من المنطلقات الأخلاقية الهامة في الأديان هي النصيحة، إذ شدّدت الأديان على النصح بما هو عامل من عوامل الإصلاح الاجتماعي، والتكامل البشري، إلاَّ أنها –كما هو حال جميع المنطلقات الأخلاقية- لابد أن تتأطَّر بضوابط تعصمها عن التفريط والإفراط، وتوجهها نحو الانسجام والتناسب مع القابلية عند من توجه له النصيحة، ومنها أن لا يكون الناصح غارقًا في وحل الانحياز التأكيدي. عفوًا، ما هو الانحياز التأكيدي؟ هو اختيار وتوظيف المعلومات الجديدة –أو المعلومات التي نصادفها في البحث- لخدمة وتأييد المعتقد، أو الفكرة التي نؤمن بها، أو للدفاع عن وجهة النظر الخاصة، فإن كانت المعلومات تتصادم مع التوجه، والاعتقاد، والفكرة، والمدعى ضربناها بعرض الجدار، فكأننا من الأساس داخلون للبحث بنظارة مصبوغة بصبغة الأشياء التي نؤيدها، فنراه صحيحًا وما عداه باطلًا، وحينها نذكر المؤيدات ونتغاضى عن الانحيازات اللا تأكيدية، أي المعلومات المعارضة لأفكارنا وإن كانت هي الصحيحة. وللنصح الديني حينما يتزاوج مع ممارسة الانحياز التأكيدي صورة سلبيَّة مشوهة للأصل النوراني منه، إذ أصل النصيحة الدينية هو الموضوعية وعدم الإنحياز، إذ لو كان للانحياز مدخلية فيها لكانت النفس الإنسانية أولى به، إلا أن النصح تعدى ذلك ليتموضع بشدة فلا يتوقف عندئذٍ أمام حاجز النفس، فالنفس عند المتدين أولى بالنصح المضاد من غيرها. وأيّاً كان، فالنصح الديني المشوَّه بالإنحياز التأكيدي منه ليس نقصًا في ذات النصيحة، إذ التطبيق الخاطئ لا يعيب المنطلق الأخلاقي المطلوب. المثال الشائع حول هذا الموضوع هي النصيحة الدينية الموجهة إلى النساء –ولا خصوصية-، إذ كثر ما كانت المناصحة مشبعة بخلفيات متشددة تنظر للمرأة نظرة الأثاث المنزلي، ويظهر ذلك في طرح الشواهد والمؤيدات المنحازة للفكرة التي يتقوقع عليها، بينما يغض الطرف عن الشواهد التي تعارض توجهاته، فتتبلور حينئذٍ صورة مغايرة تمامًا للمراد والمقصد الديني تجاه النصف الثاني من المجتمع. لا ندعي أن الجميع قادر على التفريق بين الانحيازين: التأكيدي واللا تأكيدي عند البحث عن الألوان المناسبة لرسم النصيحة، أو أن الجميع متمكن من النصح الموضوعي الخالص، إلا أننا لابد أن نراجع نصائحنا ونرى هل خلصت من هذه الشوائب؟ أم لا؟
اخرىمن المعلوم أن صحة النتائج تعتمد اعتماداً كبيراً على صحة المقدمات، وأن كمال النهايات وجمالها متوقف حتماً على دقة البدايات وصحتها.. ولذا فمن يرغب في بناء دار رصين يأمن بالعيش في ظله ويشعر بالراحة عند المكوث فيه، لا بد وأن يهتم اهتماماً كبيراً في أساس هذا البناء ومتانته... وكذلك الحال في كل مشروع هام... ومما لا شك فيه أن الزواج يعد من أهم مشاريع الإنسان لما يترتب عليه من آثار هامة من جهة ولصعوبة وعسر تغيير هذا المشروع أو التراجع عنه بعد الولوج فيه خصوصاً فيما لو أثمر أطفالاً من جهة أخرى ... لذا ينبغي تحري صحة جميع المقدمات ومطابقتها للشرع المقدس لا سيما مقدمات ليلة الزفاف، تلك الليلة التي يدخل فيها الإنسان إلى فصل جديد وهام جداً من فصول حياته؛ فينبغي عليه أن يستحضر كل ما من شأنه أن يجذب الخير والسعادة اليه ويبعد الشر والتعاسة عنه ولذا فقد حثت الشريعة المقدسة على جملة من المستحبات لحمدِ الله تعالى وشكره أن وفقه لذلك ولإحلال البركة وإبعاد الشياطين وطلباً للتوفيق الإلهي فيه ولسنا في صدد سرد تلك المستحبات وذكر تفاصيلها فإن لذلك كتباً مختصة بها... إلا أننا عندما نعود إلى الواقع ونشاهد أغلب ليالي الزفاف التي تقام نجد أن هناك بوناً شاسعاً بين ما تريده الشريعة وبين ما هم عليه عاكفون، حيث تجد من ضروريات الزفاف التي لابد منها الأغاني والرقص والحركات المثيرة والسفور والاختلاط المحرم والإسراف والتبذير وكلها عناصر عندما تجتمع فإنها حتماً تطبع ليلة الزفاف بطابع شيطاني، وتحيلها إلى ليلة تُغضِب الله (تعالى) وتُبعد الملائكة وتجذب الشياطين، ولعلَّ هذا الأمر من أهم الأسباب التي تؤدي إلى فشل الزواج وسوء خاتمته ولا غرو في ذلك، إذ كيف يمكن أن يبارك الله تعالى بزواج كان مناسبة لإغضابه ونفور الملائكة والصالحين منه وسبباً لإدخال السرور على أعدائه، من شياطين الجن والإنس ويحدث كل ذلك جهراً وإصراراً؟! أم كيف يوفق الزوجين وهما عاصيين له مخالفين لنظامه مبتعدين عن نهجه وأحكامه غير آبهين برضاه أو غضبه... وقد يتذرع البعض بأن ما يُنشد هو أشعار دينية وولائية (حيث تقرأ المرأة اشعاراً في مدح أهل البيت عليهم السلام بنفس الألحان الغنائية وهذا محل إشكال فإن كان معه موسيقي او دف ونحوه يضرب بكيفية تناسب مجالس اللهو كما هو الحال في محافل العرس فهو حرام قطعاً وإن لم يكن مصحوباً بالموسيقى فهو أيضاً مما لا يجوز على الأحوط والضرب على الميكروفون ونحوه بالكيفية اللهوية محل اشكال)(1). ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1)موقع سماحة السيد علي الحسيني السيستاني (أدام الله ظله). .
اخرىتحثّنا الشريعة المقدسة دائماً وأبداً بعد الإيمان بالله (تعالى) ورسوله وأوصيائه (عليهم أفضل الصلاة والسلام)على العمل الصالح، يقول القرآن الكريم: "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)" (1) كما تحفزنا على مواصلة التقدم والتطور، أي أن تكون مسيرتنا تصاعدية وبشكل دائم حتى نحقق في أنفسنا التكامل الإنساني، وتحذرنا من الوقوف عند حد معين فضلاً عن التراجع والعياذ بالله، قال تعالى: " يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) " (2) .. فطالما كان الإنسان على قيد الحياة فهو مستمر في العمل والكدح، ولذا ينبغي أن يحرص كل الحرص على أن لا يكون عمله إلا صالحاً لأنه ما إن يودّع هذه الدنيا حتى يودّع معها كل شيء سواه (العمل الصالح) فإن كان كريماً أكرمه وإن كان لئيماً آلمه. وقد شدّدت السنة النبوية الشريفة كثيراً على ضرورة التكامل والتطور فيه كما روي عنه (صلى الله عليه وآله) : " من تساوى يوماه فهو مغبون، ومن كان آخر يوميه شرّهما فهو ملعون، ومن لم ير الزيادة في نفسه فهو إلى النقصان، ومن كان إلى النقصان فالموت خير له من الحياة " (3). ولعل أول ما يتبادر إلى الذهن بعد التأمل في هذا الحديث هو: كيف لي أن أكون في تطور دائم؟ هل عليّ أن أزيد العبادات من صوم وصلاة وصدقات وما إلى ذلك يوماً فيوماً؟ وهذا قد يكون متعسراً بل هو كذلك، إذ قد نصل إلى يوم يتحتّم علينا أن نترك كل أعمالنا الحياتية ونتوجه إلى العبادة... إلا أن الله (سبحانه ) لا يمكن أن يكلفنا بما لا نطيق، قال (تعالى): " لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا " (4) .. وعليه فإن التطور لا ينحصر في البعد الكمّي، بل هناك البعد الكيفي وهو الأهم... فتارة يكون نظرنا منصبّاً على كمية العبادات، ففي الصلاة مثلاً نهتم بعدد الركعات ونحرص على أداء أكبر عدد منها، وأخرى يكون نظرنا منصبّاً على كيفية الصلاة ومدى الخشوع والإخلاص والتوجه إلى الله تعالى فيها، فنحرص على توفّر كل ذلك في صلاتنا. وقد رجّحت شريعتنا السمحاء التركيز على البعد الكيفي أولاً، فقد روي عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) : " يا أبا ذر، ركعتان مقتصدتان في تفكر خير من قيام ليلة والقلب ساه " (5). كما روي عنه (صلى الله عليه وآله) أيضاً : " من صَلَّى ركعتين ولم يحدّث فيهما نفسه بشئ من أمور الدنيا غفر الله له ذنوبه " (6). وعن الإمام الصادق (عليه السلام): " من صَلَّى ركعتين يعلم ما يقول فيهما، انصرف وليس بينه وبين الله ذنب " (7). ولا ينطبق هذا الحديث على الصلاة وحسب، بل يشمل جميع العبادات والطاعات إذ إن الاهتمام بالإتيان بها بكيفية تتوفّر على الإخلاص وجميع الشرائط أفضل بكثير من الاهتمام بالجانب الكمّي لها وهي تشكو النقص والتعثّر والرياء... ففي الحالة الاولى يكون العبد أقرب ما يكون الى الله (تعالى) ، فقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) : " سادة أهل الجنة المخلصون "(8) وقال : " طوبى لمن أخلص لله علمه وعمله وحبّه وبغضه وأخذه وتركه وكلامه وصمته "(9) وقال: " عليكم بصدق الإخلاص و حسن اليقين فإنهما أفضل عبادة المقربين " (10). وأما من انتفى الإخلاص من قلبه فلا يزداد بعبادته من الله (تعالى) إلا بُعداً لأنه يكون حينئذ مشركاً به (سبحانه) فقد روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): " إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله ؟ قال: هو الرياء "(11). ومن كل ما تقدم، يمكننا أن نتقدم ونتطور يومياً في سلّم التكامل لئلّا يتساوى يومانا فنغبن أو يكون آخرهما خيراً من أولهما فنُلعن، عن طريق تحسين الجانب الكيفي لعباداتنا، والتركيز على تحصيل الإخلاص فيها، هذا في الجانب العبادي. أما في الجانب العقدي فيمكن للمؤمن من خلال التفكر والمطالعة أن يزيد إيمانه ويقينه، وفي الجانب الخلقي فيكون من خلال تحلية النفس من الملكات الخبيثة وترسيخ الملكات الفاضلة فيها... إضافة إلى ذلك يمكننا أن نجعل كل ما نعمله عبادة إن أتينا به بنية التقرب الى الله (تعالى) وأخلصنا في نيتنا تلك.. ولعلَّ أبرز علامة على إخلاصنا أن لا نتألم إن لم يشكرنا من نحسن إليه أو يكافأنا من نعمل الخير له، أو لم يعلِّق أحد على ما نبلغ به رقمياً بكلمة (أحسنتم) وما شابه ذلك، فإننا إنْ أخلصنا نلْنا تلك الكلمة من الله تعالى فإن أقمنا على ذلك نلنا خير الدنيا والاخرة... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) النحل 97 (2) الانشقاق 6 (3) بحار الأنوارج 71، ص 173 (4) البقرة 286بحار الانوار ج74 ص82 (5) و(6)ميزان الحكمة ج5 ص260 (7)ــ(9) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص129 (8) عيون الحكم والمواعظ ص 284 (10) ميزان الحكمة ج1ص103 (11) بحار الانوار ج69 ص266
اخرىالدنيا دار اختبار وابتلاء؛ ولذا فمن الطبيعي جداً أن تعتري حياة الإنسان فيها النوائب والمصائب لغرض اختباره وابتلائه، ولإظهار ما يحمل من استعدادات للخير أو الشر من القوة إلى الفعل والخارج، ليثاب على صبره وتسليمه لقضاء الله وقدره ورضاه به وليعاقب فيما لو جزع واعترض وكفر... بيد أن الكثير من تلك النوائب والمصائب التي تصيب الإنسان إنما تصيبه بسبب ما يرتكبه من ذنوب وما يقترفه من معاصي، يؤيد ذلك قوله (تعالى) : " ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) " (1) ، وقال تعالى: " وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا "(2) . كما روي عن الإمام علي (عليه السلام): توقوا الذنوب، فما من بلية ولا نقص رزق إلا بذنب، حتى الخدش والكبوة والمصيبة، قال الله عزوجل: "وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ (30)" (3) ، وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام): " إن المؤمن ليأتي الذنب فيحرم به الرزق " (4) ، كما روي عن الإمام الرضا (عليه السلام): " كلما أحدث العباد من الذنوب ما لم يكونوا يعملون أحدث الله لهم من البلاء ما لم يكونوا يعرفون "(5). وبالتالي فإنه لا سبيل إلى الخلاص مما يعانيه الإنسان في هذه الحالة _من تعاسة وهموم وأحزان وضنك في العيش وضيق في الصدر والقلب_ إلا بالإقلاع عما تجترحه جوارحه وما تقترفه جوانحه من ذنوب. ومن الخطأ الفادح أن يبحث الإنسان وينقب عن الأسباب الخارجية التي يحلو له أن يتخذ منها سبباً لأغلب مشاكله إن لم يكن جميعها، وقد يرمي البعض سبب ذلك إلى مايتوهمونه من الحسد والعين والسحر... فتجد إن أغلب الناس يتخذون منها شمّاعة لكل ما يصيبهم فيبذلون أقصى جهودهم للتوسل بهذا الشخص أو بتلك الواسطة أملاً منهم في تغيير واقعهم نحو الأفضل، والحال أن الداء الخطير يكمن في بواطنهم وهم عنه غافلون، إذن فلابد من أن تكون أول وأهم قضية يفكر فيها الانسان ويتوجه إليها بل ويركز جهده عليها هي إصلاح نفسه ، لأن صلاح نفسه هو مفتاح سعادته ، ولذا فقد أرشدنا الله (سبحانه وتعالى) الى ضرورة مراجعة النفس وإصلاحها لكل من يحاول أن يغير واقعه الخارجي قال (تعالى) : " ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) "(6) وقد يتساءل القاريء اللبيب إن كان للإنسان أن يدفع عنه الابتلاءات التي تصيبه بسبب ذنوبه عن طريق إصلاح نفسه فكيف يمكن أن يكون إصلاح النفس سبباً في دفع الابتلاءات التي يمتحن بها الله (تعالى) عباده؟ والجواب: إن الدنيا دار ابتلاء ولابد أن يُمتَحن فيها الإنسان وعليه فإن إصلاح النفس قد يجدي نفعاً في تخفيف وطأة هذا النوع من الابتلاء بأعتبار أن لها الأثر الجسيم والمفعول العظيم في الصبر عليها والتسليم لها والرضا بها، ولولا إصلاح النفس لما رأت الصديقة الصغرى كل ما جرى في واقعة الطف جميلاً... وبالتالي فإن إصلاح النفس هو مفتاح سعادة الإنسان في الدنيا حيث يجنبه الأمراض النفسية من إكتئاب وما الى ذلك مما يفقده الأمل في الحياة، فيقدم على الانتحار معتقداً أنه الحل الناجع، كما إن إصلاح النفس هو مفتاح سعادة الانسان في الآخرة بلا ريب حيث يمكنه من الفوز برضا الرحمن والخلد في الجنان... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الروم 41 (2) طه 124 (3) ميزان الحكمة ج3 ص360و361 (4) و(5)المصدر السابق ج3 ص362 (6)الأنفال 53 .
اخرىتتحدث بعض النساء إلى الرجال الأجانب الأحاديث المطولة والتي لا ضرورة لها إطلاقاً بل وبعض الأحاديث مما تتصل بحياتهن الشخصية الخاصة من قبيل معاناتها مع زوجها مثلاً، وسرعان ما تتلقى الكلام اللطيف المنمق والملاطفة والممازحة منهم بهدف مواساتها والتخفيف عن آلامها فتقابلهم بالمثل خشية أن تكون في نظر نفسها المخادعة والعرف الفاسد (قليلة ذوق). وتأتي كل تلك الأحاديث الشخصية والملاطفات والممازحات تحت عنوان كبير وتبرير شيطاني خطير ألا وهو ( هو مثل أخي )... وتشتد الأحاديث والمعاملات انفتاحاً مع أبناء العمومة والخؤولة وأخوة الزوج والزوجة حتى تكاد تزال الحجب بينهم وبين بعض النساء للأسف الشديد لنفس الذريعة (هو مثل أخي ) ، وكم وقعت من الكوارث وحدثت من الحوادث التي اهتز لها عرش الرحمن بسبب هذا السبيل الشيطاني المزين بزينة الشيطان الخداعة والمموَه بقناع من النية الحسنة، والتي طالما أخذ بيد ضعفاء النفوس شيئاً فشيئاً إلى أن أسقطهم في وحل الفسوق والرذيلة... عزيزتي المرأة... إضافة الى الخطورة الجسيمة لهذه الأعذار الواهية التي رسمتها يد الواقع بدم ما ذُُبِح من عفة بعض النساء والرجال قربانا لشياطين الجن والانس، فإن الأحكام عندما تطلق لابد وأن تطلق على موضوعاتها فقط لا على أشباه تلك الموضوعات أو أمثالها، فلا يمكننا البتة الحكم على مسحوق الملح بأنه حلو المذاق لمجرد شبهه بمسحوق السكر! فإن البون بينهما شاسع جداً لكل ذي لب. وعليه فما أخوك في الأحكام الشرعية إلا من ولدته أمك وأبوك أو أحدهما أو كان أخوك في الرضاعة قد اجتمعت فيها جميع شروط الأخوة في الرضاع... علماً بأن الرجل الأجنبي مهما كان تقياً نقياً ومهما كانت المرأة كذلك، فلا بد لهما أن يجتنبا الاحاديث الشخصية والمزاح والملاطفة مهما تصورا أنها بريئة؛ لأنها محرمة بذاتها بقطع النظر عن مدى تأثر الشخص بها أو لا، فقد روي عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال: " ومن فاكه امرأة لا يملكها حبسه الله بكل كلمة كلّمها في الدنيا ألف عام "(1).. ولذا فقد التجأت السيدة الطاهرة مريم (سلام الله عليها) إلى الله (تعالى) فور صيرورتها في خلوة محرمة مع الملك الذي تمثل لها بهيأة رجل على الرغم من شدة عفافها وورعها وتقواها فقالت: " إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنكَ إِن كُنْتَ تَقِيّاً(18) "(2) . وأما من تبتغي الرقي والتكامل فحريٌّ بها أن لا تجتنب المحرم فقط بل وتجتنب كل ما تحتمل أنه قد يؤدي الى حرمة ولو كان مجرد احتمال ضعيف تأسياً بأمير المؤمنين (عليه السلام) فقد روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال : " وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) يسلم على النساء ، وكان يكره أن يسلم على الشابة منهن ويقول : أتخوف أن يعجبني صوتها ، فيدخل عليّ أكثر مما أطلب من الاجر "(3) . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) وسائل الشيعة حديث رقم 25418 (2) مريم 18 (3) حلية الأبرار ج1 ص203
اخرى"مريم" فتاة احب الحياة و الحرية والهدوء .. تغمر قلبي السعادة حين أرى الفراشات تطير... أو أشم عطر زهرة أو أرى طيف الشمس بعد نزول قطرات المطر في صغري... ان لم تخنّي ذاكرتي... إني كنت لحوحة... وأسأل والدتي عن أي شيء أراه أو أواجهه في حياتي.. اليوم هو 1999/09/09 وأنا في السابعة والنصف من عمري... مسبقاً تمت دعوتنا إلى بيت خالتي فهذا اليوم هو كما أسمعهم يقولون هو يوم بلوغ ابنت خالتي ( نور ) سن التكليف .. وصلنا والكل حاضر ومن بينهم بنات عماتي وأعمامي وخالاتي.. والجميع مبتهج وفرح وأنا لا أعلم ما السر في الموضوع!!! ولمَ فرحون؟ وماذا يعني البلوغ؟ أو سن التكليف؟ وبعد بضع دقائق بدء الحفل والجميع حاضر وجاءت بنت خالتي الكبيرة ومعها أختها( نور ) وهي متوجة بتاج من الورود البيضاء ومرتدية بدلة بيضاء، وعلى وجهها ابتسامة لطيفة، وكأنها شمس وأشرقت على الحضور، أنشدت بعض الحاضرات الأناشيد... والكل يهنئ ( نور ) ويهدي لها الهدايا. قدمت لها والدتها القرءان هدية ... قبلته ( نور ) ووضعته على جبهتها وهي مسرورة .. قدمت الحاضرات ما أحضرنَ معهن من هدايا بسيطة وجميلة... وكل واحدة أخذت دورها في همس كلمة في اذنها واحتضانها وهي مبتسمة وفرحة ... ومن جملة ما قالوه لها إنه يجب عليها أن تتفقه في دينها .. وتؤدي واجباتها كي تنال الجنة .. وتلتزم بحجابها وتحافظ عليه .. وانا أراقب عن كثب وأتمنى لو كنت أنا مكان ( نور ) .. وبعد أن عدتُ مع والدتي للبيت .. سألت والدتي .. مجموعة من الأسئلة .. ومنها .. ماذا يعني البلوغ؟ وما هو سن التكليف؟ وماذا تقصدون بالتفقه؟ ولماذا وتقولون لها أن تلتزم الحجاب وهي ملتزمة به فعلاً؟... ولماذا نقيم هكذا احتفال؟ ووو ... ومتى أكون أنا بالغة ومكلفة؟... وبابتسامة رقيقة وبنبرة حنينة أجابتني أمي عن تلك الاسئلة .. ففهمت بعض الإجابات ولم اعِ البعض الآخر... وأنا اتساءل مع نفسي في كل يوم عن هذه الأمور الخفية لدي .. الى ان جاء يوم 2001/05/30 .. وفي ذلك اليوم قالت لي والدتي اليوم سيأتي إلينا أقاربنا في زيارة .. ولم اسأل والدتي عن سبب الزيارة لكنني فرحت لقدومهم... وبعد ساعة جاء الضيوف وعلى وجوههم الابتسامة .. ولم أعلم ما سبب المجيء... طلبت مني ابنة عمتي أن أصطحبها إلى غرفتي... ففعلت... وحين وصولنا الغرفة أخبرتني بأن اليوم هو يوم تكليفي... لأني في هذا اليوم قد صرت في سن البلوغ .. ففرحت كثيراً لعلمي أن الحضور اليوم هو من أجلي .. فناولتني والدتي ثوباً أبيض لإرتديه ووضعت الورود على رأسي وبدأ الحفل... وفي تلك اللحظة ذهبت أعماق ذاكرتي ولم أعد أسمع من حولي وأنا تائهة في تفكيري وأتساءل مع نفسي... ماذا؟ ولمَ؟ واي شيء؟ ووو... فكل شيء طرحته على نفسي كسؤال .. وفي ذلك اليوم فهمت بعض ما لم أدرك معناه من أمي قبل سنتين تقريبا .. ففهمت أن البلوغ هو : إكمال التسع سنين هلالية... ويعتبر في الإسلام بداية للكثير من الأحكام لأن البلوغ هو بداية مرحلة مسؤولية الفرد عن أفعاله.. وعرفت أن التكليف هو: تشريف من اللّه عز وجل للإنسان وتكريم له؛ لأنّه يرمز إلى ما ميّز اللّه به الإنسان من عقل، وقدرة على بناء نفسه، والتحكّم في غرائزه، وقابليته لتحمّل المسؤولية خلافاً لغيره من أصناف الحيوانات، ومختلف كائنات الأرض، فإنْ أدّى الإنسان واجبَ هذا التشريف، وأطاع وامتثل شرّفه اللّه عز وجل بعد ذلك بعظيم ثوابه، وبملكٍ لا يبلى ونعيمٍ لا يفنى، وإنْ قصّر في ذلك وعصى كان جديراً بعقاب اللّه عز وجل وسخطه؛ لأنّه ظلم نفسه، وجهل حقّ ربّه، ولم يقم بواجب الأمانة التي شرّفه اللّه بها، وميّزه عن سائر المخلوقات.. وفهمت أن التفقه هو: معرفة وتعلمٌ العلم الذي يكون مَدار البحث فيه مُختصّ بالأحكام الشرعية، فالأحكام الشرعية عدّة أنواع بناءً على مبناها؛ فبعض الأحكام تدل على الطلب والأمر الجازم، وبعض الأحكام تَدل على طلبِ فِعل تَخييراً لا أمراً، وبعض الأحكام ليست اقتضاءً ولا تخييراً بل وضعاً، وهذه الأحكام مصدرها الأدلة التفصيلية التي تصلح أن تكون دليلاً شرعياً مقبولاً في الشريعة الإسلامية... ويعتبر التفقُّه في الدين حصن العامل وملاذه والخلفية الدينية والقانونية التي ينطلق منها، والجبل الراسي الذي يستند إليه في كافة قراراته وأفعاله، لأنه من الطبيعي أنّ ترك التفقّه في الدين سيؤدي بالعامل إلى أن يكون محكوماً للأهواء والمزاج وبعض الأعراف الخاصّة والسلوكيات العرفية والتشبه بالآخرين وسوى ذلك من المصالح والاستحسانات التي لا يمكن أن تشكّل نوعاً من الخلفيات الثقافية. وفهمت أن الالتزام بالحجاب هو: ليس مجرد وضع عباءتي على رأسي وعدم إظهار الزينة أمام الشخص الأجنبي لكن الالتزام بالحجاب هو أرقى من ذلك... هو حفاظ البنت على رزانتها وجدية شخصيتها أمام الآخرين... مع أداء جميع مسؤلياتها و واجباتها على أكمل وجه...
اخرىلا يختلف اثنان في أن المرأة عانت ما عانت من ألوان الشقاء وأصناف الهوان والعناء... فقد كانت مهدورة الحق ومسترقّة للرجل يستخدمها كيفما شاء، لدرجة أن منحه العرف الجاهلي الحق في دفنها وهي لا تزال على قيد الحياة لتلفظ أنفاسها الاخيرة تحت التراب، وترتقي روحها إلى رب الأرباب، شاكية ظلم الجاهلية الجهلاء وطغيانها... كما كانت النظرة إلى المرأة في العصور القديمة على أنها مخلوقٌ قاصرٌ منحطٌ تارةً وشيطانٌ يسوّل الخطيئة ويوحي بالشر تارة أخرى ، ومما رسّخ هذه النظرة الظالمة للمرأة في المجتمع الكتبُ السماوية المحرفة، فالتوراة مثلاً قد وضحت رأيها في المرأة في الكلمات الآتية: " درتُ أنا وقلبي لأعلم ولأبحث ولأطلب حكمة وعقلاً، ولأعرف الشر أنه جهالة، والحماقة أنها جنون، فوجدت أمرّ من الموت المرأة، التي هي شباك، وقلبها شراك، ويداها قيود " (الاصحاح 14 الفقرة 17) (1). وأما في وجهة نظر المسيحية - خلال العصور الوسطى – فقد كانت تُعدّ مخلوقاً شيطانياً دنساً، يجب الابتعاد عنه. فقد جاء في كتاب تاريخ أخلاق اوربا: «وكانوا يفرون من ظل النساء، ويتأثمون من قربهن والاجتماع بهن، وكانوا يعتقدون أن مصادفتهن في الطريق والتحدث إليهن - ولو كُنَّ أمهات وأزواجاً أو شقيقات - تحبط أعمالهم وجهودهم الروحية»(2). ولم تكن المرأة في المجتمع العربي الجاهلي بأفضل حال، فقد عانت من الظلم ما عانت هي الأخرى، وقد لخص معاناتها الأستاذ الندوي في حياة المرأة في المجتمع العربي الجاهلي، حيث قال: «وكانت المرأة في المجتمع الجاهلي عرضة غبن وحيف، تُؤكل حقوقها وتُبتز أموالها، وتحرم من إرثها، وتُعضل بعد الطلاق أو وفاة الزوج من أن تنكح زوجاً ترضاه، وتورث كما يورث المتاع أو الدابة، وكانت المرأة في الجاهلية يُطفّف معها الكيل، فيتمتع الرجل بحقوقه ولا تتمتع هي بحقوقها، ومن المأكولات ما هو خالص للذكور ومحرم على الإناث، وكان يسوغ للرجل أن يتزوج ما يشاء من النساء من غير تحديد. وقد بلغت كراهة البنات إلى حدّ الوأد، وكانوا يقتلون البنات بقسوة، فقد يتأخر وأد الموؤودة لسفر الوالد وشغله، فلا يئدها إلّا وقد كبرت وصارت تعقل، وكان بعضهم يلقي الأنثى من شاهق»(3). وبعد كل ذلك التطفيف في تقييم المرأة والغبن الذي عانت منه، جاء دور المغالاة في تقييم المرأة الغربية الظاهري حيث منحت الحقوق كالحق في الملكية والإرث ،وحُرّرت من سلطة الأب والزوج ومُنحت حرية الطلاق وحرية التبذل فاستشعرت مساواتها مع الرجل وابتهجت لذلك غافلة عن أنها بالمقابل قد خسرت دينها وأخلاقها وكرامتها وأمنها وطمأنينتها وراحتها والدفء الأسري... فقد كان عليها بعد أداء مهامها النسوية من الحمل والوضع والارضاع والتربية القيام بأعمال الرجل دون أدنى حسبان للفارق الجسماني بينهما كما تكفلت بمهامه فأصبحت مسؤولة عن النفقة على نفسها وعيالها كما هو مسؤول ... ولم يكتفوا باستغلال قواها البدنية واستنزاف طاقتها النفسية وحسب بل استغلوا أنوثتها أيضاً كسلعة رخيصة تجذب الزبائن وتصرف البضائع، مستثيرين الغرائز الحيوانية في نفوسهم، فأي استغلال أسوأ وأبشع من هذا الاستغلال الذي يعده البعض تحرراً للمرأة وما هو في الواقع سوى إستعبادها لشهوات الرجل ولنزواته؟؟ وبين التطفيف المجحف والمغالاة الفاحشة في تقييم المرأة تظهر لنا الأحكام الإسلامية مشرقة بازغة كالشمس المضيئة التي أنارت حياة المرأة ومنحتها كل الدفئ... فقد صحح الإسلام تقييم المرأة وأعاد إليها اعتبارها ومكانتها، ومنحها حقوقها المادية والأدبية بلا إفراط فيها ولا تفريط، وبدون أن تبذل أي مقابل تجاهها أو تخسر شأنها وكرامتها ، فقد ساواها بالرجل في المفاهيم الإنسانية، واتحادها معه في المبدأ والمعاد، وحرمة الدم والعرض والمال، ونيل الجزاء الأخروي على الأعمال ، قال (تعالى) : «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» (الحجرات: 13). وقال : «مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» (النحل: 97). وقال : "وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ (9)" (التكوير: 8 - 9). كما منحها حرية اختيار الزوج الكفوء، فلا يصح تزويجها إلا برضاها، وَحَرَّم كذلك استيراثها قسراً وإكراهاً، قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا ۖ وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ۚ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا» (النساء: 19). وفرض للزوجة على زوجها حق الإعالة ولو كانت ثرية موسرة. وللمنزلة الرفيعة التي حظيت بها المرأة المسلمة فقد تمكنت من محاججة الخليفة الثاني وهو يخطب في المسلمين وينهاهم عن المغالاة في المهور ،فقالت: ما ذاك لك. فقال: ولمَه؟ أجابت: لأن اللّه تعالى يقول «وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا ۚ أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا» (النساء: 20). فرجع عمر عن رأيه، وقال: امرأة أصابت ورجل أخطأ.(4) ـــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) مقارنة الأديان ج 3 الاسلام ص 196 بتصرف للدكتور أحمد شلبي. (2) ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، للسيد الندوي ص 160. (3) ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، للسيد الندوي ص 57 بتصرف. (4) سورة البقرة آية(٣٢)، تفسير القرطبي
اخرىقصة قصيرة تملؤها براءة الطفولة، لطفل يتيم فقد أباه قبل أن يراه، تعلق بخالٍ له ظن أنه أباه ذلك الخال الحنون الذي يمسح دموعه عندما يأتيه باكياً، لكن شاء القدر والحظ العاثر أن يحرمه من ذلك الحنان الذي كان يلمسه من خالهِ الحنون الطيب وهو بأمس الحاجة إليه ، بحادث سيرٍ مشؤوم، ترك في قلبه ذكرى مؤلمة، بعد أن كانت جميلة رغم قصر مدتها، والتي كلما أراد أن ينساها تُذَكره أمهُ بها عندما تنتخي بِإسم أخيها كلما أرادت أن تقوم، أو سقط شيء من يدها، ورغم صغر سنهِ، كانت صورة خاله لا تفارق ذاكرته، ذلك الخال الذي بكى عليه كل قريبٍ وبعيد، ذلك الخال الذي كان مثالاً للإنسان المؤمن الخلوق الشجاع، الذي لطالما كان يساعد الآخرين ويحب الأيتام. وبعد أن فقده أصبح يتيماً من كل شيء ولكن احتضنه من لا يضيع التائه في كونٍ هو خالقه، نعم احتضنه برحمته التي وسعت كل شيء، فحينها علم أنه في أمنٍ وأمان في هذه الحياة التي هي أشبه بقصةٍ قصيرة يمكن حتى للأطفال أن يكتبوها. وتمنى لو أنه حضي بهذه الرحمة في حياةٍ هي كبيرةٌ على الناس بحجمها وطول أمدها صغيرةٌ عند خالقها... نعم، إنها قصتي القصيرة.
اخرىما وُجِدنا في هذه الحياة إلا لاختبار صبرنا وإيماننا في كل حادثة تواجهنا ، عند الطاعة وعند المعصية وعند البلاء ... فعند سماعنا صوت الأذان لابد لنا من الإيمان ما يدفعنا الى التوجه الى خالقنا، ومن الصبر لنصبر على أداء تلك الطاعة العظيمة مهما كانت الظروف ، وعندما نواجه شهوة تغرينا أو شبهة تحاول النيل من عقيدتنا فلابد لنا من الإيمان لمواجهة ذلك، والصبر لاجتيازهما بحكمة وسلام.. ولعل أشد ما يُظهر للإنسان مدى إيمانه بخالقه ومدى قوة صبره ويقينه به هو عندما يتعرض إلى المصائب والنوائب لاسيما إن كان البلاء عظيماً بحيث يمس شخصاً عزيزاً على قلبه كأحد أبنائه أو والديه من جهة و قد انتفت الأسباب المادية للنجاة أو تضاءلت أمامه بشكل كبير من جهة أخرى ... فبات لزاماً عليه أن يواجه ما ابتُلي بمفرده متكئاً على قوة إيمانه بالله (تعالى) ومستندا على شدة توكله عليه (سبحانه)... حينها تتضح مدى أهمية الإيمان بالله (تعالى) والتوكل عليه، فإن كان إيمانه بالله متزلزلاً وتوكله عليه ضعيفاً فقد يفقده شدة بلائه صوابه حتى يتفوه بألفاظ الكفر بالله (سبحانه وتعالى علواً كبيراً). وأما إن كان يملك من الإيمان به (جل وعلا) رصيداً ومن التوكل عليه نصيبا فإنه قد يجتاز ذلك البلاء بنجاح بل ويستشعر بجماله ولذته !!! قد تستغرب ذلك عزيز القارئ... ولكني أقصد ما أقول فعلاً فقد يكون البلاء جميلاً بل ولذيذاً، إذ إن شدة بلاء المؤمن قد تكشف له عن المعنى الحقيقي لربوبية ربه (جل وعلا) له، فيرتمي بين أحضانه داعياً متوسلاً، منقطعاً عما سواه وعليه وحسب متوكلاً، وهو على يقين برحمته ورأفته لدرجة أنه يستشعر -على عظم بلائه وجسامته- أن الفرج قاب قوسين أو أدنى... ' شعور جميل جداً بل ولذيذ أيضاً أن تشعر بالانتماء الحقيقي لله (تعالى) وتشعر بقربه منك، يدفع عنك كل تلك النوائب التي فغرت فاهها لتبتلع أعز من لديك، ثم يهيئ لك الأسباب تلو الأسباب من حيث لا تحتسب... فتبتهج لشدة النور الذي يحيط بك وأنت وسط الظلام، وتكون غاية في القوة والصلابة غير محتاج إلى سواه ولا مفتقراً الى إسناد غيره رغم أنك في الدنيا وحيداً فريداً. بلاءٌ أحياناً تشعر أنه ما طالك إلا ليوصل رسالة هامة إليك تشعر بها بين شغاف قلبك وتحس بها في قرارة نفسك، رسالة عظيمة من خالقك وربك: يا عبدي، إني أنا الله ربك معك وسندك، مأواك في الشدائد وملجؤك في النوائب، بل هو شعور عظيم يتجاوز الكلمات، كاليد العطوف التي تربت على كتفك لتخبرك أني معك فلا تخف، وتمسح على قلبك لتحيل حزنك فرحاً وقلقك سروراً وبلاءك لذة وحبوراً...
اخرىيستشهد الكثير من الناس ــ وحتى بعض المثقفين ــ بقول:" لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع فإن الخير فيها دخيل وعاشر نفساً جاعت بعد شبع فإن الخير فيها أصيل" على أنه من أقوال أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، كما يستشهدون أيضاً بقولٍ آخر ينسبونه إليه (عليه السلام) لا يبعد عن الأول من حيث المعنى:"اطلبوا الخير من بطون شبعت ثم جاعت لأن الخير فيها باق، ولا تطلبوا الخير من بطون جاعت ثم شبعت لأن الشح فيها باق"، مُسقطين المعنى على بعض المصاديق التي لم ترُق افعالها لهم، لاسيما أولئك الذين عاثوا بالأرض فساداً من الحكام والمسؤولين الفاسدين والمتسترين عل الفساد. ونحن في الوقت الذي نستنكر فيه نشر الفساد والتستر عليه ومداهنة الفاسدين نؤكد ونشدد على ضرورة تحرّي صدق الأقوال ومطابقتها للواقع وعدم مخالفتها للعقل والشرع من جهة، وضرورة التأكد من صدورها عن أمير المؤمنين أبي الأيتام والفقراء (عليه السلام) أو غيرها من المعصومين (عليهم السلام) قبل نسبتها إليهم من جهة أخرى، لذا ارتأينا مناقشة هذا القول وما شابه معناه من حيث الدلالة أولاً، ومن حيث السند ثانياً.. فأما من حيث الدلالة فإن هذين القولين يصنفان الناس الى صنفين: صنف قد سبق له أن شبع مادياً ولم يتألم جوعاً، أو يتأوه حاجةً ومن بعد شبعه جاع وافتقر، وصنف آخر قد تقلّب ليله هماً بالدين، وتضوّر نهاره ألماً من الجوع، ثم شبع واغتنى،. كما جعل القولان الخير متأصلاً في الصنف الأول دون الثاني، وبناءً على ذلك فإن معاشرة أفراد هذا الصنف هي المعاشرة المرغوبة والمحبوبة والتي تجرّ على صاحبها الخير والسعادة والسلام، بخلاف معاشرة أفراد الصنف الثاني التي لا تُحبَّذ ولا تُطلب؛ لأنها لا تجر إلى صاحبها سوى الحزن والندم والآلام... ولو تأملنا قليلاً في معنى هذين القولين لوجدناه مغايراً لمعايير القرآن الكريم بعيداً كل البعد عن روح الشريعة الاسلامية ، وعن المنطق القويم والعقل السليم ومخالفاً أيضاً لصريح التاريخ الصحيح، بل ومخالف حتى لما نسمعه من قصص من أرض الواقع أو ما نلمسه فيه من وقائع.. فأما مناقضته للقرآن الكريم فواضحة جداً، إذ إن الله (تعالى) قد أوضح فيه وبشكلٍ جلي ملاك التفاضل بين الناس، إذ قال (عز من قائل):" يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)"(1) جاعلاً التقوى مِلاكاً للتفاضل، فمن كان أتقى كان أفضل، ومن البديهي أن تكون معاشرته كذلك، والعكس صحيحٌ أيضاً. وعليه فإن من سبق حاجتُه وفقرُه شبعَه وغناه يكون هو الأفضل، وبالتالي تكون معاشرته هي الأفضل كذلك فيما لو كان تقياً بخلاف من شبع وكان غنياً ، ثم افتقر وجاع فإنه لن يكون الأفضل ومعاشرته لن تكون كذلك طالما كان بعيداً عن التقوى. وأما بُعده عن روح الشريعة الإسلامية فإن الشريعة لطالما أكدت على أن الله (سبحانه وتعالى) عادلٌ لا جور في ساحته ولا ظلمَ في سجيته، وبالتالي لا يمكن أن يُعقل إطلاقاً أن يجعل البعض فقيراً ويتسبب في دخالة الخير في نفوسهم، التي يترتب عليها نفور الناس من عشرتهم، فيما يُغني سواهم ويجعل الخير متأصلاً في نفوسهم بسبب إغنائه إياهم ليس إلا ومن ثم يتسبب في كون الخير متأصلاً في نفوسهم، وبالتالي حب الناس لعشرتهم. فإن ذلك مخالف لمقتضى العدل الإلهي لأنه ليس بعاجزٍ عن تركه ولا بمُكره على فعله، ولا محب لذلك لهواً وعبثاً (تعالى عن كل ذلك علواً كبيراً). كما إن تأصل الخير في نفوس بعض الناس ودخالته في نفوس البعض الآخر منهم بناءً على أمر خارج عن إرادتهم واختيارهم كـ(الغنى والشبع أو الجوع والفقر) إنما هو أمرٌ منافٍ لمنهج الشريعة المقدسة القائم على حرية الانسان في اختياره لسبيل الخير والرشاد أو سبيل الشر والفساد، قال (تعالى):" إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)"(2) بل إن الانسان أحياناً قد يكون فقيراً بسبب حب الله (تعالى) له، كما ورد في الحديث القدسي: "أن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى فلو أفقرته لأفسده ذلك و أن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر فلو أغنيته لأفسده ذلك"(3) وهل يمكن ان نتصور أن الخيرَ دخيلٌ فيمن يحبه الله (تعالى) أو إن معاشرته لا تجدي نفعا، أو تسبب الهم والألم؟! نعم، ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"اِحْذَرُوا صَوْلَةَ اَلْكَرِيمِ إِذَا جَاعَ وَ اَللَّئِيمِ إِذَا شَبِعَ"(4) ولا يقصد به الجوع والشبع المتعارف عليه لدى الناس، وإنما المراد منه: احذروا صولة الكريم إذا اُمتُهِن، واحذروا صولة اللئيم إذا أكرم، وفي هذا المعنى ورد عنه (عليه السلام) أيضاً: "احذروا سطوة الكريم إذا وضع و سورة اللئيم إذا رفع"(5) وأما العقل السليم والمنطق القويم فإنهما يقتضيان أن تتأصل صفة الخير في الإنسان لملكاتٍ حميدة يتسم بها وصفات فضيلة يتميز بها، لا أن تتأصل صفة الخير في نفسه لمجرد أنه ولد في أسرة تتمتع بالرفاهية الاقتصادية ووجد في بيئة تتنعم بالثروات المادية! وعند مراجعتنا للتاريخ الصحيح نجد أن قادة البشر وصفوة الناس إنما كان أغلبهم ينتمي الى الطبقات الفقيرة من المجتمع، فهؤلاء الأنبياء ورسل الله (صلوات الله عليهم) منهم من كان نجاراً أو خياطاً أو راعياً، ومع ذلك فقد كانوا من أطيب الناس خلقاً، وأعظمهم شرفاً، وأرفعهم منزلةً، قد تأصّل الخير في نفوسهم تأصّلاً حتى غدوا قطعة منه، فكانوا هم الخير للبشر، وهم الرحمة للعالمين. وبالنزول إلى أرض الواقع نجد أن الكثير من الفقراء والمساكين طيبي الروح، كريمي النفس، يتألمون لألم المحتاج ولربما يؤثرونه على أنفسهم رغم حاجتهم. ولا نقصد من كلامنا هذا أن الأغنياء هم على نقيض ذلك، وإنما تأكيداً على مسألة عدم ارتباط تأصل الخير في النفوس وعدمه بمستواهم الاقتصادي الذي نشأوا فيه ارتباط العلة والمعلول، فكما إن بعض الفقراء أخيار، فإن بعض الأغنياء كذلك، والعكس صحيح أيضاً. ومن هنا يُفهم من بعض الروايات ضرورة عدم طلب الخير والحاجات ممن هم أهل للخير بقطع النظر عن مستواهم المعاشي الحالي والسابق، منها ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"أشد من الموت طلب الحاجة من غير أهلها"(5)، وعنه (عليه السلام) أيضاً: "فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غير أهلها"(6) إذن فلا صحة لهاتين المقولتين من حيث الدلالة، حتى وإن تنزلنا وحملنا الجوع والشبع على المعنى المعنوي لا المادي؛ وذلك لأنه حتى من يفتقر الى الأخلاق المعنوية فإنه ما إن يتكامل بالفضائل ويقلع عن الرذائل حتى يتسم بالخير وتحسن عشرته وتطيب للناس صحبته، والعكس صحيحٌ أيضا.. ومن البديهي أن ما لا يوافق العقل والمنطق السليم، ويخالف صريح القرآن الكريم، لا يمكن أن يصدر من وصي الرسول الكريم (صلوات الله عليهما وآلهما)، وعليه لا تصح نسبة هذين القولين الى أمير المؤمنين (عليه السلام).. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الحجرات 13 (2) الانسان 3 (3) عوالي الآلي ج2 ص29 (4) غرر الحكم ج1 227 (5) المدر السابق ج1 ص246 (6) ميزان الحكمة ج4 ص 238 رضا الله غايتي
اخرىخلق الله الأشياء كلها في الحياة ضمن موازين وقياسات... فالزيادة أو النقيصة تسبب المشاكل فيها. وهكذا حياتنا وأفعالنا وعواطفنا لا بد أن تكون ضمن موازين دقيقة، وليست خالية منها، فالزيادة والنقيصة تسبب لنا المشاكل. ومحور كلامنا عن الطيبة فما هي؟ الطيبة: هي من الصفات والأخلاق الحميدة، التي يمتاز صاحبها بنقاء الصدر والسريرة، وحُبّ الآخرين، والبعد عن إضمار الشر، أو الأحقاد والخبث، كما أنّ الطيبة تدفع الإنسان إلى أرقى معاني الإنسانية، وأكثرها شفافية؛ كالتسامح، والإخلاص، لكن رغم رُقي هذه الكلمة، إلا أنها إذا خرجت عن حدودها المعقولة ووصلت حد المبالغة فإنها ستعطي نتائج سلبية على صاحبها، كل شيء في الحياة يجب أن يكون موزوناً ومعتدلاً، بما في ذلك المحبة التي هي ناتجة عن طيبة الإنسان، وحسن خلقه، فيجب أن تتعامل مع الآخرين في حدود المعقول، وعندما تبغضهم كذلك وفق حدود المعقول، ولا يجوز المبالغة في كلا الأمرين، فهناك شعرة بين الطيبة وحماقة السلوك... هذه الشعرة هي (منطق العقل). الإنسان الذي يتحكم بعاطفته قليلاً، ويحكّم عقله فهذا ليس دليلاً على عدم طيبته... بالعكس... هذا طيب عاقل... عكس الطيب الأحمق... الذي لا يفكر بعاقبة أو نتيجة سلوكه ويندفع بشكل عاطفي أو يمنح ثقة لطرف معين غريب أو قريب... والمبررات التي يحاول إقناع نفسه بها عندما تقع المشاكل أنه صاحب قلب طيب. الطيبة لا تلغي دور العقل... إنما العكس هو الصحيح، فهي تحكيم العقل بالوقت المناسب واتخاذ القرار الحكيم الذي يدل على اتزان العقل، ومهما كان القرار ظاهراً يحمل القسوة أحياناً لكنه تترتب عليه فوائد مستقبلية حتمية... وأطيب ما يكون الإنسان عندما يدفع الضرر عن نفسه وعن الآخرين قبل أن ينفعهم. هل الطيبة تصلح في جميع الأوقات أم في أوقات محددة؟ الطيبة كأنها غطاء أثناء الشتاء يكون مرغوباً فيه، لكنه اثناء الصيف لا رغبة فيه أبداً.. لهذا يجب أن تكون الطيبة بحسب الظروف الموضوعية... فالطيبة حالة تعكس التأثر بالواقع لهذا يجب أن تكون الطيبة متغيرة حسب الظروف والأشخاص، قد يحدث أن تعمي الطيبة الزائدة صاحبها عن رؤيته لحقيقة مجرى الأمور، أو عدم رؤيته الحقيقة بأكملها، من باب حسن ظنه بالآخرين، واعتقاده أن جميع الناس مثله، لا يمتلكون إلا الصفاء والصدق والمحبة، ماي دفعهم بالمقابل إلى استغلاله، وخداعه في كثير من الأحيان، فمساعدة المحتاج الحقيقي تعتبر طيبة، لكن لو كان المدّعي للحاجة كاذباً فهو مستغل. لهذا علينا قبل أن نستخدم الطيبة أن نقدم عقولنا قبل عواطفنا، فالعاطفة تعتمد على الإحساس لكن العقل أقوى منها، لأنه ميزان يزن الأشياء رغم أن للقلب ألماً أشد من ألم العقل، فالقلب يكشف عن نفسه من خلال دقاته لكن العقل لا يكشف عن نفسه لأنه يحكم بصمت، فالطيبة يمكن أن تكون مقياساً لمعرفة الأقوى: العاطفة أو العقل، فالطيّب يكون قلبه ضعيفاً ترهقه الضربات في أي حدث، ويكون المرء حينها عاطفياً وليس طيباً، لكن صاحب العقل القوي يكون طيباً أكثر من كونه عاطفياً. هل الطيبة تؤذي صاحبها وتسبب عدم الاحترام لمشاعره؟ إن الطيبة المتوازنة المتفقة مع العقل لا تؤذي صاحبها لأن مفهوم طيبة القلب هو حب الخير للغير وعدم الإضرار بالغير، وعدم العمل ضد مصلحة الغير، ومسامحة من أخطأ بحقه بقدر معقول ومساعدة المحتاج ... وغيرها كثير. أما الثقة العمياء بالآخرين وعدم حساب نية المقابل وغيرها فهذه ليست طيبة، بل قد تكون -مع كامل الاحترام للجميع- غباءً أو حماقة وسلوكاً غير عقلاني ولا يمت للعقل بصلة. إن المشكلة تقع عند الإنسان الطيب عندما يرى أن الناس كلهم طيبون، ثم إذا واجهه موقف منهم أو لحق به أذى من ظلم أو استغلال لطيبته، تُغلق الدنيا في وجهه، فيبدأ وهو يرى الناس الطيبين قد رحلوا من مجتمعه، وأن الخير انعدم، وتحصل له أزمة نفسية أو يتعرض للأمراض، لأن الطيّب يقدم الإحسان للناس بكل ما يستطيع فعله، ويقدّم ذلك بحسن نية وبراءة منه، فهو بالتالي ينتظر منهم الرد بالشكر أو المعاملة باللطف على الأقل... صحيح أن المعروف لوجه الله، ولكن من باب: من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق، لذلك يتأذى عندما يصدر فعل من الشخص الذي كان يعامله بكل طيب وصدق. هل الطيبة والصدق من علامات ضعف الشخصية؟ الكثير من الناس يصف طيب القلب بأنه ضعيف الشخصية، لأنه يتصف بعدم الانتقام ممن ظلمه، والصفح عنه عند رجوعه عن الخطأ، وأنه لا يحب إيقاع الآخرين بالمشاكل؛ لأنه مقتنع أن الله سيأخذ له حقه. والحقيقة هي أن الصدق والطيبة وحسن الظن بالآخرين ليست ضعف شخصية، بل هي من الأخلاق الراقية وهي تزيد صاحبها سمواً وجمالاً روحياً، وليس من المعيب أن يمتلك الإنسان الطيبة بل العيب في من لا يُقدّر هذه الطيبة ويعطيها حقها في التعامل بالمثل. فالمشكلة الأساسية ليست في الطيبة، إنما في استغلال الآخرين لهذه الطيبة، نتيجة لعدم عقلنة قراراتنا والاعتماد على عواطفنا بشكل كلي. فالصدق والطيبة حسب المنطق والعقل، ولها فوائد جمة للنفس ولعموم أفراد المجتمع، فهي تحصين للشخص عن المعاصي، وزيادة لصلة الإنسان بربه، وتهذيب للنفس والشعور بالراحة النفسية، فالصادق الطيب ينشر المحبة بين الناس، وهذا يعزّز التماسك الاجتماعي وتقويته من سوء الظنون والحقد، وهذا التعامل أكّدت عليه جميع الشرائع السماوية، ولو تأمّلنا تاريخ وأخلاق الأنبياء والأوصياء لوجدنا كل ما هو راقٍ من الأخلاق والتعامل بالطيبة والصدق... حنان الزيرجاوي
اخرىرحلةٌ مثقلة بالألم في طريق يئن من وطأة الظلم! ينهي حياة زوجية فشلت في الوصول إلى شاطئ الأمان. ويبدد طموحات أطفال في العيش في هدوء نفسي واجتماعي تحت رعاية أبوين تجمعهم المودة والرحمة والحب. الطلاق شرعاً: هو حل رابطة الزواج لاستحالة المعاشرة بالمعروف بين الطرفين. قال تعالى: [ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)].(١). الطلاق لغوياً: من فعل طَلَق ويُقال طُلقت الزوجة "أي خرجت من عصمة الزوج وتـحررت"، يحدث الطلاق بسبب سوء تفاهم أو مشاكل متراكمة أو غياب الانسجام والحب. المرأة المطلقة ليست إنسانة فيها نقص أو خلل أخلاقي أو نفسي، بالتأكيد إنها خاضت حروباً وصرعات نفسية لا يعلم بها أحد، من أجل الحفاظ على حياتها الزوجية، ولكن لأنها طبقت شريعة الله وقررت مصير حياتها ورأت أن أساس الـحياة الزوجيـة القائم على المودة والرحـمة لا وجود له بينهما. فأصبحت موضع اتهام ومذنبة بنظر المجتمع، لذلك أصبح المـجتمع يُحكم أهواءه بدلاً من الإسلام. ترى، كم من امرأة في مجتمعنا تعاني جرّاء الحكم المطلق ذاته على أخلاقها ودينها، لا لسبب إنما لأنها قررت أن تعيش، وكم من فتاة أُجبرت قسراً على أن تتزوج من رجل لا يناسب تطلعاتها، لأن الكثير منهن يشعرن بالنقص وعدم الثقة بسبب نظرة المجتمع، وتقع المرأة المطلّقة أسيرة هذه الحالة بسبب رؤية المجتمع السلبيّة لها. وقد تلاحق بسيل من الاتهامات وتطارد بجملة من الافتراءات. وتعاني المطلقة غالباً من معاملة من حولها، وأقرب الناس لها، بالرغم من أن الطلاق هو الدواء المر الذي قد تلجأ إليه المرأة أحياناً للخلاص من الظلم الذي أصبح يؤرق حياتها الزوجية، ويهدد مستقبلها النفسي، والله تعالى لم يشرع أمراً لخلقه إلا إذا كان فيه خير عظيم لهم، والطلاق ما شرّع إلا ليكون دواء فيه شفاء وإن كان مرّاً، وإن كان أمره صعباً على النفوس، حيث قال عز وجل: "وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا"، روي عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) ((أبغض الحلال إلى الله الطلاق) (٢). ورغم أن الشريعة الإسلامية أباحت الطلاق بشروط تلاءم لبناء المجتمع، وأولت أهمية في الإحسان دائمًا للطرف الأضعف والأكثر خسارة في هذه المعادلة وهي "المرأة"، إلا أن المجتمع الذي يدّعي الإسلام لا يرحمها، ويحكم عليها بالإدانة طوال حياتها دون النظر في صحة موقفها في الطلاق من عدمه! قال( تعالى ): [الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] (٣). ولكن بعد كل هذا فالحياة لم ولن تتوقف بعد الطلاق! الطلاق ليس نهاية الحياة. - أخيتي. ليكن الطلاق بداية جديدة لحياة جديدة وللانطلاق. -قطار العطاء لن يتعطل. فإن كنت السبب في الطلاق فالحمد لله على كل حال وتلك أمة قد خلت وأيام ذهبت وانجلت فلست بالمعصومة من الخطأ. وعليك استدراك الأخطاء وتقوية مواطن الضعف في شخصيتك، واجعليها درساً مفيداً في الحياة لتطوير نفسك وتقويتها. وإذا كنتِ مظلومة فهناك جبار يُحصي الصغير والكبير وسيأتي يوم ينتصر لك فيه. -ومن الجميل أن تعطي نفسك الإحساس بالحب والاحترام، ولا تتأثري بأي نظرة سلبية من المجتمع وكون البعض يتعامل مع المطلقة على أنها حالة خاصة فعليكِ إثبات ذاتك حتى تفرضي على الكل شخصيتك. - نظرتك لنفسك اجعليها نظرة ايجابية مشرقة ولا تنزلقي في مستنقع نبذ الذات وظلم النفس. - ابحثي عن الصفات الجيدة فيك فإن ذلك سيشعرك بالثقة في ذاتك والتقدير لها. -حاولي مراجعة نفسك للخروج بإيجابيات حصلت لك من طلاقك. - خالطي الآخرين وإياك والعزلة بسبب وضعك الجديد فلست بأول من يبتلى بالطلاق. -استمتعي بالموجود ولا تتعلقي بالمفقود، حلقي بروح تعبق أملاً وتفاؤلاً، استمتعي بما وهبك الله من نعم (صحة وأولاد وأهل وصديقات وعمل وهوايات وغيرها من الأمور الجميلة) فما حصل لك حصل… ولابد أن تتقبليه برضا، وأعلمي أن ما أصابك لم يكن ليخطأك وما أخطأك لم يكن ليصيبك. وقال أصدق من قال: ( وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم). فالرضا سر السعادة الحقيقي. - اقتربي من صديقاتك الصالحات، واقضي معهن وقتاً طيباً تنسين به ألمك وحزنك. - احرصي على الصلوات وقراءة القرآن الكريم والذكر والاستغفار وأكثري من الطاعات قدر ما تستطيعين، ففيها السلوى والفرح والسعادة. ونعم سعادة القرب من الرحمن. - اشغلي نفسك بأعمال البر والإحسان بمساعدة محتاج. بكفالة يتيم. بتعلم الفقه والقرآن وتعليمه. - اجتهدي في عمل برنامج يومي لك يكون ممتلأ بكل ما هو مفيد لك. من قراءة وزيارة الأصدقاء وصلة الرحم. بحيث لا تكون هناك دقيقة أنت فارغة فيها. - وأسرعي بقاربك الجميل بمجذافين من إيمان بالله وثقة بالنفس وسوف تصلين بإذن الله نحو جزيرة السعادة والنجاح. لكي تتسلق جبال الإنجاز، وتصل لأعلى مراتب الاعجاز. وعندها جزماً سيكون للحياة معنى آخر. --------------------------------- (١)-سورة البقرة الآية (٢٢٦-٢٢٧). (٢)-الكافي (٢)-سورة البقرة الآية (٢٢٨) حنان ستار الزيرجاوي
اخرى(لا تقاس العقول بالأعمار، فكم من صغير عقله بارع، وكم من كبير عقله فارغ) قولٌ تناولته وسائل التواصل الاجتماعي بكل تقّبلٍ ورضا، ولعل ما زاد في تقبلها إياه هو نسبته الى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولكننا عند الرجوع إلى الكتب الحديثية لا نجد لهذا الحديث أثراً إطلاقاً، ولا غرابة في ذلك إذ إن أمير البلاغة والبيان (سلام الله وصلواته عليه) معروفٌ ببلاغته التي أخرست البلغاء، ومشهورٌ بفصاحته التي إعترف بها حتى الأعداء، ومعلومٌ كلامه إذ إنه فوق كلام المخلوقين قاطبةً خلا الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ودون كلام رب السماء. وأما من حيث دلالة هذه المقولة ومدى صحتها فلابد من تقديم مقدمات؛ وذلك لأن معنى العقل في المفهوم الإسلامي يختلف عما هو عليه في الثقافات الأخرى من جهةٍ، كما ينبغي التطرق الى النصوص الدينية الواردة في هذا المجال وعرضها ولو على نحو الإيجاز للتعرف إلى مدى موافقة هذه المقولة لها من عدمها من جهةٍ أخرى. معنى العقل: العقل لغة: المنع والحبس، وهو (مصدر عقلت البعير بالعقال أعقله عقلا، والعِقال: حبل يُثنَى به يد البعير إلى ركبتيه فيشد به)(1)، (وسُمِّي العَقْلُ عَقْلاً لأَنه يَعْقِل صاحبَه عن التَّوَرُّط في المَهالِك أَي يَحْبِسه)(2)؛ لذا روي عنه (صلى الله عليه وآله): "العقل عقال من الجهل"(3). وأما اصطلاحاً: فهو حسب التصور الأرضي: عبارة عن مهارات الذهن في سلامة جهازه (الوظيفي) فحسب، في حين أن التصوّر الإسلامي يتجاوز هذا المعنى الضيّق مُضيفاً إلى تلك المهارات مهارة أخرى وهي المهارة العبادية. وعليه فإن العقل يتقوّم في التصور الاسلامي من تظافر مهارتين معاً لا غنى لأحداهما عن الأخرى وهما (المهارة العقلية) و(المهارة العبادية). ولذا روي عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنه عندما سئل عن العقل قال :" العمل بطاعة الله وأن العمّال بطاعة الله هم العقلاء"(4)، كما روي عن الإمام الصادق(عليه السلام)أنه عندما سئل السؤال ذاته أجاب: "ما عُبد به الرحمن، واكتسب به الجنان. فسأله الراوي: فالذي كان في معاوية [أي ماهو؟] فقال(عليه السلام): تلك النكراء، تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل"(5) والعقل عقلان: عقل الطبع وعقل التجربة، فأما الأول أو ما يسمى بـ(الوجدان الأخلاقي) فهو مبدأ الادراك، وهو إن نَما وتطور سنح للإنسان فرصة الاستفادة من سائر المعارف التي يختزنها عن طريق الدراسة والتجربة وبالتالي يحقق الحياة الإنسانية الطيبة التي يصبو اليها، وأما إن وهن واندثر لإتباع صاحبه الأهواء النفسية والوساوس الشيطانية، فعندئذٍ لا ينتفع الانسان بعقل التجربة مهما زادت معلوماته وتضخمت بياناته، وبالتالي يُحرم من توفيق الوصول إلى الحياة المنشودة. وعقل التجربة هو ما يمكن للإنسان اكتساب العلوم والمعارف من خلاله، وما أروع تشبيه أمير البلغاء (عليه السلام) العلاقة التي تربط العقلين معاً إذ قال فيما نسب إليه: رأيت العقل عقلين فمطبوع ومسموع ولا ينفع مسموع إذ لم يك مطبــوع كما لا تنفع الشمس وضوء العين ممنوع(6) فقد شبّه (سلام الله عليه) عقل الطبع بالعين وعقل التجربة بالشمس، ومما لاشك فيه لكي تتحقق الرؤية لابد من أمرين: سلامة العين ووجود نور الشمس، وكما إن الثاني لا ينفع إن لم يتوفر الأول فكذلك عقل التجربة لا ينفع عند غياب عقل الطبع فضلاً عن موته. وبما إن عقل الطبع قد ينمو ويزدهر فينفع صاحبه من عقل التجربة، وقد يموت ويندثر عند الاستسلام لإضلال شبهةٍ أوبسبب إرتكاب معصية، فإنه ومن باب أولى أن يتعرض الى الزيادة والنقصان كما سيأتي... وقد ورد في النصوص الدينية أن للعقل زمناً ينمو فيه ويكتمل، فعن إمامنا أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه):"يثغر الصبي لسبع، ويؤمر بالصلاة لتسع، ويفرق بينهم في المضاجع لعشر، ويحتلم لأربع عشرة، وينتهى طوله لإحدى وعشرين سنة، وينتهي عقله لثمان وعشرين إلا التجارب"(7)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يربى الصبي سبعاً ويؤدب سبعاً، ويستخدم سبعاً، ومنتهى طوله في ثلاث وعشرين سنة، وعقله في خمس وثلاثين [سنة] وما كان بعد ذلك فبالتجارب"(8). إذن يتوقف النمو الطبيعي لعقل الانسان عند سن الثامنة والعشرين أو الخامسة والثلاثين كما ورد في الروايتين، وأية زيادة أخرى في طاقته بعد ذلك إنما تأتي عن طريق التجارب، وقد يُتوهم بأن ثمة تعارضاً ما بين الروايتين المتقدمتين في شأن تحديد سن النمو العقلي، إلا إنه لا تعارض ينهما إذا حملنا اختلافهما فيه على اختلاف الاشخاص وتباين استعدادات وقابليات كل منهم. وعلى الرغم من توقف نمو عقل الإنسان إلا إن له أنْ يزيده بالتجارب ومواصلة التعلم ــ كما تقدم في الروايات ــ وسواء أثبت العلم هذه الحقيقة الروائية أم لا، فنحن نريد الإشارة إلى ضرورة استمرار التجربة والتعلم لزيادة نمو العقل وهذا المقدار لا خلاف فيه وعلى الرغم من إن لعمر الانسان مدخلية في زيادة عقله كما تقدم وكما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يزيد عقل الرجل بعد الاربعين إلى خمسين وستين، ثم ينقص عقله بعد ذلك"(9)، إلا إن ذلك ليس على نحو العلة التامة، إذ يمكن للعقل أن يبقى شاباً وقوياً وإن شاب الإنسان وضعف جسمه، وتقدم في السن ووهن عظمه، فالعاقل لا يشيب عقله ولا تنتقص الشيخوخة من قوته بل وقد يزداد طاقةً وحيويةً لذا ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"رأي الشيخ أحب الي من جَلَد الغلام"(10)، وفي أخرى ".....من حيلة الشباب "(11) وأما من لم يوفر أسباب صقل عقله في مرحلة الشباب فإنه بلا شك يضمحل عقله في مرحلة الشيخوخة. وليس تقدم العمر هو العامل الوحيد في نقصان العقل بل إن النصوص الشرعية أشارت الى عوامل عديدة اخرى أهمها: أولاً: التعلم: فقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "من لم يصبر على ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبداً"(13). ثانياً: التوبة: وعنه (عليه السلام) ايضاً:"من لم يرتدع يجهل"(14) ثالثاً: التقوى: فقد كتب إمامنا الباقر (عليه السلام) إلى سعد الخير: "بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإني اوصيك بتقوى الله فإن فيها السلامة من التلف والغنيمة في المنقلب إن الله (عزوجل) يقي بالتقوى عن العبد ما عزب عنه عقله ويجلي بالتقوى عنه عماه وجهله"(15) إذن التوبة هي سبب للتوفيق الإلهي الذي يؤدي فيما يؤدي إليه من إكمال العقل. رابعاً: الوقوف عند الشبهة: وقال (عليه السلام ): "لا ورع كالوقوف عند الشبهة"(16). فإن الوقوف عند الشبهات سبب من أسباب التوفيق الإلهي بلا شك. خامساً: الاعتراف بالجهل: كما روي عن الإمام علي (عليه السلام): "غاية العقل الاعتراف بالجهل"(17) إذ الاعتراف بالجهل يدفع الإنسان دوماً إلى مزيد من بذل الجهد واكتساب المعارف. مما تقدم تتضح جلياً صحة هذه المقولة دلالةً، إذ إن العقول فعلاً لا تقاس بالأعمار لأن كلٍاً من زيادتها ونقيصتها منوطٌ بالعديد من العوامل الأخرى والتي تقدم ذكرها، بيد إن ذلك لا يبرر التساهل في نشرها والتهاون في الاستشهاد بها على إنها من أقوال أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) لعدم ثبوت ذلك سنداً من جهة ولضعف بلاغتها وركاكة تركيبها بالنسبة إلى سيد البلغاء والبلاغة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) تهذيب اللغة ج1 ص65 (2) لسان العرب ج11 ص458 (3) نهاية الحكمة ص305 (4) ميزان الحكمة ج3 ص333 (5) أصول الكافي ج1، ح3 / 11 (6) نهج السعادة ج9 ص163 (7) الكافي ج7 ص94 (8) الفقيه ج3 ص493 (9) الاختصاص ص245 (10) نهج البلاغة حكمة 86 (11) بحار الأنوار ج72 ص105 (12) المصدر السابق ج1 ص94 (13) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص118 (14) الكافي ج8 ص73 (15) وسائل الشيعة ج1 ص162 (16) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص1 بقلم الكاتبة: رضا الله غايتي
اخرىبقلم: أم نور الهدى كان لأمير المؤمنين (عليه السلام) اهتمام خاص بالمرأة، فنراه تارة ينظر إليها كآية من آيات الخلق الإلهي، وتجلٍ من تجليات الخالق (عز وجل) فيقول: (عقول النساء في جمالهن وجمال الرجال في عقولهم). وتارة ينظر إلى كل ما موجود هو آية ومظهر من مظاهر النساء فيقول: (لا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها فإن المرأة ريحانة وليس قهرمانة). أي إن المرأة ريحانة وزهرة تعطر المجتمع بعطر الرياحين والزهور. ولقد وردت كلمة الريحان في قوله تعالى: (فأمّا إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة النعيم) والريحان هنا كل نبات طيب الريح مفردته ريحانة، فروح وريحان تعني الرحمة. فالإمام هنا وصف المرأة بأروع الأوصاف حين جعلها ريحانة بكل ما تشتمل عليه كلمة الريحان من الصفات فهي جميلة وعطرة وطيبة، أما القهرمان فهو الذي يُكلّف بأمور الخدمة والاشتغال، وبما إن الإسلام لم يكلف المرأة بأمور الخدمة والاشتغال في البيت، فما يريده الإمام هو إعفاء النساء من المشقة وعدم الزامهن بتحمل المسؤوليات فوق قدرتهن لأن ما عليهن من واجبات تكوين الأسرة وتربية الجيل يستغرق جهدهن ووقتهن، لذا ليس من حق الرجل إجبار زوجته للقيام بأعمال خارجة عن نطاق واجباتها. فالفرق الجوهري بين اعتبار المرأة ريحانة وبين اعتبارها قهرمانة هو أن الريحانة تكون، محفوظة، مصانة، تعامل برقة وتخاطب برقة، لها منزلتها وحضورها. فلا يمكن للزوج التفريط بها. أما القهرمانة فهي المرأة التي تقوم بالخدمة في المنزل وتدير شؤونه دون أن يكون لها من الزوج تلك المكانة العاطفية والاحترام والرعاية لها. علماً أن خدمتها في بيت الزوجية مما ندب إليه الشره الحنيف واعتبره جهادًا لها أثابها عليه الشيء الكثير جدًا مما ذكرته النصوص الشريفة. فمعاملة الزوج لزوجته يجب أن تكون نابعة من اعتبارها ريحانة وليس من اعتبارها خادمة تقوم بأعمال المنزل لأن المرأة خلقت للرقة والحنان. وعلى الرغم من أن المرأة مظهر من مظاهر الجمال الإلهي فإنها تستطيع كالرجل أن تنال جميع الكمالات الأخرى، وهذا لا يعني أنها لا بد أن تخوض جميع ميادين الحياة كالحرب، والأعمال الشاقة، بل أن الله تعالى جعلها مكملة للرجل، أي الرجل والمرأة أحدهما مكمل للآخر. وأخيرًا إن كلام الإمام علي (عليه السلام) كان تكريمًا للمرأة ووضعها المكانة التي وضعها الله تعالى بها، حيث لم يحملها مشقة الخدمة والعمل في المنزل واعتبر أجر ما تقوم به من اعمال في رعاية بيتها كأجر الجهاد في سبيل الله.
اخرىعالم الطفولة كأنه طاولة، لا تجد فيه غير طعام لذيذ، ومنظر لطيف وجديد، فعالمهم فاكهة الوجود، وخضار الأرواح، ومياه الحياة تسقي القلوب... عالم صفاء وأحلام جميلة بسيطة وتافهة ولكن بنظرهِ هو عظيمة وكبيرة، فهو العالم الذي ينطلق منه الإنسان في بداية عمره. فالطفل في بداية حياته ينظر إلى الحياة بتفكيره البريء، فالطفل يعيش بعالم خاص به مملوء بالمحبة البريئة. هذه هي الصورة الجميلة التي يحملها الطفل، وكم يتمنى كل إنسان أن يعود لطفولته البريئة ليتأمل في أرجاء عالمها الذي كان يصور له حياة مختلفة تشد الإنسان إليها بجمالها، هذا هو عالم الطفولة وهذه أحلام من يعيشها، فلا ينفذ إلى ملكوت ذلك العالم ولا يدرك كنهه إلا من عاشه وجال في ربوعه. حيث يتذوق الطفل مع أحلام طفولته هذه لذة الحياة ولذة العيش فيها، ومهما حاولنا أن نعبر عن هذه الحقيقة فلن نستطيع تصويرها بالكلمات. وبعد هذا، فإن الاهتمام بمستقبل الطفل هو في الواقع ضمان لمستقبل شعب بأسره. قال اللَّه تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا". التحريم/6 أعتنى الإسلام بتربية الأبناء عناية فائقة، وألقى على عاتق الأهل ما سيكون عليه الولد في مسلكه الدنيوي ومصيره الأخروي إن هم قصروا في تربيته وإعداده. وقد ذكر العلماء أن شخصية الولد تتأثر في نموها بعوامل ثلاثة وهي: الوراثة، والبيئة، والتربية. إذا خضنا في مضمار التربية السليمة للأبناء... فعلى الأبوين أن يكون لهما الوعي التربوي الذي يبنى على أسس صحيحة ويتوفر لديهم فهم لأساليب التربية والتوجيه والرعاية وهذه نقطة البداية. فمثلاً في أسلوب التعامل مع الطفل تبرز أمامنا ثلاثة اشكال لتعامل الآباء مع الأبناء: الشكل الأول: أسلوب الدلال المفرط وهذا الأسلوب له نتائجه السلبية الخطيرة، فإنه يخلق شخصية هشة متميعة وشخصية اتكالية تحب الكسل والخمول مجردة من الهدف والإقدام، انهزامية غير قادرة على مواجهة التحديات وبمعنى أدق شخصية لا تثق بنفسها. شخصية متسيبة في ظل غياب المراقبة والمحاسبة وهذا التسيب يقود إلى الانفلات والانحراف. الشكل الثاني: فهو أسلوب التربية القاسية والعنف. وهذا الأسلوب أيضاً له نتائجه الخطيرة والسلبية التي يعاني منها الأبناء طوال حياتهم فهو يخلق شخصية قلقة ومتأزمة ومعقدة وخائفة وتحمل عقدة الخوف، شخصية حاقدة وعدوانية وقد تتأزم الأمور لتصبح شخصية منافقة وكاذبة خوفاً من العقاب والتعنيف ضمن حدود الأسرة ولكن يوماً من الأيام سينطلق هذا الشخص ليواجه المجتمع ككل، فلنتصور كيف سيتعامل مع المحيطين ضمن مجالات الدراسة والعمل وهو شخصية هاربة من أجواء الأسرة وقد يعرضها للتسيب والانحراف لأنها شخصية متمردة مما يعرضها للعقوق. الأسلوب الثالث: التوازن. الأسلوب الصحيح يعتمد على التوازن فمن شروط نجاح التربية التوازن في المعاملة ما بين الأمور التي تحتاج إلى شدة وحزم ليتربى على أن هذه الأمور خطوط حمراء طبعاً هنا يمكن أن يعترض أحد ويقول: لا للعنف الأسري ولا لاستخدام القسوة. نعم فهناك طرق غير استخدام العنف. يكفي ان يبدي الآباء انزعاجهم مثلاً. وهنا النقطة مهمة جداً، وهي: أن نوضح لهم سبب المنع والرفض لا تعتقدوا أن أبناءكم لا يدركون ولن يفهموكم. تخصيص الوقت للنقاش مهم جداً. وما بين أسلوب المرونة والحنان والاحتواء. التوازن في المعاملة. إن الإمام زين العابدين (عليه السلام) يصرح بمسؤولية الأبوين بتربية الطفل، ويعتبر التنشئة الروحية والتنمية الخلقية لمواهب الأطفال واجباً دينياً يستوجب أجراً وثواباً من الله تعالى، وأن التقصير في ذلك يُعرّض الآباء إلى عقاب الله. فيقول (عليه السلام): (وأما حق ولدك عليك فأن تعلم أنه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره. وأنك مسؤول عما وليته به من حسن الأدب والدلالة على ربه عز وجل والمعونة له على طاعته. فأعمل في أمره عمل من يعلم أنه مثاب على الإحسان إليه معاقب على الإساءة إليه ) مكارم الأخلاق للطبرسي ص٢٣٢ حنان الزيرجاوي
اخرى