بقلم: شيماء المياحي قال الإمامُ الحُسينُ (عليه السلام): "القنوعُ راحةُ الأبدان"(١) الإنسانُ بطبيعته يبحثُ عن الراحة، راحة البدنِ والقلبِ (الاطمئنان)، ويسعى للحصول عليها ببذلِ الجُهدِ والمالِ والوقتِ (العمر)، وقد يحصلُ عليها وينعمُ بها وقد لا يحصل؛ لعله لافتقاره إلى معرفةِ المُقدماتِ المؤديةِ لها، فقد يطلبُ الإنسانُ الراحةَ بالسعي لتوفيرِ ما يُضاعفُ تعلُّقُه بالدُنيا، وقد وردَ في الحديث عن صادق العترة (عليه السلام): "من تعلّقَ قلبُه بالدنيا تعلّقَ قلبُه بثلاثِ خصال: همٍ لا يفنى، وأملٍ لا يُدركُ، ورجاءٍ لا يُنال"(٢)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): "من غلبتِ الدنيا عليه عمى عمّا بين يديه"(٣) فالتعلُّقُ بالدنيا لهُ ما لهُ من المتاعبِ ومنها: إنّه سببُ الهم الغم، وطولُ الأمل، ويُعمي الإنسان عن النعمِ التي أنعم اللهُ (تعالى) بها عليه؛ ولذلك يبحثُ المُتعلِّقُ بالدنيا عن الراحةِ ولا يجدها، ومن هُنا فقد أرشد أئمةُ الحقِّ (عليهم السلام) إلى طُرُقِ اكتسابِ الراحةِ، وأهمها القناعة.. والقناعةُ: هي الاكتفاءُ بقدرِ الحاجةِ والضرورةِ من أمورِ الدنيا، ولا يُنافي ذلك السعيُ إلى طلبِ حوائجِ الدنيا فيما يُعينُ الإنسانَ على آخرته. وقد وردَ عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "من لم يُقنِعْه اليسير، لم ينفعْه الكثير"(٤) ومن نتائج القناعة: ١- العِز: فالقناعةُ تورثُ عِزّةَ النفس، فلا يطمعُ القنوع بما يملكُه الآخرون، فضلًا عن الرضا بما يملكُه، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): "ثمرةُ القناعةِ العِز"(٥)، وعنه (عليه السلام) أيضًا: "ثمرةُ القناعةِ الإجمالُ في المُكتسبِ، والعزوفُ عن الطلب"(٦) ٢- صلاحُ النفس: فعن أمير المؤمنين (عليه السلام): "كيف يستطيعُ صلاحَ نفسِه من لا يقنعُ بالقليل؟!"(٧)؛ وذلك لأنَّ صلاحَ النفسِ إنّما يكونُ بتزكيتِها عن الطمعِ والجشعِ، وترويضها على الاستقامةِ وإنْ كان بمنعِها عمّا ترغبُ وتشتهي، وذلك من خلالِ التحلّي بالقناعة. ٣- يُسرُ الحسابِ في الآخرة: وقد ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): "اقنعْ بما أوتيتَه يخفُّ عليك الحساب"(٨) وعن الإمامِ الصادقِ (عليه السلام): "من رضيَ من اللهِ باليسير من المَعاشِ رضيَ اللهُ منه باليسيرِ من العمل"(٩) ٤- العفاف: عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "من قنعتْ نفسَه أعانتَه على النزاهةِ والعفافِ"(١٠) فضلًا عن الاستقرار النفسي، الذي يرتبطُ به الاستقرارُ الصحي عند الإنسان والواقعُ خيرُ شاهدٍ على ذلك، علاوة على كثرةِ ما نسمعُ من أهلِ الاختصاص بأنّ نسبةً كبيرةً من الأمراضِ الجسدية؛ سببُها عدمُ الاستقرار النفسي، ورُبّما هذا ما يعنيه الإمامُ الحسينُ (عليه السلام) بقوله: "القنوعُ راحةُ الأبدان" ومما يؤدي للقناعة الإيمانُ بالله (تعالى) والاعتقادُ بصفاته، وأنَّه عادلٌ حكيمٌ، لا يُعطي ولا يمنعُ إلّا عن حكمةٍ وعدالةٍ، ومن أجلِ ما تتوقّفُ عليه مصالحُ الخلق، سواء في الدنيا أو الآخرة، فإذا ترسّختْ هذه العقيدةُ في قلبِ الإنسانِ وبأدلِّتها اليقينية؛ سوفَ تحصلُ له القناعةُ التامّةُ بكُلِّ ما يُعطى وما يُمنعُ من قِبل الله(تعالى). ولكنّ هناك قسمًا مذمومًا من أقسامِ القناعة، وهي القناعةُ في الأمور المعنوية، فلا ينبغي للإنسانِ أنْ يقنعَ باليسيرِ في هذا الجانب، كالعلمِ، والإيمانِ، والتقوى، والتحلّي بالأخلاق الحميدة؛ لأنَّ الإسلامَ دعا المسلمَ إلى التزوّدِ والتنافسِ فيها، قال (تعالى): "وَفِي ذَلِكَ فَليَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ"[المطففين:٢٦]، وقال (تعالى): "وَتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيرَ الزَّادِ التَّقوَى"[البقرة:١٩٧] إذن، الأمورُ المعنويةُ ولا سيما العبادة لا مجالَ للقناعةِ فيها؛ فقد قال (تعالى): "وَاعبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأتِيَكَ اليَقِينُ"[الحجز:٩٩] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (١) ميزان الحكمة: ج٣ (٢)و(٣) نفس المصدر: ج٢ (٤) بحار الانوار: ج٧٥ (٥) غرر الحكم (٦) غرر الحكم (٧) - (١٠)ميزان الحكمة: ج٣
اخرىتعلّمتُ أنّ ثورةَ الحسين (عليه السلام) عالميةُ المعنى والهدف، وأنّها لم تكنْ تشملُ فئةً دونَ أُخرى، ولا مذهبًا دون آخر فنهجُ الحُسينِ (عليه السلام) هو الذي سيوحِّدُ العالمَ من أقصاه إلى أقصاه على يدي ولده المهدي (عجّلَ اللهُ (تعالى) فرجه الشريف).
اخرىبقلم: رشا الشمري كربلا بِالسِّبْطِ مَاذَا قَدْ جَرى؟ إنَّ فيكِ السَّيْفَ حزَّ المنحرا.. كربلا قَوْلِي فَمنْ ذَاقَ الحتوف؟ بَيْنَ سَبْعِينَ تُلَاقِيهَا الأَلوف.. إنَّهَا مَلْحَمَةٌ.. وَادِي الطفوف هَمُّهَا فِي كُلِّ قَلْبٍ أَثَّرَا.. إِنَّ فِيكِ السَّيْفَ حزَّ المنحرا كَرْبَلَاء أَخْبِرِينَا عَنْ الحُسَيْن عَنْ جَبِينٍ شَعَّ نُورَا كَاللُّجَيْن سَهْمُ حِقْدٍ نَابِتٌ فِي جَفْنِ عَيْن ظامئُ الثُّغَرِ يُحَاكِي أَنْهُرًا إنَّ فِيكَ السَّيْفَ حزَّ المنحرا أَخْبِرِينَا عَنْ رُؤُوسٍ شَامِخَات عَنْ جُسُومٍ تصطلي فَوْقَ الفلاة عنْ عُيُونٍ كُلِّلَتْ بِالنَّائِبَات صَوتُ حزنٍ لِلمَآسِي كَبَّرَا إنَّ فِيكِ السَّيْفَ حزَّ المنحرا هَلْ يَقِينًا أَنَّ فِيكَ مِنْ رَضِيع لَاهِثَ القَلْبِ وَفِي الطفِّ صَرِيع يَرْتَوِي مِنْ مَنْهَلِ النَّحْرِ النجيع بَيْنَ أَحْضَانِ أَبِيهِ فرفرا إنّ فِيكِ السَّيْفَ حزَّ المنحرا أعْلمِيني عَنْ شَدِيدٍ للفحول صالَ كَاللَّيْثِ بِبَدْرٍ إِذْ يصول عسْعسَ المَوْتُ بكفيَه المُهَول فِي الوغى عَبَاسُ فِيهُمْ زَمْجَرَا. إنَّ فِيكِ السَّيْفَ حزَّ المنحرا أَخْبِرِينِي كَرْبَلَاء عَنْ دُمُوع فِي مَآقي الصَّبْرِ مَا لَاقَتْ رُكُوع زَيْنَبُ الحَوْرَاءُ تَشْكُو لِلضُّلُوع صَدْرُ سِبْطٍ بخيولٍ كُسِّرَا إنَّ فِيكِ السَّيْفَ حزَّ المنحرا أَخْبِرِينِي عَنْ سَبَايَا.. عَنْ عِيَال قَادَهُمْ لِلأسرِ أَقْوَامُ الضلَال أرْتَجِي مِنْكِ جَوَابًا للسؤال: كَيْفَ سَارُوا فِي الفيافي يَا تُرَى؟ إنَّ فِيكِ السَّيْفَ حزَّ المنحرا كَرْبَلَاء أَخْبِرِينِي عَنْ شُمُوس فِي دِمَاهَا كَمْ وَجَدْنَا مِنْ دُرُوس فَوْقَ أَعِنانِ القنا تِلْكَ الرُّؤوس قُدْوَةٌ لِلمَجْدِ فَخْرٌ للورى إنَّ فِيكِ السَّيْفَ حزَّ المنحرا
اخرىاتخذوا من شهرِ الحُسينِ (عليه السلام) ميقاتًا للصلاة.. يا تاركي الصلاة، انتبهوا استيقظوا من غفلتِكم؛ فالدُنيا فانية لا تستهينوا بالصلاةِ؛ إنّها عمودُ الدين فمن أجلِ الصلاةِ ضحّى الحُسين (عليه السلام) بالغالي والنفيس حتى أنّه أدّاها والأعداءُ محيطةٌ به من كُلِّ جانبٍ.. هذه العبرةُ من طفِّ كربلاء.
اخرىبقلم: علوية الحسيني السيّدةُ زينبُ (عليها السلام) في خطابِها هذا تُشيرُ إلى عظمةِ الذنبِ الذي اقترفَه بنو أميّة (عليهم لعنة الله)؛ بقتلِهم ريحانةِ رسولِ الله (صلى الله عليه وآله), وسبيهم عياله، فضلًا عن شتمهم للآل الأطهار. ومن جزالةِ خطابِ السيّدةِ (عليها السلام) في المقطعِ هذا نستشِفُّ ثلاثَ إشاراتٍ: عقائدية، وأخلاقية، وبلاغية، كلٌ منها تُشكّلُ درسًا لمن يجهلُ مقامها، أشيرُ إليها ضمن النواحي التالية: ■الناحيةُ الأولى: الناحيةُ العقائديةُ إنّ خطابَ السيّدةِ (عليها السلام) لا ينافي صريحَ آياتِ القرآنِ الكريم في عفو ومغفرةِ اللهِ (تعالى) عن ولعباده المذنبين، كقولِ اللهِ (تعالى): {قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ الله لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين}(1)؛ وذلك لأنّ المغفرةَ يتلطّفُ اللهُ (تعالى) بها على عبادِه التائبين توبةً نصوحة؛ الذين يعملونَ السوءَ جهلًا منهم بمعصيته؛ كما يقولُ (تعالى): {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ الله عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيما}(2). نأتي الآنَ لإخراجِ بني أميّة وأتباعهم (عليهم لعنة الله) من هذه الآية، ونُثبتُ أحقيّةَ قولِ السيّدةِ حينما نفت بقولها (لن) نفيًا مؤبدًا بأنّ بني أمية وأتباعهم لا يمحون خطأهم الجسيم –إمّا بخداع الناس، أو بتفكيرهم بالتوبة-، فعن خداع الناس، شاءَ اللهُ (تعالى) أنْ يفتضحَ أحدوثتهم، وعن توبتِهم فلن تتحقق، ونقول: 1/ بنو أمية وأتباعُهم (عليهم لعنة الله) لم يفعلوا تلك الرزايا جهلًا منهم، وهذا ليس بادّعاءٍ؛ بل روي في كتب أبناء العامة أنّهم أقدموا على قتل الإمام الحسين (عليه السلام) بغـضًا بأبيه؛ حيث روى القندوزي في ينابيعه: أنّ الإمامَ الحسينَ (عليه السلام) دنا من أعدائه وقال: "يا ويلكم أتقتلوني على سُنّةٍ بدلتُها؟ أم على شريعةٍ غيرتُها؟ أم على جُرمٍ فعلتُه؟ أم على حقٍ تركتُه؟ "، فقالوا له: "إنّا نقتلك بُغضًا لأبيك"(3). والشعورُ بالبُغض لم يأت عن جهل. ومن يبغض عليًا (عليه السلام) فلاشكّ أنّه مُنافقٌ؛ وقد روى مسلم في صحيحه: "حدثنا: أبو بكر بن أبي شيبة، ...عن زر، قال: قال علي: والذي فلقَ الحبةَ، وبرأ النسمةَ، إنّهُ لعهدُ النبي الأمي (ص[صلى الله عليه وآله وسلّم]) إليّ أنْ لا يُحبُّني إلا مؤمنٌ، ولا يُبغضُني إلا مُنافقٌ"(4). إذًا بنو أمية منافقون، والآياتُ التي ذمّتِ المنافقين، وبيّنتْ مصيرهم كثيرةٌ؛ نأخذُ منها ما يشفي غليلَنا من تلك الفئة الباغية، ما قاله (تعالى): {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّار}(5). فليُلاحظُ الجميعُ أصالةَ الخطابِ الزينبي، وكيف أنّه يستدلُّ بالتدريج عقائديًا ليصلَ إلى الجذرِ القرآني. اللهمَّ إنّي أشهدُ أنّ السيّدةَ زينب وآلها (عليها وعليهم السلام) من الدُعاةِ إلى جنتك، وأنّ يزيدَ وأشياخَه وأتباعَه (عليه وعليهم لعنة الله) من الدعاةُ إلى نارك. فها هو دورُ العقيدةِ في الخطاب الزينبي، عبارةٌ مُجملةٌ استبطنتِ الإشارةَ إلى أوائلِ أصول الدّين، ببيانِ مصيرِ من يعتدي مُتعمّدًا على مقامِ الإمامة، فهو منافقٌ، مُعادٍ للنبوّة، ومعادي النبوة لن تنفعَه لقلقلةُ لسانِه بالادّعاء بالإيمان وإنِ ادّعاه. فكانَ المصيرُ جهنمَ وساءتْ مصيرًا, وما ربُّنا بظلاّمٍ للعبيد. 2/ بنو أمية واتباعُهم (عليهم لعنة الله) ليسوا من التائبين، إذ لم يروِ لنا التأريخُ توبةَ ابن زياد، و طاغيته يزيد، أو الشمر، وشرذمتهم (عليهم جميعًا لعائن الله). وها هي زيارةُ عاشوراء المرويةُ عن الإمام الباقر، وبسندٍ آخر عن الإمام الصادق (عليهما السلام)، فيها لعنٌ دائمٌ إلى يوم القيامة على قتلةِ الإمامِ الحسين (عليه السلام): "...اللهم اللعن يزيدَ خامسًا، والعنْ عبيدَ اللهِ بن زياد، وابنَ مرجانة، وعمرَ بن سعد، وشمرًا، وآلَ أبي سفيان، وآلَ زيادٍ، وآلَ مروان إلى يوم القيامة". ونحنُ نعتقدُ أنّ قولَ المعصومِ حجّةٌ، ولا يقول شططًا، فالملعونُ غير تائبٍ؛ وإلاّ لما لحقتُه اللعنةُ إلى يوم الدّين، يوم يُجزى الظالمون بمصيرهم. وأما من يعتقدُ بتوبةِ الطاغية، ويُشمّرُ ساعديه للدفاع عنه، فأيُّ دليلٍ يُقدّمُه فهو مُتهالكٌ أمامَ آياتِ كتابِ الله (تعالى)، ونصوصِ العترة الطاهرة، وكفى بالثقلينِ حجّةً. ■الناحيةُ الثانيةُ: الناحيةُ الأخلاقية. أيضًا فعلُ بني أمية وأتباعِهم (عليهم لعنة الله) لم يخلُ من هدمٍ لمبادئ الأخلاق، وحيث إنّ المُخاطبين هم أهلُ الكوفة -كما روي في تأريخ الخطبة-؛ فأهلُ الكوفةِ كانوا أشدَّ تعلّقًا بالدنيا وما فيها، وإلاّ لباعوها وثاروا ضدَّ حاكمِهم ابنِ زياد (عليه لعنة الله), لكنّهم شروا الدنيا، وباعوا الآخرةَ، وهذه أخلاقُ الحريص على دنياه؛ يروى عن الإمامِ الصادقِ (عليه السلام) انّه قال: "مَنْ تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِالدُّنْيَا تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِثَلاثِ خِصَالٍ: هَمٍّ لا يَفْنَى، وَأَمَلٍ لا يُدْرَكُ، وَرَجَاءٍ لا يُنَال"(6). وفعلًا لم ولن يتمكنوا من ترخيصِ فعلتِهم الشنيعة بالإمامِ الحسين (عليه السلام) كما أخبرتْهم السيّدةُ (عليها السلام)، حتى لم يُفارقْهم الهم، ولم يُحقِّقوا آمالَهم، ولم ينالوا رجاءهم من طاغيتهم، ولهذا يروي لنا التأريخ أنّ أغلبَهم بكى بكاءً شديدًا؛ شعورًا منهم بتأنيبِ الضمير لما حصلَ لسيّدِ شبابِ أهلِ الجنة (عليه السلام) بسببهم. وقد تمَّ بيانُ ذلك في حلقةٍ سابقة. هذا فضلًا عن اتصافِهم بخُلُقٍ قبيحٍ آخر، وهو إيذاءُ وإهانةُ واستذلالُ المسلمين، وعلى رأسهم آل البيت (عليهم السلام) وأتباعهم، فما فعلوه حقًا لن يُمحى أثرُه من صفحةِ التأريخ. فطاغيةُ أهلِ الكوفةِ لم يكنْ فعلَ ما فعلَ ولا قالَ ما قالَ لو تكاتفَ أهلُ الكوفة ووقفوا بوجهه، إلّا أنّهم خضعوا له، ووقفوا يتربّصون، ولم ينصروا أهلَ بيتِ النبوّة. فلعلّ السيّدةَ (عليها السلام) تُشيرُ إلى خلودِ رزيةِ قتلِ الإمامِ الحسين (عليه السلام) وافتضاحِ أمرِ قتلته، فلن يرخصوا فعلتَهم بغسلٍ أبدِ الآبدين. وبعبارتها هذهِ أعطتْ درسًا أخلاقيًا لأهلِ الكوفة، لو وعتها أذنٌ واعيةٌ. ■الناحيةُ الثالثةُ: الناحيةُ البلاغيةُ. ظاهرًا إنّ السيّدةَ زينبَ (عليها السلام) اقتبستْ عبارتَها هذهِ من آيةٍ من آياتِ القرآن الكريم، اقتباسًا غير نصيٍ، وإنّما معنويٌ، كقوله تعالى: {لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُون}(8)؛ حيث أصرّ القتلةُ (عليهم لعنة الله) على قلبِ الحقائقِ، والإصرارِ على ذنبِهم، حتى أنّهم لن يغسلوا جرمَهم من صفحاتِ التأريخ، وما ذلك إلا لأنّ غرضَهم الفتنةُ. وهذا الاقتباسُ يُعدُّ اسلوبًا من أساليبِ البلاغة والبيان، فضلًا عن إشارتِه إلى التأصيل القرآني، وأنّ السيّدةَ لا تقول شططًا، كأسلافها (عليها وعليهم السلام). ___________________ (1) سورة يوسف: 19. (2) سورة النساء: 17-18. (3) ينابيع المودة لذوي القربى: للقندوزي, ج3, ص80. (4) صحيح مسلم: لمسلم النيسابوري, ج1, كتاب الإيمان, باب الدليل على أن حب الأنصار وعلي (ر) من الإيمان وعلاماته, ح78. (5) سورة النساء: 145. (6) الكافي: للشيخ الكليني, ج2, باب حب الدنيا والحرص عليها, ح17. (8) سورة التوبة: 48. تبًا لكم يا ويلكـم أرضيتـمُ بالنارِ ذلّ هنالك المحبوسُ؟! بعتمِ بدنيا غيركم جهـلاً ب كمِّ عزِّ الحياةِ وإنّه لنفيسُ أخسرُ بها من بيعةٍ أمويـةٍ لُعِنَتْ وحظّ البائعينَ خسيسُ
البيان والبلاغة في كلمات أهل البيت عليهم السلامبقلم: جنان حازم الشاهين حدثَ في التاريخِ أنَّ رجلًا هاشميًا وَفَدَ إلى كربلاء؛ لكي يقومَ بالنهضةِ العالميةِ الكبرى؛ فـيُنقذَ البشريةِ ويُعيدَ لها كراماتها! وقد اصطحبَ معه أسرتَه.. وكان يتخلّلُ ذلك الركبَ السماويَ نجمٌ ساطعٌ، حاولتِ الأقلامُ المأجورةُ أنْ تؤفلَ ضوءَ ذلك الشابِ العلوي، فيما يتعلّقُ بكونِه مُقاتلًا؛ ورفعتْ كُلَّ الملفاتِ التي تدلُّ على كونِه كان قائدًا ومقاتلًا في ميدانِ الطفِّ في اليومِ العاشرِ من المحرم، حيثُ ورد في المصادرِ التاريخيةِ المعتبرةِ عن أهل البيت (عليهم السلام) في ذكرِ أسماءِ من حضرَ مع الإمامِ الحسين (عليه السلام)، أنّ الإمامَ السجاد (عليه السلام) قد قاتلَ في ذلكَ اليومِ وقد جُرِح.. وما يؤكّدُ ذلك ما أوردَه الفضلُ بن الزبير الأسدي في كتابه (تسميةُ من قُتِلَ مع الحسين (عليه السلام))/ ص ٢٨ ما نصّه: «وكان عليُ بن الحسين عليلًا، وارتُثَّ يومئذٍ، وقد حضرَ بعض القتالِ، فدفعَ اللهُ عنه وأُخِذَ مع النساء» وعندما نعودُ لمعاجمِ اللغةِ نلاحظُ أنَّ كلمةَ (ارتُثَّ) الواردة في نص الأسدي، تدلُّ على اشتراكه في القتال؛ لأنّها تُقالُ لمن حُمِلَ من المعركةِ بعدَ أنْ قاتلَ وأُثخِنَ بالجراح، فأُخرِجَ من أرضِها وبه رمق، كما يقول اللغويّون، أو أصحابُ فقهِ اللغة، هذا ما نقله ابن منظور في الجزء الثاني ص ١٥٢ والفيروز آبادي في قاموسه في الجزء الأول في ص ١٦٧ وهذه قراءةٌ أخرى لواقعةِ المرضِ المعهودةِ التي تواترت ذاكرتُنا عن تصوّرِها، فقد خيلَ لنا وعلى مرِّ الأيامِ فالسنين صورة ذلك العلوي العاجزِ والمُقعدِ الذي يقطُنُ في زاويةِ تلك الخيمةِ ولا يُحرِّكُ جانبًا...!؟ للأسف فقد ترَسِّخَت في أذهانِنا تلك الصورةَ لا غير!
اخرىبقلم: خلود الفريجي نساءٌ ثكالى وصحراءُ جرداء شفاهٌ ظمأى لم ترتوِ بماء دموعٌ ونحيبٌ ولطمٌ وبكاء خيامٌ محروقةٌ وسبايا وعزاء هكذا يًريدوننا أنْ نرى كربلاء لكن من يرى بقلبِه الحُسين يعرفُ في أفعالِه فناءَ المُخلصين دكَّ بنهضتِه عروشَ الظالمين وأيقظَ النيامَ من نومِ الغافلين نساؤه، أطفالُه جندٌ مُجندون وفي دموعِ الثواكلِ دعوى الثائرين ربَّنا تقبّلْ مِنّا هذه القرابين رضا اللهِ رضانا فلسفةُ الحُسين
اخرىبقلم: فاطمة الركابي هل رأيتَ مُحِبًا أغضبَ محبوبَه فعاشَ بعدها هانئًا سعيدًا؟ أم هل رأيتَ صاحبًا أخطأ في حقِّ صاحبه فتمكّن من مواصلةِ طريقه (بذات البهجة!)؟ أم هل رأيتَ طالبًا عصا مُرشدَه، فبقيَ بروحٍ مستقيمة؟ أم هل رأيتَ مريضًا خالفَ طبيبَه فحافظَ على بدنِه سليمًا؟ بلا شك، كلا! ولنا أنْ نتخيلَ كم أنّ حياة ذلك الشخص ستطيبُ، والبسمة على مُحيّاه ستتجدّدُ، والحيوية في روحِه ستتولّدُ إذا ما عفا عنه المحبوبُ، وسامحَه الصاحبُ، ورضيَ عنه المرشدُ، وقوّمَه الطبيبُ. وهكذا -بلا مُقايسة- فإنّ الإنسانَ الذي يتجاوزُ حدودَ ربِّه، ويقعُ في مواطنِ غضبِه وعصيانِه ومخالفتِه، هو بفطرتِه يسعى للعودةِ، وبذاتِ الوقتِ يبقى هناك في داخلِه هاجسٌ يريدُ أنْ يعرفَ هل أنَّ الربَّ الجليلَ قبلَ توبته أم لا؟ وعن سؤال هذا الشخص وأمثاله يُجيبُ إمامُنا زينُ العابدين (عليه السلام) في (دعائه إذا استقال من الذنوب)(١)، مُبينًا أنّ لقبولِ التوبةِ علاماتٍ ودلالاتٍ تحصلُ في النفس، وبشاراتٍ ذات أثرٍ تكشفُ عن صدقِ قرارِ التائبِ في رجوعه لربِّه وتوبته النصوحة والتي منها ما ورد في قوله (عليه السلام): "وَأَذِقْنِي حَلاَوَةَ الْمَغْفِـرَةِ"، فهُنا يجدُ التائبُ حلاوةً معنويةً يتذوّقُ بها طعمَ محبةِ الله (تعالى)، وجمالَ حقيقةِ سترِ اللهِ (تعالى) عليه. وفي قوله (عليه السلام): "وَاجْعَلْنِي طَلِيقَ عَفْـوِكَ"، هنا علامةٌ أخرى وهي حصولُ حالةٍ من التحرُّرِ من ذلك الذنب كمن لم يُذنب من قَبل، فيُنسِيهِ إيّاه، ويُنسي الملائكةَ ما ارتكبَه، فلا يعيشُ شعورَ الخجلِ والأسفِ المُثبِّط الذي يُعيقُه عن مواصلةِ في السيرِ إلى الله (تعالى). وقوله (عليه السلام): "وَعَتِيقَ رَحْمَتِكَ"، فالعتقُ هُنا -كما يبدو- عدمُ الميولِ مرّةً أخرى للرجوعِ لذلك الجُرم، وذلك بالعيشِ في طريقِ رحمةِ الرحمان بعيدًا عن أجواءِ وخطواتِ الشيطان. وقوله (عليه السلام): "وَبَشِّرْنِي بِذلِكَ فِي الْعَاجِلِ دُونَ الآجِلِ بُشْرى أَعْرِفُهَا، وَعَرِّفْنِي فِيهِ عَلاَمَةً أَتَبَيَّنُهَا إنَّ ذلِكَ لاَ يَضيقُ عَلَيْكَ فِي وُسْعِكَ"، فالتائبُ الحقيقي لابُدّ أنْ يرى البشاراتِ، يرى أثرَها في واقعِه الحياتي الآن، قبل الجزاء الأخروي، وتتبيّنُ له العلاماتُ، كأن يحصل على التحصين، ويبلغ التوفيقَ بعدَ حصولِ الخُذلان، ويلهم سُبلَ التصحيحِ والتيسيرِ بعدَ التعثُرِ في نفس المسار. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الصحيفة السجادية: ص ٧٠.
اخرىيستشهد الكثير من الناس ــ وحتى بعض المثقفين ــ بقول:" لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع فإن الخير فيها دخيل وعاشر نفساً جاعت بعد شبع فإن الخير فيها أصيل" على أنه من أقوال أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، كما يستشهدون أيضاً بقولٍ آخر ينسبونه إليه (عليه السلام) لا يبعد عن الأول من حيث المعنى:"اطلبوا الخير من بطون شبعت ثم جاعت لأن الخير فيها باق، ولا تطلبوا الخير من بطون جاعت ثم شبعت لأن الشح فيها باق"، مُسقطين المعنى على بعض المصاديق التي لم ترُق افعالها لهم، لاسيما أولئك الذين عاثوا بالأرض فساداً من الحكام والمسؤولين الفاسدين والمتسترين عل الفساد. ونحن في الوقت الذي نستنكر فيه نشر الفساد والتستر عليه ومداهنة الفاسدين نؤكد ونشدد على ضرورة تحرّي صدق الأقوال ومطابقتها للواقع وعدم مخالفتها للعقل والشرع من جهة، وضرورة التأكد من صدورها عن أمير المؤمنين أبي الأيتام والفقراء (عليه السلام) أو غيرها من المعصومين (عليهم السلام) قبل نسبتها إليهم من جهة أخرى، لذا ارتأينا مناقشة هذا القول وما شابه معناه من حيث الدلالة أولاً، ومن حيث السند ثانياً.. فأما من حيث الدلالة فإن هذين القولين يصنفان الناس الى صنفين: صنف قد سبق له أن شبع مادياً ولم يتألم جوعاً، أو يتأوه حاجةً ومن بعد شبعه جاع وافتقر، وصنف آخر قد تقلّب ليله هماً بالدين، وتضوّر نهاره ألماً من الجوع، ثم شبع واغتنى،. كما جعل القولان الخير متأصلاً في الصنف الأول دون الثاني، وبناءً على ذلك فإن معاشرة أفراد هذا الصنف هي المعاشرة المرغوبة والمحبوبة والتي تجرّ على صاحبها الخير والسعادة والسلام، بخلاف معاشرة أفراد الصنف الثاني التي لا تُحبَّذ ولا تُطلب؛ لأنها لا تجر إلى صاحبها سوى الحزن والندم والآلام... ولو تأملنا قليلاً في معنى هذين القولين لوجدناه مغايراً لمعايير القرآن الكريم بعيداً كل البعد عن روح الشريعة الاسلامية ، وعن المنطق القويم والعقل السليم ومخالفاً أيضاً لصريح التاريخ الصحيح، بل ومخالف حتى لما نسمعه من قصص من أرض الواقع أو ما نلمسه فيه من وقائع.. فأما مناقضته للقرآن الكريم فواضحة جداً، إذ إن الله (تعالى) قد أوضح فيه وبشكلٍ جلي ملاك التفاضل بين الناس، إذ قال (عز من قائل):" يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)"(1) جاعلاً التقوى مِلاكاً للتفاضل، فمن كان أتقى كان أفضل، ومن البديهي أن تكون معاشرته كذلك، والعكس صحيحٌ أيضاً. وعليه فإن من سبق حاجتُه وفقرُه شبعَه وغناه يكون هو الأفضل، وبالتالي تكون معاشرته هي الأفضل كذلك فيما لو كان تقياً بخلاف من شبع وكان غنياً ، ثم افتقر وجاع فإنه لن يكون الأفضل ومعاشرته لن تكون كذلك طالما كان بعيداً عن التقوى. وأما بُعده عن روح الشريعة الإسلامية فإن الشريعة لطالما أكدت على أن الله (سبحانه وتعالى) عادلٌ لا جور في ساحته ولا ظلمَ في سجيته، وبالتالي لا يمكن أن يُعقل إطلاقاً أن يجعل البعض فقيراً ويتسبب في دخالة الخير في نفوسهم، التي يترتب عليها نفور الناس من عشرتهم، فيما يُغني سواهم ويجعل الخير متأصلاً في نفوسهم بسبب إغنائه إياهم ليس إلا ومن ثم يتسبب في كون الخير متأصلاً في نفوسهم، وبالتالي حب الناس لعشرتهم. فإن ذلك مخالف لمقتضى العدل الإلهي لأنه ليس بعاجزٍ عن تركه ولا بمُكره على فعله، ولا محب لذلك لهواً وعبثاً (تعالى عن كل ذلك علواً كبيراً). كما إن تأصل الخير في نفوس بعض الناس ودخالته في نفوس البعض الآخر منهم بناءً على أمر خارج عن إرادتهم واختيارهم كـ(الغنى والشبع أو الجوع والفقر) إنما هو أمرٌ منافٍ لمنهج الشريعة المقدسة القائم على حرية الانسان في اختياره لسبيل الخير والرشاد أو سبيل الشر والفساد، قال (تعالى):" إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)"(2) بل إن الانسان أحياناً قد يكون فقيراً بسبب حب الله (تعالى) له، كما ورد في الحديث القدسي: "أن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى فلو أفقرته لأفسده ذلك و أن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر فلو أغنيته لأفسده ذلك"(3) وهل يمكن ان نتصور أن الخيرَ دخيلٌ فيمن يحبه الله (تعالى) أو إن معاشرته لا تجدي نفعا، أو تسبب الهم والألم؟! نعم، ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"اِحْذَرُوا صَوْلَةَ اَلْكَرِيمِ إِذَا جَاعَ وَ اَللَّئِيمِ إِذَا شَبِعَ"(4) ولا يقصد به الجوع والشبع المتعارف عليه لدى الناس، وإنما المراد منه: احذروا صولة الكريم إذا اُمتُهِن، واحذروا صولة اللئيم إذا أكرم، وفي هذا المعنى ورد عنه (عليه السلام) أيضاً: "احذروا سطوة الكريم إذا وضع و سورة اللئيم إذا رفع"(5) وأما العقل السليم والمنطق القويم فإنهما يقتضيان أن تتأصل صفة الخير في الإنسان لملكاتٍ حميدة يتسم بها وصفات فضيلة يتميز بها، لا أن تتأصل صفة الخير في نفسه لمجرد أنه ولد في أسرة تتمتع بالرفاهية الاقتصادية ووجد في بيئة تتنعم بالثروات المادية! وعند مراجعتنا للتاريخ الصحيح نجد أن قادة البشر وصفوة الناس إنما كان أغلبهم ينتمي الى الطبقات الفقيرة من المجتمع، فهؤلاء الأنبياء ورسل الله (صلوات الله عليهم) منهم من كان نجاراً أو خياطاً أو راعياً، ومع ذلك فقد كانوا من أطيب الناس خلقاً، وأعظمهم شرفاً، وأرفعهم منزلةً، قد تأصّل الخير في نفوسهم تأصّلاً حتى غدوا قطعة منه، فكانوا هم الخير للبشر، وهم الرحمة للعالمين. وبالنزول إلى أرض الواقع نجد أن الكثير من الفقراء والمساكين طيبي الروح، كريمي النفس، يتألمون لألم المحتاج ولربما يؤثرونه على أنفسهم رغم حاجتهم. ولا نقصد من كلامنا هذا أن الأغنياء هم على نقيض ذلك، وإنما تأكيداً على مسألة عدم ارتباط تأصل الخير في النفوس وعدمه بمستواهم الاقتصادي الذي نشأوا فيه ارتباط العلة والمعلول، فكما إن بعض الفقراء أخيار، فإن بعض الأغنياء كذلك، والعكس صحيح أيضاً. ومن هنا يُفهم من بعض الروايات ضرورة عدم طلب الخير والحاجات ممن هم أهل للخير بقطع النظر عن مستواهم المعاشي الحالي والسابق، منها ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"أشد من الموت طلب الحاجة من غير أهلها"(5)، وعنه (عليه السلام) أيضاً: "فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غير أهلها"(6) إذن فلا صحة لهاتين المقولتين من حيث الدلالة، حتى وإن تنزلنا وحملنا الجوع والشبع على المعنى المعنوي لا المادي؛ وذلك لأنه حتى من يفتقر الى الأخلاق المعنوية فإنه ما إن يتكامل بالفضائل ويقلع عن الرذائل حتى يتسم بالخير وتحسن عشرته وتطيب للناس صحبته، والعكس صحيحٌ أيضا.. ومن البديهي أن ما لا يوافق العقل والمنطق السليم، ويخالف صريح القرآن الكريم، لا يمكن أن يصدر من وصي الرسول الكريم (صلوات الله عليهما وآلهما)، وعليه لا تصح نسبة هذين القولين الى أمير المؤمنين (عليه السلام).. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الحجرات 13 (2) الانسان 3 (3) عوالي الآلي ج2 ص29 (4) غرر الحكم ج1 227 (5) المدر السابق ج1 ص246 (6) ميزان الحكمة ج4 ص 238 رضا الله غايتي
اخرىخلق الله الأشياء كلها في الحياة ضمن موازين وقياسات... فالزيادة أو النقيصة تسبب المشاكل فيها. وهكذا حياتنا وأفعالنا وعواطفنا لا بد أن تكون ضمن موازين دقيقة، وليست خالية منها، فالزيادة والنقيصة تسبب لنا المشاكل. ومحور كلامنا عن الطيبة فما هي؟ الطيبة: هي من الصفات والأخلاق الحميدة، التي يمتاز صاحبها بنقاء الصدر والسريرة، وحُبّ الآخرين، والبعد عن إضمار الشر، أو الأحقاد والخبث، كما أنّ الطيبة تدفع الإنسان إلى أرقى معاني الإنسانية، وأكثرها شفافية؛ كالتسامح، والإخلاص، لكن رغم رُقي هذه الكلمة، إلا أنها إذا خرجت عن حدودها المعقولة ووصلت حد المبالغة فإنها ستعطي نتائج سلبية على صاحبها، كل شيء في الحياة يجب أن يكون موزوناً ومعتدلاً، بما في ذلك المحبة التي هي ناتجة عن طيبة الإنسان، وحسن خلقه، فيجب أن تتعامل مع الآخرين في حدود المعقول، وعندما تبغضهم كذلك وفق حدود المعقول، ولا يجوز المبالغة في كلا الأمرين، فهناك شعرة بين الطيبة وحماقة السلوك... هذه الشعرة هي (منطق العقل). الإنسان الذي يتحكم بعاطفته قليلاً، ويحكّم عقله فهذا ليس دليلاً على عدم طيبته... بالعكس... هذا طيب عاقل... عكس الطيب الأحمق... الذي لا يفكر بعاقبة أو نتيجة سلوكه ويندفع بشكل عاطفي أو يمنح ثقة لطرف معين غريب أو قريب... والمبررات التي يحاول إقناع نفسه بها عندما تقع المشاكل أنه صاحب قلب طيب. الطيبة لا تلغي دور العقل... إنما العكس هو الصحيح، فهي تحكيم العقل بالوقت المناسب واتخاذ القرار الحكيم الذي يدل على اتزان العقل، ومهما كان القرار ظاهراً يحمل القسوة أحياناً لكنه تترتب عليه فوائد مستقبلية حتمية... وأطيب ما يكون الإنسان عندما يدفع الضرر عن نفسه وعن الآخرين قبل أن ينفعهم. هل الطيبة تصلح في جميع الأوقات أم في أوقات محددة؟ الطيبة كأنها غطاء أثناء الشتاء يكون مرغوباً فيه، لكنه اثناء الصيف لا رغبة فيه أبداً.. لهذا يجب أن تكون الطيبة بحسب الظروف الموضوعية... فالطيبة حالة تعكس التأثر بالواقع لهذا يجب أن تكون الطيبة متغيرة حسب الظروف والأشخاص، قد يحدث أن تعمي الطيبة الزائدة صاحبها عن رؤيته لحقيقة مجرى الأمور، أو عدم رؤيته الحقيقة بأكملها، من باب حسن ظنه بالآخرين، واعتقاده أن جميع الناس مثله، لا يمتلكون إلا الصفاء والصدق والمحبة، ماي دفعهم بالمقابل إلى استغلاله، وخداعه في كثير من الأحيان، فمساعدة المحتاج الحقيقي تعتبر طيبة، لكن لو كان المدّعي للحاجة كاذباً فهو مستغل. لهذا علينا قبل أن نستخدم الطيبة أن نقدم عقولنا قبل عواطفنا، فالعاطفة تعتمد على الإحساس لكن العقل أقوى منها، لأنه ميزان يزن الأشياء رغم أن للقلب ألماً أشد من ألم العقل، فالقلب يكشف عن نفسه من خلال دقاته لكن العقل لا يكشف عن نفسه لأنه يحكم بصمت، فالطيبة يمكن أن تكون مقياساً لمعرفة الأقوى: العاطفة أو العقل، فالطيّب يكون قلبه ضعيفاً ترهقه الضربات في أي حدث، ويكون المرء حينها عاطفياً وليس طيباً، لكن صاحب العقل القوي يكون طيباً أكثر من كونه عاطفياً. هل الطيبة تؤذي صاحبها وتسبب عدم الاحترام لمشاعره؟ إن الطيبة المتوازنة المتفقة مع العقل لا تؤذي صاحبها لأن مفهوم طيبة القلب هو حب الخير للغير وعدم الإضرار بالغير، وعدم العمل ضد مصلحة الغير، ومسامحة من أخطأ بحقه بقدر معقول ومساعدة المحتاج ... وغيرها كثير. أما الثقة العمياء بالآخرين وعدم حساب نية المقابل وغيرها فهذه ليست طيبة، بل قد تكون -مع كامل الاحترام للجميع- غباءً أو حماقة وسلوكاً غير عقلاني ولا يمت للعقل بصلة. إن المشكلة تقع عند الإنسان الطيب عندما يرى أن الناس كلهم طيبون، ثم إذا واجهه موقف منهم أو لحق به أذى من ظلم أو استغلال لطيبته، تُغلق الدنيا في وجهه، فيبدأ وهو يرى الناس الطيبين قد رحلوا من مجتمعه، وأن الخير انعدم، وتحصل له أزمة نفسية أو يتعرض للأمراض، لأن الطيّب يقدم الإحسان للناس بكل ما يستطيع فعله، ويقدّم ذلك بحسن نية وبراءة منه، فهو بالتالي ينتظر منهم الرد بالشكر أو المعاملة باللطف على الأقل... صحيح أن المعروف لوجه الله، ولكن من باب: من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق، لذلك يتأذى عندما يصدر فعل من الشخص الذي كان يعامله بكل طيب وصدق. هل الطيبة والصدق من علامات ضعف الشخصية؟ الكثير من الناس يصف طيب القلب بأنه ضعيف الشخصية، لأنه يتصف بعدم الانتقام ممن ظلمه، والصفح عنه عند رجوعه عن الخطأ، وأنه لا يحب إيقاع الآخرين بالمشاكل؛ لأنه مقتنع أن الله سيأخذ له حقه. والحقيقة هي أن الصدق والطيبة وحسن الظن بالآخرين ليست ضعف شخصية، بل هي من الأخلاق الراقية وهي تزيد صاحبها سمواً وجمالاً روحياً، وليس من المعيب أن يمتلك الإنسان الطيبة بل العيب في من لا يُقدّر هذه الطيبة ويعطيها حقها في التعامل بالمثل. فالمشكلة الأساسية ليست في الطيبة، إنما في استغلال الآخرين لهذه الطيبة، نتيجة لعدم عقلنة قراراتنا والاعتماد على عواطفنا بشكل كلي. فالصدق والطيبة حسب المنطق والعقل، ولها فوائد جمة للنفس ولعموم أفراد المجتمع، فهي تحصين للشخص عن المعاصي، وزيادة لصلة الإنسان بربه، وتهذيب للنفس والشعور بالراحة النفسية، فالصادق الطيب ينشر المحبة بين الناس، وهذا يعزّز التماسك الاجتماعي وتقويته من سوء الظنون والحقد، وهذا التعامل أكّدت عليه جميع الشرائع السماوية، ولو تأمّلنا تاريخ وأخلاق الأنبياء والأوصياء لوجدنا كل ما هو راقٍ من الأخلاق والتعامل بالطيبة والصدق... حنان الزيرجاوي
اخرىرحلةٌ مثقلة بالألم في طريق يئن من وطأة الظلم! ينهي حياة زوجية فشلت في الوصول إلى شاطئ الأمان. ويبدد طموحات أطفال في العيش في هدوء نفسي واجتماعي تحت رعاية أبوين تجمعهم المودة والرحمة والحب. الطلاق شرعاً: هو حل رابطة الزواج لاستحالة المعاشرة بالمعروف بين الطرفين. قال تعالى: [ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)].(١). الطلاق لغوياً: من فعل طَلَق ويُقال طُلقت الزوجة "أي خرجت من عصمة الزوج وتـحررت"، يحدث الطلاق بسبب سوء تفاهم أو مشاكل متراكمة أو غياب الانسجام والحب. المرأة المطلقة ليست إنسانة فيها نقص أو خلل أخلاقي أو نفسي، بالتأكيد إنها خاضت حروباً وصرعات نفسية لا يعلم بها أحد، من أجل الحفاظ على حياتها الزوجية، ولكن لأنها طبقت شريعة الله وقررت مصير حياتها ورأت أن أساس الـحياة الزوجيـة القائم على المودة والرحـمة لا وجود له بينهما. فأصبحت موضع اتهام ومذنبة بنظر المجتمع، لذلك أصبح المـجتمع يُحكم أهواءه بدلاً من الإسلام. ترى، كم من امرأة في مجتمعنا تعاني جرّاء الحكم المطلق ذاته على أخلاقها ودينها، لا لسبب إنما لأنها قررت أن تعيش، وكم من فتاة أُجبرت قسراً على أن تتزوج من رجل لا يناسب تطلعاتها، لأن الكثير منهن يشعرن بالنقص وعدم الثقة بسبب نظرة المجتمع، وتقع المرأة المطلّقة أسيرة هذه الحالة بسبب رؤية المجتمع السلبيّة لها. وقد تلاحق بسيل من الاتهامات وتطارد بجملة من الافتراءات. وتعاني المطلقة غالباً من معاملة من حولها، وأقرب الناس لها، بالرغم من أن الطلاق هو الدواء المر الذي قد تلجأ إليه المرأة أحياناً للخلاص من الظلم الذي أصبح يؤرق حياتها الزوجية، ويهدد مستقبلها النفسي، والله تعالى لم يشرع أمراً لخلقه إلا إذا كان فيه خير عظيم لهم، والطلاق ما شرّع إلا ليكون دواء فيه شفاء وإن كان مرّاً، وإن كان أمره صعباً على النفوس، حيث قال عز وجل: "وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا"، روي عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) ((أبغض الحلال إلى الله الطلاق) (٢). ورغم أن الشريعة الإسلامية أباحت الطلاق بشروط تلاءم لبناء المجتمع، وأولت أهمية في الإحسان دائمًا للطرف الأضعف والأكثر خسارة في هذه المعادلة وهي "المرأة"، إلا أن المجتمع الذي يدّعي الإسلام لا يرحمها، ويحكم عليها بالإدانة طوال حياتها دون النظر في صحة موقفها في الطلاق من عدمه! قال( تعالى ): [الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] (٣). ولكن بعد كل هذا فالحياة لم ولن تتوقف بعد الطلاق! الطلاق ليس نهاية الحياة. - أخيتي. ليكن الطلاق بداية جديدة لحياة جديدة وللانطلاق. -قطار العطاء لن يتعطل. فإن كنت السبب في الطلاق فالحمد لله على كل حال وتلك أمة قد خلت وأيام ذهبت وانجلت فلست بالمعصومة من الخطأ. وعليك استدراك الأخطاء وتقوية مواطن الضعف في شخصيتك، واجعليها درساً مفيداً في الحياة لتطوير نفسك وتقويتها. وإذا كنتِ مظلومة فهناك جبار يُحصي الصغير والكبير وسيأتي يوم ينتصر لك فيه. -ومن الجميل أن تعطي نفسك الإحساس بالحب والاحترام، ولا تتأثري بأي نظرة سلبية من المجتمع وكون البعض يتعامل مع المطلقة على أنها حالة خاصة فعليكِ إثبات ذاتك حتى تفرضي على الكل شخصيتك. - نظرتك لنفسك اجعليها نظرة ايجابية مشرقة ولا تنزلقي في مستنقع نبذ الذات وظلم النفس. - ابحثي عن الصفات الجيدة فيك فإن ذلك سيشعرك بالثقة في ذاتك والتقدير لها. -حاولي مراجعة نفسك للخروج بإيجابيات حصلت لك من طلاقك. - خالطي الآخرين وإياك والعزلة بسبب وضعك الجديد فلست بأول من يبتلى بالطلاق. -استمتعي بالموجود ولا تتعلقي بالمفقود، حلقي بروح تعبق أملاً وتفاؤلاً، استمتعي بما وهبك الله من نعم (صحة وأولاد وأهل وصديقات وعمل وهوايات وغيرها من الأمور الجميلة) فما حصل لك حصل… ولابد أن تتقبليه برضا، وأعلمي أن ما أصابك لم يكن ليخطأك وما أخطأك لم يكن ليصيبك. وقال أصدق من قال: ( وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم). فالرضا سر السعادة الحقيقي. - اقتربي من صديقاتك الصالحات، واقضي معهن وقتاً طيباً تنسين به ألمك وحزنك. - احرصي على الصلوات وقراءة القرآن الكريم والذكر والاستغفار وأكثري من الطاعات قدر ما تستطيعين، ففيها السلوى والفرح والسعادة. ونعم سعادة القرب من الرحمن. - اشغلي نفسك بأعمال البر والإحسان بمساعدة محتاج. بكفالة يتيم. بتعلم الفقه والقرآن وتعليمه. - اجتهدي في عمل برنامج يومي لك يكون ممتلأ بكل ما هو مفيد لك. من قراءة وزيارة الأصدقاء وصلة الرحم. بحيث لا تكون هناك دقيقة أنت فارغة فيها. - وأسرعي بقاربك الجميل بمجذافين من إيمان بالله وثقة بالنفس وسوف تصلين بإذن الله نحو جزيرة السعادة والنجاح. لكي تتسلق جبال الإنجاز، وتصل لأعلى مراتب الاعجاز. وعندها جزماً سيكون للحياة معنى آخر. --------------------------------- (١)-سورة البقرة الآية (٢٢٦-٢٢٧). (٢)-الكافي (٢)-سورة البقرة الآية (٢٢٨) حنان ستار الزيرجاوي
اخرى(لا تقاس العقول بالأعمار، فكم من صغير عقله بارع، وكم من كبير عقله فارغ) قولٌ تناولته وسائل التواصل الاجتماعي بكل تقّبلٍ ورضا، ولعل ما زاد في تقبلها إياه هو نسبته الى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولكننا عند الرجوع إلى الكتب الحديثية لا نجد لهذا الحديث أثراً إطلاقاً، ولا غرابة في ذلك إذ إن أمير البلاغة والبيان (سلام الله وصلواته عليه) معروفٌ ببلاغته التي أخرست البلغاء، ومشهورٌ بفصاحته التي إعترف بها حتى الأعداء، ومعلومٌ كلامه إذ إنه فوق كلام المخلوقين قاطبةً خلا الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ودون كلام رب السماء. وأما من حيث دلالة هذه المقولة ومدى صحتها فلابد من تقديم مقدمات؛ وذلك لأن معنى العقل في المفهوم الإسلامي يختلف عما هو عليه في الثقافات الأخرى من جهةٍ، كما ينبغي التطرق الى النصوص الدينية الواردة في هذا المجال وعرضها ولو على نحو الإيجاز للتعرف إلى مدى موافقة هذه المقولة لها من عدمها من جهةٍ أخرى. معنى العقل: العقل لغة: المنع والحبس، وهو (مصدر عقلت البعير بالعقال أعقله عقلا، والعِقال: حبل يُثنَى به يد البعير إلى ركبتيه فيشد به)(1)، (وسُمِّي العَقْلُ عَقْلاً لأَنه يَعْقِل صاحبَه عن التَّوَرُّط في المَهالِك أَي يَحْبِسه)(2)؛ لذا روي عنه (صلى الله عليه وآله): "العقل عقال من الجهل"(3). وأما اصطلاحاً: فهو حسب التصور الأرضي: عبارة عن مهارات الذهن في سلامة جهازه (الوظيفي) فحسب، في حين أن التصوّر الإسلامي يتجاوز هذا المعنى الضيّق مُضيفاً إلى تلك المهارات مهارة أخرى وهي المهارة العبادية. وعليه فإن العقل يتقوّم في التصور الاسلامي من تظافر مهارتين معاً لا غنى لأحداهما عن الأخرى وهما (المهارة العقلية) و(المهارة العبادية). ولذا روي عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنه عندما سئل عن العقل قال :" العمل بطاعة الله وأن العمّال بطاعة الله هم العقلاء"(4)، كما روي عن الإمام الصادق(عليه السلام)أنه عندما سئل السؤال ذاته أجاب: "ما عُبد به الرحمن، واكتسب به الجنان. فسأله الراوي: فالذي كان في معاوية [أي ماهو؟] فقال(عليه السلام): تلك النكراء، تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل"(5) والعقل عقلان: عقل الطبع وعقل التجربة، فأما الأول أو ما يسمى بـ(الوجدان الأخلاقي) فهو مبدأ الادراك، وهو إن نَما وتطور سنح للإنسان فرصة الاستفادة من سائر المعارف التي يختزنها عن طريق الدراسة والتجربة وبالتالي يحقق الحياة الإنسانية الطيبة التي يصبو اليها، وأما إن وهن واندثر لإتباع صاحبه الأهواء النفسية والوساوس الشيطانية، فعندئذٍ لا ينتفع الانسان بعقل التجربة مهما زادت معلوماته وتضخمت بياناته، وبالتالي يُحرم من توفيق الوصول إلى الحياة المنشودة. وعقل التجربة هو ما يمكن للإنسان اكتساب العلوم والمعارف من خلاله، وما أروع تشبيه أمير البلغاء (عليه السلام) العلاقة التي تربط العقلين معاً إذ قال فيما نسب إليه: رأيت العقل عقلين فمطبوع ومسموع ولا ينفع مسموع إذ لم يك مطبــوع كما لا تنفع الشمس وضوء العين ممنوع(6) فقد شبّه (سلام الله عليه) عقل الطبع بالعين وعقل التجربة بالشمس، ومما لاشك فيه لكي تتحقق الرؤية لابد من أمرين: سلامة العين ووجود نور الشمس، وكما إن الثاني لا ينفع إن لم يتوفر الأول فكذلك عقل التجربة لا ينفع عند غياب عقل الطبع فضلاً عن موته. وبما إن عقل الطبع قد ينمو ويزدهر فينفع صاحبه من عقل التجربة، وقد يموت ويندثر عند الاستسلام لإضلال شبهةٍ أوبسبب إرتكاب معصية، فإنه ومن باب أولى أن يتعرض الى الزيادة والنقصان كما سيأتي... وقد ورد في النصوص الدينية أن للعقل زمناً ينمو فيه ويكتمل، فعن إمامنا أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه):"يثغر الصبي لسبع، ويؤمر بالصلاة لتسع، ويفرق بينهم في المضاجع لعشر، ويحتلم لأربع عشرة، وينتهى طوله لإحدى وعشرين سنة، وينتهي عقله لثمان وعشرين إلا التجارب"(7)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يربى الصبي سبعاً ويؤدب سبعاً، ويستخدم سبعاً، ومنتهى طوله في ثلاث وعشرين سنة، وعقله في خمس وثلاثين [سنة] وما كان بعد ذلك فبالتجارب"(8). إذن يتوقف النمو الطبيعي لعقل الانسان عند سن الثامنة والعشرين أو الخامسة والثلاثين كما ورد في الروايتين، وأية زيادة أخرى في طاقته بعد ذلك إنما تأتي عن طريق التجارب، وقد يُتوهم بأن ثمة تعارضاً ما بين الروايتين المتقدمتين في شأن تحديد سن النمو العقلي، إلا إنه لا تعارض ينهما إذا حملنا اختلافهما فيه على اختلاف الاشخاص وتباين استعدادات وقابليات كل منهم. وعلى الرغم من توقف نمو عقل الإنسان إلا إن له أنْ يزيده بالتجارب ومواصلة التعلم ــ كما تقدم في الروايات ــ وسواء أثبت العلم هذه الحقيقة الروائية أم لا، فنحن نريد الإشارة إلى ضرورة استمرار التجربة والتعلم لزيادة نمو العقل وهذا المقدار لا خلاف فيه وعلى الرغم من إن لعمر الانسان مدخلية في زيادة عقله كما تقدم وكما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يزيد عقل الرجل بعد الاربعين إلى خمسين وستين، ثم ينقص عقله بعد ذلك"(9)، إلا إن ذلك ليس على نحو العلة التامة، إذ يمكن للعقل أن يبقى شاباً وقوياً وإن شاب الإنسان وضعف جسمه، وتقدم في السن ووهن عظمه، فالعاقل لا يشيب عقله ولا تنتقص الشيخوخة من قوته بل وقد يزداد طاقةً وحيويةً لذا ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"رأي الشيخ أحب الي من جَلَد الغلام"(10)، وفي أخرى ".....من حيلة الشباب "(11) وأما من لم يوفر أسباب صقل عقله في مرحلة الشباب فإنه بلا شك يضمحل عقله في مرحلة الشيخوخة. وليس تقدم العمر هو العامل الوحيد في نقصان العقل بل إن النصوص الشرعية أشارت الى عوامل عديدة اخرى أهمها: أولاً: التعلم: فقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "من لم يصبر على ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبداً"(13). ثانياً: التوبة: وعنه (عليه السلام) ايضاً:"من لم يرتدع يجهل"(14) ثالثاً: التقوى: فقد كتب إمامنا الباقر (عليه السلام) إلى سعد الخير: "بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإني اوصيك بتقوى الله فإن فيها السلامة من التلف والغنيمة في المنقلب إن الله (عزوجل) يقي بالتقوى عن العبد ما عزب عنه عقله ويجلي بالتقوى عنه عماه وجهله"(15) إذن التوبة هي سبب للتوفيق الإلهي الذي يؤدي فيما يؤدي إليه من إكمال العقل. رابعاً: الوقوف عند الشبهة: وقال (عليه السلام ): "لا ورع كالوقوف عند الشبهة"(16). فإن الوقوف عند الشبهات سبب من أسباب التوفيق الإلهي بلا شك. خامساً: الاعتراف بالجهل: كما روي عن الإمام علي (عليه السلام): "غاية العقل الاعتراف بالجهل"(17) إذ الاعتراف بالجهل يدفع الإنسان دوماً إلى مزيد من بذل الجهد واكتساب المعارف. مما تقدم تتضح جلياً صحة هذه المقولة دلالةً، إذ إن العقول فعلاً لا تقاس بالأعمار لأن كلٍاً من زيادتها ونقيصتها منوطٌ بالعديد من العوامل الأخرى والتي تقدم ذكرها، بيد إن ذلك لا يبرر التساهل في نشرها والتهاون في الاستشهاد بها على إنها من أقوال أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) لعدم ثبوت ذلك سنداً من جهة ولضعف بلاغتها وركاكة تركيبها بالنسبة إلى سيد البلغاء والبلاغة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) تهذيب اللغة ج1 ص65 (2) لسان العرب ج11 ص458 (3) نهاية الحكمة ص305 (4) ميزان الحكمة ج3 ص333 (5) أصول الكافي ج1، ح3 / 11 (6) نهج السعادة ج9 ص163 (7) الكافي ج7 ص94 (8) الفقيه ج3 ص493 (9) الاختصاص ص245 (10) نهج البلاغة حكمة 86 (11) بحار الأنوار ج72 ص105 (12) المصدر السابق ج1 ص94 (13) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص118 (14) الكافي ج8 ص73 (15) وسائل الشيعة ج1 ص162 (16) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص1 بقلم الكاتبة: رضا الله غايتي
اخرىبقلم: أم نور الهدى كان لأمير المؤمنين (عليه السلام) اهتمام خاص بالمرأة، فنراه تارة ينظر إليها كآية من آيات الخلق الإلهي، وتجلٍ من تجليات الخالق (عز وجل) فيقول: (عقول النساء في جمالهن وجمال الرجال في عقولهم). وتارة ينظر إلى كل ما موجود هو آية ومظهر من مظاهر النساء فيقول: (لا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها فإن المرأة ريحانة وليس قهرمانة). أي إن المرأة ريحانة وزهرة تعطر المجتمع بعطر الرياحين والزهور. ولقد وردت كلمة الريحان في قوله تعالى: (فأمّا إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة النعيم) والريحان هنا كل نبات طيب الريح مفردته ريحانة، فروح وريحان تعني الرحمة. فالإمام هنا وصف المرأة بأروع الأوصاف حين جعلها ريحانة بكل ما تشتمل عليه كلمة الريحان من الصفات فهي جميلة وعطرة وطيبة، أما القهرمان فهو الذي يُكلّف بأمور الخدمة والاشتغال، وبما إن الإسلام لم يكلف المرأة بأمور الخدمة والاشتغال في البيت، فما يريده الإمام هو إعفاء النساء من المشقة وعدم الزامهن بتحمل المسؤوليات فوق قدرتهن لأن ما عليهن من واجبات تكوين الأسرة وتربية الجيل يستغرق جهدهن ووقتهن، لذا ليس من حق الرجل إجبار زوجته للقيام بأعمال خارجة عن نطاق واجباتها. فالفرق الجوهري بين اعتبار المرأة ريحانة وبين اعتبارها قهرمانة هو أن الريحانة تكون، محفوظة، مصانة، تعامل برقة وتخاطب برقة، لها منزلتها وحضورها. فلا يمكن للزوج التفريط بها. أما القهرمانة فهي المرأة التي تقوم بالخدمة في المنزل وتدير شؤونه دون أن يكون لها من الزوج تلك المكانة العاطفية والاحترام والرعاية لها. علماً أن خدمتها في بيت الزوجية مما ندب إليه الشره الحنيف واعتبره جهادًا لها أثابها عليه الشيء الكثير جدًا مما ذكرته النصوص الشريفة. فمعاملة الزوج لزوجته يجب أن تكون نابعة من اعتبارها ريحانة وليس من اعتبارها خادمة تقوم بأعمال المنزل لأن المرأة خلقت للرقة والحنان. وعلى الرغم من أن المرأة مظهر من مظاهر الجمال الإلهي فإنها تستطيع كالرجل أن تنال جميع الكمالات الأخرى، وهذا لا يعني أنها لا بد أن تخوض جميع ميادين الحياة كالحرب، والأعمال الشاقة، بل أن الله تعالى جعلها مكملة للرجل، أي الرجل والمرأة أحدهما مكمل للآخر. وأخيرًا إن كلام الإمام علي (عليه السلام) كان تكريمًا للمرأة ووضعها المكانة التي وضعها الله تعالى بها، حيث لم يحملها مشقة الخدمة والعمل في المنزل واعتبر أجر ما تقوم به من اعمال في رعاية بيتها كأجر الجهاد في سبيل الله.
اخرىعالم الطفولة كأنه طاولة، لا تجد فيه غير طعام لذيذ، ومنظر لطيف وجديد، فعالمهم فاكهة الوجود، وخضار الأرواح، ومياه الحياة تسقي القلوب... عالم صفاء وأحلام جميلة بسيطة وتافهة ولكن بنظرهِ هو عظيمة وكبيرة، فهو العالم الذي ينطلق منه الإنسان في بداية عمره. فالطفل في بداية حياته ينظر إلى الحياة بتفكيره البريء، فالطفل يعيش بعالم خاص به مملوء بالمحبة البريئة. هذه هي الصورة الجميلة التي يحملها الطفل، وكم يتمنى كل إنسان أن يعود لطفولته البريئة ليتأمل في أرجاء عالمها الذي كان يصور له حياة مختلفة تشد الإنسان إليها بجمالها، هذا هو عالم الطفولة وهذه أحلام من يعيشها، فلا ينفذ إلى ملكوت ذلك العالم ولا يدرك كنهه إلا من عاشه وجال في ربوعه. حيث يتذوق الطفل مع أحلام طفولته هذه لذة الحياة ولذة العيش فيها، ومهما حاولنا أن نعبر عن هذه الحقيقة فلن نستطيع تصويرها بالكلمات. وبعد هذا، فإن الاهتمام بمستقبل الطفل هو في الواقع ضمان لمستقبل شعب بأسره. قال اللَّه تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا". التحريم/6 أعتنى الإسلام بتربية الأبناء عناية فائقة، وألقى على عاتق الأهل ما سيكون عليه الولد في مسلكه الدنيوي ومصيره الأخروي إن هم قصروا في تربيته وإعداده. وقد ذكر العلماء أن شخصية الولد تتأثر في نموها بعوامل ثلاثة وهي: الوراثة، والبيئة، والتربية. إذا خضنا في مضمار التربية السليمة للأبناء... فعلى الأبوين أن يكون لهما الوعي التربوي الذي يبنى على أسس صحيحة ويتوفر لديهم فهم لأساليب التربية والتوجيه والرعاية وهذه نقطة البداية. فمثلاً في أسلوب التعامل مع الطفل تبرز أمامنا ثلاثة اشكال لتعامل الآباء مع الأبناء: الشكل الأول: أسلوب الدلال المفرط وهذا الأسلوب له نتائجه السلبية الخطيرة، فإنه يخلق شخصية هشة متميعة وشخصية اتكالية تحب الكسل والخمول مجردة من الهدف والإقدام، انهزامية غير قادرة على مواجهة التحديات وبمعنى أدق شخصية لا تثق بنفسها. شخصية متسيبة في ظل غياب المراقبة والمحاسبة وهذا التسيب يقود إلى الانفلات والانحراف. الشكل الثاني: فهو أسلوب التربية القاسية والعنف. وهذا الأسلوب أيضاً له نتائجه الخطيرة والسلبية التي يعاني منها الأبناء طوال حياتهم فهو يخلق شخصية قلقة ومتأزمة ومعقدة وخائفة وتحمل عقدة الخوف، شخصية حاقدة وعدوانية وقد تتأزم الأمور لتصبح شخصية منافقة وكاذبة خوفاً من العقاب والتعنيف ضمن حدود الأسرة ولكن يوماً من الأيام سينطلق هذا الشخص ليواجه المجتمع ككل، فلنتصور كيف سيتعامل مع المحيطين ضمن مجالات الدراسة والعمل وهو شخصية هاربة من أجواء الأسرة وقد يعرضها للتسيب والانحراف لأنها شخصية متمردة مما يعرضها للعقوق. الأسلوب الثالث: التوازن. الأسلوب الصحيح يعتمد على التوازن فمن شروط نجاح التربية التوازن في المعاملة ما بين الأمور التي تحتاج إلى شدة وحزم ليتربى على أن هذه الأمور خطوط حمراء طبعاً هنا يمكن أن يعترض أحد ويقول: لا للعنف الأسري ولا لاستخدام القسوة. نعم فهناك طرق غير استخدام العنف. يكفي ان يبدي الآباء انزعاجهم مثلاً. وهنا النقطة مهمة جداً، وهي: أن نوضح لهم سبب المنع والرفض لا تعتقدوا أن أبناءكم لا يدركون ولن يفهموكم. تخصيص الوقت للنقاش مهم جداً. وما بين أسلوب المرونة والحنان والاحتواء. التوازن في المعاملة. إن الإمام زين العابدين (عليه السلام) يصرح بمسؤولية الأبوين بتربية الطفل، ويعتبر التنشئة الروحية والتنمية الخلقية لمواهب الأطفال واجباً دينياً يستوجب أجراً وثواباً من الله تعالى، وأن التقصير في ذلك يُعرّض الآباء إلى عقاب الله. فيقول (عليه السلام): (وأما حق ولدك عليك فأن تعلم أنه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره. وأنك مسؤول عما وليته به من حسن الأدب والدلالة على ربه عز وجل والمعونة له على طاعته. فأعمل في أمره عمل من يعلم أنه مثاب على الإحسان إليه معاقب على الإساءة إليه ) مكارم الأخلاق للطبرسي ص٢٣٢ حنان الزيرجاوي
اخرى