بقلم: رضا الله غايتي لاحظتُها، وقد بان عليها امتعاضٌ شديد، حاولتْ أن تهدأ، ولكن عبثاً لم تحظَ بالقليل منه، طلبت من الأطفال الذين يلعبون بقربها أن يغادروا، علّها تظفر بشيءٍ من السكون، ولكن أبداً.. الحال نفس الحال، تنبهت إلى صوت التلفاز فبادرت لإطفائه تماماً ولكن دون جدوى.. أخيراً تنبّهت إلى مصدر الضجيج العالي الذي أحال حياتها إلى جحيم فلا تكاد تهدأ ولو لبرهة، أو تسعد ولو كانت بنزهة، بل حتى مشاهدة الطبيعة وما تحمله أزهارها من أزكى أنواع العبير، ومناظره الخلابة وزقزقة العصافير، التي كانت تأسرها سابقاً وتدخل البهجة والسرور إلى قلبها لم يعد لها معنى قليل فضلاً عن كثير.. ضجيجٌ يملأ رأسها ليل نهار، بل سياط لومٍ وتأنيبٍ تجلدها باستمرار، لمَ ألقيتِ بنفسكِ إلى التهلكة؟ لِمَ أقدمتِ على هذا الاختيار؟ تألمتُ كثيراً لها ورقَّ قلبي لحالها.. فتحدثت إليها: لا تستلمي لهذه الأصوات الموجعة وأسكتيها، فحياة الانسان لا ترسمها إلا الأفكار.. أجابت وقد أغرق الدمع عينيها: أعلمُ عزيزتي، ولكن من دون جدوى رغم أني حاولتُ إسكاتها وبكل إصرار، يبدو أن للضجيج حقًا وأن للسياط بعض أعذار.. ــ عجباً صديقتي، أحقاً ما تقولين؟! ــ نعم حبيبتي، فكلما حاولت إسكات تلك الأصوات اللوامة، حدث حادثٌ مريرٌ تعود جذوره إلى ذلك القرار.. ــ ولكن صديقتي أذكر أنكِ كنتِ حريصةً على أهم المقاييس: الدين وحسن الخلق، ولذا رميتِ بسائر المقاييس الأخرى جانباً ولم تعيري لها أدنى اهتمام.. ــ نعم أختاه، ولكني غفلت عن أن الرجال مخابر وليسوا بمظاهر، وأنْ ليس كل ما يلمع هو ذهبًا، فحصدت نتيجة غفلتي تلك أمرَّ الثمار.. ــ أجل عزيزتي، أوافقكِ في أن المظاهر خدّاعة، وليس من الصحيح التعويل عليها، فقد قرأت يوماً عن سيد الأنبياء محمد (صلى الله عليه وآله):"لا تنظروا الى كثرة صلاتهم وصومهم وكثرة الحج والمعروف وطنطنتهم بالليل ولكن انظروا الى صدق الحديث وأداء الأمانة"(1) تحسّرتْ حسرة كاد قلبي أن يتفطر لها ألماً وقالت: صدق رسول الله (صلى الله عليه وآله). وهل هناك أوضح مصداقاً للأمانة من الزوجة بيد زوجها؟ آهٍ كم أتمنى لو كنتُ قرأتُ درر الأبرار.. ــ وكأني بكِ عزيزتي تتأملين بمنتهى الأسى كتاباً مفتوحاً ترجينه لأن يعود ولو إلى سطر أو لعلها كلمة في صفحات مضت، لتحذفيها تماماً عسى أن تتغير الأقدار.. ــ نعم، هذا ما أصبو إليه صديقتي، ولا غرو في ذلك، فقد حوّلت هذه الكلمة سكة حياتي نحو الدمار.. ــ ولكنكِ تعلمين حبيبتي أن عودة تلك الصفحات من المحال. فلا تهدري حاضركِ عبثاً، ولا تملئي حياتكِ ألماً، فقد بتُّ أخشى عليكِ أن تموتي كمداً.. تسلحي بالصبر وحاولي أن تتحلي بالرضا.. ــ أختي الحبيبة، الكلام سهلٌ يسير، ولكن التنفيذ صعبٌ عسير.. حاولتُ أن أدفعها نحو الرضا، فوجدت طموحها العالي خير مخرج: نعم عزيزتي لا أشكُّ بذلك، وأنّى لي أن أشكَّ بعد أن قرأتُ ما روي عن إمامنا السجاد (عليه السلام):" الرضا بمكروه القضاء من أعلى درجات اليقين"(2). أشرق وجهها بابتسامة جميلة: الحمد لله على عظيم هديته، سأرضى إذن يا أختاه وأطلب من الله (تعالى) العون.. أسعدني تغيّرها الإيجابي فطمعت في المزيد فقلت: وتذكري يا أختاه دائماً طالما أنَّ حياتكِ لم تنتهِ فهذا يعني أن هناك المزيد من فصول قصتكِ لم تعيشيها بعد. فلا تيأسي من روح الله، وترقبي الفرج في كل آن. ولتبذلي قُصارى جهدكِ ليكون مستقبلكِ أكثر إشراقاً وبالتميّز والنجاح يزدان. واجتهدي للخاتمة التي وُعِد المتقون في الآخرة؛ فـ " إِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ"(3) .. ولأنها حبيبتي في الله لم أكتفِ بالمواساة بل وعدتها بأن لا أنساها وأذكرها في كل دعاء، وهكذا تركتها بين النظر إلى الدرجات العلا وطموحٍ عالٍ للارتقاء، وبين عيش الحاضر بأملٍ وترقب الفرج بكل رجاء، لأمسك بقلمي وأكتب كلماتٍ عسى أن تسلّي قلباً يعيش البأساء، أو تلامس ألماً فتخففه، أو تمر على جرحٍ فتسهم في الشفاء.. ـــــــــــــــــــــــــــــــ (1) أمالي الصدوق ص 238 (2) التمحيص ج1 ص59 (3) العنكبوت 64
اخرىبقلم: رضا الله غايتي للصبر قيمة كبرى في الفكر الإسلامي، فقد روي عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: "الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد "(1). فإن الرأس من بين سائر الأعضاء الظاهرية الأخرى له خصوصية بالنسبة للجسد فهو مركز قيادته وإذا ما تعرض لسوء أو شلل فإن كلّ أو جل أعضاء البدن الأخرى تتعرض لذلك أيضاً وعندئذٍ لن يكون هناك أيّ فارق بين حياتها وموتها. بل هو ضروري جداً إلى درجة أن يفقد الجسد بفقده الحياة. ولا غرو في أن يكون الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد فهو القوة التي يتمكن بواسطتها الانسان من تجسيد معتقداته بصورة عملية. وهو الذي يُمكِّن المسلم من نفخ روح محاسن الأخلاق في جسد سلوكياته اليومية. وهو الذي يترجم أصول الدين ويساعد على تطبيق فروعه وأداء مختلف التكاليف الشرعية. وعندما يُفقَد الصبر، يُفقَد معه كل شيء من التوحيد الى إماطة الأذى عن طريق المؤمنين. بل إن رسالات السماء لم تكن لتصل الينا لولاه. فهو العامل الذي صان النداء الإلهي، وحفظ التوحيد والذي سيحفظه إلى يوم القيامة. من هنا يحرص أغلب المؤمنين على أن يصبروا، إلا أن الكثير منهم يفهم الصبر فهماً سلبياً يقتصر على تحمل الآلام والمصاعب وتجرّع الأحزان والمصائب. وهو فهم غامض ومطاط الى درجة يمكن توجيهه إلى معانٍ مختلفة، بل و متضادة أحيانا. فكما يمكن للصبر أن يوظف توظيفاً ايجابياً ليفتح للشعوب باباً إلى الحرية والرخاء فكذاك يمكن أن يوظف توظيفاً سلبياً يفتح لهم باباً إلى الاستعباد والشقاء. فيتجرّعون مرارة التعاسة وذل الاستعباد بكأس الفهم المغلوط للصبر مقتنعين قناعة تامة أنهم مأجورون على ذلك ومثابون. ومما لا شك فيه أن المستفيد الأول من كل هذا هم الظالمون والمفسدون. على حين أن الصبر حسب الرؤية الدينية مفهوم نشط وفاعل، لا أنه راكد وخامل، لا يعرف الاستسلام والسلبية. بل يتضمن عنصر العمل والحركة والفاعلية. ويحطم العقبات ويرفع الموانع ويواجه المشكلات ويتجاوزها بكل سهولة محققاً النتائج الإيجابية. وبذا يكون سبيلاً لتحقيق الأهداف ومفتاحاً للفرج والتقدم والتطور لا سبباً للشقاء والتعاسة والتقهقر. إذاً فالصبر: هو مقاومة الإنسان للعقبات والعراقيل الداخلية (النفسية) والخارجية (الظروف المحيطة به) للوصول الى الهدف الذي ينشده والغاية التي يرجوها. فهو يبعث على الهمة العالية والمثابرة المتواصلة والعمل الجاد إلى جانب تحمل المشاق والنوائب ومواجهة الظروف القاسية والمتاعب في سبيل تحقيق الأهداف وبلوغ الغايات. ومن أبرز من أحسنوا الصبر على مدى التاريخ هم الكُمّل من الناس الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) ثم الأمثل فالأمثل، ومنهم سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السلام) فعلى الرغم من عمق حزنها و شدة أساها على فقد أبيها ــ فقد روي عن الامام علي (عليه السلام) أنه قال: "غسلت النبي (صلى الله عليه وآله) في قميصه فكانت فاطمة (عليها السلام) تقول: أرني القميص، فإذا شمته غشي عليها، فلما رأيت ذلك منها غيبته "(2)ــ إلا أنها صبرت صبراً فاعلاً صبراً حركياً إيجابياً شهدته الساحة الاسلامية. و لم تنزوِ في بيتها؛ لأنها لاحظت بداية الانحراف في مسار الدين الاسلامي وأيقنت إنه إذا ما تُرِك سيزداد اتساعاً بمرور الزمن لا محالة. فبادرت الى تقويمه معرضةً نفسها وحياتها إلى الخطر ولم تدخر جهدا إلا واستثمرته ولم تدع وسيلة مشروعةً إلا ووظفتها. ففضحت زيف من اغتصب الخلافة (ولعمري لولا فاطمة (عليها السلام) لم يعرف المنافقون الضالون الذين تقمصوا الخلافة الكبرى، وعموا عن نص الولاء، وأغضبوا رب العلى؛ إذ كانت (عليها السلام) ترغم أنف المعاندين بحجتها، وتفحم مغاليطهم ببراهينها، وترفع لثام النفاق عن وجوههم بخطاباتها)(3) فإن كانت السقيفة قد رفعت شعار (من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات) تمهيداً لطمس ذكره وإماتة اسمه ــ وإلا لم يذكر التاريخ أن أحداً من المسلمين كان ليفعل ذلك ــ فهي (سلام الله عليها) قد سنّت في الدين سنة كبرى وهي شدة التعلق به(صلى الله عليه وآله) وذلك بديمومة حزنها وكثرة بكائها عليه (صلى الله عليه وآله) وبذلك فقد اعترضت اعتراضاً عملياُ على نهج السقيفة. ومن مظاهر فاعليتها أن القوم عندما حضروا عند باب دارها مطالبين أمير المؤمنين (عليه السلام) بأن يبايع الخليفة الأول اقتربت من باب دارها ورفعت صوتها لِتُعلم المعتدي أن في البيت روح المصطفى التي بين جنبيه علَه يعود أدراجه حياءً من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحفظاً لحرمته. لكنها فوجِئت باقتحام الدار من قبله وأعوانه فلاذت وراء الباب رعايةً للستر والحجاب. وعصرتها حينئذٍ أحقادُهم بين الحائط والباب وغُرس المسمار في صدرها وأسقط جنينها وبالرغم من كل ما كانت تعانيه من الألم النفسي والجسدي ما إن علمت بأن القوم قد اقتادوا أمير المؤمنين (عليه السلام) حتى أسرعت لتدافع عنه، فقد روي عن الامام الصادق (عليه السلام) انه قال: "لما استخرج أمير المؤمنين (عليه السلام) من منزله، خرجت فاطمة (عليها السلام) فما بقيت هاشمية إلا خرجت معها حتى انتهت قريبا من القبر، فقالت لهم: خلوا عن ابن عمي، فو الذي بعث محمدا بالحق، لئن لم تخلوا عنه لأنشرن شعري ولأضعن قميص رسول الله (صلى الله عليه وآله) على رأسي ولأصرخن إلى الله (تبارك وتعالى)، فما صالح بأكرم على الله من أبي ولا الناقة بأكرم مني ولا الفصيل بأكرم على الله من ولدي، قال سلمان (رضي الله عنه): كنت قريبا منها فرأيت والله أساس حيطان المسجد مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) تقلعت من أسفلها، حتى لو أراد رجل أن ينفذ من تحتها لنفذ، فدنوت منها، فقلت: يا سيدتي ومولاتي، إن الله (تبارك وتعالى) بعث أباك رحمة فلا تكوني نقمة فرجعت، ورجعت الحيطان حتى سطعت الغبرة من أسفلها فدخلت في خياشيمنا "(4) ومن مظاهر تحركها أيضاً للمطالبة بالحق ورفض الباطل هي خطبتها في المسجد النبوي الشريف وما تضمنته من أدلة وبراهين وحجج دامغة لتثبت حق أميرها بالخلافة وحقها وحق بنيها بإرث أبيها (عليه وعليهم الصلاة والسلام أجمعين). وكلامها مع نساء المهاجرين والأنصار عندما عدنها في مرضها الذي استشهدت فيه. وإذا صح الحديث بأنّ الإمام علي (عليه السلام) كان يطوف بها على بيوت المهاجرين والأنصار أو جموعهم كما جاء في بعض الروايات. فكل هذا يعني أنها (عليها السلام) كانت صابرةً صبراً إيجابياً حركياً فاعلاً لا صبراً سلبياً خاملاً يتسم بالانطواء والاستسلام.. ولم تكتفِ بكل ما قدمت (سلام الله عليها) بل استمرت بالصبر الايجابي الفاعل متخذة من الدمعة شعاراً ومن الحزن دثاراً. ولم تهدأ عبرتها ولم تسكن لوعتها فأدركت السلطة الحاكمة أن دموع الزهراء (عليها السلام) قد تجاوزت معناها العاطفي المحدود الى معانٍ تتسم بالقوة والصمود ومواجهة جورهم بالثورة فتضايقت من ذلك وانزعجت انزعاجاً شديداً لا سيما أن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) قد دُفِن في بيتها المطل بابه على المسجد. وكان المسلمون عندما يؤدون زيارة قبره المقدس يسألون عن حالها وأخبارها ولا غرو في ذلك فهي البنت الوحيدة له (صلى الله عليه وآله) وهم على يقين من قربها إلى قلبه وعظم مقامها عنده. فيطلعون على عظم أساها وديمومة حزنها وكثرة بكاها ويذكرهم ذلك بما جرى عليها من ظلامات من غصب الخلافة وغصب حقها واقتحام بيتها وهتك حرمتها واسقاط جنينها.. عندئذٍ أيقنت السلطة بأنها باتت تشكل مصدر خطر عظيم عليهم وعلى خلافتهم فبادرت ـ وربما تكون قد حرضت بعض أتباعها ـ للمطالبة بإخراجها من هذا المكان الحساس جداً بالنسبة إليهم، خشية أن يتغير مجرى الأمور في غير صالحهم فيما لو استمر الحال على ما هو عليه. فادعت دعوى بعيدة كل البعد عن الصحة وهي أن بكاءها يؤذي أهل المدينة!! فبنى لها أمير المؤمنين (عليه السلام) بيتاً للأحزان تذهب إليه نهاراً وتغادره ليلاً. ولو كانت دعواهم تتمتع ولو بنسبةٍ من الصحة لكان الأجدر بها أن تذهب إليه ليلاً لأن بكاءها (عليها السلام) في الليل بلا شك أكثر إزعاجا للناس من النهار إذ إن الليل وقت السكون والراحة بخلاف النهار الذي يتفرق فيه الناس إلى متابعة أعمالهم وقضاء حوائجهم. هذا فضلاً عن أنها أجل وأعظم من أن تؤذي أهل المدينة ببكائها وهي من روى عنها الإمام الحسين (عليه السلام): "رأيت أمي فاطمة عليها السلام قامت في محرابها ليلة جمعتها فلم تزل راكعة ساجدة حتى اتضح عمود الصبح وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتسميهم وتكثر الدعاء لهم ولا تدعو لنفسها بشيء، فقلت لها يا أماه لم لا تدعون لنفسك كما تدعون لغيرك؟ فقالت يا بني: الجار ثم الدار"(5) فعلى الرغم مما ألمَّ بها من مصائب شديدة ونوائب عظيمة غير أنها لم تستسلم بل كانت تستجمع قواها مرةً بعد أخرى لتصون الدين من الانحراف وتدافع عن الولاية وتحافظ على إمام زمانها (عليه السلام) بصبرها الايجابي الفاعل الحركي حتى آخر لحظات حياتها المباركة. بل وحتى بعد استشهادها وإلى يومنا الحاضر حيث أوصت أن تُدفَن سراً لتكون بذلك فيصلاً بين الحق والباطل على مر العصور وتعاقب الدهور وبذلك حققت هدفها في حفظ الشريعة من الانحراف لأنها إذ لم تتمكن من تنحية الغاصبين فقد جردت نهجهم من الشرعية للعالم أجمعين. وميّزت للقاصي والداني من استحق رضا الله تعالى ممن استحق غضبه إلى يوم الدين. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) أصول الكافي ج12 ص436 (2) بحار الأنوار ج43 ص157 (3) فاطمة بهجة المصطفى ج1 ص40 (4) بحار الانوار ج28 ص206 (5) علل الشرائع ج1 ص182
اخرىبقلم: رضا الله غايتي تقدم أن عدم استجابة الدعاء يعود إلى جملة من الأسباب هي: القسم الأول: أسباب تتعلق بنفس الدعاء وتفصيله التالي: أولًا: الدعاء المناقض للقوانين الكونية أو الشرعية: شاءت الحكمة الإلهية أن تحكم الإنسان قوانين كونية وأخرى تشريعية، وعليه فلابد أن يعي الإنسان ذلك ويحرص على أن لا يتجاوزها، فإن هو دعا فلابد أن يكون دعاؤه ضمن دائرتها وإلا فلا يستجاب. وعليه فإن الدعاء –مثلًا- لأجل الخلود في الدنيا، والدعاء لأجل قطع رحم، وما شابه ذلك لا يمكن أن يستجاب. روي عن الإمام علي (عليه السلام) وقد سمع رجلا يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الفتنة" قال: "أراك تتعوذ من مالك وولدك، يقول الله تعالى: "إنما أموالكم وأولادكم فتنة" ولكن قل: اللهم إني أعوذ بك من مضلات الفتن" (1). وعن الإمام الصادق (عليه السلام) لما سئل عن قوله تعالى: "ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضهم على بعض" قال: "لا يتمنى الرجل امرأة الرجل ولا ابنته، ولكن يتمنى مثلها" (2) ثانيًا: دعاء الحبيب على حبيبه فقد روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): "سألت الله أن لا يستجيب دعاء حبيب على حبيبه" (3). قد يدفع الغضب أحيانًا لأن يدعو حبيبٌ ما على حبيبه، ولو كان هادئاً لما فعل، فإن تحققت الإجابة فقد يكون هو أول المتألمين عليه، هنا تتجلى أهمية سؤاله (صلى الله عليه وآله) ليجسد مدى رأفته ورحمته (صلى الله عليه وآله) بعموم الناس، كيف لا؟! وهو الرحمة المهداة منه تعالى للعالمين أجمع؟! ورب سائلٍ يسأل: كيف يمكن التوفيق بين الرواية السالفة الذكر وبين ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام): "ثلاث دعوات لا يحجبن عن الله تعالى: دعاء الوالد لولده إذا بره، ودعوته عليه إذا عقه، ......." (4)؟ ألا يبقى الولد حبيب والده حتى وإن عقّه كما هو المعلوم؟ في مقام الإجابة نقول: قد تقدم أن هناك شرطًا مجموعيًا يمثل العلة التامة لإجابة الدعاء، فإن تحقق استجيب الدعاء وإلا فلا. والروايتان المذكورتان كلاهما قد وردت على نحو المقتضي لا العلة التامة، بمعنى أنهما تتوقفان على مقتضيات الحكمة الإلهية في الإجابة أو عدمها، فإن شاءت حكمة الله أجيب الدعاء وإلا فلا. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) أمالي الطوسي ج2 ص193 (2) تفسير العياشي ج 1 ص 239 (3) ميزان الحكمة ج3 ص205 نقلاً عن البحار ج90 ص378 (4) أمالي الطوسي ج 1 ص 287
اخرىبقلم: رضا الله غايتي تقدم أن عدم استجابة الدعاء يعود إلى جملة من الأسباب، ووصلنا إلى: القسم الثاني: عدم تحقق شرائط الدعاء وآدابه. للدعاء شرائط وآداب تزيد النفس تهذيبًا والقلب نورانيةً لا بدّ من مراعاتها لتترتب عليه الاستجابة المرجوة منه إن شاءت حكمته (جل وعلا) ذلك. فقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: "احفظ آداب الدعاء... فإن لم تأت بشرط الدعاء فلا تنتظر الإجابة... وأعلم أنه لو لم يكن الله أمرنا بالدعاء لكنا إذا أخلصنا الدعاء تفضل علينا بالإجابة، فكيف وقد ضمن ذلك لمن أتى بشرائط الدعاء" (1). والشروط هي: الشرط الأول: معرفة الله سبحانه، والثقة باستجابته، واليأس من الناس. يشترط لإجابة الدعاء معرفة العبد بالله سبحانه وبصفاته وبرحمته اللامتناهية وقدرته اللا محدودة، لذا روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): قال الله (عز وجل): من سألني وهو يعلم أني أضر وأنفع استجبت له" (2). كما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) -وقد سأله قومه-: ندعو فلا يستجاب لنا؟! قال: "لأنكم تدعون من لا تعرفونه" (3). فإذا عرف العبد ربه بصفاته الجميلة وسماته الجليلة، امتلأ صدره بحسن الظن به، وهو أدبٌ مهم من آداب الدعاء، فقد روي عنه (عليه السلام) في قوله "فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي" قال: "يعلمون أني أقدر على أن أعطيهم ما يسألوني" (4). وعنه (عليه السلام) أيضًا: "إذا دعوت فظن حاجتك بالباب" (5). بالإضافة إلى حسن الظن بالله تعالى، فإن اليأس من الناس مما حثت عليه الروايات. فقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام): " إذا أراد أحدكم أن لا يسأل ربه شيئا إلا أعطاه فلييأس من الناس كلهم، ولا يكون له رجاء إلا عند الله، فإذا علم الله (عزو جل) ذلك من قلبه لم يسأل الله شيئاً إلا أعطاه" (6). الشرط الثاني: الرغبة الصادقة والطلب الجِدّي: فلا بد أن ينبثق دعاء الإنسان من أعماقه وبصورة جدية، تترجم ملامحه مدى احتياجه لتحقق مطلبه، ويستشعر نبض قلبه أهمية مراده وافتقاره إليه. ومن هنا كان البونُ شاسعًا بين الدعاء الحقيقي وبين مجرد تلاوته، إذ الدعاء يعبر عن الحاجة الحقيقية، وهذا ما لا تعبر عنه مجرد القراءة. وقد أكّد الإمام الصادق (عليه السلام) على هذا المعنى فيما روي عنه أنه قال: "من دعا إلى الله أربعين صباحاً بهذا العهد كان من أنصار قائمنا، فان مات قبله أخرجه الله تعالى من قبره وأعطاه بكل كلمة ألف حسنة ومحا عنه ألف سيئة" (7) إذ قال (من دعا) لا (من قرأ). الشرط الثالث: إقران الدعاء بالعمل. اقتضت حكمة الله تعالى أن يجعل لكل شيء سببًا، فمن لم يستعن بالأسباب معتمدًا على الدعاء فقد خالف السُنة الإلهية في نظام الكون. ولذا فقد روي عن أبي عبد الله الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: "أربعة لا تُستجاب لهم دعوة: رجل جالس في بيته يقول: اللهم ارزقني فيقال له: ألم آمرك بالطلب ورجل كانت له امرأة فدعا عليها فيقال له: ألم أجعل أمرها إليك ورجل كان له مال فأفسده فيقول: اللهم ارزقني، فيقال له: ألم آمرك بالاقتصاد، ألم آمرك بالإصلاح، ثم قال: " والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما"، ورجل كان له مال فأدانه بغير بينة فيقال له: ألم آمرك بالشهادة" (8). ومن الواضح أن عدم الاستجابة لا تختص بهذه الأربعة، فإنها قد ذكرت من باب المثال لا الحصر. إذ إن الدعاء لم يشرع ليحل محل العمل، بل ليكون مكملاً له. كما روي عنه (عليه السلام) أيضًا: "الداعي بلا عمل كالرامي بلا وتر" (9). الشرط الرابع: الطهارة والصدقة والذهاب إلى المسجد: من آداب الدعاء أن يكون الداعي على وضوء، روي عن مسمع قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): "يا مسمع ما يمنع أحدكم إذا دخل عليه غم من غموم الدنيا أن يتوضأ ثم يدخل مسجده فيركع ركعتين فيدعو الله فيها؟" (10). وأن يقدم صدقة قبل الدعاء، فقد روي عن أبي عبدالله عليه السلام قال: كان أبي إذا طلب الحاجة طلبها عند زوال الشمس فإذا أراد ذلك قدم شيئا فتصدق به وشم شيئا من طيب وراح إلى المسجد ودعا في حاجته بما شاء الله" (11). الشرط الخامس: البسملة وتمجيد الله تعالى وصلاة ركعتين والصلاة على النبي محمد وآله (صلى الله عليه وآله). روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) إنه قال: "لا يرد دعاء أوله بسم الله الرحمن الرحيم" (12). وعنه (صلى الله عليه وآله) أيضًا: "إن كل دعاء لا يكون قبله تمجيد فهو أبتر، وإنما التمجيد ثم الدعاء، قلت: ما أدنى ما يجزئ من التمجيد؟ قال: قل "اللهم أنت الاول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، وأنت العزيز الحكيم" (13). كما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام): "إن رجلا دخل المسجد فصلى ركعتين ثم سأل الله عز وجل، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: عجل العبد ربه، وجاء آخر فصلى ركعتين ثم أثنى على الله عز وجل وصلى على النبي [وآله] فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): سل تعط" (14). الشرط السادس: التضرع والابتهال وحضور القلب ورقته والإقرار بالذنب: تقدم أن الدعاء يمثل الافتقار الحقيقي والجد في الطلب. وعليه فمن كان قلبه لاهياً وعقله ساهياً عما يدعو به، فلا يمكن أن يكون جاداً في الطلب. لذا ورد فيما وعظ الله تعالى به عيسى (عليه السلام) أنه قال: "يا عيسى ارفق بالضعيف وارفع طرفك الكليل إلى السماء وادعني منك فإني منك قريب ولا تدعني إلا متضرعا إلي وهمك هما واحدا فإنك متى تدعني كذلك أجبك" (15). كما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام): "إن الله (عز وجل) لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساه، فإذا دعوت فأقبل بقلبك، ثم استيقن بالإجابة" (16). وعنه (عليه السلام) أيضًا: "إذا اقشعر جلدك ودمعت عيناك ووجل قلبك فدونك دونك فقد قصد قصدك" (17). ويمكن للعبد تحصيل الرقة وإحضار الدمعة باستشعار تقصيره مع ربه (جل وعلا) واستذكار ذنوبه، بل إن ذلك مما نصت على ضرورته الروايات لاستجابة الدعاء، كما روي عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: "إنما هي المدحة، ثم الثناء، ثم الاقرار بالذنب ثم المسألة، إنه والله ما خرج عبد من ذنب إلا بالإقرار" (18). الشرط السابع: التوسل بأهل البيت (عليهم السلام): روي عن أبي الحسن (عليه السلام): "إذا كان لك يا سماعة إلى الله (عز وجل) حاجة فقل: "اللهم إني أسألك بحق محمد وعلي فإن لهما عندك شأنًا من الشأن وقدرا من القدر، فبحق ذلك الشأن وبحق ذلك القدر أن تصلي على محمد وآل محمد وأن تفعل بي كذا وكذا" (19). الشرط السابع: الإسرار بالدعاء أو الاجتماع وتعميمه: قال (تعالى): "وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ"(20). وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): "دعوة في السر تعدل سبعين دعوة في العلانية" (21). وعلى الرغم من التأكيد المتقدم على الإسرار بالدعاء فإن رواياتٍ أخرى تؤكد على الاجتماع فيه، كما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام): "ما اجتمع أربعة رهط قط على أمر واحد فدعوا [الله] إلا تفرقوا عن إجابة" (22). وعنه (عليه السلام) أيضًا: "كان أبي إذا حزنه أمر جمع النساء والصبيان ثم دعا وأمنوا" (23). ويمكن الجمع بينهما: بأن يكون الإسرار أفضل عند الاعتراف بالذنب الشخصي والدعاء لغفرانه أو طلب حاجة شخصية، فيما يكون الاجتماع أفضل لأنه من شروط الإجابة. فضلاً عن أن نفس الاجتماع مطلوب في بعض الأحيان كما في صلاة الجماعة والاستسقاء مثلًا. كما حثت الروايات الداعي على شمول المؤمنين بدعائه ليكون أقرب إلى الاستجابة كما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام): "من قدم أربعين من المؤمنين ثم دعا استجيب له" (24). الشرط السابع: اختيار الأوقات المناسبة: ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: "من أدى فريضة فله عند الله دعوة مستجابة" (25). وعن الإمام الصادق (عليه السلام): "ثلاثة أوقات لا يحجب فيها الدعاء عن الله: في أثر المكتوبة، وعند نزول القطر، وظهور آية معجزة لله في أرضه" (26). كما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): "خير وقت دعوتم الله (عز وجل) فيه الأسحار، وتلا هذه الآية في قول يعقوب "سوف أستغفر لكم ربي" [و] قال: أخرهم إلى السحر"(27). الشرط السابع: الإلحاح: روي عن الإمام الباقر (عليه السلام): "إن الله (عز وجل) كره إلحاح الناس بعضهم على بعض في المسألة وأحب ذلك لنفسه" (28). وعنه (عليه السلام): "والله لا يلح عبد مؤمن على الله عز وجل في حاجته إلا قضاها له" (29). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) ميزان الحكمة ج2 ص16 (2) ثواب الأعمال ص138 (3) التوحيد ص209 (4) تفسير العياشي ج 1 ص 83 (5) شرح أصول الكافي ج19 ص96 (6) الكافي ج2 ص215 (7) مصباح الزائر ص 235 (8) الكافي ج2 ص698 (9) من لا يحضره الفقيه ص25 (10) تفسير العياشي ج 1 ص 43 (11) الكافي ج2 ص657و658 (12) الدعوات للراوندي ج52 ص131 (13) مكارم الأخلاق ص356 (14) الكافي ج2 ص667 (15) شرح أصول الكافي ج20 ص176 (16) الكافي ج2 ص651 (17) المصدر السابق ص658 (18) المصدر نفسه ص666 (19) المصدر نفسه ص763 (20) الاعراف 205 (21) الدعوات للراوندي ج18 ص7 (22) شرح أصول الكافي ج16 ص234 (23) الكافي ج2 ص669 (24) الخصال ج 2 ص 110 (25) مجالس المفيد ص 76 (26) أمالي الطوسي ج 1 ص287 (27) الكافي ج2 ص675 (28) المصدر السابق ص653 (29) شرح أصول الكافي ج16 ص193
اخرىبقلم: رضا الله غايتي اختلف علماء المسلمين في والدي الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) هل كانا على عقيدة التوحيد أو لا؟ تعتقد الإمامية بأنهما كانا موحدين، يوافقها في ذلك بعض المخالفين، مستدلين بالكتاب والسنة، منهم السيوطي، إذ قال في كتاب مسالك الحنفاء: "المسلك الثاني: أنهما أي (عبد الله وآمنة) لم يثبت عنهما شرك، بل كانا على الحنيفية دين جدهما إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام). ولكن ذهب أكثر المخالفين إلى كفرهما مستندين إلى ما روي عن أنس: أن رجلا قال: يا رسول الله أين أبي؟ قال (صلى الله عليه وآله): في النار، فلما قفى دعاه، فقال: إن أبي وأباك في النار (1)! وما روي عن أبي هريرة قال: زار النبي (صلى الله عليه وآله) قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، فقال: "استأذنت ربي في أن أستغفر لها، فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت" (2). وبالرجوع إلى كتاب الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فإن هاتين الروايتين لا يصح الاحتجاج بهما؛ لمعارضتهما الصريحة لقوله (جل شأنه): "وتقلبك في الساجدين" الشعراء (آية 219) أي إنّك يا رسول الله كنت تحت نظر الله (تعالى)طيلة مدة انتقال نطفتك المباركة من نبيّ موحد ساجد إلى ساجد آخر (3) كما إنهما تعارضان صريح السنة المطهرة أيضاً، فقد روي عنه (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «لم يزل ينقلني الله من أصلاب الطاهرين إِلى أرحام المطهرات حتى أخرجني في عالمكم هذا لم يدنسني بدنس الجاهلية» (4) ولا شك أن أقبح أدناس الجاهلية هو الشرك وعبادة الأوثان؛ لقوله تعالى: "إِنّما المشركون نَجس" (التوبة 28) كما روي عن عبدالله بن مسعود عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): "أنا دعوة أبي إبراهيم. فقلنا يا رسول الله، وكيف صرت دعوة أبيك إبراهيم؟....حتى قال: "قال إبراهيم واجنبني وبني أن نعبد الأصنام، رب إنهن أضللن كثيرًا من الناس، قال النبي (صلى الله عليه وآله): "فانتهت الدعوة إلي وإلى أخي علي لم يسجد أحد منا لصنم قط، فاتخذني الله نبياً، وعلياً وصياً" (5). كما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: نزل جبرئيل (عليه السلام) على النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: "يا محمد إن ربك يُقرئك السلام ويقول: إني قد حرمت النار على صلب أنزلك وبطن حملك وحجر كفلك، فالصلب صلب أبيك عبدالله بن عبدالمطلب والبطن الذي حملك فآمنة بنت وهب وأما حجر كفلك فحجر أبي طالب" (6). وبالإضافة إلى ذلك، فإن المصادر التاريخية الصحيحة هي الأخرى تؤكد إيمانهما، حيث تبين أن الكثير من العرب في الجاهلية كانوا موحدين ومؤمنين بالله الواحد، وأشهرهم في هذا الإيمان بنو هاشم -عبد المطلب وأبو طالب وعبد الله والد النبي-، حيث كانوا يعبدون الله عز وجل، ويجتنبون عبادة الأصنام، وينكرون ما كان أكثر العرب يعتقدون به (7)، وقد كان هؤلاء الموحدون يعبدون الله تعالى تارةً على مرأى من كفار قريش، وأخرى في مغارات الجبال. مما تقدم يتضح جليًا، أن والدي الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) كانا موحدين، وأما الروايات التي نسبت إليهما الشرك كذبًا وزورًا فهي كأخواتها من الروايات التي وضعها بعض الحاقدين لتضميد عقدة حقارتهم، وتشبيه والديه الطاهرين (عليه السلام) بآبائهم المشركين، ومحاولةً منهم لإزالة العار المطبق على أجدادهم الكافرين. ولكن ما يؤسف له أن الكثير من المسلمين يعدّون هذه الروايات الموضوعة صحيحةً، وعليها بنوا أسس عقائدهم ونظرتهم لوالدي أشرف الخلق أجمعين (صلى الله عليه وآله). ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) صحيح مسلم ج1 ص191 (2) سنن ابن ماجةج1 ص501 (3) أنظر الأمثل ج11 ص478 (4) مرآة العقول ج5 ص233 (5) الأمالي للطوسي ج1 ص430 )6) الكافي ج1 ص656 (7) انظر سيرة ابن هشام ج1 ص252،شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديدج1 ص120.
اخرىلفهم الدين الإسلامي بشكل مغلوط وطرح الشبهات حول بعض شعائره أثرٌ كبير ولا نبالغ إن قلنا: خطير؛ وذلك لأنه لا يقتصر على تشويه الفكر الإسلامي وحسب، بل يتعدّاه إلى أرض الواقع فيُريق الدماء المُكرَمة، ويستهين بالمقدسات المُسلَمة، وينتهك الأعراض المحترمة، ويبُيح الأموال المحرَمة، ويعيث في الأرض فساداً وافساداً.. ومن بين أهم تلك الشبهات: شبهة حرمة البناء على القبور ولزوم هدمه، فقد نُقل عن الشيخ عبد الله بن بليهد قاضي قضاة الوهّابيّين في الحجاز قوله: "أمّا البناء على القبور فهو ممنوع إجماعاً؛ لصحّة الأحاديث الواردة في منعه، وبهذا أفتى كثير من العلماء بوجوب هدمه، مستندين على ذلك بحديث عليّ (عليه السلام) أنّه قال لأبي الهيّاج: "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟! أن لا تدع تمثالاً إلاّ طمسته، ولا قبراً مُشرِفاً إلاّ سوّيته"(1)) (2) وقد أنتج جهلهم ثماره العفنة المتمثلة بتفجير بعض القباب المقدسة كقباب أئمة البقيع والعسكريين(عليهم السلام). ومن الملاحظ أن بليهد لم يُفتِ بمنع البناء على القبور وحسب، بل ادعى إجماع الأمة الاسلامية عليه، على حين أننا لو رجعنا إلى حكم البناء على القبور في المذاهب الأخرى نجد أنّ كُلًا من (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّة وَالْحَنَابِلَةُ [َذَهَبَ] إلَى كَرَاهَةِ الْبِنَاءِ عَلَى الْقَبْرِ فِي الْجُمْلَةِ، لِحَدِيثِ جَابِرٍ: نَهَى رَسُول اللَّهِ(صلى الله عليه وآله) أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ وَسَوَاءٌ فِي الْبِنَاءِ بِنَاءُ قُبَّةٍ أَمْ بَيْتٌ أَمْ غَيْرُهُمَا. وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَحْرُمُ لَوْ لِلزِّينَةِ، وَيُكْرَهُ لَوْ لِلإْحْكَامِ بَعْدَ الدَّفْنِ) (3)، مما يؤكد إجماع المذاهب الإسلامية على جواز البناء على القبور، ولم يحرِّمه منهم إلا مذهب الحنفية بقيد (أن يكون مبنياً لغرض التزيين فقط)، فأين الإجماع على المنع المدّعى من قبل الوهابية؟! ثم إن الحديث الذي أورده بليهد للاستدلال به على المنع لا ينهض لذلك لعدة وجوه: الأوّل: لاضطرابه متناً وسنداً الذي يُسقطه عن الحجية والاعتبار، فهو تارة يُذكر عن أبي الهيّاج أنّه قال: "قال لي عليٌّ" كما في رواية أحمد عن عبد الرحمن (4)، وتارة يذكر عن أبي وائل، أنّ عليّاً قال لأبي الهيّاج (5)، فيما رواه عبدالله بن أحمد في (مسند عليّ): "لأَبعثنّك في ما بعثني فيه رسول الله(صلى الله عليه وآله)، أنْ أُسوّي كلَّ قبر، وأنْ أطمسَ كلَّ صنم"(6). الثاني: وعلى فرض صحة هذا الحديث، فإنّه يمكن القول: إن المقصود من تلك القبور التي أمرَ الامام عليٌّ (عليه السلام) بتسويتها، لم تكن إلاّ قبوراً كانت تُتّخذ قِبلةً عند بعض أهل الملل الباطلة، وتقام عليها صور الموتى وتماثيلهم، فيعبدونها من دون الله، وما يؤكد هذا المعنى عبارة (لا تدع تمثالاً إلاّ طمسته)، ومن المعلوم أن لا تماثيل تُقام عند قبور المسلمين، بالإضافة إلى ذلك لو كان المقصود بها عموم قبور المسلمين لما ترك الامام (عليه السلام) قبراً منها مشيّداً خصوصاً عندما أصبح الحاكم المطلق على بلاد المسلمين، إذ هل يُعقل أنه (عليه السلام) يأمر أبا الهيّاج بالحقّ ولا يفعله؟! الثالث: من المعلوم في اللغة أنّ تسوية الشيء من دون ذِكر القرين المساوي معه، يُقصد به جَعْلُ الشيء متساوياً في نفسه، وعليه فليس المقصود بتسوية القبر في الحديث جعله متساوياً مع الأرض كما يدّعون، بل بمعنى جعله متساوياً في نفسه، ولو كان المراد منه المعنى الذي إليه يذهبون لقال: إلاّ سوّيته مع الأرض. الرابع: جرت سيرة المسلمين على جواز البناء على القبور، وأجلى مصاديق ذلك قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) الواقع في مسجده الشريف، والكاشف عن أنّ المسلمين ومنذ زمنه (صلى الله عليه وآله) لم يكونوا يرون مانعًا أو محذورًا في البناء على القبور، ولو كان هناك محذور شرعي منه لَأَوْصَى (صلى الله عليه وآله) بعدم دفنه فيه، أو لما دفنه الإمام علي (عليه السلام) فيه، أو لاعترض عليه الصحابة عند قيامه بذلك. مما تقدم يتضح جلياً جواز البناء على القبور شرعاً، وأما ما يقوم به الوهابيون من تفجيرٍ للقباب وتهديمٍ للقبور إنما هو عملٌ إرهابيٌ حاقدٌ لا يمتُّ إلى الإسلام بصلة.. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1)صحيح مسلم ج2 ص666 (2)جريدة(أُمّ القرى/العدد 69/بتاريخ 17شوال1344هـ). (3)الموسوعة الفقهية الكويتية:ج 32ص250 (4)مسند أحمدج1ص96 (5)مسند أحمدج1 ص129 (6) مسند أحمد ج1ص111وفي ص89:"أبعثك في ما..." رضا الله غايتي
اخرىبقلم: رضا الله غايتي تعد وسائل الإعلام من أهم الروافد الرئيسية المغذية لرؤى الجماهير وأفكارها، والعامل المؤثر في تحديد أولوياتها وأهدافها، والموجّه في غرس عاداتها بل والمساهم في رسم نمط حياتها. فهي تقوم باجتثاث أصول معرفية قائمة واستبدالها بأخرى، وهدم قيمٍ معتدٍ بها وبناء قيمٍ أخرى. من خلال ما تعرضه من الأخبار أو البرامج أو الدراما والمسلسلات والأفلام، بل حتى البرامج الفكاهية؛ وذلك لأن محتوى كل ذلك لا يخلو من رسالةٍ يستهدف القائمون على تلك الوسائل إيصالها إلى المتلقّي. وبما أن المرأة أكثر من الرجل متابعةً لوسائل الإعلام عادةً؛ فهي الأكثر عرضةً للتأثر بما تبثه تلك الوسائل من رسائل، سلبيةً كانت أو إيجابية. ولعل من أخطر الرسائل التي أثرت على المرأة بشكلٍ خاص والمجتمع بشكلٍ عام والتي كثيراً ما تؤكد عليها أغلب وسائل الإعلام إلا ما ندر هي: الدعوة إلى التفلُّت من الدين والأخلاق النبيلة والاستخفاف بالعفاف والقيم الجليلة بدعوى التحرر من القيود! فأُتخِمت البرامج بمفاهيم وأحكام خاطئة عن الحريات، وسُوِّقت في الأفلام والمسلسلات عبر مشاهد فاضحة وصور وإيحاءات تشير إلى ذلك بصورة واضحة. وفي الوقت الذي يدعو فيه القائمون على وسائل الإعلام تلك إلى تحرير المرأة، فإنهم يستعبدونها بشكلٍ صريح وفي وضح النهار! فهم يستعبدونها تحقيقاً لشهواتهم عندما يحثونها على التبرج للجميع ــ وكأنها مملوكة لهم ــ والتخلي عن حيائها الفطري. هم استعبدوها عندما يُشبعون ميولهم وميول الرجال في التمتع بالنظر إلى مفاتنها دونما أيِّ مسوِّغ شرعي، ويستعبدونها تحقيقاً لأرباحهم عندما يسوّقون بضائعهم في الإعلانات مستخدمين جسدها المُغري، ويستعبدونها حفاظاً على تقدمهم الفكري عندما يصورونها بصورة المرأة العاشقة التي لا هدف لها في الحياة سوى الفوز بقلب رجلٍ ما والتفاني من أجله، وعندما يغرسون فيها أن كل قيمتها تكمن في جاذبية جسدها المثير، فإن تحقق فلا أهمية بعدئذٍ للسعي والاجتهاد وصولاً إلى عقل منير. ولا ندّعي تأثير الإعلام برسائله المفسدة هذه على جميع النساء؛ وذلك لأن التأثر بالإعلام يختلف في مداه بين الأفراد بحسب الظروف الخارجية التي يخضعون لها والظروف النفسية التي يمرون بها والأهم من هذا وذاك مدى قابليتهم للانفعال والتأثر به. فضلاً عن طبيعة المحتوى المقدم ومدى إقناعه وجاذبيته والوسيلة التي يتم إيصاله عبرها. وهو أمرٌ مطمئنٌ لو تميّزت الجماهير بالوعي اللازم. إلا أن ما يقلق حقاً هو أن أغلب شعوبنا العربية قد أثبتت وبشكل عام أنها شعوب استهلاكية بامتياز، لا للبضائع المادية فحسب، بل و حتى للأفكار المعلبة والثقافات المستوردة. و أدل دليل على ذلك الحال الذي أصبح عليه أغلب المسلمين اليوم. لذا نجد الكثير من النساء قد تأثرن بتلك الرسائل سلباً، فخالف بعضهن الأحكام الشرعية أو تمردن على التقاليد الصحيحة. واقتصرت أهداف بعضهن على الفوز بقلب رجلٍ يملأ حياتها سعادة فارتكبت ما قد تشربت به من أدوار ومشاهد، فخانت صديقتها وكذبت على أهلها والتقته سراً، لتنتهي قصة البعض منهن بفاجعة مريعة.. وخلت محفظات نقود بعضهن نتيجة توجه بوصلة أهدافهن نحو الجسم المنحوت والشفاه الممتلئة ووو. فيما تراجعت الثقة بالنفس لدى أخريات لعدم استطاعتهن الحصول على خدود منتفخة أو بطون خاوية.. فإن كانت الحال على هذه الدرجة من الخطورة في الوقت الحاضر، فكيف يا ترى يكون المستقبل؟ لاسيما أن أغلب وسائل الإعلام متوجهة نحو تغريب المجتمعات وتذويب الهويات وأمركة الثقافات. من هنا، لا بد أن يدق رجال الدين والمثقفين عموماً -لا سيما النساء الواعيات المؤمنات خصوصاً- أجراس الخطر للفت الأنظار إلى هذه الرسائل السقيمة، وتوضيح آثارها الوخيمة، وتنبيه المربين إليها وتوعية النساء إلى سوء عواقبها وتحذير المراهقات من الوقوع في شراكها. بالإضافة إلى ضرورة تسليط الأضواء على القدوات من النساء من سيدتهن الزهراء (سلام الله عليها) إلى من هن على خطها المبارك من النساء المعاصرات. وتقديم سيرهن بقراءات حديثة تلبي طموح النساء وتلامس مشاعر الفتيات وتستنهض فيهن الغيرة على الدين والعفة والحرص على كسب العلم والتحلي بالفضائل وبكل همة. فضلاً عن ضرورة تكاتف وسائل الإعلام الدينية لتقديم البدائل عن المحظورات من أفلام وبرامج ومسلسلات، وهو ما قدمته وتسعى إليه ــ أيدها الله ــ بعض القنوات. ولكن نأمل المزيد منها كماً ونوعاً لتستغني به شرائح المجتمع عن مواد الإعلام الفاسد..
اخرىبقلم: رضا الله غايتي رأيته مغبر المظهر رثَّ اللباس أشعث الشعر، قد طمس الحزن ملامحه، وغيّم الأسى على هيأته، حاملاً فأسه يضرب به على جدران ذلك القصر الجميل بكل قوته، وكأنه يريد أن ينتقم منه! شككت في كونه الشخص الذي أعرفه، أمعنت النظر وإذا به هو.. رباه ماذا يفعل؟ وما الذي حمله على ذلك؟ أوليسَ هو الذي خلّفتُهُ بالأمس القريب وهو أحرص الناس على أن يملك أفخم قصرٍ وفي أروع منظرٍ وأرقى مظهرٍ؟! عجباً ها قد تحقق ما كان يتمنى، فما باله اليوم يروم هدمه؟! رفعت صوتي لأُسمِعه؛ لأنه على ما يبدو مشغولاً بهمٍّ قد أصمَّ أذنيه وشلَّ ذهنه، وكأن كل ما يشغله هو التفاني لنوال شيء، لكنه يعجز عنه. ناديته: أن يا فلان ما الذي تصنع؟ أتهدم ما كنتَ بالأمس تتمنى؟ وتحطم بيديك ما كنت تبني؟ فأجابني بكلمات تصطبغ بالندم وبنبرات صوت قد مزّقتها حسرات الألم: نعم.. سألته بتعجب: ولماذا؟! أجاب: قد كنت أرى هذا القصر كما تراه أنت الآن. وأما بعد إن أرقدني المرض في السرير، ورأيت بأمِّ عيني كم أصبحتُ ثقيلاً على أولادي الذين لم أُشعرهم يوماً بحرمان أو تقصير، وغدا كلٌّ منهم يرمي بي على الآخر ضَجراً من سماع آهاتي، متثاقلاً من قضاء حاجاتي، هارباً من تلبية طلباتي.. حينها أدركتُ مدى قبح ذلك القصرِ الذي من أجله أهلكت عمري، ومدى تفاهة أمنياتي التي في سبيل تحقيقها أفنيت حياتي.. أتعلم، بالرغم من سعة هذا القصر وجماله كان يضيق عليّ حد الاختناق، فكان يبخل عليّ بهوائه إلا النزر اليسير.. ولم يمضِ على مرضي إلا أيام حتى حُرِمت منه حيث نقلني أولادي إلى دار المسنين.. أثار كلامه عجبي وألمي معاً: أ فهل ضاق عليك هذا القصر المترامي الأطراف لتنقل إلى دار المسنين؟! أجاب بحسرة بالغةٍ: بل ضاقت صدورهم التي حشوتُها بالمال الحرام.. آهٍ.. آه.. لكم قرأت وسمعت وقيل لي: إن إطعام الأولاد المال الحرام من الرشوة والغش والمعاملات الربوية له الكثير من الآثار الوخيمة والنتائج السقيمة. لكني لم أكن آبه لكل ذلك حتى تذوقت مرارة ما كنت أطهوه بكلتا يديّ على نار جشعي وطمعي. سألته: ولكن يا صاح، إن لم يضِق عليك هذا القصر فما ذنبه لتهدمه؟! أجاب: لا يغرنّك ظاهره الجميل يا صاح، فقد تحوّلت أسسه وجدرانه إلى حطب نار عظيمة تحرقني ليل نهار.. آهٍ.. آهٍ.. لغفلتي واغتراري ببهارج الدنيا الخدّاعة.. فكم ضيّعتُ من فروض صلوات وخمس وصدقات لأتمَّ بنائي وأنعم فيه مرتاح البال، وإذا بأركانه الشاهقة وزخارفه البرّاقة تزيدني الآن اشتعالاً فوق اشتعال.. وكم سمعت أن الحقوق والأموال المغصوبة تفعل ذلك، ولكن لم أكن أصدق حتى أيقنت الآن بكل ذلك حق اليقين.. ذُهِلتُ من الصور التي رسمها بكلماته فلم أنطق ببنت شفة. وأما هو فيبدو عليه أنه قد استسلم للطريق الذي مَهدَتْه عقيدته وأفعاله، بعد أن يئس من إمكانية التخلص من أليم تبعاته، رمى بفأسه على الأرض وهمَّ بالابتعاد.. مشى خطوتين ثم التفت قائلاً بنبرة يأس: أبلغ أولادي عني السلام وارجُهم ليخففوا عني ما أنا فيه من حريق، فوالله لم أعد أحتمله الآن وأنا في أول الطريق، فكيف بي لو خُلِّدتُ فيه يا صديق؟ ارجُهم .. فلعلهم.. مع إني أعلم بأنْ قد أثملتهم ملذات الدنيا كما أثملتني من قبلُ ومن يثمل بحبها فمن الصعب أن يُفيق.. استيقظت من النوم فزعاً وصورته لا تفارق مخيلتي، وما أن أرسلت الشمس أولى أشعتها معلنةً بدء النهار لتلملم شيئاً فشيئاً بقايا الظلام، حتى أسرعت إلى قصره لأخبره بما رأيت لعله يتوب، ويمحو قبل حلول أجله ما عليه من ذنوب.. ولكن قيل لي: إنه في دار المسنين. رُحماك يا رب.. ازداد قلقي فقد أصاب جزءٌ من الرؤيا.. اتجهت صوب الدار مسرعاً خائفاً من فوات الأوان، راجياً أن يتمكن من محو تبعات العصيان، وبينما أنا أتّجه إلى سريره الذي قيل لي إنه مازال فيه نائماً حتى الآن، وإذا بي أجده جثة هامدةً، فلقد مات وحيداً فريداً في عتمة الليل وظلمة الذنوب، لم يحظَ ولو بشخصٍ واحدٍ لتوديعه من بين كل من يعرفهم من الأهل والأصحاب والجيران! فكم هو مؤلمٌ أن يعيشَ المرءُ في الحياة الدنيا مكذباً ما يسمع من أحكام شرعية من دون دليل أو بحث أو تقصي.. مشتغلاً بتلبية ما تهواه نفسه من ملذات وظلم وطغيان وتعدي، فإذا مات أيقن صدقها، ولكن يقينه حينئذٍ لا ينفع ولا يُجدي.. إذ لا مجال للعودة إلى الوراء لتصحيح ما فات، وليس أمامه سوى الهلاك والعذاب الأبدي.. إلا ما رحم ربي.
اخرىبقلم: رضا الله غايتي من الخطأ اختزال الإمامة الإلهية بالمنصب الظاهري أو بمجرد السلطة الحاكمة؛ لأن لها مقامًا أرفع ومهامًا أوسع، فهي منصب روحي ومعنوي رفيع، به يتحقق الهدف من بعثة الأنبياء وبانقطاعه يتعطل دور النبوة وبالتالي إلغاء رسالة السماء. منصب الإمامة أعلى شأنا وأرفع مرتبة من منصب النبوة، يدل على ذلك أنه (تعالى) لم يمنحه لخليله إبراهيم (عليه السلام) إلا بعد أن طوى مرحلة النبوة والرسالة واجتاز العديد من الابتلاءات التي عبر الله عنها بـ(الكلمات) في قوله: "وإذ ابتلى إبراهيمَ ربُّه بكلمات فأتمهنّ قال إني جاعلك للناس إماماً" (البقرة 124). ولم يكن النبي إبراهيم (عليه السلام) النبي الوحيد الذي جمع بين النبوة والإمامة بل إن جميع أولي العزم من الأنبياء كان لهم ذلك ،لاسيما الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) حيث أكرمه الله (تعالى) بمنصب الإمامة الربانية منذ بداية نبوّته. وبما إن انقطاع الإمامة يعني تعطيل النبوة وبالتالي تعطيل رسالة السماء ـ كما تقدم ـ فلابد أن يستمر خط الإمامة بعد النبي محمد(صلى الله عليه وآله) حيث استمر في المعصومين (عليهم السلام) من ذرّيته وسيبقى كذلك حتى قيام يوم الدين. وقد دلَ على ذلك الكثير من الأدلة الشرعية من الكتاب الكريم والسنة الشريفة.. منها قوله (تعالى): "تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ" (القدر4) ولتوضيح محل الشاهد في هذه الآية المباركة لابد من مقدمتين هامتين: الأولى: تظافرت الروايات الواردة من طرق الفريقين على أن ليلة القدر لم تُرفع بعد استشهاد الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) فقد روى عبد الرزّاق الصنعاني: "..وحدّثني يزيد بن عبدالله بن الهاد: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) سُئِل عن ليلة القدر، فقيل له: كانت مع النبيّين ثم رُفعت حين قُبضوا، أو هي في كلّ سنة؟ قال: بل هي في كلّ سنة، بل هي في كلّ سنة" (1). الثانية: ليلة القدر هي الليلة التي يقدر فيها أقدار العباد الى السنة القادمة كما روي عن الإمام الرضا(عليه السلام):"يقدر فيها ما يكون في السنة من خير أو شر أو مضرة أو منفعة أو رزق أو أجل" (2)، (والمراد بهذا التقدير إظهاره (تعالى) لملائكته مما يكون من أفعاله بما سبق به علمه وقضاؤه في الأزل، ولخواص خلقه بنفسه أو بواسطة الملائكة) (3). والسؤال الهام هنا: إن كانت ليلة القدر الى الآن مستمرة فعلى من تنزل الملائكة والروح؟ وإن كان الله (تعالى) يُطلع خواص خلقه على تقديره، فمن هو مصداق أولئك الأشخاص في زماننا هذا؟ أجابت بعض الروايات عن كلا السؤالين، منها ما روي عن أبي الحسن (عليه السلام)، قوله: "تنزل الملائكة والروح فيها" قال: تنزل الملائكة وروح القدس على إمام الزمان ويدفعون إليه ما قد كتبوه من هذه الأمور" (4)، وفي رواية أخرى قيل لأبي جعفر (عليه السلام): "تعرفون ليلة القدر؟ فقال: وكيف لا نعرف والملائكة تطوفون بنا بها" (5). ولأجل ذلك كانت ليلة القدر شاهدًا واضحاً ودليلًا ساطعًا على حقيقة الإمامة وضرورة استمرارها كما روي عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: "يا معشر الشيعة خاصموا بسورة {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} تفلحوا؛ فوالله إنّها لحجّة الله (تبارك وتعالى) على الخلق بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأنّها لسيدة دينكم وأنّها لغاية علمنا، يا معشر الشيعة خاصموا بـ" حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)" (الدخان1ـ4)، فإنّها لولاة الأمر خاصّة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)" (6). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) مصنف عبد الرزاق ج4 ص255 (2) بحار الانوار ج94 ص326 (3) شرح أصول الكافي ج10 ص11 (4) معجم أحاديث المهدي ج6 ص399 (5) بحار الانوار ج94 ص14 (6) موسوعة الإمام الجواد (ع) ج4 ص16
اخرىبقلم: رضا الله غايتي ما أن نطالع صفحات الكون حتى تدعونا الكثير من أجزائها إلى التأمل والاستغراب. فلا نجد أنفسنا إلا أن نردد سبحان الله.. سبحان الله.. وبكل إعجاب. فهناك شمسٌ قد أضاءت كل ما حولها، وتمركزت وكأنها ملكةٌ قد أحيطت بجوارٍ علمت كل منهن حدودها فلم تعتدِها. ومنهن الأرض فقد التزمت موقعها المناسب. ولو اقتربت لتحول كل ما عليها إلى رماد. ولو ابتعدت لصار كل ذلك إلى انجماد. وهناك قمرٌ قد زيّن الله تعالى به السماء. فغدا في نظر البشر آيةً للجمال ومضربًا للأمثال في البهاء. ولكن ما اقترب منه أحدٌ إلا وتغيّرت صورته في نظره إذ لم يجد فيه سوى الحجر والمدر ومسافات فارغة توحش النظر. وما الابتعاد عنه أكثر من المعتاد بالخيار الأفضل. إذ يغيب جماله وينطفأ نوره بل ويمحى من صفحة البصر.. وبذا يمكننا القول: إن كتاب الله التكويني لا نقرأ فيه قدرته جل وعلا العظيمة وهندسته سبحانه الحكيمة وحسب، بل هو كذلك محطةٌ لاستلهام الدروس والعبر. إذ إنّ هناك مسافات بين أجزائه وجب حفظها؛ ولذا أوجد الباري جل وعلا لكلٍ منها مسارًا. وهناك حدودٌ وجب عدم اختراقها وإلا لكانت العاقبة هي الدمار. فالمسافات بين أفراد المجتمع هي الأخرى مطلوب حفظها ولابد أن يضع كل فرد منهم لها اعتبار. وهذا ما يؤكده مستشارو العلاقات الاجتماعية اليوم وخبراء الاتصال. داعين كل فرد من أفراد المجتمع إلى ضرورة ترك مسافة أمان بينه وبين الآخرين إدامةً لعمر العلاقات، وصونًا لها من الصدمات. وقد أكَّد هذا المفهومَ عالِم الاتصال الإنساني (إدوارد هول) بقوله: إنَّ إدراك المسافة والمحافظة عليها مسألة مُهمة لإبقاء الودِّ والاحترام المتبادل في العلاقاتِ ما بين الأشخاص. ونفقِد علاقتَنا بالآخرينَ عندما نخطئ في احتساب تلك المسافة. وقد سبق أمير المؤمنين وسيد الموحدين الإمام علي عليه السلام كل أولئك العلماء في الدعوة إلى هذا القانون بما روي عنه أنه قال: "أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْناً مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْماً مَا وَأَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْناً مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يَوْماً مَا"(1). فهو عليه الصلاة والسلام حبيب القلوب وطبيبها وعالمٌ بمنافذ الألم ومسببات الحزن والأسى لها، فما أقسى أن يصبح الحبيب غريبًا و الصديق عدوا وما أقسى العكس أيضًا. كما أنه سلام الله عليه خبيرٌ بالعلاقات الاجتماعية وما يصلحها، عالمٌ بمداخل الشر إليها وما يفسدها. ولذا فقد دعا الانسان إلى تحرّي الاعتدال في كلٍ من المودة والبغضة، والحب والكره. فلا يُحب حبًا جمًا ولا يبغض بغضًا شديدًا وإنما يحاول أن ينتهج في حياته سبيلًا وسطيًا، يمهده بشيءٍ من الهون أي الرفق واللين والتأني فلا يكون أملس صقيلًا يودي به إلى مزالق مهلكة، ولا وعرًا خطيرًا يعرضه إلى مخاطر ومصاعب منهكة. وقد علل صلوات الله وسلامه عليه سبب دعوته إلى ذلك، إذ قد يصبح الحبيب عدوًا وقد يصير العدو حبيبًا. فكم من شخصٍ قد بولغ في محبته وآخر قد أفرِط في عداوته، ولكن ما أن عصفت رياح التجارب وادلهمت الخطوب، وهطلت أمطار المكاره واُظلِمَت الدروب، حتى بانت للبعض محاسن ولآخرين عيوب، فتغيّرت الأحوال وانقلبت المواضع وتبدّلت المحال. فأُميط اللثام عمّن حُسِب حبيبًا وبانَ مكره وعداؤه، وكُشِف الغمام عمّن حُسِب عدوًّا فجاد بدفئه وضيائه!! وأما الأسباب في تبدل الأحبة والأعداء إلى أضدادهم فمختلفة أبرزها تأثر بعضهم بالعوامل الخارجية والظروف المحيطة. فقد يغتر بمنصبٍ أو مالٍ أو شهرةٍ وما إلى ذلك من كأن يُعرف بالخير والسداد. فيتحول بين ليلةٍ وضحاها إلى مروّجٍ للشر والفساد. وقد يحصل العكس فيعقب الشقاءَ إسعادٌ. روي عنه عليه السلام: "في تقلب الاحوال علم جواهر الرجال"(2). كما قد يطرأ التغيّر على الحبيب فيعود عدوا لا لشيء، فقط لأنه قد مُنِح من الحب أكثر مما يستحق. فكما لا يصح ري النبات بالماء إلا بما يناسبه من مقدار، فإن أكثرتَ تسببّتً في ذبوله وايذائه، فكذا إن أكثرت من الحب لمن لا يستحق تكون قد تسببّت في إعراضه وجفائه. وقد يعود سبب التغير إلى الاحتكاك الدائم والتضييق على الحبيب بسبب غريزة حب التملك مما يؤدي إلى الملل والزهد به. قال بعض الحكماء: توقَّ الإفراط في المحبة فإن الإفراط فيها داعٍ إلى التقصير منها، وقال عدي بن زيد: ولا تأمنن من مبغضٍ قرب داره *** ولا من محبٍ أن يملَ فيبعدا وقد لا يكون التغيُّر حقيقيًا وإنما ظاهريًا ليس إلا. ويحدث ذلك بسبب الجهل بحقائق الآخرين الذي ينتج عنه الخطأ في التشخيص. والحكم عليهم بكونهم أحبةً تجب التضحية لأجلهم أو أعداءً لا بد من النأي عنهم من دون تمحيص. فتُرسم عنهم صورة ذهنية في غاية القبح أو في منتهى الجمال. فإن تبددت حجب الجهل بهم ادُعيَ تغير الحال! والتعبير بلفظة (هونًا ما) تعبيرٌ غايةٌ في الدقة والإتقان، ولا غرو في ذلك وقد صدرت عن أمير البلاغة والبيان. فهي تدل على الابهام المطلق إشارةً إلى أن هناك درجات متفاوتة ينبغي مراعاة ترتيب الأحبة والأعداء كلٌ في الدرجة التي يستحقها. فربّ حبيبٍ يكفي الاقتصار معه فقط على إفشاء السلام والتلطف بالكلام. ورب عدوّ ينبغي معاملته بالاحترام والتغافل عن مساوئه؛ تحرزًا من أذاه ودفعًا لمكائده. ختامًا لكي يهنأ الانسان في عيشه ويسعد بمختلف العلاقات الاجتماعية من دون آلامٍ ومنغصات. عليه أن يضع قول الإمام علي عليه السلام نصب عينيه، متقنًا وبدقةٍ: فنَّ المسافات. فلا يُلغي المسافة تمامًا ويقتحم خصوصيات الطرف الآخر ويضرب حصارًا عاطفيًا عليه بدعوى الحب لئلا يخسره فيتألم ألمًا عظيمًا. ولا يعمد إلى قطع جميع جسور التواصل فيخسر الكثير بدعوى البغض، فإن تبين خطؤه اتخذ من الندم نديمًا. بل لابد أن يمنح لكل شخص ما يستحق من المشاعر بلا مغالاة ولا تطفيف. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) نهج البلاغة حكمة رقم 268 (2) الكافي ج8 ص32
اخرىبقلم: رضا الله غايتي كان الكثير من الناس يطوفون حول الكعبة ويتمسحون بي، ولا غرو في ذلك فقد كان شهر رجب الحرام، رافعين أيديهم بالدعاء تحثهم إلى ذلك الحاجة ويحدوهم الرجاء، كنت آنف تارةً وابتهج أخرى؛ فقد كانوا خليطا من المشركين الذين يتضرعون للأصنام والقلة من المؤمنين الذين يدعون الله الواحد العلام. كم كنت أتمنى ان لا يمسني إلا موحد، وأن لا يطرق مسامعي إلا التضرع إلى الله الواحد الأحد. وبينما أنا أتأمل أمنيتي وأتخيلها على صفحة مخيلتي، إذ شعرت باقتراب تحقق ذلك الحلم الجميل. فسُرّت لذلك نفسي، وانشرحت، وما زادها سرورا وانشراحًا تلك الدعوات الصادقة المخلصة التي ملأت أركان قلبي واستقرت بروحي "يا ربِّ، إنِّي مؤمنة بك وبما جاء من عندك من رسل وكتب، وإنِّي مصدِّقة بكلام جدِّي إبراهيم وأنَّه بنى البيت العتيق، فبحقِّ الذي بنى هذا البيت وبحقِّ المولود الذي في بطني الا ما يسرت عليَّ ولادتي" (1) حينها، شعرت بدنو ناصر دين التوحيد، فسُررتُ ووددتُ أن أحتضنه لولا أنني للذراعين فاقد. وأنا بهذا الحال إذ أمرني الرب المتعال بأن أنشق، عجبًا وأنى للحجر أن ينشق! ولكني امتثلت الأمر في الحال، وكيف لا؟ ومن يفلق بحرًا من البحار، هل يُعجزه شق الجدار؟ أم كيف أتردد؟ ومن أسر قلبي واستقر في فؤادي يروم الدخول عبري وهو في أحشاء أمه التقية النقية؟! وما أن دخلتْ تلك الحرة الطاهرة، حتى أمِرتُ بالالتئام، فالتأمت، وأُمِرت الأبواب بالعصيان عن الفتح، فامتثلتْ، فكم حاولوا فتحها ولكنها -طاعةً لأمر الإله- أبتْ. ولم يمضِ وقت طويل حتى أشرقت شمس الوليد في الكعبة، وكاد سنا نور وجهه البهي يخطف بصري. وامتلأت أعماقي سكونًا وخشوعًا حين سمعته يردد ساجدًا: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأشهد أن علياً وصي محمد رسول الله، وبمحمد ختم الله النبوة، وبي تتم الوصية، وأنا أمير المؤمنين" (2) فعلمت أن المولود أميرٌ للمؤمنين، وحمدت الله حمدًا كثيرًا وشكرته شكرًا وفيرًا؛ لقرب تحقق أمنيتي، متنعمًا بنعمة وجودهما المقدس بقربي، وأنا أراهما يتنعّمان بالعناية الربانية التي أحاطتهما بهالة من التميّز، وخصّتهما دون العالمين من الأولين والآخرين بهذه الكرامة. وبعد مرور ثلاثة أيام، مرّت لشدة فرحي كلمح البصر، رأيت السيدة الطاهرة تحمل وليدها وهي تروم الخروج، فداخلني شيء من الحزن لفراقهما، الذي سرعان ما تبدد، بل تبدل إلى فرح وحبور عندما هتف هاتف: "يا فاطمة سمّيه عليًا فهو علي، والله العلي الاعلى يقول: إني شققت اسمه من اسمي، وأدّبته بأدبي، ووقفته على غامض علمي، وهو الذي يكسر الاصنام في بيتي، وهو الذي يؤذن فوق ظهر بيتي، ويقدسني ويمجدني، فطوبى لمن أحبه وأطاعه، وويل لمن عصاه وأبغضه..."(3). وهكذا أمِرتُ ثانيةً بالانشقاق، فامتثلت. لكني بقيت أحنّ إلى أمير المؤمنين عليه السلام. فينشرح صدري كلما رأيته. وتطمئن نفسي كلما سمعته. وأنا أترقبه بكل شوقٍ ليطوي سني طفولته ويكبر، كيما يحقق حلمي في إماتة الظلم، وللأصنام المقيتة يكسر، ولدين الله الاسلام ينصر.. وتمضي السنون، وتبدأ الدعوة إلى دين التوحيد. ولكنها سرعان ما جوبهت برفض عُبّاد الدنيا مظهرين عداءهم الشديد. متفنّنين في تعذيب المسلمين بالسياط والنار والحديد. حتى حلّ عام الحزن الذي خيّم فيه الحزن على الجميع، لاسيما قلب النبي الحبيب (صلى الله عليه وآله). وأيتم أميري لفقد أبيه أبي طالب، وأُيتمتُ لفقدي إياه وكل أحبتي. إذ أمر الله سبحانه المسلمين بالهجرة من مكة إلى المدينة، بعد أن عدموا الناصر والمحامي.والمعين ولكن، رغم حزني عليهم وحنيني إليهم، اللذين يزيدان يومًا فيومًا، إلا أني كنت أستشعر قرب النصر وازداد أملًا، حتى جاء ذلك اليوم الأسعد، الذي فُتحت فيه مكة المكرمة، وساد به دين الإسلام، وأضحى هو الدين الأوحد، وحُطِّمت به جميع الأصنام، وأُزيلت من على كاهلي، فتنفستُ الصعداء ورمتُ أن أشكر محطِّمها... فإذا به هو أمير المؤمنين علي (عليه السلام)! منذ ذلك اليوم، وأنا أحمل آثار الانشقاق، أُزيّن به صدري، وأقدّم به لسيدي ومولاي عظيم عرفاني وجزيل شكري، ولأثبت به للقاصي والداني منقبته على مدى الدهر، بالرغم من محاولة الأعداء طمسه بتجديد البناء تارةً وبملئه بالفضة أخرى... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) بشارة المصطفى ج3 ص12 (2) روضة الواعظين ص79 (3) الأمالي للطوسي ج2 ص298
اخرىبقلم: رضا الله غايتي أنا ريشةٌ خلقني الله تعالى بمشيئته، ولم يدع أمر تسييري بيد خلقه، تمامًا كما لم يستأثر بي، تاركًا لابتلاء الناس حصته ولاختيارهم حظه، لا ضعفًا منه سبحانه ولكن قد شاءت بذلك حكمته. فأتحرك بهدوء وسرور طالما كانت اختيارات أهل الحق تسيّرني. وأختنق ألمًا وأتمزق أسىً إذا ما رياح الظالمين والكافرين عصفت بي. تراني ملآى بالشجن ثقيلة بالحزن، لكن لم ولن أتمرد يومًا على طاعة ربي. ولذا كنت أشرق على حياته كالشمس الدافئة حينًا، فأُلوّنها بمختلف الألوان، ولا غرو في ذلك فلقد كانت اختياراته للحق ميزانا، ولكن كنت أرغم زغبي على التواري في كثير من الأحيان إذا تفجر قلب ذلك الظالم بركانًا من الحقد والطغيان. ليس تواطؤًا مني معه، وأنّى لي ذلك وأنا أبرأُ منه في كل آن. ولكن هكذا اقتضت حكمته جل وعلا الحكيم الرحمن، ألا تقف في وجه إرادة الخلق إذا شاء سوى إرادته، وبذا يغشى الليل الأرجاء والأزمان، فلا تصطبغ أغلب سني عمره الشريف إلا بالعتمة خلف القضبان. ويغيب عن مفردات أحداث حياته الأمن والسلام، ولكنهما يملآن ذلك القلب المنشرح بذكر الله الواحد الديان، فأتسمّر لأتأمّل في ردود فعله، وأتعجب لرقي رضا نفسه التي رقت فوق الزمان والمكان، فلم تعد تتألم من سلاسل أو تتظلم من طامورة غاب فيها الدليل على الليل والنهار. لتعلو سحب حب الله تعالى يؤنسها ذكره ويملأها فرحًا وحبورًا، لتفرِّغها لعبادته والاختلاء بنور وجهه، فلا أكاد أرى في ذلك الليل الدامس سوى نورٍ ساطعٍ يفوق في بهائه وجماله البدر المنير في ليلة تمامه وكماله، فتأسر قلبي هيبة جلاله، وأقف له إكبارًا واعظامًا، وأزداد عجبًا، إذ كلما زادت الأحداث حوله عتمةً وظلامًا، كلما برز نورًا وازداد سلامًا، فأزداد به كل يومٍ عشقًا وهيامًا.. لذا كان حظي من بين رفيقاتي هو الأوفر، فقد كنت ريشةً أرسم بمشيئة الله سبحانه أحداث حياةٍ، نورًا من القمر المنير هو الأنور... ذلك هو الإمام الكاظم (عليه السلام)... وتلك أنا الريشة التي تسجل أحداث قصته الخالدة... وكم كنت أود أن أكون به ألطف وعليه أرأف، ولكن لا حيلة لي فأنا مسيّرة، فقد قضت حكمة الله تعالى أن أرسم الأحداث بإرادته سبحانه وإرادة الناس لما قضى أن تكون إرادتهم في حدود سلطانه مخيّرة. وتمضي السنون، ويشاء الله أن أكون في خير الأمكنة، بطون كتبٍ تناولت سير أهل البيت عليهم السلام، تحديدًا سيرة حبيبي الإمام الكاظم (عليه السلام) الحرّ المسجون، يقلبني بكل شوق وسرور حينًا الموالون، وفي كثير من الأحيان بقلوبهم التي تملأها الأحزان والشجون، ولكم أحرقت أحرفي حرارة دموع تلك العيون، ولكني كنت أُسرُّ لأني أشُدُهم الى حب راهب من رهبان آل محمد عليه وعليهم أفضل التحايا وأزكى السلام، ولطالما كنت بلسمًا للجراحات، وأملًا لمن بلغ مشارف اليأس لشدة ما لاقى من معاناة، وقوة وصبرًا للتغلب على تقلبات الحياة.. فقد أحال ابتلاء أحدهم حياته إلى سوادِ؛ لم يبصر فيها جمالًا أو نورًا، لا، بل ولا حتى لونًا رماديا، لم يشهد قلبه سوى المواطن المخيفة، ولم تُعِد ذاكرته سوى المواقف الكئيبة، فغدت حياته بصبغة الألم والحزن مصطبغة، فهي على ذلك الحال لا تغيّر فيها بل كانت جدُّ رتيبة، لكنه ما إن طالعني حتى غاص في بحر من الأنوار، مستخرجًا لؤلؤةً من لآلئ راهب أهل البيت الأطهار، وإذا بها تقلبُ حياته رأسًا على عقب، إذ أضاءت فيها كل جانب إيجابي مغيّب، فأبصر من نعيم ربه الذي يتنعم به عجبًا وحمد الله شكرًا، أذكر أن اللؤلؤة التي أحالت ظلام حياته إلى نور، هي قوله المشهور، الذي أطلقه وهو في قعر السجون: « اللهم إنّك تعلم أنّي كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك ، اللهم وقد فعلت ، فلك الحمد »(1) وكان آخر قد أعياه كلام الناس، فقد كانت تحبط عزيمته أدنى كلمة حاقد، وتمزّق فؤاده أتفه كلمة حاسد، قد أفنى عمره في تقديم الأعذار والتبرير، وأحرق شمعة حياته محاولًا إرضاءهم ولكن الأمر جدُّ عسير، حتى عثر على درةٍ من درره (عليه السلام) فاخرة، ما إن وضعها موضع التنفيذ حتى صيّرت حياته جنة زاهرة، بالسلام والاطمئنان زاخرة؛ كانت وصيته إلى صاحبه هشام: «يَا هِشَامُ لَوْ كَانَ فِي يَدِكَ جَوْزَةٌ وَ قَالَ النَّاسُ فِي يَدِكَ لُؤْلُؤَةٌ مَا كَانَ يَنْفَعُكَ وَ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهَا جَوْزَةٌ وَ لَوْ كَانَ فِي يَدِكَ لُؤْلُؤَةٌ وَ قَالَ النَّاسُ إِنَّهَا جَوْزَةٌ مَا ضَرَّكَ وَ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهَا لُؤْلُؤَةٌ»(2) وكم من معتقد بحقٍ أو مطالبٍ به، وفقًا لشرع الله تعالى المبين، لم يكن جزاؤه سوى الظلم والجور أو السجن والتعذيب على أيدي الطغاة الظالمين، حتى كاد أن يضعف أمامهم أو يهين، أو بأيٍ من حاشيتهم يستعين، لولا أنه تذكر قول إمامه السجين حين قيل له عليه السلام وهو في الحبس: لو كتبت إلى فلان يكلّم فيك الرشيد ؟ فقال عليه السلام: «حدّثني أبي عن آبائه : أن الله عزّ وجلّ أوحى إلى داود : يا داود، إنّه ما اعتصم عبد من عبادي بأحد من خلقي دوني ... إلّا وقطعت عنه أسباب السماء ، وأسخت الأرض من تحته» (۳). فعاد إلى صموده وثباته معتصمًا بحبل الله تعالى المتين.. وكم من مظلومٍ قد اضطهِدَ، يقضي ليله مسهدًا، ونهاره مشردًا، حتى كاد أن ينهار، وأن يختار طريق اليأس من روح الله تعالى، لولا أن سمع برسالة كاظم أهل البيت الأبرار، التي بعثها إلى هارون لما طال سجنه: « إنه لن ينقضي عنّي يوم من البلاء إلّا انقضى عنك معه يوم من الرخاء حتّى نفضي جميعاً إلى يوم ليس له انقضاء يخسر فيه المبطلون» (4) تلك هي بعض جواهره التي لا يمكن أن تقيّم بقيمة أو تقدّر بثمن، قد قلبت موازين حياة من تمسك بها، إنما هي رسائل على مر الزمن، تؤكد أنما القيد الحقيقي هو قيد الفكر لا قيد الأجساد. وإنما الأغلال الواقعية هي ليست تلك التي تُفرض على الجسم بل هي أغلال الاعتقاد، هي رسائلُ تستهدف تحرير العباد، من حرٍ عاش حرًا ومات حرًا خلف قضبان السجن!! فالسلام عليك يا مولاي الإمام الكاظم أبا الحسن.. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الإرشاد ٢ : ٢٤٠ ، الفصول المهمة : ٢٢٠. (2) تحف العقول 387 (3) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤١٤. (4) البداية والنهاية ١٠ : ١٩٧
اخرى