عن الإمامِ الصادق (صلوات الله وسلامه عليه) "يا معشر الشيعة! إنّكم قد نُسِبتُم إلينا، كونوا لنا زينًا، ولا تكونوا علينا شينًا" وفقَ هذا النهجِ التزم خُدّامُ الإمامِ الحسين (صلواتُ الله وسلامُه عليه) بتعليماتِ المرجعية؛ للحفاظِ على السلامةِ العامة، والحدِّ من نشرِ الوباء #الشعائر_الحسينية #حسينيون_أبدا
اخرىبقلم: حيدر عاشور حين استعادَ قواهُ بدأ يشعرُ بنفثاتِ الشمسِ المُحرقة، وعى المكانَ الذي كانَ فيه، وأدرك أنّ له فرصةً واحدةً، وربما حظًا واحدًا في أنْ يعيشَ طاهرًا بعد ساعاتِ النور الإلهي التي تغلغلتْ في أعماقِ جسده.. ألـمـّتْ برأسه أفكارٌ عديدة، تارةً يُفكرُ في المنظرِ المحيطِ به، مُنتظرًا اللحظةَ التي يأتي فيها شخصُه العظيم، وتارةً يغيبُ عن الوعي ليعيشَ الحالة، وكأنّه هو قد عادَ من جديدٍ لينشرَ من فيوضاتِه القُدسية.. كان يدّعي لسنواتٍ طويلةٍ أنّ بوسعِه تذكُّرَ أشياءٍ شاهدَها وقتَ تقمُّصه الشخصية، حين كانت أسماله تتحرّكُ بهيكلٍ بشري هزيلٍ على ناقةٍ يقودُها رجلٌ ذو بأسٍ شديد، وآخرُ قصيرٌ جدًا يحملُ لوحةً تعريفيةً، تؤكدُ للمشاهدين، الاسمَ والكنيةَ واللقبَ الطاهر، وصوتُه كأنّه يأتي من بعيدٍ أصم عبر كثافاتِ الصمتِ ممزوجًا بأصداءَ لا أسماء لها. كان يعرفُ أنّ الصوتَ البعيدَ ليس كلامَه، ولكنّه يسمعُ صوتَه هو، كما لو كانَ في داخلِه. ومن عجائبِ اللحظة، كُلّما نثرَ الصوتُ الناعي كلماتِه، كان المستمعون يجهشونَ بالبكاء، ويُغدِقون عليه بالأموالِ والهدايا، ويتساءلون عمّا إذا كانت هناك كرامات ستحدثُ بترقُّبٍ شديد، وهم ينظرون إلى وجهه الشاحب وجسده الهزيل، ولا يعلمون أنّ المرضَ يسري في جوفه يأكله رويدًا، رويدًا.. لم يُطِقْ بعدُ صبرًا، ومرَّ في عينيه شعاعٌ غريبٌ، كأنّه مزيجٌ من اليأسِ والسخرية، أريدُ أنْ أعرفَ، أعلمُ أنّ التفكيرَ بذلك مُريعٌ؟! ولكنّي أُريدُه. والناقةُ أشعرُ بها تتقهقرُ وتتقدمُ وتتهادى، وتأخذُني في دورانها، لكأنّي أسمعُ الصوتَ بوضوحِ ونقاءِ لغة، ولكأنّ أُذُنيّ مُلتصقتان على حافةِ السرج، ولكأنّ فمي يتكلمُ، تسقطُ الكلماتُ منه بكُلِّ هدوءٍ وكياسة، وبدون هوادة، أمامَ العذابِ الذي يُمارسُه الجلّادون للسبايا من أهلِ بقيةِ اللهِ على الأرض ووَرَثةِ علمِه وحكمتِه، وأمامَ حشدٍ من الموالين والمُعزّين يحملون كفنًا لصغيرِ الطفِّ يتأرجحُ بخِفةٍ، وحينَ اقتربَ الكفنُ من الناقةِ أثارَ فيّ لوعةً من الرُعبِ الخفي، هنا ارتفعَ الصوتُ وسطَ ضجيجِ وصَخَبِ الموجوعين: "اعلمْ رحمكَ اللهُ أنّ للهِ عليكَ حقوقًا مُحيطةً لك في كُلِّ حركةٍ تحركتَها، أو سَكَنَةٍ سكنتَها، أو منزلةٍ نزلتها، أو جارحةٍ قلَبتها، وآلةٍ تصرّفتَ بها: بعضُها أكبرُ من بعض"... يعرفُ حقَّ اليقين لم يكنِ الكلامُ كلامَه. وكان هناك شيءٌ واحدٌ يهمُّه، حرارةُ انفعالِه الداخلي وتفاقمُ قلقه، وملأه الدوارُ فضمَّ جسدَه النحيلَ إلى سرجِ الناقة، ضمّةً هستيريةً، فدخلَ في الغيبوبةِ وفاضتْ روحُه إلى عالمِ ملحمةِ العروجِ الملكوتي الدامي الصاعد إلى الله تعالى في غيبِ الغيوبِ في فاجعةِ طفِّ كربلاء التي صرعتْ وجندلتْ خيرةَ خلقِ الله، بعدَ أنْ عاثتِ السيوفُ والرماحُ والسهامُ الكافرةُ في الأجسادِ الشريفة، وهم مُقتّلون مُلقون نثرًا على رمضاء كربلاء.. فمن يُطيقُ تلك المشاهدَ الرهيبةَ، بل من يُطيقُ الحياةَ بعدَ الكارثةِ الباكيةِ المُبكية المُفجعة؟! وسادتْ حالةٌ سامةٌ من الهدوء المُميت، لم يَعُدْ يرى أحدًا، وهو يرتعدُ بسخونةٍ على ناقتهِ، ليعودَ الصوتُ في أوجِ نقاوتِه، يسمعُه في داخلِه ويلهجُ به لسانُه، وينطلقُ في هواءِ الموكبِ ككتلةٍ رنينيةٍ ترتفعُ بالتدريج، تخنقُ القلبَ بالعبرات، إنَّ عليك (حَقّ الهَدْيِ) أَنْ تُخلِصَ بهَا الإرَادَةَ إلَى رَبكَ، وَالتَّعَرُّضَ لِرَحْمَتِهِ وَقَبُولِهِ، ولا تُرِيدَ عُيُونَ النَّاظِرِينَ دُونهُ، فـَإذَا كُنْتَ كَذَلِكَ لَمْ تَكُنْ مُتَكَلِّفًا ولا مُتَصَنِّعًا وَكُنْتَ إنَّمَا تَقْصِدُ إلَى الله. وَاعْلَمْ أَنَّ الله يُرَادُ بالْيَسِيرِ وَلا يُرَادُ بالْعَسِيرِ.. عندما يسمعُ ويتأمّلُ المرءُ جيدًا للصوتِ لمراتٍ، وهو عارفٌ ممّن هذه النواصحُ الإلهية فهي مذاقٌ مُسبقٌ لعذابِ الموتِ يغضّنَّ جبينَه بظلِّ ألمِ وجزعِ صاحبِ الصوتِ والعلامةِ المخلدة التي تركها عليه الموتُ كانت بالضبطِ الرمزُ الفارقُ بينه وبين كُلِّ الرجال العاديين على الأرض. ومن المؤكدِ أنّ مثلَ هذا الصوت الذي أبحرَ به طوالَ مسيرةِ مسرحِ التعزيةِ هو التذكيرُ والفرصةُ إلى معرفةِ حقِّ الله الذي كان يُردِّدُه في ساعاتِ الغضب والجنوحِ إلى غرور الحياة، وعندما ذكر اسمَ اللهِ أنشدَ هامسًا: "فأَمَّا حَقُّ اللهِ الأَكْبَرُ فَإنَّكَ تَعْبُدُهُ لا تُشْرِكُ بهِ شَيْئًا، فَإذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ بإخلاص جَعَلَ لَكَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَكفِيَكَ أَمْرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَحْفَظَ لَكَ مَا تُحِبُّ مِنْهَما" عندئذٍ وهنَ إنشادُه، تضاعفَ وتردّدَ صداه برنينٍ جليل، سمع أنينًا قويًا جاء دون شكٍّ من هناك، في مسرحِ القتلِ كان الجلّادون الأمويون يتقاتلون على أخذِ كُلِّ ما يقدرون أخذه من فرائسهم، فهم مُتعطشونَ للقتلِ والنهبِ والغزو والغنائم، وكُلُّ الميتات التي أوقعوها بقافلةِ العشقِ لم يكنْ عليها أنْ تفيضَ بالدمِ وحسب، بل استمتعوا بقطعِ الرؤوس بمراسمَ الحقدِ والثأرِ من رائحةِ زوجِ سيّدِ الكون، لكي يطولَ العذابُ وتصدر عن ضحاياهم – القربان- صرخاتٌ حزينةٌ طويلة، تجعلُ السامعَ يشعرُ بعُزلةِ الحياة التي لا يُمكِنُ التعبيرَ عنها، وهو يردُّ على الضحيةِ صرخةً بصرخة. من ذلك المكان المُعبّدِ بدماءِ الأطهارِ من تلك الصفوف النخبوية من الرجالِ التي تقتسم السماءَ المليئةَ بالنجوم. كان الصوتُ يشبهُ ذلك النهار الدامي وهو يُجلجِلُ في وجهِ قُبّةِ السماء المُرصّعةِ بالأرواحِ الزكية: ها أنا بعدَ كُلِّ هذه المصائب أسيرُ مع البقيةِ الباقيةِ من ريحانةِ أعظمِ رجلٍ في الملكوتين، كسبايا في أرضٍ وعرةٍ يتصفّحُ فيها العدوُ والصديقُ وجوهَنا مُقادينَ في بلادِ العربِ وبين أمراءِ القبائل الهمجية.. لم يكنْ في هذه الغيبوبةِ ما يُطمئنُه، ولكن كان الصوتُ رفيقًا ودودًا حنينًا، أحسنُ من جِلستِه على الناقة، وهو يُتمتِمُ مع نفسه: إنّني لا أكادُ أنْ أصدقَ أنْ يكون إعصارُ الطفِّ رهيبًا إلى هذا الحد، وهو يذبحُ الأقمارَ، ويفلُ بريقها، على يدِ أمراءٍ همج، وغلمانِ القبائلِ الخائنة. كنت واحدًا من أولئك النهّابين المُتوحشين الذين لا يعرفونَ كيفَ يُعبِّرون عن حُبِّهم، فيقتلون بطريقِ الجهلِ الشخصَ الذي يُحبّونه في كُلِّ عصرٍ وزمانٍ وبنفس المكان أو في أي مكان.. كان صوتُه في الظل، ولا يُمكِنُ أن يُرى، وبدا من صوتِه الرصين أنّه هو، لكن الغريب أنّ الساحاتِ ممتلئةٌ، ومجموعة من الناس تتحدّثُ بأصواتٍ خفيضةٍ وعاليةٍ أو تتحدّث إلى نفسِها، كان عزاءً جنائزيًا يُخيّمُ عليه حزنٌ بغمغمةٍ لا تنتهي، والصوتُ الوحيدُ الذي يُمكِنُ سماعه من حينٍ لحينٍ، وهو يقرأ قوانينَ وحقوقَ تمسُّ ذاتي وحدي.. واشتدَّ الدافعُ بداخلي تدريجيًا ليصلَ إلى حُلُمِ يقظةٍ ربما كان حُطامًا يُمكِنُ أنْ يحلمَ به إنسانٌ مثلي، كما هو معَ أحلامِ يقظتي الكثيرة، والمُتعةُ التي أشعرُ بها في هذه اللحظة هي شعورٌ إنسانيٌ حقيقيٌ يرتجفُ لها عقلي، ويتجدّدُ في صدري الجَزِعِ العميقِ وأنا في مَلبسِ شخصيتِه العظيمة. كان يُراقِبُ هذه المُقاومةَ النفسيةَ الروحيةَ المُثيرةَ للشفقة، وعليه أنْ يمسكَ الفرصةَ، وربما الحظَّ الأخير في أنْ يعيشَ طاهرًا.. فجأةً صرخ: من أين أبدأ..؟ خنقتْه العبرةُ وأغميَ عليه وكأنّه قد مات فعلًا. فعَلَتْ صرخاتُ الموالين، ونحبَ الناحبون، وشمرتِ النساءُ على رؤوسهن التراب، وضربَ الرجالُ ظهورَهم بالسلاسل النصلة، وصحا على ضربةٍ على الرأسِ أذهلته، لما تحملهُ من قوةٍ مملوءةٍ بالودِ، لم يرَ أحدًا ولكن بوسعه أنْ يشعرَ أكثر من أن يرى.. إنّها رسالةٌ عميقةٌ ارتجفَ لها عقلُه تحتَ وطأةِ الإثارةِ لتقمُّصِ شخصيةٍ عظيمةٍ، تومضُ عيناه، يلتهبُ الدمُ في كُلِّ جسدِه، وتفيضُ بذلك التعبير عن الشخصيةِ التي يُجسِّدُها بشكلٍ يتحدّى أيّ تعبير، لم يكنْ بوسعِه أنْ يُصدِّقَ أنَّ الصوتَ الذي يدقُّ في المدى دونَ انقطاعٍ في أُذُنيه، يتعلّقُ بالطبيعةِ المُطلقةِ للحقوقِ العقابية، ولم يشك فيما حدث وهو يعيشُ خلالَ اللحظاتِ الشعورَ المُعذَّبَ بالنقاهةِ، بعدَ أنْ كانَ ولا يزال شخصًا يعاني من مرضٍ مجهولٍ في غمراتِ الخوف، يختفي عنه لحظةَ تجسيدِه الشخصية وهو مُشبعٌ بشكلٍ خفي في العقلانية المُفترضة، وينتابهُ شعورٌ بالراحةِ التي تشبهُ الإنهاك. الغريبُ أنّه يسمعُ الصوتَ بنغمةِ التوسّل البالغةِ الوضوح، ولحظةُ الفراقِ تنتظره بلهفة، كان صوتًا إلهيًا من أصواتِ الوداعِ إلى الأبدية، استنهضَ نفسه، وهو يسترقُ النظرةَ الأخيرةَ من وراءِ البُرقُعِ الأبيضِ ناحيةَ المُعزّين لقافلةِ العشقِ الملكوتي تحتَ ضوءِ الشمسِ الوهّاج، ثم انعطفَ الركبُ وابتعدتِ الناقةُ ببُطءٍ عن الطريق، بينما كان جسدُه ينتقلُ على أيادي بما يليقُ بالأجداثِ الطيبة.
اخرىبقلم: گوناي البياتي كُلّما كُنتُ أتهيأُ لسردِ قصةِ شهيدٍ من الشهداءِ، وما إنْ أكتبَ سطرين حتى أتوقّف عن الكتابةِ لأيامٍ، لا أدري ما العلة؟! وآخرُ ما توصلتُ إليه أنَّ المانعَ هو ذاك الحزن الذي يغزو كياني وروحي ويغلبُ عليَّ وأنا أكتبُ تلكَ الكلماتِ التي تنطقُ عن أرواحٍ طاهرةٍ، أخطُّ تلك الكلماتِ وأنا أعيشُ مأساةَ أمِّ الشهيد، أختِ الشهيد، أخِ الشهيد، فيأخذ هذا الحزنُ أيامًا من الشرودِ يشلُّ حركتي، ازدادُ نومًا للهروب منه، تنقطعُ رغبتي في الحياة، نحنُ مُجبرون على الحزنِ عليهم؛ فهُم جزءٌ منا لا يتجزّأ. الأرضُ وما عليها يُخيَّلُ لي أنّها تشعرُ بالحياءِ من الشهيدِ الذي استردَّها من العدوِّ ليُكافأ بالدفنِ فيها. محمدٌ الابن البكر لأمِّه، والمعروفُ أنَّ الابنَ البكرَ يكونُ صديقًا لأمِّه، ومُحمدٌ كان كذلك. هو من مواليد 1999، تقولُ والدتُه: إنّ الشهيدَ منذُ صغرِه ظهرتْ عليه بوادرُ الإيمان وحُبِّ الشهادة، فقد كان يصلي ويصوم، وأغلبُ أوقاتِه يلهجُ بالشهادةِ قائلًا: الشهادةُ رزقٌ من الله (تعالى)، فلا يبلغه أيٌّ كان.. مرّتِ الأيامُ وكبُرَ محمدٌ، وعمل سائقًا ليساعدَ والدَه في المعيشة، ومرّتِ السنون والشهور، حتى احتل داعشُ مدينتنا (تلعفر)، فتحرّكتِ الهِمّةُ لدى أبناءِ مدينتي الأبطال الذين لا يرضون العيشَ بالذل، فتركَ أغلبُ شبابِ تلعفر أعمالَهم وتوّجهوا نحو ساحاتِ الوغى، أغلقوا أبواب أرزاقهم نحو ما هو أوجبُ واتجهوا نحو الحرب غير المتكافئة؛ ليُنقِذوا مدينتَهم ويسترجعوا أراضيهم، هذه المدينةُ التي لا ذنب لها سوى أنّها سائرةٌ على دربِ الحسين (عليه السلام). وعلى الرغم من أنَّ الحربَ كانت غيرَ متكافئةٍ، إلا أنّهم كانوا قد توجهوا صوبَ الساحاتِ دون خوفٍ أو ترددٍ؛ فبينما كانوا يفتقرون إلى المُعدّات كانوا أغنياء بحُبِّ الوطن والولاء له، وقبلَ أنْ يتركوا أراضيهم حاربوا واستمرتِ المواجهةُ أيامًا وسقطَ الكثيرُ من الشهداء، ولكن حين أيقنوا أنَّ الحرب غير المتكافئة إنّما هي تعريضُ النفسِ للهلاك، ولم يكونوا يملكون من المُعدّاتِ ما يُساعدُهم على الاستمرار... انسحبوا.. وكما التحقَ رفاقُه التحقَ مُحمدٌ تاركًا عمله، تقولُ والدتُه: كم أصرّينا على أنْ يتراجعَ؛ إذ ليس لدينا من يُعينُ والدَه في العمل سواه، لكنّه أصرَّ أنْ يُشاركَ.. بل وشاركَ محمدٌ بلهفةٍ ليُرجعَ مدينتَه، وليزرعَ البسمةَ في وجوهِ الأطفال النازحين، وليُدفئ أرواحَهم الباردةَ بين الخِيَم.. كما شاركَ في تحريرِ الثرثارِ وصلاحِ الدين وغيرها من المناطق، كانَ يندفعُ كاندفاعِ مياهِ البحار، لعلَّ موجه يأخذ به إلى مدينته؛ ليشمَّ رائحةَ البساتينِ، وليشربَ من مائها العذب، وليتباهى بمدينته، لكنّه لم يُصِبْ هدفه، ولم يُحقِّقْ حلمه، إذ رحل في آخرِ خطوةٍ للوصول إلى تحرير مدينته.. كان كُلّما تتحررُ منطقة يبتهجُ ظانًا أنّه اقتربَ من تحرير مدينته، وعندما وصلَ التحريرُ لمدينةِ الموصل التي لا تبعدُ عن تلعفر سوى عدة كيلومترات، كانتِ السعادةُ والعزيمةُ تتجدّدُ في روحه، ولكن كان للواقع رأيٌ آخر، فقد استُشهدَ في الموصل القديمة وهو يؤدي الواجبَ المقدس.. وهكذا رحل مُحمدٌ وتركَ حلمَه يبحثُ عنه، ومثلما رحلَ محمدٌ رحلَ الكثيرون دون أنْ يضعوا قدمًا على أرضهم، دون أنْ يُكحِّلوا نواظرهم برؤيةِ مدينتهم، رحل محمدٌ وتركَ زوجتَه العروس ولم يمضِ على زواجهما إلا أيامٌ، فتحوّلَ محمدٌ من الشهيد إلى العريس؛ فكُلّما أرادوا الحديثَ عنه قالوا العريس، هكذا رحل محمدٌ وتركَ أثرًا كبيرًا.. تقولُ أُمُّ الشهيد: في تلك اللحظة، أي لحظة رحيله لمستُ خشونةَ الدنيا، فلم يَعُدْ فيها ما يروقني، والموتُ واقفٌ بحلقي، وملكُ الموت على أطرافي، يُحيطُ بي فأراه موتًا كثيرًا لا موتةً واحدةً.. وعندما حملوه كأنّي بهم يحملونني، كأنّي ميتٌ يحملُ نفسَه، وما دونه إلا المُشيعون، ثم رحلوا وبقيتُ وحدي في الدار أنظرُ يمينًا تارةً وأخرى شمالًا وكُلُّ شيءٍ تغيّرَ وكُلّ ما في الدار مات.. رحل محمدٌ وترك أمَّه تندبُ، هكذا هو حالُ أُمّهاتِ جميعِ الشهداء، كُلُّ يومٍ يمرُّ عليهن بمثابة سنة... يا رفاقُ كُلُّ فكرةٍ دونَ الموتِ أهون، ما إنْ يموتُ قريبٌ للإنسان حينها يعلمُ أنَّ كُلَّ شيءٍ كان قابلًا للتحمُّلِ، إلا الموت فلا علاجَ له ولا رجعة فيه، ولكن للشهداءِ فوزاً على خلافِ الموت العادي، حيثُ فضّلَهم اللهُ (تعالى) بالبقاء والحياة الأبدية، فهم أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ.
اخرىبقلم: علوية الحسيني ظاهرًا هذا هو الموقفُ الذي دفعَ السيّدةَ زينبَ (عليها السلام) لإلقاءِ خطبتِها البليغة؛ حينما كانت في مجلس الطاغيةِ يزيد (عليه لعنة الله)؛ وكان (لعنه الله) يتجاسرُ على رأسِ الإمامِ الحسين (عليه السلام) بضربِ ثناياه الشريفة بالمخصرة، مما أفجعها، حتى قالت ما قالت. ولاشكَّ أنّ لهذهِ العبارةِ جوانب عقائدية، وأخلاقية، وبلاغية، يتمُّ توضيحُ شيء منها بالتالي: ■الناحيةُ الأولى: الناحيةُ العقائدية نعلمُ -كما وصلَنا عن أئمتِنا (عليهم السلام)- أنّه لولا ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) لمُحيَ الدّينُ محوًا على يدِ الطاغيةِ يزيد ومن مكّن له من الحكم (عليهم لعنة الله جميعًا)، ومن لم يكنْ يعلمُ بذلك فليعلمْ من خلالِ التأمُّلِ في تجاسرِ يزيد على رأسِ سيّدِ شبابِ أهلِ الجنة -كمثال- وإلا فشنائعُ أفعالِ ذلك العتل كثيرةٌ. وقد روَتْ هذا الحدثَ الفجيعَ كتبُ أبناءِ العامة؛ إذ روى الذهبي: "... ثم قاتلَ [الإمام الحسين] حتى قُتِل، قتلَه رجلٌ مذحجي، وحزَّ رأسَه، ومضى به إلى عُبيدِ الله، فقال: وقرْ ركابي ذهبا فقد قتلتُ الملكَ المُحجّبا قتلتُ خيرَ الناسِ أمًا وأبا فوفدَهُ إلى يزيد ومعه الرأس، فوضعَ بين يديه، وعنده أبو برزة الأسلمي، فجعلَ يزيدُ ينكتُ بالقضيبِ على فيه، ويقول: نفلقُ هامًا من أناسٍ أعزة علينا وهم كانوا أعقّ وأظلما"(1) وهذا فعلٌ غيرُ مُستبعدِ الصدورِ ممّن هتكَ حُرمةَ الكعبةِ حينما رماها بالمنجنيق! ولو تأمّلْنا في قولِ السيّدةِ زينب (عليها السلام) وتساءلنا: لماذا هُنا تحديدًا وصفتِ الإمامَ الحسين (عليه السلام) بأنّه سيّدُ شبابِ أهلِ الجنة، دونَ أنْ تصفَه بصفةٍ أخرى، أو تُطلِقُ قولَها؟ لكان الجوابُ: إنّها حكيمةٌ، والحكيمُ أفعالُه وأقوالُه مُعلّلةٌ بغرض؛ وتتجلّى الحكمةُ من قولِها (سيّد شباب أهل الجنة) تذكيرًا للطاغيةِ بأنّ عقيدتَه شوهاء؛ لأنّ سيّدَ شبابِ أهلِ الجنة هو إمامُ أهلِ الأرض، والخروجُ على الإمام، فضلًا عن قتله والتمثيل برأسه الشريف لهوَ انسلاخٌ عن الدّينِ المحمدي. والنصوص متوفرة كثيرة حتى عند يزيد تشهدُ أنّ رسولَ الله (صلى الله عليه وآله) قد وصفَ الإمامَ الحسينَ (عليه السلام) بأنّه سيّدُ شبابِ أهلِ الجنة؛ "فعن أبي سعيدٍ الخدري، قال: قال رسولُ الله (ص[صلى الله عليه وآله]): الحسنُ والحسينُ سيّدا شبابِ أهلِ الجنة"(2). تُرى بأي ّ طريقةٍ بعدُ أُثبتُ للعالمِ بأسرِه كفرَ الطاغيةِ يزيد؟! إن السيّدة زينب (عليها السلام) قد أعطت للطاغيةِ وجلسائه وجميعِ الحضور، ومضةً عقائديةً بحقِّ الإمام، ووجوب احترامه، وأنّ الخروجَ عليه -فضلًا عن التمثيل برأسه- هو الكفرُ الصريح؛ لأنّه فعلٌ مُخالفٌ للعقيدةِ بمن جعلَه إمامًا وهو اللهُ (تعالى)، وما أراه إلاّ بدرجةِ كُفرِ فرعون بل أشد. ■الناحيةُ الثانيةُ: الناحيةُ الإنسانية. لم ينقلْ لنا التاريخُ واقعةً كواقعةِ الطف، وهذا يدلُّ على وحشيّةِ العدو، وعدمِ إنسانيته؛ بعدم مراعاته للقواعد الإسلامية في الحروب، هذا على فرضِ كونِ الإمامِ الحسين وعيالاته (عليه وعليهم السلام) أناسًا عاديين، وإلاّ لاكتفى بمبارزة الإمام. بل ولكونه جبانًا، ثملًا، لن يخوضَ حربًا مباشرةً مع الإمام الأسد الفارس (عليه السلام)، فقد تجسّدتْ عدمُ إنسانيته بالغدر بالإمام، بل وبالجرأةِ بالتمثيلِ برأسه، وضرب ثناياه أمامَ سليلاتِ النبوّةِ (عليهنّ السلام) -هذا فضلًا عن سبيهنَّ-فهذه هي بهيميّةُ يزيد (عليه لعنة الله). ■الناحيةُ الثالثةُ: الناحيةُ البلاغية. اشتملَ خطابُ السيّدةِ زينب (عليها السلام) هذا على أسلوبٍ بلاغي، غاية في الأهمية، وهو الإطناب. "أي زيادةُ اللفظِ على المعنى لفائدةٍ مرجوّة"(3). فالسيّدةُ زادتْ على لفظِ (أبي عبد الله) لفظ (سيّدِ شبابِ أهلِ الجنة)، وكذا زادتْ على لفظِ (مُنتحيًا على ثنايا) لفظَ (تنكتُها بمِخْصَرتك)، فأطنبتْ بالكلام؛ أي أطالته؛ لفائدةٍ طبعًا. فحينما أضافت لـ(أبي عبد الله) صفةَ (سيّد شباب أهل الجنة) فلعلّها تقصدُ عدّةَ أمورٍ، منها: 1- دفعُ الإيهامِ عن سامعي خُطبتِها من عامةِ الناس، "وهذا أحدُ أغراضِ الإطنابِ بلاغيًا"(4)؛ فليسَ كُلّ من كان حاضرًا في مجلسِ الطاغية يزيد (عليه لعنة الله) يعلمُ بمقامِ السبايا والرؤوس المشالات. لهذا أجّجتِ الحضورَ بخُطبتِها (عليها السلام)، مما جعل البعضُ يثور على يزيد الذي كان قد خدعهم بأنّ السبايا هم من الخارجين على أمير المسلمين؛ "كالشيخ الذي قال للسبايا: الحمدُ لله الذي قتلكم وأهلككم وأراحَ البلادَ عن رجالِكم، وأمكنَ أميرُ المؤمنين منكم"(5). فما أبلغ الحوراء! 2- إثارةُ الحميّةِ عند المُتلقين"(6)، وهذا غرضٌ لا يقلُّ أهميةً عن السابق؛ إذ يُروى " أنّ رسولَ ملكِ الرومِ كان حاضرًا في مجلسِ الطاغية، فلّما عرفَ صاحبَ الرأسِ وبّخَ الطاغية، ووثبَ إلى رأسِ الحسينِ (عليه السلام) فضمَّهُ إلى صدره وجعلَ يُقبِّلُه ويبكي حتى قتلَه الطاغيةُ لئلا يُفتَضَح"(7). *وحينما أضافت لــ(منتحيًا على ثنايا) لفظ (تنكتها بمِخْصَرتك)، فلعلّها تقصدُ توضيحَ مرادها"(8), لأنّ المُخاطبَ الطاغيةَ (عليه لعنة الله) لا يفقهُ إلا بالإطناب؛ فبلاغةُ السيّدةِ كثيرةٌ عليه؛ مما اضطرها إلى التوضيحِ بأنّ معنى (مُنتحٍ) هو اتخاذُه ناحيةً يقرُبُ فيها من الرأسِ الشريفِ لينكُتَ الثنايا الطاهرة! فلم يكنْ إطنابُها معيبًا؛ لأنّه لم يخل من فائدة. ____________________ (1) سير أعلام النبلاء: للإمام الذهبي, ج3, ص309. (2) مسند أحمد بن حنبل: لأحمد بن حنبل, مسند أبي سعيد الخدري, ج3, ح10616. (3) البلاغة الواضحة: لعلي الجارم ومصطفى أمين, ص250. (4) التحفة الباهرة في بلاغة المخدرة الطاهرة: لحسين البحراني, ص88. (5) اللهوف في قتلى الطفوف: للسيد ابن طاووس, ص102. (6) مصدر سابق, ص88. (7) اللهوف في قتلى الطفوف: لسيد ابن طاووس, ص110-111. (8) المصدر نفسه. وثواكلٌ في النوحِ تُسعِدُ مثلَها أرأيتَ ذا ثكلٍ يكونُ سعيدًا؟! حنّتْ فلم ترَ مثلَهنَّ نوائحًا إذ ليس مثلُ فقيدهن فقيدًا
البيان والبلاغة في كلمات أهل البيت عليهم السلامتعلمتُ من عاشوراء الحسين (عليه السلام) أنْ أُحِبَّ المُصلحين في أيّ بلدٍ وأبغضُ أيًا كان من المجرمين والمفسدين في كُلِّ زمانٍ ومكان.
اخرىبقلم: حنان الزيرجاوي دخلَ غريبٌ إلى مدينتي، إحدى المدن المواليةِ لآلِ بيتِ رسولِ الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، استغرب من ذلك المنظر، منظر السواد الذي يعمُّ أرجاءَ المدينةِ وإذا به يتفاجأ بمظهرِ ارتداءِ أهلِ المدينةِ لذلك السواد أيضًا، راوده هاجسٌ بحُبِّ الاستطلاع والتساؤل عن ماهيةِ ذلك السواد؟! هل أولئك الأناسُ يتبركون بهذا اللون؟ ماذا يعني لهم؟ ولماذا يملأ كُلَّ زاويةٍ في المدينة؟ أخذَ يتساءلُ ويتساءلُ، حتى قامَ باستطلاعِ آراءِ الناسِ حولَ ذلك السواد، فسألَ شخصًا مارًا: -ما هذا السواد؟ ولماذا ترتدونه يا عم؟ -سأُخبِرُكَ يا بُني، أحدُ أسبابِ لبسِنا السوادَ في أيّام محرّم الحرام، وشهرِ صفر، أننا بذلك نُعظِّمُ شعائرَ الله (تعالى) أولًا، ونظهر مودّتنا وحبّنا لأهلِ البيتِ (عليهم السلام) ثانيًا، فنحزنُ لحزنِهم، ونُحيي أمرَهم؛ ألم يأتِ في الروايات التي وردت عنهم (عليهم السلام): (رَحِمَ اللهُ من أحيا أمرنا)، فعند لبسِنا للسوادِ شِيبًا وشبابًا، نساءً ورجالًا، ستكونُ تلك ظاهرةً اجتماعيةً تُلفِتُ نظرَ الغريب، فيسأل: ماذا حدث... مثلما فعلتَ أنتَ يا ولدي. وبذا سيكونُ لبسُ السوادِ تمييزًا للهوية الشيعية، وسيعلمُ القاصي والداني بأنَّ النهضةَ الحسينيةَ مستمرةٌ إلى يوم القيامة، وأنَّ الحُزنَ يبقى سرمديًا على سيدِ الشهداء (عليه السلام). وبينما أنا واقفٌ أنظرُ له وهو يسألُ شخصًا تلوَ الآخر من مُختلفِ الأعمار، وإذا به توجَّه بسؤاله لشابٍ موالٍ يافع مُخاطِبًا إياه: -أراكَ ترتدي السواد رغم حرارةِ الجو وأنتَ شابٌ مثقفٌ، وتعلمُ خصائصَ وتأثيراتِ ذلك اللون، لما يوحيه من كآبةٍ وحُزنٍ وامتصاصه للحرارة؟! فأجابه: -نعم صحيحٌ كُلُّ ما تفوّهْتَ به يا أخي، لكنَّ تأثيرَ ذلك السوادِ في مُصابِ أهلِ البيت (عليهم السلام) مُختلفٌ تمامًا، تتغيّرُ صفاتُه وتأثيراتُه، نشعرُ بأنّه انتصارٌ وفخرٌ بالقضيةِ الحسينية، يمتصُّ حرارةَ قلوبِ العاشقين الوالهين لأهلِ بيتِ النبوةِ (سلام الله عليهم)، ويعكسُ نورَ الولاية. بعدها تحوّلَ لإحدى النسوةِ يسألُها: - لماذا ترتدين السواد؟ فهل لديك شخصٌ عزيزٌ قد خطفَه الموتُ منكِ؟ أجابته بقولها: نعم، فقدتُ من هو أقربُ إليّ من أبي وأمي، فالإمام (عليه السلام) هو أولى بنا من أنفسنا، لا تُدانيه منزلةٌ؛ هو أعظمُ وأعلى حتى من منزلةِ الأمِّ والأبِ والولدِ، أليس في مقامِ الزيارةِ نقول له: بأبي أنتَ وأمي يا أبا عبد الله؟! فلبسُنا للسوادِ يختلفُ لمنزلةِ الإمام (عليه السلام) ورتبته منا، ولولائنا المقرون بالعمل، ولبشاعةِ الكيفيةِ التي ذُبِحَ بها الإمام، فهذه رزيةٌ كبرى فقد حزنتْ عليه الحياةُ، وبكتْه بدلَ الدموعِ دمًا كلٌّ من السماء والأرض.
اخرىبقلم: علوية الحسيني فجيعةٌ غطّتْ على جميعِ فواجعِ الطف، حتى باتَ لسانُ حالِ الأئمةِ (عليهم السلام) يستنهضون قائمَهم الإمامَ المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) للأخذِ بثأرِ من تسبّبَ بفواجعِ الطف، ومنها (فجيعةُ السبي -إبرازُ سليلاتِ الطُهرِ من خيمهنَّ-). أسألُ اللهَ (تعالى) أنْ أُجيدَ بيانَ هذه العبارة عقائديًا، وأخلاقيًا، وبلاغيًا، ضمنَ النواحي التالية: ■الناحيةُ الأولى: الناحيةُ العقائدية بقطعِ النظرِ عن عدمِ أخلاقيةِ التصرُّفِ الذي أقدمَ عليه بنو أمية بسبيهم حرائرِ بيت النبوّةِ (عليهنَّ السلام)، فإنَّ عقيدةَ من يُقدِمُ على ذلك لهي عقيدةٌ شوهاء؛ وإلا فمن ذا الذي يخالفُ قولَ النبي (صلى الله عليه وآله) حينما أمرَ بالمودةِ في قُرباه فهو يكفرُ بكلامِ الله (تعالى)؛ فأمرُ المودةِ في القربى من عندِ الله (تعالى)، وهو الذي أمَرَ نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنْ يُخبِرَ الناسَ عن طريقِ القرآن الكريم، حيثُ قال (تعالى): {قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ}(1), والسيّدةُ زينبُ (عليها السلام) من بيت ذوي القربى، إلا أنّهم لم يراعوا فيها إلًّا ولا ذمةً! فبعدَ قولِ اللهِ (تعالى) قالَها النبيُّ (صلى الله عليه وآله)، وحيثُ إنّ بني أمية وأتباعهم أظهروا العداوةَ للقربى، إذًا فهم كافرون، عليهم غضبٌ من اللهِ (تعالى) ونقمة؛ قال (تعالى): {وَلَٰكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ الله}(2)؛ ولهذا فإنّها (عليها السلام) كانت قد أشارت إلى هذا الغضبِ الإلهي في بدايةِ خُطبتِها في الكوفة؛ بقولها: "أَلَا بِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَنْ سَخِطَ الله عَلَيْكُمْ وَفِي الْعَذَابِ أَنْتُمْ خَالِدُون". وفي موضعٍ آخر أشارتْ إلى ذلك قائلة: "وَبُؤْتُمْ بِغَضَبٍ مِنَ الله". من هُنا نفهمُ البُعدَ العقائدي من مَقطعِ كلامِ السيّدةِ زينب (عليها السلام) وكأنها تريدُ أنْ تقولَ: إنَّ إبرازَكم لكريمةٍ تُنسَبُ لرسولِ اللهِ محمد (صلى الله عليه وآله) هو طعنٌ في كلامِ اللهِ (تعالى)، وطعنٌ في العقيدة بالله (تعالى)، والطاعنُ في العقيدةِ كافرٌ كبني أمية (عليهم لعنة الله). ■الناحيةُ الثانيةُ: الناحيةُ الأخلاقية عاشتِ السيّدةُ زينبُ (عليها السلام) خمسَ سنينٍ من عمرها الأولى مُعاصرةً لنبي اللهِ الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله)، سيّد الأخلاق، فلا شكّ أنّ أخلاقَها مُبتنيةٌ على جذورٍ رصينة. كما كان لأبويها وأخويها (عليهما السلام) دورٌ كبيرٌ في تربيتها، فضلًا عن استعدادِها النفسي لتلقّي الفيض. ومن أبرزِ ما تربّتْ عليه (عليها السلام) الحشمةُ والعزُّ، حتى باتَ لا يُرى ظلُّها؛ حيثُ رويَ عن يحيى المازني أنّه قال: "كُنتُ في جوارِ أميرِ المؤمنين (عليه السلام) في المدينةِ مدةً مديدةً وبالقربِ من البيتِ الذي تسكنُه زينبُ ابنته، فلا واللهِ ما رأيتُ لها شخصًا ولا سمعتُ لها صوتاً، وكانتْ إذا أرادتِ الخروجَ لزيارةِ جدِّها رسولِ الله (صلى الله عليه وآله) تخرجُ ليلاً، والحسنُ عن يمينِها، والحسينُ عن شمالِها، وأميرُ المؤمنين أمامها، فإذا قَرُبتْ من القبرِ الشريفِ سبقَها أميرُ المؤمنين (عليه السلام) فأخمدَ ضوءَ القناديل. فسأله الحسنُ مرةً عن ذلك؟ فقال: أخشى أنْ ينظرَ أحدٌ إلى شخصِ أختِك زينب"(3) بل وحتى حينَ خروجِها إلى كربلاء، لم يتخلّ أخواها عن حمايتها؛ فتذكرُ لنا بعضُ المصادر: "إنّ العباس (عليه السلام) ومنذُ وصول قافلةِ الإمامِ الحسين (عليه السلام) إلى أرضِ كربلاء في اليوم الثاني من شهرِ محرمٍ، اختارَ لنفسِه نوعًا خاصًا من العبادة: فقد كانَ إذا جنَّ الليلُ يركبُ الفرسَ ويحومُ حولَ المُخيماتِ لحراسةِ العائلة"(4). وما كانَ عليها وعليهم إلاّ التسليمُ لمشيئةِ اللهِ (تعالى) بالثورةِ ضدَّ الظالمِ الغاشم الطاغية يزيد وأذنابه (عليه وعليهم لعنة الله)، فشاءَ اللهُ تعالى أنْ يُبرِزَها حزبُ الشيطان، ويأخذوها سبيّةً إلى شرّ دار! ونجدُ أنّ السيّدةَ (عليها السلام) لطمتْ على وجهِها حينما ودّعَها الإمامُ الحسينُ (عليه السلام) في يومِ عاشوراء؛ "حيثُ جمعَ النسوة، وأوصاهنّ بعدّة وصايا، وأمرَهن بلبسِ أزرهنَّ ومقانعهنَّ، فسألته عن سبب ذلك، فقال لها: كأنّي أراكم عن قريبٍ كالإماءِ والعبيدِ يسوقونكم أمامَ الركابِ ويسومونكم سوءَ العذاب! فلمّا سمعتِ السيدةُ زينبُ ذلك بكتْ ونادتْ: وا وحدتاه، وا قلةَ ناصراه، ولطمتْ على وجهها"(5). ومن هُنا يتضحُ معنى عظم إبرازِ الكريمةِ بالسبي. ■الناحيةُ الثالثةُ: الناحيةُ البلاغية لم يخلُ هذا المقطع أيضًا من البلاغةِ -كسابقه-؛ طالَما أنّ حديثَ السيّدةِ (عليها السلام) مُسترسل، ففيه أسلوبان بلاغيان: الأول: الاستفهام الاستنكاري، "فخرجَ الاستفهامُ عن معناه الحقيقي إلى معنى الإنكار"(6)؛ حيثُ أنَّ القومَ على يقينٍ بمقامِ عقيلةِ بني هاشم، لكنّهم أقدموا على سبيها. الثاني: أسلوب المجاز المرسل، "فحينما قالت "أيّ كريمةٍ" ذكرتْ جزءًا من السبايا، وهو شخصُها المُبجّل، وأرادتِ الكُل، وهو جميعُ النسوةِ اللواتي كُنَّ خرجنَ مع الإمام الحسين (عليه السلام)، وتم سبيهنَّ"(7). إلا أنّ الأسلوب البلاغي الثاني يبقى ظنيًّا؛ لأنّ السيّدةَ (عليها السلام) قد تقصدُ شخصَها فقط؛ بقرينةِ قولها: "أبرزتم"؛ حيث أنّ التأريخَ ينقلُ لنا أنّها (عليها السلام) لم يُرَ خيالها، أي لم تكن مُبرزةً، ولهذا قالت: "أبرزتم". ثم إنّ أفضليتَها (عليها السلام) على سائرِ نساءِ الطفِّ أمرٌ لا شكّ فيه، وهذا ممكنٌ أنْ يُعينَ على استبعادِ الأسلوبِ البلاغي الثاني. _____________________ (1) سورة الشورى: 23 (2) سورة النحل: 106. (3) زينب الكبرى: للشيخ جعفر النقدي ص 22. (4) ظ: زينب الكبرى من المهد إلى اللحد: للسيد محمد كاظم القزويني, ص204. (5) المصدر نفسه, ص21. (6) التحفة الباهرة في بلاغة المخدرة الطاهرة: لحسن البحراني, ص62-63. (7) ظ: البلاغة الواضحة: لعلي الجارم ومصطفى أمين, ص108-109. وأمَضُّ ما جُرعَت مِن الغُصَص التي قَدَحت بجانحة الهدى ايراءَها هَتكُ الطغـاة علـى بنـات محمـدٍ حُجبَ النبوّة خِدرَها وخِباءَها فتنـازعت أحشـاءها حَرقُ الجَوى وتَجاذَبت أيدي العدوِّ رِداءَها عَجَباً لِحِلـم الله وهـي بعيـنـه بَرزت تُطيلُ عَويلها وبكاءها
البيان والبلاغة في كلمات أهل البيت عليهم السلامبقلم: أم حوراء النداف همّتْ آمنةُ بفتحِ بابِ المنزلِ عندما سمعتْ صوتَ أمِّها وهي تقول: -آمنة، حبيبتي لا تنسي العباءة! امتعضت آمنةُ كثيرًا، وعظّت بأناملِها الرقيقةِ على ما تحملهُ بيدِها من قرطاسٍ وأجابت أمَّها دون أنْ تلتفت: -لكن أمّي المسافةُ قصيرةٌ إلى بيتِ الخالةِ أمِّ علي، وملابسي فضفاضةٌ ومُحتشمة! لم تسمعْ آمنةُ أيَّ ردٍّ، ففهمتْ أن لا مناصَ لها من الأمرِ، فعادت أدراجها وارتدتِ العباءةَ على مَضضٍ وهي تُتمتِمُ مُتبرِّمةً: -وصلَ العالمُ إلى المريخ واكتشاف المجرات، ونحن لا زلنا عالقين في العباءة! وحالَ خروجِها من المنزل صادفتْ إحدى صديقاتِها، فطالعتُها الأخيرةُ بنظرةِ تعجُّبٍ ساخرة: -السلامُ عليكِ يا آمنة ...تبدين كجدّتي بهذه العباءة. قالتْها وهي تضحكُ في حين ازدادَ انزعاجُ آمنةَ فتركتْها وانطلقت نحو الدرسِ في بيت جارتهم السيّدة أم علي ثم لحقت بها صديقتها: -مهلًا انتظري، كنتُ أمزحُ فقط. وهناك نالتْ نصيبَها من التعليقاتِ الناقدةِ تارةً والمؤيدةِ تارةً أخرى، جادت بها حناجرُ الفتياتِ ممن حضرْنَ الدرس. كانتِ السيّدةُ أمُّ علي امرأةً مُتديّنةً، درستِ العلومَ الإسلاميةَ، وقررتْ تخصيصَ جزء من وقتِها لتعليمِ الفتياتِ بعضَ أحكامِ التلاوةِ والأحكامِ الشرعية الابتلائية. وعندما استمعتْ إلى جدالِ الفتياتِ حولَ موضوعِ الحجابِ من الغرفةِ المجاورة، تعمّدتِ التأخر وأنصتتْ إلى ملاحظاتهن جيدًا؛ لتكونَ مُطلعةً تمامًا على ما يجولُ في تلك الرؤوس الصغيرة من أفكارٍ وتساؤلات. وفي تمامِ الساعةِ التاسعة والنصف بدأ الدرسُ، وسادَ الهدوءُ بعدَ أنِ ارتفعتِ الأصواتُ بالصلاةِ ثلاثًا على النبي وآل النبي (صلوات الله عليهم أجمعين)، لكن وقبلَ أنْ تبدأ المُدرِّسةُ الكلامَ انبرت إحدى الفتياتِ تتساءل: -خالة، هلِ الحجابُ فرضٌ واجبٌ؟! وأردفتْها أخرى: -هل يجبُ ارتداءُ العباءة؟! -لماذا الحجابُ فرضٌ على النساءِ دون الرجال؟ -هل يجوزُ للأبِ أنْ يفرضَ الحجابَ على ابنته؟ وهكذا توالتِ الأسئلةُ حولَ الموضوعِ، والمُدرِّسةُ تُصغي إليهن وقد علتْ وجهَها ابتسامةُ حنان، وحينما انتهينَ نظرتْ إليهن نظرةَ عطفٍ ومحبةٍ، ثم حاولتِ التخفيفَ من حِدّةِ توترهن، فقالت مازحةً: -يبدو أنَّ سيلَ الأسئلةِ قد انتهى، لقد خشيتُ فعلًا أنْ أغرق، فامتلأ المكانُ بأصواتِ ضحكاتِهن البريئةِ والطفولية. -نعم يا حبيباتي اضحكن، فالأمرُ أبسطُ بكثيرٍ مما تتصورنَ؛ فالتعلُّمُ واكتشافُ المجهول أمرٌ فطريٌ عند الإنسان، ومن الجيّدِ لكُنّ في هذهِ السنِ المُبكّرة، عشر أو أحدَ عشرَ عامًا أنْ تفهمْنَ وتتعلمْنَ سرَّ هذا التكليفِ المُميّز. والآن اصغينَ إليّ جيدًا: أنتُنّ جميعًا طالباتُ مدرسةٍ، صحيح؟ والآنَ سأطرحُ عليكن سؤالًا، لماذا يجبُ أنْ ترتديْنَ زيًا موحدًا في المدرسة؟ تأمّلتِ الفتياتُ في السؤالِ قليلًا ثم أجابتْ إحداهن: -لأنّه القانون! -صحيحٌ القانون، ولكن لماذا وُضِعَ هذا القانون؟ لِمَ لا نرتدي في المدرسةِ ملابسَ عاديةً كالتي نرتديها حين نزورُ أقاربنا أو أصدقاءنا؟! أجابتْ فتاةٌ أخرى وهي غيرُ مُقتنعةٍ بالأمر: -لن يكون مناسبًا، سيكونُ هنالك الكثيرُ من الألوان -سننشغلُ بالملابسِ. (قالت فتاةٌ أخرى). -سنحتاجُ إلى الكثيرِ من الثيابِ؛ فأنا لا أحِبُّ التكرار. -الزي المدرسي أفضل. وتجاوبتْ مُعظمُ الفتياتِ مع العبارةِ الأخيرةِ لزميلتهن. ثم أضافتْ إحداهن قائلةً: -أصلًا لن أشعرَ أنّي طالبةٌ إذا لم أرتدِ هذا الزي؛ ففي إحدى المراتِ وأثناءَ عودتي من المدرسة شاهدتُ ابنة الجيرانِ وهي تغسلُ بابَ بيتِهم وكانت قد تركتِ الدراسة، فنظرت إلي، حينها شعرتُ بالفخرِ؛ لأنّي طالبةٌ وأرتدي هذا الزي وحمدتُ اللهَ على هذه النعمة. وقالت فتاةٌ أخرى: -في السفراتِ العلمية يطلبون منا ارتداءَ الزي الموحد؛ لأنّ بعضَ الأماكنِ مثل المتاحف يسمحون للطلاب بالدخول مجانًا. جمعتِ المُدرِّسةُ كلتا يديها أمامها على الطاولةِ، وقالت: -إذًا تتفقْنَ معي على أهميةِ الزي الموحد. فأومأتِ الفتياتُ برؤوسهن إيجابًا. حينئذٍ تابعتْ قائلةً: -الآن اذكرْنَ لي بعضَ المؤسساتِ التي فيها زيٌ موحدٌ عدا المدرسة. فذكرنَ الشرطةَ، المُستشفى، رجالَ الإطفاء، عُمّال المعمل.....إلخ. قالتِ السيّدةُ أمُّ علي: -اعلمْن يا عزيزاتي أنَّ هنالك فوائد عديدةً للزيّ الموّحد، مثلًا: الشعورُ بالانتماءِ والاعتزازُ بهذا الانتماء، الشعورُ بالمساواة، الالتزامُ بالقواعد، عدمُ التركيز على المظاهر وغيرها من المزايا، علمًا أنّ لكُلِّ واحدةٍ منها أثرًا وخصوصيةً. والآنَ سأطرحُ عليكن سؤالًا آخر: - إذا ذهبنا إلى بلادِ الغرب ما الذي يُميّزُ المُسلمة عن غيرِ المسلمة؟ نظرتْ في أعيُنِهن وقالت بثقة: إنّه الحجاب. انتظرتْ بُرهةً من الزمن ثم تابعتْ وهي تتحسّر: -يومَ القيامةِ سيتمنى الجميعُ لو أنّهم ينتمون إلى أمّةِ سيّدِنا مُحمدٍ (صلى الله عليه وآله) لما يرونه من الكراماتِ التي يحظى بها رسولُ الإسلام وأتباعه من المسلمين الثابتين على نهجه ومبادئه. أما في الحياة الدنيا وبسببِ الثقافاتِ الغربية الدخيلة جعلوا الفتاة المسلمة تكره الحجاب وتتصوّرُ أنّه قيدٌ، على حين أنّه عنوانُ انتماءٍ ودليلُ طاعةِ العبدِ لربِّه. ثم إنّنا أولًا وآخرًا عبيدٌ للهِ الواحد القهار، وهو الذي فرضَ الحجابَ على المرأةِ في القرآن الكريم، وتحديدًا في سورةِ النور، وحدد أبعادَه بما لا يقبلُ الجدال والنقاش، وقد تعلّمْنا وفهِمْنا معنى أنّ اللهَ عادلٌ حكيمٌ لا يفعلُ شيئًا إلا عن حكمةٍ وهو أعلمُ بمخلوقاتِه وبما ينفعُها وما يضرُها، لذا جاءتِ التشريعاتُ الإسلاميةُ وفقًا لمصلحةِ المخلوق؛ لطفًا ورحمةً من الخالق (سبحانه). فلماذا لا نثِقُ بما يختارُه لنا اللهُ (تعالى) ونثِقُ بما يختارُه لنا بشرٌ مخلوقونَ مثلُنا لا يملكون لأنفسِهم نفعًا ولا ضرًا؟! سادَ الصمتُ للحظاتٍ لإتاحةِ الفرصة للتأمّل والتفكُّر ثم تابعتْ: -أما العباءةُ وهي مثارُ الجدلِ بينكن فهي التطبيقُ الشرعيُ الحقيقيُ للحجاب الذي أراده الحقُّ (سبحانه) من حيثُ كونها ساترةً لأعضاءِ البدنِ ولا تحكي تفاصيله، وهو الأمرُ الذي لا يتحقّقُ في أي نوعٍ آخر من الحجاب، وإنْ تحقّقَ فبها ونعمت. العباءةُ مستوى راقٍ جدًا من الالتزامِ بقانونِ الشريعةِ المقدسة، ودلالةٌ واضحةٌ على الانتماءِ للدين الإسلامي. ومن واجبِ الوالدين أنْ يُدرِّبا بناتهما على الحجاب الشرعي الصحيح، لكن ليس بالإجبار إنّما بالتحاورِ والإقناع، فلا يوجدُ إنسانٌ عاقلٌ يفضِّلُ معصيةَ اللهِ (تعالى) على طاعته. صمتت برهةً من الزمن، وجالتْ بعينيها في أرجاءِ الغرفةِ، وكأنّها تبحثُ عن شيءٍ ضائع، تنهّدت وخنقتها عبرتها، ثم عادتْ ونظرتْ إلى الفتيات اللاتي بانَ عليهن التأثُر لتغيُرِ حال مُدرّستهن العزيزة وقالت: -هل تعلمْنَ يا عزيزاتي أنّ أكثرَ الأمورِ إيلامًا على قلوبِ أهلِ البيت (عليهم السلام) كان سبيَ النساء؟ نساءُ آلِ بيتِ النبي (صلى الله عليه وآله) هُنّ من أفضلِ النساء دينًا وعلمًا وتقوى وهن من المُخدّرات، أي لم يرهن أحدٌ سوى الآباءِ والإخوةِ والأزواج، وكان سترُهن عزيزًا عليهن كثيرًا، فكُلّما ازدادَ شرفُ المرأةِ زادَ حجابُها واحتشامُها. كانت ظروفهن في غايةِ الصعوبة، حاولنَ عزيزاتي أنْ تستشعرن الحالَ، أسرٌ وغربةٌ وجوعٌ وعطشٌ، ورغمَ ذلك لم يتهاونَّ في أدقِّ جُزئياتِ الدين، ومنها الحجاب. كانتِ السيّدةُ زينب (عليها السلام) حريصةً على حفظِ حجابِ النساءِ العلوياتِ فتوصيهن بالانتباهِ من جهةٍ، وتنهرُ الناسَ عن تصفُحِ وجوههن من جهةٍ أخرى، وإلا فإنّ رسولَ الله (صلى الله عليه وآله) سيكونُ خصمهم يومَ القيامة. والسيّدةُ سكينةُ رغمَ حالِ السبي وظروفِ الأسرِ ومرارةِ السفر مع الأجانب، عندما عَرَضَ عليها أحدُ صحابةِ رسولِ الله (صلى الله عليه وآله) في الشام أنْ يقضيَ لها أيَّ حاجةٍ تُريدُ، لم تطلبْ ماءً ولا طعامًا، بل طلبتْ منه إعطاءَ حاملِ رأسِ أبيها بعضَ المال ليتقدّمَ بالرأسِ فينشغلُ الناسُ برؤيته ويكفّون عن النظرِ إلى بناتِ الرسالة، فهي تأبى حتى مُجرّدَ النظرِ إلى وجهِها. واليومَ للأسفِ نجدُ بعضَ الفتياتِ والنساءَ يخرُجْنَ إلى الشارعِ وجُلَّ همّهن أنْ ينظرَ الناسُ إليهن ويتصفحوا وجوههن وأجسادهن بملابسَ لا تمتُ للدينِ بصلةٍ. الاهتمامُ بالمظهرِ الخارجي ليس عيبًا، بل هو أمرٌ مطلوبٌ والدينُ يحثُّ على النظافةِ والترتيبِ شرطَ أنْ لا يُصبِحَ الشغلَ الشاغلَ للفتاةِ المسلمة. ولا تزالُ خُطبةُ السيّدةِ سكينة منبرًا للعلمِ والنور في سِفرِ التاريخِ الخالد وتعكسُ روحًا ملؤها العلمُ والتقوى ولم يُعِقْها الحجابُ عن القيامِ بدورِها في فضحِ جرائمِ بني أميّة وتعريفِ الناس بأحقّيةِ موقفِ أبيها الحسين (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين). في ذلك اليومِ عندما عادتْ آمنةُ إلى المنزلِ وقفتْ تنظرُ إلى صورتِها في المرآة وهي ترتدي العباءةَ وقالتْ بثقةٍ وكأنّها تُجيبُ على السؤال الذي طرحته الخالةُ أمُّ علي في نهاية الدرس "من تُريدُ أنْ تكونَ في قافلةِ السيّدةِ سكينة؟" -أنا سأكونُ معكِ سيّدتي سكينة، فأمسكي بيدي ولا تتركيني!
اخرىبقلم: علوية الحسيني السؤال: أين عدالةُ اللهِ (تعالى)؛ فهناك أُناسٌ يولدون ليجدوا أنفسهم على هدى، وفي بيئةِ هدى, وآخرون في بيئةِ ضلالٍ فتضل؟ فما فضلُ الأول؟ وما ذنبُ الثاني؟ الجواب: قال (تعالى): بسم الله الرحمن الرحيم {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْط}(1). انطلاقًا من هذه الآية الكريمة لابُدّ من الإيمان بأنّ الله (تعالى) عادل, ولو نُسب إليه الظلمُ لم يكن إلهًا؛ ولو لم يكن متصفًا بالعدل, -وفاقد الشيء لا يعطيه- فكيف يأمرُ بشيءٍ هو لم يتصف به؟! إذًا لزِمَ خلو ذاتِه عن كمال, وحاشاه (سبحانه) فهو الكمال المطلق. والعدلُ الإلهي ثاني أصلِ من أصول الدّين, ومُنكرُه كافرٌ لا محالة؛ لذا على المؤمن أنْ لا يجعل أصولَ الدّين عضين؛ يؤمنُ ببعضٍ ويكفرُ ببعض, بل لابُدَّ من الإيمان بها جميعًا. نـعم, هناك أمورٌ توهِمُ أنّها مُتعلقةٌ بعدل الله (تعالى), والحالُ أنّها ليست كذلك, فالخللُ في سلبياتِ نتائج تلك الأمور يرجعُ إلى القابل -المخلوقات- لا إلى الفاعل –الله (تعالى)-. وعليه، سيكونُ الجوابُ عن هذا السؤال ضِمنَ عدّة نقاط: ■النقطة الأولى: المكانُ ليسَ مقياسًا للاهتداء أو للضلال. فمَن قال إنّ المكانَ هو مقياسٌ لنسبةِ الفضيلة للإنسان أو لسلبها عنه؟! فليس ما ذكرتم في السؤال قاعدةً كليةً؛ فكم من بيئةٍ هاديةٍ وفيها العديدُ من أهلِ الضلال, وكذلك كم من بيئةٍ ضالّةٍ وفيها العديدُ من أهلِ الرشاد. ▪️أولًا: نأخذ مثالًا على من عاش في بيئةِ هدايةٍ، لكنّه كان من أهلِ الضلال: أ- ابنُ النبيّ نوح (عليه السلام)، فقد ولِدَ في بيئةِ هدايةٍ, بل وتربّى على يديّ نبيّ من أنبياء الله (تعالى), وصفاتُ النبيّ وعصمته معروفةٌ للجميع, فنشرَ النبيُّ دينَ الله (تعالى), وخلقَ بيئةَ هدايةٍ, إلاّ أنّ ابنَه لم يغتنمْ نعمةَ تلكَ البيئةِ المُحيطةِ به, فكفرَ بالله (تعالى), حينما أمرَهُ أبوه أنْ يركبَ السفينةَ حتى ينجوَ من الطوفان, لكنّه فضّلَ الاعتصامَ بجبلٍ, وتركَ أمرَ النبي الذي كان صادرًا من الله (تعالى) عن طريق الوحي. والقرآنُ الكريمُ ذكرَ لنا ما دارَ من حوارٍ بينَ النبيّ نوحٍ (عليه السلام) وابنِه؛ قال (تعالى) حكايةً عن نبيّه: {وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِين}(2). فكانت نتيجتُه أنّه كان من الغارقين, فلا بيئةَ هدايةٍ نفعتَه, ولا كونه ابنَ نبيٍ شفعتْ له. ب- امرأتا نبيينِ من أنبياءِ الله (تعالى), نوح ولوط (عليهما السلام), ولا صلةَ كصلةِ الزوجية, فكيفَ بها إذا كانتْ صلةً بأنبياءِ الله (تعالى)؟! فرغمَ البيئةِ التي عاشتا فيها, والتي وفرّها لهما النبيّان (عليهما السلام) وهي بيئةُ هدايةٍ ورُشدٍ وصلاحٍ، إلاّ أنّ تلك المرأتين لم تنتفعا من تلك البيئة, فانحرفتا عن طريقِ الحقِّ, وكانَ مصيرهما النار, فلم ينفعهُما العيشُ في بيئةِ هداية, ولم تشفعْ لهما علاقتهما الزوجية بالنبي. واللهُ (تعالى) أخبرنا عن ذلك في كتابه الكريم, بقوله (سبحانه): {ضَرَبَ الله مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ الله شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِين}(3). ▪️ثانيًا: نأخذ مثالًا على من عاشَ في بيئةِ ضلالٍ لكنّه كانَ من أهلِ الهداية أ- السيّدة آسيا زوجةُ الطاغيةِ فرعون, ذلك الرجل الكافر, الذي ادّعى أنّه الإله, وسخِر من نبيّ الله (تعالى) موسى (عليه السلام) حينما دعاه إلى عبادةِ الله الواحد الأحد بطلبِه أنْ يبنى له سلّمًا حتى يصعد به إلى السماء لعلّه يلقى الله (تعالى)! فرغمَ شناعةِ أفعاله, وجُرأةِ كفره, وفسادِ وضلالِ بيئتِه عقيدةً وأخلاقًا, إلاّ أنّ زوجتَه لم تتأثر بتلك البيئة الفاسدة, وحافظتْ على سلامةِ دينِها, حتى صارتْ مثلًا للذين آمنوا من الرجال والنساء. قال (تعالى) في كتابه الكريم حول ذلك: {وَضَرَبَ الله مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين}(4). ب- الحُرّ الرياحي, ذلك الرجل الذي كان قائدَ جيشٍ ضدَّ وليٍ من أولياءِ الله (تعالى), الإمام الحسين (عليه السلام), فحاصرَ الإمامَ بجيشِه, وروّعَ سليلاتِ النبوّةِ (عليهن السلام), وكانَ يعيشُ في بيئةٍ ضالّةٍ مُضلّة, تدعو إلى فعلِ المنكرات, وتناولِ المُسكِرات, والطرب مع الراقصات, تلك البيئة التي خلقها لهم طاغيتهم (عليهم لعنة الله جميعًا), إلاّ أنّ الحُرّ انسلخَ من تلك البيئة, وتحوّلَ إلى مؤمنٍ موالٍ للإمام الحسين (عليه السلام), ولم يؤثرْ عليه فساد بيئته, ولا جبروت حاكمه. ■النقطة الثانية: الزمان ليس مقياسًا للاهتداء أو للضلال فمَن قال إنّ الزمان هو مقياس لنسبةِ الفضيلة للإنسان أو لسلبها عنه؟! فليس ما ذكرتم في السؤال قاعدةً كليةً؛ فكم من أُناسٍ عاشوا في زمنِ هدايةٍ وكانوا من أهلِ الضلال, وكذلك كم من أُناسٍ عاشوا في زمنِ ضلالةٍ وكانوا من أهلِ الرشاد. ▪️أولًا: نأخذ مثالًا على من عاشَ في زمنِ هدايةٍ وكانَ من أهلِ الضلال. أ- أبو لهب, ذلك الرجلُ الذي عاشَ في زمنٍ أخذتِ الهدايةُ في إتيان ثمارها, على يدِ نبي الله محمد (صلى الله عليه وآله) حتى آمنَ بعضُ اليهودِ والنصارى, وبعضُ جاهليةِ قريش؛ لتأثُّرِهم بأحقيّةِ الدعوةِ الإلهية, إلاّ أنّ أبا لهب بقيَ على جاهليته وكفره, رغم زمنِ الهدايةِ الذي أحاطَ به, حتى صارَ مَحطَّ لعنٍ في القرآن الكريم, بل وصرّح بمصيره الجهنمي, بقوله (تعالى): {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَىٰ نَارًا ذَاتَ لَهَب}(6). ب- جعفر الكذاب, هو جعفر ابن الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام), ولُقِّبَ بـ(الكذاب)؛ لادعائه الإمامة كذبًا, "بل ولَهُ عدّةُ أفعالٍ -ممكن أنْ تُسمى جرائم- شنيعة لا تليقُ بأنْ تصدرَ من رجلٍ عاصرَ الإمام, وعاشَ زمن هداية"(7). فلا زمنه منعَه عن الضلالِ, ولا الضلال فارقَ أفعالَه. ▪️ثانيًا: نأخذ مثالًا على من عاشَ في زمنِ ضلالٍ وكانَ من أهلِ الرشاد أ- المُستبصرون اليومَ الذين يعيشون في زمنٍ يدعو فيه أئمتهم إلى الضلالِ بكافةِ طرقِ الدعوة, ويغلِّفون فسادَ معتقدهم للناسِ حتى انطلتْ أكاذيبُهم على البسطاء, فالزمنُ زمنُ ضلالٍ, إلّا أنّ هناك أُناسًا أزالوا ستارَ الضلالِ واستناروا بنورِ العلم, فاعتنقوا المذهبَ الحقّ, مذهب أهل البيت (عليهم السلام). ب- المُنتظرون للإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) الذين يعيشونَ وسطَ شبهاتٍ تحاولُ النيلَ من عقيدتِهم بالإمامِ أو بغيره, أو تُريدُ زلزلتِهم وتشكيكِهم, ذلك الوسطُ الذي كَثُرَ فيه أهلُ الباطل, وقلَّ فيه أهلُ الحقِّ, ورغمَ ذلك فقد ثبت أولئك المنتظرون على عقيدتِهم, حتى فاقَ فضلُهم فضلَ من صاحبَ النبي (صلى الله عليه وآله)؛ حيثُ رويَ "عَنْ أبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيَّ، عَنْ أبِي خَالِدٍ الْكَابُلِيَّ، عَنْ عَلِيَّ بْن الْحُسَيْن (عليهما السلام) قَالَ: تَمْتَدُّ الْغَيْبَةُ بِوَلِيَّ اللهِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ أوْصِيَاءِ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) وَالأئِمَّةِ بَعْدَهُ، يَا أبَا خَالِدٍ إِنَّ أهْلَ زَمَان غَيْبَتِهِ، الْقَائِلُونَ بِإمَامَتِهِ، الْمُنْتَظِرُونَ لِظُهُورهِ، أفْضَلُ أهْل كُلّ زَمَانٍ، لأنَّ اللهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أعْطَاهُمْ مِنَ الْعُقُول وَالأفْهَام وَالْمَعْرفَةِ مَا صَارَتْ بِهِ الْغَيْبَةُ عِنْدَهُمْ بِمَنْزلَةِ الْمُشَاهَدَةِ، وَجَعَلَهُمْ فِي ذَلِكَ الزَّمَان بِمَنْزلَةِ الْمُجَاهِدِينَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) بِالسَّيْفِ، اُولَئِكَ الْمُخْلَصُونَ حَقّاً، وَشِيعَتُنَا صِدْقاً، وَالدُّعَاةُ إِلَى دِين اللهِ سِرّاً وَجَهْرا"(8). *دفعُ دخلٍ: روي عن أبي بصير قال: سمعتُ أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: "إنَّ في الليلةِ التي يولَدُ فيها الإمامُ لا يولدُ فيها مولودٌ إلَّا كان مؤمنًا، وإنْ وُلِدَ في أرضِ الشرك نقلَه اللهُ إلى الإيمانِ ببركةِ الإمام"(9), فظاهرُ هذه الروايةِ أنّها تُفاضِلُ بين زمنٍ وآخر, وتنسِبُ الفضلَ لمن ولِدَ في زمنِ ولادة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف), والظهورُ حجّةٌ ممكنٌ أنْ يحتجَّ به على ما أدرجناه أعلاه من هدمِ قاعدةِ مدخليةِ الزمان في الهدايةِ والضلال, لـكن رغم ذلك "لا يُقالُ: كيفَ تصحُّ هذه الروايةُ والحالُ أنَّنا نجِدُ الكثيرَ من الناسِ من يولَدُ في ليالي ولادةِ المعصومين ولكنَّه على ضلالٍ ومات على ذلك؟ لأنَّه يُقالُ: إنَّ المقصودَ من الروايةِ هي القضيَّةُ الخارجيةُ لا الحقيقية، بمعنى أنَّ المقصودَ هو تلك الليلةُ التي وُلِدَ فيها المعصومُ وخرجَ إلى الدنيا، وليس تلك الليالي التي تأتي في السنوات التالية ممَّا يُصادِفُ تاريخها نفسَ تاريخِ ولادة المعصوم، فليلةُ ولادةِ الإمامِ المهدي (عليه السلام) هي ليلةُ الخامسِ عشر من شعبان من عام (٢٥٥هـ)، فهذه الليلةُ بالخصوصِ هي مقصودُ الرواية، وهكذا ليالي ولادات بقيَّة المعصومين (عليهم السلام)"(10). ■النقطة الثالثة: هداية النجدين والحسن والقبح العقليان قال (تعالى): {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْن}(11), فُسِّرَت مفردةُ النجدين بـ"طريق الخير وطريق الشر بإلهام منا فهو يعرف الخير ويميزه من الشر"(12). وعلى هذا بُنيَتْ عقيدتُنا في الحكمِ على الأشياءِ بكونِها حسنةً أو قبيحة, فالعقلُ يحكمُ في بعضِ الأمورِ بالحسنِ والقبح, وبالتالي فالعقلُ يحكمُ بالحسنِ على طريقِ الخير, وبالقُبحِ على طريقِ الشر, وهُنا يبرزُ جهادُه. فمن كان في ضلالةٍ فإنْ حكّمَ عقلَه وتركَ اتباعَ طريقِ الخيرِ فهو هالكٌ، ومن كانَ على هدى فإنْ حكّمَ عقلَه وثبتَ على طريقِ الخيرِ فهو ناجٍ. وعلى فرضِ التسليمِ بمدخليةِ المكانِ والزمانِ على هدايةِ وضلالِ الإنسان، فيبقى أمرُ التحكيمِ العقلي مفعلًا؛ فمنْ كانَ يعيشُ في مكانٍ أو زمانٍ هدى ولم يحكّمْ عقلَه بتركِ كُلِّ أمرٍ قبيحٍ فلا مكانَه وزمانَه نفعاه, ولا هو انتفعَ من عقلِه وزكّاه. وكذلكَ من كانَ يعيشُ في مكانِ أو زمانِ ضلالٍ وحكّمَ عقلَه باتباعِ كُلِّ أمرٍ حسنٍ فلا مكانَه وزمانَه أثّرا في حُكمِ عقلِه. نعم, إنّ فضلَ المجاهدةِ يتفاوتُ عندَ من عاشَ في مكانِ وزمانِ الضلالِ عمّن عاشَ في مكانِ وزمانِ الهدى. فمن يعيشُ في بيئةٍ تُحلّلُ شربَ الخمرِ مثلًا، وما إنْ يذهبُ إلى المحال حتى يجدُ أمام عينِه الخمرَ بأنواعِه وبدرجاتِ إسكارٍ مختلفة, فتهمَّ نفسُه للمعصية, ومع ذلك يُجاهِدُ في تركِ شربِه، يختلفُ جهاد نفسهِ عمّن يعيشُ في بيئةٍ لا تعرفُ ما هو الخمر. نأخذُ مثالًا آخر: الفقيرُ المُتعفف الذي يعيشُ حالةَ الفقرِ التي تكادُ أنْ تسلخَ المؤمن عن صبرِه, وتسنح له فُرصةُ سرقةِ شيءٍ إلّا أنّه يتورّعُ ويتعففُ عن تبديلِ حالِه من فقرٍ إلى غنى بهذه الطريقة, فإنَّ درجة جهاده هذه لا تُساوي درجة جهاد الغني الذي سنحت له نفس الفرصة, وأعرض عنها. فعندَ الفقيرِ الجهادُ أشدُّ بلا شك, ومن ثم الثواب أعظم, ولا مانعَ من سعةِ كرمِ الله (تعالى). والخلاصة: للعقلِ دورٌ في هدايةِ وضلالةِ الإنسان. ■النقطة الرابعة: نظريةُ تعويضِ الضلال. من لطفِ اللهِ (تعالى) وكرمِه أنّه لا يُكلِّفُ نفسًا إلّا وسعها, ومن ثم فمن عاشَ في مكانِ وزمانِ ضلال, وجاهدَ نفسَه وارتقى بها وأصبح على هدى, فهو مُستضعفٌ. وعليه، هنالك بعضُ البدائل أو التعويضات التي منحَها اللهُ (تعالى) تكرّمًا وتحننًا منه على هؤلاء, منها: 1- سقوطُ بعضِ التكاليف عمّن فقدَ بعضَ تلك الإمكانات, قال (تعالى): {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لله وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ والله غَفُورٌ رَحِيم}(التوبة: 91). وقال (تعالى): {لَّيْسَ عَلَى الْأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا} (الفتح: 17). 2- التعويضُ بالأجرِ العظيم, ذلك الأجرُ الذي يتمنّى معه المُبتلى في الدنيا أنْ لو كانَ قد قُرِّضَ بالمقاريض ونُشِّر بالمناشير ابتلاءً!. روي عن أبي جعفرٍ(عليه السلام), قال: "إنّ الله (تبارك وتعالى) إذا أحبَّ عبدًا غتَّه بالبلاء غتًّا(13), وثجّه بالبلاء ثجًا(14), فإذا دعاه قالَ: لبيكَ عبدي, لئن عجَّلتُ لكَ ما سألتَ إنّي على ذلك لقادر, ولئن ادَّخرتُ لك فما ادَّخرتُ لك فهو خيرٌ لك"(15)"(16). ■النقطة الخامسة: الاحتكامُ يومَ القيامة مع القرين. لو لم يكنْ للعقلِ دخالةٌ في هدايةِ وضلالةِ الإنسان لما أشار القرآن الكريم إلى الاحتكامِ بين الإنسان وقرينه, قال (تعالى): {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيد* وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيد* وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ* أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ* مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيب* الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ * قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ* قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيد* مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيد}(17). فالقرينُ يشكو إلى الله (تعالى) أنّ الإنسانَ هو من اختارَ طريقَ الضلال, وهذا دليلٌ على أنّ الضلالَ ليس جبرًا من الله (تعالى) حتى يُنسَب إليه الظلم, حاشاه (سبحانه). بل وفي الآيةِ تصريحٌ بنفي الظلمِ عنه (سبحانه) لمخلوقاته. ___________________ (1) الأعراف: 29. (2) نوح: 42- 43. (3) التحريم: 10. (4) التحريم: 11. (6) المسد: 1-3. (7) انظر: جرائم جعـفر الكذّاب: للسيد محمد القبنجي, صحيفة صدى المهدي, العدد 49. (8) الاحتجاج: للشيخ الطبرسي, ص122. (9) بحار الأنوار: للشيخ محمد باقر المجلسي, ج25, ص,36, ح1, عن أمالي الطوسي: 412/ ح 925/73. (10) شذرات مهدوية: للشيخ حسين الأسدي, الشذرة الثامنة, خاصّية ليلة مولد الإمام المهدي (عليه السلام), ص96. (11) البلد: 10. (12) تفسير الميزان: للسيد الطباطبائي, ج20, ص292. (13) غتّه أي غمسه, والباء بمعنى (في). (من المصدر). (14) الثج/: سيل دماء الهدى والأضاحي. و ثجَّ الماء: سال, و ثجَّه: أساله. (من المصدر). (15) الكافي للكليني: 2: 253/ باب شدة ابتلاء المؤمن/ ح7. (16) الهدى والضلال في القرآن الكريم: للشيخ حسين الأسدي, ف1, ص45-46. (17) ق: 20-29.
العقائديستشهد الكثير من الناس ــ وحتى بعض المثقفين ــ بقول:" لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع فإن الخير فيها دخيل وعاشر نفساً جاعت بعد شبع فإن الخير فيها أصيل" على أنه من أقوال أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، كما يستشهدون أيضاً بقولٍ آخر ينسبونه إليه (عليه السلام) لا يبعد عن الأول من حيث المعنى:"اطلبوا الخير من بطون شبعت ثم جاعت لأن الخير فيها باق، ولا تطلبوا الخير من بطون جاعت ثم شبعت لأن الشح فيها باق"، مُسقطين المعنى على بعض المصاديق التي لم ترُق افعالها لهم، لاسيما أولئك الذين عاثوا بالأرض فساداً من الحكام والمسؤولين الفاسدين والمتسترين عل الفساد. ونحن في الوقت الذي نستنكر فيه نشر الفساد والتستر عليه ومداهنة الفاسدين نؤكد ونشدد على ضرورة تحرّي صدق الأقوال ومطابقتها للواقع وعدم مخالفتها للعقل والشرع من جهة، وضرورة التأكد من صدورها عن أمير المؤمنين أبي الأيتام والفقراء (عليه السلام) أو غيرها من المعصومين (عليهم السلام) قبل نسبتها إليهم من جهة أخرى، لذا ارتأينا مناقشة هذا القول وما شابه معناه من حيث الدلالة أولاً، ومن حيث السند ثانياً.. فأما من حيث الدلالة فإن هذين القولين يصنفان الناس الى صنفين: صنف قد سبق له أن شبع مادياً ولم يتألم جوعاً، أو يتأوه حاجةً ومن بعد شبعه جاع وافتقر، وصنف آخر قد تقلّب ليله هماً بالدين، وتضوّر نهاره ألماً من الجوع، ثم شبع واغتنى،. كما جعل القولان الخير متأصلاً في الصنف الأول دون الثاني، وبناءً على ذلك فإن معاشرة أفراد هذا الصنف هي المعاشرة المرغوبة والمحبوبة والتي تجرّ على صاحبها الخير والسعادة والسلام، بخلاف معاشرة أفراد الصنف الثاني التي لا تُحبَّذ ولا تُطلب؛ لأنها لا تجر إلى صاحبها سوى الحزن والندم والآلام... ولو تأملنا قليلاً في معنى هذين القولين لوجدناه مغايراً لمعايير القرآن الكريم بعيداً كل البعد عن روح الشريعة الاسلامية ، وعن المنطق القويم والعقل السليم ومخالفاً أيضاً لصريح التاريخ الصحيح، بل ومخالف حتى لما نسمعه من قصص من أرض الواقع أو ما نلمسه فيه من وقائع.. فأما مناقضته للقرآن الكريم فواضحة جداً، إذ إن الله (تعالى) قد أوضح فيه وبشكلٍ جلي ملاك التفاضل بين الناس، إذ قال (عز من قائل):" يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)"(1) جاعلاً التقوى مِلاكاً للتفاضل، فمن كان أتقى كان أفضل، ومن البديهي أن تكون معاشرته كذلك، والعكس صحيحٌ أيضاً. وعليه فإن من سبق حاجتُه وفقرُه شبعَه وغناه يكون هو الأفضل، وبالتالي تكون معاشرته هي الأفضل كذلك فيما لو كان تقياً بخلاف من شبع وكان غنياً ، ثم افتقر وجاع فإنه لن يكون الأفضل ومعاشرته لن تكون كذلك طالما كان بعيداً عن التقوى. وأما بُعده عن روح الشريعة الإسلامية فإن الشريعة لطالما أكدت على أن الله (سبحانه وتعالى) عادلٌ لا جور في ساحته ولا ظلمَ في سجيته، وبالتالي لا يمكن أن يُعقل إطلاقاً أن يجعل البعض فقيراً ويتسبب في دخالة الخير في نفوسهم، التي يترتب عليها نفور الناس من عشرتهم، فيما يُغني سواهم ويجعل الخير متأصلاً في نفوسهم بسبب إغنائه إياهم ليس إلا ومن ثم يتسبب في كون الخير متأصلاً في نفوسهم، وبالتالي حب الناس لعشرتهم. فإن ذلك مخالف لمقتضى العدل الإلهي لأنه ليس بعاجزٍ عن تركه ولا بمُكره على فعله، ولا محب لذلك لهواً وعبثاً (تعالى عن كل ذلك علواً كبيراً). كما إن تأصل الخير في نفوس بعض الناس ودخالته في نفوس البعض الآخر منهم بناءً على أمر خارج عن إرادتهم واختيارهم كـ(الغنى والشبع أو الجوع والفقر) إنما هو أمرٌ منافٍ لمنهج الشريعة المقدسة القائم على حرية الانسان في اختياره لسبيل الخير والرشاد أو سبيل الشر والفساد، قال (تعالى):" إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)"(2) بل إن الانسان أحياناً قد يكون فقيراً بسبب حب الله (تعالى) له، كما ورد في الحديث القدسي: "أن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى فلو أفقرته لأفسده ذلك و أن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر فلو أغنيته لأفسده ذلك"(3) وهل يمكن ان نتصور أن الخيرَ دخيلٌ فيمن يحبه الله (تعالى) أو إن معاشرته لا تجدي نفعا، أو تسبب الهم والألم؟! نعم، ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"اِحْذَرُوا صَوْلَةَ اَلْكَرِيمِ إِذَا جَاعَ وَ اَللَّئِيمِ إِذَا شَبِعَ"(4) ولا يقصد به الجوع والشبع المتعارف عليه لدى الناس، وإنما المراد منه: احذروا صولة الكريم إذا اُمتُهِن، واحذروا صولة اللئيم إذا أكرم، وفي هذا المعنى ورد عنه (عليه السلام) أيضاً: "احذروا سطوة الكريم إذا وضع و سورة اللئيم إذا رفع"(5) وأما العقل السليم والمنطق القويم فإنهما يقتضيان أن تتأصل صفة الخير في الإنسان لملكاتٍ حميدة يتسم بها وصفات فضيلة يتميز بها، لا أن تتأصل صفة الخير في نفسه لمجرد أنه ولد في أسرة تتمتع بالرفاهية الاقتصادية ووجد في بيئة تتنعم بالثروات المادية! وعند مراجعتنا للتاريخ الصحيح نجد أن قادة البشر وصفوة الناس إنما كان أغلبهم ينتمي الى الطبقات الفقيرة من المجتمع، فهؤلاء الأنبياء ورسل الله (صلوات الله عليهم) منهم من كان نجاراً أو خياطاً أو راعياً، ومع ذلك فقد كانوا من أطيب الناس خلقاً، وأعظمهم شرفاً، وأرفعهم منزلةً، قد تأصّل الخير في نفوسهم تأصّلاً حتى غدوا قطعة منه، فكانوا هم الخير للبشر، وهم الرحمة للعالمين. وبالنزول إلى أرض الواقع نجد أن الكثير من الفقراء والمساكين طيبي الروح، كريمي النفس، يتألمون لألم المحتاج ولربما يؤثرونه على أنفسهم رغم حاجتهم. ولا نقصد من كلامنا هذا أن الأغنياء هم على نقيض ذلك، وإنما تأكيداً على مسألة عدم ارتباط تأصل الخير في النفوس وعدمه بمستواهم الاقتصادي الذي نشأوا فيه ارتباط العلة والمعلول، فكما إن بعض الفقراء أخيار، فإن بعض الأغنياء كذلك، والعكس صحيح أيضاً. ومن هنا يُفهم من بعض الروايات ضرورة عدم طلب الخير والحاجات ممن هم أهل للخير بقطع النظر عن مستواهم المعاشي الحالي والسابق، منها ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"أشد من الموت طلب الحاجة من غير أهلها"(5)، وعنه (عليه السلام) أيضاً: "فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غير أهلها"(6) إذن فلا صحة لهاتين المقولتين من حيث الدلالة، حتى وإن تنزلنا وحملنا الجوع والشبع على المعنى المعنوي لا المادي؛ وذلك لأنه حتى من يفتقر الى الأخلاق المعنوية فإنه ما إن يتكامل بالفضائل ويقلع عن الرذائل حتى يتسم بالخير وتحسن عشرته وتطيب للناس صحبته، والعكس صحيحٌ أيضا.. ومن البديهي أن ما لا يوافق العقل والمنطق السليم، ويخالف صريح القرآن الكريم، لا يمكن أن يصدر من وصي الرسول الكريم (صلوات الله عليهما وآلهما)، وعليه لا تصح نسبة هذين القولين الى أمير المؤمنين (عليه السلام).. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الحجرات 13 (2) الانسان 3 (3) عوالي الآلي ج2 ص29 (4) غرر الحكم ج1 227 (5) المدر السابق ج1 ص246 (6) ميزان الحكمة ج4 ص 238 رضا الله غايتي
اخرىخلق الله الأشياء كلها في الحياة ضمن موازين وقياسات... فالزيادة أو النقيصة تسبب المشاكل فيها. وهكذا حياتنا وأفعالنا وعواطفنا لا بد أن تكون ضمن موازين دقيقة، وليست خالية منها، فالزيادة والنقيصة تسبب لنا المشاكل. ومحور كلامنا عن الطيبة فما هي؟ الطيبة: هي من الصفات والأخلاق الحميدة، التي يمتاز صاحبها بنقاء الصدر والسريرة، وحُبّ الآخرين، والبعد عن إضمار الشر، أو الأحقاد والخبث، كما أنّ الطيبة تدفع الإنسان إلى أرقى معاني الإنسانية، وأكثرها شفافية؛ كالتسامح، والإخلاص، لكن رغم رُقي هذه الكلمة، إلا أنها إذا خرجت عن حدودها المعقولة ووصلت حد المبالغة فإنها ستعطي نتائج سلبية على صاحبها، كل شيء في الحياة يجب أن يكون موزوناً ومعتدلاً، بما في ذلك المحبة التي هي ناتجة عن طيبة الإنسان، وحسن خلقه، فيجب أن تتعامل مع الآخرين في حدود المعقول، وعندما تبغضهم كذلك وفق حدود المعقول، ولا يجوز المبالغة في كلا الأمرين، فهناك شعرة بين الطيبة وحماقة السلوك... هذه الشعرة هي (منطق العقل). الإنسان الذي يتحكم بعاطفته قليلاً، ويحكّم عقله فهذا ليس دليلاً على عدم طيبته... بالعكس... هذا طيب عاقل... عكس الطيب الأحمق... الذي لا يفكر بعاقبة أو نتيجة سلوكه ويندفع بشكل عاطفي أو يمنح ثقة لطرف معين غريب أو قريب... والمبررات التي يحاول إقناع نفسه بها عندما تقع المشاكل أنه صاحب قلب طيب. الطيبة لا تلغي دور العقل... إنما العكس هو الصحيح، فهي تحكيم العقل بالوقت المناسب واتخاذ القرار الحكيم الذي يدل على اتزان العقل، ومهما كان القرار ظاهراً يحمل القسوة أحياناً لكنه تترتب عليه فوائد مستقبلية حتمية... وأطيب ما يكون الإنسان عندما يدفع الضرر عن نفسه وعن الآخرين قبل أن ينفعهم. هل الطيبة تصلح في جميع الأوقات أم في أوقات محددة؟ الطيبة كأنها غطاء أثناء الشتاء يكون مرغوباً فيه، لكنه اثناء الصيف لا رغبة فيه أبداً.. لهذا يجب أن تكون الطيبة بحسب الظروف الموضوعية... فالطيبة حالة تعكس التأثر بالواقع لهذا يجب أن تكون الطيبة متغيرة حسب الظروف والأشخاص، قد يحدث أن تعمي الطيبة الزائدة صاحبها عن رؤيته لحقيقة مجرى الأمور، أو عدم رؤيته الحقيقة بأكملها، من باب حسن ظنه بالآخرين، واعتقاده أن جميع الناس مثله، لا يمتلكون إلا الصفاء والصدق والمحبة، ماي دفعهم بالمقابل إلى استغلاله، وخداعه في كثير من الأحيان، فمساعدة المحتاج الحقيقي تعتبر طيبة، لكن لو كان المدّعي للحاجة كاذباً فهو مستغل. لهذا علينا قبل أن نستخدم الطيبة أن نقدم عقولنا قبل عواطفنا، فالعاطفة تعتمد على الإحساس لكن العقل أقوى منها، لأنه ميزان يزن الأشياء رغم أن للقلب ألماً أشد من ألم العقل، فالقلب يكشف عن نفسه من خلال دقاته لكن العقل لا يكشف عن نفسه لأنه يحكم بصمت، فالطيبة يمكن أن تكون مقياساً لمعرفة الأقوى: العاطفة أو العقل، فالطيّب يكون قلبه ضعيفاً ترهقه الضربات في أي حدث، ويكون المرء حينها عاطفياً وليس طيباً، لكن صاحب العقل القوي يكون طيباً أكثر من كونه عاطفياً. هل الطيبة تؤذي صاحبها وتسبب عدم الاحترام لمشاعره؟ إن الطيبة المتوازنة المتفقة مع العقل لا تؤذي صاحبها لأن مفهوم طيبة القلب هو حب الخير للغير وعدم الإضرار بالغير، وعدم العمل ضد مصلحة الغير، ومسامحة من أخطأ بحقه بقدر معقول ومساعدة المحتاج ... وغيرها كثير. أما الثقة العمياء بالآخرين وعدم حساب نية المقابل وغيرها فهذه ليست طيبة، بل قد تكون -مع كامل الاحترام للجميع- غباءً أو حماقة وسلوكاً غير عقلاني ولا يمت للعقل بصلة. إن المشكلة تقع عند الإنسان الطيب عندما يرى أن الناس كلهم طيبون، ثم إذا واجهه موقف منهم أو لحق به أذى من ظلم أو استغلال لطيبته، تُغلق الدنيا في وجهه، فيبدأ وهو يرى الناس الطيبين قد رحلوا من مجتمعه، وأن الخير انعدم، وتحصل له أزمة نفسية أو يتعرض للأمراض، لأن الطيّب يقدم الإحسان للناس بكل ما يستطيع فعله، ويقدّم ذلك بحسن نية وبراءة منه، فهو بالتالي ينتظر منهم الرد بالشكر أو المعاملة باللطف على الأقل... صحيح أن المعروف لوجه الله، ولكن من باب: من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق، لذلك يتأذى عندما يصدر فعل من الشخص الذي كان يعامله بكل طيب وصدق. هل الطيبة والصدق من علامات ضعف الشخصية؟ الكثير من الناس يصف طيب القلب بأنه ضعيف الشخصية، لأنه يتصف بعدم الانتقام ممن ظلمه، والصفح عنه عند رجوعه عن الخطأ، وأنه لا يحب إيقاع الآخرين بالمشاكل؛ لأنه مقتنع أن الله سيأخذ له حقه. والحقيقة هي أن الصدق والطيبة وحسن الظن بالآخرين ليست ضعف شخصية، بل هي من الأخلاق الراقية وهي تزيد صاحبها سمواً وجمالاً روحياً، وليس من المعيب أن يمتلك الإنسان الطيبة بل العيب في من لا يُقدّر هذه الطيبة ويعطيها حقها في التعامل بالمثل. فالمشكلة الأساسية ليست في الطيبة، إنما في استغلال الآخرين لهذه الطيبة، نتيجة لعدم عقلنة قراراتنا والاعتماد على عواطفنا بشكل كلي. فالصدق والطيبة حسب المنطق والعقل، ولها فوائد جمة للنفس ولعموم أفراد المجتمع، فهي تحصين للشخص عن المعاصي، وزيادة لصلة الإنسان بربه، وتهذيب للنفس والشعور بالراحة النفسية، فالصادق الطيب ينشر المحبة بين الناس، وهذا يعزّز التماسك الاجتماعي وتقويته من سوء الظنون والحقد، وهذا التعامل أكّدت عليه جميع الشرائع السماوية، ولو تأمّلنا تاريخ وأخلاق الأنبياء والأوصياء لوجدنا كل ما هو راقٍ من الأخلاق والتعامل بالطيبة والصدق... حنان الزيرجاوي
اخرىرحلةٌ مثقلة بالألم في طريق يئن من وطأة الظلم! ينهي حياة زوجية فشلت في الوصول إلى شاطئ الأمان. ويبدد طموحات أطفال في العيش في هدوء نفسي واجتماعي تحت رعاية أبوين تجمعهم المودة والرحمة والحب. الطلاق شرعاً: هو حل رابطة الزواج لاستحالة المعاشرة بالمعروف بين الطرفين. قال تعالى: [ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)].(١). الطلاق لغوياً: من فعل طَلَق ويُقال طُلقت الزوجة "أي خرجت من عصمة الزوج وتـحررت"، يحدث الطلاق بسبب سوء تفاهم أو مشاكل متراكمة أو غياب الانسجام والحب. المرأة المطلقة ليست إنسانة فيها نقص أو خلل أخلاقي أو نفسي، بالتأكيد إنها خاضت حروباً وصرعات نفسية لا يعلم بها أحد، من أجل الحفاظ على حياتها الزوجية، ولكن لأنها طبقت شريعة الله وقررت مصير حياتها ورأت أن أساس الـحياة الزوجيـة القائم على المودة والرحـمة لا وجود له بينهما. فأصبحت موضع اتهام ومذنبة بنظر المجتمع، لذلك أصبح المـجتمع يُحكم أهواءه بدلاً من الإسلام. ترى، كم من امرأة في مجتمعنا تعاني جرّاء الحكم المطلق ذاته على أخلاقها ودينها، لا لسبب إنما لأنها قررت أن تعيش، وكم من فتاة أُجبرت قسراً على أن تتزوج من رجل لا يناسب تطلعاتها، لأن الكثير منهن يشعرن بالنقص وعدم الثقة بسبب نظرة المجتمع، وتقع المرأة المطلّقة أسيرة هذه الحالة بسبب رؤية المجتمع السلبيّة لها. وقد تلاحق بسيل من الاتهامات وتطارد بجملة من الافتراءات. وتعاني المطلقة غالباً من معاملة من حولها، وأقرب الناس لها، بالرغم من أن الطلاق هو الدواء المر الذي قد تلجأ إليه المرأة أحياناً للخلاص من الظلم الذي أصبح يؤرق حياتها الزوجية، ويهدد مستقبلها النفسي، والله تعالى لم يشرع أمراً لخلقه إلا إذا كان فيه خير عظيم لهم، والطلاق ما شرّع إلا ليكون دواء فيه شفاء وإن كان مرّاً، وإن كان أمره صعباً على النفوس، حيث قال عز وجل: "وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا"، روي عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) ((أبغض الحلال إلى الله الطلاق) (٢). ورغم أن الشريعة الإسلامية أباحت الطلاق بشروط تلاءم لبناء المجتمع، وأولت أهمية في الإحسان دائمًا للطرف الأضعف والأكثر خسارة في هذه المعادلة وهي "المرأة"، إلا أن المجتمع الذي يدّعي الإسلام لا يرحمها، ويحكم عليها بالإدانة طوال حياتها دون النظر في صحة موقفها في الطلاق من عدمه! قال( تعالى ): [الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] (٣). ولكن بعد كل هذا فالحياة لم ولن تتوقف بعد الطلاق! الطلاق ليس نهاية الحياة. - أخيتي. ليكن الطلاق بداية جديدة لحياة جديدة وللانطلاق. -قطار العطاء لن يتعطل. فإن كنت السبب في الطلاق فالحمد لله على كل حال وتلك أمة قد خلت وأيام ذهبت وانجلت فلست بالمعصومة من الخطأ. وعليك استدراك الأخطاء وتقوية مواطن الضعف في شخصيتك، واجعليها درساً مفيداً في الحياة لتطوير نفسك وتقويتها. وإذا كنتِ مظلومة فهناك جبار يُحصي الصغير والكبير وسيأتي يوم ينتصر لك فيه. -ومن الجميل أن تعطي نفسك الإحساس بالحب والاحترام، ولا تتأثري بأي نظرة سلبية من المجتمع وكون البعض يتعامل مع المطلقة على أنها حالة خاصة فعليكِ إثبات ذاتك حتى تفرضي على الكل شخصيتك. - نظرتك لنفسك اجعليها نظرة ايجابية مشرقة ولا تنزلقي في مستنقع نبذ الذات وظلم النفس. - ابحثي عن الصفات الجيدة فيك فإن ذلك سيشعرك بالثقة في ذاتك والتقدير لها. -حاولي مراجعة نفسك للخروج بإيجابيات حصلت لك من طلاقك. - خالطي الآخرين وإياك والعزلة بسبب وضعك الجديد فلست بأول من يبتلى بالطلاق. -استمتعي بالموجود ولا تتعلقي بالمفقود، حلقي بروح تعبق أملاً وتفاؤلاً، استمتعي بما وهبك الله من نعم (صحة وأولاد وأهل وصديقات وعمل وهوايات وغيرها من الأمور الجميلة) فما حصل لك حصل… ولابد أن تتقبليه برضا، وأعلمي أن ما أصابك لم يكن ليخطأك وما أخطأك لم يكن ليصيبك. وقال أصدق من قال: ( وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم). فالرضا سر السعادة الحقيقي. - اقتربي من صديقاتك الصالحات، واقضي معهن وقتاً طيباً تنسين به ألمك وحزنك. - احرصي على الصلوات وقراءة القرآن الكريم والذكر والاستغفار وأكثري من الطاعات قدر ما تستطيعين، ففيها السلوى والفرح والسعادة. ونعم سعادة القرب من الرحمن. - اشغلي نفسك بأعمال البر والإحسان بمساعدة محتاج. بكفالة يتيم. بتعلم الفقه والقرآن وتعليمه. - اجتهدي في عمل برنامج يومي لك يكون ممتلأ بكل ما هو مفيد لك. من قراءة وزيارة الأصدقاء وصلة الرحم. بحيث لا تكون هناك دقيقة أنت فارغة فيها. - وأسرعي بقاربك الجميل بمجذافين من إيمان بالله وثقة بالنفس وسوف تصلين بإذن الله نحو جزيرة السعادة والنجاح. لكي تتسلق جبال الإنجاز، وتصل لأعلى مراتب الاعجاز. وعندها جزماً سيكون للحياة معنى آخر. --------------------------------- (١)-سورة البقرة الآية (٢٢٦-٢٢٧). (٢)-الكافي (٢)-سورة البقرة الآية (٢٢٨) حنان ستار الزيرجاوي
اخرى(لا تقاس العقول بالأعمار، فكم من صغير عقله بارع، وكم من كبير عقله فارغ) قولٌ تناولته وسائل التواصل الاجتماعي بكل تقّبلٍ ورضا، ولعل ما زاد في تقبلها إياه هو نسبته الى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولكننا عند الرجوع إلى الكتب الحديثية لا نجد لهذا الحديث أثراً إطلاقاً، ولا غرابة في ذلك إذ إن أمير البلاغة والبيان (سلام الله وصلواته عليه) معروفٌ ببلاغته التي أخرست البلغاء، ومشهورٌ بفصاحته التي إعترف بها حتى الأعداء، ومعلومٌ كلامه إذ إنه فوق كلام المخلوقين قاطبةً خلا الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ودون كلام رب السماء. وأما من حيث دلالة هذه المقولة ومدى صحتها فلابد من تقديم مقدمات؛ وذلك لأن معنى العقل في المفهوم الإسلامي يختلف عما هو عليه في الثقافات الأخرى من جهةٍ، كما ينبغي التطرق الى النصوص الدينية الواردة في هذا المجال وعرضها ولو على نحو الإيجاز للتعرف إلى مدى موافقة هذه المقولة لها من عدمها من جهةٍ أخرى. معنى العقل: العقل لغة: المنع والحبس، وهو (مصدر عقلت البعير بالعقال أعقله عقلا، والعِقال: حبل يُثنَى به يد البعير إلى ركبتيه فيشد به)(1)، (وسُمِّي العَقْلُ عَقْلاً لأَنه يَعْقِل صاحبَه عن التَّوَرُّط في المَهالِك أَي يَحْبِسه)(2)؛ لذا روي عنه (صلى الله عليه وآله): "العقل عقال من الجهل"(3). وأما اصطلاحاً: فهو حسب التصور الأرضي: عبارة عن مهارات الذهن في سلامة جهازه (الوظيفي) فحسب، في حين أن التصوّر الإسلامي يتجاوز هذا المعنى الضيّق مُضيفاً إلى تلك المهارات مهارة أخرى وهي المهارة العبادية. وعليه فإن العقل يتقوّم في التصور الاسلامي من تظافر مهارتين معاً لا غنى لأحداهما عن الأخرى وهما (المهارة العقلية) و(المهارة العبادية). ولذا روي عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنه عندما سئل عن العقل قال :" العمل بطاعة الله وأن العمّال بطاعة الله هم العقلاء"(4)، كما روي عن الإمام الصادق(عليه السلام)أنه عندما سئل السؤال ذاته أجاب: "ما عُبد به الرحمن، واكتسب به الجنان. فسأله الراوي: فالذي كان في معاوية [أي ماهو؟] فقال(عليه السلام): تلك النكراء، تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل"(5) والعقل عقلان: عقل الطبع وعقل التجربة، فأما الأول أو ما يسمى بـ(الوجدان الأخلاقي) فهو مبدأ الادراك، وهو إن نَما وتطور سنح للإنسان فرصة الاستفادة من سائر المعارف التي يختزنها عن طريق الدراسة والتجربة وبالتالي يحقق الحياة الإنسانية الطيبة التي يصبو اليها، وأما إن وهن واندثر لإتباع صاحبه الأهواء النفسية والوساوس الشيطانية، فعندئذٍ لا ينتفع الانسان بعقل التجربة مهما زادت معلوماته وتضخمت بياناته، وبالتالي يُحرم من توفيق الوصول إلى الحياة المنشودة. وعقل التجربة هو ما يمكن للإنسان اكتساب العلوم والمعارف من خلاله، وما أروع تشبيه أمير البلغاء (عليه السلام) العلاقة التي تربط العقلين معاً إذ قال فيما نسب إليه: رأيت العقل عقلين فمطبوع ومسموع ولا ينفع مسموع إذ لم يك مطبــوع كما لا تنفع الشمس وضوء العين ممنوع(6) فقد شبّه (سلام الله عليه) عقل الطبع بالعين وعقل التجربة بالشمس، ومما لاشك فيه لكي تتحقق الرؤية لابد من أمرين: سلامة العين ووجود نور الشمس، وكما إن الثاني لا ينفع إن لم يتوفر الأول فكذلك عقل التجربة لا ينفع عند غياب عقل الطبع فضلاً عن موته. وبما إن عقل الطبع قد ينمو ويزدهر فينفع صاحبه من عقل التجربة، وقد يموت ويندثر عند الاستسلام لإضلال شبهةٍ أوبسبب إرتكاب معصية، فإنه ومن باب أولى أن يتعرض الى الزيادة والنقصان كما سيأتي... وقد ورد في النصوص الدينية أن للعقل زمناً ينمو فيه ويكتمل، فعن إمامنا أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه):"يثغر الصبي لسبع، ويؤمر بالصلاة لتسع، ويفرق بينهم في المضاجع لعشر، ويحتلم لأربع عشرة، وينتهى طوله لإحدى وعشرين سنة، وينتهي عقله لثمان وعشرين إلا التجارب"(7)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يربى الصبي سبعاً ويؤدب سبعاً، ويستخدم سبعاً، ومنتهى طوله في ثلاث وعشرين سنة، وعقله في خمس وثلاثين [سنة] وما كان بعد ذلك فبالتجارب"(8). إذن يتوقف النمو الطبيعي لعقل الانسان عند سن الثامنة والعشرين أو الخامسة والثلاثين كما ورد في الروايتين، وأية زيادة أخرى في طاقته بعد ذلك إنما تأتي عن طريق التجارب، وقد يُتوهم بأن ثمة تعارضاً ما بين الروايتين المتقدمتين في شأن تحديد سن النمو العقلي، إلا إنه لا تعارض ينهما إذا حملنا اختلافهما فيه على اختلاف الاشخاص وتباين استعدادات وقابليات كل منهم. وعلى الرغم من توقف نمو عقل الإنسان إلا إن له أنْ يزيده بالتجارب ومواصلة التعلم ــ كما تقدم في الروايات ــ وسواء أثبت العلم هذه الحقيقة الروائية أم لا، فنحن نريد الإشارة إلى ضرورة استمرار التجربة والتعلم لزيادة نمو العقل وهذا المقدار لا خلاف فيه وعلى الرغم من إن لعمر الانسان مدخلية في زيادة عقله كما تقدم وكما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يزيد عقل الرجل بعد الاربعين إلى خمسين وستين، ثم ينقص عقله بعد ذلك"(9)، إلا إن ذلك ليس على نحو العلة التامة، إذ يمكن للعقل أن يبقى شاباً وقوياً وإن شاب الإنسان وضعف جسمه، وتقدم في السن ووهن عظمه، فالعاقل لا يشيب عقله ولا تنتقص الشيخوخة من قوته بل وقد يزداد طاقةً وحيويةً لذا ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"رأي الشيخ أحب الي من جَلَد الغلام"(10)، وفي أخرى ".....من حيلة الشباب "(11) وأما من لم يوفر أسباب صقل عقله في مرحلة الشباب فإنه بلا شك يضمحل عقله في مرحلة الشيخوخة. وليس تقدم العمر هو العامل الوحيد في نقصان العقل بل إن النصوص الشرعية أشارت الى عوامل عديدة اخرى أهمها: أولاً: التعلم: فقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "من لم يصبر على ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبداً"(13). ثانياً: التوبة: وعنه (عليه السلام) ايضاً:"من لم يرتدع يجهل"(14) ثالثاً: التقوى: فقد كتب إمامنا الباقر (عليه السلام) إلى سعد الخير: "بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإني اوصيك بتقوى الله فإن فيها السلامة من التلف والغنيمة في المنقلب إن الله (عزوجل) يقي بالتقوى عن العبد ما عزب عنه عقله ويجلي بالتقوى عنه عماه وجهله"(15) إذن التوبة هي سبب للتوفيق الإلهي الذي يؤدي فيما يؤدي إليه من إكمال العقل. رابعاً: الوقوف عند الشبهة: وقال (عليه السلام ): "لا ورع كالوقوف عند الشبهة"(16). فإن الوقوف عند الشبهات سبب من أسباب التوفيق الإلهي بلا شك. خامساً: الاعتراف بالجهل: كما روي عن الإمام علي (عليه السلام): "غاية العقل الاعتراف بالجهل"(17) إذ الاعتراف بالجهل يدفع الإنسان دوماً إلى مزيد من بذل الجهد واكتساب المعارف. مما تقدم تتضح جلياً صحة هذه المقولة دلالةً، إذ إن العقول فعلاً لا تقاس بالأعمار لأن كلٍاً من زيادتها ونقيصتها منوطٌ بالعديد من العوامل الأخرى والتي تقدم ذكرها، بيد إن ذلك لا يبرر التساهل في نشرها والتهاون في الاستشهاد بها على إنها من أقوال أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) لعدم ثبوت ذلك سنداً من جهة ولضعف بلاغتها وركاكة تركيبها بالنسبة إلى سيد البلغاء والبلاغة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) تهذيب اللغة ج1 ص65 (2) لسان العرب ج11 ص458 (3) نهاية الحكمة ص305 (4) ميزان الحكمة ج3 ص333 (5) أصول الكافي ج1، ح3 / 11 (6) نهج السعادة ج9 ص163 (7) الكافي ج7 ص94 (8) الفقيه ج3 ص493 (9) الاختصاص ص245 (10) نهج البلاغة حكمة 86 (11) بحار الأنوار ج72 ص105 (12) المصدر السابق ج1 ص94 (13) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص118 (14) الكافي ج8 ص73 (15) وسائل الشيعة ج1 ص162 (16) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص1 بقلم الكاتبة: رضا الله غايتي
اخرىبقلم: أم نور الهدى كان لأمير المؤمنين (عليه السلام) اهتمام خاص بالمرأة، فنراه تارة ينظر إليها كآية من آيات الخلق الإلهي، وتجلٍ من تجليات الخالق (عز وجل) فيقول: (عقول النساء في جمالهن وجمال الرجال في عقولهم). وتارة ينظر إلى كل ما موجود هو آية ومظهر من مظاهر النساء فيقول: (لا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها فإن المرأة ريحانة وليس قهرمانة). أي إن المرأة ريحانة وزهرة تعطر المجتمع بعطر الرياحين والزهور. ولقد وردت كلمة الريحان في قوله تعالى: (فأمّا إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة النعيم) والريحان هنا كل نبات طيب الريح مفردته ريحانة، فروح وريحان تعني الرحمة. فالإمام هنا وصف المرأة بأروع الأوصاف حين جعلها ريحانة بكل ما تشتمل عليه كلمة الريحان من الصفات فهي جميلة وعطرة وطيبة، أما القهرمان فهو الذي يُكلّف بأمور الخدمة والاشتغال، وبما إن الإسلام لم يكلف المرأة بأمور الخدمة والاشتغال في البيت، فما يريده الإمام هو إعفاء النساء من المشقة وعدم الزامهن بتحمل المسؤوليات فوق قدرتهن لأن ما عليهن من واجبات تكوين الأسرة وتربية الجيل يستغرق جهدهن ووقتهن، لذا ليس من حق الرجل إجبار زوجته للقيام بأعمال خارجة عن نطاق واجباتها. فالفرق الجوهري بين اعتبار المرأة ريحانة وبين اعتبارها قهرمانة هو أن الريحانة تكون، محفوظة، مصانة، تعامل برقة وتخاطب برقة، لها منزلتها وحضورها. فلا يمكن للزوج التفريط بها. أما القهرمانة فهي المرأة التي تقوم بالخدمة في المنزل وتدير شؤونه دون أن يكون لها من الزوج تلك المكانة العاطفية والاحترام والرعاية لها. علماً أن خدمتها في بيت الزوجية مما ندب إليه الشره الحنيف واعتبره جهادًا لها أثابها عليه الشيء الكثير جدًا مما ذكرته النصوص الشريفة. فمعاملة الزوج لزوجته يجب أن تكون نابعة من اعتبارها ريحانة وليس من اعتبارها خادمة تقوم بأعمال المنزل لأن المرأة خلقت للرقة والحنان. وعلى الرغم من أن المرأة مظهر من مظاهر الجمال الإلهي فإنها تستطيع كالرجل أن تنال جميع الكمالات الأخرى، وهذا لا يعني أنها لا بد أن تخوض جميع ميادين الحياة كالحرب، والأعمال الشاقة، بل أن الله تعالى جعلها مكملة للرجل، أي الرجل والمرأة أحدهما مكمل للآخر. وأخيرًا إن كلام الإمام علي (عليه السلام) كان تكريمًا للمرأة ووضعها المكانة التي وضعها الله تعالى بها، حيث لم يحملها مشقة الخدمة والعمل في المنزل واعتبر أجر ما تقوم به من اعمال في رعاية بيتها كأجر الجهاد في سبيل الله.
اخرىعالم الطفولة كأنه طاولة، لا تجد فيه غير طعام لذيذ، ومنظر لطيف وجديد، فعالمهم فاكهة الوجود، وخضار الأرواح، ومياه الحياة تسقي القلوب... عالم صفاء وأحلام جميلة بسيطة وتافهة ولكن بنظرهِ هو عظيمة وكبيرة، فهو العالم الذي ينطلق منه الإنسان في بداية عمره. فالطفل في بداية حياته ينظر إلى الحياة بتفكيره البريء، فالطفل يعيش بعالم خاص به مملوء بالمحبة البريئة. هذه هي الصورة الجميلة التي يحملها الطفل، وكم يتمنى كل إنسان أن يعود لطفولته البريئة ليتأمل في أرجاء عالمها الذي كان يصور له حياة مختلفة تشد الإنسان إليها بجمالها، هذا هو عالم الطفولة وهذه أحلام من يعيشها، فلا ينفذ إلى ملكوت ذلك العالم ولا يدرك كنهه إلا من عاشه وجال في ربوعه. حيث يتذوق الطفل مع أحلام طفولته هذه لذة الحياة ولذة العيش فيها، ومهما حاولنا أن نعبر عن هذه الحقيقة فلن نستطيع تصويرها بالكلمات. وبعد هذا، فإن الاهتمام بمستقبل الطفل هو في الواقع ضمان لمستقبل شعب بأسره. قال اللَّه تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا". التحريم/6 أعتنى الإسلام بتربية الأبناء عناية فائقة، وألقى على عاتق الأهل ما سيكون عليه الولد في مسلكه الدنيوي ومصيره الأخروي إن هم قصروا في تربيته وإعداده. وقد ذكر العلماء أن شخصية الولد تتأثر في نموها بعوامل ثلاثة وهي: الوراثة، والبيئة، والتربية. إذا خضنا في مضمار التربية السليمة للأبناء... فعلى الأبوين أن يكون لهما الوعي التربوي الذي يبنى على أسس صحيحة ويتوفر لديهم فهم لأساليب التربية والتوجيه والرعاية وهذه نقطة البداية. فمثلاً في أسلوب التعامل مع الطفل تبرز أمامنا ثلاثة اشكال لتعامل الآباء مع الأبناء: الشكل الأول: أسلوب الدلال المفرط وهذا الأسلوب له نتائجه السلبية الخطيرة، فإنه يخلق شخصية هشة متميعة وشخصية اتكالية تحب الكسل والخمول مجردة من الهدف والإقدام، انهزامية غير قادرة على مواجهة التحديات وبمعنى أدق شخصية لا تثق بنفسها. شخصية متسيبة في ظل غياب المراقبة والمحاسبة وهذا التسيب يقود إلى الانفلات والانحراف. الشكل الثاني: فهو أسلوب التربية القاسية والعنف. وهذا الأسلوب أيضاً له نتائجه الخطيرة والسلبية التي يعاني منها الأبناء طوال حياتهم فهو يخلق شخصية قلقة ومتأزمة ومعقدة وخائفة وتحمل عقدة الخوف، شخصية حاقدة وعدوانية وقد تتأزم الأمور لتصبح شخصية منافقة وكاذبة خوفاً من العقاب والتعنيف ضمن حدود الأسرة ولكن يوماً من الأيام سينطلق هذا الشخص ليواجه المجتمع ككل، فلنتصور كيف سيتعامل مع المحيطين ضمن مجالات الدراسة والعمل وهو شخصية هاربة من أجواء الأسرة وقد يعرضها للتسيب والانحراف لأنها شخصية متمردة مما يعرضها للعقوق. الأسلوب الثالث: التوازن. الأسلوب الصحيح يعتمد على التوازن فمن شروط نجاح التربية التوازن في المعاملة ما بين الأمور التي تحتاج إلى شدة وحزم ليتربى على أن هذه الأمور خطوط حمراء طبعاً هنا يمكن أن يعترض أحد ويقول: لا للعنف الأسري ولا لاستخدام القسوة. نعم فهناك طرق غير استخدام العنف. يكفي ان يبدي الآباء انزعاجهم مثلاً. وهنا النقطة مهمة جداً، وهي: أن نوضح لهم سبب المنع والرفض لا تعتقدوا أن أبناءكم لا يدركون ولن يفهموكم. تخصيص الوقت للنقاش مهم جداً. وما بين أسلوب المرونة والحنان والاحتواء. التوازن في المعاملة. إن الإمام زين العابدين (عليه السلام) يصرح بمسؤولية الأبوين بتربية الطفل، ويعتبر التنشئة الروحية والتنمية الخلقية لمواهب الأطفال واجباً دينياً يستوجب أجراً وثواباً من الله تعالى، وأن التقصير في ذلك يُعرّض الآباء إلى عقاب الله. فيقول (عليه السلام): (وأما حق ولدك عليك فأن تعلم أنه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره. وأنك مسؤول عما وليته به من حسن الأدب والدلالة على ربه عز وجل والمعونة له على طاعته. فأعمل في أمره عمل من يعلم أنه مثاب على الإحسان إليه معاقب على الإساءة إليه ) مكارم الأخلاق للطبرسي ص٢٣٢ حنان الزيرجاوي
اخرى