان غنياً ، ثم افتقر وجاع فإنه لن يكون الأفضل ومعاشرته لن تكون كذلك طالما كان بعيداً عن التقوى. وأما بُعده عن روح الشريعة الإسلامية فإن الشريعة لطالما أكدت على أن الله (سبحانه وتعالى) عادلٌ لا جور في ساحته ولا ظلمَ في سجيته، وبالتالي لا يمكن أن يُعقل إطلاقاً أن يجعل البعض فقيراً ويتسبب في دخالة الخير في نفوسهم، التي يترتب عليها نفور الناس من عشرتهم، فيما يُغني سواهم ويجعل الخير متأصلاً في نفوسهم بسبب إغنائه إياهم ليس إلا ومن ثم يتسبب في كون الخير متأصلاً في نفوسهم، وبالتالي حب الناس لعشرتهم. فإن ذلك مخالف لمقتضى العدل الإلهي لأنه ليس بعاجزٍ عن تركه ولا بمُكره على فعله، ولا محب لذلك لهواً وعبثاً (تعالى عن كل ذلك علواً كبيراً). كما إن تأصل الخير في نفوس بعض الناس ودخالته في نفوس البعض الآخر منهم بناءً على أمر خارج عن إرادتهم واختيارهم كـ(الغنى والشبع أو الجوع والفقر) إنما هو أمرٌ منافٍ لمنهج الشريعة المقدسة القائم على حرية الانسان في اختياره لسبيل الخير والرشاد أو سبيل الشر والفساد، قال (تعالى):" إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)"(2) بل إن الانسان أحياناً قد يكون فقيراً بسبب حب الله (تعالى) له، كما ورد في الحديث القدسي: "أن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى فلو أفقرته لأفسده ذلك و أن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر فلو أغنيته لأفسده ذلك"(3) وهل يمكن ان نتصور أن الخيرَ دخيلٌ فيمن يحبه الله (تعالى) أو إن معاشرته لا تجدي نفعا، أو تسبب الهم والألم؟! نعم، ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"اِحْذَرُوا صَوْلَةَ اَلْكَرِيمِ إِذَا جَاعَ وَ اَللَّئِيمِ إِذَا شَبِعَ"(4) ولا يقصد به الجوع والشبع المتعارف عليه لدى الناس، وإنما المراد منه: احذروا صولة الكريم إذا اُمتُهِن، واحذروا صولة اللئيم إذا أكرم، وفي هذا المعنى ورد عنه (عليه السلام) أيضاً: "احذروا سطوة الكريم إذا وضع و سورة اللئيم إذا رفع"(5) وأما العقل السليم والمنطق القويم فإنهما يقتضيان أن تتأصل صفة الخير في الإنسان لملكاتٍ حميدة يتسم بها وصفات فضيلة يتميز بها، لا أن تتأصل صفة الخير في نفسه لمجرد أنه ولد في أسرة تتمتع بالرفاهية الاقتصادية ووجد في بيئة تتنعم بالثروات المادية! وعند مراجعتنا للتاريخ الصحيح نجد أن قادة البشر وصفوة الناس إنما كان أغلبهم ينتمي الى الطبقات الفقيرة من المجتمع، فهؤلاء الأنبياء ورسل الله (صلوات الله عليهم) منهم من كان نجاراً أو خياطاً أو راعياً، ومع ذلك فقد كانوا من أطيب الناس خلقاً، وأعظمهم شرفاً، وأرفعهم منزلةً، قد تأصّل الخير في نفوسهم تأصّلاً حتى غدوا قطعة منه، فكانوا هم الخير للبشر، وهم الرحمة للعالمين. وبالنزول إلى أرض الواقع نجد أن الكثير من الفقراء والمساكين طيبي الروح، كريمي النفس، يتألمون لألم المحتاج ولربما يؤثرونه على أنفسهم رغم حاجتهم. ولا نقصد من كلامنا هذا أن الأغنياء هم على نقيض ذلك، وإنما تأكيداً على مسألة عدم ارتباط تأصل الخير في النفوس وعدمه بمستواهم الاقتصادي الذي نشأوا فيه ارتباط العلة والمعلول، فكما إن بعض الفقراء أخيار، فإن بعض الأغنياء كذلك، والعكس صحيح أيضاً. ومن هنا يُفهم من بعض الروايات ضرورة عدم طلب الخير والحاجات ممن هم أهل للخير بقطع النظر عن مستواهم المعاشي الحالي والسابق، منها ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"أشد من الموت طلب الحاجة من غير أهلها"(5)، وعنه (عليه السلام) أيضاً: "فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غير أهلها"(6) إذن فلا صحة لهاتين المقولتين من حيث الدلالة، حتى وإن تنزلنا وحملنا الجوع والشبع على المعنى المعنوي لا المادي؛ وذلك لأنه حتى من يفتقر الى الأخلاق المعنوية فإنه ما إن يتكامل بالفضائل ويقلع عن الرذائل حتى يتسم بالخير وتحسن عشرته وتطيب للناس صحبته، والعكس صحيحٌ أيضا.. ومن البديهي أن ما لا يوافق العقل والمنطق السليم، ويخالف صريح القرآن الكريم، لا يمكن أن يصدر من وصي الرسول الكريم (صلوات الله عليهما وآلهما)، وعليه لا تصح نسبة هذين القولين الى أمير المؤمنين (عليه السلام).. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الحجرات 13 (2) الانسان 3 (3) عوالي الآلي ج2 ص29 (4) غرر الحكم ج1 227 (5) المدر السابق ج1 ص246 (6) ميزان الحكمة ج4 ص 238 رضا الله غايتي

اخرى
منذ 5 سنوات
69406

بين طيبة القلب وحماقة السلوك...

خلق الله الأشياء كلها في الحياة ضمن موازين وقياسات... فالزيادة أو النقيصة تسبب المشاكل فيها. وهكذا حياتنا وأفعالنا وعواطفنا لا بد أن تكون ضمن موازين دقيقة، وليست خالية منها، فالزيادة والنقيصة تسبب لنا المشاكل. ومحور كلامنا عن الطيبة فما هي؟ الطيبة: هي من الصفات والأخلاق الحميدة، التي يمتاز صاحبها بنقاء الصدر والسريرة، وحُبّ الآخرين، والبعد عن إضمار الشر، أو الأحقاد والخبث، كما أنّ الطيبة تدفع الإنسان إلى أرقى معاني الإنسانية، وأكثرها شفافية؛ كالتسامح، والإخلاص، لكن رغم رُقي هذه الكلمة، إلا أنها إذا خرجت عن حدودها المعقولة ووصلت حد المبالغة فإنها ستعطي نتائج سلبية على صاحبها، كل شيء في الحياة يجب أن يكون موزوناً ومعتدلاً، بما في ذلك المحبة التي هي ناتجة عن طيبة الإنسان، وحسن خلقه، فيجب أن تتعامل مع الآخرين في حدود المعقول، وعندما تبغضهم كذلك وفق حدود المعقول، ولا يجوز المبالغة في كلا الأمرين، فهناك شعرة بين الطيبة وحماقة السلوك... هذه الشعرة هي (منطق العقل). الإنسان الذي يتحكم بعاطفته قليلاً، ويحكّم عقله فهذا ليس دليلاً على عدم طيبته... بالعكس... هذا طيب عاقل... عكس الطيب الأحمق... الذي لا يفكر بعاقبة أو نتيجة سلوكه ويندفع بشكل عاطفي أو يمنح ثقة لطرف معين غريب أو قريب... والمبررات التي يحاول إقناع نفسه بها عندما تقع المشاكل أنه صاحب قلب طيب. الطيبة لا تلغي دور العقل... إنما العكس هو الصحيح، فهي تحكيم العقل بالوقت المناسب واتخاذ القرار الحكيم الذي يدل على اتزان العقل، ومهما كان القرار ظاهراً يحمل القسوة أحياناً لكنه تترتب عليه فوائد مستقبلية حتمية... وأطيب ما يكون الإنسان عندما يدفع الضرر عن نفسه وعن الآخرين قبل أن ينفعهم. هل الطيبة تصلح في جميع الأوقات أم في أوقات محددة؟ الطيبة كأنها غطاء أثناء الشتاء يكون مرغوباً فيه، لكنه اثناء الصيف لا رغبة فيه أبداً.. لهذا يجب أن تكون الطيبة بحسب الظروف الموضوعية... فالطيبة حالة تعكس التأثر بالواقع لهذا يجب أن تكون الطيبة متغيرة حسب الظروف والأشخاص، قد يحدث أن تعمي الطيبة الزائدة صاحبها عن رؤيته لحقيقة مجرى الأمور، أو عدم رؤيته الحقيقة بأكملها، من باب حسن ظنه بالآخرين، واعتقاده أن جميع الناس مثله، لا يمتلكون إلا الصفاء والصدق والمحبة، ماي دفعهم بالمقابل إلى استغلاله، وخداعه في كثير من الأحيان، فمساعدة المحتاج الحقيقي تعتبر طيبة، لكن لو كان المدّعي للحاجة كاذباً فهو مستغل. لهذا علينا قبل أن نستخدم الطيبة أن نقدم عقولنا قبل عواطفنا، فالعاطفة تعتمد على الإحساس لكن العقل أقوى منها، لأنه ميزان يزن الأشياء رغم أن للقلب ألماً أشد من ألم العقل، فالقلب يكشف عن نفسه من خلال دقاته لكن العقل لا يكشف عن نفسه لأنه يحكم بصمت، فالطيبة يمكن أن تكون مقياساً لمعرفة الأقوى: العاطفة أو العقل، فالطيّب يكون قلبه ضعيفاً ترهقه الضربات في أي حدث، ويكون المرء حينها عاطفياً وليس طيباً، لكن صاحب العقل القوي يكون طيباً أكثر من كونه عاطفياً. هل الطيبة تؤذي صاحبها وتسبب عدم الاحترام لمشاعره؟ إن الطيبة المتوازنة المتفقة مع العقل لا تؤذي صاحبها لأن مفهوم طيبة القلب هو حب الخير للغير وعدم الإضرار بالغير، وعدم العمل ضد مصلحة الغير، ومسامحة من أخطأ بحقه بقدر معقول ومساعدة المحتاج ... وغيرها كثير. أما الثقة العمياء بالآخرين وعدم حساب نية المقابل وغيرها فهذه ليست طيبة، بل قد تكون -مع كامل الاحترام للجميع- غباءً أو حماقة وسلوكاً غير عقلاني ولا يمت للعقل بصلة. إن المشكلة تقع عند الإنسان الطيب عندما يرى أن الناس كلهم طيبون، ثم إذا واجهه موقف منهم أو لحق به أذى من ظلم أو استغلال لطيبته، تُغلق الدنيا في وجهه، فيبدأ وهو يرى الناس الطيبين قد رحلوا من مجتمعه، وأن الخير انعدم، وتحصل له أزمة نفسية أو يتعرض للأمراض، لأن الطيّب يقدم الإحسان للناس بكل ما يستطيع فعله، ويقدّم ذلك بحسن نية وبراءة منه، فهو بالتالي ينتظر منهم الرد بالشكر أو المعاملة باللطف على الأقل... صحيح أن المعروف لوجه الله، ولكن من باب: من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق، لذلك يتأذى عندما يصدر فعل من الشخص الذي كان يعامله بكل طيب وصدق. هل الطيبة والصدق من علامات ضعف الشخصية؟ الكثير من الناس يصف طيب القلب بأنه ضعيف الشخصية، لأنه يتصف بعدم الانتقام ممن ظلمه، والصفح عنه عند رجوعه عن الخطأ، وأنه لا يحب إيقاع الآخرين بالمشاكل؛ لأنه مقتنع أن الله سيأخذ له حقه. والحقيقة هي أن الصدق والطيبة وحسن الظن بالآخرين ليست ضعف شخصية، بل هي من الأخلاق الراقية وهي تزيد صاحبها سمواً وجمالاً روحياً، وليس من المعيب أن يمتلك الإنسان الطيبة بل العيب في من لا يُقدّر هذه الطيبة ويعطيها حقها في التعامل بالمثل. فالمشكلة الأساسية ليست في الطيبة، إنما في استغلال الآخرين لهذه الطيبة، نتيجة لعدم عقلنة قراراتنا والاعتماد على عواطفنا بشكل كلي. فالصدق والطيبة حسب المنطق والعقل، ولها فوائد جمة للنفس ولعموم أفراد المجتمع، فهي تحصين للشخص عن المعاصي، وزيادة لصلة الإنسان بربه، وتهذيب للنفس والشعور بالراحة النفسية، فالصادق الطيب ينشر المحبة بين الناس، وهذا يعزّز التماسك الاجتماعي وتقويته من سوء الظنون والحقد، وهذا التعامل أكّدت عليه جميع الشرائع السماوية، ولو تأمّلنا تاريخ وأخلاق الأنبياء والأوصياء لوجدنا كل ما هو راقٍ من الأخلاق والتعامل بالطيبة والصدق... حنان الزيرجاوي

اخرى
منذ 5 سنوات
50346

الطلاق ليس نهاية المطاف

رحلةٌ مثقلة بالألم في طريق يئن من وطأة الظلم! ينهي حياة زوجية فشلت في الوصول إلى شاطئ الأمان. ويبدد طموحات أطفال في العيش في هدوء نفسي واجتماعي تحت رعاية أبوين تجمعهم المودة والرحمة والحب. الطلاق شرعاً: هو حل رابطة الزواج لاستحالة المعاشرة بالمعروف بين الطرفين. قال تعالى: [ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)].(١). الطلاق لغوياً: من فعل طَلَق ويُقال طُلقت الزوجة "أي خرجت من عصمة الزوج وتـحررت"، يحدث الطلاق بسبب سوء تفاهم أو مشاكل متراكمة أو غياب الانسجام والحب. المرأة المطلقة ليست إنسانة فيها نقص أو خلل أخلاقي أو نفسي، بالتأكيد إنها خاضت حروباً وصرعات نفسية لا يعلم بها أحد، من أجل الحفاظ على حياتها الزوجية، ولكن لأنها طبقت شريعة الله وقررت مصير حياتها ورأت أن أساس الـحياة الزوجيـة القائم على المودة والرحـمة لا وجود له بينهما. فأصبحت موضع اتهام ومذنبة بنظر المجتمع، لذلك أصبح المـجتمع يُحكم أهواءه بدلاً من الإسلام. ترى، كم من امرأة في مجتمعنا تعاني جرّاء الحكم المطلق ذاته على أخلاقها ودينها، لا لسبب إنما لأنها قررت أن تعيش، وكم من فتاة أُجبرت قسراً على أن تتزوج من رجل لا يناسب تطلعاتها، لأن الكثير منهن يشعرن بالنقص وعدم الثقة بسبب نظرة المجتمع، وتقع المرأة المطلّقة أسيرة هذه الحالة بسبب رؤية المجتمع السلبيّة لها. وقد تلاحق بسيل من الاتهامات وتطارد بجملة من الافتراءات. وتعاني المطلقة غالباً من معاملة من حولها، وأقرب الناس لها، بالرغم من أن الطلاق هو الدواء المر الذي قد تلجأ إليه المرأة أحياناً للخلاص من الظلم الذي أصبح يؤرق حياتها الزوجية، ويهدد مستقبلها النفسي، والله تعالى لم يشرع أمراً لخلقه إلا إذا كان فيه خير عظيم لهم، والطلاق ما شرّع إلا ليكون دواء فيه شفاء وإن كان مرّاً، وإن كان أمره صعباً على النفوس، حيث قال عز وجل: "وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا"، روي عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) ((أبغض الحلال إلى الله الطلاق) (٢). ورغم أن الشريعة الإسلامية أباحت الطلاق بشروط تلاءم لبناء المجتمع، وأولت أهمية في الإحسان دائمًا للطرف الأضعف والأكثر خسارة في هذه المعادلة وهي "المرأة"، إلا أن المجتمع الذي يدّعي الإسلام لا يرحمها، ويحكم عليها بالإدانة طوال حياتها دون النظر في صحة موقفها في الطلاق من عدمه! قال( تعالى ): [الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] (٣). ولكن بعد كل هذا فالحياة لم ولن تتوقف بعد الطلاق! الطلاق ليس نهاية الحياة. - أخيتي. ليكن الطلاق بداية جديدة لحياة جديدة وللانطلاق. -قطار العطاء لن يتعطل. فإن كنت السبب في الطلاق فالحمد لله على كل حال وتلك أمة قد خلت وأيام ذهبت وانجلت فلست بالمعصومة من الخطأ. وعليك استدراك الأخطاء وتقوية مواطن الضعف في شخصيتك، واجعليها درساً مفيداً في الحياة لتطوير نفسك وتقويتها. وإذا كنتِ مظلومة فهناك جبار يُحصي الصغير والكبير وسيأتي يوم ينتصر لك فيه. -ومن الجميل أن تعطي نفسك الإحساس بالحب والاحترام، ولا تتأثري بأي نظرة سلبية من المجتمع وكون البعض يتعامل مع المطلقة على أنها حالة خاصة فعليكِ إثبات ذاتك حتى تفرضي على الكل شخصيتك. - نظرتك لنفسك اجعليها نظرة ايجابية مشرقة ولا تنزلقي في مستنقع نبذ الذات وظلم النفس. - ابحثي عن الصفات الجيدة فيك فإن ذلك سيشعرك بالثقة في ذاتك والتقدير لها. -حاولي مراجعة نفسك للخروج بإيجابيات حصلت لك من طلاقك. - خالطي الآخرين وإياك والعزلة بسبب وضعك الجديد فلست بأول من يبتلى بالطلاق. -استمتعي بالموجود ولا تتعلقي بالمفقود، حلقي بروح تعبق أملاً وتفاؤلاً، استمتعي بما وهبك الله من نعم (صحة وأولاد وأهل وصديقات وعمل وهوايات وغيرها من الأمور الجميلة) فما حصل لك حصل… ولابد أن تتقبليه برضا، وأعلمي أن ما أصابك لم يكن ليخطأك وما أخطأك لم يكن ليصيبك. وقال أصدق من قال: ( وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم). فالرضا سر السعادة الحقيقي. - اقتربي من صديقاتك الصالحات، واقضي معهن وقتاً طيباً تنسين به ألمك وحزنك. - احرصي على الصلوات وقراءة القرآن الكريم والذكر والاستغفار وأكثري من الطاعات قدر ما تستطيعين، ففيها السلوى والفرح والسعادة. ونعم سعادة القرب من الرحمن. - اشغلي نفسك بأعمال البر والإحسان بمساعدة محتاج. بكفالة يتيم. بتعلم الفقه والقرآن وتعليمه. - اجتهدي في عمل برنامج يومي لك يكون ممتلأ بكل ما هو مفيد لك. من قراءة وزيارة الأصدقاء وصلة الرحم. بحيث لا تكون هناك دقيقة أنت فارغة فيها. - وأسرعي بقاربك الجميل بمجذافين من إيمان بالله وثقة بالنفس وسوف تصلين بإذن الله نحو جزيرة السعادة والنجاح. لكي تتسلق جبال الإنجاز، وتصل لأعلى مراتب الاعجاز. وعندها جزماً سيكون للحياة معنى آخر. --------------------------------- (١)-سورة البقرة الآية (٢٢٦-٢٢٧). (٢)-الكافي (٢)-سورة البقرة الآية (٢٢٨) حنان ستار الزيرجاوي

اخرى
منذ 5 سنوات
41064

لا تقاس العقول بالأعمار!

(لا تقاس العقول بالأعمار، فكم من صغير عقله بارع، وكم من كبير عقله فارغ) قولٌ تناولته وسائل التواصل الاجتماعي بكل تقّبلٍ ورضا، ولعل ما زاد في تقبلها إياه هو نسبته الى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولكننا عند الرجوع إلى الكتب الحديثية لا نجد لهذا الحديث أثراً إطلاقاً، ولا غرابة في ذلك إذ إن أمير البلاغة والبيان (سلام الله وصلواته عليه) معروفٌ ببلاغته التي أخرست البلغاء، ومشهورٌ بفصاحته التي إعترف بها حتى الأعداء، ومعلومٌ كلامه إذ إنه فوق كلام المخلوقين قاطبةً خلا الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ودون كلام رب السماء. وأما من حيث دلالة هذه المقولة ومدى صحتها فلابد من تقديم مقدمات؛ وذلك لأن معنى العقل في المفهوم الإسلامي يختلف عما هو عليه في الثقافات الأخرى من جهةٍ، كما ينبغي التطرق الى النصوص الدينية الواردة في هذا المجال وعرضها ولو على نحو الإيجاز للتعرف إلى مدى موافقة هذه المقولة لها من عدمها من جهةٍ أخرى. معنى العقل: العقل لغة: المنع والحبس، وهو (مصدر عقلت البعير بالعقال أعقله عقلا، والعِقال: حبل يُثنَى به يد البعير إلى ركبتيه فيشد به)(1)، (وسُمِّي العَقْلُ عَقْلاً لأَنه يَعْقِل صاحبَه عن التَّوَرُّط في المَهالِك أَي يَحْبِسه)(2)؛ لذا روي عنه (صلى الله عليه وآله): "العقل عقال من الجهل"(3). وأما اصطلاحاً: فهو حسب التصور الأرضي: عبارة عن مهارات الذهن في سلامة جهازه (الوظيفي) فحسب، في حين أن التصوّر الإسلامي يتجاوز هذا المعنى الضيّق مُضيفاً إلى تلك المهارات مهارة أخرى وهي المهارة العبادية. وعليه فإن العقل يتقوّم في التصور الاسلامي من تظافر مهارتين معاً لا غنى لأحداهما عن الأخرى وهما (المهارة العقلية) و(المهارة العبادية). ولذا روي عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنه عندما سئل عن العقل قال :" العمل بطاعة الله وأن العمّال بطاعة الله هم العقلاء"(4)، كما روي عن الإمام الصادق(عليه السلام)أنه عندما سئل السؤال ذاته أجاب: "ما عُبد به الرحمن، واكتسب به الجنان. فسأله الراوي: فالذي كان في معاوية [أي ماهو؟] فقال(عليه السلام): تلك النكراء، تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل"(5) والعقل عقلان: عقل الطبع وعقل التجربة، فأما الأول أو ما يسمى بـ(الوجدان الأخلاقي) فهو مبدأ الادراك، وهو إن نَما وتطور سنح للإنسان فرصة الاستفادة من سائر المعارف التي يختزنها عن طريق الدراسة والتجربة وبالتالي يحقق الحياة الإنسانية الطيبة التي يصبو اليها، وأما إن وهن واندثر لإتباع صاحبه الأهواء النفسية والوساوس الشيطانية، فعندئذٍ لا ينتفع الانسان بعقل التجربة مهما زادت معلوماته وتضخمت بياناته، وبالتالي يُحرم من توفيق الوصول إلى الحياة المنشودة. وعقل التجربة هو ما يمكن للإنسان اكتساب العلوم والمعارف من خلاله، وما أروع تشبيه أمير البلغاء (عليه السلام) العلاقة التي تربط العقلين معاً إذ قال فيما نسب إليه: رأيت العقل عقلين فمطبوع ومسموع ولا ينفع مسموع إذ لم يك مطبــوع كما لا تنفع الشمس وضوء العين ممنوع(6) فقد شبّه (سلام الله عليه) عقل الطبع بالعين وعقل التجربة بالشمس، ومما لاشك فيه لكي تتحقق الرؤية لابد من أمرين: سلامة العين ووجود نور الشمس، وكما إن الثاني لا ينفع إن لم يتوفر الأول فكذلك عقل التجربة لا ينفع عند غياب عقل الطبع فضلاً عن موته. وبما إن عقل الطبع قد ينمو ويزدهر فينفع صاحبه من عقل التجربة، وقد يموت ويندثر عند الاستسلام لإضلال شبهةٍ أوبسبب إرتكاب معصية، فإنه ومن باب أولى أن يتعرض الى الزيادة والنقصان كما سيأتي... وقد ورد في النصوص الدينية أن للعقل زمناً ينمو فيه ويكتمل، فعن إمامنا أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه):"يثغر الصبي لسبع، ويؤمر بالصلاة لتسع، ويفرق بينهم في المضاجع لعشر، ويحتلم لأربع عشرة، وينتهى طوله لإحدى وعشرين سنة، وينتهي عقله لثمان وعشرين إلا التجارب"(7)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يربى الصبي سبعاً ويؤدب سبعاً، ويستخدم سبعاً، ومنتهى طوله في ثلاث وعشرين سنة، وعقله في خمس وثلاثين [سنة] وما كان بعد ذلك فبالتجارب"(8). إذن يتوقف النمو الطبيعي لعقل الانسان عند سن الثامنة والعشرين أو الخامسة والثلاثين كما ورد في الروايتين، وأية زيادة أخرى في طاقته بعد ذلك إنما تأتي عن طريق التجارب، وقد يُتوهم بأن ثمة تعارضاً ما بين الروايتين المتقدمتين في شأن تحديد سن النمو العقلي، إلا إنه لا تعارض ينهما إذا حملنا اختلافهما فيه على اختلاف الاشخاص وتباين استعدادات وقابليات كل منهم. وعلى الرغم من توقف نمو عقل الإنسان إلا إن له أنْ يزيده بالتجارب ومواصلة التعلم ــ كما تقدم في الروايات ــ وسواء أثبت العلم هذه الحقيقة الروائية أم لا، فنحن نريد الإشارة إلى ضرورة استمرار التجربة والتعلم لزيادة نمو العقل وهذا المقدار لا خلاف فيه وعلى الرغم من إن لعمر الانسان مدخلية في زيادة عقله كما تقدم وكما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يزيد عقل الرجل بعد الاربعين إلى خمسين وستين، ثم ينقص عقله بعد ذلك"(9)، إلا إن ذلك ليس على نحو العلة التامة، إذ يمكن للعقل أن يبقى شاباً وقوياً وإن شاب الإنسان وضعف جسمه، وتقدم في السن ووهن عظمه، فالعاقل لا يشيب عقله ولا تنتقص الشيخوخة من قوته بل وقد يزداد طاقةً وحيويةً لذا ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"رأي الشيخ أحب الي من جَلَد الغلام"(10)، وفي أخرى ".....من حيلة الشباب "(11) وأما من لم يوفر أسباب صقل عقله في مرحلة الشباب فإنه بلا شك يضمحل عقله في مرحلة الشيخوخة. وليس تقدم العمر هو العامل الوحيد في نقصان العقل بل إن النصوص الشرعية أشارت الى عوامل عديدة اخرى أهمها: أولاً: التعلم: فقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "من لم يصبر على ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبداً"(13). ثانياً: التوبة: وعنه (عليه السلام) ايضاً:"من لم يرتدع يجهل"(14) ثالثاً: التقوى: فقد كتب إمامنا الباقر (عليه السلام) إلى سعد الخير: "بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإني اوصيك بتقوى الله فإن فيها السلامة من التلف والغنيمة في المنقلب إن الله (عزوجل) يقي بالتقوى عن العبد ما عزب عنه عقله ويجلي بالتقوى عنه عماه وجهله"(15) إذن التوبة هي سبب للتوفيق الإلهي الذي يؤدي فيما يؤدي إليه من إكمال العقل. رابعاً: الوقوف عند الشبهة: وقال (عليه السلام ): "لا ورع كالوقوف عند الشبهة"(16). فإن الوقوف عند الشبهات سبب من أسباب التوفيق الإلهي بلا شك. خامساً: الاعتراف بالجهل: كما روي عن الإمام علي (عليه السلام): "غاية العقل الاعتراف بالجهل"(17) إذ الاعتراف بالجهل يدفع الإنسان دوماً إلى مزيد من بذل الجهد واكتساب المعارف. مما تقدم تتضح جلياً صحة هذه المقولة دلالةً، إذ إن العقول فعلاً لا تقاس بالأعمار لأن كلٍاً من زيادتها ونقيصتها منوطٌ بالعديد من العوامل الأخرى والتي تقدم ذكرها، بيد إن ذلك لا يبرر التساهل في نشرها والتهاون في الاستشهاد بها على إنها من أقوال أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) لعدم ثبوت ذلك سنداً من جهة ولضعف بلاغتها وركاكة تركيبها بالنسبة إلى سيد البلغاء والبلاغة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) تهذيب اللغة ج1 ص65 (2) لسان العرب ج11 ص458 (3) نهاية الحكمة ص305 (4) ميزان الحكمة ج3 ص333 (5) أصول الكافي ج1، ح3 / 11 (6) نهج السعادة ج9 ص163 (7) الكافي ج7 ص94 (8) الفقيه ج3 ص493 (9) الاختصاص ص245 (10) نهج البلاغة حكمة 86 (11) بحار الأنوار ج72 ص105 (12) المصدر السابق ج1 ص94 (13) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص118 (14) الكافي ج8 ص73 (15) وسائل الشيعة ج1 ص162 (16) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص1 بقلم الكاتبة: رضا الله غايتي

اخرى
منذ 5 سنوات
34896

أساليب في التربية

عالم الطفولة كأنه طاولة، لا تجد فيه غير طعام لذيذ، ومنظر لطيف وجديد، فعالمهم فاكهة الوجود، وخضار الأرواح، ومياه الحياة تسقي القلوب... عالم صفاء وأحلام جميلة بسيطة وتافهة ولكن بنظرهِ هو عظيمة وكبيرة، فهو العالم الذي ينطلق منه الإنسان في بداية عمره. فالطفل في بداية حياته ينظر إلى الحياة بتفكيره البريء، فالطفل يعيش بعالم خاص به مملوء بالمحبة البريئة. هذه هي الصورة الجميلة التي يحملها الطفل، وكم يتمنى كل إنسان أن يعود لطفولته البريئة ليتأمل في أرجاء عالمها الذي كان يصور له حياة مختلفة تشد الإنسان إليها بجمالها، هذا هو عالم الطفولة وهذه أحلام من يعيشها، فلا ينفذ إلى ملكوت ذلك العالم ولا يدرك كنهه إلا من عاشه وجال في ربوعه. حيث يتذوق الطفل مع أحلام طفولته هذه لذة الحياة ولذة العيش فيها، ومهما حاولنا أن نعبر عن هذه الحقيقة فلن نستطيع تصويرها بالكلمات. وبعد هذا، فإن الاهتمام بمستقبل الطفل هو في الواقع ضمان لمستقبل شعب بأسره. قال اللَّه تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا". التحريم/6 أعتنى الإسلام بتربية الأبناء عناية فائقة، وألقى على عاتق الأهل ما سيكون عليه الولد في مسلكه الدنيوي ومصيره الأخروي إن هم قصروا في تربيته وإعداده. وقد ذكر العلماء أن شخصية الولد تتأثر في نموها بعوامل ثلاثة وهي: الوراثة، والبيئة، والتربية. إذا خضنا في مضمار التربية السليمة للأبناء... فعلى الأبوين أن يكون لهما الوعي التربوي الذي يبنى على أسس صحيحة ويتوفر لديهم فهم لأساليب التربية والتوجيه والرعاية وهذه نقطة البداية. فمثلاً في أسلوب التعامل مع الطفل تبرز أمامنا ثلاثة اشكال لتعامل الآباء مع الأبناء: الشكل الأول: أسلوب الدلال المفرط وهذا الأسلوب له نتائجه السلبية الخطيرة، فإنه يخلق شخصية هشة متميعة وشخصية اتكالية تحب الكسل والخمول مجردة من الهدف والإقدام، انهزامية غير قادرة على مواجهة التحديات وبمعنى أدق شخصية لا تثق بنفسها. شخصية متسيبة في ظل غياب المراقبة والمحاسبة وهذا التسيب يقود إلى الانفلات والانحراف. الشكل الثاني: فهو أسلوب التربية القاسية والعنف. وهذا الأسلوب أيضاً له نتائجه الخطيرة والسلبية التي يعاني منها الأبناء طوال حياتهم فهو يخلق شخصية قلقة ومتأزمة ومعقدة وخائفة وتحمل عقدة الخوف، شخصية حاقدة وعدوانية وقد تتأزم الأمور لتصبح شخصية منافقة وكاذبة خوفاً من العقاب والتعنيف ضمن حدود الأسرة ولكن يوماً من الأيام سينطلق هذا الشخص ليواجه المجتمع ككل، فلنتصور كيف سيتعامل مع المحيطين ضمن مجالات الدراسة والعمل وهو شخصية هاربة من أجواء الأسرة وقد يعرضها للتسيب والانحراف لأنها شخصية متمردة مما يعرضها للعقوق. الأسلوب الثالث: التوازن. الأسلوب الصحيح يعتمد على التوازن فمن شروط نجاح التربية التوازن في المعاملة ما بين الأمور التي تحتاج إلى شدة وحزم ليتربى على أن هذه الأمور خطوط حمراء طبعاً هنا يمكن أن يعترض أحد ويقول: لا للعنف الأسري ولا لاستخدام القسوة. نعم فهناك طرق غير استخدام العنف. يكفي ان يبدي الآباء انزعاجهم مثلاً. وهنا النقطة مهمة جداً، وهي: أن نوضح لهم سبب المنع والرفض لا تعتقدوا أن أبناءكم لا يدركون ولن يفهموكم. تخصيص الوقت للنقاش مهم جداً. وما بين أسلوب المرونة والحنان والاحتواء. التوازن في المعاملة. إن الإمام زين العابدين (عليه السلام) يصرح بمسؤولية الأبوين بتربية الطفل، ويعتبر التنشئة الروحية والتنمية الخلقية لمواهب الأطفال واجباً دينياً يستوجب أجراً وثواباً من الله تعالى، وأن التقصير في ذلك يُعرّض الآباء إلى عقاب الله. فيقول (عليه السلام): (وأما حق ولدك عليك فأن تعلم أنه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره. وأنك مسؤول عما وليته به من حسن الأدب والدلالة على ربه عز وجل والمعونة له على طاعته. فأعمل في أمره عمل من يعلم أنه مثاب على الإحسان إليه معاقب على الإساءة إليه ) مكارم الأخلاق للطبرسي ص٢٣٢ حنان الزيرجاوي

اخرى
منذ 5 سنوات
32055

المرأة في فكر الإمام علي (عليه السلام)

بقلم: أم نور الهدى كان لأمير المؤمنين (عليه السلام) اهتمام خاص بالمرأة، فنراه تارة ينظر إليها كآية من آيات الخلق الإلهي، وتجلٍ من تجليات الخالق (عز وجل) فيقول: (عقول النساء في جمالهن وجمال الرجال في عقولهم). وتارة ينظر إلى كل ما موجود هو آية ومظهر من مظاهر النساء فيقول: (لا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها فإن المرأة ريحانة وليس قهرمانة). أي إن المرأة ريحانة وزهرة تعطر المجتمع بعطر الرياحين والزهور. ولقد وردت كلمة الريحان في قوله تعالى: (فأمّا إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة النعيم) والريحان هنا كل نبات طيب الريح مفردته ريحانة، فروح وريحان تعني الرحمة. فالإمام هنا وصف المرأة بأروع الأوصاف حين جعلها ريحانة بكل ما تشتمل عليه كلمة الريحان من الصفات فهي جميلة وعطرة وطيبة، أما القهرمان فهو الذي يُكلّف بأمور الخدمة والاشتغال، وبما إن الإسلام لم يكلف المرأة بأمور الخدمة والاشتغال في البيت، فما يريده الإمام هو إعفاء النساء من المشقة وعدم الزامهن بتحمل المسؤوليات فوق قدرتهن لأن ما عليهن من واجبات تكوين الأسرة وتربية الجيل يستغرق جهدهن ووقتهن، لذا ليس من حق الرجل إجبار زوجته للقيام بأعمال خارجة عن نطاق واجباتها. فالفرق الجوهري بين اعتبار المرأة ريحانة وبين اعتبارها قهرمانة هو أن الريحانة تكون، محفوظة، مصانة، تعامل برقة وتخاطب برقة، لها منزلتها وحضورها. فلا يمكن للزوج التفريط بها. أما القهرمانة فهي المرأة التي تقوم بالخدمة في المنزل وتدير شؤونه دون أن يكون لها من الزوج تلك المكانة العاطفية والاحترام والرعاية لها. علماً أن خدمتها في بيت الزوجية مما ندب إليه الشره الحنيف واعتبره جهادًا لها أثابها عليه الشيء الكثير جدًا مما ذكرته النصوص الشريفة. فمعاملة الزوج لزوجته يجب أن تكون نابعة من اعتبارها ريحانة وليس من اعتبارها خادمة تقوم بأعمال المنزل لأن المرأة خلقت للرقة والحنان. وعلى الرغم من أن المرأة مظهر من مظاهر الجمال الإلهي فإنها تستطيع كالرجل أن تنال جميع الكمالات الأخرى، وهذا لا يعني أنها لا بد أن تخوض جميع ميادين الحياة كالحرب، والأعمال الشاقة، بل أن الله تعالى جعلها مكملة للرجل، أي الرجل والمرأة أحدهما مكمل للآخر. وأخيرًا إن كلام الإمام علي (عليه السلام) كان تكريمًا للمرأة ووضعها المكانة التي وضعها الله تعالى بها، حيث لم يحملها مشقة الخدمة والعمل في المنزل واعتبر أجر ما تقوم به من اعمال في رعاية بيتها كأجر الجهاد في سبيل الله.

اخرى
منذ 5 سنوات
31625